العودة الى الصفحة السابقة
مجلة لقاء الشبيبة

مجلة لقاء الشبيبة

إرادة الله وحياة الفرد


إنَّ إرادة الله، المُعبَّر عنها في الاختيار، ليست فقط إرادة عالمية المدى. إنَّها أيضاً إرادة يتناولها الفرد. ومهما عظمت أهمية خطة الله للكون ككل، يجب ألاَّ يغرب عن بالنا عظم أهمية الإنسان الفرد في خطة الله.

مضى ذلك العصر حيث كان الناس فيه يشدِّدون كثيراً على مسألة الفرد والفردية، وجاء عصرنا هذا فأصبحنا في خطر الانكفاء عن الفردية والذهاب بعيداً في الاتجاه المعاكس. إنَّ تشديد العصر الحديث على النشاط الجماعي، والحركات الجماهيرية، الإنجيل الاجتماعي، كثيراً ما يقضي على الاهتمام بالفرد. حتى أنَّ عُلماء الكتاب المقدس أصبحوا مشغولين "بعمل الفداء العظيم" ونسوا أنَّ الفداء، في الدرجة الأولى، فداء الإنسان الفرد. كان اهتمام الله دائماً، وبالدرجة الأولى، بالإنسان الفرد وبما هو لخيره مع أنَّ الإنسان كان في أغلب الأحيان يجهل هذه الحقيقة.

ليس أدلّ على هذه الحقيقة مما نراه في خدمة يسوع التي كانت موجهة لسد حاجة الإنسان الفرد. فلقد أثبتت خدمة يسوع، بقدر ما أثبت تعليمه، ما للإنسان الفرد في نظر الله من قيمة غير محدودة.

لقد كانت معجزات الشفاء تستهدف انتشال الفرد من هوَّة الشقاء والفاقة. إنَّ قصة يسوع والخدمة التي قام بها طافحة بالدليل على أنَّه لم يستطع قط التحوُّل عن سماع الاستغاثة الصادرة من قلب أي إنسان، بل كان دائماً يجيب دعوة الداعي ويسد حاجة المستغيث. وما شفاؤه المفلوج ﴿الإنجيل بحسب مرقس 2: 1-12﴾ والرجل ذا اليد اليابسة ﴿الإنجيل بحسب مرقس 3: 1-5﴾ وابنة المرأة الفينيقية - السورية ﴿الإنجيل بحسب مرقس 7: 24-30﴾ وبارتيماوس الأعمى ﴿ الإنجيل بحسب مرقس 10: 46-52﴾ وكثيرين غيرهم، إلا أمثلة تبيِّن عطفه العظيم علىالناس من رجال ونساء واهتمامه الشديد بسد حاجاتهم. وعندما انتقده البعض على مجالسته أفراداً من الذين نبذهم المجتمع في ذلك العصر، أجاب أولئك المنتقدين بالقول: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. لم آتِ لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة" ﴿الإنجيل بحسب مرقس 2: 17﴾. وعندما قابل رجلاً ورأى فيه توبة صحيحة صادقة فرح جداً وقال: "إنَّ ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلِّص ما قد هلك" ﴿الإنجيل بحسب لوقا 19: 10﴾.

ما سرّ هذا الاهتمام من جانب يسوع بالإنسان الفرد؟ لقد كان يسوع يرى أنَّه انعكاس لفكر الله. فالله هو الذي يهتم بالفرد. أجاب يسوع الذين انتقدوه على مصاحبته الخطاة والعشارين بثلاثة أمثال قالها لهم، وهي: مثل الخروف الضال، مثل الدرهم المفقود ومثل الأخوين ﴿الإنجيل بحسب لوقا 15﴾. وأبرز ما في هذه الأمثال اهتمام الأب بالأفراد الضالين والذين هم في حاجة. نرى موقف يسوع نفسه من قيمة الإنسان في إصراره على أنَّ حياة الإنسان أعظم أهمية من العالم المادي كلّه ﴿الإنجيل بحسب مرقس 8: 36﴾، وأنَّ سدّ حاجته أولى وأهمّ من سدّ حاجة الحيوانات ﴿الإنجيل بحسب متى 12: 12﴾، وأنَّ العمل لخيره ولسعادته أهمّ من المحافظة على المؤسَّسات والتقاليد الدينية ﴿الإنجيل بحسب مرقس 2: 27﴾.

