العودة الى الصفحة السابقة
مجلة لقاء الشبيبة

مجلة لقاء الشبيبة

التواصل بين الأمل والمشروعية والواقع


من المتعارف عليه عموما في علم الاجتماع المعاصر، أن "المحيط" يلعب الدور الرئيسي في مسألة اعتناق فرد لعقيدة ما أو عدم اعتناقه لها. فكيف يمكن لشخص يعيش في مجتمع بدائي مغلق معزول عن العلوم والثقافة مثلا، أن يصبح ماركسيا أو وجوديا أو داروينيا؟ وهل نتوقع من صقلي من إحدى القرى الكاثوليكية المغرقة في ابتعادها، أن يكون بوذيا؟ هناك دون شك حالات نادرة شادة، لكن لابد أن "محيطا" ترك تأثيره في المسألة. إذن; لماذا يدافع الإنسان عن وضعية لم يكن له الخيار فيها أصلا؟ كيف يمكن أن نفهم أن ما هو حقيقة مقدسة هنا قد تكون أقرب الى النكتة هناك؟ هل الذات أولا أم الموضوع أولا؟ هل الإنسان لخدمة الفكرة أم العكس؟ وإذا كان الإنسان يحقق في الفكرة بعض وجوده; فهل للفكرة أن تتواجد أبدا دون الإنسان؟

فالذي يعيش وسط تيارات فكرية منفتحة على بعضها حضاريا، لا يمكن أن يكون متطرفا عقائديا إلا إذا كان يعاني من خلل ذهني أصلا، لأن العزلة الثقافية هي العنصر الأساسي في نشوء التطرف وبالتالي التخلف، لأن حالة الانغلاق ستؤدي حتما الى نوع من التحلل الداخلي الذي لا بد أن ينتهي بانهيار صاخب.

اعتقادات بني الإنسان متباينة، وما من شخص إلا ويعتقد أن اعتقاده هو الأصح وأن اعتقادات الآخرين غير صحيحة أو خاطئة - وهذا أمر "طبيعي" وإلا كيف يمكن لمن يعتقد أن اعتقاده خاطئ أن يستمر في هذا الاعتقاد؟ لكن "غير الطبيعي" هنا هو أن ينظر أصحاب أحد الاعتقادات الى عقائد الآخرين من خارجها، وأن يفهموها بمنظورهم هم وليس بمنظور أصحابها. فهذا لن يؤدي أبدا الى أية إمكانية تواصل بين أصحاب العقائد المختلقة، لأن الاختلاف في المنطلقات وزوايا النظر واتجاهاته سيحجب أدنى احتمالية للتقاطع المعرفي.

إن أشهر أنواع القطيعة المعرفية التي تضرب أطنابها هذه الأيام، هي تلك الموجودة بين اللادينيين والمؤمنين من أتباع الأديان "السماوية". فالمؤمنون، من جهة، يعتبرون أديانهم وتوابعها من مصدر واحد، لذا فمن الطبيعي عندهم أن لا تختلف تلك الأديان فيما بينها إلا بمقدار ما يختلف زمن كل دين وظروفه عن ومن الدين الآخر وظروفه. ولكن هؤلاء يعانون عموما من حالة انحباس معرفي داخل جدران الذات، تجعلهم محصنين ذهنيا ضد أية محاولة عقلانية لمقارنة اعتقاداتهم ورموزهم المقدسة. ولهذا نجدهم يطلبون من غيرهم الاعتراف بشرعية معتقدات لهم لا يملكون عليها دليلا سوى اعتقادهم ذاته.

اللادينيون من ناحية أخرى، لا خيار لديهم سوى اعتبار أن كل العقائد الدينية ترتكز على أكاذيب أو خرافات أو أوهام، ويتناسون بالتالي الحقيقة البيولوجية الهامة من أن النفس البشرية مفطورة على التعلق بشكل للغيب. اللادينيون يرون عموما أن لا جديد في الدين: فأقدم الأديان أخذ من ميثولوجيات الشعوب القديمة، ثم أورثها للذين جاءوا بعده -التطوير تفرضه الظروف التاريخية- الجغرافية المستجدة. لكن هذا الموقف لا يقل انغلاقا عن موقف الدينيين، بل هو أسوأ وأكثر جدارة بالرفض، لأنه يصدر أصلا عن أناس يعتبرون أنفسهم عقلانيين وحضاريين مثقفين. وشطب عقيدة المتدين باعتبارها خرافة، لا يعني شطب المتدين ذاته، الذي كثيرا ما تجده يعيش بجانب اللاديني جغرافيا، ويضطران بالتالي لفعل التواصل المستمر. وبرأينا، أن صاحبي توجهين عقائديين متباينين، إذا كانا متقاربين جغرافيا، قد يكونان أقرب إلى بعضهما من آخرين متقاربين في العقيدة، إذا كانا متباعدين جغرافيا.

