العودة الى الصفحة السابقة
الإنتصار العجيب

الإنتصار العجيب

قصص من الحياة جمعها وعلق عليها اسكندر جديد

اسكندر جديد


Bibliography

الإنتصار العجيب. اسكندر جديد. Copyright © 2007 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . 1972. SPB 8030 ARA. English title: The Amazing Victory. German title: Der Erstaunliche Sieg. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 D - 70007 Stuttgart Germany http://www.call-of-hope.com .

1- الإنتصار العجيب

كانت العاملات في المستشفى من الشماسات، اللواتي يعرفن من لباسهن الخاص. وإحداهن بطلة هذه القصة، وتدعى الأخت آن.

في القطار

- كيف يمكن التجول بهذا اللباس المضحك؟ قالت السيدة كريغ. إنه زي بطلت موضته منذ أمد بعيد! أهو «لزقة» على جراح المجتمع؟ لعله كان مقبولاً في الماضي، ولكن مجتمعنا الحالي لا يمكن أن يتقبل لزقات كهذه.

وما أن رأت السيدة كريغ الأخت آن مرة، إلا وتساءلت باحتقار:

- كيف تستطيع هذه المرأة الإبقاء على زيها؟ لعلها لم تلحظ قبعتها البيضاء في شكلها الذي يفسد النظر! وشعرها المعقوص إلى الوراء، ألا يدل على فساد الذوق؟... في الحقيقة إن لها شكل «الفزاعة».

كان صوت السيدة كريغ الحاد يسمع عبر المركبة التي كان يسود عليها الصمت.

- هذا مخيف، أضافت السيدة كريغ، مشيرة إلى الأخت آن، هل كان علينا أن نرى فزاعة مثلك؟ هذا الزي الذي تختالين فيه، لم يعد مقبولاً في مجتمعنا.

ومع كل هذه الكلمات المهينة، فإن الأخت الشماسة الجالسة في مواجهتها لم تغضب. على العكس، كانت تبتسم لها بلطف! ولكن هذا الابتسام جعل إناء السيدة كريغ يفيض، ومن جديد ارتفع صوتها.

- نحن لم نعد بحاجة إلى أعمال محبتكن، ويمكننا الاستغناء عن إلهكنّ.

في تلك الدقيقة، توقف القطار، فغادرته السيدة كريغ، وتوجهت إلى مكتبها. وأيضاً الأخت آن ذهبت لمتابعة عملها في المستشفى.

كانت في داخلها متعجبة من قوة احتمالها، ومن هدوئها حين تناولتها السيدة كريغ بالهجاء. ولكن لو أتيح لنا أن نفحص داخلها، لعلمنا أن وراء هدوئها كان يكمن سر الإنجيل. فحين تناولتها تلك السيدة بالتجريح، كان يتردد في خاطرها قول المسيح: «طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ. اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ »(الإنجيل بحسب متى 5: 11-12).

في المستشفى

تطلعت الأخت آن إلى الساعة المعلقة في رواق المستشفى... بعد ساعتين، ستنتهي خدمتها، وتذهب لترتاح من عناء اليوم.

- يا أخت آن، هل تتكرمين بالذهاب إلى الغرفة رقم 5، لتأتي بمريضة إلى قاعة العمليات؟ قال رئيس الممرضين.

- حالاً، قالت الأخت آن... وهناك في الغرفة رقم 5 رأت على الوسادة البيضاء وجهاً أكثر بياضاً منها... وعرفت فيه السيدة التي قبحت بها في القطار.

هل حالتها خطرة؟ سألت الأخت آن في قاعة العمليات.

- إنها مشلولة، أجابت الممرضة الأخرى، إننا لم نستطع أن نعمل أكثر من أجلها. لقد كانت فريسة لحادث اصطدام.

فتحت السيدة كريغ عينيها، وإذا بها ترى السقف كله أبيض. كان رأسها ثقيلاً جداً. ولكنها لم تتوقع أن ترى ثانية وبهذه السرعة تلك القبعة البيضاء المضحكة التي أثارت اشمئزازها في القطار. إنها الأخت آن، واقفة بقرب سريرها.

- أين أنا؟ سألت المصابة- ماذا حدث لي؟ قالتها ثم حاولت أن تحرك ذراعها اليسرى قليلاً، ولكنها عبثاً حاولت.

- لماذا لا أستطيع الحراك، قالت السيدة وعلامة الدهشة ترتسم على محياها.

- اهدأي، قالت الأخت آن. سأصلح وضع وسادتك. هل ترغبين في تناول شراب ما؟

تراءى وجه الأخت للمريضة، كشبح من خلال الضباب، ولكن المنظر الضبابي لم يدم طويلاً، لأنها لم تلبث أن غابت عن الوعي.

كانت أوجاع السيدة كريغ عنيفة جداً، ولكن آلامها النفسية كانت أشد وقعاً عليها. لأن مجرد الشعور بأنها مشلولة، كان يمضها حتى الموت. ولأن العناية بها، صارت وقفاً على الآخرين. قبلاً كانت عادتها أن تأمر فتطاع. أما الآن فقد أصبحت مجبرة على طلب العون، بمعنى أن الحالة الحاضرة عملت على إذلالها. لقد ذهلت من محبة الأخت آن لها وتفانيها في خدمتها... هل عرفتها الأخت؟ على أي حال، لم تتظاهر بأنها عرفتها. ولكن لماذا هذه الأخت، تعمل هكذا بإخلاص في خدمة الغير؟ هل بدافع من إيمانها؟

- يا أخت آن، هتفت السيدة.

- نعم يا سيدتي. ها آنذا آتية.

- هل تعرفينني؟

- أجل، لقد تقابلنا منذ بضعة أيام.

- هل تتذكرين ما قلته لك؟

- بكل تأكيد أتذكر. لقد قلت بأن لي شكل الفزاعة!

- إذن لماذا أنت لطيفة وبارة بي بهذا المقدار؟

- تذكري يا سيدتي، إن معظم الناس يكرهون الرب يسوع، ومع ذلك فهو يحبهم. وأنا تجاوباً مع هذا الحب، ولأجل هذا الحب، أحبك.

في بعد ظهر ذلك اليوم، فتحت السيدة كريغ قلبها، وقبلت حب يسوع المسيح، الذي تجسد لها في موقف الأخت آن. وحين جاء زوجها في المساء، أخبرته بكل شيء- وشيئاً فشيئاً، رأت تقاسيم وجهه تتغير. في بداية الحديث بدا أنه مهتم، ثم بعدئذ صار منزعجاً. وأخيراً تجهم وجهه، وامتلأ غيظاً. وقبل أن تنهي حديثها صرخ في وجهها.

- هل جننت؟ لم أكن أصدق أبداً أن يصدر عنك شيء كهذا. بماذا تفكرين؟ وماذا سيقول زملائي، حين يعلمون بأن امرأتي صارت مسيحية مؤمنة؟ لو استطعت أن أضع يدي على هذه الأخت آن... فسأقتلها بلا رحمة!

لم يكن ما صدر عن السيد كريغ مجرد موجة غضب عابرة، بل كانت تعبيراً عن إحساس عميق بالكراهية والحقد.

لما استطاعت السيدة كريغ مغادرة المستشفى، حرص زوجها على أن تدخل مصحة نفسانية. ولكن الطبيب النفساني، وجد أنها في حالة طبيعية. ولما أقامت بعض الوقت في مصحة أخرى للفحص، قال الطبيب أنها متمتعة بكل قواها العقلية. وأخيراً استطاعت العودة إلى منزلها، ولكن لم يكن لها من يعتني بها، لأن زوجها جفاها بسبب إيمانها!

كانت وهي في سريرها، ترى من خلال النافذة زوجها وهو ذاهب إلى عمله، وفي المساء كانت تراه يعود. وما عدا ذلك، فلم تكن تراه أبدا. كانت بالنسبة له كأنها غير موجودة. كانت متعجبة جداً من التحول الذي حدث في تصرفاته. فهل كان يشعر بأنه مهدد بخطر ما؟ أو هل كان دون علم منه، يخاف من نفسه؟

مضى ثلاثة أيام على عودة السيدة كريغ إلى منزلها، حيث اضجعت في سريرها. كانت كأس الماء الخاصة بها فارغة منذ أمد طويل. وبسبب عدم استطاعتها النهوض للتنظيف، كانت رائحة كريهة تعبق في جو الغرفة. كانت تود أن تُنقل إلى المستشفى. لأنها لو ماتت في غرفتها، فإن أحدا لن يعلم بها. ربما سيعود زوجها بعد بضعة أيام، ليلقي نظرة أخيرة عليها...

