العودة الى الصفحة السابقة
مجلة لقاء الشبيبة

مجلة لقاء الشبيبة

رحلة مع القديس أغسطينوس


إنّ التاريخ العربي المسيحي حافل برجالات الله الأتقياء الأفذاذ، الذين عاشوا على أرضنا وأعطوا وأثمروا، فكانت سمات الله بادية جلية ناصعة في حياتهم من جميع الجوانب. ومن بين هؤلاء الرجال نذكر منهم القديس أغسطينوس الذي تفتخر به الكنيسة في الغرب وتناسته الكنيسة في الشرق، مع أنه أقرب للشرق منه للغرب. فهو ابن المغرب الكبير، هو اللاهوتي الشهير الذي تستشهد بآرائه الحصيفة الكنيسة الجامعة. وهو الصوفي المسيحي الحق والمعلم الأريب والأسقف المتواضع والخادم الأمين. وهو الرجل الذي كان باستمرار في بوتقة الصلاة ينصهر في ذلك الذي دعاه وأوكله حمل مشعل نور المسيح لهداية الضالين.

نشأته:

وُلد أغسطينوس بتاريخ 13 نوفمير سنة 354م في مدينة تاغسطا المعروفة حالياً (بسوق أهراس) التابعة لولاية عنابة بالجمهورية الجزائرية والتي كان يُطلق عليها آنذاك بنوميديا إذ كانت خاضعة للأمبراطورية الرومانية.

نشأ أغسطينوس وترعرع ونما في وسط يجمع بين الديانة الوثنية والديانة المسيحية؟ كان والده «باتركس» وثيناً شريراً، حاد الطبع، خشن المعاملة، متشامخ متصلف دائب السعي وراء التصدر في المجتمع. أما أمه «مونيكا» فكانت مسيحية غيورة لإيمانها، متحمسة لدينها مثالاً في سلوكها المسيحي وسط مجتمعها وأمام أفراد أسرتها.

دخل أغسطينوس المدرسة الابتدائية في مدينة تاغسطا (سوق أهراس) بين سنة 361-365م وكان الوالدين يتوسمان فيه الخير والنجاح وبين سنة 366-369م انتقل إلى مادورا لمتابعة تعليمه الثانوي. فانكب الفتى الطري العود، الحاد الذكاء، على التهام العلم التهاماً عن أساتذة أكفاء. وفي هذا الوقت المبكر من حياته بدأ يتعلم الشقاوة واللهو والمشاكسات والهزء بالغير. وعندما بلغ سن السادسة عشرة من عمره وصل أوج ذروة الشقاوة والتخاتل، حيث برع في فن السرقة وإيقاع الأذى بالغير. فتزعّم شرذمة من الأصحاب الأردياء، وكانت الغاية القصوى من وراء العمل المشين الذي كان يرتكبه هو إشباع نهمه وإذعانه للخطية. وفي هذه المرحلة من العمر - السادسة عشرة - لم يستطع أبوه أن يؤمن له السفر لمدينة قرطاجة لإتمام دراسته هناك. فعاد من مادورا إلى تاغسطا ومكث سنة كاملة توغل فيها في اللهو المجون وانفتح باب الطيش على مصراعيه أمامه لارتكاب ما يحلو ويطيب أمام عينيه. إلى أن أصبحت هذه السنة من أشر سنوات حياته، إذ غلب عليه تيار التحرر فجره إلى مهاوي الرذيلة على شتى أنواعها وأشكالها لم ينساها طوال حياته. وبعد هذه السنة قام أحد أثرياء تاغسطا يُدعى «رومانبانوس» صديق باتركس والد أغسطينوس بمساعدته لإتمام دراسته في العاصمة العلمية قرطاجة. وهناك طفق يلتهم العلم التهاماً. يدرس بكل ما أوتي من قوة الذاكرة والاستيعاب دون كلل أو ملل، حتى أصبح بارعاً بين زملائه في فن الخطابة والبلاغة وعلوم البيان وظفر ببعض الشهادات العالية.