عندما كان يسوع يُعلِّم كان يُشدِّد على اهتمام الله بالإنسان الفرد. نراه يقول إنَّ عبادة الله الحقة هي العبادة الروحية لأنَّ الله روح ﴿ الإنجيل بحسب يوحنا 4: 24﴾. لذلك فهي أساساً غير مقتصرة على أيّ مكان، أو تقليد أو أسلوب، أو مؤسسة، إذ هي لقاء النفس الأمينة المخلصة بالإله الحي. نجد هذا التشديد واضحاً في تعليم يسوع عن أبوَّة الله. نظر اليهود إلى الله على أنَّه أب لهم كشعب، وكانت علاقة الفرد منهم بالله عن طريق العلاقة بالشعب. كانت علاقة الفرد إذن، غير مباشرة بل علاقة عن طريق الشعب ومستمدة من العلاقة به. جاء يسوع وغيَّر هذا كله. لقد علَّم يسوع أنَّ الله أب للمؤمن. وقال بأنَّ علاقة الإنسان بالله علاقة مباشرة، وشخصية، وجوهرية. للمؤمن الفرد الحق، بوصفه ابناً لله، في أن يختار الاجتماع بالمؤمنين الآخرين والاشتراك معهم في ما يُسمَّى الكنيسة، ولكن مع ذلك يظل للمؤمن الفرد علاقته المباشرة والجوهرية بالله. كل إنسان مؤمن يعرف الله ويعبده كشخص وفرد، لا ككيان نصف شخصي في مؤسسة دينية حيث تختفي حياته الشخصية. لقد علَّم يسوع أنَّ الله الأب يعتني بأولاده عناية شخصية دقيقة، بل لقد قال: "أمَّا أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة" ﴿الإنجيل بحسب متى 10: 30﴾. إنَّ يسوع بتصريحات كهذه، إنَّما يُشدِّد على حقيقة معرفة الله وعنايته بأبسط تفاصيل حياتنا. لم تكن ليسوع النظرة العصرية المعروفة هذه الأيام والقائلة بأنَّ الله يشرف على شؤون الأمة وقضاياها الكبيرة ولكنَّه غير منشغل بشؤون الفرد. كان يسوع يعتقد أنَّه ليست للإنسان الفرد قضية، مهما كانت صغيرة وتافهة، إلاّ وتحظى باهتمام الله.

كتب ت. و. مانسون قائلاً إنَّ كل تعليم يسوع عن أبوَّة الله يمكن تلخيصه في الصلاة الربانية ﴿الإنجيل بحسب متى 6: 9-13﴾. إنَّ هذه الصلاة، التي يجتمع فيها كل ما يمكن أن نطلبه أو نرغب فيه من الآب، تعطينا فكرة صادقة عن الله الذي نؤمن به. ومن الممكن قسمة هذه الصلاة إلى مجموعتين رئيسيَّتين: مجموعة الطلبات الأولى التي هي: "ليتقدّس اسمك" و"ليأت ملكوتك" و"لتكن مشيئتك"، ويمكن أن ندعوها بالقضايا العالمية. ومجموعة الطلبات الثانية، وهي: "خبزنا كفافنا أعطنا اليوم" و"اغفر لنا ذنوبنا" و"نجِّنا من الشرير"، التي تتعلَّق بحاجات الإنسان الفرد اليومية. صحيح إنَّنا قد لا نستطيع التشديد كثيراً على تقسيم الصلاة الربانية بالشكل المذكور، لكنَّ مانسون على حق في القول بأنَّ هذه الصلاة تبيِّن اهتمام الله بالإنسان الفرد وكذلك اهتمامه بشؤون العالم. هذه هي أبوَّة الله وما تعنيه في تعاليم يسوع.

