العودة الى الصفحة السابقة
ملكة سبأ

ملكة سبأ

جون نور


«وَسَمِعَتْ مَلِكَةُ سَبَا بِخَبَرِ سُلَيْمَانَ لِمَجْدِ الرَّبِّ، فَأَتَتْ لِتَمْتَحِنَهُ بِمَسَائِلَ» (1ملوك 10: 1).

لا يحتاج المرء إلى الكثير من التأمل ليدرك أن هذه المرأة كانت من الشخصيات غير العادية من النساء فهي أولاً وقبل كل شيء، كانت من نساء القمة أو من أعلى طبقات النساء اللواتي عشن على هذه الأرض ومع أن تاريخها الأول قبل زيارتها للملك سليمان لا نعرف عنه شيئاً، إلا أنه من المؤكد على أي حال أنها كانت ملكة أرستقراطية عظيمة، لها القصور والأمجاد، وإذا كانت هداياها للملك سليمان من الذهب وحده تتجاوز الملايين من الدنانير، فلنا أن نتصور مقدار الثروة الطائلة التي كانت تمتلكها. على أنها وإن كانت على هذا الحد من الثروة الفاحشة، فإن ما هو أعظم وأجمل أنها كانت ثرية الذهن جبّارة التفكير، فالمرأة التي تستطيع أن تواجه سليمان، وتناظره وتمتحنه بمسائل لا يمكن إلا أن تكون واحدة من عبقريات النساء وأفذاذهن، وأندرهن في المحاجة والتفكير والتأمل.

لا شك أن البحث عن الحق كان الدافع الأول والأعلى لملكة سبأ، لتأخذ طريقها إلى أورشليم لزيارة الملك سليمان. ومع أن سليمان بلغت شهرته الآفاق، ومع أن فهمه وإدراكه وحكمته ومملكته ونظامه وشعبه، لم تكن الرغبة الأولى لملكة سبأ لترى سليمان وبلاده وعرشه. إذ أن رغبتها كانت أعمق من هذه كثيراً، إنها كانت تبحث عما وراء سليمان. أو بتعبير أصح عمن وراء سليمان، عن سليمان وسرّ حياته ومجده وقوته وعظمته. فلم يكن سليمان إذاً هو المقصد المنشود للمرأة العظيمة، بل كان سيلمان في نظرها، مفتاحاً إلى قصر عظيم، يمكن أن تدخل، وتتمتع في أبهائه بعظمة إله، هو سرّ الوجود، ومجد الوجود! ولا يمكن أن يعطي يسوع المسيح معنى لهذه الرحلة، وآثارها الخالدة الباقية إلى يوم الدين، ما لم يكن هذا هو المقصد الأهم والأرفع والأعظم عند الملكة القديمة. أما هو فقد سمع بأن المرأة كانت تعاني عيباً خلقياً في ساقيها، فواحدة شعراء والأخرى ملساء، وكانت تغطيهما بثوب إلى الكعبين، ومهما ذكر من هذا القبيل، أو مهما قيل مما جاء في بعض التقاليد، من أن سليمان والملكة كانا معاً ذات يوم، فمر بهما أحد العمال وكان يحمل حجراً على رأسه وقربة ماء على ظهره وكتفيه، وثيابه مهلهلة ممزقة، وطعامه وحذائه مربوطين إلى وسطه، وإذ رآه الملك على هذه الحال، استوقفه وقال لملكة سبأ: تأملي هذا الرجل هل أنا أفضل منه؟ فأنا إنسان وتراب ورماد وغداً سأصبح دوداً ورماداً ومع ذلك، فأنا الآن، كأنما في وضعي هذا لن أرى الموت أبداً. مع أن موته مثل موتي، وحياته كحياتي! ثم استطرد قائلاً: ما معنى حياتنا نحن بني الإنسان إذا لم نمارس الشفقة والمحبة على الأرض. ألسنا كلا شيء، ومثل زهر الحقل الذي سريعاً ما ييبس ويلقى في النار!!؟ نحن نأكل أطيب الأطعمة، ونرتدي أفخر الثياب ومع ذلك فالفساد ينخر في عظامنا ونحن أحياء!! ونحن نتدهن بأفخر الأطياب وإن كنا في الوقت عينه موتى بالذنوب والخطايا ونحن في هذه الحياة، طوبى للإنسان الذي يعرف الحكمة ويطلب العطف ومخافة الله! رأت الملكة من الصور الكثيرة المذهلة للعقول، عن حكمة سليمان، وبيته وطعام مائدته، وموقف خدامه وملابسهم فإن هذه كلها لم تأسر الملكة قدر انبهارها بالهيكل والذبائح والتقدمات والعبادة العظيمة، التي لم يكن لها نظير في الأمم أو الممالك الوثنية المختلفة. لقد رأت الله في كل هذه، وعند كل هذه، وكان الله هو اكتشافها الأعظم، عند ذهابها إلى سيلمان، وعندما رأت محرقاته التي كان يصعدها في بيت الرب لم يبق فيها روح بعد. ولهذا قالت له: «لِيَكُنْ مُبَارَكًا الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذِي سُرَّ بِكَ وَجَعَلَكَ عَلَى كُرْسِيِّ إِسْرَائِيلَ» (1ملوك 10: 9). ولعل هذا يضع لنا التفسير الصحيح لرحلة الملكة التي يتنازع العرب والأحباش على مكان مملكتها، فبينما يرجح أن سبأ أو اليمن هي مكان اليمن حالياً، يقول الأحباش أنها من بلادهم. وسواء كان هذا أو ذاك فإن الرحلة تقترب من ثلاثة آلاف من الأميال ذهاباً وعودة، ولا يمكن أن تتم بقافلة عظيمة من الجمال إلا فيما يقترب من خمسة أشهر على الأقل.

لم تذهب ملكة سبأ إلى سليمان فارغة اليد أو محملة بهدايا رمزية وثمينة، ولكنها ذهبت بقافلة ربما من أعظم القوافل العظيمة، والكريمة في تاريخ الهدايا بين الملوك وعظماء الأرض، ولعل الإحساس الأعمق عند هذه المرأة، وهي تقدم أفخر وأعظم ما يمكن أن يقدم الإنسان من مادة، ومع أن سليمان أعطى للمرأة من العطايا حسبما اشتهت، وأكثر من مشتهاها كما يقول الكتاب حسب كرم الملك سليمان فإن الله دائماً يعطي حسب كرمه فوق ما نطلب أو نفتكر بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع.

إن تاريخ كل واحد منا يبدأ من رحلته مع ذاك الذي هو أعظم من سليمان، يوم نسلّم الحياة له، ونتبادل الهدايا وإياه. ومهما نقدم فإننا لا نستطيع أن نعطي أكثر من قلب مهما يتسع فهو صغير، ومهما يبذل فهو محدود، وإن ما نسكبه من عصارة الحياة أو الحب أو الجهد أو الوفاء، ليست ألا قطرة واحدة من فيضان حبه ونعمته وإحسانه وجوده، في الحياة الحاضرة أو العتيدة معاً، ليت لنا مع المسيح رحلة ملكة سبأ القديمة إلى الملك سليمان الحكيم!!!...