في صباح اليوم الرابع صلت: يا رب إن كنت موجوداً حقاً، فأرسل لي أحداً ما. لا يهمني من يكون، المهم أن أعطى شيئاً لاشربه، وفراشاً نظيفاً.. بعد هذه الصلاة بنحو ساعة، سمعت صوت وقع أقدام في الدور الأسفل. يبدو أن بعضهم قادم إلى البيت، ولكن من هو؟ بما أنها كانت سابقاً تشتغل كل يوم، فقلما كانت لها اتصالات مع جيرانها. في تلك الساعة، كان صوت وقع الأقدام يقترب بصورة مترددة، ثم طرق الباب. وما أن قالت: ادخل، حتى فتح الباب، وبدت في انفراجته سيدة في الأربعين.

- عذراً يا سيدتي لأني دخلت، قالت القادمة. أنا السيدة ميلر. كنت منشغلة بتنظيف نوافذ البيت، حين سمعت صوتاً يقول لي: اذهبي إلى الشارع الكبير رقم 25. لأن هناك يوجد من هو في حاجة إلى العون. فاستدرت إلى ناحية الصوت، ولكن لم أجد أحداً. عندئذ ظننت أنني أخطأت ومع ذلك لم أكن مرتاحة إلى ظني، ولأجل ذلك أتيت. فهل في وسعي أن أعمل شيئاً لأجلك، أو تودين أن أنصرف؟

لقد فهمت السيدة كريغ، أن ما حدث هو الجواب لصلاتها. فالله كلّم هذه المرأة التي لم تكن مؤمنة بعد! بقيت الزائرة برهة صامتة ومسيطرة على أحاسيسها، ولكنها لم تلبث أن انفجرت بالبكاء. إذ تبين لها أن الصوت الذي سمعته كان صوتاً سماوياً.

في ذلك اليوم، حدثت أشياء كثيرة فقد جاءت الأخت آن لنجدة السيدة كريغ، بعد أن أحاطتها السيدة ميلر علماً بحالها الصعبة. والسيدة ميلر وجدت الله فنالت خلاصه. وهكذا صارت الحياة أكثر احتمالاً بالنسبة للسيدة كريغ. ففي كل يوم بعد انتهاء عملها في المستشفى، كانت الأخت آن تأتي للعناية بها. وكانت المريضة تتمتع بالأنس خلال الفترات التي تقضيها مع الأخت آن. ولسعادة الكل، لم يكن السيد كريغ على علم بهذه اللقاءات.

في تلك الآونة، كانت أوراق الكرمة المتسلقة في قرب النافذة، آخذة بالتحول من لونها الأخضر إلى أحمر داكن، معلنة أن الخريف قد جاء. وإلى ذلك الحين، لم يكن السيد كريغ قد غيّر موقفه. كان يبدو وكأن الشيطان نفسه، قد استولى على كيانه، فقد صعد ذات يوم إلى غرفة زوجته. وبعد أن سرح نظره في أرجائها، قال:

- أرى كل شيء منظم ومرتب هنا، وهذا يعني أن أحداً ينظف غرفتك، فمن هو؟

وبعد لحظات من الصمت استأنف.

- ألم تسمعي، من هو؟

- إنها الأخت آن.

- كيف؟ أهذه الفزاعة المرعبة؟ كيف تتجاسر على دخول بيتي؟ لو رأيتها هنا مرة، فسألقي بها من النافذة.

- هنري انتبه! قالت الزوجة المريضة، ليس في وسعك أن تتصرف كما لو كان الله غير موجود!

- الله! كيف تجرأين على استعمال هذه الكلمة: إنني أفضّل أن أموت اليوم، على أن أقدم صلاة لإلهك هذا.

قالها ثم انصرف غاضباً، وكانت هذه المرة الأخيرة التي رأت فيها السيدة كريغ زوجها. فبعد مضي بضع ساعات، سمعت أنيناً، ففهمت بأن حادثاً ما قد حصل له. كانت تودّ النزول، ولكن لم يكن في مقدورها أن تفعل. كانت مشلولة ومسمرة على سريرها. لقد صرخت طالبة النجدة، ولكن أحداً لم يسمعها.

بعد مرور عشرين دقيقة على صراخها، سمعت بوق سيارة الإسعاف، وهي قادمة. وبعد لحظات جاءت السيارة ووقفت أمام المنزل. فنزل منها رجلان، ودخلا البيت، وكان أحدهما يحمل نقالة. وبعد قليل رأتهما من النافذة، وهما عائدان بالنقالة وعليها السيد كريغ، ولكنها لم تستطع أن ترى وجهه، لانه كان ملفوفاً بملاءة بيضاء.

وفي ذلك المساء، جاءت الأخت آن، وأحاطتها علماً بأن زوجها قد توفي بسبب نزيف في معدته.

حين هاجمته الأوجاع، استطاع بالجهد أن يزحف إلى جهاز التلفون، لكي يدعو طبيبه، الذي في دوره استنفر المستشفى، حيث تعمل الأخت آن. ولكن لما تهيأت الممرضات لإسعافه، رفض تدخلهن بكل إباء وهكذا قضى نحبه.

في الغد، وصل ولدا السيد كريغ، وكان أحدهما ضابطاً في الجيش، والثاني ضابطاً في الطيران. وما أن وصلا حتى تباحثا مع والدتهما، لترتيب الأمور الخاصة بالمأتم، الذي يُتوقع أن يكون حافلاً جداً. لأن هنري كريغ، كان يشغل منصباً رفيعاً في الدولة. وبالمناسبة طلبت السيدة كريغ بإلحاح، أن يوقع على الأرغن أثناء الجنازة لحن الترنيمة التي مطلعها «كل ما يعمله الرب هو للخير».

جرت مراسيم الجنازة بصورة فخمة جداً. فبرنامج الاحتفال احتوى أسماء شخصيات رسمية كبيرة، راغبة في تأبين المتوفى. ولكن خطابات هؤلاء السادة قوطعت حين أعلن عريف الحفلة عن اللحن الذي اختارته السيدة كريغ. فهذا الإعلان، أحدث بلبلة بين الحضور، لأن معظمهم كانوا يعلمون كيف مات السيد كريغ.

- عذراً يا حضرة الكولونيل، قال أحد الموظفين الكبار بصوت هامس، وهو يربت على كتف ابن المتوفى البكر. لو كان والدك في الحياة، لرفض أن يُعزف هذا اللحن. لذلك فإن هذا لا يتفق مع المناسبة. هذا غير ممكن أن...

- في الواقع، أنت محق يا سيد بيري. ولكن بحسب رأيي، يجب احترام رغبة والدتي. فهذه الترنيمة تُدخل عزاءً عظيماً إلى قلبها.

وأخيراً عزف اللحن الديني، وسمعه عدد كبير من الناس، ولكن كثيرين منهم سمعوه بامتعاض.

أما ماذا حدث للسيدة كريغ؟ فإن الأخت آن لم تكف عن زيارتها، وتابعت العناية بها بكل أمانة. وهي الآن تعيش في قرية صغيرة، بعد أن استعادت قدرتها على المشي، وشعارها الإيمان بأن كل ما يعمله الله فهو للخير.

أيها القارئ الكريم،

في هذه القصة الرائعة، يظهر مقدار ما تفعله النعمة الإلهية في حياة المؤمن. وتبين لنا مقدار ما تعمله محبة الله، التي يسكبها الروح القدس في قلب الصديق. فالأخت آن، مدفوعة بالمحبة التي تحتمل كل شيء، احتملت الإهانة التي وجهتها إليها السيدة كريغ علناً، وعلى مسمع من ركاب القطار. وبالمحبة التي ترجو كل شيء، استطاعت أن تنفذ أمر المسيح القائل:

«بَارِكُوا لاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ»

وبالمحبة التي تتأنى وترفق، دفعت إلى العناية بها وتمريضها بكل أمانة. والسيدة المتعبة عرفت بواسطة تصرفها المسيحي الطريق إلى مريح التعابى، الذي حطم استكبارها بوداعته وتواضعه، فوجدت راحة لنفسها.

وبالمحبة التي تصدق كل شيء، استطاعت أن تقدم لها مفتاح الخير. فعرفت كل ما لها في الرب من خير.

وفي محنتها القاسية، وحين تنكّر لها زوجها، عرفت السيدة كريغ تعزيات الله بالروح القدس، والروح المبارك، شفع في صلاتها فأرسل لها العون الإلهي في حينه.

