العودة الى الصفحة السابقة
الفريسيون

الفريسيون

جون نور


عندما ترتبط بعض الكلمات في أذهان البشر بمعان معيّنة مدة طويلة، تكاد تفقد معناها الحقيقي. وبين هذه الكلمات كلمة «فريسي»... فقد ارتبطت هذه الكلمة في أذهاننا نحن المسيحيين في هذا العصر بمعنى أقرب ما يكون إلى الاستهجان والكراهية. وإذا قال واحد للآخر «أنت فريسي» فكأنه يوجه إليه نوعاً من الشتيمة.

والسبب في ذلك هو ما نجده في روايات الإنجيل من أوصاف غير محبوبة نعت بها السيد المسيح جماعة الفريسيين.

وأول صفة وصفهم بها المسيح هي صفة الرياء وما أكثر ما نجد هذا النداء في كلمات السيد المسيح «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ!» (متّى 13:23).

وقد وصف السيد المسيح الفريسيين بأنهم «عميان وقادة عميان» و«جُهّال» و«قبور مبيضة» و«حيات» و«أولاد الأفاعي» (متّى 23).

كل هذه الأوصاف، تركت بصماتها على لقب «الفريسيين» في أذهاننا لكثرة ما قرأنا عنها في الأناجيل... هذا بالإضافة إلى ما ترويه الأناجيل عن عداء هذه الجماعة للسيد المسيح، هذا العداء الذي كان من بين الأسباب الهامة التي قادت يسوع إلى الصليب.

فقد احتدم الخلاف بين المسيح والكتبة والفريسيين حتى ذكر الإنجيل أنهم صاروا «يَحْنَقُونَ جِدًّا، وَيُصَادِرُونَهُ عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَهُمْ يُرَاقِبُونَهُ طَالِبِينَ أَنْ يَصْطَادُوا شَيْئًا مِنْ فَمِهِ لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ» (لوقا 53:11، 54).

لكننا لو عدنا إلى مدلول كلمة «الفريسيين»، ومقام هذه الجماعة في العصر الذي عاشت فيه، لأدركنا خطأ الصورة الذهنية التي تكونت عندنا عنهم.

كان الفريسيون يمتازون عن باقي جماعات اليهود بنقاوة العقيدة، فقد كانوا يؤمنون بالملائكة وبالقيامة من الأموات وخلود النفس والعقاب الأبدي.

ومعنى ذلك أننا لو قارنا بين طوائف اليهود المختلفة التي عاشت في عصر المسيح، كالغيورين والهيرودسيين والصدوقيين والأسينيين وبين الفريسيين لوجدنا أنهم في التعليم، كان يسوع أقرب إلى جماعة الفريسيين... فهم المتدينون المحافظون على الشريعة، المدققون في إتباعها.

إذاً فليست صفة «فريسي» مسبة بل هي امتياز... ولقد كان الفريسيون جماعة مبشرة كارزة تتفانى في سبيل إقناع الآخرين بالديانة اليهودية، وقد وصفهم السيد المسيح نفسه بأنهم كانوا، يطوفون البر والبحر ليكسبوا دخيلاً واحداً (متّى 15:23).

لكن المؤسف أن هذه الجماعة المتعبدة المتدينة المدققة هي التي دقت المسمار الأول في مأساة صلب المسيح... هذه الجماعة المصلية بانتظام، الصائمة بانتظام، المحافظة على شريعة الله بتدقيق... هي التي اشتكت على يسوع، وحاكمته، وشهدت ضده، وشجعت على شهادة الزور لإثبات إدانته!!

عندما صنع لاوي العشار ضيافة كبيرة في بيته بعد أن تبع يسوع، ودعا إليها مع يسوع عشارين آخرين تذمر الكتبة والفريسيون وقالوا لتلاميذ المسيح «لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ؟» (لوقا 30:5).

لاحظ الفريسيون أن تلاميذ يوحنا المعمدان يمارسون مواسم معيّنة بالصوم، ويقدمون طلبات أي صلوات معيّنة إلى الله، وكان هذا مقبولاً عند الفريسيين، فلهم مواعيد للصيام، بل أن الفريسي الصحيح يجب أن يصوم مرتين في الأسبوع بينما لاحظوا أن المسيح وتلاميذه لا يصومون.

وتساءلوا: كيف يكون هؤلاء الناس متدينين، وهم لا يصومون، ولا يمارسون طقوساً خاصة في الصلاة.

كانت نظرة الفريسيين إلى الناموس جامدة متزمتة، وكانت نظرة المسيح إلى الناموس روحية متحركة.

هذا هو الفرق بين التزمت الديني، والديانة الحقيقة. ذلك لأن تعاليم الله في تقدير المسيح وُضعت لخير الإنسان وصلاحه... لذلك إذا جاء تفسير الشريعة متعارضاً مع الحاجة البشرية، نجد أن يسوع تجاهل هذا التفسير ذلك لأن الشريعة الأولى والتي تنبع منها كل الوصايا هي محبة الله المعبّر عنها في محبة الآخرين وخدمتهم.

وماذا كانت النتيجة؟ عزلوا أنفسهم عن الغير، وظنوا أنهم أفضل من غيرهم... لدرجة أنهم لم يخاطروا بأن يخرجوا من قوقعة التدين إلى ميدان المجتمع العادي... أما يسوع فخاطر... فكان نصيبه الصليب... لأنه كان أفضل مما يتصوره البشر.

وعلى جبل الجلجثة كانت هناك ثلاثة صلبان، اثنان منها صُلب عليهما لصان، لأنهما كانا يعيشان أدنى من مبادئ المجتمع... والثالث صُلب عليه يسوع لأنه كان يعيش أسمى من مبادئ المجتمع... اثنان صُلبا لأنهما لم يعملا الواجب، والثالث صُلب لأنه قام بما هو فوق الواجب المعروف، والمتعارف عليه.

لو أخلصنا لأنفسنا، لوجدنا كثيرين في عصرنا الحاضر يقودون غيرهم إلى صليب كصليب المسيح، لمجرد أنهم يختلفون عنهم في الفكر أو أسلوب الحياة.

هل تقود الآخرين إلى المسيح بأسلوب حياتك، هل يرون فيك هذا التميز الذي رأوه في المسيح.