العودة الى الصفحة السابقة
وكما رفع موسى الحية في البرية

وكما رفع موسى الحية في البرية

قصص من الحياة جمعها وعلق عليها اسكندر جديد

اسكندر جديد


Bibliography

وكما رفع موسى الحية في البرية. اسكندر جديد. Copyright © 2007 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . 1972. SPB 8030 ARA. English title: And as Moses Lifted up The Snake in The Desert. German title: Und wie Mose in der Wüste die Schlange erhöht hat. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 D - 70007 Stuttgart Germany http://www.call-of-hope.com .

1- اللوحة التي خلصت الكثيرين

دخل رسام مشهور في حوار كبير مع الاب هيجو كاهن كنيسة القديس جيروم الغنية. كان الرسام شاباً له صيت كبير جداً. إلا أنه لم يكن قد اشتهر بعد كقمة في المواضيع المثالية. وكحريص على مصالحه، دخل مع الأب في نقاش حول ثمن اللوحة التي طلب إليه أن يرسمها.

- قال الفنان: كلا يا أبتِ المحترم. إن الثمن الذي تعرضه علي غير كاف. فمشهد الصليب كبير جداً، وموضوعه ليس من السهل معالجته.

- قال الاب: أنا لا أحدد الثمن، فأنت رجل شريف. ولسنا نحن الذين ندفع الثمن، بل تبرع به رجل تائب.

- قال الرسام: إن هذا يغير الأمور. تعال إذن يا أبت بعد شهر، فتجد اللوحة حاضرة.

هكذا افترق الاثنان، وهما مسروران، الواحد من الآخر. بعد ذلك الحوار كان دومنيكو (اسم الرسام) يُرى أحياناً متجولاً في حي اليهود، باحثاً عن وجوه تصلح أن تكون نماذجاً لأشخاص اللوحة.

وأتمَّ رسمها...

وفي الربيع ذهب إلى الريف، ليستقي من مناظر الطبيعة بعض المزّوقات اللازمة للوحة. وفيما هو يعمل، شاهد عند طرف الغابة غجرية منهمكة في صنع سلة من القش. كانت الفتاة جميلة جداً، وشعرها الأبنوسي اللون، يتدلى على ظهرها في قرون طويلة، تكاد تلمس كعبيها. وكان فستانها بألوانه الحية، يضفي شيئاً من المهابة على منظرها التصويري.ولعل أروع ما فيها عيناها السوداوان، اللتان كان بريقهما يعبر عن مشاعرها بومضات مختلفة.

- أي لوحة جميلة يمكن أن تتحقق لو رسمت هذه الفتاة! قال الرسام في نفسه. ولكن من يشتري صورة غجرية؟ لأن هؤلاء الناس مبغضين من سواد أهل مدينتنا.

لاحظت الغجرية وجود الرسام، فتوقفت عن العمل، ونهضت رافعة ذراعيها إلى أعلى. ثم راحت تفرقع بأصابعها لكي تضبط إيقاع الرقصة، التي بدأت بها.

- قفي! قفي! صرخ دومنيكو.

وفي الحال رسم خطوط الفتاة الراقصة، رافعة ذراعيها برشاقة ولا أروع!.. كانت الوقفة على هذه الصورة متعبة. ولكن الغجرية الحسناء، لم تتحرك إلى أن سمح لها الرسام.

متأثراً بسلاسة قيادها، قرر الفنان أن يرسم لها صورة في هيئة راقصة اسبانية. ولتحقيق هذا الهدف، عقد معها إتفاقاً يقضي بمجيئها إلى مرسمه ثلاث مرات في الأسبوع، لقاء أجر محترم.

وقد تميزت الفتاة بالدقة في مواعيدها. إذ وصلت في الوقت المعين. ولما سرحت نظرها في أرجاء المرسم، أعجبت بالأشياء الجميلة التي يحتويها. وحين تفرست في اللوحات، استلفت نظرها لوحة الصلب. فراحت تتأمل فيها خلال عدة أيام، دون أن تجسر على التفوه بكلمة حولها. وأخيراً جمعت شجاعتها، وسألت:

- صورة من هذه؟

- إنها صورة المسيح، أجاب الرسام.

- ماذا يفعلون به؟

- إنهم يصلبونه. ولكن أنتِ، هيا استديري قليلاً إلى اليمين. نعم هكذا أفضل. وفيما دومنيكو يعمل بريشته، ويتكلم بإيجاز، قالت الفتاة:

- من هؤلاء الأشخاص المحيطون به، ولهم هذه الوجوه المطبوعة بالخبث؟

- رويدك! قال الرسام، أنا لا أستطيع التكلم دائماً فيما أنا أعمل. وأرجوك أن تبقي في الوضع المناسب، كما طلبت إليك.

عندئذ كفت الغجرية عن الكلام، إلا أنها لم تكف عن النظر إلى اللوحة، وهي تتخيل كثيراً من الأشياء في وحيها.

وفي كل مرة أتت إلى المرسم، كان اهتمامها باللوحة يزداد، ويكثر معه تساؤلها عن سبب صلب المسيح. وقد لوحظ أنها كانت تطرح هذه الأسئلة، لتشبع جوع فضولها المفترس.

- لماذا صلبوه، ألأنه كان شريراً جداً؟ هكذا سألت الفتاة، التي عيل صبرها.

- كلا، أجاب الرسام بلهجة التأكيد. على العكس، كان صالحاً جداً.

ولكنها إذ لم تجد في الجواب ما يشبع رغبتها، سألته بلهجة تعبر عن ازدياد فضولها لمعرفة الحقيقة:

- إن كان صالحاً كما تقول، فلماذا صلبوه؟ وهل أطلقوا سراحه قبل أن يموت؟

- اوه! صرخ الفنان متضجراً. ثم صمت وأدار رأسه لكي يضع لمسة على أحد أقسام اللوحة. بعدئذ التفت نحو الفتاة، فرأى في بريق عينيها الرغبة الملحة في المعرفة، مما أثار شفقته عليها فقال:

- اسمعي! إني سأسرد عليك القصة بكاملها. وبالمقابل أسألك، أن لا تطلبي مني شيئاً آخر. وهكذا قص عليها حياة مخلص البشر المدهشة.

كل شيء كان جديداً بالنسبة لببيتا (اسم الفتاة) مما سهل على الرسام أن يحيطها علماً بآلام وموت يسوع. ومع ذلك فإن هذا الأمر، لم يكن بالنسبة له إلا قصة عتيقة. أما ببيتا، فقد تأثرت بها وفاضت عيناها بالدموع، التي استطاعت خيلاؤها أن يكبتها إلى الآن.

وحين قامت ببيتا بزيارتها الأخيرة للمرسم، كان دومنيكو قد انجز لوحتي الصلب والراقصة الإسبانية. ولكن ببيتا، لم تنتبه إلى صورتها الرائعة، لأن عينيها لم تستطيعا التحول عن وجه المسيح المصلوب.

- خذي، هوذا المال المستحق لك. وإليك هذه القطعة الذهبية علاوة، قال الرسام. لأنك جلبت لي حظاً طيباً. فالراقصة الاسبانية بيعت وسيأتي الشاري لاستلامها. أما أنت، فكنت أروع نموذج. فاستدارت الفتاة بلطف لتغادر المكان:

- شكراً لك يا سيدي، قالت المسكينة والدموع تملأ عينيها. لا بد أنك تحب هذا اليسوع كثيراً، لأنه عانى كل هذه الآلام لأجلك؟

فاحمر وجه الفنان تأثراً، لأنه لم يفكر أبداً في هذه المسألة، التي تتوقف عليها حياته الأبدية.

ذهبت الفتاة، ولكن كلماتها الأخيرة بقيت ترن في قلب الرسام. ومع أنه أرسل لوحة الراقصة الإسبانية إلى صاحبها، إلا أنه لم يستطع نسيان هذه الكلمات "أنه عانى كل هذه الآلام لأجلك".

وتوخياً للتخفيف عن نفسه، وزع قسماً من ثمن اللوحة للفقراء، وهذا التوزيع كان بالفعل سبباً لهدوئه.

ولكن السؤال الأزلي، طُرح من جديد في أعماق نفسه:

" لا شك في أنك تحبه، أليس كذلك؟".