لقد جذبت بالمحبة، فأحبت الله، ووجهت كل مخارج شوق نفسها نحوه. والله تجاوب مع أشواقها، فجعل كل أعمال عنايته حلوة في عينيها، وبالتالي نافعة.

وبمحبته دعاها الله حسب قصده، فعملت كل الأشياء لخيرها الروحي، فكرست حياتها للرب، والرب تنسم من تكريسها رائحة الرضى، فشفاها من شللها، لتكون شهادة حية لعمل نعمته.

2- تحطمت حياتها

كانت السيدة تجلس في مواجهتي. وما أن ألقيت نظرتي الأولى على وجهها، حتى انجذبت إليها. كان في وجهها عدة ندوب، فحاولت أن أعرف السبب. أهو حادث سيارة؟ أم حادث قطار؟ أم مرض خطير؟

لقد ثرثرنا خلال السهرة كلها، وتكلمنا في عدد عديد من المواضيع، لأنني كنت ضيفتها في ذلك المساء. وحين أوشكت سهرتنا بلوغ نهايتها قالت:

- أرأيت وجهي. إن كنت غير متعبة، فبودي أن أخبرك كيف صارت إليه هذه الندوب.

- كلا لست متعبة، قلت لها. ولي رغبة في الاطلاع على ما حدث لك.

عندئذ سردت علي القصة التالية.

- إنني كما ترين وحيدة في الحياة، ولكنني كنت قبلاً زوجة سعيدة، وأماً سعيدة. كانت لي ابنة وحيدة جميلة، وكانت لي سبب فرح عظيم. وكنت أحبها بشدة، هاك هي- ثم تناولت صورة كبيرة لفتاة في الرابعة عشرة رائعة الجمال، جالسة محتضنة قيثارة- كانت البنية تتمتع بمواهب موسيقية كبيرة، وكنت أنتظر لها مستقبلاً زاهراً.

غيور من ابنته

هكذا انتشر ظل قاتم على منزلنا! فبغتة صار زوجي غضوباً مرهباً. يا للهول! إنه صار غيوراً من ابنتنا، من ابنته العزيزة!

ولك أن تعجبي! فكل كلمة رقيقة، وكل لمسة حب كنت أخص بها الفتاة، كانت تثير سخطه إلى درجة الفوران بالغضب. هذا مع أنني كنت أؤكد بأنني أحبه أيضاً بشدة. كانت حياتي مليئة بالقلق، إذ كنت موزعة بين عاطفتين، وممزقة بين واجبين، متغايرين إلى حد ما.

في ذات يوم أصيبت ابنتي بمرض، فكان علي أن أهتم بها نهاراً وليلاً. الأمر الذي ملأ قلب زوجي بالمرارة. وجعل الفاجعة ترتسم، وكأنها أمر محتوم. لقد بدأ يكره البنت، بسبب العناية التي كان علي أن أبذلها لها، والوقت الذي كرسته لتمريضها. ولكن لم يمض وقت طويل، حتى توفيت الفتاة. وبوفاتها غرقت في هاوية من اليأس.

وفي اليوم الذي تلى الدفن، وفيما أنا في البيت مفعمة القلب حزناً، دخل زوجي شاحب الوجه، ترتسم على محياه علامات الوقاحة.

- أما زلت تفكرين بهذه البنت وتنسينني؟ أليس كذلك؟ قال في همجية! حسناً جداً، هي ماتت، وسأرسلك لتلتحقي بها.

طلقة رصاص، ثم الغيبوبة

انتضى زوجي مسدساً، وأطلق النار. فشعرت بألم شديد في الرأس، ثم غبت عن الوجود.

لم أعرف ماذا حدث، إلى أن ألفيت نفسي في المستشفى بعد ساعات، ورأسي ووجهي تغطيهما الضمادات البيضاء.

وشيئاً فشيئا بدأ يدور في خاطري ذكر باهت لما حدث. ولكن كيف انتهى الأمر؟ لست أدري، ولكن لما انوجد الطبيب بالقرب من سريري استطعت أن أتمتم بصوت أقرب إلى الهمس.

- وزوجي أين هو؟

رمقني الطبيب نظرة عطف مزيج بالرثاء، ثم أجاب بلطف:

- لقد أفرغ الرصاصة الأخيرة في قلبه فمات.

وبعد فترة من الصمت، استأنفت صديقتي:

- إنني بالجهد أستطيع أن أصف لك مجريات الأسابيع التي تلت الحادث. ولكنني كنت أود شيئاً واحداً، أن أموت.

والحق أنني لم أكن بعيدة عن الموت، ومع ذلك عشت!

ولكن في أي يأس، وفي أية ظلمة، وفي أية مرارة نفس؟!

جاء اليوم الذي أزيلت فيه الضمادات عن رأسي ووجهي... وقتئذ رأيت في وجهي الصورة التي سأبقى عليها إلى نهاية عمري. ولكم لعنت زوجي في تلك الساعة!

في أحد الأيام، وفيما أنا ذاهبة لأتسوق بعض الحاجات، شاهدت جمعاً من السيدات المنتسبات لجماعة الخلاصيين. وسمعتهن ينشدن بعض الترانيم بأصوات جميلة. كن يعتمرن قبعات غريبة الشكل، مع لباس لم أر قبلاً مثله. ولكن كانت وجوههن تعبر عن ابتهاج وسعادة، إلى درجة أنني انجذبت إليهن. ولما توقفن عن الإنشاد، أعلنت إحداهن عن إقامة اجتماعات انتعاشية في إحدى قاعات المدينة الكبرى. فصممت على الذهاب إلى هناك.

المسيح في المنزل الذي خرب

مساء بعد مساء، كنت أحضر تلك الاجتماعات الانتعاشية التي لاقت اهتماما عندي.

وما سمعته من ترانيم مبهجة، وشهادات عن عمل نعمة الله في النفوس، عمل فيّ ولاشى الوحشة من قلبي.

كانت السيدات الخلاصيات يتكلمن عن يسوع، عن حبه، عن صبره، وعن جهاده لكي يجدنا، وعن سلطانه لغفران خطايانا.

سرعان ما عملت النعمة في نفسي، وتدريجياً أخذت رغبة كبرى تجتاح قلبي لكي أعرف يسوع. ولكن المرارة الهائلة والحقد الدفين ضد زوجي، وقفا في وجه رغبتي. ونجم عن ذلك صراع عنيف في داخلي.

بيد أنني في إحدى الأمسيات، جمعت فلول شجاعتي، وتقدمت إلى المقعد الأول في القاعة، الذي يطلق عليه اسم مقعد التائبين.

ولم ألبث أن جثوت على ركبتي، ورحت أرسل الدموع مدرارا وتلك الدموع البيضاء عينها عملت على تحطيم حقدي وقساوة قلبي. وحين ركعت الرئيسة إلى جواري لكي تصلي معي، أعطاني الرب نعمة وأطلق لساني لأقول له: اغفر يا رب، كما أنا أغفر لزوجي.

يا لها من سعادة تلك التي حلت في قلبي، وغمرت حياتي منذ ذلك اليوم! إنها سعادة مجيدة لا يستطيع لساني أن يصفها لك.

في الأسابيع التي تلت ذلك الإختبار المجيد، خيل لي أن السماء صارت على الأرض. لم أعد أشعر بأنني مهجورة وحزينة. فقد أحدث حضور يسوع في حياتي حلاوة، ليس من هذا العالم. صرت أتكلم إليه في الهدوء الذي يسود المنزل. وهو أخذ يريحني، ويملأني فرحاً. وهل تتعجبوا من كوني أحبه؟

في ما هي تتلفظ بكلماتها الأخيرة، نظرت إليها من جديد، لكنني لم أر الندوب في وجهها، بل رأيت بريق عينيها المتألقتين بسلام الله.

فلورا لارسون

قائدة برتبة عقيد في جيش الخلاص

أيها القارئ العزيز،

في القصة أعلاه، لاحظت أن الغيرة فتكت بمحبة ذلك الزوج ولما تحولت الغيرة في نفسه إلى الحقد، ارتكب جريمته المزدوجة.

الحقد خطية كبرى، لا تجد لها منفساً إلا بالقضاء على الخصم الذي قد يكون أقرب المقربين، كما كان الأمر مع هذا الزوج الذي حقد على ابنته وامرأته.

ومن شرور الحقد أن صاحبه يخزن ذنوبه في ذاته ويختم عليها، وحين يفجرها الغضب تحطم ما حولها.