عواصف فكرية:

في قرطاجة المدينة الكبيرة الضخمة تحقق حلم أغسطينوس في إنماء وإغناء فكره بعلوم عصره وإشباع نفسه المتعطشة للسوء والشهوة العارمة والمتاججة في أعماقه حتى أصبح نذير شر. فوقع تحت تأثير شيعة المانوية لمدة تسع سنوات - بين التاسعة عشرة الثامنة والعشرين. (تنتسب شيعة المانوية إلى ماني بن فاتك، القائلة بأن العالم هو تحت سيطرة قوتين هما الخير والشر، وأنه مصنوع من أصلين أحدهما النور والآخر الظلمة، وأنهما أزليان وليس في وسع المرء أن يخلص من هذين القوتين). فانطلق يتجرع من أفكارهم المسمومة وفلسفتهم الكاذبة، مترنماً معهم الأنشودة القائلة: «ربي هبني عفة الحياة ولكن ليس الآن». فوجد أغسطينوس في هذه البدعة ما يبرر سلوكه الشهواني الماجن الفاجر. فكان هذا المذهب كفيل بإشباع حاجته المزدوجة: السعي الدؤوب وراء بلوغ اليقين، وإشباع أهوائه اللهيمة. إلى أن فطن لهذا المذهب بسبب الإشكالات التي يطرحها دون أن يقدم أي جواب لها. فبدأ الشك يراوده بالنسبة لصحة العديد من تعاليمهم، إلى أن اهتدى إلى كتب الشكاك (الاحتمالية) التي يقول أصحابها بأنه من العسير على المرء أن يتوصل إلى معرفة يقينية ثابتة غير قابلة للجدل والشك، فاستقرت نفسه عليها وظن أنه اقتنع بفلسفتهم الرامية إلى استحالة الوصول إلى يقين وضرورة الإقلاع عن كل بحث يستهدف المعرفة. وبينما الرياح تقذف به حيث تشاء، كانت مونيكا الأم تذرف الدمع السخين على فلذة كبدها غير يائسة من حرمة السماء كي تشمل ابنها ليعي حالته المزرية التعيسة. كانت دموعها دموع صلاة ورجاء، لا دموع حسرة وفقدان الأمل. لم تكف عن الصلاة في طلب الهداية واللطف الإلهي من أجل ولدها، ولم تستسلم لليأس والضجر والقنوط، إلى أن قادته العناية الإلهية إلى ميلانو، وهناك بدأت الأحداث في حياة أغسطينوس تأخذ منحى آخر. بدأ اتجاهه يتحول دون أن يدري إلى مواجهة جديدة تختلف كلياً عن الاتجاهات السابقة ألتي عاشها.

اهتداءه:

أغسطينوس المجدود يلتقي مع أحد رجال الله المعروفين يتقواهم وورعهم وقناعتهم لله. هو القديس أمبروز، علم من أعلام الدين وواعظ حصيف أريب، سمع أغسطينوس إلى مواعظه القيّمة المتأججة الملتهبة بنار الروح، فكانت لمواعظه فاعلية بل وجاذبية قوية على حياة أغسطينوس فصار يداوم ويواظب على حضور أجتماعاته وأخذ يتلذذ طعم كلمة الرب.

وبينما هو في أحد الأيام في حديقة منفرداً مع نفسه يتأمل شريط ماضيه المرير، سمع صوت صبي من منزل مجاور يقول له: خذ واقرأ. فتناول نسخة من الكتاب المقدس وفتحها، فوقع نظره على الكلمات التالية: «َلنَخْلَعْ أَعْمَالَ ٱلظُّلْمَةِ وَنَلْبَسْ أَسْلِحَةَ ٱلنُّورِ. لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي ٱلنَّهَارِ، لاَ بِٱلْبَطَرِ وَٱلسُّكْرِ، لاَ بِٱلْمَضَاجِعِ وَٱلْعَهَرِ، لاَ بِٱلْخِصَامِ وَٱلْحَسَدِ. بَلِ ٱلْبَسُوا ٱلرَّبَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ، وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيراً لِلْجَسَدِ لأَجْلِ ٱلشَّهَوَاتِ» (رومية 13: 12-14). فاعتبر هذه الكلمات بمثابة رسالة بعث بها الله إليه. وفي هذه الأثناء أحس بسلام في قلبه وارتاح في داخله، فسلم دفة حياته لأعظم ربان يقودها وسط لجج بحر الحياة العاتية إلى ميناء السلام.