لم يبق في استطاعته أن يشتغل. وتبعاً لذلك، كان عليه أن يخرج للتخفيف عن نفسه. وفي أحد الأيام، حين خرج، شهد جماعات من الناس، يأتون من كل صوب، ويدخلون بيتاً متواضعاً. ولما سأل عما يجري هناك، قيل له أن بعض المبشرين يعقدون اجتماعاً انتعاشياً. عندئذ وجد أن الفرصة سانحة، لكي يسمع شيئاً جديداً. وبالفعل فإن عظة المبشر وجدت انتباهاً كلياً لدى دومنيكو. فثابر على تلك الاجتماعات، إلى أن انتهت.

وهناك فهم معنى الإنجيل، وسرعان ما سكن الإيمان الحي في قلبه. بحيث لم يصبح في حاجة إلى البحث عما يخفف من أوصابه. فقلبه امتلأ حباً لذاك الذي عانى الآلام لأجله. ولكن كيف يحدث الآخرين عن هذا الحب العظيم، الذي لا يعرف الحدود؟ إنه لا يحسن الخطابة، ومع ذلك، كان يود أن يخبر الناس عما فعل الفادي لأجله.

وفيما هو يفكر، ويطرح على نفسه مجموعة من الأسئلة حول هذا الموضوع، راح يحرك ريشته بصورة آلية، فرسم رأساً مكللاً بالشوك. وما أن تأمل في الرسم الذي صنعته يده، حتى فاضت عيناه بالدموع. وفجأة دارت فكرة جديدة في خاطره، فقال في نفسه والبهجة تملأ قلبه:

- إنني أستطيع أن أرسم، وريشتي تعلن عن حبي. ففي لوحة الصلب عبرت عن آلامه وموته، والآن يجب أن أعبر عن رأفته اللامتناهية. وأن أترجم تضحيته الاختيارية، وحبه الذي لا يستقصى.

قال هذا وجثا على ركبتيه، وسأل الرب الإلهام. ثم قام وبدأ يعمل، فأخرج لوحة جديدة للصلب، صارت قمة في الفن. وبالرغم من المبالغ الضخمة التي عرضت عليه، فإنه لم يشأ أن يبيعها. ولكنه قدمها هدية لمدينته. فوضعها المسؤولون في المتحف. فصارت عظة خلاصية للعديدين من رواد المتحف. وكان قد كتب على إطارها هذه الكلمات:

عملت كل هذا لأجلك،

وأنت ماذا عملت لأجلي؟

وكان دومنيكو يأتي إلى المتحف باستمرار، لكي يرى التأثير الذي تحدثه اللوحة في نفوس الزائرين.

وذات يوم رأى فتاة تبكي بمرارة وهي تتفرس في الوجه الإلهي ومن فوقه إكليل الشوك. فدنا الفنان منها وسألها:

- لماذا تبكين، يا بنيتي؟

فأدارت وجهها نحوه، وإذ هي ببيتا.

- آه يا سيدي! قالت وهي تشير إلى الوجه المطبوع بالجلال، لو أنه فقط استطاع، أن يحب غجرية مسكينة نظيري!

- ولكنه يا ببيتا فعل، فهو أحبك فعلاً. ومن أجلك أيضاً تألم ومات. ثم طفق دومنيكو يكلمها عن محبة الله، إلى أن حان وقت إقفال المتحف. فقبلت ببيتا الحقيقة المجيدة في قلبها. وحصلت على السلام والفرح، الذي يعطيه خلاص الله.

مضت سنون عديدة بعد أن اجتمع الفنان والغجرية في ديار الرب التي أعدها الفادي. وفي 22 أيار 1719، زار أحد الأمراء مدينة باريس بعربته الفخمة. وفيما خيوله تتناول علفها، ذهب إلى المتحف لمشاهدة اللوحة الخالدة. كان أميراً عظيماً، تحت تصرفه كنوز غنية. ولكنه الآن وقف متأثراً إلى أعماق قلبه، أمام لوحة دومنيكو.

عملت كل هذا لأجلك

وأنت ماذا عملت لأجلي؟

قرأ الأمير هذه الكلمات المكتوبة على الإطار، ثم أعاد قراءتها، ولم يستطع التحول عنها، لأن السؤال دخل إلى سويداء قلبه، ولم يفلته في ما بعد.

جاء المساء، فأتى البواب ورأى الأمير غارقاً في دموعه. فأمسكه من ذراعه وقال له:

- يا صاحب السمو، لقد حان الوقت لإغلاق المتحف، وعليك أن تخرج لأن الليل أرخى سدوله - ولكن لا- فبالنسبة للأمير الشاب، كان فجر الحياة الأبدية- يشرق في قلبه.

عاد الأمير زينزندورف إلى فندقه، وبعد استراحة قصيرة، ركب عربته وعاد إلى وطنه. ومن تلك الآونة كرس حياته وأمواله وشهرته، إلى ذاك الذي تكلم إلى قلبه باللوحة. أي أن الأمير نيقولا لويس زينزندورف، مؤسس الكنيسة المورافية أجاب على السؤال، وأنت ماذا عملت لأجلي؟ بتكريس حياته كلياً للمسيح المصلوب والمقام.

ويقول العارفون أن عدداً عديداً من الأشخاص، عملت اللوحة في قلوبهم، لأن الرب استخدمها، ليظهر للإنسانية ماذا عمل لأجل خلاصها بموته على صليب الجلجثة. لكي يفقهوا أيضاً ما كتبه لنا الرسول بولس: «الذي أحبني ومات لأجلي».

وأنت أيها القارئ، هل تستطيع أن تقول: إنه أحبني ومات لأجلي؟

2- وكما رفع موسى الحية في البرية

فيما كانت فتائل الثلج تتساقط في الخارج، كنت أرفع الشكر للرب الهي، لأنني كنت في بيتي، جالسة أصطلي بنار المدفأة. ولكن أفكاري اتجهت حالاً نحو المحرومين من وسائل الراحة، الذين الشتاء بالنسبة لهم يعني الحرمان والصعوبات من كل نوع.

فيما كنت أفكر في هذه الأمور، طرق الباب. ولما فتحت وجدت فتاة من القرية، جاءت تطلب زوجي لكي يذهب لزيارة امرأة مريضة جداً، ويخشى أن تموت خلال ساعات. وهي ترفض أية مساعدة من الجيران. ولما أعلمتها أن زوجي غائب، سألت بلهجة ملحة:

- أليس في وسعك أن تذهبي أنت؟ إنها امرأة صياد، وزوجها رجل سكير أهملها كلياً.

- سأراها غداً إن لم يعد زوجي في الوقت المناسب هذا المساء. قلت هذا وعدت إلى زاويتي قرب النار. ولكنني شعرت بالانزعاج، لأن الفكر في أن هذه النفس موشكة أن تواجه الأبدية، كان يكفي لتكدير نفسي. فنهضت حالاً وتدثرت بمعطفي. وغادرت بيتي الدافئ. وفي سيري كنت أكافح هبات الريح العاصفة، وأتوسل إلى الرب، أن يحملني رسالة لتلك المرأة.

كان الحي الذي أقصده كئيباً قذراً، مؤلفاً من مجموعات من البيوت الحقيرة المتلاصقة. ولما بلغت المنزل الأخير في أحد الأزقة الضيقة، توقفت أمام باب مغلق، وسألت السيد الرب أن يفتحه لي ويتيح لي الفرصة للخدمة. فطرقت الباب بلطف، مرتين متواليتين.

- لا فائدة من طرق هذا الباب، يا سيدتي الطيبة، قالت امرأة من المارة. لا تتعبي نفسك بالوقوف طويلاً، لأنها لن تفتح لك.

ولكنني إذ لم أشأ الخيبة، طرقت الباب ثانية. وفيما أنا أرهف السمع، سمعت صوت حركة خفيفة في الداخل. فاقتربت من ثقب القفل، ورفعت صوتي قائلة:

- معي رسالة لك، إفتحي لي أرجوك.

