العودة الى الصفحة السابقة
مجلة لقاء الشبيبة

مجلة لقاء الشبيبة

شمس المحبة


موجات الليل المتكاثقة تغمر طرقات المدينة الممزقة.

الشوارع مقفرة حتى من القطط والكلاب الشاردة، والموت يعشش في البيوت والزوايا والمنعطفات. وانزوى سامر مع أفراد عائلته في الردهة الداخلية لمنزله الذي خلفت إصابة صاروخ في جداره الأيمن ثغرة واسعة تنفذ منها الرياح والأمطار. ولم يلبث أن سمع صوت زوجته يقول:

- هذه آخر شمعة لدينا.

فأجابها بصورت ينمّ عن الأسى.

- سأحاول غداً أن أشترى بعض الشموع.

كان بيته أحد البيوت القلائل التي ما برحت منتصبة من منطقة القتال، ومع أنّ معظم أبناء الحي قد هجروا منازلهم ولاذوا بالجبال أو بمناطق أخرى أكثر أمناً فإنّ «سامر» وعائلته اعتصموا بمنزلهم رغم ما يتهددهم من خطر، لأنهم لم يجدوا مكاناً آخر يلجأون إليه.

وعاود صوت زوجته يخاطبه على ضوء السمعة المتراقص:

- لكن لا يمكنك أن تغادر المنزل.

- أنا أعلم، أنا أعلم ولكن الرب يدبّر كل شيء.

أحسّ بالمرارة تملأ عليه حياته. كان يحاول في تلك اللحظة الهرب من شعور غريب شرع يتسلل إلى نفسه ويفاقم من قلقه. خُيّل إليه أنّ هذه الليلة لن تكون كبقية الليالي وكأن رائحة موت عفنة تلوّث جو الحجرة. وفكر أن ينسلّ مع عائلته من منزله، ينسلّ تحت جنح الظلام ويتوارى في مكان ما. ولكن إلى أين؟ تطلع في سكينة الليل إلى زوجته وكأنه ينشد منها جواباً، ثم استقرت عيناه على ولديه الصغيرين الراقدين على فراش ملقى فوق الأض، وتنهد من قلب حرّان، وتساءلت زوجته:

- ما الذي يزعجك في هذه الليلة؟

بدا له أن سؤالها غريب وأتاح بوجهه نحو النافذة المعتمة وهمس:

- لست أدري، يتخيل إليّ أنّ هذه الليلة تتمخض عن شيء رهيب. إنني أشعر بالخوف.

لم تقل زوجته شيئاً، ولكن أحس بها ترتجف، فعضّ على شفتيه بقسوة. وحملت إليهما الرياح أصداء دوي صواريخ وانفجارات بعيدة فتمتمت زوجته:

- لقد ابتدأت الحفلة الليلية.

فأجابها بصوت أجش:

- بل انطلقت زبانية الموت تحصد أرواح الناس.

وتهالك سامر على أريكة قديمة في الردهة وجلست زوجته إلى جواره وانقضت لحظات صامتة مفعمة بالكآبة، وفجأة قال سامر:

- أشعر بحاجة عميقة إلى الصلاة.

- وأنا كذلك.

ودقت ساعة المنزل تشير إلى التاسعة والنصف ليلاً.

وتسربت رعشة خفية إلى نفس سامر مثقلة بالشعور بالخطر، وهمّ أن يقول شيئاً غير أن طرقات عنيفة انهالت على باب المنزل، فتطلع إلى زوجته بنظرات وجلة ثم همس:

- هيا، اسرعي، خذي الولدين واهبطي إلى القبو.

أيقظت زوجته الولدين النائمين، وهبطت بهما إلى قبو المنزل الرطب بينما ازدادت الطرقات على باب المنزل عنفاً، وسمع صوتاً يقول:

- افتح الباب قبل أن ننسف المنزل على رؤوسكم.

انتاب سامر الرعب، وهرع إلى الباب يفتحه، واستطاع أن يرى على ضوء الشمعة ثلاثة رجال شبه ملثمين ومدججين بالسلاح يحدّقون إليه بنظرات شرسة سمّرته إلى الأرض وخُيّل إليه أنّه يسمع أحد الأشخاص يخاطبه، وتردد برهة وقبل أن ينطق بكلمة ضربه أحدهم بعقب بندقيته على كتفه وصاح:

- هيا أعطني ما لديك من مال وجواهر وحلي.