قال أحد الأفاضل أن صلاة الحقود باطلة، لأنه يطلب الغفران لذاته. وهو لا يغفر. وتعبه جميعه ضائع ولو أنه سفك دمه كما فعل هذا الزوج. والواقع أن الحقد يعمل كحامض الكبريت على إتلاف خلايا الجسم. وكم من صحة ضاعت وأجساد احترقت بنار الحقد.

يا أخي الكريم، خذ المثل من يسوع، الذي ليس فقط لم يحقد على أعدائه، وهم يسمرونه على خشبة الصليب، بل أيضاً سأل الصفح من أجلهم إذ قال: «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ».

قال أحد الأفاضل أن الذي لا يحقد على من أساء إليه، فقد تشبه بالملائكة. وإن قابل الخصومة بمثلها ثم رجع وصالح خصمه، فقد عمل عمل المجاهدين. أما الذي يُحزن إخوته ويحزن منهم، ويمسك الحقد في قلبه، فهو مطيع للشيطان ومخالف لله.

3- المرأة الأعجوبة

هل تصورت كيف تكون الحياة في سجن من الظلام والصمت؟ أن لا ترى، وأن لا تسمع! وأن تجهل كل ما يعمله الآخرون، أو يقولونه، أو يفكرون فيه. وأن لا تكون لك أية وسيلة للاتصال بمن أو بما حولك، إلا حاسة اللمس. أن تحيا هكذا منذ ولادتك، دون أن ترى أي ضوء أو تسمع أي صوت، وأن تكون أعمى وأطرش وأخرس؟!

تصور طفلة صغيرة، تنمو في هذه الحال. وشيئاً فشيئا تلاحظ أن الناس من حولها لا يستخدمون نفس الإشارات التي تستخدمها هي، حين يكونون في حاجة إلى شيء. مع أن هذه الطفلة عاقلة وحادة الذكاء. وإنها حين تلمس وجوه الأشخاص المحيطين بها، تلاحظ أن شفاههم تتحرك، وأن حركاتها تعني شيئاً ما. فما هو هذا الشيء؟ إنها تجهله، ولكنها تريد أن تعرف.

وتمثلاً بالآخرين، راحت هي تحرك شفتيها. ولكن لم يخرج من فمها أي صوت، وبالطبع فإن أحدا لم يفهمها. وتبعاً لذلك، تغلي مراجل الغضب في صدرها. إنها تعاني من ضغط نفساني من وجود سر، لا تستطيع ادراكه. إنها تحاول كشف عالم مجهول، يتحرك فيه الآخرون. ترغب بإلحاح أن تعرف، ولكن بأية وسيلة؟ وكيف تستطيع ذلك، وكل شيء عندها يقبع في ليل الصمت؟

ولكن ها هي الأعجوبة تحصل!... إنها هيلن كلر.

ففي السادسة من عمرها، أُوكل أمرها إلى معلمة من أهل الاختصاص بالمعاقين. وهذه استطاعت أن تعلمها، وتخرجها من عزلتها. فيا للعجب العجاب! إن هذا العالم، الذي كانت الطفلة تحس به كان موجوداً فعلاً.

لقد تعلمت هيلن كلر أن تقرأ على الشفاه، وأن تتلفظ هي نفسها الكلمات التي تتحرك الشفاه بها. وشيئاً فشيئاً صارت تفهم معناها.

كانت البنية جائعة إلى المعرفة، تريد بإلحاح أن تعرف. هذا كان شعارها. ومع سماكة سجنها، فإنها لم تتراجع.

تعلمت أولاً لغة الخرس والطرش، ثم الكتابة على طريقة برايل. وتعلمت أن تتكلم، وتضرب على الآلة الكاتبة، وأن تسبح، وأن تركب الخيل.

في سن الخامسة والعشرين، كانت الأولى بين الطلاب المعاقين. وعند تخرجها بتفوق من الجامعة، كانت قد أتقنت عدة لغات، وألفت كتابين.

في أحد مؤلفاتها، شاءت هذه المرأة الأعجوبة، أن تتكلم إلى الذين نالوا نعمة البصر والسمع والنطق. إلينا نحن الذين أُعطينا هذه الامتيازات، لتخبرنا ماذا كانت ستفعل لو أعطيت عينين مبصرتين لثلاثة أيام فقط:

- كثيراً ما فكرت، قالت هيلن، بأنه سيكون عملاً عظيماً بالنسبة لكل كائن بشري بلغ سن النضوج، أن يصرف بضعة أيام في العمى والطرش. لأن الظلام سيعلمه أن يقّدر أكثر نعمة البصر. وإن الصمت سيعلمه مقدار فرح الإنسان بالسمع.

- لقد سألت مراراً عديدة الذين حولي، عن الأشياء التي يرونها، ومنذ قريب سألت صديقة عادت لتوها من نزهة طويلة في الغابات عما لاحظت أثناء جولتها، فقالت: لا شيء مهم.

- أممكن هذا، قلت في نفسي. أن يسير أحدهم ساعة بين الأشجار دون أن يرى شيئاً جديراً بأن يذكر!

أنا الضريرة يمكنني بالأصابع فقط، أن أكتشف مئات التفاصيل التي تحرك العواطف. إنني أحس بالتناغم اللطيف بين الأوراق، وألامس بحنان قِشر قضيب الأُقحوان الناعم الأبيض، وأداعب قشر الصنوبر الخشن بلطف.

في الربيع، أذهب مع رجاء القلب لأجس الأغصان، مفتشة على البراعم، التي هي العلامة الأولى ليقظة الطبيعة بعد سباتها العميق في الشتاء.

وأحياناً يسعفني الحظ بأن أضع يدي على إحدى الجفينات، متوقعة أن يشرأب من بين سعفها عصفور غريد، كان إلى اللحظة يرسل زقزقته اللطيفة.

وفي أحيان أخرى، يتأوه قلبي، بعد شعوره بهذه الجمالات الرائعة التي لا أراها.

فإن كان من لمسة بسيطة ينجم هذا المقدار من السرور، فكم من جمالات يمكن أن يكتشفها البصير ويسر بها! وقد تصورت الطريقة التي سأتبعها في قضاء وقتي، لو أنني توقفت عن أن أكون عمياء لمدة ثلاثة أيام، مثلاً:

في اليوم الأول، أرى الذين أحبهم، الذين عطفهم وجودتهم تمثل ثمن حياتي. وأزور جميع أصدقائي، وأتأملهم طويلاً، لكي أنقش في خاطري ما يعكس جمالهن الأدبي على وجوههم.

وأركز نظري على طفل صغير، لكي أرى صورة النفس في نداوة البراءة، على عتبة الحياة، التي ما زالت تجهل الجهاد المرير.

وفي الغد عند الفجر، سأحرص على حضور مشهد الآية التي تحرك العواطف، عندما يولد النور من قلب الظلمات. ومع حنجرة مضغوطة بالانفعال، سأكون شاهدة لذلك العناق المدهش، الذي ينتزع الأرض من سباتها العميق.

وسأكرس ما بقي من هذا اليوم لإجراء فحص سريع للماضي والحاضر، لكي أعانق صورة التقدم البشري. ثم أذهب إلى المتحف، لكي أمسك بموجز من تاريخ الكرة الأرضية. وفي القاعات حيث تعرض لوحات الفن، سأدقق النظر بالنفس البشرية من خلال تعبيراتها الفنية.

وفي اليوم الثالث، سأخصص وقتي لعالم العمل اليومي العديم الجمال. فأرتاد الأمكنة المكتظة بالجماهير. وإلى قلب هذه ستتجه خطواتي... وفي منتصف الليل، ستلفني الظلمات بوشاحها الكثيف.

ويقيناً أنني في هذه الأيام الثلاثة القصيرة، ما كان في وسعي أن أرى إلا قسماً صغيراً مما كنت أرجو أن أراه. وحين أعود إلى ليلي الطويل، سأجد غماً بسبب قلة ما عندي من ذكريات عالمكم المنير.

ولو سُمح لي أنا العمياء بإسداء نصيحة للمبصرين، لقلت لهم: أفيدوا من عيونكم، كما لو كنتم ستفقدونها غداً. أفيدوا من آذانكم، كما لو كان الصمم يتربص بكم. ألمسوا كل شيء، كما لو كنتم ستفقدون غداً حاسة اللمس.

تنشقوا عطر الأزاهير، وتذوقوا كل نفحة، كما لو كانت حاسة الشم ستنتزع منكم عما قريب.

