العودة الى الصفحة السابقة
مجلة لقاء الشبيبة

مجلة لقاء الشبيبة

وجود الله


مما يجب التسليم به مع الأسف، هو أن أناساً كثيرين في أيامنا الحاضرة ينكرون وجود الله. هناك مثلاً الماركسيون والوجوديون والماديون، وغيرهم من المذاهب التي لا تحصى، ليس فقط يعيشون ويموتون دون أن يبالوا بوجود الله، بل ينكرون وجوده جهاراً.

وليس هذا الجهل وليداً حديثاً في عصرنا. فإن نكران وجود الله بهذا الشكل إنما يعود إلى العصور القديمة. فإننا نقرأ في مزامير داود "قَالَ ٱلْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: «لَيْسَ إِلٰهٌ» (مزمور 14: 1)."

مع أنه يكفينا أن نفتح العين قليلاً، فيدهشنا جمال الكون الذي يكتنفنا، كما تدهشنا أكثر وأكثر دقة نظامه المهيمنة. ويلوح لنا بادئ ذي بدء، أن كل شيء في الكون يفوق إدراك الفهم ويتناقض مع العقل، فلا يمكننا بالتالي أن نجد له جواباً أو تفسيراً.

نحن نتساءل مثلاً: لماذا الشمس تشرق وتغيب؟ ولماذا الصنوبر يحافظ على اخضراره؟ ولماذا الثلج يتساقط؟...

الثلج؟.. لعمرى، فلنتفحصه عن قرب بواسطة الآلات المكبّرة. وهل أروع من كبّة الثلج عندما نراقبها بالميكروسكوب؟ فإن في كل بلّورة منها نجمة فائقة الجمال، عجيبة التركيب، كاملة في حد ذاتها.

وحبة الملح التي نرميها في طعامنا، وقد تعودنا أن نراها في مطبخنا وعلى موائدنا، ونحن نشتريها بأبخس الأثمان؟ فإنها لا تقلّ روعة عن جوهرة الألماس الثمينة، إذ يأخذنا فيها شكلها المتناسق وزواياها المتشابهة وتركيبها المحكم بالهندسة والفن...

ونقطة الماء؟ إذ اختبرناها بالميكروسكوب الإلكتروني، تتحول في نظرنا إلى عالم منظم لا خلل فيه، ولا نهاية له.

وأي متسلق في الجبال يتوصل يوماً إلى اختراع حذاء يضاهي حذاء الذبابة أو النحلة، حيث كل قائمة من قوائمها تحتذي حجاباً خاصاً للتسلق على أملس الأجسام، وشنكلاً خاصاً للتمسك بالأجسام الوعرة. وفي قائمة الذبابة أيضاً، سائل خاص تفرزه كلما أرادت أن ترفع حجابها عن الجسم الذي حطّت عليه.

والحمامة التي تطير أمامنا كل يوم، وقد ألفناها كسائر الطيور المعروفة، أليست من روائع الكون بجسمها الأهيف، وريشها المستطيل الذي يجمع بين اللين والصلابة ليؤلف نسيجاً ناعماً ومتيناً، وريشها الناعم الذي يكسو جسمها كأنه سقف مطليّ بالمادة الدهنية التي تحميه من الرطوبة. ومن تحت هذا الريش، زغب في غاية الخفة يوشّح جسمها الهواء الدافئ. وأخيراً، هيكل عظميّ فضائيّ، محراك، نشيط، شديد الصلابة، وليس أخف منه وزناً، لأن عظامه جوفاء... إنها بالحقيقة حلم من أحلام الذي اخترع الطائرة... يستر عينها الحاذقة ثلاثة جفون، منها جفن شفاف يتحرك أفقياً، ويحميها من حرارة الشمس الشديدة. ناهيك عن أسرار "حاستها السادسة"، كأن في ذهن الحمامة آلة للبث والالتقاط ذات موجات قصيرة. فترى الحمامة الجوالة، يرسلها أصحابها إلى مسافات أطول من مئات الكيلومترات، فتذهب وتعود تواً إلى مقرها...

ويمكننا أن نقول ذات الكلام عن الخفاش. فإنه مجهّز برادار من أدق الآلات. يبث الصوت أكثر من خمسين دفعة في الثانية الواحدة. وهذا ما يساعده على الاتجاه في الظلام الحالك، وعلى التقاط الحشرات بقبضة محكمة، وعلى توقي كل الأخطار والعقبات، حتى ولو كان أمامه خيط أرفع من خيط العنكبوت.

أجل، إن في كل نبتة وفي كل حيوان روعة ولغزاً: فمن علّم العنكبوت أن تنسج خيوطها؟... ومن علّم النحلة أن تصنع نخاريبها من الشمع؟... ومن أعطى الصوص قرناً يثقب به قشرة البيضة التي يولد في داخلها، ثم بعد خروجه منها ببضعة أيام، لا يعود هذا القرن لازماً له، فيسقط من ذاته.

