العودة الى الصفحة السابقة
إبراهيم

إبراهيم

«إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِي» (إشعياء 8:41)

جون نور


ما هو الدِّين في كلمة واحدة؟ هذا هو السؤال الذي اختلفت إجابات الناس عليه في كل جيل وعصر، ومن ثم نشأت الأديان المختلفة المتعددة في كل مكان وزمان. وقد جاهد واجتهد الإنسان في العصور القديمة بحثاً عن الله حتى وصل إلى الحال التي قيل فيها: «إنه وجد الله في كل شيء إلا الله نفسه».. أو في لغة أخرى: إنه تاه في طريق البحث عن الله، وبينما هو يظن أنه عثر عليه، كان غارقاً في الظلام أسير الوهم والضلال والوثنية والتعاسة.. وفهم الدِّين فهماً خرافياً معكوساً مقلوباً بالتمام،.. فالدِّين عنده هو اتجاه الإنسان إلى الله، والتقرب منه فزعاً ورهبة وخوفاً وتزلفاً ، مما جعله يعيش وهو يتخيل الطقوس والفرائض والوصايا التي يتحتم عليه أن يتممها لكي يصل إلى الله ويقترب منه. مع أن لب الدِّين وجوهره لا بحث الإنسان عن الله، بل بحث الله عن الإنسان، وليس اقتراب الإنسان من الله، بل اقتراب الله إلى الإنسان.

عندما غرق العالم في دياجير الظلام الوثنية بعد الطوفان، وأراد الله أن يحفظ الدِّين الحقيقي سعى هو إلى رجل في الأرض، قبل أن يسعى هذا الرجل إليه، وأنشأ علاقة بالرجل، قبل أن ينشئ الرجل هذه العلاقة معه، وجاء الدِّين في كلمة واحدة هي كلمة الحب. لا يتعجب المرء أن الله وهو يصف العلاقة بإبراهيم يقول: «إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِي».. وكأنما الله يعتز بهذه الصداقة ويفاخر بها. أجل .. لو جاء هذا القول منسوباً إلى إبراهيم لما بدأ غريباً أو عجيباً إذ هو فخر الصعلوك بالملك، وفخر من هو لا شيء بمن هو كل شيء،.. لكن أن يأتي معكوساً ومن الله ذاته، فهو العجب كل العجب، وهو الدِّين في صحته وعمقه وحقيقته، خطوة الله إلى الإنسان، وعلاقة الله بالإنسان، علاقة الحب والمودة، وهو إن شئنا الدقة حقيقة المفهوم المسيحي لمعنى الدِّين في كلمة الحب أي الصداقة مع الله، وهو مفتاح حياة إبراهيم كلها... لن تستطيع أن تعثر على مفتاح حياة إبراهيم، ولن تستطيع أن تفهم شخصيته وحياته وطباعه وسجاياه، قبل أن نقف أمام عبارة صغيرة عظيمة، قالها استفانوس الشهيد في استهلال كلامه في سفر الأعمال: «ظَهَرَ إِلهُ الْمَجْدِ لأَبِينَا إِبْرَاهِيمَ» (أعمال 7: 2).. وكلمة «إِلهُ الْمَجْدِ» تعني أن الله ظهر متجلياً لإبراهيم في هيئة رائعة مجيدة. وإن هذا الظهور سيطر على إبراهيم وسلب لبه وحياته، وقاده طوال حياته على الأرض بما يشبه الجاذبية المغناطيسية، التي لا تدع للإنسان في قوتها أية مقاومة أو ممانعة أو توقف أو تردد، بل أن هذا الظهور كان جليلاً وعظيماً، إلى الدرجة التي جعلته يرى التبر تراباً إلى جانب الله، ويقدم على رحلته الخالدة التي غيرت لا مساره هو وحده، بل مسار الجنس البشري كاملاً، حتى يعود المسيح ابنه المبارك إلى الأرض، ويسيطر عليها، لمجد الله عندما يخضع الكل له ليكون الله الكل في الكل!

نحن لا نعلم على أية صورة ظهر الله لإبراهيم في أور الكلدانيين، هل ظهر له كما ظهر بعد ذلك في كنعان عندما زاره في خيمته ومعه ملاكان؟ أو ظهر له في رؤيا؟ أو ظهر متكلماً كما يظهر الرجل مكلماً صاحبه وجهاً لوجه؟ لكن من المؤكد أن هذا اللقاء العظيم بين إبراهيم والله كان فيه الله على صورة مجيدة، لعلها صورة السيد في التجلي عندما صاح بطرس – وقد نسي إزاءها الحياة، والعالم، والحاضر والمستقبل: «جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا» (مرقس 9: 5)... مع الفارق الملحوظ أن إله «المجد» في كلا الحاليين لم يبق على من ظهر له في حالة سكون أو متعة، في أور الكلدانيين، أو على رأس الجبل، بل دعاه إلى الحركة في رحلة المجد العظيمة، في الرسالة المباركة التي وضعت عليه. وإذا كان إبراهيم قد دعي «أبا المؤمنين» فإنها الصورة عينها في كل لقاء بين الله والمؤمن في رحلة الحياة على هذه الأرض.

كان اسم إبراهيم الأول «أبرام» أو الأب المرتفع وغيّر الله اسمه وأعطاه اسم «إبراهيم». ولن نستطيع أن ندرس بعمق حياته وصفاته، دون أن نرى أثر الصداقة الإلهية في حياته، وكيف فعلت هذه الصداقة فعلها العظيم القوي فطبعت فيه من الصفات، وأصلت فيه من المبادئ ورسخت من الأفعال، ما يمكن أن يجعله «نموذجاً» و«أباً» للمؤمنين، في كل العصور.

لقد خرج إبراهيم من أور الكلدانيين نتيجة رؤية أو حلم، ولقد عاش حياته بأكملها وهو يحلم بأمة عظيمة وشعب أكثر من نجوم السماء كثرة، وكالرمل الذي على شاطئ البحر الذي لا يُعد، بل لقد طرق هذا الحلم الأرض كلها، إذ بنسله تتبارك جميع قبائل الأرض، وعاش إبراهيم سعيداً بهذا الحلم وقد تحولت أور الكلدانيين، على ما كانت عليه من حضارة، وعظمة في ذلك التاريخ، إلى صحراء بجانب واحة حلمه، ومن المحقق أن هذا الحلم هو القوة التي رفعت أبا المؤمنين، فوق كل ما لاقى في الأرض، من واقع قاس مروع بغيض.

إن ما نتعلمه من حياة سيدنا إبراهيم هو التمسك بوعود الله المعطاة لنا نحن أبناء الملكوت والتي صارت لنا في المسيح يسوع آخذين بالايمان تحقيق الوعود لأن وعود الله صادقة للمؤمن.