اعرفوا أن تستخلصوا أفضل نصيب من حواسكم، وتعلموا كيف تذوقوا أطايب الجمالات، التي منحتكم إياها الطبيعة بسخاء.

أجل لنعرف كيف نتمتع بهذه الامتيازات، التي لا تقدر بثمن، والتي يمنحها الله لنا. ولنعرف كيف نمجّده بها، متذكرين أن كل شيء يأتي منه.

لو كان لهيلن كلر عينان لثلاثة أيام فقط، فلعلها كانت خلال هذا الوقت القصير ستصل إلى اكتشاف أكثر مما اكتشفنا في كل أيام حياتنا.

أتذكر أنني خلال أحد النزهات، توقفت لأتأمل جمال غروب الشمس، وهي تنعكس على صفحة بحيرة بالغة في الجمال. وفيما أنا أتمتع بهذا المنظر النادر المثال، مر بي أحد القرويين. فقلت له: تأمل هذا المنظر الخلاّب، ألا يفتنك؟

اوه! قال القروي، أنت رأيت هذا الآن فأعجبت به، أما نحن الذين نراه كل يوم، فقلما نعيره اهتماماً.

- ب.ج. -

أيها القارىء العزيز،

ألا تسلم معي، بأن العمي والصمّ هم نحن؟ لأننا في الغالب لا نشعر بوجود عالم روحي، أروع بكثير من العالم المحيط بنا. فشمس الله تشرق على الأشرار والصالحين، ومطره يخصب الأرض فتنبت عشباً للبهائم وخضرة لخدمة الإنسان، لإخراج خبز من الأرض. وهذا النسيم العليل، الذي يداعب الغابات الجميلة، حيث تسكن العصافير وتسمع صوتاً من بين الأغصان. وهذه النجوم اللامعة التي ترصع وجه السماء وكأنها مصابيح معلقة. ومع ذلك، فإننا نرى هذا طبيعي لا يستأهل أن نعيره اهتماما.

لعلنا مررنا جميعاً في حالات ضيق، أو في حالات بؤس ولما كنا لا نعرف إلى أي ناحية يجب أن ننظر، رفعنا العيون نحو السماء. وبدون أن نتساءل إن كانت السماء سترسل لنا عونها، صلينا وتضرعنا.

وبعد قليل من الوقت، لاحظنا أن قوة فائقة لا منظورة تتدخل، فشعرنا بأننا مقادون ومحفوظون، ومساعدون. إنه صديق منسي، هذا الذي هبّ سريعاً لإنقاذنا من الضيقات. وإذا ما واجهتنا مشكلة صعبة، فهذا الصديق عينه لا يتوانى عن التدخل لحلها. وإذا ما وقع احدنا في مرض مميت، يأتي سريعاً ويشفيه. هذا الصديق هو يسوع المسيح، الذي وُصف بأنه المُحب الألزق من الأخ.

وليس من شك في أنك اختبرت اختبارات من هذا النوع خلال حياتك. لذلك أسألك: ماذا استخلصت من هذه كلها؟ ربما لا شيء ذا أهمية. أو أنك بعد ما رأيت حدثاً عجيباً حتى صرخت: هذه معجزة! ولكن بعد قليل، نسيت كل شيء دون أن تفكر في أن ما حدث إنما هو نتيجة تدخّل الله.

لقد علّموك في الطفولية، أن الله بار وصالح ورحوم. وأنه من أجلك، قام بأعظم تضحية. إذ بذل ابنه الوحيد، لكي يخلّصك وتعلم أن المخلّص الإلهي مات على الصليب، بعد أن تحّمل أشد ألوان العذاب، وأن لدمه الذي سُفك القدرة لمحو خطاياك مهما كانت. لقد كلموك عن حبه العجيب، وسمعت نداءاته، فما هو ختام الأمر بالنسبة لك؟

إن ما ينقصنا جميعاً، هي العيون والآذان. عيون وآذان داخلية، تجعلنا قادرين أن نميز البركات الممنوحة لنا من الله.

لو كانت لي عينان لثلاثة أيام، قالت هيلن كلر، كنت سأضع تصميما... وأي تصميم!

هذا التصميم الذي أشارت إليه هيلن كلر، ألا نستطيع تنفيذه باكتشاف هذا الكون المنير، الذي شمسه الله؟

لو أن أنفسنا المقتبسة تتأمل وتصغي بتواضع، فإن الله سيعبر لنا عن ذاته، كما عبّر لتلك الفتاة الشجاعة هيلن كلر.

لأن تلك المرأة الأعجوبة، كانت لها عينان وأذنان روحية. وفي هدوء الليل المحيط بها، كانت تتأمل في حضور الله اللامنظور الذي من أجله كرست كل حياتها.

وكان كتابها المقدس المكتوب بأحرف برايل هو الكنز العزيز الذي تفضله على كل شيء. وقد عاشت حياتها في انتظار العالم الآتي، الذي فيه ستسقط كل معوقات الجسد بالنسبة لها.

أما نحن الذين نتمتع ببركات ليست لتلك المرأة الأعجوبة، كالسمع والبصر والنطق، فليت الرب يمنحنا بصيرتها الداخلية، وإيمانها وشجاعتها.

4- الطبيبة المدمنة على المخدرات

أنا طبيبة أميركية اسمي ليليان ايومانس. وقد صرت مدمنة على المخدرات بسبب خطأي، خطأي الكبير جدا.

لسنين عديدة مضت، كنت مؤمنة بيسوع المسيح كمخلصي. ولكنني كنت كبطرس حين القي القبض على سيده في بستان جثسيماني، اكتفيت بالسير وراءه من بعيد (مرقس 14: 54) لهذا سقطت في هذا الفخ الفظيع.

وأقول لكم يا أصدقائي، إنه لأمر خطير أن نسير وراء يسوع من بعيد. هناك نتيح الفرصة للشيطان، لكي يغربلنا كالحنطة، وأنا اجتزت اختباراً قاسياً محزناً، على حساب نفسي العزيزة في تخلفي عن مواكبة يسوع.

لا فائدة من القول لكم، بأنني لم أفكر إطلاقاً في أنني سأصبح يوماً عبدة للمخدرات. ولكنني خلال اشتغالي الطويل في الطب كجرّاحة، كنت أتناول جرعة من المورفين، حين كنت أواجه صعوبة، لكي أُهدئ أعصابي، وأتخلص من وطأة الأرق.

كنت بلا مراء بدون عذر في لجوئي إلى المخدر لتهدئة أعصابي، لأنني كنت أعلم وأرى ما عمله المخدر من أضرار في أجساد بعض ألمع الأطباء الذين عرفتهم.

لقد ظننت أنني ألهو بالمورفين، وانه لا خطر من تناول بعض الجرعات بين الفينة والفينة، حتى كان ذات يوم حين اكتشفت، ويا لحزني، أنني أصبحت ألعوبة في يد هذه المادة الفظيعة.!

ليس في وسعي إطلاقاً أن أصف الضيق الأليم الذي حل بنفسي، حين كان علي أن أعترف لنفسي بأن المخدر قد امتلكني وأسر إرادتي.

كنت أتناول منه ما يعادل خمسين ضعفاً لما يستطيع البالغ أن يتجرعه. وفوق هذا، كنت أتناول مواداً أخرى مخدرة في زرقات، معدلها أقوى بأربع وعشرين مرة من تلك الذي يصفها الطبيب لإنسان عادة.

حين تأكد لي أنني غير مستطيعة الاستغناء عن المورفين، قمت بمحاولات يائسة لكي أتخلص من ربقته. لقد توصلت بالجهد إلى إنقاص الكمية التي أتناولها. ولكن لم أستطع الوصول إلى الحد الأدنى، الذي أصبح لا غنى لي عنه. ولا أظن أنه في وسع أحد أن يكّون فكرة عن القوة الواجب أن استخدمها، لكي أتخلى عن جرعات المخدر لمدة أربع وعشرين ساعة. وإذا ما فعلت ذلك أصير في حالة يرثى لها من العذاب.

في هذه الحالة ارتجف من الضعف!، ولا أستطيع الوقوف منتصبة، ولا أن أتفوه بكلمة، ولا أقدر أن أوقع اسمي. كانت تنتابني اضطرابات قلبية عنيفة، وكانت أمعائي المرتجفة في داخلي تسبب آلاماً فظيعة، فيغرق جسدي في العرق البارد، فيما كانت روحي تعاني آلاماً مبرحة من الرؤى المخيفة.

