العودة الى الصفحة السابقة
مجلة لقاء الشبيبة

مجلة لقاء الشبيبة

انجذاب ترتوليانوس للحق


كانت مدينة قرطاجة من المدن المهمة في شمال أفريقيا ﴿المغرب الكبير﴾، إذ كانت تعد من منافسي عاصمة الكون روما آنذاك، من حيث التقدم الفكري والازدهار الحضاري والعمراني، وفي ميدان الصناعة والتجارة. كما أن الطابع التجاري كان غالباً عليها، وطبقة التجار والأثرياء الأرستقراطيين الحاكمون، والذين كانت لهم اليد الطولى على المدينة بأكملها. كان الترف والبذخ والغنى والرفاهية بادياً عليها، فيها العديد من الملاعب التي تعرض على ساحتها ما تشمئز منه النفس العفيفة الساعية وراء الطهر، ودور الملاهي والأندية للرذيلة والمجون والجنوح عن العفة.

كما أن هذه المدينة الكبيرة كانت تعد العاصمة الفكرية لمنطقة شمال أفريقيا، حيث كان طلاب العلم يتوافدون عليها من كل صوب لطلب العلم والمزيد من المعرفة، لأن التعليم العالي كان متوفراً فيها، من فلسفة ومنطق ومحاماة وعلوم البيان والأدب.

في قلب هذه المدينة العظيمة الضخمة ولد «كونتوس سبتميوس فلورنس ترتوليانوس» ﴿Quintus Septimius Florens Tertulianus﴾ ما بين سنة 155 و160 في وسط عائلة تتخبط في وثنية صرفة، ومجتمع سادت الخطية والإثم عليه. كان والده قائد مئة في الجيش الروماني، وقد عني الوالد بتعليم ابنه منذ نعومة أظافره. فتعلم اللاتينية وهي لغة الأشراف والطبقة الحاكمة والمتعلمة. كذلك تعلم اللغة اليونانية، لغة الفكر والعلم، وقد ظفر بعلوم عصره من فلسفة ومنطق وعلوم الخطابة والبيان، وتعمق في علوم الشريعة والقانون إلى أن أصبح من ذوي الرأي فيها، ثم امتهن المحاماة ومارسها في روما.

عايش ترتوليانوس الاضطهادات المريرة التي نزلت بالمسيحيين الأتقياء من قبل الوثنيين. مثل اضطهاد مرقس أوريليوس ﴿161-180﴾ Marcus Aurelius كان هذا يعتبر الاحتفاظ بالديانة الوثنية الرسمية كضرورة سياسية، فشجع على اضطهاد المسيحيين. ويعتبر هذا الاضطهاد الأشد ضراوة منذ زمن نيرون، إذ قطعت فيه رؤوس الكثير من الأبرياء، وطرح الألوف للوحوش المفترسة والضواري. وعايش ترتوليانوس كذلك الاضطهاد الذي شنه سبتميوس سفيروس ﴿193-211 م﴾ Septimius Severus. وكان هذا الاضطهاد شديداً وعنيفاً للغاية، إلا أنه لم يكن عاماً. وقد استشهد فيه العديدون في سبيل إيمانهم وتمسكهم بالمسيح الحي.

