العودة الى الصفحة السابقة
مجلة لقاء الشبيبة

مجلة لقاء الشبيبة

شجعوا صغار النفوس


(محاضرة للبابا شنودة الثالث نشرتها له مجلة الكرازة في عددها الصادر بتاريخ 7 نوفمبر- تشرين الثاني 1980. تنسيق وإعداد الدكتور إبراهيم ف. زخاري- النمسا)

لا شك أنّ الله يحب الأقوياء، ويريد أن يكون كل مؤمن قوياً في حربه مع الشيطان. قوياً في إيمانه وجهاده، ويعطي الطوبى للغالبين المنتصرين. ولكنه مع كل ذلك هو إله الضعفاء... بكل حب يشجع صغار النفوس، ويسند الضعفاء ويتأنى عليهم. بل أنّ السيد المسيح جعل صغار النفوس هؤلاء في مقدمة الذين يخدمهم. فقيل عنه في نبوة أشعياء: «رُوحُ اٰلسَّيِّدِ اٰلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ اٰلرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ اٰلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي اٰلْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِاٰلْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِاٰلإِطْلاقِ... لأُعَزِّيَ كُلَّ اٰلنَّائِحِينَ» (أشعياء 61: 1-2).

وهكذا جعل رسالته من أجل المساكين والمنكسرين والمسبيين والمأسورين والنائحين. وماذا تراه يفعل لأجل هؤلاء؟ إنه يقول: «لأُعْطِيَهُمْ جَمَالا عِوَضاً عَنِ اٰلرَّمَادِ، وَدُهْنَ فَرَحٍ عِوَضاً عَنِ اٰلنَّوْحِ، وَرِدَاءَ تَسْبِيحٍ عِوَضاً عَنِ اٰلرُّوحِ اٰلْيَائِسَةِ» (أشعياء 61: 3).

هذا هو السيد المسيح الذي قيل عنه في تشجيعه للآخرين: «قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لا يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لا يُطْفِئُ» (أشعياء 42: 3). إنه يعطي رجاء حتى لهؤلاء وينفخ في الفتيلة المدخنة فربما تشتعل بعد حين وتضيء لآخرين.

ومعلمنا بولس الرسول يهتم بصغار النفوس، فيقول: «اُذْكُرُوا اٰلْمُقَيَّدِينَ كَأَنَّكُمْ مُقَيَّدُونَ مَعَهُمْ، وَاٰلْمُذَلِّينَ كَأَنَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً فِي اٰلْجَسَدِ» (عبرانيين 13: 3).

ويقول الرب: «لا تَحْتَقِرُوا أَحَدَ هٰؤُلاءِ اٰلصِّغَارِ» (متى 18: 10) وهو نفسه قد اهتم بكل صغار النفوس الذين قابلهم. ومن هؤلاء الخطاة والعشارون. وحتى المرأة التي ضبطت في ذات الفعل، وأحضروها إليه وهي في مرارة الذل طالبين رجمها، أنقذها من أيديهم ولم يشأ أن يخجلها بل قال لها في حب: «وَلا أَنَا أَدِينُكِ. اٰذْهَبِي وَلا تُخْطِئِي أَيْضاً». طريقة الرب هي أن يبني النفوس المسكينة لا أن يحطمها.

ولذلك نقرأ عبارته المملؤة حباً وتشجيعاً: «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اٰللّٰهُ اٰبْنَهُ إِلَى اٰلْعَالَمِ لِيَدِينَ اٰلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ اٰلْعَالَمُ» (يوحنا 3: 17). وهكذا نراه يترك الجموع ويقف عند خاطئ- وهو زكا رئيس العشارين- ويشجعه بعبارة حب هي: «يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ اٰلْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ» ، بل يقول له: «اٰلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاصٌ لِهٰذَا اٰلْبَيْتِ» . ويريه أنّ خطاياه مهما كانت لا تمنع عنه الخلاص. وأنّ سمعته مهما كانت ردية لا تمنع دخول الرب في بيته.

إنّ الرب في تشجيعه يجعل باب الخلاص مفتوحاً للكل، حتى أمام اللص الذي كان عن يمينه في اللحظات الأخيرة من حياته وهو مصلوب يستمع لقول الرب: «اٰلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي اٰلْفِرْدَوْسِ» (لوقا 23: 43).

انظروا موقفه الجميل مع بطرس الرسول بعد أن أنكره ثلاث مرات، وكانت نفسه مرة للغاية، وقد بكى بكاءا مراً... ظهر له بعد القيامة ولم يقل له كلمة توبيخ واحدة... وإنما قال له في تشجيع: «اٰرْعَ خِرَافِي.. اٰرْعَ غَنَمِي» (يوحنا 21: 15-16).

وتوما الرسول، لما وجده الرب قد شك في القيامة وأصرّ أن يرى ويلمس ويضع إصبعه مكان الجروح وإلا لا يؤمن... لم يوبخه الرب وإنما ظهر له وسند ضعفه وقلة إيمانه وحقق له رغبته وقال له: «وَلا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً» (يوحنا 20: 27). إنها طريقة الرب منذ بدء الخليقة منذ آدم وحواء.