وأسوأ ما كان في أمري، هو أن كل خلية من خلايا كياني، كانت تتألم بصورة تعجز اللغة عن وصفها، إذا لم أتناول جرعة المخدر في حينها. والحق أنه ليس في وسع إنسان لم يعرف هذا الاختبار التعيس، أن يكّون لنفسه فكرة عن تلك الآلام.

في الساعة السابعة عشرة (الخامسة مساءً) من كل يوم، كان محكوماً علي بأي ثمن أن أمتص جرعتي من المورفين. يمكنك أن تقص علي ما تشاء عن قوة الإرادة البشرية ودورها في المقاومة، أما أنا فأعلم أنه ليس في مقدورها مقاومة أوامر شيطان المورفين، حين يستولي على إنسان. ولكن ليكن اسم الرب مباركاً إلى الأبد. فقد قال يسوع لخاصته: «هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَاناً لِتَدُوسُوا ٱلْحَيَّاتِ وَٱلْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ ٱلْعَدُوِّ» (لوقا 10: 19). ويسوع له المجد جاء فعلاً إلى نجدتي.

قبل أن أجتاز اختباري السعيد مع يسوع، حاولت سبعاً وأربعين مرة على الأقل، أن أتخلص نهائياً من هذه العادة الشريرة المخيفة، وفي كل مرة كنت أطرح بعيداً عني كل ما تبقى لدي من سم المورفين، مفضلة بالأحرى الموت امتناعاً عنه، على جر نفسي في وجود مذل كهذا.

عرضت حالتي على بعض الأخصائيين، الأكثر شهرة في أميركا. ولكن بالرغم من مداواتهم الأكثر إخلاصاً، لم يستطع أي منهم أن يحطم قيودي. وبعد أن تقبلت عبثاً المداواة الشهيرة المسماة بالذهبية، والواسعة الصيت في هذا العصر، أُرسلت إلى أحدى مصحات الأمراض العصبية. وحين غادرتها، أوصاني الأطباء بأن لا أتخلى عن المورفين، لأنني في كل مرة كنت أحاول فيها الامتناع عنه، كان ينتابني عدم الاتزان العقلي، بصورة تدعو إلى الخوف. حتى أن الممرضة التي أوكل إليها أمر العناية بي، قالت أنني هيكل يسكن فيه الشيطان.

- ولكن ألم تصلي؟ هذا ما يمكن أن تقولوه لي.

- أجل إنني صليت. بل في بعض المرات ما كنت أعمل شيئاً سوى الصلاة. كنت في الواقع أصلي بلا انقطاع تقريباً. في كل ليلة كنت أتمشى في القاعة الكبيرة بمنزلنا، متضرعة إلى الله، أن يأتي لإنقاذي. وفي بعض الأحيان، كنت من شدة التأثر أشد شعر رأسي حتى أكاد اقتلعه.

- ومع كل هذا لم تحصلي على الشفاء، يمكن أن تقولوا لي أيضاً.

- كلا، لم أنل الشفاء، لأنني في تلك الآونة، لم أكن قد آمنت بإعلانات كلمة الله ببساطة. وفي تعبير آخر، إن شفائي ما كان ممكناً إن لم يتم بسبب عدم يقيني بالشفاء الإلهي. وهذا ما كان يمنع قدرة الله من أن تعمل بحرية في جسدي.

- إذن لم يكن عندك الإيمان الكافي لأجل شفائك؟ يمكن أن تسألوني أيضاً.

- هذا هو الواقع، وبعبارة أخرى لم تكن عندي المعرفة الكافية المبنية على تصديق كلمة الله. لأنني لم أتعمق في درس الكتاب المقدس، ولم أتأمل في تعاليمه، حتى يتقوى إيماني. قال بولس الرسول: «ٱلإِيمَانُ بِٱلْخَبَرِ، وَٱلْخَبَرُ بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ» (رومية 10: 17).

لما بدأ الرب عمله العميق في قلبي، كنت قد أصبحت ضعيفة بمقدار أنني ما كنت بمستطيعة أن أغادر سريري. عندئذ وفي هدأة الوحدة، استطاع أن يكلمني. لقد عدت إلى كتابي المقدس، بعد أن هجرته طويلاً. وبدأت أقرأ فيه، وأتأمل في آياته البينات.

في هذه المرة، كنت مصممة على الإيمان بكل ما سيقوله لي الرب، وأن آخذ من يده المنعمة كل ما يعطيني، وأن أفعل كل ما يأمرني به. فليكن اسم الرب مباركاً! فعندما بلغ إيماني هذه المرحلة، صار المستحيل ممكناً. فقد أعطيت الخلاص، ومع الخلاص الشفاء. والحق أنه عندما نكون مستعدين للتوبة الحقيقية ووضع كل ثقتنا في الله، تأتي اللحظة السعيدة، التي فيها يستطيع الرب أن يخلصنا.

إن كان أحد يريد أن يستجوبني لكي يعلم أية فقرة من الكتاب العزيز، عملت بصورة خاصة لتقويتي والإتيان بي لنيل الشفاء، فأقول: إنها قراءة الكتاب المقدس كله.

فكم من فقرة في العهد القديم تعلن نبوياً عن مجيء الرب للخلاص! وتشير إلى آلامه الكفّارية على الصليب.

في أيوب 33: 24 أعلان صريح بأن الله قد أوجد فدية. أي أن شخصاً إلهيا قد أعلن في الأزل عن استعداده للموت، لكي يحمل كل العذابات التي نستحقها.

ويخبرنا العهد الجديد أن الذي تألم هكذا بديلاً عنا هو الله نفسه، الذي جاء في شخص ابنه يسوع المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم (كورنثوس الثانية 5: 19).

وكم من آية في العهدين القديم والجديد، تحدثنا عن الشفاء المعجزي! وهذه كلها عملت فيك كياني، شيئاً فشيئاً، حتى تشربت منها هذا اليقين بأن الله سيشفيني.

هذا اليقين الداخلي نشأ في أمام هذا العدد العديد من وعود الله الصادقة المسجلة في كتابه، والتي جعلتها متكلي. وهذه الوعود صارت فيّ قوة عظيمة حطمت عني قيود عادتي الشريرة تلك.

وهذا السيد الرب الذي قبلته في حياتي، وجعلت وعوده متكلي، عمل في كياني بقوة حتى لاشى من نفسي تلك الحاجة الملحة التي لا تقاوم إلى المورفين، والتي أنشأتها عندي تلك القوة الشيطانية.

في قليل من الوقت عاودتني الشهية إلى الطعام بصورة قوية، حتى أنني في البداية كنت أتناول سبع وجبات كل يوم. وهذه أعادت إلي قواي بسرعة. وأيضاً فاضت نفسي بالتسبيح والشكر للرب. وكثيراً ما رددت في خلواتي، هذا المقطع من تسبيحة العذراء المباركة أم يسوع: «تُعَظِّمُ نَفْسِي ٱلرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِٱللّٰهِ مُخَلِّصِي» (لوقا 1: 46-47).

إن الذي حدث لم يكن من قبيل الصدف، بل كان إعلاناً واضحاً عن الإرادة الإلهية من نحوي. وإنني كثيراً ما فكرت بخدام الله المبلغين رسالته، والذين هم أنفسهم أُنقذوا مثلي، ليس فقط من براثن الموت الروحي، بل أيضاً من الموت الجسدي، بعد أن عجز العلم الطبي عن شفائهم، وتخلى عنهم نهائياً.

المجد للرب المخلص أنفسنا، والطبيب الإلهي العظيم الذي يشفي أمراضنا.

أيها القراء الأعزاء،

في عصرنا الحاضر يوجد عدد عديد من المستعبدين للمخدر الذي يتلف أموالهم وأجسادهم وعقولهم، وأنفسهم العزيزة على الله. إن قصة هذه الطبيبة تحملني على التفكير بالمدمنين على المشروبات الكحولية، الذين لم تبق لهم القدرة على الاستغناء عن الكميات اليومية التي يحتسونها من المسكرات، وبالجموع التي لا يستطيع أحد أن يعدها من المدخنين الذين استعبدوا للتبغ الذي أجمع العلماء على أن تعاطيه يشكل خطراً على الصحة. وبالعدد الكبير الذين اعتادوا على تناول الأقراص من كل نوع، لمحاربة الأرق أو لإراحة الأعصاب. وأخيراً بذلك العدد من الناس الذين يتناولون سراً مواداً مخدرة منهى عنها بسبب قوتها على الفتك بالناس.