وبين سنة ﴿190-195 م﴾ قبل ترتوليانوس الإيمان بالمسيح، اثناء وجوده بروما. إلا أنه لم يذكر لنا بوضوح سبب اهتدائه للدين المسيحي. ومن المرجح أن الدافع الأساسي لإيمانه الجديد هو بطولة المسيحيين في تعلقهم بدينهم المسيحي رغم ضراوة الاضطهاد عليهم. من إهانة وتعذيب، وزجهم في عتمة السجون الكئيبة، وسفك دمائهم في ساحات ملاعب المبارزة أو طرحهم للوحوش الجائعة الكاسرة على مشهد من آلاف المتفرجين الوثنيين الذين كانوا يتلذذون بمشاهدة تعذيب المسيحيين، والتمتع برؤية الحيوانات والضواري وهي تفترس الواحد تلو الآخر. وبدون شك، أن هذه المناظرة التي تعيف النفس منها ويضطرب الضمير الحي أمامها، دفعت بترتوليانوس للبحث في حقيقة أمر هؤلاء المساكين، والأسباب التي جعلتهم يقبلون العذابات والظلم والجور ثم الموت بأشنع الطرق والوسائل في سبيل معتقدهم الديني المسيحي، غير خائفين ممن يقتل الجسد، بل فقط من ذاك الذي دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب. فاستحق وحده السجود والإجلال والإكرام والطاعة الكاملة منهم له. فاعتبروا الموت مجرد مدخل إلى الأمجاد الأبدية التي تنتظر كل مؤمن بالمسيح. والاستشهاد في سبيل المسيح كان فخراً لهم. لم يوجد أي كتاب له أتباع وتأثير على الناس كحياة هؤلاء المسيحيين الذين تجسم الإيمان في حياتهم العملية وبسالتهم في طاعة كلمة الله، إلى أن أصبح الإيمان لا يقرأ في حروف بل في أفعال أولاد الله.

وكان استشهاد هؤلاء المؤمنين كافياً لإقناع ترتوليانوس بصدق معتقدهم، ومدعاة للافتتان به ثم التمسك به، وأكثر من هذا كله: الدفاع عنه بكل جوارحه.

وقبل عودته إلى وطنه زار اليونان وربما آسيا الصغرى. وحوالي سنة 197 م دخل مسقط رأسه قرطاجة، ثم تزوج. إلا أن زواجه هذا لم يدم طويلاً، إذ توفيت زوجته في وقت مبكر من قرانهما. فبقي ترتوليانوس بدون زواج. وقد عارض بشدة الزواج ثانية، كما أنه شدد على نقاوة المسيحية، ومحاربة كل ما كان له صلة من قريب أو بعيد بالوثنية من تردد على الملاعب والأندية التي تقام فيها الحفلات الوثنية لأنها تتنافى مع الأخلاق المسيحية. كذلك المهن التي لها علاقة بالوثنية من رسم ونحت وفلك وسحر وحرض على العفة وعدم إسراف النساء في الزينة والتزين لأنه اعتبرها من أصل شيطاني. كما كرس حياته للدفاع عن المسيحية والرد على الوثنين. ويقال أ نه رسم قسيساً، إلا أن بعض النقاد يشكون في هذا الرأي بدليل أنه لم يترك لنا كتابات تفسيرية. ومن المؤكد أنه طلب القيام بمهمة تعليم المهتدين من الوثنيين، وكذلك الذين يستعدون للعماد، فكان يلقنهم مبادئ الإيمان.

وحوالي سنى 207 خرج عن الكنيسة الكاثوليكية، ومال إلى التعاليم المونتانية، والتي اعتبرتها الكنيسة الكاثوليكية بدعة وهرطقة وجب تجنبها والابتعاد عنها.

ونجد أول منبت لتاريخ هذه الحركة في آسيا الصغرى. قد بدأت حسب ما يعتقد حوالي العالم 60 م في قرية تدعى ﴿أردباو Ardabau﴾ في مقاطعة فريجية. وتنتسب هذه البدعة إلى راهب يدعى مونتانوس Montanous وتتمحور الدعوة هذه في النقاط التالية:

  1. ادعى مونتانوس أن ملء الروح القدس قد حل عليه، وبهذا فهو قد حصل على الإعلان الكامل الذي ما بعده إعلان.

  2. أعلن مونتانوس أن اقتراب نهاية العالم وشيك وعلى الأبواب.

  3. أصدر مونتانوس نداء إلى كل المؤمنين لانتظار مجيء المسيح ثانية، وطلب منهم التخلي عن العالم بكل ما فيه من مغريات والتجمع في قرية ببوزا Pepuza في مقاطعة فريجية.

