العودة الى الصفحة السابقة
مجلة لقاء الشبيبة

مجلة لقاء الشبيبة

مَثَلُ الله


(من كتاب الدين العملي للمؤلف جوزيف فورت نيوتن. ترجمة القس حنا خوري).

«إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ اٰبْنَانِ» (لوقا 15: 11)

إن مثل الابن الضال بين الأمثال الأخرى. ولا يضاهيه مثل آخر في الروعة سوى مثل السامري الصالح. فكلا المثلين يرياننا ماهية الله وحقيقته وكيف ينبغي على الإنسان أن يعامل أخاه في الإنسانية.

ومع ذلك فإن هذا المثل قد أسيئت تسميته كما أسيئت قراءته. منذ زمن طويل اتخّذ أحد الأتقياء هذا المثل موضوعاً له فقسمه إلى عناصر ثلاثة:

  1. التبرم من البيت.

  2. الحنين إلى البيت.

  3. العودة إلى البيت.

وقد جاءت العظة الرائعة ولكنها كانت ناقصة...

وكالكثيرين غيره جعل الابن الضال بطل الرواية غير أن ذلك كمن يعنى بناحية واحدة من كامل الموضوع ويتجاوز المعنى المقصود من المثل. فالابن الضال شخصية فاتنة في المثل إذا ما اعتبرنا حماقته واستقامته المعوجة وإقراره بخطئه.

ولو كان علينا أن نعيش مع أخ نظير ذلك الأخ الأكبر لقبض معظمنا على قدر ما يستطيع من الثروة ولذهب بعيداً وبعيداً إلى أقصى حدود تستطيع دراهمه أن تحمله إليها. وحتى الضلالة الطائشة نقول بأنها أكثر جاذبية من العداوة القاسية المؤسسة على البر الذاتي والاعتداد بالنفس.

ولكن بطل القصة في نظر السيد المسيح كان ذلك الرجل المسن والمكلل الرأس ببياض شيبة ناصعة والذي ينتظر عودة ولده بفارغ الصبر. وليس هنالك من ذكر للأم ولربما كانت قد انتقلت من هذه الحياة الدنيا إلى الحياة الثانية ولكن محبة الأم ومحبة الأب امتزجتا وتجسمتا في شخص ذلك الرجل الشيخ الذي كان قابعاً في منزله يترقب عودة ابنه بألم شديد.

فمقابل السقوط الذي نراه في الاحتكاكات العائلية التي خبرنا قساوتها بقدر ما تعودنا عليها، نجد هنا مثالاً رائعاً للمحبة التي تتحمل كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء. نجد قلب الله المحب الذي فيه وحده رجاء الإنسانية.

كان الابنان ضالين، وقد كره أحدهما الآخر وصدّع كل منهما قلب الوالد العاجز بطريقة مختلفة. وأما هو فأحبهما كليهما وكان يرغب بأن يراهما يسكنان معاً بكل محبة وتفاهم، ولكن كرههما الواحد للآخر كان أشد من محبة كل منهما لوالدهما.

وهذا ما يحصل في العالم حقاً. فكثيراً ما نرى الإخاء البشري محطماً والناس يبغضون بعضهم بعضاً أكثر مما يحبون الله ويخافون من بعضهم البعض أكثر مما يخافون من الخرافات. فعالمنا بلقع مضطرب وجائع وخائف ومرتعد...

وإذا كان الابن الضال قد أضاع ثروته في كورة بعيدة فقد وجد نفسه وهذا أمر له أهميته، إذ عندما يرجع الإنسان إلى نفسه لا يلبث حتى يعود إلى الله أيضاً. ومحبة الله تصفح عن كل شيء وتنسى كل شيء وتمحو كل جهالة وطيش بقبلة والدية.

ولما كان الابن الضال بعيداً لم يكن رقص ولا فرح في البيت. فلما سمع الابن الأكبر صوت الطرب والرقص اندهش ولم يشأ أن يدخل وسأل ماذا جرى وما كان سبب الابتهاج. وعندما عرف حقيقة الأمر رفض أن يدخل إلى البيت احتجاجاً ولم يقبل عذر والده والتفسير الذي قدمه له. وهكذا صار الابن الأكبر ضالاً بدوره إذ كان قلبه أقسى من الفولاذ وأبرد من الجليد. وكان في داخله حزيناً لماذا لم يمت أخوه في غربته. وأما الوالد الشيخ فكان من فرط سروره بعودة الابن الضال مستعداً لتقديم كل ترضية لابنه الأكبر ولكنه صعق في مكانه خامداً أمام ذلك الحقد الأخوي وعدم الصفح والغفران.

وكان يسوع متسامحاً من جهة خطايا الناس الجسدية لأنه كان عالماً بضعف الإنسان البشري. وأما خطايا الروح والتجديف على الروح القدس- من حسد وبغض ونميمة وقساوة قلب- فقد حيرته وخيبت آماله وبنوع خاص كان شديد النقمة على الشر المتلبس بثوب البر الذاتي- الرياء.