وانطلاقاً من تفكيري بهؤلاء جميعاً، أنشر قصة هذه الطبيبة المدمنة على المخدرات، والتي أُنقذت من ولعها بالمخدر بقوة يسوع المسيح الحي.

أنا أعلم أنه ليس من إنسان يستطيع بقواه الشخصية أن يتخلص من بعض العوائد الضارة. ولكن استناداً على اختبار هذه الطبيبة أستطيع أن أقول لكل مستعبد لعادة سيئة: تشجع يا صديقي، فإن الرب يستطيع من أجلك ما يبدو مستحيلاً في التقدير البشري.

5- كنت ميتة وأنا الآن أحيا

لقد مرت الحرب المخيفة، ونحن الآن في اليوم الذي يسبق الفصح. لقد عبرنا شتاءً طويلاً مليئاً بالكسل والخمول والرشوحات، وهذه كلها أدت بنا إلى تثبيط العزائم.

ولكن ها قد وصلنا إلى نهاية الفصل المحزن، والربيع جاء، هوذا الكل قد صار جديداً!

في الحقول والغابات، انطلق فرح جديد. البارحة كان كل شيء ميتاً، واليوم الحياة والصحة والفرح.

في كل مكان في الطبيعة بعث جديد وقيامة جديدة! في المزرعة المسماة "بالمكان الجميل"، والتي تحتمي وراء الرابية ضد العواصف، حيث يستطيع المرء أن يحس بفصل الربيع ويتمتع بجمالاته. أما البساتين والحقول والغابات القريبة، فكما في كل عام تقدم محصولاً وفيراً من الأزهار والرياحين، للفتيات الكشافات، اللواتي يجمعن الزهر، ويضعنه في سلالهن، بعد تنسيقه في طاقات مختلفة الأحجام. وهذه الأزاهير الفواحة الجميلة، كانت تقدم في يوم الفصح هدايا للمستشفيات في المدن الكبيرة.

في ذلك اليوم العظيم، خرجت من المزرعة سيدة متدثرة بثياب الحزن وبعد أن اجتازت البستان القريب، وقفت قرب الجدار الذي يفصل أملاك المزرعة عن الدرب المتصل بالطريق العام. وراحت السيدة تسرح نظرها فوق السهل، كما صارت لها عادة أن تفعل، منذ أن نشبت الحرب، والتحق ابنها هيرفي بفرقته.

إلى طرف السهل الممتد، كان موزع البريد يصعد الهضبة ببطء تحت ثقل الرسائل والرزمات البريدية الصغيرة، التي كانت تكتظ بها حقيبته.

وعلى السابلة القريبة، كان يرى تراكض الجنود الذين عادوا من الجبهات لتمضية إجازة بين ذويهم. من هناك أيضاً، جاء الخبر الفظيع، الذي جعل حياة سيدة المزرعة خالية من كل فرح، وبدون هدف، وبدون رجاء.

خلال أشهر متعددة لم تشأ أن تصدق الخبر المشؤوم. خبر مصرع ابنها في إحدى المعارك. كانت تحاول اقناع نفسها بأن الخبر غير صحيح، وأن الابن الحبيب سيعود، ولكنه للأسف لم يعد!..

لقد جاء ابن جارتها وصديقتها منذ الطفولة، التي كانت تحسبها كأخت لها. كان الفتى العائد قد حصل على وعد الزواج من ابنتها ماري آن. ولكن حين رأته تلك الأم المسكينة، عرف قلبها عذاباً جديداً. فقد نشبت في قلبها غيرة شديدة، والغيرة لم تلبث أن صارت حقداً شديداً على العائد. وتمرد قلبها على الله، لأنه سمح بهذا المصاب. لماذا الله حافظ على هذا الشاب، الذي لم يكن أحد في انتظاره، لأن أمه قد ماتت من الحزن الذي سببه فراق ابنها الوحيد... وأنا لماذا لم أمت من الحزن؟ قالت السيدة التي ثكلت ابنها.

كانت السيدة في حالة سيئة جداً، لأن الغيرة السوداء أكلت كل ما عندها من عواطف خيرة.

كانت مزرعة المكان الجميل في السابق، مبتهجة جزلة ومضيافة. واليوم صارت مقراً للحزن، والصمت والكدر. لقد هجرها أصدقاؤها، الذي كانوا يأمونها في فصل الربيع... وماري آن؟ لم تعد موضوعاً لاهتمام أمها. فأصبح شبابها خالياً من أدنى أسباب الفرح، وكان قلبها يتحطم، كلما فكرت في خطيبها، الذي لم يكن في وسعها أن تكلمه. لأن والدتها منعته من دخول المزرعة. وكان على الفتاة المسكينة، أن تتحمل بصبرها كل هذه المحن، التي لم تستحقها. ومع ذلك، لم تحقد على أمها بل صفحت عنها، لأنها تعلم كم تألمت تلك الأم المفجوعة! وكانت تعلم أن خطيبها «يان» في نظر أمها مختلس، يحاول أن يحتل مكان الابن الحبيب الذي لم يعد. لذلك كانت الفتاة ووالدها يتجنبان مجابهة تلك الأم المتمردة المسكينة، وإنما كانا يصليان من أجلها.

انتهت الفتيات من قطف الأزهار، ودخلن غرفة سيدة المزرعة. وفيما هن يتجاذبن أطراف الحديث، تسللت إحداهن وكانت صديقة لماري آن إلى الزاوية حيث وضعت الصورة الفوتغرافية التي تمثل الجندي الذي غاب بشبابه وجماله الحيوي. فوضعت الفتاة في أسفل الصورة ضمة صغيرة من النبفسج، مرفقة ببطاقة، كتب عليها هذه الكلمات: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ». وختمت الكل بهذه العبارات: «لقد قام».

وفيما الفتاة عائدة، كانت تسائل نفسها، إن كانت قد فعلت حسناً بوضع تلك الزهيرات هناك، وإن كانت الكلمات التي كتبتها على البطاقة مناسبة؟ بيد أنها لم تستطع لملمة هدوئها إلا بعد أن سلمت الأمر كله لله في صلاة صامتة.

ولما دخلت السيدة كيراردي غرفتها، لاحظت حالاً وجود الزهرات. وأول حركة صدرت عنها، أنها تناولت الزهرات، ورمت بها من النافذة، وقالت: من إذن تجرأ على الاقتراب من صورته؟ فيما هي تتساءل، وقع نظرها على الآية المكتوبة على البطاقة. وعندئذ حدث شيء في داخلها. فراحت تتمتم، مرددة الكلمات بصوت مضغوط... "حتى بذل ابنه الوحيد..." إذن الله أيضاً اختبر ذات التضحية وتجرع الآلام عينها! لذلك يقدر أن يدرك آلامي، وقد أدرك فعلاً.

قضت وقتاً طويلاً في الغرفة، ترقب الشمس وهي مائلة إلى الغروب. وأخيراً، قالت لزوجها: سأسهر هذا المساء.

ولما حان وقت النوم، ألقى زوجها نظرة قلقة عليها. فهو عالم بالاختبار، أي نوع من السهر تمارس... كانت تقبع في الظلام، وحيدة مع اليأس. تئن وتكتئب، وحين تخرج من عزلتها القاسية تكون أكثر ضعفاً وأقل شجاعة على احتمال أوصابها.

أما السيد كيراردي وابنته، فلم يقولا شيئاً. ولكنهما وضعا كمية من الحطب بقرب الموقدة، وشالاً أبيض على المقعد العتيق. ثم انسحبا بقلب مثقل، ليصليا من أجل تلك التي هجرت الصلاة.

بيد أن سهرة السيدة كراردي، لم تكن كسابقاتها. ففي هذه المرة ذهبت أفكارها إلى الله، الذي هجرته، وتقريباً جدفت على اسمه! وشيئاً فشيئاً استعادت نشاطها، فركعت على ركبتيها وسكبت نفسها أمام عرش النعمة. وصرخت إلى الرب بتوبتها، ملتمسة الغفران. وحين رفعت رأسها كانت الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديداً.

في الصباح لما دخل السيد كيراردي المطبخ، وجد أن الهدوء التام سائد فيه. وبدون أية جلبة، أخذ هو وماري آن يعدان طعام الفطور. أما السيدة كيراردي فلما استيقظت، لم يبد على وجهها أي أثر للانفعال. وحين جلست إلى المائدة، تناولت فنجان القهوة من يد ابنتها وشربته. ثم استدارت نحو زوجها وقالت يجب أن نسرع بإعداد كل شيء فإني ذاهبة إلى الكنيسة في هذا الصباح. وكمن أخذ بالمباغتة نظر إلى زوجته باندهاش دون أن يقول شيئاً لأن الدهشة عقدت لسانه. وتحولت السيدة إلى ابنتها وقالت: يمكنك أن تذهبي إلى خطيبك يان وتخبريه بأن في استطاعته أن يأتي معنا.

