العودة الى الصفحة السابقة
مجلة لقاء الشبيبة

مجلة لقاء الشبيبة

قرأت لك


كما في الماضي كذلك في الحاضر والمستقبل، يبقى البحث عن الله سؤالاً يساور أذهان البشر إن لم يكن قد أصبح جزءاً لا يتجزأ من اختبارات الإنسان في التفاعل مع الطبيعة لإزالة الشك والغموض اللذين يقبضان على ذهن الإنسان بعلاقته مع الخالق. والدكتور لبيب مشرقي في كتابه «الباحث عن الله» الذي صدر ربيع 1984، فطر لنا فيه عصارة الفكر المسيحي الذي عاشه شخصياً قولاً وعملاً، راوياً علينا قصة سائح جال ملتمساً العون في بحثه عن الله.

ولما كان الكاتب مصرياً، والحضارة المصرية من أعرق الحضارات الغابرة التي عرفها التاريخ، استهل حديثه بطرح الفكر الفلسفي المصري على بساط البحث. أما الحوار فكان يجري بين سائح استيقظ من سبات عميق، وبين الفلاسفة وأولى العلم والمعرفة.

حط السائح رحاله في مصر وأخذ يؤم المعابد التي شيدها الفراعنة لآلهة راقبوا قوتها من خلال الظواهر الطبيعية، التي في كثير من الأحيان أرعبتهم وأدخلت الذعر في قلوبهم. بيد أن أعلام الفلسفة عجزوا عن إقناع السائح بكمال منطقتهم وأماني مسلكهم خصوصاً بما يتعلق بالاستفهام عن الحياة بعد الموت والتقوى والصلاح وغير ذلك.

أما السائح فلم يكل ولم يعرف عن البحث للوصول إلى قناعة تامة. فالقتى بآلهة مستوردة من بلاد ما بين النهرين التي عبرت عن التشاؤم وفقدان الأمل والرجاء، والتي كانت تصور ماهية العلاقة القاتمة السواد بين الناس والآلهة. بالطبع هذا أربك السائح وحدا به للمضي قدماً في البحث عن البديل الأفضل. فاستأنف مسيرته بين الفلسفات المستوردة محاولاً الوصول إلى اليقين المطلق، عن طريق لقياه بجماعات الرواقيين والأبيقوريين وغيرهم.

لم تلق أفكار الأبيوقوريين أي صدى في نفس السائح ولا أحبها، لأنه لم يجد فيها ما يروي ظمأه، ذلك التواق إلى إرساء سفينة حياته على شاطئ أمين مأمون من كل الأخطار التي كان الأبيقوريون يسبحون في فلكها. فقد غرقوا في اللهو وإشباع الشهوات، داعين إلى: «الماء والخضراء والوجه الحسن»، ضاربين عرض الحائط بكل القيم والمبادئ الأخلاقية، إذ أن «اليوم خمر وغداً أمر». فإن جهلت المستقبل تجاهله ولا توله اهتماماً. وإذ بدا الأمر كذلك للسائح، نهض طالباً الأفضل في مكان آخر، حاطاً رحاله أمام مقر الفلاسفة الرواقيين.

دخل السائح مقرهم وعلامات الاستفهام بادية على محياه. سمعهم يتجاذبون أطراف الحديث بين أخذ ورد، إلى أن نهض أحد الشيوخ المسنين من بين الجماعة وحدد لهم نهجهم الفلسفي بقوله: «علينا أن نُري الناس كيفية ضبط النفس، وعدم التواني في أداء الواجبات الإنسانية والامتناع عن الانجذاب وراء المتع والملذات، ثم احتمال الضعفاء وقبول كل من شاء الالتحاق بنا، راضين بالجميع ومتغافلين عن هفواتهم، ساعين إلى تثبيت مبدإ التعايش مع الجميع». حتى هذا لم يكن كافياً بإقناع السائح، بل خرج من المقر مصمماً على الرحيل طالباً وجه إله يستطيع التعامل معه ويلبي احتياجاته على اختلاف أنواعها.

فرحل من مصر عبر سيناء ليلتقي بشعب آخر ادعى انه يعبد إلهاً ذا علاقة به.

أخذ يراقب عن كثب ويسأل ويتساءل عن ذلك الدين الفريد الذي لاقاه لأول مرة. أبدى اهتماماً ملحوظاً بممارستهم للشعائر الدينية، وأصغى لما كان الشيوخ يقصونه على الشعب ويعلمونهم من مبادئ ويحثون الشعب على إطاعة إله واحد أحد خالق الكون بأسره، هو صنعه وما فيه، إنما هو عمل يديه. هذا الإله أظهر ذاته الصمدانية للشعب واصطفاهم أمة مقدسة لإظهار ذاته للأمم. فقد ظهر لأحد زعمائهم باسم «يهوه»، الذي يعني الإله الذي كان والكائن الذي يكون. وقد أكد لموسى النبي أنه إله الشعب المستعبد في مصر وأنه سيخرجه بذراع ويقتاده إلى أرض تفيض لبناً وعسلاً.

وأكد لموسى أنه بعجائب وخوارق يعجز البشر عن تفسيرها سيقتاد الشعب إلى أرض الميعاد. وبالفعل لقد شهد الشعب عن كل ما جرى لهم، وأروا السائح كل ما أمرهم ذلك الإله بفعله عن طريق كليمه موسى.