ونحن أنفسنا، إلا يقوم جسمنا على مجموعة أعضاء رائعة؟ فلا نحن، ولا أباؤنا وأمهاتنا، ولا أي شخص آخر يقدر أن يصنع أو يتصور مثل هذه الأعضاء... دماغ فيه ألف مليون خلية ليست فقط تسجل وتذكر وتجدد... بل تخترع أشياء جديدة. أذنان تسمعان وتدركان ضمن إطار لا يزيد حجمه عن بضع سنتيمترات مربعة، وبين طياتها عود يشده ستة آلاف وتر وثمانية عشر ألف مكبّر... عينان تؤلفان آلة فوتوغرافية فريدة من نوعها، وتقدر أن تلتقط في كل ثانية أكثر من عشر لقطات متنوعة، بدقة لا تضاهيها دقة... وقلب، هو في أيامنا موضوع حديث الناس وهمّهم، يزن أقل من مئتين وثمانين غراماً، وينبض نحو مئة ألف نبضة في اليوم، وكلما مضت ثلاث ثوان، يدفع الدم إلى دورة كاملة في جسمنا... و... و... يكفينا أن نفتح العين وننظر. فإن كل شيء يبعث فينا الدهشة والإعجاب...

ولكن من اخترع هذا كله؟ من اخترع قائمة الذبابة، وبلور الثلج، وهيكل الحمامة العظمي، ورادار الخفاش، وأذننا، وعيننا، ودماغنا... ؟ كيف تكونت هذه الأشياء كلها؟ ولماذا تكونت؟ ربّ قائل: إنها وليدة الصدفة. أي أنها وجدت بدون أن يصممها مكّون ما. فالجواب سهل وبسيط جداً. غير أن الواقع يثبت لنا أن الصدفة لا يمكن أن ينتج عنها شيء ثابت ومستقر ومنظم. فلو رمينا في الفضاء ألوف الأحرف الهجائية، لا يمكننا أن نؤلف كتاباً ولا صفحة واحدة. ربما تتألف من فعلنا هذا كلمة واحدة بطريق الصدفة، ولكن هذه الصدفة لا تتكرر أكثر من مرة واحدة... ومهما هززنا المعدات الميكانيكية والدواليب، فمن المستحيل أن يخرج منها محرك أو ساعة.. لعمرى. إن أصغر زهرة وأصغر عضو في الجسم يفوقان الكتاب والمحرك والساعة بألوف المرات، في تعقدهما وتشبكهما. وربّ قائل: إن الكون ذاته قد دبّر ذلك. (أي أن الكون قد أوجد ذاته بذاته).

وهذا أيضاً جواب سهل. ولكنه لا يشرح لنا شيئاً مهماً. فما هو الكون؟ هو مجموعة قوى جسمية- كيماوية، وحركات عمياء لا نشعر بها، تؤثر على بعضها بعضاً.

فعندما أفكك سيارتي قطعة قطعة، عندئذ يمكنني أن أفهم كيف هي تتحرك وتنقاد. وأفهم أيضاً لماذا المهندسون في شركات فورد وستروان... قد صمموا هذه القطعة أو تلك. كذلك أيضاً عندما أشرّح حمامة، يمكنني أن أفهم كيف تطير الحمامة... ولكني أتساءل: من صنع للحمامة هذه الريشة أو تلك، أو هذا العظم المجوّف، أو تلك العين...؟ هل الحمامة ذاتها صنعت ذلك، فيا للبلاهة. لا الحمامة، ولا أبوها، ولا أمها، ولا أنا نفسي، ولا واحد من أجدادي، يقدر أن يصنع عيناً واحدة... وإن قوى الكون العمياء والحمقاء هي كلها تعجز عن ذلك.

وهل سمع أحد الناس أن الزلزال الأرضي قد بنى يوماً قصراً واحداً على الأرض؟ إن أصغر آلة بين أيدينا، إذا دلّت على شيء، فإنما تدل أولاً وآخراً على ذكاء الإنسان الذي صنعها. أما الكون فلم يصنع قط شيئاً حتى ولا مقصاً بسيطاً... فكيف إذناً، يقدر الكون أن يصنع دماغاً هو بمئة ألف مرة أكثر تعقداً وروعة من المقص البسيط؟ وانه ليوجد وراء كبّة الثلج والزهرة والحيوان والإنسان، "ذكاء" يفوق هذه كلها حجماً وقوة إلى آخر حد. وهذا "الذكاء" أو هذا "الخالق الذكي" هو الذي نسميه "الله".

لما رجع الفلكي الشجاع تيتوف من رحلته الفضائية، قال: "ليس الله بموجود. ولو كان الله موجوداً، لكنت رأيته."

ونحن نجيبه: إن الذكاء لا يرى حتى في الإنسان. وما رأينا بهمجيّ يزن في الميزان رجلاً حياً ثم يقتله. ثم يزنه من جديد. وعندما يلاحظ عدم الفرق في الوزن بين الحي والميت، ينكر أن هذا الرجل كان ذكياً؟

نحن لا نرى موجات الأثير ولكننا نسمع الأغاني على الراديو. ونحن لا نرى السكر الذائب في الماء، ولكننا نتثبّت وجوده من الطعم. وهكذا نسبياً، نحن لا نرى الله، ولكننا نتثبّت وجوده من النظام والذكاء المسيطرين على كل الكون. والكون الذي نعيش فيه، هو جميل، كامل، متشعّب، لدرجة أن مبدعه يجب أن يكون إلى أقصى حد، أكبر مما يمكننا أن نتصوّر. ولا يبقى لنا بعد هذا كله، إلا أن نلزم الصمت ونصلي، كي نقترب من هذا اللامتناهي.