اوه ماما! هتفت ماري آن، وقد تلألأت الدموع في مقلتيها، ولم تلبث أن عانقت أمها وهي تقول شكراً، شكراً.

عندئذ اقترب السيد كيراردي من زوجته ومد يده وربت على كتفها، متمتماً: ليتمجد اسم الرب! نعم ليتمجد اسم الرب، قالت السيدة- كنت ميتة فعشت، المسيح قام! ولما قالت هذا كانت ابتسامة حلوة، تتألق على وجهها الذي فتك به الحزن.

أما يان المسكين، ففي غمرة انفعاله وشدة اضطراب نفسه، لم يجد نفسه قادراً على التعبير عن فرحه وامتنانه، خشية من أن يكدر قلب الأم التي تألمت بهذا المقدار.

كان القس جاك منذ أمد بعيد راعياً للطائفة، في تلك الناحية. وكان معظم الأحيان، يصادف الكثير من الأسباب، التي تضعف العزائم، وفي مقدمتها التشويش الحاصل بين الرعية. في ذلك اليوم بالذات، كان قد أعد عظته بدون حماس. وكان موضوع رسالته مأخوذا من قول المسيح: «كَمَا أَحَبَّنِي ٱلآبُ كَذٰلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا. اُثْبُتُوا فِي مَحَبَّتِي» (الإنجيل بحسب يوحنا 15: 9).

كان القس وشيكاً أن يتكلم، حين أطلت عائلة كيراردي، فبوغت وعقدت الدهشة لسانه. لأن حضور سيدة المزرعة وخطيب ابنتها، يبرهن أن شيئاً ما قد حدث. وأي سلام، وأي فرح ذاك الذي شاهد القس آثاره على وجوه أفراد العائلة! لقد أدرك مرة أخرى، مدى ما تفعله قوة الله. فالنور قد انتصر على الظلمة... يسوع انتصر، هللويا إنه قام! وكمجاهد شجاع تهيأ للمعركة، انتصب القس جاك. لم يتل العظة التي كان قد أعدها، بل ارتجل عظة جديدة، متكلماً بلهجة جديدة، باغت بها السامعين. لقد تكلم عن انتصار الحياة الجديدة، التي تعطى للتائبين، الذي قاموا مع المسيح، ومع القيامة نالوا الفرح المجيد.

عملت العظة المرتجلة في بقية السامعين، الذين أخذوا بقوة جديدة، أخرجتهم من غفلتهم وخمولهم، الأمر الذي بدا جلياً في ترنيمهم، الذي ظهرت فيه نبرات جديدة، لا تند إلا عن نفوس، أيقظتها نسمة الروح القدس المحيية.

حين عادت السيدة كيراردي إلى المنزل، جلست على عتبة المطبخ في دفء الشمس، وفي يدها الكتاب المقدس.

- هذا أفضل أيتها الجارة! قال صوت مفاجئ. يمكنك القول، انك أتيت لنا بمفاجأة هذا الصباح. لم أكد أصدق عيني، حين رأيتك في الكنيسة ويان جالس معك على ذات المقعد!

لا بد أن يخيل للناظر أن نزعة مزاجية، تحركت لدى السيدة كيراردي وهي تسمع، ولكنها مع ذلك لم تنفعل، بل سيطرت على عواطفها. كانت سعيدة وهادئة فلماذا تعكير المزاج من تصرف هذه الجارة المقتحمة؟

والواقع أن هذا الشعور المتضايق لم يطل، بل سرعان ما تلاشى، تاركاً المجال لشعور أعمق، هو شعور الرأفة نحو محدثتها، التي تعيش هي الأخرى في ضجر وتعاسة. وبدون تردد، أحاطتها علماً بالاختبار الذي جازته في تلك الليلة.

أصغت الآنسة تيل بكل اهتمام، إلى حديث السيدة كيراردي. فتأثرت جداً بما سمعت، ولم تلبث أن تمتمت بلهجة يشوبها الأسف.

- ما أسعدك يا سيدتي! إنني لأتمنى بشوق الروح أن أكون مثلك!

- إن ما عمله الرب من أجلي، يريد بكل رغبة أن يفعله من أجلك، قالت السيدة كيراردي بتأثر. لأنها لم تتعود قبلاً، على أن تظهر مشاعرها الشخصية للغير.

بعد هنيهة من التأمل، أخذت الفتاة العانس يدي السيدة كيراردي بيديها وقالت باهتمام:

«هوذا الكل قد صار جديداً! شكراً، لأنك قلت لي كل هذا». وقبل أن تغادر المكان استطردت قائلة، غداً صباحاً سأذهب مع الفرس العجوز لكي آتي بأخي وعائلته، ليمضوا يوماً معي في الريف. لأن هذا سيكون مفيداً للأولاد.

لم تسمح قبلاً لامرأة أخيها ولا للأولاد أن يطأوا عتبة المنزل العائلي. فقد اختلفت أفراد العائلة على أمور مادية، منذ أن توفي السيد تيل الأب. وهذا ما عكر الصلات بين الأخت وأخيها. ولم يشأ أي منهما أن يكون البادئ بالخطوة الأولى في اتجاه المصالحة.

ولكن اليوم، بدأت زهرة القيامة أن تنبت وهذا هو روح ربنا الذي يعمل، وقريباً سيجني الثمار.

إلى زمن ليس ببعيد، كان من عادة سكان «بريتان» أن يستخدموا المطبخ كقاعة طعام، وكغرفة للنوم أحياناً. ففي مطبخ فسيح، جلس السيد كيراردي بالقرب من صديقه برنارد العجوز المريض بالشلل. وبعد أن حياه بحرارة، بدأ يقص عليه كل ما حدث في مزرعته.

وكانت في المطبخ المدخن ابنة أخي المريض، وهي امرأة فارعة الطول، قاسية الملامح، حادة النظرات، فهذه السيدة كانت تجلس في جوار عمها، تراقب النار المشتعلة في الموقد. وفيما هي هناك، كانت تصغي بانتباه، بحيث لا تفوتها كلمة مما يقال. وقد عرف عنها أنها تبذل العناية لعمها، ولكن بتقتير، منتظرة وفاته بفارغ الصبر. لكي تحصل على الميراث، الذي طالما اشتهته بإلحاح. بيد أن الحديث بين الصديقين أخذ يعمل في أنانيتها، ويلاشي تحفظها شيئاً فشيئا.

كانت بعض مقاطع الحديث تتجاوز مفهومها، ولكن لهجة السيد كيراردي الجزلة، والفرح الذي ملأ كيانه بعودة السلام إلى بيته لمس قلبها. وجعلها تصغي بكل احترام، حين بدأ الزائر بتلاوة كلمة الله. وهكذا تجاوبت عواطفها مع الصلاة الحارة، التي رفعها بعد التلاوة. كانت الكلمة عاملة في نفسها لخشوع مشوب بالاضطراب، استولى على كيانها فترة من الوقت، قضتها في صمت.

وفي المساء فيما هي تقدم الطعام للعجوز، لوحظ أنها كانت تفعل ذلك بصبر ولطف، لم يعرف سببه. ولكن الذي حدث، هو أن نسمة الروح القدس المحيية، قد هبت على هذه المرأة الجافة البخيلة أيضاً. فلطفت طباعها وغيرت ما في نفسها. ويبدو أن عدوى التجديد الذي حصل في بيت كيراردي، قد انتقل إليها.

ومن جبل إلى جبل، ومن هضبة إلى هضبة هبت ريح الله على المنطقة حاملة الكلمة المنعشة «قيامة» إلى كل نفس ما زالت تقبع في الظلمة. فيسوع نور العالم، جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك.

قيامة، يا للكلمة المجيدة! الأشياء العتيقة قد مضت. نفس قبلت يسوع مخلصاً وهوذا الكل قد صار جديدا.

قيامة، كنت ميتاً وأنا الآن حي.

الفخ انكسر وأنا انفلتت، انفلتت من شراك العصيان والحقد، الذي كان آخذاً بخناقي، وأنا الآن أحيا.

أتمنى للجميع الرجاء الحي، بقيامة يسوع!


Call of Hope 
P.O.Box 10 08 27 
D-70007
Stuttgart
Germany