في تلك اللحظة سمعت صوت المزلاج الضخم، وهو يرتفع شيئاً فشيئا. وأخيراً انفرج الباب. وحالما دخلت، أعيد المزلاج إلى وضعه الأول. وعلى ضوء قنديل مدخن شاحب، ميزت شكل إمرأة شابة، بالغة الهزال. وبخطوات بطيئة، عادت إلى مقعدها الخشبي. وجلست تصطلي على بقايا من الفحم، آخذة في الانطفاء.

كانت المسكينة مريضة جداً، وكان صدرها بين لحظة وأخرى، يصعد سعالاً عميقاً يهتز له جسمها الناحل. كان هزالها مخيفاً جداً، وثيابها بالية. ولكن الذي أثّر فيّ بالأكثر، هو بريق حزن مرير، بدا في عينيها السوداوتين الكبيرتين... وبصوت آت من مكان عميق سألتني:

- لماذا أتيت إلى هنا؟

- علمت أنك مريضة، وعندي رسالة من شخص، يحب الذين يتألمون.

- تفضلي بالجلوس، ولكن لا تقولي شيئاً لزوجي. إنه مخيف جداً، حين ينتابه الغضب. قالت هذا، وهي تشير بيدها المرتجفة إلى بندقيتين معلقتين على الحائط وإلى قربهما جناد مكتظ بالخرطوش.

في تلك اللحظة طرق الباب، وسمع صوت طفل ينادي:

- ماما، هذا أنا، دعيني أدخل.

- سألت السيدة: هل أفتح؟

- نعم، إنه يوحنا الصغير.

كان الصغير في الخامسة من عمره، حافي القدمين، بدون معطف. فجاء وجلس القرفصاء بالقرب من والدته. كان جسمه مبتلاً، وكان يبكي ويرتجف من البرد. فحاولت الأم المسكينة أن تخفف عنه:

- لا تبك يا صغيري، فبابا سيعود عما قريب.

- ولكن يا ماما، أنا أرتقص من البرد وجائع، وبابا من عادته أنّه يبقى طويلاً في الخارج. كان الطفل يتكلم والدموع تنهمر من عينيه، مما حمل الأم المريضة على إخفاء وجهه بيديها.

- منذ متى لم يتبلع طفلك طعاماً؟

- بحسب ما أعلم، إنه لم يتناول شيئاً منذ البارحة.

ما أن سمعت عبارتها حتى أسرعت إلى خزانة الطعام، ولكن حين فتحتها، لم أجد داخلها سوى بعض قطع من جلود الأرانب.

- ألا يوجد لديك أي طعام، لهذا الطفل الجائع. سألت بلهفة.

- ثم قلت: لا تغلقي بابك ورائي، فأنا عائدة بعد دقائق. قلت هذا وخرجت راكضة إلى أقرب دكان، وأتيت بما استطعت حمله من مؤونة. وكم كان فرحي بالغاً حين رأيت الطفل يلتهم الطعام الذي قدمته له. فيما كانت الأم ترمقه، وبريق السرور يشع في عينيها الكبيرتين. أما عيناي فكانتا مغرورقتين بالدموع، رثاء لتلك السيدة البائسة.

قالت المرأة المسكينة: لك قلب شفوق يا سيدتي. أما أنا فلم أستطع أن أذرف دمعة واحدة منذ أن فقدت طفلتي الصغيرة.

في تلك اللحظة، دنوت من المريضة، وجلست في قربها. وأخذت يديها الهزيلتين، وبدأت ألقي عليها بعض الأسئلة.

قالت بصوت خفيض: أنت طيبة جداً يا سيدتي. ويبدو لي من أسئلتك أنك قلقة لجهتي، في الوقت الذي قل أن يفكر أحد بماري زوجة الصياد، الذي يسرق الطرائد من أرض الغير. وبعد أن صمتت قليلاً، راحت تسرد علي قصتها المحزنة المليئة بالبؤس:

- زوجي مطارد دائماً من الشرطة. وهو يصرف في الكبارية كل النقود القليلة، التي يحصل عليها من تجارته اللامشروعة. بينما أنا وطفلي نتضور جوعاً. إنني مريضة وضعيفة، وحالتي تتطلب البقاء في سريري دائماً، ولكن فراشي بارد جداً...

لما أتت المسكينة على ذكر فراشها، وقع نظري على سحيل محشو بالقش ومغلف بغطاء من القطن، كثير الخروق. وإلى جانبه بساط اعتراه البلى.

- سألتها بفضول: حدثيني عن طفلتك التي توفيت.

ما أن سمعت طلبي هذا، حتى انهمرت الدموع من وجنتيها الشاحبتين. وبعد محاولة بذلتها لتنقية صوتها، الذي تهدج، لتجيب على سؤالي قالت:

- منذ خمسة أشهر، كنت مريضة جداً ومتروكة من زوجي مع طفلتي الصغيرة... لم يكن عندي طعام للطفلة، التي أهزلها الجوع. وقد رأيتها تضعف بسرعة إلى أن ماتت. ومنذ أن ماتت، صارت الأشياء بالنسبة لي غير جديرة بالاهتمام. لأن طفلتي ماتت جوعاً، ولم يكن في وسعي إنقاذها. وتبعاً لذلك، ضاق قلبي، وجفت الدموع من عيني، وجفاني النوم، وفقدت شهيتي للطعام، وصرت عرضة لنوبات سعال حاد.

عند هذا الحد من حديثها، انتابتها موجة عنيفة من السعال. وحين هدأت، قلت لها بتأثر:

- يا ماري، إن الرسالة التي أحملها لك هذا المساء، مرسلة من ابن الله، الذي مات لكي يخلص الخطاة نظيري ونظيرك. اسمعي ما قال: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ»أنت بحاجة إلى الراحة، أفلا تريدين أن تحصلي عليها هذا المساء؟

- أجل إنني أريد أن أرتاح. ولكن كيف أذهب إلى مريح المتعبين؟ ليست لي قوة للذهاب إلى الكنيسة.

- حقاً يا ماري، أنت متعبة جداً. ولكن المسيح أعد كل شيء لراحتك. تأكدي أنه لا يطلب إليك أن تبذلي أي مجهود. يكفي أن تنظري إليه بعين الإيمان، وتقبلي منه الحياة الأبدية.

- كيف يمكن هذا؟ فأنا امرأة بائسة وخاطئة. ولا يوجد من يهتم بي في بؤسي وشقائي. إنني في حالة، أقرب إلى الموت مني إلى الحياة، ولا أدري إلى أين أذهب.

حين صمتت المسكينة، فتحت الكتاب المقدس، وبدأت بقراءة من سفر العدد 21: 5-9 «وَتَكَلَّمَ ٱلشَّعْبُ عَلَى ٱللّٰهِ وَعَلَى مُوسَى قَائِلِينَ: «لِمَاذَا أَصْعَدْتُمَانَا مِنْ مِصْرَ لِنَمُوتَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ! لأَنَّهُ لا خُبْزَ وَلا مَاءَ، وَقَدْ كَرِهَتْ أَنْفُسُنَا ٱلطَّعَامَ ٱلسَّخِيفَ». فَأَرْسَلَ ٱلرَّبُّ عَلَى ٱلشَّعْبِ ٱلْحَيَّاتِ ٱلْمُحْرِقَةَ فَلَدَغَتِ ٱلشَّعْبَ، فَمَاتَ قَوْمٌ كَثِيرُونَ مِنْ إِسْرَائِيلَ. فَأَتَى ٱلشَّعْبُ إِلَى مُوسَى وَقَالُوا: «قَدْ أَخْطَأْنَا إِذْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ٱلرَّبِّ وَعَلَيْكَ، فَصَلِّ إِلَى ٱلرَّبِّ لِيَرْفَعَ عَنَّا ٱلْحَيَّاتِ». فَصَلَّى مُوسَى لأَجْلِ ٱلشَّعْبِ. فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِمُوسَى: «ٱصْنَعْ لَكَ حَيَّةً مُحْرِقَةً وَضَعْهَا عَلَى رَايَةٍ، فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا يَحْيَا». فَصَنَعَ مُوسَى حَيَّةً منْ نُحَاسٍ وَوَضَعَهَا عَلَى ٱلرَّايَةِ، فَكَانَ مَتَى لَدَغَتْ حَيَّةٌ إِنْسَاناً وَنَظَرَ إِلَى حَيَّةِ ٱلنُّحَاسِ يَحْيَا».

