العودة الى الصفحة السابقة
حواء

حواء

جون نور


نتأمل في هذه الحلقة من أسماء وأحداث في الكتاب المقدس عن السيدة الأولى في الكتاب المقدس وهي الأم الأولى أمنا حواء.

في أغلب الديانات القديمة، من بابلية، وآشورية، ومصرية، وهندية، ويونانية، نجد ذِكراً للمرأة الأولى وزوجها، بصور تقرب أو تبعد عن قصة الكتاب، وإن لم تبلغ هذه الأقاصيص جمال القصة الأخاذة التي دوّنها النبي موسى في سفر التكوين، وإن لم ترق إلى سموها ونقاوتها وبساطتها، فإنها مع ذلك تقف شاهداً على اعتراف جميع الأجيال والشعوب بحقيقة شخصيتها، كالأم الأولى التي جاءت منها الأجيال البشرية قاطبة، إذ نقرأ عن المرأة التي بُنيت من ضلع رجل، وعن شجرة معرفة الخير والشر، وشجرة الحياة، والحية المغرية، إن النبي موسى وهو يتحدث عنها، لم يقصد أن يرينا من هي حواء، بقدر ما آثر أن يرينا ما هي رسالتها ولذا نراه يمر مروراً سريعاً على طريقة تكوينها، ليقف بنا فقط عند تجربتها، وأثر هذه التجربة في نفسها وزوجها والكون بأجمعه، وقد سار الناس وراء النبي موسى، فلم يعنوا بالنظر إلى حواء كامرأة تاريخية لها شخصيتها وطباعها وخصائصها التي تنفرد بها عن غيرها، بل عنوا بالنظر إليها كامرأة رمزية مثالية، تعد عنواناً وصورة للمرأة في كل الأجيال ... ومن المؤسف أن كثيرين من الذين اجتهدوا في تحليل شخصيتها الخاصة لم يستطيعوا التخلص مما لصق بأذهانهم من صور عامة عن المرأة، فهناك مثلاً ذلك التقليد اليهودي الطريف الذي يقول إن حواء أعطت زوجها ليأكل معها حتى يموت لئلا يتزوج بامرأة أخرى تأتي بعدها، وهي محال أن تستريح في قبرها ومعه أخرى تأخذ مكانها.

أيها الشاب يا من تريد أن تختار زوجتك: حذار أن تثور فيك تلك الطباع الضعيفة الممقوتة، فتطلب ما ألف الكثيرون أن يطلبوه دون إرادة الله – مراراً يصرّ المرء على الجمال وينسى ذلك القول الحكيم الكريم: «اَلْحُسْنُ غِشٌّ وَالْجَمَالُ بَاطِلٌ، أَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُتَّقِيَةُ الرَّبَّ فَهِيَ تُمْدَحُ» (أمثال 31: 30). فيصبح الجمال مقبرة سعادته وهدوء باله، وكم من مرة بحث عن الجاه وما أشبه فعاش حياة تعسة شقية.

إن الله خلقها من ضلع تطوق قلبه ليحبها وتحت أبطه ليحميها، ولم يخلقها من قدمه لئلا يدوسها، أو من رأسه لئلا تسيطر عليه. ولعل الاضطراب الذي عانته البشرية قديماً وحديثاً يرجع إلى رغبة الرجل أو المرأة في الشذوذ عن هذا الوضع، والخروج عليه. فإذا نسى الرجل أن المرأة نظيرة، وأنه رأس لها وليس رئيساً عليها إذ يقول الكتاب المقدس: «الرَّجُلَ لَيْسَ مِنْ دُونِ الْمَرْأَةِ، وَلاَ الْمَرْأَةُ مِنْ دُونِ الرَّجُلِ فِي الرَّبِّ» (1كورنثوس 11: 11) وأن الرأس مهمته في الجسد القيادة فقط وليس السيطرة والاستبداد، اختل كل تعاون سليم محمود بينهما، وإذا نسيت المرأة أنها لم تُخلق لذاتها بل خُلقت من أجل الرجل لتصبح مجده.

كيف أسقطت الحية حواء!؟ هل كشفت لها عن وجه الخطية البشع المريع!؟ وهل حدثتها عن التعدي والعصيان والتمرد والموت والهلاك!؟ كلا! لقد دثرت كل هذا وأخفته وراء ملمس ناعم ومظهر خلاب وهمست في أذنها بكلمات مداهنة معسولة عن شجرة جميلة وثمرة حلوة وإدراك واتساع كالله في معرفة الخير والشر يقول الكتاب المقدس: «فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ» (تكوين 3: 6 و7)، «وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ. ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا» (يعقوب 1: 14 و15).

كان خطأ حواء أنها أعطت أذنها للحية ، فنظرت فاشتهت فمدت يدها وأثمت، وكان الأجدى بها أن تفزع وتهرب ... ألا ليتها في تلك الساعة قد ذكرت كلمة الله الأبدية المحذرة بالموت!! ألا ليتها وهي تقترب من الشجرة شعرت بالذنب وألم الضمير!! ألا ليتها مدت بصرها حينئذ عبر القرون، ورأت الأجيال الغارقة في الدم والدموع والعار والتعاسة والشقاء!! بل ألا ليتها رأت أرهب المناظر وأخلدها على جبين الدهر، منظر ابن الله الحزين يركع بين أشجار الزيتون وعرقه يتصبب كقطرات دم نازلة على الأرض من نتاج خطيتها!! ألا ليتها فعلت هذا!! إذن لارتدت مصعوقة عن قطف الثمرة.. لكنها لم تفعل فسقطت وعوقبت، وكان عقابها أشد من عقاب آدم لا لأنها ليست أسبق في التعدي فحسب، بل لأنها قادته إليه.

لم يكن العقاب هو المرحلة النهائية الأخيرة في قصة أمنا حواء وهيهات أن يكون، ووراءها تلك المحبة السرمدية العليا، التي سبقت فأعدت خلاصها، وخلاص بنيها قبل تأسيس العالم، في نسلها العظيم الذي يسحق رأس الحية، هذه المحبة التي طوقتها بالحنان والعطف والجود غداة السقوط فصنعت لها ولزوجها أقمصة من جلد وألبستهما لتغطي عريهما.. ولقد أدركت حواء بعد سقوطها أنها خُدعت: «الْحَيَّةُ غَرَّتْنِي» (تكوين 3: 13) ومن ثم كانت شديدة اللهفة والشوق إلى مجيء الولد المخلص الذي أخطأته فظنته قايين يوم قالت: «اقْتَنَيْتُ رَجُلاً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ» (تكوين 4: 1). ولما أنجبت هابيل دعته «البطل» ولعلك تدرك أن هذه التسمية لا تمليها ألا نفس شديدة الحساسية بالندم والحزن والتوبة والإدراك بأن: «كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ. وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ» (1يوحنا 2: 16 و17).

إن أمنا حواء صنعت لها ولزوجها أقمصة من جلد ولصنع أقمصة من جلد كان لا بد من ذبيحة أضحية لمثل هذا العمل وهذا ما يقودنا إليه الوحي بالتسلسل لنصل إلى الذبيحة الكاملة على الصليب والتي تمت من خلال موت المسيح الكفاري على الصليب لكي ما يستر خطايانا بدم صليبه.