العودة الى الصفحة السابقة
عاموس

عاموس

جون نور


«لَسْتُ أَنَا نَبِيًّا وَلاَ أَنَا ابْنُ نَبِيٍّ، بَلْ أَنَا رَاعٍ وَجَانِي جُمَّيْزٍ» (عاموس 14:7).

في قرية تقوع الواقِعة على بُعد خمسة أميال إلى الجنوب الشرقي من بيت لحم، أو عشرة أميال إلى الجنوب من القدس نشأ عاموس. والكلمة «عاموس» من أصل معناه «يثقل» أو «يحمل» دعي كذلك لأنه كان ثقيل اللسان، ولكن المُرجّح أن اسمه كان يُشير إلى الرِسالة الثقيلة التي كان عليه أن يحملها إلى شعب إسرائيل، وما نظن أبداً أن الرجل كان ثقيل النطق، ثقيل اللسان، بل يبدو من لهجته أنه كان إنساناً صريحاً بسيطاً وديعاً، صافي النفس والروح والمشاعِر، ومع أنه – على الأغلب – لم يكن مُتعلّماً كثيراً، لكنه كان وافِر الإطلاع على أسفار موسى والكُتب المُقدّسة. كان ينتسِب إلى عائِلة فقيرة مغمورة، ولكن هذا الإنسان الفقير المغمور الذي لم يدخل مدرسة الأنبياء، أو يولد ابناً لأحدهم، إذ كان راعِياً وجاني جُميز، تفتّحت نفسه إلى الله، ولم تتلوّث بِشرور المُجتمعات وضجيج المُدن، ولِذا فكثيراً ما يُشبهونه في طِباعه ومزاياه، بِيوحنا المعمدان، الذي عاش في البريّة إلى يوم ظهوره لإسرائيل.

فوق روابي تقوع عاش عاموس يرعى أغنامه ويجني الجُميز، وأغلب الظنّ أنه كان سيعيش هكذا، ويموت هكذا لو لم يأتِه الصوت الذي دعاه إلى النبوّة وأخذه من وراء الأغنام. وقد تحقّق عاموس من دعوته، واستجاب لها.

كانت رِسالة عاموس غريبة لأنها تحدّثت عن خراب إسرائيل، في وقت كان إسرائيل يمرح في حياة المجد والبذخ والقوّة لكن عاموس أبصر هذه، وأبصر فيها وخلفها الخطية، فنادى بِالسقوط والانهيار، ولكن التاريخ دائِماً يُعطي صورة صادِقة لِفكر عاموس ونبوّته، فإن الخطيّة هي السوس الذي ينخر في عِظام الأُمّة، في صمت وخفاء، فإذا جاء الانهيار، فإنه يأتي مُباغتة ودون توقّع من أحد!

كانت العِبادة الكاذِبة في إسرائيل أساس الداء وأساس البلاء، وقد وقف منها عاموس موقِف التنديد والهجوم الصارِخ، وكان من المُستحيل عليه أن يهدأ أو يسكن، والعِبادة الوثنيّة الشرّيرة تتفشّى في كل البِلاد، ففي كل إسرائيل من دان إلى بِئر سبع أُقيمت المُرتفعات المحليّة والأنصاب لِتمجيد البعل والعجل الذهبي، ويُرجّح أن بِئر سبع والجلجال كانتا المكانين الرئيسيين لِعبادة البعل، بينما كانت السامرة وبيت إيل مُخصصتين للعجل الذهبي، ومِمّا يدعو إلى الأسف والحزن والغرابة معاً، أن الإسرائيليين أرادوا أن يخلطوا بين النور والظُلمة، والحقّ والباطِل، والله والشيطان، إذ كانوا يحفظون الطقوس والفرائِض والأعياد، ويُقدّمون المُحرقات والتقدِمات والذبائِح، ولكن على هذه المذابِح الوثنيّة وبأسلوبها المُنحرِف الشرّير، وها نحنُ نرى عاموس يتحدّث عنها في أسلوب تهكّمي لاذِع فيقول: «هَلُمَّ إِلَى بَيْتِ إِيلَ، وَأَذْنِبُوا إِلَى الْجِلْجَالِ، وَأَكْثِرُوا الذُّنُوبَ، وَأَحْضِرُوا كُلَّ صَبَاحٍ ذَبَائِحَكُمْ، وَكُلَّ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ عُشُورَكُمْ» (عاموس 4:4). وقد رأى عاموس كذب العِبادة من أكثر من وجه.