- قالت المريضة: إني أشبه هؤلاء الأشخاص المساكين. فقد تكلمت ضد الله، حين كان الخبز ينقصني، وحين ماتت طفلتي من عضة الجوع. ولكن بالنسبة لي لا توجد حية نحاسية يمكنني أن أنظر إليها. وليس أمامي سوى جهنم النار.

ومن جديد انهمرت الدموع من عينيها، ففتحت الكتاب المقدس للمرة الثانية، وقرأت لها الإنجيل بحسب يوحنا 3: 14-17 «َكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ».

- قالت المسكينة بنبرة تعبر عن الارتياح: هل هذا صحيح؟ إذن يمكنني أن أذهب سعيدة، لأنه بذل ابنه من أجلي، لكي لا أهلك إلى الأبد. أنا أعلم بأنني خاطئة. ولكن علمت الآن أنه مات لأجل الخطاة نظيري. شكرا، شكراً لك، لأنك حملت لي هذه الرسالة.

- قلت للسيدة، التي حصلت على الفرح لتوها: يجب أن نشكر الله معاً.

- نعم، يجب أن نشكر الله!

وهكذا جثونا على الركب، ورفعنا الشكر لذلك الذي أحب ماري زوجة الصياد اللص السكير، بمقدار أنه بذل ابنه الوحيد، لكي تنال الحياة الأبدية.

كان الوقت قد تأخر، فساعدت ماري في انتقالها إلى الفراش. ووضعت طفلها النائم إلى جانبها. ثم أشعلت النار في الموقدة، وأعددت الشاي وقدمته لها.

كان قلبي مفعماً بالسرور والشكر، لأجل الأمور العظيمة التي صنعها الله أمام ناظري، وبعد أن أعطيت مجداً للخالق، غادرت المريضة بعد أن وعدتها بالعودة في الغد. فوعدتني بنظرة، لن أنساها أبداً، قائلة:

- الآن يمكنني أن أرتاح، لأن الذي قال: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ»،صار في قلبي.

ما أن عرف أصدقائي من أحباء يسوع بأمر المريضة، حتى جاءوا لزيارتها تباعاً، وقدموا لها فراشاً مريحاً. ونظفوا لها غرفتها، وفتحوا نوافذ البيت، التي كانت مسمرة، لكي يدخل إليها النور والهواء النقي. وقد قابلت ماري هذه اللفتات الكريمة بالعرفان والشكر. ولكن قلبها، كان بالدرجة الأولى، منشغلاً بحب يسوع، تريد الذهاب إليه بتوق الروح.

عاشت ماري بعد ذلك ثلاثة أسابيع، كانت خلالها موضوعاً لزيارتي كل يوم. وقد وجدت تعزية كبرى في مجيء عدد من أبناء وبنات الله للصلاة معها. وأخيراً رقدت في سلام كامل، بفضل العمل – الذي أكمله ذاك الذي، جاء ليطلب ويخلص ما قد هلك.

قبل وفاتها بساعات قليلة، اقتربت من سريرها، فاستطاعت أن تتناول يدي، وتقول في صوت خفيض:

- لن أراك بعد هنا في هذه الدنيا. ولكننا سنلتقي ذات يوم، هناك فوق. وأيضاً أقول لك شكراً، لأجل رسالة الرب، التي حملتها إليّ.

وهكذا افترقنا!

أيها القارئ الكريم، أنا لا أعرفك. ولكني أعرف شيئاً مهماً، وهو أنك إن لم تقبل يسوع مخلصاً، فستهلك في خطاياك، وتأتي إلى الدينونة. ولكن الفرصة، ما زالت سانحة لك، ما دمت في الحياة. فالخلاص معد لك، إن كنت تقبل يسوع مخلصاً، كما قبلته ماري المسكينة. يمكنك أن تخلص، في هذه اللحظة بالذات، إن كنت ترفع نظرك بإيمان وتنظر يسوع، الذي أعطى حياته لأجلك.

3- توبة شحاذ

كانت نيلي بنتاً صغيرة رائعة، في الخامسة من عمرها، عيناها سوداوان كحبتي كرز في أوج النضوج. وشعرها أجعد فاحم اللون. ولكن أجمل ما فيها هو قلبها الصغير. هذا القلب، كان طيباً شَمِساً وطاهراً، إلى درجة أنها لا تستطيع أن ترى أحداً يعاني الكدر. وفي محبتها للتعزية والعون، كانت على استعداد أن تعطي قميصها. وما أكثر المرات التي فيها تخلت عن مريولها الجميل، لأجل طفلة فقيرة! وحين كان والداها يحاولان أن يعلماها، بأن العطاء لا يذهب إلى حد إعطاء المريول، كانت ترمقهم بنظرة المندهشة، كأنها تقول لهما: لا تجعلا من تنازلي عن مريولي لفتاة فقيرة، قضية الساعة. أو ليس من الطبيعي، أن أهبها أحد مراييلي الكثيرة؟ منذ ذلك الوقت، حرصت أم نيلي على أن تخيط طرفي مريول ابنتها من الوراء، لكي لا تستطيع خلعه وإعطاءه لفتاة أخرى.

وذات يوم وجدت الصغيرة لوحدها في البيت، فأخذت تتسلى بتقليب كتاب الصور الذي قدمه لها والدها، بمناسبة عيد مولدها. كان الأب في ذلك اليوم، قد ذهب حسب العادة إلى عمله. أما أمها فكان عليها أن تذهب إلى مدينة مجاورة، لزيارة قريب مريض. وقبل أن تغادر المنزل أوصت الطفلة:

- حذار أن تفتحي الباب لأحد في غيابي. سأتغيب كل بعد الظهر، ولن أعود إلا في المساء. لقد صنعت لك كعكة شهية، لأجل «وجبة الظهيرة» وهي موضوعة على الطاولة في قاعة الطعام.

لما دقت الساعة الرابعة، كانت نيلي قد قلبت صفحات كتاب الصور للمرة العاشرة. وأكثر ما أعجبها في الكتاب، هي محبة يسوع المخلص للأولاد. وأيضاً تأملت طويلاً في الصورة التي تمثله وهو يطعم آلاف الجياع من سمكتين وخمسة أرغفة. وفيما هي مغتبطة بهذا المشهد الرائع، حولت نظرها إلى الكعكة الشهية التي صنعتها لها ماما.

- تساءلت الصغيرة: ألا يحسن بي أن أتنازل عن هذه الكعكة الطيبة إلى إنسان جائع؟ وفيما هي تفكر جدياً في إعطاء كعكتها، قرع جرس الباب. فقامت ونظرت من طاقة الباب، وإذ بها ترى صبياً طويل القامة، أشعث الشعر، رث الثياب.

- قالت الصغيرة بلهجة مشوبة بالخوف: ماذا تريد؟

- أجاب الفتى البائس: إنني جائع، ألا تستطيعين إعطائي شيئاً أمسك به رمقي؟

كانت كلمة جائع كافية لتحريك قلب نيلي. وسرعان ما مرت الكعكة في خاطرها!

- بالتأكيد ان الرب أرسل هذا الولد المسكين خصيصاً إليّ، قالت الفتاة في نفسها. إنه أرسله لكي يعرف إن كنت فتاة طيبة ذات قلب رحيم.

أمام هذه الفكرة نسيت نيلي وصية أمها وتحذيرها من فتح الباب لأي طارق. إنها لم تعد تفكر إلا في ذلك الجائع، الواقف خارجاً على الباب. والكعكة الشهية، التي تستطيع أن تمسك رمقه. ففتحت الباب سريعاً، وقالت له بلهجة مفعمة بالمحبة:

- أُدخل، أُدخل، فسأعطيك كعكتي الكبيرة. إنها شهية من صنع ماما، ويسرني أن تأكلها.

فرمق الفتى الصغيرة بنظرة المشدوه، ولكنه تردد أمام الدعوة. ولكنه كان فعلاً جائعاً، والجوع أزال تردده:

- سأل الشاب وهو يلقي نظرة حوله بكل اهتمام: أين أمك يا صغيرة؟

- قالت نيلي بسلامة قلب: ماما خرجت للقيام بزيارة لقريب مريض. ولن تعود إلا في المساء.

