العودة الى الصفحة السابقة
مجلة لقاء الشبيبة

مجلة لقاء الشبيبة

الصوم في المسيحية


تقّدم تلاميذ المسيح مرة عند معلمهم يستفسرون منه عن سبب فشلهم في إخراج روح نجس من شاب. فقال لهم يسوع: «هٰذَا اٰلْجِنْسُ لا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلا بِاٰلصَّلاةِ وَاٰلصَّوْمِ».

الصلاة و الصوم هما السلم الذي يرتقي بهما الإنسان نحو العلاء. قال أحدهم: "الصلاة والصوم هما للإنسان بمنزلة الجناحين للطير، إذ لا يرتقي هذا إلى العلاء بجناح واحد دون الآخر. كذلك الصوم والصلاة ترفع الإنسان فوق الجسد". هما الطاقة التي زودنا بها الله لنعلوا على المادة ونقترب إلى عرش النعمة، ولو استسلم الإنسان إلى الله كلياً لعمل بواسطته المستحيلات والعجائب المذهلات.

إنّ أول وصية أوصى بها الباري تعالى لآدم وحواء كانت وصية الصوم: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ اٰلْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلا، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ اٰلْخَيْرِ وَاٰلشَّرِّ فَلا تَأْكُلْ مِنْهَا... ». مريداً بهذا أن يسلما كل قلبيهما للخالق سبحانه. وأن لا يكون هناك شريكاً آخر معه، معبودا ثانياً بجانب الله تعالى. إنه يطلب منا أن نترك كل شيء من أجله كي ننال الكل في الكل، وعادة يبدأ بشيء صغير، أن نترك ثمرة، كي نتدرب كيف نترك شيئاً لأجله. تمهيداً لأن نترك الكل كي يملك على عرش قلوبنا.

في الصوم نتعلم كيف نسبي هذا الجسد ونقمعه، كيف نلقي جانباً بالأهواء والشهوات المعششة فينا ونذلل الجسد أمام الروح، ونعطي مجالاً لنمو محبة الله في قلوبنا، حتى تسود على كل كياننا ولا يبقى مجالاً للأنا فينا ونميت الشهوة في دواخلنا.

إنّ الصوم في المسيحية لا يقتصر على الإمساك عن الطعام فحسب، بل هو أكثر من ذلك، هو الصوم عن أكل الأموال والأرامل واليتامى والفقراء. أن نصوم عن الكذب والغش والنميمة والغدر بالناس والحقد عليهم، ولا نستبد في معاملاتنا مع الغير، أن نقتل روح الطمع والجشع، وبكلمة أوضح وأوسع أن نمتنع عن كل ما لا يرضي الله ويتماشى مع ناموسه، ويكون الله هو مقياس حياتنا اليومية، ولا يتم هذا إلا في حالة استعداد الإنسان لترك الخطية، عندئذ يتدخل الله بسلطانه ويمد له يد العون ويقوى الصائم بروحه ليغلب قوة الخطية، وهكذا تصبح أجسامنا هيكل لروح الله الطاهر.

كتب بولس الرسول بواسطة الروح القدس قائلاً: «أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ اٰلْقُدُسِ... فَمَجِّدُوا اٰللّٰهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ اٰلَّتِي هِيَ لِلّٰهِ» (1كورنثوس 6: 19).

السيد المسيح له المجد يحذرنا من صوم المرائين الذين يتظاهرون بالصوم حين يعبسون وجوههم كي يعلنوا للناس أنهم صائمين. بل يطلب منا متى صمنا أن ندهن رؤوسنا ونغسل وجوهنا ولا نكون عابسين كي لا نظهر للناس أننا صائمين.

نجد في الكتاب المقدس صور عديدة عن الصوم: مزاياه، وقوة فاعليته في الإنسان. موسى النبي اختلى بالله أربعين يوماً في الصوم والصلاة كي يتلقى وصاياه. دانيال النبي ورفاقه امتنعوا عن أكل أطايب الملك المدنسة كي لا يتدنسوا منها. داود النبي صام من أجل ابنه المريض، والكنيسة كانت ولا تزال تستعمل الصلاة والصوم من أجل شفاء المرضى وإخراج الأرواح النجسة. المسيحيون الأوائل كانوا عندما يريدون أن يفرزوا أحداً للخدمة، كانوا يصلون ويصومون من أجل إرشاد الرب لهم.

والمخلص يسوع وهو أسمى مثال نتمثل به قضى أربعين يوماً في الصوم والعزلة مع أبيه السماوي، وكانت هذه الأيام بمثابة الأعداد الأخيرة لرسالته.

وبالإضافة إلى المنافع الروحية في الصوم هناك منافع للجسد. فالأطباء اليوم ينصحون مرضاهم بأن يمتنعوا عن تناول بعض الأطعمة، وأن يلزموا نظاماً خاصاً في الأكل يسيرون عليه حفاظاً لسلامة صحتهم. وبكلمة أخرى أن يصوموا لأنّ في الصوم فائدة للمعدة ولصحة البدن إجمالاً. ففي الصوم ارتقاء فوق هذا الجسد الحيواني، فيه يترك الإنسان لذة الجسد، لذة الطعام، لذة الأكل والشرب، ويترك شهوة البطن وتمتد روحه إلى العلاء طالبة المن الروحي وتشتهي حضور الله لأنه «لَيْسَ بِاٰلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا اٰلإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اٰللّٰهِ».