لكل إنسان نوع من الغيبيات -حتى وإن كان ملحدا- وطالما يوجد مستقبل مجهول، سيظل هنالك اعتقاد بالغيب، والتواصل، برأينا، هو الحل الأمثل لأصحاب الاتجاهات الغيبية المختلفة،إذا ما أرادوا تقدما معرفيا، أو على الأقل; تعايشا حضاريا.

كما أشرنا مرارا، للتعددية أهمية بالغة، إذا ما أحسن توجيهها عبر التواصل، في دفع مسيرتنا الحضارية من خلال التلاقح بين مختلف الآراء والأفكار، وحماية الوطن من التطرف عبر كسر أحادية التفكير. لكن هذه التعددية، إذا ما حرفت عن مسارها بشكل أو بآخر، لغاية أو لأخرى، قد تؤدي الى نتائج سيئة للغاية; تتحول التعددية من غنى فكري ثقافي ضمن الشعب الواحد الى انعزالية لمجموعة طوائف متنابذة متحاربة لا يجتمع بينها سوى العدائية المفرطة للآخر، فينتشر التطرف في أسوأ أشكاله ويصبح التواصل الفعل المستحيل. وهو ما حصل في لبنان السبعينات والثمانينات، وما يهدد بحدوثه في أي وطن تعددي غير محصن.

من أين تأتي الحصانة؟

هل يمكن للسيف أن يضمن حالة تعايش غير ممكنة؟؟

هل يمكن للسيف، وليس العقل، أن يفرض شكل تواصل غير نابع عن حالة وعي شمولي؟؟

لا!!

إن حالات التعايش الهشة، تنكسر بسهولة إذا ما تغيرت الظروف. وأشكال التواصل المزيفة، لا تستطيع تحدي المتغيرات الجذرية.

تلاقح التعددية لا يتم إلا تحت ظلال العقلانية. والعقلانية لا تأتي إلا من المنظورات الشاملة المتعددة الجوانب. التواصل ليس فعلا اعتباطيا عاطفيا يزول بزوال دوافعه; هذه حالة شعورية آنية.

التواصل أولا وأخيرا هو فعل عقل، يختصر ذاته في الرغبة بالامتداد إلى الآخر المخالف في الرأي لإغناء التجربة الذاتية وتجربة هذا الآخر.

يقال في أوروبا الآن، أنّ هذه القارة محصنة ثقافيا عموما ضد أشكال التطرف الديني. بغض النظر عن دور الاستعمار الأوروبي للشعوب الاخرى وامتصاص خيراتها في تمكين الباحثين الأوروبيين في التفرغ بالكامل لبحوثهم الثقافية التي أدت الى ذلك التحصين ﴿-لن ننسى طبعا حرية الكلمة-﴾، فإن لبعض العلوم الدينية الدور الأبرز في تلك القضية. وعلى رأس هذه العلوم يأتي علم الدين المقارن. وعليه نصب جل الاهتمام:

  1. إن المقارنة الدينية، بين الأسفار المقدسة للأديان الثلاثة، تثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن الآخر الذي نختلف معه عقائديا وربما نعاديه، قد يتفق معنا في معظم عقيدته، وهذا يخفف كثيرا من الاحتقان العدائي أو الرفضي.

  2. إن علم الدين المقارن يكشف بجلاء أن معظم العقائد الدينية وأسفارها المقدسة أو شبه مقدسة، المنتشرة في كافة أرجاء العالم حاليا ﴿-عدا مناطق نادرة كشرق آسيا-﴾، خرجت من الشرق الأوسط ﴿سورية بشكل أو بآخر﴾.

  3. إن علم الدين المقارن، برأينا، هو أهم فرع في العلوم الدينية في الدول المتقدمة، فما هو واقعه في كلياتنا ومعاهدنا؟؟ دون أدنى جهد، سيكتشف كل من يتعرف على مناهج الكليات التي تدرس العلوم الدينية عندنا هذه الأيام، أنها لا تعرف شيئا -أي شيء- عن علم كهذا. ولو سألنا مثلا، المختصين بتدريس العلوم الدينية عن "المدراش"، لما وجدنا إجابة شافية -والمدراش هو أهم مصدر تعلّم الدين المقارن اليهودي الإسلامي-. بالمقابل، فإن استقصاء آراء المستشرقين حول التراث الإسلامي سيظهر بوضوح أنهم لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة دون بحث أو تمحيص.

