العودة الى الصفحة السابقة
القداسة في المسيحية

القداسة في المسيحية

القس . جون نور


Bibliography

القداسة في المسيحية. القس . جون نور. Copyright © 2007 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . 2000. SPB 7855 ARA. English title: Sanctification in Christian Life. German title: Die Heiligung im christlichen Leben. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 D - 70007 Stuttgart Germany http: //www.call-of-hope.com .

مقدمة

توجد درجة عالية من النعمة في الحياة المسيحية الاعتيادية عن الحياة الخاطئة العالمية. ويصفها مختبرها قائلاً: «إن هؤلاء المسيحيين يحلِّقون في العلو الشاهق مع النسور في مسالكها. تراهم دائماً فرحين. لهم حياة القداسة والتكريس الكامل. يستخدمهم الرب أينما وُجدوا. لهم انتصاراتهم الدائمة بمن أحبهم». هذا الاختبار الذي يتكلّم عنه الواعظ سبرجن يُسمَّى بأسماء كثيرة مثل: «الحياة العُليا»، و «التقديس الكامل»، و «الكمال المسيحي»، و «المحبة الكاملة»، و «راحة الإيمان»... وغير هذه من أسماء وأوصاف عدة تختلف حسب وجهات أنظارهم المختلفة. على أن الاختلافات لا تمس الجوهر لأنهم جميعاً يتفقون في شروط الوصول إليها، وفي وصف الاختبار نفسه. فلا يهمنا إذاً اختلاف الأوصاف والتعبيرات، بل الأهم من هذا كله هو: هل حصلنا على هذا الاختبار وأعلناه لمسيحيّي كنائسنا؟ لقد عمَّ الناس شعور عميق بالبحث في هذا الموضوع.

إن المقصود بكلمة «قداسة» بين الناس هو ما يتعلق بالحياة المسيحية وتصرفاتها في كل تطوراتها المختلفة . غير أنَّ أسمى درجات النعمة لا تجعل الإنسان غير قابل للسقوط. لأن الخطية أضلَّت قوانا الأدبية والروحية حتى أنه لا يمكن للإنسان أن يتخلّص في هذه الحياة من آثارها التي تركتها في طبيعتنا البشرية. ومهما بلغنا من درجات الاختبار في النعمة، فإن إمكانية الوقوع في الخطأ ملازمة لطبيعتنا نظراً لما تركته الخطية في أجسادنا من تشويهات، علاوة على نقائص قوانا العقلية «إِلَى أَنْ يَلْبَسَ هَذَا الْفَاسِدَ عَدَمَ فَسَادْ» (1 كورنثوس 15: 53). إن التشوهات التي نتجت عن اختلال نظام القوى الأدبية الجذري الذي وإن شُفي لا بد له من آثار يتركها على هذه الأشياء. والعضو المقطوع يمكن شفاؤه بينما التشويه الحادث لا يزول. إن وعاء طبيعتنا البشرية الذي كُسر بسقوط آدم يمكن التحامه ولكن لا يرجع لحالته الأولى قبل الكسر. ولإصلاح هذا الوعاء يجب أن يستلمه الفخاري ويسحقه ناعماً ويعمله من جديد. فإذا أتانا الموت نتحوّل إلى تراب وبعد ذلك يقيمنا الفخاري السماوي مرة ثانية روحا وجسداً روحانياً. فبقايا آثار الخطية كبقايا آثار الجروح بعد شفائها: «وَيُوقِفَكُمْ أَمَامَ مَجْدِهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي ٱلٱبْتِهَاجِ» (يهوذا 24). ولكن ما نرجوه إلى مجيء ربنا يسوع المسيح هو أن نكون محفوظين. ويوقفكم أمام مجده بلا عيب في الابتهاج (بلا لوم).

نكرر القول إن الله لا ينظر لما نعمله بل للبواعث الداخلية. فالمحبة الكاملة لا يشترط أن تقوم دائماً بعمل ناجح، بل هي في غرض القلب البسيط المخلص ليقوم بعمل ما في وسعه القيام به لإرضاء إلهه. ربما يقوم ابنك الصغير بعمل يستحق عليه التوبيخ، ولكن بالرغم من ذلك فكل ما تعمله معه هو أن تقبله. كالطفل الذي وضع حذاء أمه في الفرن ليدفئه ليكون مريحاً لها ودافئاً عندما تنتعله. فاحترق الحذاء وتلف. ومع هذا لم تلُم الأم طفلها بعد أن عرفت أن عمله هذا نجم عن باعث طيب. بهذه الكيفية يزن الله أعمالنا.

العالم يلوم من لا يعمل، والناس حولنا يهتمون بالمظاهر الخارجية، ولكن الله ينظر إلى القلب. فبينما الناس ينظرون إلى أعمالنا ينظر الله إلى غرضنا. فما أعظمها رحمة إذ لا يأمرنا أن نسير أمام العالم ونكون كاملين بل أن نسير أمامه ونكون كاملين وكل الذين يحبونه بقلب كامل يعرفون أن ما قاله داود: «هَا قَدْ سُرِرْتَ بِٱلْحَقِّ فِي ٱلْبَاطِن» (مزمور 51: 6) مقبول عنده لتكميل الناموس.

القداسة والتجارب

من الخطأ أن نفترض وجود حالة من النعمة يصل إليها المسيحي بدون أن يتعرّض للتجارب. وما دامت النفس قابلة للتجربةُ، فهي قابلة لسماع التماس الخطية وتوسُّلاتها.

فعندما يتنقى القلب من كل خطية يبطل الهياج الداخلي أي الهياج مع الجسد أو الخطية الأصلية. إذ يخرج خارج القلب كل ما هو معارض ومعاكس لله فيملك المسيح وحده بدون منازع. على أن لنا أعداءً آخرين علينا أن نحارب ضدهم بشدة إلى النهاية. «فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ ٱلرُّؤَسَاءِ، مَعَ ٱلسَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ ٱلْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ ٱلشَّرِّ ٱلرُّوحِيَّةِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ» (أفسس 6: 12) والتجربة لا دخل لها بالقداسة، فالرب يسوع نفسه جُرِّب: «مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ» (عبرانيين 4: 15).

الحياة المسيحية هي حياة حرب دائمة. وهذا لا يدل على أننا خطاة أو فينا ميل للخطية. بل بقدر ما نزداد اقتراباً من الله بقدر ما يُسرع الشيطان ليرمينا بسهامه. فحياة بعض المسيحيين ليست قريبة من الله القرب الكافي ليُحفظوا من هزيمة الشيطان عند التجربة. وكلما ازددنا تقدّماً ونمواً في النعمة يزيد الشيطان هجماته ومضايقاته لنا. لأن لا حاجة للشيطان أن يجرد قواته ضد معلّمي الدين الإسميين الخالين من النعمة.

إذ أنَّ أشد التجارب وأقواها هي في الغالب ما تعقب أو تسبق الحصول على بركة ممتازة. فلم تحصل معركة المسيح مع إبليس إلا بعد أن حلَّ عليه الروح القدس لتجهيزه لإرساليته العظمى: «أَمَّا يَسُوعُ فَرَجَعَ مِنَ ٱلأُرْدُنِّ مُمْتَلِئاً مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَكَانَ يُقْتَادُ بِٱلرُّوحِ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْماً يُجَرَّبُ» ( لوقا 4: 1 و2). فتجربته لم تكن مجرد سماح من الله بل كانت جزءاً من قائمة تدبيرات الله التي كان عليه اجتيازها. ونتيجة اختبار تجربته هذه لم يكن له أن يحصل عليها بأي طريقة أخرى، لذلك قيل عنه: «مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا» (عبرانيين 4: 15). لذا يقدر الآن أن يعين المجرَّبين. الأمر الذي صار له بعد أن قاوم هو بنفسه سهام الشرير الملتهبة.

فالتجارب يسمح بها الله لغرض معيَّن. ولا يمكن أن يقع منها علينا شيء إلا عند إذنه الخاص. ألم يُحاج الشيطان الله مشتكياً على أيوب قائلاً: «أَلَيْسَ أَنَّكَ سَيَّجْتَ حَوْلَهُ؟» (أيوب 1: 10). يقول الهنود إنه إذا قتل الإنسان عدواً له فإن قوة المقتول تضاف إلى قوة ذراعي الغالب المنتصر. وفي هذه العبارة تتوضح لنا حقيقة عظمى وهي، أنَّ كل معركة ننهزم فيها تتركنا أضعف مما دخلنا فيها والعكس بالعكس عند الانتصار.

