العودة الى الصفحة السابقة
ملاخي

ملاخي

جون نور


«وَلَكُمْ أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ اسْمِي تُشْرِقُ شَمْسُ الْبِرِّ وَالشِّفَاءُ فِي أَجْنِحَتِهَا» (ملاخي 2:4).

قامت نبوّة ملاخي على الحِوار بين الله وشعبه، فإذا كان سقراط في أثينا يجمع الناس حوله ويُناقِشهم في فلسفة الحياة، وكيف يُمكِن أن يعيش الإنسان في عالم ضرب فيه الفساد في أثينا وأورشليم إلى آخر الحدود، حتى أنهم حكموا على سقراط أن يشرب كأساً من السمّ، ولفظوا الرجل الذي كان أحكم إنسان في وسطهم. لكن أورشليم كانت تُواجِه حِواراً أعظم ليس بين إنسان وإنسان، بل بين الله والإنسان، ولم يكن وحي ملاخي إلا تسجيلاً لهذا الحوار، والكلمة «وحي» فيها معنى الحمل أو العِبء أو الثقل أو المسؤولية، فالحديث هنا ليس حديث فكاهة أو تسلية أو سمر يقوم بين اثنين، بل هو في الحقيقة الحديث الجدي العميق الباهِظ الثقل لِما فيه من أهميّة ومسؤولية، وسيكون وقعه رهيباً على من يرفض الالتزام أو يتنكِب الطريق عنه. وعلى وجه الخصوص هو رهيب من حيث الطرفين أو من حيث الموضوع، فأما طرفاه فهما: الله، والإنسان، أو بِتعبير أدقّ هُما: «الله» في وضعه «كأب» و«كسيّد»، والإنسان في وضعه كإبن وعبد. أما من حيث الموضوع فهو أسمى موضوع في الوجود: «الحب»، والله من جانِبه لا يمكن أن يتباعد عن هذا النوع من الحِوار، إذ إن «الله محبّة»، وهو بِطبيعته ينتظر أن يقوم كل حوار بيننا وبينه على المحبة، سواء في العهد القديم أو العهد الجديد. وهل ننسى ذلك الحِوار الذي حدث بين المسيح وتلميذه على بحر طبرية يوم قال المسيح لبطرس ثلاث مرّات: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هٰؤُلاَءِ؟»... «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟»... «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا؟»... وردّ بطرس مُثلثاً: «يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ»... «يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ»... «يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ» (يوحنا 15:21 – 17). وليس عِند الله بديل أو نظير لِلمحبّة! أجل! فهذا حقّ، ومن ثم رأينا أوغسطينوس يقول: «أحب وبعد ذلك أفعل ما تشاء». ولعلّه ليست هُناك مأساة تعدل فُقدّان الإحساس بِالمحبّة، الأمر الذي قاله الشعب في وجه الله بِجُرأة لا يحسد عليها: «بِمَ أَحْبَبْتَنَا؟» (ملاخي 2:1). وفي الحقيقة لا يبقى لِلإنسان شيء في الحياة بعد ذلك، يوم يعجز عن إدراك أن الله أحبّه وما يزال يُحبّه! ومع ذلك فقد كان الله كريماً إذ دخل في حِوار المحبّة!

ملاخي – كآخر أنبياء العهد القديم – لا يجد حلاً لِقضيّة الإثم والفساد والشرّ والمرض الذي تُسبّبه الخطيّة، سِوى في الله نفسه: «هأَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي. وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ، وَمَلاَكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ. هُوَذَا يَأْتِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ» (ملاخي 1:3). ولا بُدّ مِن المُلاحظة هُنا أن ربّ الجنود هو الذي يتكلّم، وهو يتكلّم عن شخصه المُبارك: «فيُهيئ الطريق أمامي، وهو السيد نفسه وملاك العهد الذي ننتظره ونُسرّ به». وقد أوضح السيّد المسيح أن هذه النبوّة تمّت فيه، وأنه أرسل يوحنا المعمدان لِتهيئة الطريق أمامه. اعتقد البعض أن هذا الملاك أو الرسول كان نحميا عِندما عاد إلى الهيكل بعد أن رجع إلى بِلاده، وقام بِثورة عارِمة ضِدّ الفساد الذي استشرى، لكن نحميا لم يكُن إلاّ صورة ورمزاً إلى السابِق الذي جاء يُنادي بِمجيء المسيح. ومن المُلاحظ أيضاً أنه في هذه النبوّة، كما يقول أوغسطينوس يظهر المجيئان الأول والثاني لِيسوع المسيح، فإذا كان مجيئه الأول يحمل معنى التطهير والإحراق لِلخطيّة والإثم، فإن مجيئه الثاني سيفصل بين الحقّ والباطِل، والشرّ والخير، فصلاً أبديّاً! وقد بيّن كيف يلجأ السيّد إلى التطهير، إذ يعمدّ إلى النار والغسل، فهو بِالنار يمحص وبِالغسل يجمل ويُنظّف وهو إذ يبدأ بِالتطهير، يبدأ بِخُدّامه مُباشرة قبل الجميع!

وقد ذكر النبي أن إيليّا سيأتي قبل مجيء يوم المسيح العظيم المخوف الذي يقضي فيه السيّد على كل فساد وشرّ، واليهود ما يزالون إلى اليوم ينتظرون ظهور إيليّا مرّة ثانية، غير أن أغلب الشُرّاح المسيحيين يتفّقون على أن هذه النبوّة إشارة إلى المعمدان الذي جاء بِروح إيليّا كما أشار السيّد المسيح، غير أنه وُجِد مِن المُفسّرين مَن قال إن إيليّا سيأتي مرّة أُخرى قبل يوم الدينونة ومجيء المسيح الثاني، وأنه إذا كانت النبوّة قد تمّت مبدئياً في المعمدان، فإنها ستّتم نِهائِياً وأخيراً بمجيء إيليّا ذاته، وستكون رِسالته ردّ قلوب الآباء إلى الأبناء والأبناء إلى الآباء. فيقولون إن الآباء مع الأبناء سيستجيبون لِنداء النبي؛ ويوجد مَن يقول إن كلمة الآباء إشارة إلى الآباء الأقدمين، وإن الأبناء سيرجعون بِقلوبهم إلى قلوب آبائِهم وإيمانهم.

وأيان يتجّه تيّار التفسير وهل هو عن المجيء الأول لِلمسيح بِمُفرده أو مجيئه الأول والثاني كما يذهب أوغسطينوس، وهل يوحنا المعمدان، هو رسول المسيح الذي جاء سابِقاً له بِروح إيليّا، أم أن إيليّا سيأتي مرّة أُخرى الأمر الذي لا نعتقده أو نُرجّحه. إلاّ أن التفسير، مهما اختلف، فهو مركز في شخص المسيح. وإذا كانت آخر كلِمة في العهد القديم هي كلمة «بلعن» كما سبقت الإشارة، فإن انتزاع الخطيّة من الأرض، والقضاء على اللعنة، والفصل بين الشرّ والخير إلى الأبد، لا يُمكِن أن تكون إلاّ في إسمه المجيد العظيم المُبارك، له المجد، هللويا إلى الأبد آمين فآمين فآمين!!