عندئذ تشجع الشحاذ، وتبع الفتاة إلى قاعة الطعام. وحين دعته الصغيرة للجلوس، أطاع وعيناه تلمعان ببريق الفضول. ثم تناولت الطبق المحتوي الكعكة، ووضعته أمامه على الطاولة، ثم قالت لضيفها الغريب، تفضل كل! لم ينتظر الشحاذ دعوة ثانية، بل التهم ما قدم له بلحظات. وحين أزدرد آخر لقمة، أخذ يتفحص محتويات الغرفة بنظرات جشعة وقحة. ولم يعتم أن ارتسمت على وجهه ابتسامة ماكرة. لأنه شعر بأن الفرصة مواتية له، للقيام بعمل شرير. كان لديه الوقت، والتأكد من أن هذه الفتاة البالغة الطيبة ستعطيه أشياء أخرى، إن هو طلب إليها.

- سأل الشحاذ بنبرة المحتال المخادع: قولي لي يا صغيرة، أليس عندكم حذاء لأجلي؟ انظري حذائي! إنه ممزق، لا يقيني ضد لسعات الصقيع.

لقد ألقى سؤاله بنبرة مفعمة بالتذلل، كالتي يستعملها المتسولون الماكرون. فرمقته نيلي بنظرة فيها كل معاني الإشفاق. وبعد أن تأملت أصبع رجله البارزة من ثقب الحذاء. أسرعت إلى المطبخ حين صفت أحذية والدها الكثيرة العدد في خزانة كبيرة. وكان تفكير الفتاة، أن أباها لا يستطيع أن يلبس كل هذه الأحذية دفعة واحدة. لذلك، لا يحدث ضرر فيما لو نقص العدد زوجاً منها.

- قالت الفتاة في نفسها، وهي تتناول حذاءً جيداً حملته إلى الشحاذ ووجهها يطفح سروراً: لا شك أن يسوع المخلص، لو كان في مكاني، لتصرف على هذا النحو بلا تردد.

فتناول المتسول الجشع الحذاء بكل لهفة. فلم يسبق له أن حصل على حذاء بهذه الجودة والرشاقة.

- أوه! كم هو جميل أن يشعر الإنسان أن في رجليه حذاء متينا كهذا، قال الشاب في نفسه. إن من يلبس حذاء كهذا يشعر بأنه قد ولد من جديد! ولكن بنطلوني المهترىء، هل ينسجم مع حذائي الجميل؟... ألقى هذا السؤال على نفسه، ثم تفرس في وجه الواقفة أمامه، يسيطر عليها الذهول. فتوسم في سذاجتها الاستجابة لكل مطلب يتقدم به.

- يا فتاتي الطيبة، انظري إلى بنطلوني، إنه رقيق ومهترىء، وفي الخارج برد شديد. ألا يوجد لديك شيء من أجلي؟

- تعال، قالت الفتاة بلهجة من صمم على أمر. ثم تناولت يده، واقتادته إلى غرفة نوم والديها. وهناك فتحت الخزانة الكبيرة، وراحت تفتش بين ثياب أبيها، فيما كانت عينا الشحاذ ترسلان بريق الجشع. فرغبته في ارتداء ثياب جديدة، طغت على صوت ضميره. وأخيراً تناولت الفتاة بذلة جميلة ثمينة، وقدمتها له بفرح:

- خذ هذه أيها المسكين، وتأكد أنك حالما ترتديها، لن تشعر بالبرد على الإطلاق.

تناول الشحاذ البذلة، وراح يتفحص القماش الذي صنعت منه، فشعر كأن شيئاً في داخله يشير عليه بأن بذلة غيرها أقل ثمناً تكفي.

- أليس لديك بذلة عتيقة، تكون حاجة أبيك إليها أقل من حاجته إلى هذه؟ سأل المتسول.

- قال الفتاة وهي تهز برأسها: كلا، احتفظ بها. إنها البذلة التي قلَّ أن يلبسها أبي. إنه يرتديها فقط يوم الأحد.

في تلك اللحظة، كانت الساعة تدق الخامسة، فخاف الشاب، لأن والدة نيلي يمكن أن تصل بين لحظة وأخرى. وعندئذ يمكن أن يحُرم من الحذاء والبذلة. لذلك أسرع بلف البذلة الجميلة وتأبطها. ثم وضع يده بلمسة لطيفة على وجه الصغيرة وقال:

- أشكرك جداً يا صغيرتي. ولكن الآن ينبغي أن أذهب لأن الوقت قد تأخر.

فيما الشحاذ يهم بالخروج، دارت فكرة في خاطر الصغيرة. كانت تريد أن تتوج إحسانها بإعطاء كتاب الصور العزيز عليها لهذا الشاب المسكين. لأنه كما فكرت، لم يعرف يسوع المخلص بعد. لأنه كان جائعاً ومرتجفاً من البرد. إذن يجب أن يتعلم كيف يعرفه.

- قالت الصغيرة الطيبة: خذ هذا أيضاً، اسمي مكتوب على الصفحة الأولى من هذا الكتاب. وأنت ستأتي ذات يوم لزيارتي، لتخبرني إن كان المخلص قد ساعدك.

قالت هذا ثم وضعت الكتاب بين ذراعيه المشحونتين بالثياب. متبعة حركتها بضغطة شديدة على الذراع التي تأبطت الكتاب.

لما عادت أم نيلي بعد نصف ساعة، وسمعت ورأت ما حدث، رفعت ذراعيها نحو السماء، معبرة عن خيبتها وحزنها. وكذلك الأب، لما عاد في المساء اكتأب، إلا أنه لم يتفوه بكلمة أمام صغيرته، التي كانت تنظر إليه بعينين ملؤهما البراءة، دون أن تفهم ما كان يتفاعل في نفسه من ألم و اضطراب.

بعد تلك الحادثة، لم تترك نيلي مرة لوحدها في البيت. أما الأم فمع أن أياماً طويلةً مضت على تصرف الفتاة، إلا أنها لم تستطع أن تسامحها عن فعلتها بإعطاء أفضل أحذية وملابس أبيها إلى لص متسول.

وذات صباح، ربما بعد تسعة أشهر، جاء ساعي البريد، ومعه طرد صغير بعنوان نيلي ماير، فتناوله الوالدان بدهشة شديدة. ولما فتحاه وجدا كتاباً جميلاً جداً، مليئاً بالصور الرائعة. وكان في قلب الكتاب رسالة هذا نصها:

عزيزتي نيلي:

إن الكتاب الذي أعطيتني إياه في ذلك اليوم، قادني إلى معرفة المخلص يسوع، والمخلص ساعدني. فمنذ أن عرفته وقبلته رباً ومخلصاً، تركت التسول. وبدلاً من استجداء أكف الناس، صرت اشتغل صباحاً ومساء. وهذا التحول في حياتي صيرني سعيداً جداً. إلا أنني في معظم الأحيان، أتعذب كثيراً، حين أفكر في أن والديك ربما قد غضبا عليك، بسبب إعطائي ثياب الأحد الخاصة بأبيك إلى شحاذ أفاق. أنا أعلم بأنه ما كان لي حق في أن آخذها، ولكن في تلك الآونة، لم أكن أعرف المخلص. والآن أرسل لك هذا الكتاب، على رجاء إدخال بعض السرور إلى قلبك الطيب. أما كتابك، فإنني أحتفظ به. لأنه يذكرني بك، وفي ذات الوقت هو بالنسبة لي إنذار يردعني عن التفكير بالشر. قولي لوالديك أنني صممت أن أقتصد المال اللازم لشراء بذلة جديدة. وحين يتجمع لدي المبلغ الكافي، سأرسله لهما. لأنني لا أريد أن يبقى في قلبهما شيء من الغضب علي. ختاماً، أحييك بإخلاص. ه. هوفر

:فيما كان الأب يقرأ الرسالة، تألقت عينا نيلي الكبيرتان، وعلت على وجهها ابتسامة مشعة. ولم تلبث أن قالت:

- آه! كم أنا مسرورة، لأنه لم يبق شحاذاً، ولأنه لم يبق جائعاً!