تطلع إليه سامر بعناء على الرغم مما يعانيه من ألم في كتفه وتحركت شفتاه ليقول شيئاً فلم يندّ عنها سوى فحيح متحشرج. ودوي صوت في مسامعه:

- طيب، سنبحث بأنفسنا عن الحال.

وأخذ اثنان منهما يبحثان في أرجاء المنزل بينما بقي الرجل الثالث مصوباً بندقيته إليه. أغمض سامر عينيه وراح يصلي طالباً من الله أن يبهر أبصارهم فلا يكتشفون وجود القبو خوفاً على زوجته وولديه. كان يدرك أن زوجته آنئذ ترتعد رعباً خشية عليه، ولكنه كان يعلم أنها لن تحرك ساكناً حفاظاً على حياتها وحياة الصغيرين، وهو أمر تمّ الاتفاق عليه منذ زمن بعيد. وانطلق الرجال يمزقان الستائر وينبشان الدروج والخزائن ويحطمان الكراسي، وعندما أخفقا في العثور على شيء عصف بهما الغضب فابتدآ يطلقان الرصاص على السقف وزجاج النوافذ، ثم مضيا يجمعان ما تبقى من صحون وثياب وشراشف ولفا السجادة الوحيدة القديمة وانسحبوا من المنزل، بيد أن الرجل الذي كان مصوباً البندقية نحوه قال له فبل أن يغادر المنزل:

- خذ هذه التحية.

وأطلق عليه رصاصة كادت تقضي على حياته لو لم يلق بنفسه على الأرض، فلم تصبه الرصاصة إلا بخدش بسيط في ذراعه.

انقضت لحظات رهيبة خيّم فيها صمت مفاجئ، لم يتحرك سامر من مكانه، ولم يسمع حركة صادرة عن القبو. ثم شيئاً فشيئاً، زحف على بطنه حتى بلغ باب القبو ففتحه ببطء، وهمس:

- سلمى، أأنت بخير؟

فارتفعت صيحة فرح من القبو، وأحس بخطوات تسعى إليه في العتمة، ورنّ في أذنيه صوت زوجته:

- أأنت بخير؟

- نعم لا تخافي اصعدي...

وما لبث أن شاهد شيح زوجته يطل عليه من وراء الباب المتواري، بجر خلفه ولديه المذعورين، فنهض عن الأرض وركبتاه ما تزال تصطكان من الهلع. وما أن رأته زوجته حتى أجهشت بالبكاء.

وحاول سامر أن يخفف عن زوجته على الرغم مما يعتريه من اضطراب، ومرّت لحظات قبل أن يتمكن من الكلام.

ورجع الولدان إلى فراشهما واستغرقا من جديد في نوم عميق. وتمتم سامر:

- يجب أن ننام نحن أيضاً.

فأجابته زوجته:

- لا، لا، لا يمكنني أن أنام، إنني مرتعبة.

دنا إليها بحنان وهمّ أن يقول شيئاً غير أن دوى زخات رصاص قريبة من المنزل فجر سكينة الليل وملأ قلبيهما بالرعب. فألقى كل منهما بنفسه على الأرض خوفاً من رصاصة طائشة، ثم سمعا وقع خطوات سريعة تضرب أرض الشارع الصماء وتختلط بنداءات وأنات. فجأة همين الهدوء إلا من ضربات خطى متثاقلة بطيئة، ثم أحسا وكأن ثقلاً يتهالك أمام عتبة منزلهما. وما لبث أن تسرب إلى مسامعهم صدى أنات معذبة.

التفت سامر إلى زوجته وهمس:

- أعتقد أنه جريح، سأفتح الباب لأرى.

فهتفتت مذعورة:

- لا، أرجوك لا تفتح الباب يكفينا ما أصابنا الليلة.

- ولكن...

- لاتفتح الباب، أرجوك...

أخذ سام يهدئ من روعها وقال:

- يجب أن أفتح الباب وأساعد هذا الجريح.