سأل أحدهم: ألم يعرف الرب يسوع المسيح أن يهوذا الأسخريوطي كان سارقاً؟ فكان الجواب: نعم سبق وعرف. فأضاف سؤالاً آخر: إذاً لماذا سلّمه السيد كيس النقود؟ والجواب هو: أنَّ الله يسمح بوجود كيس النقود هذا عند كل شخص - ويُقصد به الشيء العزيز عند الإنسان الذي به يختبر الله إخلاصه ومحبته له - لأن التجربة لا تكون عادة إلا في الناحية المستضعفة في الأخلاق. ويسمح الله بالتجربة لعلمه أننا يمكن أن نقوي ضعفنا بغلبتنا على التجربة في نقطة ضعفنا. وكل غلبة نفوز بها تضيف قوة على قوانا الأدبية وتجعل النصر أسهل لنا في معاركنا التالية. ولهذا جعل يوحنا بنيان في كتابه (سياحة المسيحي) معظم تجارب المسيحي تكون في بداية حياته المسيحية. على أن وقت تكوين الأخلاق هو سنو الحياة المسيحية الأولى. إذ يعمل الشيطان كل ما في وسعه لهدم تلك الحياة. ولكن تتحوّل كلها لخير المؤمن.

لذلك نرى أن كثيرين من المسيحيين المخلّصين مستعبدون، لأنهم لا يعرفون أن يميّزوا الفرق ما بين الأفكار الشريرة والتفكير عن الشر.

إذ يجب أن نميّز بين الأمور المختلفة. لأنه ما دمنا في هذا العالم الشرير وما دامت الحواس الخمس فينا حساسة، فمن المؤكد أنَّ الشيطان سيحاول أن يستعملها منافذ للتجربة. ولكن لا غبار يلحق النفس التي حالما تعرض عليها التجربة ترفضها رفضاً باتاً. إذ أن النفس تستطيع أن تطردها حالاً في وقت عرضها على أبواب الحواس.

ربما يصعب على البعض أحياناً تمييز الأفكار الطارئة على العقل هل هي ناتجة عن الشر الموجود في طبيعتهم أم هي من معروضات تجارب الشيطان الشريرة؟ ولمعرفة ذلك نقول: إنّ التجربة إذا كانت من الخارج لا من داخل القلب فإنها لا تحرّك فينا أيّ رغبة لها ولا يستيقظ أيّ ميل فينا، بل تشعر النفس أنها معاكسة للأميال والرغائب. فإذا كانت هذه هي حالتنا فلنطمئن لأن لا شيء من اللوم أو التأنيب يقع علينا أو نستحقه.

الأفكار الشريرة تنبعث من الشر الموجود في القلب بينما الفكر عن الشر ما هو إلا أحد اقتراحات الشيطان التي يمليها على العقل عن طريق حاسة السمع أو حاسة النظر أو نتيجة الاختلاط أو من الشيطان عدو نفوسنا. لا شرَّ في قلوب الأشخاص المقدّسين ولذلك لا توجد فيهم أفكار شريرة.

إنّما عليهم أن يقاوموا كل فكر وهمسة شريرة تعرض عليهم. وهذا أمر لازم إذ يجب أن يتخذ الإنسان شروط الاحتراس والانتباه اللازم لكي لا يعطي للتجربة فرصة للهجوم عليه وبذلك يكون بلا لوم ولا عيب، وحتى لا تترك التجربة أي تأثير عند مرورها عليه. كالبحيرة الجميلة التي لا تتأثر ولا يتعكر ماؤها بمرور ظل السحابة عليها. فليست التجربة خطية بل الخضوع لها هو الخطية وللغلبة شرط يجب إستيفاؤه لتهتف النفس بالغلبة مع الرسول بولس.

تعرض التجربة أولاً على عقل الإنسان وفي لحظة تنتقل إلى موضع تفكيره. ومن هناك تمر إلى مواضع الإحساس فتتفاعل مع حواسه وشهواته ورغباته أي عواطفه. ومن هنا يكون الخطر إذا تهيّجت هذه الأميال وانجذبت نحو التجربة. على أنه يمكن أن تمرالتجربة في مسالكها السابقة ولا يتحتّم الأمر بالوقوع في الخطأ حتى في حالة كوْنِ القلب غير مطهر من الخطية تماماً.

تجد التجربة ميلاً متفاوتاً نحوها. ونقطة الخطر حينئذ هي باستحسان التجربة وتعزيزها بالميل الشرير. أما إذا قالت الإرادة للتجربة (لا) فحينئذ تفشل مساعي المجرِّب وتخرج النفس غالبة منتصرة.

هذا مع العلم أنه يمكن للشيطان أن يحاول محاولاته مع النفس المطهّرة تطهيراً كاملاً وإقناعها بالخضوع للخطية، فيقذف فيها طبيعة الخطية ويرجع القلب لحالته الأولى - كما أُغويت حواء أولاً التي كان قلبها في نقاوة كاملة - إلا أن مساعيه في هذه الحالة لا يكون لها النفوذ الأول على القلب قبل تلطيخه بالخطية تلطيخاً كاملاً لعدم وجود خطية ساكنة في الداخل تفتح الأبواب لقبول الشيطان الواقف خارجاً. فالقداسة هي إذاً ليست عصمة من الخطية بل حالة يكون فيها الإنسان في موقع عدم الوقوع في الخطية لأن النفس تكون في حالة القوة والثبات والرسوخ الكامل.

وهكذا ندرك أنه ولو كانت الحرب شديدة ومستمرة بين النفس والتجربة، إلا أن المسيح الساكن والمالك على النفس يعطيها غلبة كاملة في كل المواقع. وكما أن العواصف تساعد الأشجار في ترسيخ جذورها، هكذا نحن سنجد أن التجارب المتنوعة والإهانات والتعييرات وحمل الصليب هي أقوى العوامل التي تعمل لنمو النفس في النعمة.

القداسة والخطية

كل نفس عرضة للوقوع في الخطأ مهما وصلت إليه من درجات القداسة.

يقول البعض أن القداسة والتنقية التامة من الخطية هما عين الشرك الذي يوقع النفس تحت التجربة. لأنهم يقولون إن التجربة لا توجد في نفس لا ميل لها للخطية في طبيعتها. ولكن هذا الافتراض غير صحيح وإلا لكانت الملائكة وآدم في الجنة والرب نفسه لم يجربهم بتجارب حقيقية. ولكن الواقع هو أن الملائكة سقطوا وآدم أخطأ والرب يسوع المسيح قد جُرِّب: «مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ» (عبرانيين 4: 15). وهذا كاف لبيان أن النفوس المقدسة مجرَّبة.

فإذا كانت الملائكة قد سقطت وكذلك آدم، فبالأحرى بنا أن نسهر ونصلي لتكون قلوبنا جادة ونشيطة في طلب القداسة والنقاوة.

ومع أن الإنسان ذا القلب النقي هو في حالة هي أبعد ما تكون عن الوقوع في الخطية، إلا أنه يجب أن ننزع الثقة بالذات ونكون في أقصى ما يمكن من حالات الحذر والتيقظ التام خوفاً من أعدائنا لئلا: «نَرْتَبِكُ أَيْضاً بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ» (غلاطية 5: 1). فالأمان التام هو نتيجة السهر الكامل في النعمة لئلا تدخل في النفس العجرفة والكبرياء: «مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَليَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ» (1 كورنثوس 10: 12).

وعلى ذلك فالعصمة الكاملة هي ليست من اختبارات المسيحي إلا أن المقدرة على العيش بدون الخطية أمر ممكن ومستطاع.

إمكانية الوقوع في الخطية أمر يُحتمل حصولهُ، غير أنّ هذا لا يعني بالضرورة إمكانية حتمية السقوط لأنّ نعمة الفادي تمكِّن الإنسان، من وقت تجديده، أن يستمر غالباً منتصراً بدون الوقوع في عمل أي خطية. ماذا يقول الرسول بولس في رسالته إلى أهل رومية: «أَنَبْقَى فِي ٱلْخَطِيَّةِ لِكَيْ تَكْثُرَ ٱلنِّعْمَةُ؟ حَاشَا! نَحْنُ ٱلَّذِينَ مُتْنَا عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْفَ نَعِيشُ بَعْدُ فِيهَا؟» (رومية 6: 1 و2) وأيضاً في رسالته إلى أهل تسالونيكي يقول: «أَنْتُمْ شُهُودٌ، وَٱللّٰهُ، كَيْفَ بِطَهَارَةٍ وَبِبِرٍّ وَبِلاَ لَوْمٍ كُنَّا بَيْنَكُمْ أَنْتُمُ ٱلْمُؤْمِنِينَ» (1 تسالونيكي 2: 10) هذه كلمات إنسان يموت مثلنا ولكنها كانت حقيقية لأن الحياة التي عاشها يشهد لها الروح القدس أنها مقدسة وبارة وبلا لوم. وتعليم الرسول يوحنا يتمشَّى جنباً لجنب مع تعليم بولس الرسول.