وفي عيد القيامة من سنة 387م تعمّد بالماء بيد الأسقف أمبروز في ميلانو. وبعد الاختبار المجيد قرر العودة مع أمه إلى مسقط رأسه. وفي طريق عودته اعتلت صحة أمه في «أوسيتا» واستمر مرضها تسعة أيام. وقبل أن فارقت الروح جسدها الضعيف قالت لأغسطينوس: «إنّ الله قد أمد في عمري لسبب واحد هو أن أراك مؤمناً مفدياً بدم الحمل مسيحياً حقاً قبل أن أموت، وقد أبقاني لأراك خادمه الأمين تحتقر المنظور».

وبعد وفاتها في أرض الغربة أذرف الدموع الحارة من أجلها، ثم كتب قصة موتها في كتاب يُعد من أروع وأبدع الآثار المسيحية في الأدب المسيحي القديم. ثم عاد إلى روما ليخبر الناس عن أعمال الله العظيمة ويرشدهم إلى ذاك الذي قال عن نفسه: «أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ» (يوحنا 14: 6) ويحذر من فلسفة المانويين وفساد تعليمهم ثم رجع بعد ذلك إلى قرطاجة وبقي هناك فترة من الزمن ثم أقلع إلى تاغسطا مسقط رأسه. فباع كل ممتلكاته ووزعها على الفقراء والكنيسة، وظل يتابع قراءة الكتاب المقدس والتأمل في الذات الإلهية في عزلة تامة وشركة حميمة مع خالقه والاستمتاع به.

آنية بين يدي الإله الحي:

في سنة 391م رُسم أغسطينوس قسيساً في مدينة «هبون» (عنابة حالياً) وبعد وفاة الأسقف السابق انتُخب باختياره أسقفاً على مدينة «هبون» سنة 395م. فتراكمت عليه المسؤوليات الجسام من رعاية الكنيسة، والرد على البدع والهرطقات المتفشية في الكنيسة. فصنف العديد من المؤلفات القيمة، من شروحات عميقة تفيض بالخير والخصب الروحي وتفسير أجزاء متفرقة من الكتاب المقدس. وفي أواخر سنة 397م أو أوائل سنة 398م سجل لنا ترجمته الذاتية المشهورة «الاعترافات» في 13 كتاباً. وكان هذا المؤلف شهادة حية لعمل النعمة في حياته ولصلاح الله ومحبته الفائقة الإدراك.

وفي سنة 410م حلت بروما الأزمة الكبيرة، إذ هجم الغوط على روما بقيادة الأريك واحتلوها بعد حصار طويل، فصاروا يقتلون ويضطهدون الشعب وينهبون ممتلكاتهم وكل ما بالمدينة. فدب الرعب والخوف في قلوب المسيحيييين المؤمنين. وفي هذه الأثناء قام خصوم المسيحيين يحملونهم مسؤولية الكارثة، لأن الألهة في رأيهم أنزلت غضبها الشديد على روما بسبب الدين المسيحي والمسيحيين. فقام أغسطينوس بتهدئة الأفكار ويثبت الإيمان في النفوس التي تزعزعت. وقد رد على هجوم الأعداء واتهاماتهم للإيمان المسيحي في كتابه القيّم «مدينة الله» مميزاً فيه بين زيف المجتمعات الدنيونية الفانية وبين مدينة الله الأزلية، بين نظام الحكم الأرضي والحكم السماوي، موضحاً فيه فشل الفلسفات والديانات الوثنية وكان هذا أروع ما كتبه أغسطينوس. وقد ألّف كتابه هذا ما بين سنة 413م وسنة 426م في اثنين وعشرين كتاباً.

وهكذا عاش أغسطينوس الخادم الأمين متشهباً بسيده الراعي الصالح، معتنياً بخراف الرب الذي أوكله العناية بها. قيل أنّ عظاته كانت بسيطة جداً وقصيرة وواضحة للغاية، واللغة العامية هي التي كان يستخدمها أثناء خدمته التعبدية في الكنيسة، لأنّ معظم الناس الذين كانوا يتوافدون إلى كنيسته لسماع عظاته لم يكونوا يعرفون أو يتقنون اللغة اللاتينية بل اللغة المغربية، فكانت لكلماته وقع طيب وقوي على سامعيه.

وفي 28 أوغسطس سنة 430 انتقل إلى جوار ربه، تاركاً وراءه ذخيرة روحية لا تثمن بثمن للأجيال اللاحقة، وبعد سنتين من وفاته أحرقت مدينة هبون ودُمرت عن آخرها. وبهذا يعتبر أغسطينوس آخر أسقف لمدينة هبون (عنابة).