  4. إن هذا الوضع الراكد -ونحن نتراجع ركوديا- لم يعد مقبولا بأي شكل، خاصة في هذا العالم الذي ينساق للوصول إلى أقصى ما يمكن للعقل أن يبدع. والاعتقاد بأن العقل يناقض الإيمان، أو أن كتابا يمكن أن يحطم عقيدة: اعتقاد لا مبرر له. فرغم كل علوم الدين المقارن التي بحثت في أصول اليهودية والمسيحية، ما يزال هنالك يهود مؤمنون ومسيحيون مؤمنون.

  5. إن إخضاع الدين للتفكير العلمي يعني إدخال العلم في بؤرة كياننا، وهكذا يمكن لهذا العلم الانتشار إلى الكيان كله. وعلم الدين المقارن، كعلم موضوعي، هو أولى خطوات عقلنة التدين.

خلاصة وهدف:

من تجاربنا العلمية على أرض الواقع، نحن نعتقد أن لا فروق "ذكائية" البتة بين مواطننا ومواطن أكثر الدول تقدما -كاليابان وألمانيا-. إذن: ما سبب الركود العقلي الذي نعيشه والذي يصور في الخارج وكأنه قدرنا؟؟ السبب هو: آلية التفكير. فالمواطن في الدول المتقدمة يربّى على آلية تفكير بحيث توضع أمامه احتمالات عديدة، ويترك لعقله، عبر فعل "التفكير" اختيار ما يراه الأصلح والبرهنة على صحة اختياره. وهكذا يحلق العقل باستمرار نحو احتماليات جديدة وأفكار جديدة. وحين يخلق "مواطننا" في جو يفرض عليه احتمالية واحدة، وبالتالي أسلوب تفكير واحد، وذلك بدءا بتحية الصباح وانتهاء بمفهوم خلق الكون. وتقليديا، كان "التفكير" السلاح الأمضى لمنع أي أسلوب "تفكير" جديد. وحتى نستطيع أن نخطو خطوة بسيطة نحو أسلوب الاحتماليات المتعددة.

ونلخص مداخلتنا في النقط التالية:

  1. نحن نعتقد أن لكلية الشريعة دورا هاما جدا في تنشئة أجيال سيصبحون في المستقبل من القادة الفعليين للمجتمع. لكذلك لا بد أن يكون هؤلاء مشبعين بالروح العلمية حتى يشبع المجتمع فعلا بالروح العلمية. فإلى أي مدى يبدو علم مقارنة الدين علميا في تناوله للموضوع في كلية الشريعة؟؟ هذا إذا كان هنالك علم مقارنة دين فعلي في تلك الكلية.

  2. حين يتساءل المرء: ما سر هذا التقاطع الدقيق بين القصص الديني في القرآن والتراث اليهودي أو النصراني ﴿النصراني هو غير المسيحي﴾، يقال أنّ السبب هو كون المصادر كلها من الله. ورغم أن البحوث النقدية الكتابية تقدمت جدا في نقدها للنصوص المقدسة وإظهار مصادره أو معقولية حوادثه، فإن بعضهم يرى أن التقاطع بين القصص الديني في القرآن والتلمود أو المدراش أكبر منه بين القرآن والكتاب المقدس، فكيف يمكن للباحث المسلم أن يفسر التقاطع خارج الكتاب المقدس مع العلم أن قلة نادرة جدا من اليهود ما تزال تعتبر التلمود كتابا مقدسا، كما أن بحوث النقدية التلمودية تقدمت جدا أيضا في شرح أصول هذا التلمود و شخصية كاتبيه و زمن و مكان كتابته، مما لا يدع مجالا للشك أن لا علاقة به: بغض النظر عن المدراش الذي لا يقول أحد بألوهية مصادره؟

  3. التفسير اللاديني للكتب المقدسة يجنح دائما إلى تصنيفها في خانة الميثولوجيا و ربما الخرافة. لكن هذا التفسير، رغم تداوله كثيرا بين معظم طبقة "الأنتلجنسيا"، لا يزال يفتقد القاعدة الشعبية الواسعة. فكيف يستطيع الشّخص اللاديني أن يفسر تخلي القاعدة الشعبية عن طروحاته التي يقول إنّها علمية أو عقلية وتمسكها بعنف بما يعتقد أنه ميثولوحيا أو خرافة؟

  4. علم مقارنة الأديان يحمل في طياته تقاطعا جليا مع علم نقد النص أو علم فهم النص؟ و يبدو ذلك بشكله الأوضح عندما تقوم مقارنة الأديان على أساس دراسة ومقارنة النصوص الدينية الأخرى أو النصوص التي لها أثرها في القاعدة الاجتماعية و الفكرية التي تحرك الشرائح الاجتماعية. ما هي الرابطة الداعمة من علم النص لعلم الأديان؟