فإن غرض رسائله كلَّها هو تحذير المؤمنين من الخطية وحفظ أنفسهم منها: « أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هٰذَا لِكَيْ لاَ تُخْطِئُوا» (1 يوحنا 2: 1) ومن يقرأ الأصحاح الثالث من رسالته الأولى بدون غرض سوى طلب الحق، يتجلَّى له أنّ المؤمن كما خلُص بالإيمان بالمسيح من خطاياه هكذا عليه ألا يخطىء بالاستمرار ثابتاً فيه. لأنّ المؤمن يجب عليه عدم فعل الخطية.

تصبح إمكانية عدم فعل الخطية هنا إلزاماً لكل مؤمن. لا فرق بين المؤمن البسيط والمؤمن الذي يتمتَّع بحياة عالية من الإيمان. والفرق في قولهم إنّ الأول يخطئ والثاني لا يخطئ خطأ، لأن هذا هو الفرق بين الخاطئ والمؤمن كما يقول الرسول يوحنا: «بِهٰذَا أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ ظَاهِرُونَ وَأَوْلاَدُ إِبْلِيسَ» (1 يوحنا 3: 10). يقول البعض إنّ المقصود من هذه الآية هو الخطايا المألوفة، ولكنَّ الوحي لا يقول ذلك ويوحنا الرسول نفسه أكّد ذلك عندما قال: «مَنْ يَفْعَلُ ٱلْخَطِيَّةَ (أي عن معرفة وإرادة( فَهُوَ مِنْ إِبْلِيسَ» (1 يوحنا 3: 8). ولا توجد قط درجة ما من النعمة مهما كانت تجيز للإنسان فعل الخطية الارادية، حتى ولو كان المسيحي في أبسط درجات النعمة فإنه لا يفعل الخطية تكراراً.

يوضح هذا الأصحاح نقطة أخرى وهي استحالة دوام بنوية المؤمن لله في حالة استمراره على فعل الخطية إذ لا يمكن اتحادهما معاً في شخصية واحدة. وكما أنه لا يمكننا أن نقول عن إنسانٍ سارقٍ إنه أمينٌ أو عن إنسانٍ كاذبٍ إنه صادقٌ في ذات الوقت، كذلك لا يمكننا أن نقول عن إنسانٍ يفعل الخطية باستمرار وبتكرارٍ بأنه مؤمنٌ بذات الوقت. عندما تولد النفس من الله يحل فيها مبدأ جديد وهو «محبة الله» وهذه المحبة هي شيء فوق الإرادة. ولا يمكن أن تكون الإرادة ضداً لناموس الله ما دامت هي في محبة معطي الناموس. والآية الآتية توضح ذلك وهي: «كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ ٱللّٰهِ لاَ يَفْعَلُ خَطِيَّةً، لأَنَّ زَرْعَهُ يَثْبُتُ فِيهِ (مبدأ المحبة الجديد)، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ لأَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنَ ٱللّٰهِ» (1 يوحنا 3: 9). فالعبارة (لا يستطيع أن يخطئ) يقولها كل ابن إذا جرب في محبة أبيه لأنه يرى نفسه تحت إلزاميات عظيمة وكلمة «لا يستطيع» هي لأنه لا يريد. فعدم الاستطاعة ليست من جهة إمكانية الجسد بل هي بحسب الناموس الأدبي.

يوجد فرق بالطبع بين ارتكاب الخطية نتيجة الضعف وعدم السهر. وبين الخطية المرتكبة بمحض الحرية والاختبار المطلق. ففي وقت الغفلة وعدم الانتباه ربما يرتكب أعظم المسيحيين خطيئة ما. ولهذا النوع من الخطايا شفاعتها عند رئيس كهنتنا الأعظم. ولكن حتى خطايا الغفلة هذه ليست حتمية ويمكن ألا تكون.

وكلمة (إن) الشرطية تدل على إمكانية عدم الحصول في الآية: «وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ ٱلآبِ» (1 يوحنا 2: 1) وإلا فما كان من لزوم للشرط هنا إذا كان المقصود منها إنَّ كل إنسان لا بد أن يخطئ بل ويصبح المعنى المفهوم ضداً لفحوى الرسالة كلها.

فالتعليم الكتابي بلا شك هو هذا أنَّ المسيحي لا يتحتَّم عليه فعل الخطية وأن طبيعته ضد الخطية ولو أنه ممكن أن يسقط ولذلك إن أُخذ إنسان في زلة فلا يفشل لأن الله دبَّر له في رحمته بالمسيح يسوع صفحاً وغسلاً ثانياً عندما يعترف بخطيته التي ارتكبها.

كم من المشاحنات تنشأ عند التعبير عن الخطية وذلك لعدم الدقة في نص تعبيرها. فلا نفهم من هذا الفصل أن الخطية هي انحراف لا إرادي عن ناموس الحق بل هي فعل اختياري ضد ناموس الله بناء عن معرفة من الإنسان. والمفهوم من فعل الخطية الواردة في كتاب العهد الجديد هو أن يتعدّى الإنسان بمحض اختياره ناموس الله المعروف لديه. هذا على أننا لا نقول أبداً أن تعدّي الناموس في حالة عدم وعي واختيار شخصي هو خطية بل أعمال غفلة وسهو.

ربما يظهر هذا النوع أنه خطية عند من يلاحظه، ولكن هذا العمل ينقصه الشيء المهم الذي يجعل العمل خطية وهو تدخل الإرادة في الفعل. لأن الخطية في الحقيقة هي في الإرادة والغرض أكثر منها في النتيجة الظاهرة. وكل عاقل يقول أن جرم الخطية هو في التعدي عن قصد لارتكاب هذا الخطأ. على أن شعور الإنسان الادبي يقوده للحكم ببراءة من يرتكب خطأ في حين غفلة وعدم معرفة. فيجب أن نميز بين الخطية وأعمال الغفلة والسهو. وإذا فحصنا كلمة الله. نجد هذا واضحاً ومتميزاً الواحد عن الآخر ففي يوم الكفارة العظيم تغفر أغلاط (جهالات) كل الشعب التي أخطأوا بها وذلك بدم الذبيحة العمومية التي يقدمها رئيس الكهنة لأجل نفسه ولأجل الشعب (عبرانيين 9: 7) ولكن حيث يوجد عبراني ارتكب خطية إرادية بشخصه كان عليه أن يقدِّم ذبيحة خاصة لذاته فقط .

لكي تغفر الخطايا يجب أن يعترف بها مرتكبها ويلتجئ إلى دم الرش دم الرب يسوع المسيح. ولكن الخطايا الغير إرادية المسمَّاة جهالات فهذه تُغطّى بدم المسيح بدون عمل الإيمان المحدود من جانب المؤمن. وقد تكلَّم الواعظ وسلي عن هذا النوع من الخطايا فقال: «يمكنكم أن تسمّوها خطايا إذا شئتم وأما أنا فلا أدعوها بهذا الاسم لأنه ما هي الخطية؟ أليست هي تعدّي الناموس؟ ولكن هل كل تعدّي للناموس هو خطية؟ من يقدر أن يثبِّت ذلك؟»

ما دمنا في الجسد لا بد لنا من غلطات وضعفات ونقائص غير إرادية. فقوة المسيح هي القوة الحافظة لنا في كل ساعة من وقت تجديدنا.

فهو يقوّي فينا الإرادة ويجعلها كالصوان قادرة أن تصد كل فكر ضد إرادة الله. لأنه لا توجد قوة أرضية أو جهنمية تقدر أن ترغم الإنسان لإرتكاب الخطية ما دام هو متكلاً على الله للنجاة منها. إن المسيح لم يأتِ ليستر خطايانا بمعنى ليكون لنا بمثابة حق وحرية لفعلها، بل ليعطينا نصرة مستديمة على الخطية ويعلمنا أننا بوضع ثقتنا فيه لا يمكن أن نهزم قط، فإن الرسول بولس في تعبيره عن الغلبة عبَّر عنها بوفرة وفيض فقال: «يَعْظُمُ ٱنْتِصَارُنَا» (رومية 8: 37). قال الدكتور رندل هارس: «يجب أن نعبّر عنها بهذا التعبير وهو أن لنا غلبة بدرجة عظيمة جداً وفائقة». ويقول كفرد معطياً روح المعنى في ترجمته قائلاً: «غلبتنا بعيدة الحدود». وهذا ما يحقق تماماً قول الرسول بولس: «وَلٰكِنْ حَيْثُ كَثُرَتِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱزْدَادَتِ ٱلنِّعْمَةُ جِدّاً» (رومية 5: 20).