- قد يكون عدواً.

- إنه عدو عاجز.

سكتت سلمى على مضض، وأسرع سامر يفتح الباب، فشاهد رجلاً طريحاً على العتبة غائباً عن وعيه لفرط ما نزف منه من دم، فانحنى عليه ليحمله إلى الداخل وما أن تأمل محياه حتى أخذته رعدة، وغمغم لنفسه:

- إنه أحد الثلاثة...

وتردد برهة، ثم هزّ راسه وحمله إلى داخل الردهة.

وعلى ضوء الشمعة التي كادت تنطفئ مضى سامر وزوجته ينظفان الجرح الغائر في كتف الرجل ويلفانه بقطعة قماش بيضاء ويتناوبان السهر عليه طوال الليل. لم ينبئ سامر زوجته بحقيقة الجريح. وانتظرا بفارغ الصبر بزوغ الفجر. كان يحسّ بأعصابه تتمرّد عليه في لحظات الضعف التي تعتريه وينبض قلبه بشيء من الحقد على هذا الرجل الطريح الذي هدد حياته وحياة أسرته بالموت، ثم ينساب إليه صوت حنون نابع من أعمال المحبة، هامساً:

- أحبوا أعداءكم...

عندما تسللت خيوط الشمس الأولى من خلال النافذة المكسورة، أفاق الجريح من غيبوبته وتلفت حوله بحيرة وارتباك، وانقضت دقائق قبل أن تتضح معالم الصور في عينيه، وعندما شاهد سامر يقف فوق رأسه ويتفرس به طغى عليه الرعب، وصاح:

- لا، لا، لا تقتلني.

وضع سامر يده على رأسه برفق وقال:

- لا تخشى شيئاً، لن يصيبك مكروه في هذا المنزل.

وعندما رنا إلى زوجته رأى نظرات الحيرة في عينيها، فقال بصوت خافت:

- إنه أد الرجال الثلاثة.

أخذ الجريح ينقل أبصاره ما بين «سامر» وزوجته وهو لا يدري ماذا يقول. أحسّ كأنّ قوة ما خارقة تعقد لسانه عن الكلام، فتلعثمت الألفاظ على لسانه، وسكت، ثم سمع سامر يحدثه.

- ستأتيك زوجتي بفنجان قهوة.

ازدادت حيرة الجريح وارتباكه، ثم جمع شتات شجاعته وتساءل:

- ولكن لماذا؟

- ماذا تعني؟

- لماذا تهتم بإسعافي وقد نهبت بيتك وحاولت قتلك؟

لاحت على شفتي سامر ابتاسمة لطيفة، وحدق إليه وهو يقول بتمعن:

- لأنني تعلمت المحبة ممن أسأت إليه.

اتعست الدهشة على محيا الجريح، واستطر سامر:

- أتدري أنّ الله قد أحبني على الرغم من خطيئتي وعصياني... أرجوك دعني أتابع حديثي. لا تقل شيئاً الآن...

وحدثّه سامر عن قصة الفداء والمحبة، قصة يسوع المصلوب المخلص.

وعندما جاءت سلمى بفنجان القهوة كانت الدموع تملأ عيني الجريح المتوجع.

بعد أسبوع استلم سامر رسالة قصيرة، وعندما فضها طالعته الكلمات التالية:

لقد علمتني درس المحبة كما تعلمته أنت من يسوع. لقد اعتنيت بي من غير أن تسألني عن اسمي أو الحزب الذي أنتمي إليه، بل أغدقت عليّ محبتك على الرغم من إساءتي إليك... إنني أعاهدك وأعاهد الله أن لا أحمل السلاح فيما بعد... سلاحي سيكون سلاح المحبة...

طيّه تجد بعض ما أمكنني الحصول عليه من مال لأعوضك عن خسارتك. إنه مال حلال غير ملوّث بالدم. لقد أنقذت حياتي كما أنقذك الرب من خطيتك. إنني أشعر الآن بالحرية الحقيقية، لأنّ الحرية الحقةكما اكتشفتها هي محبة... ألف شكر لك.

ناول سامر الرسالة إلى زوجته وعيناه تلمعان ببريق نور سماوي.