العودة الى الصفحة السابقة
الغني الغبي

الغني الغبي

(لوقا 12: 15 - 21)

جون نور


«15 وَقَالَ لَهُمُ: «انْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ الطَّمَعِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ». 16 وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلاً قَائِلاً: «إِنْسَانٌ غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ كُورَتُهُ، 17 فَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قَائِلاً: مَاذَا أَعْمَلُ، لأَنْ لَيْسَ لِي مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي؟ 18 وَقَالَ: أَعْمَلُ هذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ، وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَلاَّتِي وَخَيْرَاتِي، 19 وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي! 20 فَقَالَ لَهُ اللهُ: يَا غَبِيُّ! هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟ 21 هكَذَا الَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيًّا ِللهِ».

نحن أمام قصة رجل تنقبض لها النفس وترتعد لها الفرائض ذعراً. كان هذا الرجل غنياً مجتهداً، نشيطاً، ذكياً، محباً للعمل، طموحاً. فعزم على هدم مخازنه القديمة، وإقامة مخازن جديدة مكانها، أكثر إتساعاً وعلى نسق حديث، ليرتاح بعد عناء السنين، ويستمتع بثمرة أتعابه وهو قرير العين، مطمئن البال.

وكان الأمل يداعب خياله، بأن حياته الحقيقية قد بدأت. ولكن آماله تحطمت، لأن الحياة التي كان يعلل نفسه بها إنتهت قبل أن تبدأ. كان يعتقد أنه عثر على أثمن كنز، غير أن الكنز لم يكن ذهباً، بل زجاجاً سريع العطب. لقد ذهبت أتعابه كلها أدراج الرياح وأفلتت كنوزه من بين يديه.

إنها نهاية مرعبة مرهبة لحياة مليئة بالعمل الدائب حافلة بالكفاح المتواصل لكن صوت الله جاء إليه قائلاً: «يَا غَبِيُّ! هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ!» فأي ذنب جنى الرجل، وأية جريرة اقترف؟ قد نظن، أنه كان بخيلاً، أنانياً، لا قلب له ولا ضمير، لا يعطي سائلاً، ولا يرحم معوزاً. وقد نعتقد أنه كان قاسياً، ظالماً، مستبداً بعماله. ولكننا لا نسمع شيئاً من هذا كله في القصة.

لم تكن رداءته سبب إدانته. بل غباوته وجهله: «قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: لَيْسَ إِلهٌ» (مزمور 14: 1). كان الرجل جاهلاً، بسبب لا دينيته. ولكن هنا أيضاً يجب ألا نقسو بالحكم عليه، لأننا لا نعرف أنه كان منكراً لوجود الله. ونحسب أنه كان يؤمن بالله على طريقته، وليس كما كانت تعتقد الأكثرية الساحقة في أيامه. وعندنا أن جهله كان كامناً في عدم إعطائه مكاناً لله في حياته. ولربما كان يعتقد أن الله تكلم إلى الناس في العصور القديمة في الأسفار المقدسة التي أكل عليها الدهر وشرب ولم تعد صالحة أو ذات قيمة تُذكر للناس في أيامه. ولم يدر في خلده قط، بأن الله سيخاطبه ويفتقده في تلك الليلة إياها.

كان جهل الرجل مرده إلى إعتقاده، بأن الحياة كلها محصورة بالمرئيات، وبأن ليس وراء ما يراه الإنسان ما يجب أن يتعب نفسه به أو أن يضطرب بسببه. كانت الحياة في نظره قائمة على العمل، لا شيء غير العمل، ثم على الإستمتاع بثمرة هذا العمل. فكان بذلك سطحياً، لا عمق لحياته ولا مضمون، كأولئك الذين لديهم وقتاً لكل شيء إلا لله. ومالاً لكل شيء، إلا لله. هذه كانت مأساة ذلك الغني. وهي مأساة كثيرين.

لم يكن جحيمه في ماله وغناه، بل بعدم إهتمامه بالله. وقد يكون هذا جحيم الفقير أيضاً. فإذا كان جحيم الغني في كثرة تفكيره في جمع المال، فإن جحيم الفقير هو التلهف الدائم للحصول على المال. مأساة الغني يولدها البطر. ومأساة الفقير يسببها الحرمان. كان عدم الشكر مأساة الغني. فنحن لا نسمع كلمة واحدة في القصة تدل على شكره لله. كان كذلك الرجل الذي كلما ذكرته بيوم الشكر وبما يجب عليه أن يعمله ينتحل شتى الأعذار أو يقول: «لم عيد الشكر، وعلام أشكر الله؟» فلا عجب إذا أجدبت نفس من كان من هذا النوع من الناس وجمدت قلوبهم.

إن العالم الذي نعيش فيه لا يرغب في التغور إلى صميم الحياة، ليدرك المعنى الحقيقي لها. ولذلك يسعى الإنسان طوال حياته ليزيد ساعات عمله، ليزيد بذلك دخله وماله. وهذا هو السبب في عدم ميل أهل الدنيا للدِّين. إن المادة هي المسيطرة على الإنسان، لا الروح. وحب الإنسان للمادة تجعله يقف على سطح الحياة وتمنعه من الهبوط إلى أعماقها ليدرك حقيقتها.

إن هذه السطحية هي الخطر الذي يتهدد حياة الشبان في أيامنا، فيحملهم على اللجوء إلى تعاطي المخدرات فلا عجب إذا أصيب هؤلاء في نهاية الأمر، بالأمراض النفسية وهدت قواهم الأمراض العصبية.

إن الطريق المؤدي إلى أعماق الحياة طريق شاق يتعذر على كثيرين عبوره، وكثيرون يضلون الطريق. ولذلك فنحن في هذه الطريق نحتاج إلى رفيق ومرشد. وعندنا الرفيق والمرشد الذي قال: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ» (يوحنا 14: 6).

إن هذا الرفيق يسير معنا ويأخذ بأيدينا إلى الأعماق. وكلما أدركنا أعماق الحياة سهل علينا التخلص من المياه الضحلة والقذرة على شاطيء الحياة والوصول إلى المياه الصافية النقية في الأعماق، وكلما إتسعت رؤيانا وتمسكنا بالجوهر، وحققنا في حياتنا ما كنا نحسبه قبلاً مستحيلاً، وجمعنا كنوزاً لا يأكلها السوس والصدأ، بل كنوزاً دائمة لا تفنى وإن فني الدهر.

وخلاصة القول إن الغني بالله هو الغني الحقيقي، صلاتنا أن يمنحنا الله هذا الغنى.