فلو تُرك الانسان لنفسه لوافقنا على أن الغلبة على الخطية أمر مستحيل ولكن الأمر لا يتوقّف على ما نستطيع نحن أن نعمله بل على ما يستطيع هو. وهل يصعب على الرب أمر؟

ألا نستطيع بمعونة الله أن نعيش بلا خطية لحظة واحدة؟ وإذا استطعنا لمدة لحظة فلماذا لا نستطيع لمدة ساعة ولمدة يوم وسنة؟ هل نريد أن نضع حدوداً لقدوس إسرائيل !! لا يمكن أن تكون للإنسان غلبة على الخطية ما لم ينتظر هو ذلك. ولا يمكن أن ينتظر إنسان شيئاً بالإيمان إلا ويختبره. نحن ضعفاء ولكن لنقل مع الرسول بولس: «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي يُقَّوِينِي» (فيلبي 4: 13)، «وَكُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ» (مرقس 9: 23) .

إن لم يفهم الإنسان طبيعة الخطية لا يستطيع أن يفهم طبيعة نفسه. والأهم من ذلك فإنه لا يستطيع أن يفهم طبيعة الله ولا معاملاته معه لأنه لا يمكن لأحد أن يقدّر قيمة عمل المسيح الفدائي ما لم يختبر جرم الخطية في نفسه. وللخطية وجوه مختلفة ولكنها تظهر بشكلين ظاهرين متميّزين. وبدون إدراك هاتين الخاصتين، الخطية الفعلية والخطية الأصلية، لا يمكن فهم طبيعتها ولا العلاج الذي دبره الله لها.

يقول أحد الكُتّاب إن الإنسان ليس بخاطئٍ لأنه إذا عمل الشر فما ذلك إلا لأن طبيعته هي الخطية. فمهما درَّبته ومرَّنته لا بد وإن يخطئ لأن فيه طبيعة الخطية. ووراء الخطية الفعلية الخطية الأصلية التي تسببها. وإذا أزلنا السبب بطل المسبب عنه... إن مضمون كل ما ورد في الوحي يعلمنا أن الغرض من موت المسيح لم يكن النجاة من نتائج الخطية فقط بل الخلاص من علة الخطية أي الخطية الأصلية وهي كما يسمّيها الرسول بولس «جسد الخطية» الذي يجب أن «يُصلب» وُيخلع «كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّة» (رومية 6: 6). فطريقة الله ليست تقليم الغصون أو علاج الدمامل بل الرجوع لأصل العلة.

القداسة وسكنى الله في الإنسان

القداسة هي حالة من النعمة فيها تخرج كل الخطية من القلب.

فالخطية تهرب من حضرة الله القدسية كما تهرب الظلمة أمام النور. وكما أن كل مكان تغشاه الظلمة إذا خلا من النور كذلك كل جزء من القلب تغشاه الخطية إذا خلا من محضر معطي الحياة.

يعلم البعض أن الشرط الوحيد لسكنى الله في النفس هو أن تنقي النفس ذاتها لقبوله. ولكننا لا نستطيع أن نطهّر ذواتنا كما وأننا عاجزون أن نأتي بالمسيح ليمتلكنا. فعلينا إذاً أن نسمح له ليدخل قلوبنا ويطهّرنا هو بعملية حضوره هذه ويُعدّنا وحده لسكناه فينا.

لقد تعودنا أن نقول أنّ المسيح يخلصنا بموته على الصليب. هذا حق من وجهة عامة ، ولكنه ليس كل الحق، لأننا نحتاج إلى المسيح ليكون (فينا) كاحتياجنا إليه ليموت (عنا) بالثقة فيه، هو الذي أتمّ أمر خلاصنا على الصليب نحن نخلص، ولكن لكي نطهر من الخطية الساكنة فينا ولنحيا حياة الغلبة يجب أن يسكن المسيح نفسه فينا ليكون لنا مخلصاً حياً دائم الحضور، وبقدر ما نسلم حياتنا له ونخضع لملكه وقيادته نتمتع بحياة القداسة، وهو يقدم لنا مجيئه بشخصه ليكون لكل واحد وللجميع الحياة الساكنة فيهم. الشيء الذي يولد فينا نقاوة حياته ويمكننا أن نحيا بين الناس كما عاش هو.

يتكلم المسيح عن نفسه كالساكن في شعبه والباعث للحياة الفائضة فيهم كما تفيض الكرمة في أغصانها، فحياة القداسة تشبه كثيراً حادثة التجلي التي أظهر فيها اللاهوت نفسه معلناً ذاته في ضعف الناسوت. لأن ما القداسة إلا هي لمعان نور حياة الله في الإنسان. يقول أحد الكُتّاب الأولين: «إن القداسة هي حياة يسوع في الإنسان فتغيره». أي أن الشخص يظهر هنا على الأرض بصورة تشابه نوعاً ما الشكل الذي سيكون عليه عند مجيء (الرب في مجده). فلو امتلكنا المسيح امتلاكاً كاملاً، فلا بد وأن يعمل بنا، بالرغم من استعمال الوسائط الضعيفة، أعمالاً مجيدة كان يعملها هو لو كان هنا على الأرض بالجسد، لأن غرض سكنى المسيح في القلب هو لكي يظهر حياته فينا، وهذا هو سر الحياة المقدسة.

لا يوجد أحد قدوس سوى الرب الذي عندما يأتي ويأخذ مسكنه في وسط كيان النفس ينقي كل البيت مخترقاً إياه بقوته المتلألئة من حضوره المبارك. سألت المرأة السامرية عما إذا كانت تستطيع أن تشرب من الماء الحي. فأجابها المخلص أن البئر يجب أن تكون فيها.

وهذا عين ما يكون لنا في حالة القداسة أي ليست عطايا الله بل شخصه يكون فينا. إن كان لنا العريس فسيكون لنا كل ماله، ولكن المعطي نفسه يسمو بما لا يقاس فوق عطاياه لأن العطايا تزول ولكن المعطي يدوم. قال المسيح: «إِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً» (يوحنا 14: 23). هذا شيء لم يعرفه قدّيسو العهد القديم. كان الله مع إبراهيم وموسى وإيليا ولكنه الآن يسكن في أضعف وأبسط شخص من قديسيه إذا قبله بإخلاص. وهذا هو السر المخفي منذ أجيال ودهور: «ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ ٱلْمَجْدِ» (كولوسي 1: 27). كما هو مكتوب «بَلْ نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ فِي سِرٍّ: ٱلْحِكْمَةِ ٱلْمَكْتُومَةِ، ٱلَّتِي سَبَقَ ٱللّٰهُ فَعَيَّنَهَا» (1 كورنثوس 2: 7). والمسيح «صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ ٱللّٰهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً» (1 كورنثوس 1: 30) وهذا ما يقدّمه لنا الإنجيل أي شخص المخلص الحي وهو المسيح حياتنا.

يصف الوثنيون الفضيلة بأنها قمع الشر وكبح جماحه، ولكنهم لا يعرفون شيئاً عن القداسة التي هي لمعان حياة الله في الإنسان. فالمسيحية هي الديانة الوحيدة التي تعلّم أن الله يسكن في الإنسان. قال المسيح أثناء حياته على الأرض إنَّ الآب يسكن فيه حتى أن أقواله التي ينطق بها وأعماله التي يعملها ليست له بل للآب الساكن فيه. وهو يريد أن يسكن فينا كما كان الآب فيه. فيفكر بعقولنا ويريد بإرادتنا ويعمل في حركاتنا لنكون قنوات فيها يسكب من نفسه ومن حياته المستترة فينا إلى الآخرين، «بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي ٱلْمَجْدِ» (فيلبي 4: 19)، الشيء الذي هو قياس المدد الذي لنا فيه. لأن الملك يعطي كملك والله يتصرف كإله. فهو يريد أن يعمل فينا وبواسطتنا ما يليق بمقامه.

