العودة الى الصفحة السابقة
النبي إرميا

النبي إرميا

جون نور


«يَا لَيْتَ رَأْسِي مَاءٌ، وَعَيْنَيَّ يَنْبُوعُ دُمُوعٍ، فَأَبْكِيَ نَهَارًا وَلَيْلاً قَتْلَى بِنْتِ شَعْبِي» (إرميا 1:9).

كان النبي إرميا نبي الدموع، شبيهاً بالمسيح، ومن أقسى ما عاناه أنه رأى بعينيه مدينته التَعِسة، والبابليّون ينقضون عليها كالوحوش، ويسوونها وهيكلها ومجدها بالتراب، ورأى إرميا قتلى بنت شعبه، فصرخ: «يَا لَيْتَ رَأْسِي مَاءٌ، وَعَيْنَيَّ يَنْبُوعُ دُمُوعٍ، فَأَبْكِيَ نَهَارًا وَلَيْلاً قَتْلَى بِنْتِ شَعْبِي» (إرميا 1:9). هل رأيتم مدينة تتحوّل بأكملها إلى كُتلة من نار، يجري في طرقاتها إنسان دون أن يعرف إلى أين يتجّه، سوى أن يطلق لِنفسه العنان في البكاء والنحيب والمراثي؟! هكذا كان إرميا وكانت مراثيه، وكان حزنه الذي لا يوصف، الحزن الذي أمسك بحياته من مطلعها وهو يجري بين أورشليم وعناثوث، حتى مات في مصر، ويُقال إنه مات رجماً من مواطنيه، وهكذا عاش الرجل ومات. كان إرميا بن حلقيا الكاهِن، والذي يعتقد كثيرون أنه كان الكاهِن العظيم في أيام يوشيا الملك، وعلى أيّة حال، فإن إرميا كان من الكَهنة الذين وُلدوا في عناثوث الواقِعة في سِبط بِنيامين، والتي كانت تبعد ثلاثة أميال إلى الشمال الشرقي من مدينة القدس !!... وكان يتنقّل بين المدينتين، وإن كان قد قضى الشطر الأكبر من حياته في القدس!!...

ولعلّنا لا نستطيع أن نفهم الرجل حقّ الفهم، قبل أن نعرف العصر الذي عاش فيه. كان عصره من أقسى العصور، وأكثرها ازدحاماً بالصِراع، إذ كانت هناك ثلاث ممالك تتنازع السُلطة العالمية، ونعني بها آشور، ومصر، وبابل. ومن المعتقد أن إرميا صار نبيّاً، وهو ما يزال غضاً صغيراً، وفي الغالب، في العشرين من عُمره وكان ذلك في السنة الثالِثة عشرة من حُكم يوشيا أو عام 626 ق. م، وقد استمرّت نبوّته أكثر من أربعين عاماً، وشاهد بِعينيه تحقيق الكثير من نبوّاته، إذ رأى خراب أورشليم، وقد كان بداخلها وهي مُحاصِرة، وعِندما دُمّرت.

كان إرميا – في حدّ ذاته – رمزاً ومِثالاً لِلكلام الذي يُنادي به، ولعلّ العصر الذي عاش فيه، والظروف التي أحاطت به، يُمكن أن تُعطينا الصورة الصحيحة للرجل، الذي صوّره كثيرون بأنه نبي الدموع، وآخرون نبي الفشل، وغيرهم نبي الأحزان، أو نبي التناقض، أو في الصورة الأدقّ والأصحّ «النبي المُمزّق» إذ أن الصِراع الذي أحاط به، وبِعصره، انعكس في أعماق نفسه صِراعاً رهيباً مهولاً.