  4. شجع على حياة التقشف الخشنة وممارسة الصوم، كما شدد على تطبيق الناموس، ثم منع الزواج ثانية.

  5. شدد عن عدم الهروب أثناء الاضطهاد أو الاستشهاد.

هذا وقد أسس ترتوليانوس بينهم مذهبا جديدا عرف بالمذهب الترتولياني. وقد تميّز هذا المذهب بالشدة والتقشف في الحياة.

جند ترتوليانوس نفسه للدفاع عن المسيحية بكل ما أوتي من قوة. وقد سخر الله مواهبه الخطابية. وهو الخطيب الفصيح الحصيف القوي الحجة، والمدافع البارع الأريب، والقانوني اللبيب، والرجل الصلب الفولاذي الذي لا تنثني عزيمته أمام طلب الحق، فوقف كل هذه المواهب في وجه أعداء المسيحية من وثنيين ويهود. فكان إذا هاجم أحداً في كتاباته لم يكن يعرف للرحمة والشفقة سبيلاً. فبقدر المحبة عنده كان يهاجم كذلك. كان يتحدث عن المسيحية علانية في الأسواق ووسط الساحات العمومية، دون خوف أو جزع، مما كان يعرض حياته دوماً لخطر الموت. كان رجلاً محارباً صلباً، وصلداً، لا يعرف الرعب أو الجزع أو الوهن، لان المسيح قوته وعونه وافتخاره وكيف لا... وهو الذي قال: «ابن الله قد صلب. وأنا لا أستحي من ذلك. مع أن هذا مدعاة للخجل. ابن الله قد مات. هذا جدير بالتصديق، لأنه مناف للعقل. ابن الله قد دفن ثم أقيم من بين الأموات. وهذا حق ويقين، لأنه أمر مستحيل». فالمسيحية حقاً تجتمع فيها كل الأضداد والتناقضات ومثلما قال الأب ميشيل الحايك في إحدى محاضراته: «لو بقي الله غيباً بعيداً في سمائه البعيدة لسهل على العقل الإيمان بوجوده ككائن منزه عن نقائصنا، ولكن أن يكون الله ظهر في الجسد إنساناً، فهذا هو العجب العجاب الذي لا تدركه العقول، أن يكون وصل الله إلى هذا الحد اللامعقول من الاتضاع». نعم كان ترتوليانوس يرى في المسيحية سمواً على العقل ولس العقل فوق الإيمان. وإلا لكان إيماننا شبيهاً بعقيدة فلسفية تضمحل مع مرور الزمن.

ولهذا السبب ولغيره من الأسباب، وقف ترتوليانوس في وجه بدعة الغنوسيين ﴿العارفين بالله﴾ الذين أنكروا أن للمسيح جسداً حقيقياً، ثم قام مشدخاً وماحقاً أركان الوثنية من أساساتها في كتاباته، وداكاً ثلمات أسوار اليهودية المتمسكة بشريعة الخوف. ومحرضاً المسيحيين على التمسك بإيمانهم القويم والسير قدماً نحو سمو الحياة، مشدداً على الأخلاق والانضباط المسيحي في الحياة والسلوك. نعم لقد كان ترتوليانوس شعلة من الغيرة على كنيسة المسيح. فكتب العديد من الأبحاث اللاهوتية، والتي لم يبق منها سوى واحد وثلاثين بحثاً. فهو أول من صاغ المفاهيم اللاهوتية، ووضع مصطلحات جديدة في اللغة اللاتينية، مثل العبارة: جوهر الله وأقنوم.

وقد انتقل إلى جوار ربه وهو في مسقط رأسه قرطاجة عام 220 أو ما بعدها، تاركاً وراءه ثروة لا تقدر بثمن للأجيال اللاحقة. كما أنه يعد من آباء الكنيسة العظام لولا انضمامه إلى بدعة المونتانية وبالرغم من ذلك قبلت الكنيسة الكاثوليكية معظم أعماله كتعليم مستقيم، مع أنه اختلف معها في بعض القضايا.