الأشخاص الذين لم يمتلك المسيح قلوبهم ملكاً كاملاً لا يقدرون أن يختبروا حياة الغبطة والسعادة التي لا تنفصم عراها الناتجة عن الشعور الدائم بسكنى المسيح فيهم الشيء الذي يجب أن يتمتّعوا به باستمرار. وما ذلك إلا لأن زيارات المسيح لهم قصيرة. شركتهم متقطعة بل ومعطلة. وسبب ذلك هو لأنهم لم يكرسوا ذواتهم تكريساً تاماً للمسيح.

فعبثاً يصلي مثل هؤلاء لطلب ملء الله. لأن الله يريد الكل ليملأ الكل. إذ أنه عندما نبطل حياة الذات ونخلص منها فهو يملأنا من ملء نفسه بكيفية طبيعية كما يندفع الهواء ليملأ فراغاً خالياً منه، وهذا الفراغ نكونه بإنزال أصنامنا عن عروشها، وفي الغالب فإنّ الصعوبة الوحيدة التي تسبب كل التأخير هي مشكلة عدم رضا النفس أن تكرس ذاتها بل وإخضاعها تماماً للمسيح بحيث لا تعمل شيئاً بناء على إرادتها الشخصية، خصوصاً لأن الذات تستطيع أن تتدخل في أمور صغيرة بطريقة محسوسة كما في الأمور العظيمة، وربما يكون العائق زهيداً جداً يخرج عن دائرة ملك المسيح، كتفضيل أمر مستحب لنا. أو ميل داخلي نحو شيء لا يرضاه المسيح. أو عدم القيام بواجب بسيط أو لزوم الانفصال عن جماعة لا يجب معاشرتها أو التمسُّك بنوع من الزينة. وعلى أي حال إن لم تُصلب الذات تماماً لا يمكن الإنسان أن يختبر معنى امتلاك المسيح لنفسه.

يجب أن يُفرغ الإنسان يديه تماماً ليمسك بهما مسيحاً كاملاً ... لم يقل الرسول بولس مع المسيح صلبت فأحيا أنا لا هو. لأن هذا ما يحصل إذا كانت الذات باقية تنازع المسيح في عرش النفس. الذات هي التي يجب أن تُسمَّر بالصليب لكي يأخذ المسيح عرشه في النفس. يقول لوثر عن اختبار أشبه بهذا: «لو أُتي شخص وقرع باب قلبي وسأل عمَّن يسكن فيه. لأجبته أن الساكن هو المسيح وحده وليس مارتن لوثر لأنه مات من مدة طويلة». لأنه كما مات يعقوب الأناني الذي يطلب ما لنفسه وخلق منه إسرائيل الغالب هكذا الحال معنا. فمن رماد حياة الذات تخلق الحياة الغالبة. لأنه عندما نخضع آخر ما في الإرادة الذاتية حينئذ تقوم فينا قيامة الحياة الجديدة، وعندما يوجد فينا هذا الاستعداد لأن نقول إني مستعد أن أترك كل ما لا يكرم اسم الرب يسوع ويمجده.

بل بالحري أرفضه. ولذلك أقدم نفسي وكل مالي بين يديه ليس في هذه الحياة فقط بل وفي الأبدية أيضاً فأتبعه أينما يسير، وعندما نصل إلى هذا الحد فهو يمتلكنا ويدخل إلى قلوبنا فيطهِّرها وينقيها من كل شر معلناً لنا ذاته في غرف القلب الداخلية وحينئذ نتحقق في أعماق هدوء القلب أنَّ لنا مخلصاً ساكناً فينا.

القداسة والسير مع الله

ليست القداسة حالة تصل إليها النفس، ولكنها طريق يسير فيها المفديون متمتعين بدوام تابعيتهم للمسيح طول مدة السير.

ندخل طريق القداسة بالتكريس والايمان كعملين محدودين في وقت معين. ثم نواصل السير فيه بدوام التسليم والثقة، وكلما سرنا مع المسيح زالت منا الآثار العالمية وانطبعت أذهاننا بالطابع السماوي. فنتغير إلى صورة المسيح إلى أن تضيء وجوهنا بالمجد السماوي. كما حصل مع موسى الذي: «لَمْ يَعْلَمُ أَنَّ جِلْدَ وَجْهِهِ صَارَ يَلْمَعُ» (خروج 34: 29). وذلك بتأثير المجد اللامع الذي اكتسبه بالوجود في حضرة يهوه. هكذا كل من يسير مع الرب تنبعث منه قوة وتأثير لا يعلمه هو. يؤثّر في الخطاة فيرعبهم كارتعاب الشيطان عند رؤية آدم وحواء في عدن قبل دخول الخطية. لقد قال عن حكمة أحد الكتاب الأقدمين: منذ البدء توجد طبقتان من المسيحيين. الطبقة الأولى وتشمل الأغلبية الساحقة. وهم من يعيشون عيشة لا أذى فيها للغير، بل وليست ممتلئة أعمالاً صالحة مبتعدين عن الخطايا الجسيمة متذكرين وصايا الرب، غير باذلين مجهوداً في الحرب ضد العالم ولا جادين في مساعيهم لتقدم ونجاح مملكة المسيح. وهم لا يبتغون الوصول لحالة روحية سامية ممتازة ولكنهم راضون بالدرجة الاعتيادية التي بلغوها كجيرانهم ومعاشريهم. وأما الطبقة الثانية فإنها لا تألوا جهداً في الابتعاد عن كل رذيلة، وهم أيضاً غيورون للأعمال الحسنة، متمسِّكون بفرائض الرب وباذلون أقصى ما في وسعهم للوصول إلى الفكر الذي في المسيح. يسيرون في أثر خطوات سيدهم المحبوب. يدوسون بلا تردد على كل متعةٍ يرون فيها تعطيلاً لهم في سبيل بلوغهم طريق النفع العظمى. وهم ينكرون ذواتهم ليس فقط إزاء كل ما يجذب قلوبهم أو في كل ما هو محرم بل في كل ما يعرفون بالاختبار أنه ينقص في فرحهم بالرب. يحملون صليبهم يومياً وصلاتهم في فجر كل يوم هي: «أيها الرب يسوع المبارك مجِّد ذاتك في هذا اليوم»، لأنّ فعل مشيئة الله هي طعامهم وشرابهم، وهم في حركة دائمة ولا يهدأون إلا في مكان الخلوة حيث يلذ لهم الفرح المقدس والتسامي الروحي في الحضرة الإلهية فيتركون مخادعهم وهم مثل موسى الذي نزل من جبل الرب ووجهه يلمع بالمجد الإلهي. وإذ يزورون الناس المحتقرين والمنبوذين يبرهنون بذلك على قدسية بشارة الإنجيل.

مسيحيون كهؤلاء هم أواني للكرامة. ذوو نفوس عالية ومكانة سامية يستخدمهم الله لإتمام أغراضه. لقد جرت العادة في الأزمان الغابرة في إنكلترا أن كل من يدخل في خدمة الملك يصبح نبيلاً بحكم وظيفته. ونحن فخرنا العظيم أن يستخدمنا الرب. وإن كانت نتائج الخدمة كالصيت والشهرة وحسن المكافأة لها قيمتها لكن لا يوجد شيء أعظم وأسمى وأكثر بركة من خدمة الرب في حد ذاتها ولو كانت مجردة عن كل شيء آخر. وعلى ذلك فالأواني الموضوعة جانباً الغير المستخدمة، هي تلك الغير النافعة لخدمة السيد. فعلى كل شخص أن يقرر لنفسه من أي نوع هو.

ولكي لا نخطئ في الأمر لنتأمل في بعض مميزات من هم أواني للكرامة.

