العودة الى الصفحة السابقة
مجلة لقاء الشبيبة

مجلة لقاء الشبيبة

ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟


قال صديقي المخلص: بربك اختر لي نماذج من أوساط وطبقات وعينات مختلفة. فقلت ليكن كذلك. والرب المعين.

النموذج الأول: شاب في أوائل العقد الثالث، مشرف على خوض المرحلة الجامعية. بمعنى انه تجاوز مرحلة الثقافة العامة، والمفروض انه على اطلاع بالفلسفات القديمة والحديثة وشتى أنواع المذاهب من اقتصادية وسياسية ودينية وفنية.. الا أنه قد بدا لي من خلال حديثي معه انه غير مستقر على حال، بل حائر تائه يفكر في مستقبل مجهول..

حدثته عن الدين، فقال انه لا وقت له الآن للتفكير في ذلك لأنه بصدد بناء مستقبله، وتعبيد الطريق لهذا المستقبل، والوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك.. الى آخر ما قال. اقترحت عليه أن نتأمل - إِن سمح - ولو يسيراً في بعض آيات من الانجيل، وكان الكتاب في متناول اليد، فبدا انه موافق، الا أنه قال: لقد سبق لي أن قرأت مراراً وتكراراً آيات كثيرة من الانجيل ومن غيره ولكن لا بأس فافتح الكتاب من جديد.

انني لست استحي بإِنجيل المسيح، لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن. ﴿رومية1: 16﴾. وقرأنا من إِنجيل متى الاصحاح السادس، من الآية 19 الى آخر الفصل. ووقفنا عند الآية 33: ﴿لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره﴾. ثم طلبت منه أن يضع خطاً تحت احدى هذه الكلمات فوضع خطاً تحت كلمة: أولاً.

ترى هل اهتدى الى نقطة الانطلاق؟ وهل من متسابق غيره يبدأ معنا السباق؟

النموذج الثاني: ممن يعطون للوقت قيمة خاصة، ولا تتأتى المحادثة معهم الا في المناسبات كوجودنا في سيارة، أو على مائدة الأكل، أو في مناسبة خاصة. وإِلا فهو مشغول لأنه يشتغل محاميا،ّ والكلمات في نظره عبارة عن نقود، فهو يتكلم بقدر ما يأخذ. لكنني لم أكن أحدثه كزبون بل كصديق قديم جمعتني به الصدفة - بعد مدة طويلة - في احدى المناسبات. كان معه بعض المدعوين للحفل، وكنت من بينهم. سمعت حديثاً عن بعض القضايا الطريفة على الأسماع، لكنها محزنة بالنسبة لأصحابها الحقيقيين، فالغريق ليس كالمتفرج. وجاء دوري في الحديث، فكان السؤال عاماً هذه المرة، إِذ كنا أربعة، فقلت: سعادة المحامي هل تكرس وقتك كله لزبائنك، أم هناك وقت لله؟ قال: في الحقيقة - يبدو لي أنه أخذ يتكلم بلغة القانون: ان ذوي الحقوق كثيرون ﴿ان لنفسك عليك حقاً ولأهلك، ولزبائنك، ولربك عليك حقاً.. ولكن الله غفور رحيم﴾. فقلت أفهم من هذا انه لا وقت للرب عندك الآن. قال: سوف يأتي الوقت الذي نتوب فيه من خطايانا ونصلي ونصوم ونؤدي واجباتنا.. قلت: ومن يضمن لك أنك سوف تعيش الى أن يأتي هذا الوقت؟ أليس من الجائز أن تقبض روح أحدنا في هذه الليلة؟ ويبدو ان خطابي هذا كان قاسياً على المسكين فصمت. وأخذ أحد الثلاثة - محاولاً تغيير الحديث - يترنم بأبيات مشهورة تغنت بها سيدة الطرب العربي، السيدة أم كلثوم: لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بات العيش قبل الاوان واغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الأمان.

وفجأة ظهر رب البيت وشرع الخدم في توزيع المرطبات على موائد المدعوين، فقال أحد الثلاثة الذي لم يتكلم من قبل: هل بقي في جعبتك - والخطاب موجَّه لي - شيء لم تقله بعد؟ وما هذا الكتاب الذي تتأبطه، فهلا أمتعتنا بقراءة سطور منه؟ وكانت الفرصة ذهبية، فقلت: انه الكتاب المقدس، ربما لا يسمح الوقت بقراءة الكثير، الا اذا رغبتم فانه لا مانع من تصفحه أو قراءة ولو آيات ثلاث منه. وفتحت الكتاب على انجيل مرقس الاصحاح الثالث عشر، الآيات 35 - 37. ﴿اسهروا إذاً لأنكم لا تعلمون متى يأتي رب البيت، أمساءً أم نصف الليل، أم صياح الديك أم صباحاً؟، لئلا يأتي بغتة فيجدكم نياماً. وما أقوله لكم أقوله للجميع. اسهروا﴾.

ترى هل عرف الثلاثة معنى السهر في الآية. ومن هو رب البيت الحقيقي.

النموذج الثالث: جرفته التجارة، وكان قد أخذ قسطاً لا بأس به من التعليم العام، ومن الذين يحضرون اجتماعات الكنيسة أحياناً، يصحب معه في كل مرة صديقا أو صديقين، بحضوره اجتماعاتنا يحصل على معرفة كتابية لم تُتَح له خلال تعلمه. الا ان المعرفة وحدها غير كافية. ﴿لوقا 6: 46-49﴾.

وخلاصة أفكار هذا الصديق - فيما نحن بصدده - انه يريد أن يجمع بين الحسنين ويضرب عصفورين بحجر واحد كما يقول المثل. يجري على لسانه القول الشهير: اعمل لدنياك كانك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً. وكثيراً ما يعارضه صديقه ﴿المتدين﴾ الزاهد، بنحو: وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه أو بقوله: حُبّان لا يجتمعان. والانجيل يقول: «لا يقدر أحد أن يخدم سيدين» ﴿متى 6: 24﴾.

أيها القارئ العزيز، ان أمثال هؤلاء كثيرون، والأعذار التي يتذرعون بها واهية. «ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر الى الوراء يصلح لملكوت الله» ﴿لوقا 9: 63﴾. قال يسوع: «لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير» ﴿يوحنا 17: 15﴾.

أيها الأحباء: «اليوم ان سمعتم صوته فلا تقسُّوا قلوبكم» ﴿عبرانيين 3: 7-8﴾.