وفي غمرة سرورهما تبادل الوالدان الصغيرة بضمات الفرح، وأمطرا شعرها الأجعد بوابل من القبلات.

4- السمك بالمجان

في يوم بارد مطير من أيام الخريف، وفيما كان الليل يقترب، مع هبوب رياح شمالية شديدة، كان في طرفي أحد شوارع مدينة كبرى رجلان: الأول مبشر عائد إلى منزله، بعد جولة طويلة، جاب خلالها أزقة مختلفة قذرة من أحياء المدينة، حاملاً رسالة الإنجيل إلى هذا أو ذاك البيت، وباذلاً الجهود لاقتياد الخطاة إلى صليب المسيح. أما الثاني، فكان بائع سمك، يحمل على رأسه سلة مملوءة سمكاً، وفي يده ثلاث سمكات. وكان ينادي بصوت عال: ثلاث سمكات بنصف ليرة! ثلاث سمكات طازجة بنصف ليرة! ويبدو أن أحداً، لم يكن مستعداً أن يشتري. ولكن بالرغم من عدم إقبال الناس على بضاعته، لم يكف عن المناداة. وبعد قليل، التقى الاثنان، المبشر وبائع السمك.

- قال البائع: ثلاث سمكات بنصف ليرة يا سيدي. أين يمكنك أن تجد سمكاً بهذه الجودة وبهذا السعر الرخيص؟ انظر، كل هذه السمكات أُخرجت من البحر في هذا الصباح بالذات. ولكن الغريب، أن الناس لم يهتموا بها!

- قال المبشر: كلا! هذا ليس أمراً غريباً كما تظن.

- لماذا؟ سأل البائع باندهاش.

- لأنه منذ أسابيع أغلقت جميع المصانع القريبة من هذا الحي، بسبب عدم تصريف الإنتاج. وتبعاً لذلك صرف معظم العمال، فأصبح السكان في حالة سيئة. ولا شك أن عائلات كثيرة، لم يبق لديها مال.

- في هذه الحال، يمكن القول أنهم لا يستطيعون أن يبتاعوا شيئاً. والمعنى أنه كان من الطبيعي أن أحصد هذه الخيبة. أنا أعلم أن سكان هذا الحي فقراء، ولكني ظننت أن أسعاري الرخيصة ستجذبهم إلى بضاعتي. على أي حال، فسأحاول بيع ما معي في حي آخر.

- سأل المبشر: بكم تبيع ما تحويه سلتك؟

فتفرس البائع في وجه محدثه، كمن يريد التأكد إن كان يتكلم جدياً، أم أنه يمزح. ولما توسم الجدية عنده، ألقى نظرة على محتويات السلة. وبقي صامتاً لبضع دقائق، كان خلالها يقيم بضاعته، وحين انتهى، قال:

- إن دفعت لي ست ليرات، تكون البضاعة كلها لك. إنه عرض مناسب، أليس كذلك؟

- حسناً جداً، قبلت، قال المبشر وهو يفرغ جيوبه لكي يعطيه المبلغ. هاك الليرات الست، ولكن شرط أن تأخذ السمك إلى حيث أقول لك.

- بالتأكيد سأفعل، المهم أن لا يكون المكان بعيداً من هنا.

- لن تذهب إلى أبعد من هذا الحي، وإليك ما ينبغي أن تفعل. ابدأ من هذا البيت، ونادِ هكذا، سمك بالمجان، من يريد أن يأخذ؟ وتعطي ثلاث سمكات لكل شخص يتقدم. وزع إلى أن تفرغ السلة.

سمع البائع هذه التعليمات، فاندهش واعترته بعض الظنون. فأخرج قطع النقود التي تقاضاها من المبشر، وراح يمتحنها قطعة قطعة. وحين تأكد أنها غير زائفة، أعادها إلى جيبه. وتفرس في وجه المبشر، وفي رأسه أفكار شتى.

- قال المبشر: حسناً، فالنقود ليست زائفة، أليس كذلك؟

- إنها صحيحة يا سيدي، أجاب البائع.

- إذن فالسمك كله صار لي. وإن كان لا يعجبك أن توزعها كما قلت لك، فالرجاء أن تعيد لي نقودي.

- يا سيدي السمكات لك، وأنا مستعد أن أعمل بها وفقاً لمشيئتك. هذا مع العلم أنني لم أفهم قصدك. ولكني أعرف أنك حر في أن تتصرف بما يخصك وكما يحلو لك. وها أنا الآن أنتظر إشارتك.

بقي المبشر في مكانه، فيما راح البائع يجوب الحي منادياً: سمك بالمجان، من يريد أن يأخذ؟ سمك ممتاز، لقاء لا شيء!

بعد برهة، اقترب من منزل، معروف لدى المبشر. هناك كانت سيدة مسنة واقفة على الشرفة، فنظر إليها البائع وقال:

- يبدو لي أنك ربة منزل ممتازة. هوذا فرصة سانحة أمامك لإعداد عشاء طيب لأهل بيتك. إن السمك يوزع اليوم بالمجان. تعالي وخذي نصيبك.

ومع أن العرض كان مغرياً جداً، إلا أن السيدة هزت كتفيها، تعبيراً عن عدم اهتمامها في العرض، ثم دخلت إلى بيتها.

قال البائع بتعجب: يا لها من غبية! ولكن لا تثريب علي فليس الجميع أغبياء.. سمك بالمجان! ردد البائع من جديد، فأتت فتاة، لتعلم من هذا الذي يصرخ هكذا. فقال لها:

- خذي يا صغيرة هذه السمكات الثلاث إلى أمك. قولي لها أنها تعطى مجاناً هذا المساء، وأنها من أجود أنواع السمك.

ولكن الفتاة، إذ خافت منه، ركضت إلى بيتها بسرعة دون أن تلتفت إلى الوراء.

وهكذا جاب البائع الحي كله مردداً العرض نفسه. ولكن أحدا لم يتقدم منه ويأخذ شيئاً. ولما عاد إلى النقطة التي انطلق منها، صرخ مرة أخرى سمك بالمجان! ثم عقب على ندائه قائلاً بصوت خفيف: يا لهم من أغبياء! يا لهم من بلهاء!

ليس من يريد سمكاً، ليس ولا واحد. وأخيراً نظر إلى المبشر وهو يردد كلمته: يا لهم من أغبياء! يا لهم من بلهاء!

- هيه! هتف المبشر. قل لي، كيف سارت الأمور؟.

- على أسوأ ما يمكن، حين أعطيتني الست ليرات، لم أكن أعلم ماذا أفعل. وإنما ظننت أنك أضعت صوابك. ولكني الآن أرى، أن سكان هذا الحي أكثر غباوة! فهم في فقر شديد، ومع ذلك لا يقبلون طعاما مقدما لهم بالمجان! والآن ماذا تريد أن أفعل بهذا السمك؟ الكمية كبيرة بالنسبة لاستعمالك المنزلي. وهؤلاء البلهاء لا يريدون شيئاً منه.

- قال المبشر: إذن لنذهب معاً، ولنحاول مرة أخرى. سأكون إلى جانبك، وسننادي كلانا. فعلّنا نصل إلى نتيجة أفضل.

سار الاثنان معاً، وبدأ البائع ينادي: سمك بالمجان، وتلاه المبشر بصوته الجهوري: إن كان أحد يريد سمكاً لأجل عشائه، فليأت ويأخذ.

كان صوت المبشر معروفاً من أهل الحي، ولهذا حين سمعوا أنه يقدم سمكاً بالمجان، خرج الناس إليه تباعاً، ليعلموا ما هو جار. والمتجاسر الأول، تقدم وأخذ ثلاث سمكات سمان. وما أن عاد إلى منزله، حتى تشجع آخرون. وهكذا لم يمض وقت قليل، حتى أفرغت السلة من كل محتوياتها! وأسفرت النتيجة عن تذمر بعض الذين وصلوا متأخرين، وخابوا من الحصول على السمك.

كان بين المتذمرين سيدة مسنة ضعيفة هزيلة، وهي معروفة بسلاطة لسانها.