في 2 تيموثاوس 2: 20 - 21 يذكر الرسول بولس ثلاث ميزات «أواني الكرامة» وهي «مقدسة» و «نافعة لخدمة السيد» و «مستعدة لكل عمل صالح». الكلمة «مقدسة» هي من ضمن الكلمات التي نكررها ولكن قلما نفكر أن نصل إلى معناها الخاص المقصود في العهد الجديد: يُترجم أحياناً نص الكلمة الأصل بمعنى (مبارك) و(القدس) لكن الفكر الأصلي في الاثنين بمعنى واحد. وهو فكرة العزل والنقاوة. ففي العهد القديم قُصد بها أن يكون الشيء مفروزاً لخدمة مقدسة. فقد كان بنو إسرائيل يأخذون أبكار ماشيتهم ويعزلونها عن بقية الغنم مخصِّصين إياها للرب لتقدمتها ذبائح. واستعملت الكلمة أيضاً على مدينة أورشليم والهيكل وآثاثه وعن الكهنة القائمين بالخدمة فيه الذين كانوا يُفرَزون لخدمة الرب الشريفة دون أي خدمة أخرى. وبخصوص هارون وأولاده الذين فُرزوا لهذه الخدمة، فُرض عليهم أن يكونوا علاوة على الفرز أيضاً مقدَّسين. فعند دخولهم للخدمة يقدمون كبش التكريس ويُرش من دمه عليهم. على شحمة الأذن وإبهام اليد اليمنى وإبهام الرجل اليمنى. إشارة على أن الإنسان يجب أن يكون كله نقياً طاهراً. وعند ذلك كان يوضع عليهم دهن المسحة على الجسم والملابس. ويُكرّر هذا العمل لمدة سبعة أيام. فتكرار الغسل ورش الدم ولبس الثياب البيضاء كانت كلها ترمز إلى النقاوة اللازمة قبل أن يكون الإنسان (نافعاً لخدمة السيد). من المحتمل أن فكرة الهيكل قد خطرت أولاً في فكر الرسول فقادته لأن يذكر أهم مؤهلات الخدمة وهو (التقديس) كشيء لازم لكل خادم كي يكون (إِناءً نافعاً).

إنّ المعنى الأساسي لكلمة تقديس هو «فرز». يتقدَّس الانسان لما ينفصل عن كل شر وفساد ويكرس كل قلبه وحياته لعمل مشيئة الله. فالقداسة من هذه الناحية هي شيء يجب أن يتمِّمه الشخص بنفسه كعمل محدود معين. فيخضع نفسه لله في روح التسليم الكلي لأن تسليم نفوسنا لله يجب أن يكون كاملاً شاملاً للجسد والنفس والحياة والمواهب والصيت. وفي كل شيء لكي يستخدمنا الله في أي زمان ومكان بالكيفية التي يريدها وليس بغيرها سواء كان هذا يختص بكياننا الداخلي أو بأعمالنا والآمنا. وتقول النفس مع المرنم ما معناه : (ها أقدم لك كلّي ومالي. أصحابي ووقتي وما يخصني في هذه الأرض. نفسي وجسدي جميعاً لك الآن وإلى الأبد).

لا يمكن أن نكون لله تماماً ما لم نقرر ذلك الأمر وننتهي منه مرة واحدة كعملية معيّنة محدودة بمحض إرادتنا وعواطفنا وأغراضنا، لأنه باستخدام كل ما لنا من مقدرة وموارد بل وكل شيء نصبح ملكاً له للأبد.

وهذا التكريس ليس هو التقديس ولكنه جزء منه وهو الجزء الخاص بالناحية البشرية. لأنه بذلك تُعدّ الطرق لما يعمله الله من ناحيته الإلهية. ولكي يكون التقديس فينا تاماً يجب إذاً أن يتمم الله عمله فينا وهو عمل التنقية وتكميل طبيعتنا الأدبية الموعود بها لنا في العهد الجديد، والتي لأجلها دفع المسيح الثمن وأعد ما يلزم. فالتكريس هو واجبنا نحن. وأما التطهير فهو عمل الله وله وحده. والله يتمم عمله على أثر إتمام واجبنا. ومن أجل هذا قدم الرسول بولس صلاته السامية من نحو أهل تسالونيكي «وَإِلٰهُ ٱلسَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِٱلتَّمَامِ. وَلْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ وَنَفْسُكُمْ وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً بِلاَ لَوْمٍ عِنْدَ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (1تسالونيكي 5: 23).

فمعنى التقديس التام هو تخليص النفس من كل ما فيها من الطبيعة المضادة لله. وعندئذ يتقدس كل ما لنا من كفاءة وإستعداد وقوة. ويستعمل الرسول يعقوب أيضاً تعبيراً خاصاً لم يرد إلا مرة واحدة في رسالته: «لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ» (يعقوب 1: 4). والكلمة (بلا لوم) هي عينها المترجمة هنا (تامِّين وكاملين) وشرحها ورد حالاً في العبارة التي تلتها إذ قال (وغير ناقصين في شيء). ووردت الإشارة مرة ثانية في نظام ذبائح العهد القديم وهي أن يكون الحمل المقدّم كذبيحة، تاماً في تكوينه وأعضائه. لا تشويه به بنمو شيءٍ زائدٍ فيه أو نقصٍ في أعضائه. ربما يكون الحمل كبير أو صغير الجسم والسن أو سمين أو هزيل الجسم عن غيره من الأغنام. ولكن ما دامت كل أعضائه بلا تشويه بسبب ضعفٍ أو نقصٍ أو زيادةٍ حينئذ تُعتبر الذبيحة كاملة بحكم الناموس. كذلك المسيحي الذي له هبات الروح ولا ينقصه منها شيء بدون وجود ما يناقضها في داخله يمكن أن يُحفظ تاماً وكاملاً بلا لوم إلى مجيء الرب يسوع لأن له إله السلام هذا.

وكلمة (نفسه) هي لتأكيد حقيقية عمل تنقية النفس من الخطية، الأمر الذي هو من عمل الله وليس لنا لأنه سيحل الفشل الأبدي إذا كان الأمر يتوقف على مسعانا البشري، ولكن كل الصعوبات تتبدد حينما يتولى الله الأمر. إنّ الله إله السلام الذي ابتدأ بعمل النعمة في قلوبنا هو نفسه سيكمل عمل التنقية. ولا حاجة إذا لمرور وقت طويل بين تسليم النفس وبين إزالة طبيعة الفساد الداخلية بالقوة الإلهية. لانه عندما يوضع الكل على المذبح لا يلزم شيء آخر إلا أن نثق فيه كي يتمم العمل الذي يستطيع ويريد أن يعمله. لأنه يطهر ويحفظ في النقاوة كل الذين يثقون فيه بالتمام. والعبارة الواردة في صلاة الرسول تبين أن عملية التطهير تتم في لحظة ولا تستغرق إلا برهة من الزمن لأن الفعل يطهر هو في صيغة تبين إتمام العمل في لحظة ككل الأفعال الواردة تحت هذا الباب من الأفعال. ولا يوجد مثل هذه الأفعال لا في العربية ولا في الإنكليزية ولا في أي لغة أخرى سوى اليونانية . فالتقديس لا يُقصد منه أن يعدّنا فقط للعالم الآتي بل هو الإعداد الوحيد في هذا الزمان ليكون الإنسان نافعاً لخدمة الله.

نحن بمثابة الأنابيب أو القنوات التي فيها تجري النعمة الإلهية فتوصلها إلى النفوس. ولكن إذا كانت هذه القنوات مسدودة بالكبرياء أو بالأغراض الواطئة الردية أو بروح الذات والأميال الأرضية أو بشرور أخرى مختبئة في الداخل، فكيف نكون إذاً نافعين لخدمة السيد؟ ولكن لما نُفرِغ أنفسنا من هذه ونمتلئ من الملء السماوي حينئذ يعظم الحيز ونفيض بالبركة لمن حولنا من ملء النعمة الجارية فينا.

ألا تعلمنا اختباراتنا أن القداسة والنفع في الخدمة هما حلقتان لا تنفصلان. لأن الله يكلل بالنجاح النفس التي يقدمها بتمام عمله فيها. فلا يتوقف الخير الحقيقي للعالم على قوة العقل مهما بلغت أو على الذكاء مهما كان مفرطاً أو على الفصاحة مهما كانت أخّاذة بالنفوس بل يتوقف على مجرد التقوى وقداسة الحياة والتكريس الكلي، الأشياءالتي بها نستمد قوة ولا يُعد الذكاء البشري بجانبها شيء يذكر. ربما تظهر الأعمال بدون القداسة أن لها نتائج عظيمة ومرضية. ولكنها في الحقيقة تكون قليلة غير مشبعة لأنه يمكن أن نعمل نحن لأجل الرب وهو لا يعمل معنا. وفي الحقيقة لا يمكن أن يكون الإنسان نافعاً لخدمة السيد بكيفية سامية عالية ما لم يتوفر فيه التكريس والنقاوة. ولهذا السبب فكثيرون من المسيحيين غير نافعين للخدمة. ونتائج خدمتهم ضعيفة جداً وضئيلة . لأنها ما هي إلا خدمات عالمية دنيوية خالية من الروحانية ليس لها من العمل الروحي إلا الإسم وذلك لأن مؤهلاتهم الروحية لا تؤهلهم إلا لهذا النوع من الخدمة فقط.

فأول عطايا الروح لنا هي تقديس نفوسنا وبه نصير نافعين لخدمة السيد. ولا يمكن أن تكون خدمتنا مقبولة ما لم تكن نفوسنا مقدسة .