إنَّ ما سبق قوله لا يعني أنَّ يسوع ابتعد كلياً عن تعاليم العهد القديم، بل إنَّما غيَّر التشديد. فبعد أن كان الاهتمام منصرفاً إلى الأمَّة أصبح في العهد الجديد منصرفاً إلى الإنسان الفرد. كانت آراء يسوع تتَّفق تماماً مع صميم تعاليم العهد القديم. أمّا الفكرة الشائعة القائلة بأنَّ ديانة العهد القديم تتَّصف بالجماعية، وبحصر تعاملها بالشعب، فهذا ليس كل ما في الأمر، لأنَّها تقول الكثير عن علاقة الفرد بالله. كانت الشرائع اليهودية موجَّهة إلى الفرد وقد صيغت على ذلك الأساس إذ أنَّها تخاطب الفرد. مثل: "لا تقتل، لا تسرق". وكثير من تلك الشرائع تعبّر، بشكل غير مباشر، عن قيمة الفرد الرفيعة. فلا يجوز للمرء أن يكذب أو يشهد بالزور على شخص آخر. ولا أن يسرق منه أو يقتله أو يزني معه. لأنَّ لكل شخص قيمته الرفيعة وأهميته. لا يحق أن نعتبر أيَّ إنسان مجرد وسيلة، إذ أنَّ كل فرد هو في ذاته غاية. إنَّ ما فعله يسوع بصميم تعليم العهد القديم هو أنَّه جمع أشعة ذلك التعليم في بوتقةٍ دقيقة وأكد على أنَّ اهتمام الله بالإنسان الفرد اهتمام أوَّلي ورئيسي وليس اهتماماً جانبياً أو ثانوياً.

كان هذا هو التشديد السائد. ونرى ذلك واضحاً في سفر إرميا حيث أعلن هذا النبي أنَّ الله سيقيم عهداً جديداً ﴿إرميا 31: 31-34﴾. لقد اعتبر كاتب الرسالة إلى العبرانيين هذه الآيات في إرميا نبوَّة مباشرة تتكلَّم عن صميم الديانة المسيحيَّة ﴿عبرانيين 8: 8-12﴾. إنَّ المظاهر الإيجابية التي اتَّصف بها العهد الجديد هي، أولاً، الاتجاه إلى الداخل: "أجعل شريعتي في داخلهم". وثانياً الفردية: "كلهم سيعرفونني". وثالثاً الغفران: "ولا أذكر خطيَّتهم بعد". لكن لا بدَّ من الاعتراف بأنَّ اليهود أخطأوا في تفسير تعليم الله على نحوٍ جعل الفرد غير ذي أهمية، مع أنَّ هذا لم يكن قط إرادة الله.

إنَّنا نرى صدق هذا القول، لا في تعاليم يسوع وحسب، بل أيضاً في اهتمام المجتمع المسيحي بالإنسان الفرد. لقد أظهر هذا الموقف جميع كُتَّاب أسفار العهد الجديد. كان اهتمام بولس الأول بخلاص الإنسان الفرد ﴿رومية 10: 8-13﴾. وشدَّد يوحنا على الاختبارات المتعلقة بحياة الفرد، مثل الإيمان، والولادة الثانية، ومحبة الإنسان لأخيه، وغير ذلك من الاختبارات. إنَّ جميع هذه بطبيعتها اختبارات فردية وشخصية. ونجد يعقوب يشدِّد على هذه الحقيقة ذاتها عندما يوصي بأن يُعامل الفقير بالاحترام ذاته الذي يُعامل به الغني في اجتماعات المسيحيين ﴿يعقوب 2: 1-8﴾.

إنَّ كل تحرك إرادة الله في الفداء يظل بلا معنى أو جدوى ما لم يؤدّ، آخر الأمر، إلى خلاص الإنسان الفرد. وهكذا يمكن أن نقول بثقة إنَّ هذا الخلاص كان منذ البداية موضوع اهتمام الله الرئيسي.