العودة الى الصفحة السابقة
فيلبس

فيلبس

جون نور


«فَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعًا كَثِيرًا مُقْبِلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ: مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزًا لِيَأْكُلَ هؤُلاَءِ؟ وَإِنَّمَا قَالَ هذَا لِيَمْتَحِنَهُ، لأَنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ. أَجَابَهُ فِيلُبُّسُ: لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا يَسِيرًا» (يوحنا 6: 5 - 7).

فيلبس هو أول شخص دعاه المسيح بالذات بقولة «اتبعني». فالتلاميذ الآخرون – كأندراوس ويوحنا وبطرس – وجدوا المسيح، لكن فيلبس قد وجده المسيح. ولم تكن دعوته ارتجالاً، بل كانت نتيجة تدبير وتفكير سابقين.

بعد دعوة فيلبس ينطلق تواً إلى صديقه نثنائيل قائلاً: «وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ» (يوحنا 1: 45). ثم يختفي فيلبس بعد دعوته، ولا نسمع عنه شيئاً في تسلسل الحوادث إلاّ بعد انقضاء سنة على الأقل، يوم احتشدت الجماهير حول يسوع، فالتفت إلى فيلبس وقال: «مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزًا لِيَأْكُلَ هؤُلاَءِ؟».

والأرجح أن التلاميذ كلهم كانوا هناك، ولسنا ندري لماذا وجَّه يسوع إلى فيلبس هذا السؤال دون سائر تلاميذه. ويصحُّ القول أن جواب فيلبس كان بمثابة احتجاج، وكأنما أراد أن يقول لسيده: ما الفائدة من السؤال عن المكان الذي نبتاع منه الخبز، وليس لدينا من المال ما يكفي لهذا الحشد الهائل قائلا ليسوع: «لاَ يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا يَسِيرًا». على أن المسيح لم يجب على هذا الاحتجاج بالقول، بل أجاب بإطعامه الخمسة آلاف دون أن يذكر شيئا عن المائتي دينار.

كان فيلبس من «بيت صيدا» الجليل، مدينة أندراوس وبطرس، والأرجح أنها غير «بيت صيدا» الواقعة بشرق الأردن قرب مصبه في بحيرة طبرية. وإذ نلقي نظره على عجل إلى الحوادث السابقة التي ورد فيها ذكره، ونسأل أنفسنا أي إنسان كان هذا التلميذ، نرانا، لأول وهلة، أمام إنسان بطيء في التنفيذ، يعوزه الحماس، والاندفاع، وسرعة الخاطر، والحركة الدائبة. فهو لم يحاول أن يجد يسوع، ولكن يسوع هو الذي وجده. لم يكن بين الذين سعوا إلى يسوع بين المقدامين الذين هرعوا إليه. كان الرجل عملياً حكيماً، تكشفت لنا حكمته العملية في تقدير حساب النفقة، وانجلت حكمته السياسية في حسن التصرف مع اليونانيين الدخلاء، وبانت حكمته المنطقية في آخر مرحلة ليلة العشاء الأخير، يوم قدّر أن رؤية الله تكفل حلّ جميع الأسرار والألغاز.

على أننا لم نقل بعد أهم شيء عن فيلبس. ذلك لأن القصص تصوّره لنا إنساناً تقياً حقاً، فحين واجه نثنائيل، ابتدره بقوله: «وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءُ» (يوحنا 1: 45).

وألمع ضياء ينعكس على هذا التلميذ التقي، الطيب القلب، تلك الصيحة الخافتة، التي نسمعها منه في العلّية، ليلة العشاء الأخير: «أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا» (يوحنا 14: 8).

هذا هو الإنسان المدعو فيلبس: إنسان هادئ الطبع، دمث الخلق، بطيء في التنفيذ، لا جاذبية فيه، ولكنه حكيم عملياً وسياسياً ومنطقياً، تقيّ نقيّ في السرِّ والعَلن.

كانت الدعوة بسيطة في مظهرها، ولكنها عميقة في مغزاها ونتائجها، لأنها أومأت إلى فيلبس أن يسلّم نفسه لمطالب يسوع ومقاصده، وأن يسير معه في طريقه، وينكر نفسه، ويضحّي بكل مطالبها.

ومن ثمَّ نرى المسيح يجد فيلبس، ويستميله إلى جانبه، وقد أطاع دعوته لأنه انطلق تواً إلى صديقه نثنائيل، معلناً له أنه قد وجدَ مَن كُتب عنه في موسى والأنبياء. وبعد قليل يختاره المسيح ويعينّه رسولاً مع الأثنى عشر، ليكون معه أولاً ،ثم ليرسله مع الآخرين لبثْ دعوته وحمل رسالته.

وبعد ذلك نرى يسوع يوّجه إلى فيلبس سؤالاً عن إشباع الخمسة آلاف: «مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزًا لِيَأْكُلَ هؤُلاَءِ؟». وغريب أنه لم يوّجه هذا السؤال لأندراوس، ولا ليوحنا، ولا لبطرس. ولعلَّ هذه هي الواقعة الوحيدة التي نسمع فيها ربنا يطلب نصيحة إنسان. وقد كان يوحنا حريصاً مدققاً في سرد القصة حتى علَّق على السؤال بقوله «وَإِنَّمَا قَالَ هذَا لِيَمْتَحِنَهُ، لأَنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ».

لم يفتقر المسيح إلى ناصح، ولا إلى مشير. ولكن فيلبس هو الذي افتقر إلى دليل يشدِّد إيمانه، ويزكِّي الدعوة التي قبلها. وكان في إجابته أميناً حريصاً محاسباً يقدّر النفقة، فكشف بذلك عن ناحية من نواحي شخصيته كما تقدم. وبعد أن قال فيلبس ما قال، تلقّى هو وزملاؤه أمراً بأن يجلسوا الجموع، ورأى فيلبس بعينيه سيّده يتناول الأرغفة، ويباركها، ويكسرها. رأى سيّده يشبع بطون الألوف الجائعة، ويشبع إيمان التلاميذ في قدراته الخارقة للطبيعة.

التقاليد المسيحية تقول: إن هذا الرسول انطلق إلى بعض البلدان الإفريقية للمناداة برسالة الإنجيل، وآمن على يديه جموع كثيرة في بلدان كثيرة. ثم ذهب إلى «هيرا بوليس»، وردَّ أهلها إلى معرفة الله إلا أن غير المؤمنين هناك تشاوروا على قتله بحجة أنه عصا أمر الملك الذي كان يمنع دخول الغرباء إلى مدينتهم فوثبوا عليه وقيَّدوه، أما هو فكان يبتسم في وجوههم قائلاً لهم: لماذا ترفضون الحياة الأبدية، ولا تفكرون في خلاص نفوسكم. ولكنهم لم يعبئوا بكلامه وتألبوا عليه وعذبوه عذاباً كثيراً، ثم صلبوه منكساً.... ودُفن جسده في هيرابوليس وهي مدينة في آسيا الصغرى على مقربة من لاودوكية.

عزيزي المستمع

إتباع المسيح له ثمن في هذا العالم الذي لا يريد أن يحاسب على خطاياه ويريد أن يعيش بعيداً عن إنجيل المسيح وقبول خلاص الله أصلي لك أي أيها الأخ وأيتها الأخت لتسمعوا صوت الرب لك ما دام الوقت نهار.