بعدئذ اقتادوه إلى أرض الميعاد عبر الأردن وأروه المدينة العظيمة التي نصبوا لهم فيها ملكاً يقودهم بحكمة إلهية كما أن تلك المدينة أصبحت مركزاً مقدساً، إذ شيدوا فيها هيكلاً عظيماً للعبادة. وبالطبع أمها المصلون والقانتون اليهود من كل البلاد ليؤدوا شعائرهم الدينية، إلا أن عصيانهم كان السبب في إرسال الله الأنبياء لإنذارهم وردعهم ليعودوا عن غيهم وضلالهم.

أما السائح فأخذ يعيد النظر فيما إذا كان على استعداد لاعتناق دينهم، متسائلاً عما إذا كان بمقدوره إرضاء ذلك الإله الغضوب على أخطاء الشعب، إذ أنه إله كلي القداسة، وقد طلب من الشعب منتهى الطهارة والعفة. وهذا الأمر ضرب من المحال عند الناس.

أما المخلصون الذين طلبوا الله ولكنهم عجزوا عن تحقيق قصده في حياتهم عن طريق السعي للوصول إليه فقد انتظروا يوم خلاص منه. فقد قرأوا العديد من الوعود التي جعلتهم ينتظرون بفارع الصبر ذلك اليوم العظيم حيث يأتيهم الصفح والغفران بصورة مباشرة ودون تكلف. «حقاً يوم الفرح قريب»، هكذا قال الكثيرون، مما جعل السائح ينتظر مع المنتظرين.

ومن بين الذين انتظروا باشتياق، شيخ ورع، روى على السائح قصة لقياه بفتى عجيب، قال عنه أنه سيكون المخلص لذاك الشعب، وأنه قد ولد في مكان قريب من المدينة الملكية. ثم طلب السائح مشاهدة الصبي فقيل له أنه ذهب إلى مصر فلحق به. ولما لم يدركه عاد تواً بعد عناء شديد ساعياً من مكان إلى آخر محاولاً التعرف على ذلك الشخص الفريد الذي كان يسمع عنه من الكثيرين: كرئيس المجمع اليهودي الذي شحنه بشوق زائد لمعاينة ذاك الشخص الفريد. ناهيك عما قال فيه المعمدان، وما شهدت به امرأة سامرية عليه، والفرح الذي كان يرتسم على ثغرها لأنه حررها من عبودية الخطية. وهاك مولود أعمى شفاه وفتح عينيه. ومجنون أعاد إليه رشده بعد أن عجز الناس عن معالجته. ورئيس جند يسجد أمام عظمته ويتوسل إليه للتدخل في شفاء ابنته. أما إعجاب السائح فقد أخذ بالأزدياد خصوصاً بعد لقائه بالعشارين والذين كانوا يحاربونه، كيف جميع أولئك تغيروا. وهاك عصابة تفرقت بعد أن سمعت عنه والتقت به.

هذا قليل من كثير مما سمعه السائح قبل الحدث العظيم الذي هز كيانه، ألا وهو لقياه بالسيد ذاته بعد «قيامته من بين الأموات». هناك رأى بأم العين صعوده وكيف بارك جميع الذين وقفوا يعاينونه وهو يتحدث إليهم. مبنئاً إياهم بما سيحدث وما سيكون لهم في العالم. ثم وجه حديثه إلى تلاميذه فرداً فرداً على مسمع السائح، كيف أكد على ثبات إيمانهم ووعده لهم بإرسال معز يعلمهم ويرشدهم ويكشف لهم ع ما خفي عليهم مما كتب في الناموس والأنبياء. وهنا يروي السائح عما اختبره بعد صعود المسيح بقليل، كيف أنهم حصدوا ثمر ت عب إيمانهم طيلة اصطحابهم المعلم، وكيف أن الروح الذي وعدهم به انسكب عليهم وحولهم إلى أدوات حية فاعلة بمواهب مختلفة، جعلتهم يندفعون من محفلهم السري إلى الخارج ليعلنوا عن إيمانهم وعن جميع الاختبارات التي واكبت حياتهم الجديدة، خصوصاً أنهم كسبوا شجاعة خولتهم تحدي أولئك الذين صلبوه، وأرهبوا الذين تبعوه.

ثم تهيأ السائح لينطلق مزوداً بالنصائح والإرشادات التي تلقاها من الذين عايشوا المعلم عائداً إلى مصر مسقط رأسه.

وهنا تبدأ الحياة العملية والصعاب التي وصفها الكاتب، كطبيعة: فيها السهول والهضاب والأودية والجبال، وهي كبحر بين جزر ومد، فيها يحصل الإنسان على الدفق بحسب اتصاله بالمعلم الذي وعد أنه سيكون بروحه مع أتباعه إلى انقضاء الدهر.

إلا أن حياة الاتباع بما فيها من مشقات يمكن السير فيها بواسطة جهاز إرسال يوصل المرء بسيده. ناهيك عن محطات الشحن أي الكنائس التي فيها يستمد الإنسان قوة للاستمرار. حيث يسجد المتعبدون للرب وحيث يمثلون في محضره ليعطي كل واحد حاجته، وليقيهم شر السقوط والتيهان والحيدان عن الهدف المرجو. ويصور الكاتب الحياة المسيحية العملية بواقعية كطريق فيها التجارب المتنوعة، معطياً الأساليب والوسائل الناجعة لمعالجة المشاكل التي تعترض السبيل وتمنع الوصول إلى نهاية المطاف.

هذا ويحذر الكاتب في سياق الحديث من الأخذ بالشائعات والمغريات والأضاليل التي ينسج خيوطها إبليس الخنيس ليوقع المؤمن في شراكه بأية وسيلة ممكنة.

ولو شئنا الإيجاز لقلنا أن الطريق ضيق وشائك الذي يؤدي إلى الملكوت، وقليلون هم الذين يثبتون حتى المنتهى.