- صرخت السيدة: وأنا! ألا تعطوني شيئاً؟ ألعلي أقل صلاحاً من الآخرين؟ وأطفالي، أليسوا جائعين، مثل كل الذين وزعتم السمك لهم؟ هذا ظلم صارخ!

قبل أن يتلفظ المبشر بكلمة، مد بائع السمك يده في اتجاه المحتجة وقال:

- اسمع يا سيدي إن هذه المرأة، هي أول شخص عرضت عليه أن يأخذ سمكاً بالمجان، في دورتي الأولى. ولكنها لم تشأ أن تأخذ.

- ليس هذا كل شيء، صرخت المرأة بغضب شديد. فأنا لم أصدق أن العرض كان جدياً. فلو كنت متأكدة من الأمر لأسرعت لآخذ نصيبي.

قال البائع معترضاً: آه! لم تريدي أن تصدقي. إذن ما عليك الآن إلا أن تذهبي إلى النوم بدون عشاء. لقد نلت ما تستحقين من خيبة. ثم التفت إلى المبشر، وقال:

- لم يبق يا سيدي إلا أن أقول لك ليلة سعيدة، مع ألف شكر.

حين ذهب بائع السمك، بدأ الناس بالانصراف كل إلى بيته، وإذ لم يبق في الساحة غير المبشر، غادر المكان، عائداً إلى منزله. وقد صمم على أن يستغل هذا الحادث في الغد، لكي يفسر معنى إنجيل الخلاص للذين سيزورهم.

لعل هذه القصة تطبع الابتسام على العديد من شفاه القراء. ولكن معناها، عميق وتعليمي. فقد نضحك من غباوة هؤلاء الفقراء، ومن القصاص الذي نجم عنها. ولكن العالم مليء بالناس الذين يتصرفون مائة مرة بأكثر حماقة، وفي أمر أعظم بكثير.

ولعلك من هؤلاء، الذين في عنادهم الأحمق، يرفضون الشيء الذي هم في أمس الحاجة إليه، والذي يقدمه الله مجاناً، وهو الغفران وخلاص الله.

وأي شيء ألزم للإنسان من غفران خطاياه، وخلاص نفسه. وكما قال يسوع: «لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟»

إن خلاص النفس هذا، يقدمه الله للإنسان مجاناً في المسيح يسوع، تجاوباً مع محبته المنقطة النظير.

نقرأ في الإنجيل أن الله يقدم الغفران بلا ثمن. والخلاص بلا ثمن، والحياة الأبدية بلا ثمن. ومع ذلك فكثيرون، يديرون ظهورهم إلى هذه الرسالة الإلهية. ويعيشون في العناد والحماقة في تعاستهم الأولى.

هذه هي الحقيقة، أن الله يقدم الإنسان أهم وأعظم ما يحتاج إليه بالمجان. ولا يطلب منه بالمقابل، إلا أن يؤمن ويقبل. ولكن الإنسان في غباوته، يرفض هبة الله، ويدير لها ظهره. والغريب أنه يرفض، دون أن يتحمل عناء فحص ما وهب له، إن كان جيداً أم لا.

لنأخذ مثلاً هؤلاء الفقراء، الذين عادوا إلى بيوتهم صفر اليدين. فهؤلاء لم يكلفهم العناء سوى الحرمان من عشاء لذيذ. ولكن نحن حين نرفض المسيح، فهذا يكلفنا هلاك النفس وخسارة الحياة الأبدية.

وهناك حقيقة، يجب أن نذكرها، وهي أنه كما أن هذه السمكات دفع ثمنها غالياً، ثم وزعت مجاناً. هكذا خلاصنا، استحقه المسيح لنا بثمن باهظ بما لا يقارن، وهو دمه الثمين الذي سفك على صليب الجلجثة. والآن يقول: «مَنْ يَعْطَشْ فَلْيَأْتِ. وَمَنْ يُرِدْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّاناً» (رؤيا 22: 17).. في وقت مقبول، سمعتك، وفي يوم خلاص أعنتك.. هوذا الآن يوم خلاص.

5- العدد اثنان

بعد سير طويل في الظلام، وكفاح مرير ضد العاصفة، وصل القس داود إلى منزله في الأبرشية المتواضعة التي يخدمها، بين جماعة من فقراء الريف. فمنذ عامين وهذا الراعي الشجاع، يعمل بجد في تلك البقعة النائية القاحلة روحياً ومادياً. ومع ذلك لم يتذمر، ولم يندب سوء الحظ. وإنما كان يتألم، لأن رفيقة حياته كانت مريضة. وكانت هي تدمدم وتشكو زمنها.

- قالت زوجته: أنا لا أعتقد بأن الله يطلب إليك أن تذهب إلى اجتماع الصلاة في هذا المساء العاصف. في المرة الماضية، لم يحضر الاجتماع إلا العجوز مريم. ولا أظنها تخرج في هذا الليل المطير.

- إنني أخالفك الرأي في هذا الاعتقاد، لأنني موقن بأن رداءة الطقس لن تمنعها من الخروج. وإنني لأذكر ما قالته لي في مساء يوم الجمعة الماضي: يا حضرة الراعي، يجب أن لا تفقد الشجاعة بسبب عدم اهتمام الرعية باجتماع الصلاة. صحيح أننا اثنان فقط، ولكن الآب السماوي، يحضر مع اثنين يصليان، وربما بأكثر قوة مما يجتمع مع الألف!- هذه الكلمة التي قيلت بالإيمان الواثق، هي التي تجعلني استمر في الاجتماع الصغير.

بعد نصف ساعة، خرج القس من بيته متحدياً هبات الريح، مرة أخرى في ذلك الليل العاصف الحالك.

كانت مريم العجوز، تعيش مع ابنتها الأرملة وحفيدها اليتيم الصغير، سعيدة وراضية. وكانت مستعدة دوماً، لتقديم المساعدة لمن هم أشد فقراً منها.

في هذه العشية، التصق بها حفيدها الصغير. وبعد أن داعبها قليلاً، رمقها بعينيه الزرقاوين، وسألها:

- هل تذهبين في هذا المساء إلى الاجتماع لتصلي مع القس داود، ذي القامة الطويلة؟

- أجابت الجدة: نعم يا حبيبي. إنني أذهب لأصلي معه من أجل كل الذين لا يصلون. وأرفع الشكر لله من أجل جميع حسناته. آه! لو علمت يا كميل، كم نكون سعداء، حين نكلم الآب السماوي، ونبسط حاجاتنا قدامه!

تطلع كميل في الوجه الكثير التجاعيد، ولم يلبث أن قال:

- قولي آمين، من أجل حفيدك الصغير كميل، يا جدتي المحبوبة.

فدنت العجوز من الصغير، وطبعت قبلة الحنان على خده. ثم نظرت في عينيه الزرقاوين، وقالت:

- يا حبيبي، إن الأولاد الصغار مثلك، يجب أن يناموا باكراً. وأنا أعدك بأنني حين تكبر، سآخذك معي إلى الاجتماع.

بعد برهة من الزمن، كانت السيدة مريم، تسير على الطريق المؤدي إلى مكان الاجتماع، متدثرة بشالها الصوفي، ذي المربعات السوداء والزرقاء، وفي أثناء سيرها، كافحت بشدة ضد الريح والمطر.

كان القس داود ينتظر وحيداً، في قاعة المدرسة المخصصة للاجتماعات. وما أن وصلت السيدة، حتى استقبلها الراعي اللطيف بابتسامة معبرة عن الود والتقدير الذي لها في نفسه.

في يوم الجمعة الذي تلا، انصرفت مريم إلى أعمالها المنزلية كالمعتاد. وحرصت على أن تنهي أعمالها باكراً، رغبة منها في الاستعداد لاجتماع الصلاة. وكان قلبها كل الوقت، يفيض شكراً للمنعم الجواد من أجل جميع بركاته. وفيما هي تعمل بعجلة، فقدت توازنها وسقطت من على السلم، فارتطم جسمها الضخم بالأرض، وفقدت الوعي. فهرعت ابنتها، وأسعفتها بالمنعشات. ثم بذلت جهداً كبيراً، لتوصلها إلى سريرها. ولما استدعي الطبيب، قال بعد الفحص الدقيق أنها مصابة بكسر في ساقها.