يخبرنا مؤرخ روماني عن شخص قدّم هدية لزوجة قيصر لمناسبة تتويجها بينما كان هو عاصٍ على القيصر. فأرجع القيصر له هديته مرسلاً معها كلمة تحذير: قدِّم أولاً الطاعة وبعد ذلك الهدية. وهذا معنى ما يقال لكل مسيحي هنا ولو عند أتفه الأشياء إذا لم يخضعها لسلطة المسيح. ولكن إذا كنا مفرزين تماماً لخدمة الله ولإتمام إرادته وتنقينا وتطهرنا من دنس الخطية فحينئذ نكون على الدوام مستعدين لخدمته.

وكما أن الآلات الجراحية في المستشفيات تُحفظ في محاليل خاصة كي لا تنقل العدوى للجروح هكذا الحال معنا كآلات للخدمة إذ لا يمكن أن نلمس جروح الخطية إلا ونضر أنفسنا أو غيرنا ما لم نتحقق لحظة فلحظة أنَّ: «دَمَ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (1يوحنا 1: 7).

وإن كان الفضل يرجع ليس إلى الآلة المستعملة بل إلى مستعملها، هكذا الحال في المسيحية: «فَضْلُ ٱلْقُّوَةِ لِلّٰهِ لاَ مِنَّا» (2كورنثوس 4: 7). على أن الآلة نفسها لها دخل كبير في النتيجة النهائية. فحسن الخط مثلاً وجماله يتوقفان نوعاً ما على القلم المستعمل وكذلك لا يستطيع الفنان أن يخرج من قطعة الرخام عملاً جميلاً بدون استعمال الآلات.

وقد قال شاعر مسيحي ما معناه أنَّ (الله لا يعمل أعظم أعماله بنفسه بل عن طريق أعظم رجاله).

وهذا الكلام لا يعني عدم احترام الله أو هرطقة بل إنّ الله يتمِّم أعماله عن طريق استخدام البشر. وإذا كان الانسان، الواسطة البشرية، غير (نافع) أو لائق للخدمة فلا يمكنه أن يقوم بالعمل على الوجه الأكمل بدون تشويهات بدلاً من الكمال والجمال. وما أعجب هذا الأمر أن الله يعطي الإنسان مجد مشاركته معه في عمله.

المسيح هو الكرمة الحقيقية ونحن الأغصان. ولكن الكرمة لا تحمل أثماراً إلا عن طريق الأغصان ولذلك يقول: «كُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ (ويطهّره) لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ» (يوحنا 15: 2). ولكي يحمل الغصن أثماراً وافرة يجب أن يكون صحيحاً بدون عطب خال من التعفن والآفات الضارة، نقياً من النباتات الطفيلية الصغيرة التي تمتص غذاءه وتشوّه جماله ونضارته .

إننا لا نقصد من وراء هذا أن المسيحي لا يكون نافعاً بأي نسبة إلا عند تكريسه تماماً - لأن كل مسيحي يقوم بخدمة سيده - ولكن إتمامه الخدمة السامية كما يريده الله لا يمكن أن يكون إلا بعد تنقيته تماماً ليكون إناء نافعاً...

لنتصوّر أيضاً شجرة فاكهة ذات شكل جميل مزروعة في تربة خصبة ولكنها تأتي بثمر قليل لأنها ليست مقلَّمة الأغصان وفي جذعها وجذورها ديدان تأكلها. ولكن لو أوجدنا الشجرة في حالة أخرى بحيث تخلو من كل ما يعيق نموها فعندها يتغيّر الحال وتنحني الأغصان من ثقل الأثمار الشهية اللذيذة. على أن التحسّن لا يكون في كمية الثمر فقط بل في نوعه أيضاً. فحلاوته في الحالة الثانية تفوقها في الحالة الأولى بكثير. هكذا الحال مع المسيحي الذي نراه نافعاً بما له من النعمة والقوة القليلتين.

ولكن لو ملكته النعمة تماماً وقدسته فسيزداد نفعه لدرجة عظيمة جداً.

الرب محتاج إلينا. ولا توجد حقيقة روحية عجيبة أكثر من كون المسيح رأسنا وهو يعتمد علينا نحن أعضاء جسده لإتمام مقاصد رحمته نحو العالم الهالك، والاشتراك معه في عمله لخلاص الآخرين لهو أسمى وأعظم مجد يتمناه ويشتاق إليه الشخص المسيحي الحقيقي. فهل نحن معدون لكي يستخدمنا الله بالدرجة العالية التي يمكن أن يستخدمنا بها؟ حقاً هذا مطمع كل ابن لله. وإجابة لكل هذا هو: «فَإِنْ طَهَّرَ أَحَدٌ نَفْسَهُ مِنْ هٰذِهِ يَكُونُ إِنَاءً لِلْكَرَامَةِ، مُقَدَّساً، نَافِعاً لِلسَّيِّدِ» (2 تيموثاوس 2: 21). وإن كنا قد فشلنا في الماضي، ففشلنا لا ينسب لنقص في مقدرتنا وذكائنا البشريين بل بالحري لأن قلوبنا لم تتنقَّ التقنية التامة من الخطية.

(مستعداً لكل عمل صالح) هذا الجزء الأخير من الآية يفيد الاستعداد للقيام بالخدمة في كل أنواعها. لأن التعليم الأساسي يقول بأنّ القداسة هي ينبوع كل سمو بشري. فيها تستخدم كل قوانا بأحسن كيفية ممكنة.

والحصول على القداسة يقود إلى قداسة الأيدي والأقدام والعقل والطباع والجيب، أي الإنسان كله داخلاً وخارجاً. فتكون الرغبة إذ ذاك هي في إتمام (عمل صالح) في أي نوع من الأعمال التي تعطي لنا بأحسن وأكمل طريقة بحسب المعرفة والنور اللذين لنا مهما كان العمل بسيطاً ككنس غرفة أو تدبير أمر من الأمور أو إلقاء عظة. لأن أحقر نوعٍ من الخدمة في بواعث الصليب ودوافعه العالية لا بد وأن يسمو ويرتقي شأنه. نحن عندما نريد أن نقدر قيمة عمل من الأعمال المسيحية، كثيراً ما نحول نظرنا إلى مساعينا ومجهوداتنا وقلما ننظر إلى الدافع والروح اللذين بهما نتمِّم العمل. فإذا كانت مجهوداتنا يشتم منها رائحة القداسة والحياة العالية فلا يمكن أن تضيع نتائجها سدى.

أحسن خدام الله هم الذين يخدمون في كل نواحي الحياة. فتراهم يقتنصون كل فرصة ممكنة لعمل الصالح. وتجدهم في استعداد ولو فاجأتهم الظروف كما هو من عادتها. فهم ممنطقين أحقاءهم دائماً وليسوا كغيرهم ممن تفوتهم الفرص قبل أن يغتنموها. حقاً إنه شيء عظيم أن يكون الإنسان (مستعداً لكل عمل صالح) ومستعداً في كل حين. ولقد فسرها أحدهم قائلاً: إنهم مستعدون لكل عمل ضروري يرون في إتمامه ما يزيد الله مجداً. مستعدون حتى للموت إذا استدعى الحال. أو بالقيام بأية شهادة مهما كان طريقها مؤلماً.

التكريس والتقديس

يوجد فرق بين التكريس والتقديس الكامل. لأن الأول نتمّمه نحن بالمعونة الإلهية. والثاني يتممه الله فينا. فالتكريس هو عمل إختياري به نسلم ذواتنا لله بينما التقديس الكامل هو عمل يتممه الله فينا بالروح القدس. فيمكن أن يكون هناك تكريس بدون تقديس ولكن لا يمكن أن يكون تقديس بدون تكريس. وعملية التكريس يجب أن تسبقها صلاة محدودة لهذا الغرض المحدود الذي هو الحصول على القلب النقي.

وحينئذ نقبل بالإيمان ما طلبنا. وإجابة لصلاتنا ورداً لعمل إيماننا يعطينا الله القوة فنتغير في لحظة من حالة الخطية الأصلية الساكنه فينا إلى حالة القداسة ... لقد خلصنا بالنعمة. وكما بين الله لنا طريق التبرير هكذا أوضح لنا طريق التقديس: «لَيْسَ لِمَنْ يَشَاءُ» (رومية 9: 16) إذ لا دخل للأعمال في تقديس النفس كما أنه لا دخل لها في التبرير. فالشرط الوحيد اللازم هو الإيمان في كلتا الحالتين. ولنا في الكتاب المقدس آيات كثيرة تبين ذلك مثل: «طَهَّرَ بِٱلإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ» (أعمال 15: 9) و «يَنَالُوا بِٱلإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (أعمال 26: 18)، وكثير من الآيات الأخرى التي توضح ذلك . فالصعوبة الوحيدة التي تعترضنا في تقديم الخلاص لطالبه هي صعوبة الإيمان. لأنه من الصعب أن نحول نظره نحو الإيمان بل والإيمان وحده.