والمُلاحظ في العِبادة التي تحدّث عنها عاموس، أنها عِبادة طقسيّة، بل عِبادة عمادها الأول والأخير الإغراق في الطقوس، فالتقدمات والمحرقات والنذور كانت هائِلة، وقد سخر النبي من العابِدين وهو يقول: «وَأَحْضِرُوا كُلَّ صَبَاحٍ ذَبَائِحَكُمْ، وَكُلَّ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ عُشُورَكُمْ» (عاموس 4:4). والعشور سنوية، وكُل ثلاث سنوات، ولكنهم أكثروا من تقدمتها بِكيفية مُذهِلة عجيبة، والواقِع أن الإغراق في الطقوس نوع من الخِداع النفسي الذي يلجأ إليه الإنسان لإراحة نفسه وتهدئه ضميره في العِبادة. وماذا نقول اليوم عن الطقوس التي تصاحب العِبادة والأعياد والأفراح والجنائز، الطقوس التي غدت ترتدّ بِنا في بعض المواطِن، إلى ما يُشبِه الوثنية القديمة التي ندد بها عاموس!

لم يكتفِ عاموس بالتنديد بالعبادة الكاذبة، بل وجّه الأنظار إلى العِبادة الصادِقة، وكشف عن إتجاهها ومضمونها عندما قال: «اُطْلُبُوا الرَّبَّ فَتَحْيَوْا» (عاموس 4:5 و 6).

من يزرع للجسد فمن الجسد يحصد فساداً، وقد زرع الإسرائيليون فحصدوا، وحصدوا حصاداً قاسياً شديداً، فقد جاءتهم الساعة التي تحوّل فيها كل مجدهم وعِزّهم إلى الهوان والجوع، والخوف والشقاء، هكذا أيضاً سادة صهيون ونُقباء السامِرة الذين ألفوا الناعمات نراهم وقد سيقوا سوق الماشية إلى السبي والعار والتشريد!

وعِندما تبدأ أمة حياتها بالأصنام، كما بدأ يربعام بِعجول الذهب، فإنها – إن آجلاً أو عاجلاً – ستتحطّم هي وأصنامها معاً كما حدث لإسرائيل عام 722 ق.م. وليست إسرائيل وحدها بل كل أُمم الأرض كما تشهد وتؤكدّ فصول التاريخ! أو كما قال أحدهم: عندما لم يبقَ في قرطاجنة سوى الغنى الفاحِش، والفقر الذريع، سقطت قرطاجنة تحت أقدام الرومان، وعندما نسيت روما هذا الدرس وتلاشت منها الطبقة المتوسطة سقطت عند أقدام الغُزاة البرابِرة الذين وفدوا إليها من الشمال! هل لنا – كأفراد أو جماعات أو أُمم – أن نطلب طلبة أجور ابن مُتقية: «اِثْنَتَيْنِ سَأَلْتُ مِنْكَ، فَلاَ تَمْنَعْهُمَا عَنِّي قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ: أَبْعِدْ عَنِّي الْبَاطِلَ وَالْكَذِبَ. لاَ تُعْطِنِي فَقْرًا وَلاَ غِنًى. أَطْعِمْنِي خُبْزَ فَرِيضَتِي، لِئَلاَّ أَشْبَعَ وَأَكْفُرَ وَأَقُولَ: «مَنْ هُوَ الرَّبُّ؟» أَوْ لِئَلاَّ أَفْتَقِرَ وَأَسْرِقَ وَأَتَّخِذَ اسْمَ إِلهِي بَاطِلاً» (أمثال 7:30 – 9).

ليتنا نعرف العبادة الحقيقة التي أرادها عاموس لشعبه ونسلك بها.