ومع أن آلامها كانت شديدة جداً، إلا أنها لم تتذمر. بل أظهرت لمن حولها وجهاً بشوشاً. ولكن كان عليها أن تقضي وقتاً طويلاً في الفراش، وساقها ضمن آلة طبية. وفي ما هي تعاني آلاماً قاسية، اقترب كميل من السرير وبدأ يكلمها:

- هل يسمح لكميل الصغير أن يرى جدته المسكينة، ويتبادل معها بعض الحديث؟

فمدت السيدة يدها المحمومة، وقالت للصغير العزيز بكل لطف:

- تعال يا صغيري ولا تخف!

فدنا الصغير من السرير، وأتاح لجدته أن تداعبه، وفيما يدها تلامس شعره اللطيف سألها:

- من سيصلي مع القس في هذا المساء؟

سمعت السيدة المؤمنة السؤال، فامتلأت عيناها بالدموع. ولم تلبث أن غمغمت من بين شفتيها:

- يا إلهي! لقد نسيت أمر الصلاة. إنها الحمى، إنه الألم... مع أنني لم يسبق لي أن تخليت عن القس العزيز في اجتماع الصلاة. ولكن اليوم... لم أستطع الذهاب... سيكون القس وحيداً، آه كم سيتضايق!

وكما دخل الصغير بكل لطف، وبدون إحداث أي ضجة، هكذا خرج من لدن جدته. وبعد قليل في ما كانت أمه منشغلة كثيراً في الدكان، لبس معطفه، وركض بأقصى سرعة في اتجاه المدرسة حيث يقام اجتماع المساء للصلاة.

كان كميل يعرف طريقه جيداً، ولم يعتره أي ظل من الخوف، لأن القمر كان بدراً وفي ذروة لمعانه. ولكنه بعد أن اجتاز نصف المسافة، التقى بالسيد يعقوب، وهو فلاح من الرعية. فوقف هذا في دربه وقال:

- إلى أين أنت ذاهب أيها الصبي، في هذه الساعة؟ ولماذا أنت على عجلة هكذا؟

- إنني ذاهب إلى المدرسة لكي أصلي مع القس، عوضاً عن جدتي.

- هذا أنت يا كميل! لقد مر بنا الطبيب منذ قليل، وأخبرنا بأن جدتك الطيبة قد كسرت ساقها، فهل هذا صحيح؟

- قال الفتى بلهجة تدل على خطورة ما يقول: نعم، هذا صحيح! ويجب عليها أن تلازم فراشها مدة طويلة. وأنا صممت على أن أكون العدد 2 في اجتماع الصلاة.. أسعدت مساء.

قال هذا، ثم تابع جريه، دون أن يدري أن يعقوب، تحرك ضميره، وراح يجري خلفه. ولما وصل الصغير إلى المكان ودخل، بقي يعقوب على العتبة على استحياء. ولكنه لم يلبث أن حمله الفضول على أن يلصق عينه على انفراجة الباب، الذي لم يحسن إغلاقه.

كان القس وحيداً، في القاعة المضاءة بقنديل مدخن. وكان وقع حذاء كميل المزود بالمسامير، يحدث صوتاً على بلاط القاعة الكبرى. مما جعل القس يرتجف، ثم ينظر إلى الجهة الآتي الطارق منها. وسرعان ما عرفه وابتسم له:

- آه! هذا أنت يا كميل؟ هل أتيت إلي برسالة من جدتك؟ لماذا تأخرت؟

فهز كميل رأسه، ثم قال:

- لقد أتيت من تلقاء نفسي.

- إذن سبقت جدتك؟ لا بأس فهي ستصل قريباً، هذا حسن!

- أجاب الصبي: كلا، إن الجدة لن تأتي، لأن ساقها كسرت، والطبيب الذي عالجها قال أنه يجب أن لا تتحرك لوقت طويل.

صرخ القس بلهجة المشفق: يا إلهي! يا لها من مصيبة! أريد أن أذهب لأراها.

قال هذا، ثم مد يده ليطفئ القنديل، ولكن كميل أوقفه بإشارة من يده:

- لا تفعل! أليس الآب السماوي هنا، في هذا المساء؟ إنني موقن بأنه موجود. لأنني أتيت إلى هنا لأكمل العدد 2 عوضاً عن جدتي.

قال كلمته بعفوية الطفولة، فاهتز كيان القس إلى أعماق القلب. وكذلك يعقوب الفلاح، دفعه التأثر بحركة لا شعورية إلى تخطي العتبة، وهو يشعر بمسة غريبة تدغدغ حنجرته.

وأخيراً قطع القس حبل الصمت، إذ وضع يده على رأس الصبي، وسأله بلطف:

- إذن أتيت، لتصلي معي يا كميل؟

- قال الفتى: نعم، لأن الآب السماوي، وعد بأن يعطي البركة حينما يكون اثنان مجتمعين للصلاة. هكذا قالت جدتي.

- قال القس بلهجة التأكيد: إن جدتك محقة يا صغيري، هذا صحيح. ثم جثا إلى جانب الصغير، فيما كان يعقوب الفلاح، يحني الركبتين في الطرف الآخر من القاعة، كمن نوى على الصلاة بكل انكسار.

في تلك اللحظة، طاب للقس أن يسكب قلبه أمام الله، رافعاً الشكر لإلهه الحي، من أجل غفرانه وحبه الغني باللطف، وباسطاً أمام عرش نعمته حاجات الرعية. ولما انتهى من رفع هذه الطلبات، كف عن الكلام.

بعد برهة ران فيها الصمت، رن صوت كميل بوضوح، يشوبه الاضطراب، وهو يرفع صلاة الأطفال المسائية، إلى الآب السماوي.

وهذا الصوت الذي ارتفع بنبرة الطفولة المليئة بالعفوية الساذجة التي يزينها الإيمان، حرك قلب يعقوب، الذي كان معلقاً باللامبالاة. وأذاب جليد الفتور منه. فالرجل الخشن شعر في تلك الدقيقة بحاجته إلى النعمة المخلصة الغافرة. وقد حسب نفسه مسؤولاً عن التقصيرات الجانية الصادرة عن أفراد الرعية.

- قال يعقوب في نفسه: ماذا؟ أصبي يتيم مسكين، في الخامسة يأتي فقط للصلاة مع القس الشجاع؟

قال هذا، ثم نهض واجتاز القاعة بهدوء، وركع بالقرب من كميل. وفي دوره، فتح فمه وسكب قلبه أمام الله في صلاة قصيرة. وصلاته العنيفة، كانت في فعلها تشبه جامع الضرائب الذي تحول عما يحق له، وركز على ما يستوجب على بيته.

حين نهض الثلاثة، مد القس يده، إلى الفلاح، الذي هو أحد أفراد رعيته وصافحه بحرارة. وبالإجماع كان الثلاثة متأثرين بالجو الروحي، الذي عاشوه، مصلين بإيمان.

- قال يعقوب: ستراني فصاعداً في اجتماعات الصلاة، يا سيدي الراعي. وقبل أن يتلقى أي جواب، انطلق من القاعة، وأنظار كميل المندهش تتبعه.

- قال الصبي: كان عدد 2 آخر في اجتماع الصلاة، يا سيدي الراعي. فلنذهب سريعاً لنخبر الجدة بهذا الأمر الواقع.

وصل الفتى والقس، فاطمأنت قلوب أفراد العائلة، التي اعتراها القلق الشديد بسبب اختفاء صغيرهم المحبوب في ذلك المساء.

وأخيراً عرف أهل القرية تصرف الصبي، وأحيطوا علماً بعمله الذي لم يلبث أن أتى بثمار وفيرة لمجد الآب السماوي. فحين ذهبت جدته السيدة مريم إلى اجتماع الصلاة، مستندة على عكازيها، لم توجد وحيدة مع الراعي. لأن عشرات من أفراد الرعية، بدأوا يؤمون المكان للاشتراك في الصلاة.

وهكذا أعطى الآب السماوي برهاناً آخر على إتمام وعده، بأنه من أفواه الأطفال والرضع، يؤسس حمداً.


Call of Hope 
P.O.Box 10 08 27 
D-70007
Stuttgart
Germany