ولما رأى الرب يونان النبي في صغر نفسه وقد اغتمت نفسه وطلب الموت قائلاً: «مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي» ، لم يتركه الرب في صغر نفسه، وأنبت له اليقطينة لتظلله، ثم ظل به حتى تفاهم معه، وخلّصه من غمه، وشرح له الموقف مع أهل نينوى، وأنقذ نفسه كما أنقذهم (يونان 4).

ولما رأى إيليا خائفاً من إيزابل، ظانا أنه قد بقي وحده بعد قتل الأنبياء، وقد طلبوا نفسه ليهلكوها، كلمه الرب وقال له: «مَا لَكَ هٰهُنَا يَا إِيلِيَّا؟» . وأرسل له معونة من عنده وقواه وأخبره بأنّ هنا سبعة آلاف ركبة لم تنحن لبعل، وكلفه بأن يمسح أشخاصاً للقضاء على فساد الوثنية (ملوك الأول 19).

إنّ عبارة شجعوا النفوس، عبارة مملؤة حناناً، ولكن من هم صغار النفوس الذين نشجعهم؟ إنهم الساقطون، واليائسون، والفاشلون، والأطفال، والخطاة، والخائفون. ومن تنهار نفوسهم وتضعف ويفقدون الثقة في القدرة على القيام.

هؤلاء لا ندينهم، ولا نشهر بهم، ولا نستهزئ بهم أو نتهكم عليهم، ولا نعاملهم بقسوة، وإنما نسند ضعفهم بتشجيعنا. ولا تحتقر تفاهة في إنسان، إنما أنقذه من تفاهته. كن يداً منقذة للضعيف وكلمة رجاء لليائس وافتح طاقة من نور أمام من أضلتهم الظلمة. ولا تكن قاسياً ولا دياناً ولا توبخ أحداً على سقطته بل ساعده على القيام منها. ولا تتهكم على مستوى ضعيف لأحد من الناس، وإنما خذ بيده لكي ترفع مستواه. كان موسى النبي «ثَقِيلُ اٰلْفَمِ وَاٰللِّسَانِ» و «لَيسْ صَاحِبَ كَلامٍ» وقد اعتذر عن إرسال الرب لهذا السبب، لكن الرب شجعه وأعطاه هارون أخاه لكي يكون فماً له... وهذا الذي لم يكن صاحب كلام صار لقبه كليم الله.

وإرميا الذي كان صغير السن، وكانت نفسه صغيرة لهذا السبب، قال للرب: «إِنِّي لا أَعْرِفُ أَنْ أَتَكَلَّمَ لأَنِّي وَلَدٌ» ، ولكن الرب لم يدعه يستسلم لضعفه وإنما شجعه بقوله: «هَئَنَذَا قَدْ جَعَلْتُكَ اٰلْيَوْمَ مَدِينَةً حَصِينَةً وَعَمُودَ حَدِيدٍ وَأَسْوَارَ نُحَاسٍ عَلَى كُلِّ اٰلأَرْضِ... فَيُحَارِبُونَكَ وَلا يَقْدِرُونَ عَلَيْكَ، لأَنِّي أَنَا مَعَكَ يَقُولُ اٰلرَّبُّ لأُنْقِذَكَ» (إرميا 1: 6، 18-19).

ويشوع بن نون الذي صغرت نفسه بعد وفاة موسى النبي، ووجد نفسه أصغر من المسؤولية شجعه الرب بقوله: «لا يَقِفُ إِنْسَانٌ فِي وَجْهِكَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. كَمَا كُنْتُ مَعَ مُوسَى أَكُونُ مَعَكَ. لا أُهْمِلُكَ وَلا أَتْرُكُكَ... تَشَدَّدْ وَتَشَجَّعْ! لا تَرْهَبْ وَلا تَرْتَعِبْ لأَنَّ اٰلرَّبَّ إِلٰهَكَ مَعَكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ» (يشوع 1: 5، 9).

إنها كلمات الرب المشجعة. وكثيراً ما يشجع الرب بوعوده، أو بالمعونة التي يرسلها إلى الإنسان فيقويه.

وقد كان هذا التشجيع هو أيضاً عمل الأنبياء وكان أنشودة في المزامير. وما أكثر التشجيع الذي يقوله الكتاب للخطاة. يقول الرب إنه يغسل خطاياهم فتبيض أكثر من الثلج (مزمور 51: 7) وأنه ينساها ولا يعود يذكرها (إرميا 31: 34) وأنه كبعد المشرق عن المغرب أبعد عنا معاصينا لأنه يعرف جبلتنا يذكر أننا تراب نحن (مزمور 103) ويقول الكتاب أيضاً: «لا تَشْمَتِي بِي يَا عَدُوَّتِي. إِذَا سَقَطْتُ أَقُومُ» (ميخا 7: 8) ويقول أن الصدّيق يسقط سبع مرات ويقوم (أمثال 24: 16).

وكانت الكنيسة تشجع الشهداء والمعترفين في ساحة الاستشهاد، حتى أثناء محاكماتهم، وأيضاً في السجون. وكم من كتب كتبها الآباء حثاً على الاستشهاد، وكم من أمهات شجعن أولادهن على تقبل الموت...؟ حتى العمل الصغير الضيئل كان يلاقي تشجيعاً فالسيد المسيح لم يمدح فقط الزرع الذي أتى بمائة أو بستين، وإنما حتى الذي أتى بثلاثين فقط، قال عنه أنه زرع جيد. ليتنا نسلك بأسلوب المسيح ونشجع الكل مثله.