العودة الى الصفحة السابقة
موسى

موسى

جون نور


موضوع حلقتنا هذا اليوم من أسماء وأحداث في الكتاب المقدس عن النبي موسى الذي يقول عنه الكتاب المقدس «بِالإِيمَانِ مُوسَى لَمَّا كَبِرَ أَبَى أَنْ يُدْعَى ابْنَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ» (عبرانيين 11: 24).

قد لا يجد المرء في صفحات التاريخ الكثير من الناس، الذين تعرّضوا وهم على مفارق الطرق، لما تعرّض له هذا الرجل القديم موسى، إذ كان واحداً من الأوائل الذين جاء امتحانهم على ضفاف النيل، ليكتشفوا الفارق المهول بين الطريق الواسع العالمي، وطريق الحياة الأبدية الضيق،... وقف موسى أمام الطريقين، ورأى الطريق الرحب الواسع، مرصوفاً بالذهب تعبق على جانبيه الزهور، ويرويه النيل بالخضرة والجمال، والحسن والمتعة، والمجد العالمي المذهل!!.. ورأى الطريق الآخر الكرب الضيق، وعلى رأسه الصليب الضيق، والنفي والتشريد، ولم يتردد مع ذلك قط، في أن يختار هذا الطريق الأخير إذ «أَبَى أَنْ يُدْعَى ابْنَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ مُفَضِّلاً بِالأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ اللهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِالْخَطِيَّةِ، حَاسِبًا عَارَ الْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ، لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْمُجَازَاةِ» (عبرانيين 11: 24 - 26)..

وُلد النبي موسى وكان جميلاً جداً وقد هز هذا الجمال أمه وأباه اللذان أخفياه ثلاثة أشهر وهز ابنة فرعون التي رق قلبها للجمال الباكي في سفط مطلى بالقار... وقد أضحى هذا الجمال مذهلاً ورهيباً، بعد أن صعد إلى الجبل وعاش مع الله أربعين يوماً،.. ولم تعد العين البشرية قادرة أن تحدّق فيه، كما يصعب عليها أن تواجه النور الباهر، ومن ثم ألف موسى أن يغطي وجهه في نظره إلى الناس، حتى يرفع البرقع في خلوته مع الله!!..

لم يكن موسى جميلاً، وعالماً فحسب، بل أكثر من ذلك، «كَانَ مُقْتَدِرًا فِي الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ» (أعمال 7: 22) جهزه الله ليكون من ذلك النوع من الرجال الذي خُلق ليكون قائداً.. والذي يمكن أن يوصف بصلابة الإرادة، وقوتها، فهو فرد يصلح أن يكون جيشاً بأكمله... خُلق ليكون زعيماً وقائداً، لا يتخاذل في أقسى المعارك، أو أشد المحن، التي يمكن أن يُمتحن بها الرجال أو الأبطال في الأرض!!..

إن أعظم من ساروا في الطريق البشري هم أولئك الذين قالوا لكل ما في العالم من مجد: «لا» وحملوا «صليب المسيح» في موكب الخالدين!!...

كان موسى مدعواً ولا شك من بطن أمه، وكانت أجراس الدعوة ترن في أذنيه في كل وقت، لكن الخطأ الكبير الذي وقع فيه موسى كان وقت الدعوة أو وقت الرسالة التي ينبغي عليه أن يؤديها، وشتان بين الظن والتأكد، وبين الخاطر والرؤيا يقول الكتاب المقدس «وَلَمَّا كَمِلَتْ لَهُ مُدَّةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، خَطَرَ عَلَى بَالِهِ أَنْ يَفْتَقِدَ إِخْوَتَهُ... فَظَنَّ أَنَّ إِخْوَتَهُ يَفْهَمُونَ أَنَّ اللهَ عَلَى يَدِهِ يُعْطِيهِمْ نَجَاةً» (أعمال 7: 23 و25) وهرب موسى، وعاش في مديان أربعين سنة أخرى كاملة: «وَلَمَّا كَمِلَتْ أَرْبَعُونَ سَنَةً، ظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ فِي بَرِّيَّةِ جَبَلِ سِينَاءَ فِي لَهِيبِ نَارِ عُلَّيْقَةٍ» (أعمال 7: 30).

الدعوة لا تأتي لموسى في الأربعين من عمره، حيث يظن أنه في قمة قوته، وفي كمال لياقته صاحياً ذهنياً وروحياً، بل أن الدعوة تأتيه وهو يدخل الثمانين من عمره، حيث ولى الشباب، وانتهى الوقت، وأخذ طريقه يتدحرج في تصوره إلى النهاية والغروب. إن الله لا يعمل عندما يظن البشر أنهم أقوياء، يستطيعون أن يعملوا أو يبدعوا أو ينتجوا، بل أنه على العكس يتدخل عند إفلاس الإنسان، وعجزه، وضياعه، وقصوره. جاءت الدعوة إلى موسى عندما كان يرعى غنم يثرون حماه، وستأتيني وتأتيك ونحن نمسك بالأمانة والغيرة، على ما يضع بين أيدينا من أعمال صغُرت أو كبُرت على حد سواء!

ظهر الله لموسى في العليقة، وكانت العليقة تتوقد بالنار ولم تكن تحترق، وقد كان المنظر أسمى إعلان لحضور الله لإنقاذ الشعب وتحريره وخلاصه، إذ كان أول كل شيء إعلان الرحمة الفائقة الحد، إذ لم يظهر الله في بلوطة أو شجرة من الأشجار العالية الشاهقة الارتفاع، المتعالية المنظر، بل ظهر في العليقة الصغيرة والوديعة القصيرة المظهر. فإذا كان الله قد حضر غيوراً في النار الملتهبة لإنقاذ شعبه، فإنه لم يحضر ديّاناً لكي يحرقهم ويقضي عليهم، وإذا كان اللاهوت قد حلّ في الناسوت في يسوع المسيح، فإنه قد جاء ليخلص، وليس ليدين!

هل تخيلت هذا المظهر الرائع الذي لم يكتف موسى أن يخلع حذائه من قدميه، وهو يقترب منه، بل أكثر من ذلك غطى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله؟ هو.. هو بعينه نفس المنظر الذي تكرر على بطاح بيت لحم حيث ذهب الرعاة «مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَالطِّفْلَ مُضْجَعًا فِي الْمِذْوَدِ. فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِالْكَلاَمِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ عَنْ هذَا الصَّبِيِّ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِنَ الرُّعَاةِ. وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا. ثثُمَّ رَجَعَ الرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ اللهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِيلَ لَهُمْ» (لوقا 2: 16 - 20). وهو هو الذي خشع أمامه المجوس وخروا، وسجدوا، وفتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا ذهباً ولباناً ومراً!

إنها لم تعد رسالة موت لموت بقدر ما هي رسالة حياة لحياة!!.. يا تُرى.. هل تقف على مفترق الطرق، لتنتهي إلى القرار الذي لا يمكن أن تندم عليه، والذي يؤهلك للوقوف على الشاطئ الأبدي، لتشترك في أعظم ترنيمة يرنمها الخالدون في العهد القديم أو الجديد على حد سواء؟ وأعني بها الترنيمة العظيمة الخالدة ترنيمة موسى والحمل!