كذلك الابن الضال الذي سافر إلى كورة بعيدة كان أقرب إلى قلب الوالد من الابن الآخر الذي بقي في البيت. وقد يستطيع الابنان أن يعيشا في منزل الوالد وتحت سقف بيته ويكونا على بعد آلاف الأميال من حيث المسافة التي تفصلهما عن بعضهما والتي لا جسر يصل بين جزئيها.

كتب أحد الشعراء ما ترجمته:

ما أزعج أن يكون المرء مكان الله بالذات..

في وجه البغض المنتشر والشر المتفشي في العالم

وفي وجه الخطية المسيطرة على هذا الكون..

إلا أنّ الله ليس ضعيفاً مثلنا ولا متغيراً ولا فانياً بسرعة نظيرنا. فأفكاره ليست ضعيفة كأفكارنا ومحبته أوسع دائرة من أحلامنا.

هذا هو الإله الذي علّم عنه السيد المسيح وهذا هو جوهره. ومع ذلك فقد وجدت الكنيسة صعوبة في تصديق هذا القول والإيمان بحقيقته. فهل كان ذلك مجرد تصوير عاطفي؟ كلا. فالعاطفي عبارة عن انهماك بدون شعور بالمسؤولية وانفعال بدون عمل... أما الله فمستعد للوقوف بجميع التزاماته بسبب طبيعته وبموجب حكمته... وهل يمكن أن تكون المحبة عابسة ومقطبة؟ إنّ المحبة هي التي علّقت يسوع الناصري على الصليب وكثيراً ما تحطم القلوب إلا أنّ تأديبها لا يكون إلا للخلاص ولا يمكن أن تقهر في النهاية.

لقد تعلمنا بأنّ محبة الله نار آكلة. ولكن هل هي كذلك حقاً؟ إنها لم تكن كذلك في عرف السيد المسيح الذي قال: «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى اٰلآبَ» . فما هي القداسة؟ إنها الصلاح أليس كذلك؟ وهل يكون الصلاح ناراً آكلة تلهب قلوب الناس وتشعل الأرواح التي لا تحترق؟ كلا. فمحبة الله أوسع وأحكم وألطف من مقاييس قلوبنا الصغيرة والحقيرة.

ادفنوا كل رجاء عندكم: كتب دانتي فوق باب الجحيم. إنها عبارة تجديف على الله وهي مناقضة لمحبته تعالى لأنّ الله ليس عنده مثل هذا السجن المؤبد ولا يمكن أن يكون كذلك. فلا تقطع رجاءك بالله لأنه لا يعرف اليأس ولا يستولي عليه القنوط. وهو إله لا ينسى ولا ينام ولا يتعب ولا يكل ولا يفشل ولا يتردد. وكذلك محبته التي لا تترك نفساً بشرية هالكة ولا تدعها تتحطم أبداً.

عندما كان مارتينو في السابعة والثمانين من عمره جاء ليشترك في اليوبيل الثلاثمائة لجامعة دبلن. وفي أحد الأيام انسلّ ذلك الرجل الشيخ من بين المجتمعين ووقف بخشوع أمام قبر ولده الذي كان قد توفي منذ ستين عاماً. لم يعرفه أحد ولم يتذكر محيا ذلك الطفل الذي تحول إلى تراب منذ أكثر من نصف قرن سوى قلب الوالد المحب الذي لم ينسه. فإذا كنا نجد مثل هذه المحبة في نماذج إنسانيتنا الضعيفة، فكم ينبغي أن تكون محبة قلب ذلك الآب السماوي الذي هو أب جميع البشر؟؟؟

عندما كان الكاتب الروائي وليم بلاك مغادراً إلى بلاد الانكليز، اندفع رجل إليه إلى السفينة حاملاً سلة من الزهور وقال له انه فقد ابنة صغيرة توفيت في السفينة فيما كانوا مبحرين، ولأسباب قاهرة اضطروا أن يسمحوا بدفنها في اليم. وطلب إلى بلاك أن يتكرم ويرمي تلك الباقات من الأزهار عند وصول السفينة إلى أحد خطوط العرض الذي عينه له. فوعد بلاك بأن يفعل ذلك. ولما وصلوا إلى المكان شوهد بلاك وربان السفينة ينثران الأزهار فوق تلك البقعة من المحيط.

إنها المحبة الوالدية التي تبقى حية عبر السنين وعبر المحيط وعبر الظلام. نعم إنّ محبة كهذه نجدها في قلوبنا البشرية، فمن أين جاءت يا ترى إلا من الله مصدر كل محبة وحنان؟؟؟

إنّ أسمى الإيمان يتولد في أقدس القلوب. هذا ما علمنا إياه الرب يسوع المسيح في مثله الرائع عن أبيه السماوي. ولا حاجة لنا أن نفتش عن حقيقة أسمى من هذه الحقيقة. والحكمة كل الحكمة أن نثق بالأسمى والأعلى ونؤمن به بكل تسليم...