لا يُمكِن أن تراه في استجابته لِدعوة الله العُليا، إلاّ بِهذه الصورة العجيبة، لقد أصابه الهول والفزع والوجل عِندما ناداه الله للِخدمة وصاح: «آهِ، يَا سَيِّدُ الرَّبُّ، إِنِّي لاَ أَعْرِفُ أَنْ أَتَكَلَّمَ لأَنِّي وَلَدٌ» (إرميا 6:1). كان على الأغلب في العشرين من عُمره، وهو بِطبعه خجول مُتضّع، يتلعثم أمام المشاكِل والأحداث والحوادث، وهو الرقيق إلى حدّ الدموع، فكيف يُمكن لِهذه الطبيعة أن تُواجه الدعوة بما تشتمل عليه من صِعاب تبدو كالجِبال الرواسي، والأُمّة تندفع بِجنون نحو غروبها الرهيب، ومن المُلاحِظ أنه يُمثّل ذلك النوع من الخُدّام الذين يتردّدون قبل قبول الخِدمة، أو يُحاوِلون الهروب مِنها ما وسعتهم المُحاولة. إلاّ أن الشيء المؤكدّ عند أرميا أنه أيقن من هذه الدعوة، وصدورها من الله بكيفية لا تقبل إبهاماً أو تردّداً أو شكّاً على الإطلاق!! وملأه الله بروحه فتحوّلت الحمامة إلى أسد. وأحسّ الرجل في أعماقه بأنّ قوّة خارِقة سيطرت عليه، لم يكن يعرفها من قبل، هي قوّة روح الله فيه، ولمس الله شفتيه، وجعل كلامه في فمه.

وقد بدت هذه الظاهِرة بِوجهها الواضِح في حياة إرميا خِلال السنوات الطويلة من حياته الحافلة بالتجربة، والضيق، والاضطهاد، ويكفي أن نراها عِندما يخلو إلى نفسه.

قال الرب لإرميا: «انْزِلْ إِلَى بَيْتِ مَلِكِ يَهُوذَا» (إرميا 1:22) ويبدو أن إرميا كان في الهيكل، والهيكل كان في أعلى بُقعة، فمن يترك الهيكل لا بُدّ سينزل نزولاً جغرافياً، لكن المِعنى أشمل وأعمق من مُجرّد النزول الجُغرافي، إذ أن من يحمل رسالة الله عليه أن يدرك بأنه يحمل رسالة تعلو في مركزها وسُلطانها وأمرها على كل عُظماء الأرض وسادتها، وملوكها. ويبدو أن النبي قد أمر بِالذهاب إلى العائلة المالِكة لأنه يعلم مدى نفوذها في الخير أو الشرّ على حد سِواء، والناس على دين ملوكهم، وينسجون دائِماً على مِنوالهم، إذ يرغبون في تتّبع آثارهم ومُحاكاتهم وتقليدهم في كافّة الظروف والأوضاع.

كما قال أحدهم، إن من واجب الخادِم ألاّ ينتظر مِن سامعيه أن يجروا وراءه، بل عليه أن يخرج إلى الخارِج لِيتحدّث بها بين أُناس قد يُعادونه ويؤذونه بِسببها!!... إن الدين ليس لِمَن يقبلونه فقط، بل هو أيضاً لِلعشّارين والخُطاة، ومِن يظنّهم الناس أنهم أبعد الجميع مِنه!!

لقد كان إرميا نبي الدموع، ولن يعرف العالم مرّة أخرى شيئاً أعظم أو أروع أو أنبل من مراثيه، ومع أن العالم عرف كثيراً من الأحزان والمآسي في كل العصور،... لكنه لن يعرف واعِظاً، وكاتِباً، وراثياً مرّة أُخرى كإرميا. إن دموع إرميا التي بدت كما لو أنها ضاعت على أطلال أورشليم الخَرِبة، إلاّ أنها، - ويا لِلعجب – لم تنفذ إلى الآن، فقد تحوّل رأسه فِعلاً إلى ماء لا يكفّ عن العطاء، وعيناه إلى دموع، ما يزال ينهل الوُعّاظ منها عِبرة ومِثالاً وهُم يبكون على قتلى الخطيّة نهاراً وليلاً في الطريق المُنحدِر إلى الضياع الأبدي، والعذاب، والتعاسة، في جُهنم التي كتب على بابها دانتي في الكوميديا الإلهيّة: «أيها الداخِل إلى هذا المكان ودع الرجاء إلى الأبد!!».