ولذلك يحوّل الشخص نظره نحو إصلاح حاله فيئن ويسكب دموعه باذلاً كل جهده ليصلح حاله نوعاً ما حتى يحوز القبول عند الله. ولكن لما يعلن له الله أخيراً بواسطة الروح القدس طريق الإيمان، حينئذ يتم له السلام مع الله وينتهي العمل .

وهكذا الحال في التقديس. لما نكف عن مساعينا الشخصية ونثق في الرب وحده تأتينا البركة. فالإيمان الذي به نحصل على القداسة هو عينه إيمان العقل والقلب الذي حصلنا به على الغفران إلا أن الفرق هو في المواعيد الإلهية أي في وجهة أخرى لعمل الرب يسوع الفدائي : لكي يتمم الإنسان عملاً يكون بحاجة إلى وقتٍ محددٍ. أما الإيمان فهو على عكس ذلك لأنه خاص بالنفس، ففي لحظة تقدر أن تغتسل وتتنقى من الخطية.

كل تائب يتقدم للإيمان بالرب يسوع المسيح لا يدرك أن الوعد بالخلاص له يتحقق حالما يطلب، بل يظن أنه يناله في أحد أيام المستقبل. وهكذا الحال مع كل مؤمن يطلب القلب النقي والروح المستقيمة فإنه يستطيع أن ينال كل ما يطلب في وقت الطلب لأن عمل تنقية القلب هو عمل الله. لذلك يتم في لحظة لأن قدرة الله الفائقة الحد تستطيع أن تُتمّه في طرفة عين. ولما كان من واجبنا أن نحب الله من كل قلوبنا ونحن لا نستطيع ذلك إلا بعد التنقية، لذلك فهو مستعد أن يتمم هذا العمل في هذه اللحظة لأنه يريدنا أن نحبه في هذه اللحظة.

وعلى هذا نستطيع أن نقول بحق: «هُوَذَا ٱلآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا ٱلآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ» (2 كورنثوس 6: 2). والله الذي خلق النور في البدء وجعله يبدد الظلام يستطيع الآن أن يضيء في قلوبنا ويهبنا أن نرى نور مجده في وجه يسوع المسيح. في هذه اللحظة يمكن أن نتفرغ من الخطية ونمتلئ بملء القداسة ونصير سعداء سعادة حقيقية.

إن مدد عون النعمة اللازمة لتقديسنا سبق وأتم المسيح تجهيزه على الصليب كما أعد عمل التبرير. وما علينا إذ ذاك إلا أن ننال بالإيمان ما نريد. يقول القديس فلتشر: «كل ما يطلب منا هو قبول الوعد الصادق بثبات ورسوخ وقلب كامل ومغامرة بلا تزعزع». نحن نؤمن أن الله قادر أن ينقي قلوبنا من كل خطية ونعلم أيضاً أنه وعد بأن يتمم ذلك لنا. فهل نؤمن بناء على وعده؟ أنه يقدر ويريد أن يتمّم الوعد الآن وفي هذه اللحظة تبعاً لإيماننا. وبما أن الأمر هكذا، فما يتبقى علينا إلا خطوة الإيمان الذي يستطيع أن يقول (الله يتمم عمله) و (إن تركني لا أتركه) .

إن الكتاب المقدس يوضح لنا حقيقة الإيمان بما يأتي: «كُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ حِينَمَا تُصَلُّونَ، فَآمِنُوا أَنْ تَنَالُوهُ، فَيَكُونَ لَكُمْ» (مرقس 11: 24) فيطلب منا أن نؤمن بأن الطلب لنا قبل ما نطلبه بل نؤمن إننا ننال وقت الطلب. ولهذه الحقيقة طرفان قريبان من الحق إلا أن قربهما هذا يقود لخطأ عظيم. أحدهما هو أن نؤمن بما لم ننله. والثاني ترك الإيمان يقودنا بلا حد ويطلب منا أن نؤمن بأننا سننال في المستقبل. ولكن الحق بين هذين الطرفين . وهو أن نؤمن أن الله على أتم استعداد أن يهبنا طلبنا وقت السؤال. وأيضاً نؤمن بأننا لم ننل الطلب في وقت سابق ولا سنناله في وقت مستقبل بل نأخذه عند الطلب والايمان بأن المصلي سينال ما يطلب في المستقبل يترك فراغاً بين الإيمان وقبول البركة.

ولذلك فمن الوداعة الزائفة أن يقول الإنسان (سأنال إجابة صلاتي في الوقت المعيّن من الله) لأن الله لا تهمّه الاوقات، لأنّ القرون والسنين والشهور والأسابيع كلا شيء عنده: «يَوْماً وَاحِداً عِنْدَ ٱلرَّبِّ كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَأَلْفَ سَنَةٍ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ» (2بطرس 3: 8). فالأشياء التي يجب أن نعرفها هي أن الله يريد أن يعطينا ما نطلبه في نفس الوقت الذي نقدّم فيه الصلاة. وهو دائم الاستعداد ليهبنا أي بركة روحية حسب مواعيده. ولا لزوم لأن نستعمل كلمة (إذا) أو (عسى) أو (ربما) حيث يوجد وعد مباشر صريح يقول «اُطْلُبُوا تَأْخُذُوا، لِيَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً» (يوحنا 16: 24).

يعلن لنا الوحي أن الإيمان هو بمثابة (النظر) أو (اللمس) أو (الأخذ والمناولة) وهذه الأشياء لا يعلمها الإنسان بالتدريج فإما أن ننظر أو لا ننظر، نلمس أو لا نلمس وعندما يقدّم لنا شيء إما أن نأخذه أو لا نأخذه ، هكذا الإيمان فهو اليد التي بها عطايا الله . فلا يجب أن ندخل الظن والتخمين في ما يطلب الله منا أن نعمله والأمر هو: «كُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ حِينَمَا تُصَلُّونَ، فَآمِنُوا أَنْ تَنَالُوهُ، فَيَكُونَ لَكُمْ» (مرقس 11: 24).

و «فيما هم يتكلمون بعد أن سمع» (إشعياء 24: 6). يدل الإيمان على ثلاثة أشياء وهي المعرفة ثم القبول والملك. والإيمان يرى أيضاً من ذلك إذ يرى معطي الوعد نفسه. وبالإيمان نعرف أيضاً أن كل وعد مبني على أربعة عُمُد قوية وثابتة كأعمدة السموات وهي صدق الله أو قداسته، الشيء الذي لا يدعه يخدع الإنسان، ثم نعمته وصلاحه اللذين لا يجعلانه ينسى، ثم حقه الذي لا يجعله يتغير، ثم قوته التي تجعله قادراً أن يتمم ما يعد به. يجب أن نعرف الله قبل أن نثق به ولكن معظم المسيحيين يعرفون عنه فقط وليس شخصه. وهذه المعرفة ليست كافية، فكثيرون يعرفون عن قوة الله ومحبته وأمانته ويعرفون الشروط التي بناءً عليها يعطي الله البركة حسب وعده بشيء لهم في الوقت الحاضر، ويذهب البعض إلى درجة أبعد قائلين إن في داخلهم تبكيت بخصوص البركة وأنهم إذا آمنوا يقبلونها ويعرفون أنها تعطى لهم ولكنهم يفشلون في تخصيص الوعد لأنفسهم فيتردّدون في القول (الله يعطيني الآن وأقبل العطية منه الآن) لأنه بدون هذا عبثاً يحاول الإنسان.

لأنه لن يتقدس شخص ما لم يصل إلى الإيمان الذي يقول (الله الآن يحبني وهو يريد أن يعطيني، فأسأل الآن وآخذ) ويقول (سواء سبحت أو غصت سألقي بنفسي في بحر الإيمان المملوء من محبة الله وصدقه الغير محدودين).

لكن ربما يقول قائل: «هل أؤمن إنني قبلت العطية في حين إني لم أشعر بأي تغيير؟» إن أساس الإيمان لا يجب أن يكون الشعور بل كلمة الله. فما يجب أن نتحققه هو إتمامنا للشروط التي بناء عليها يتمم الوعد. وإذا عملنا هذا فواجبنا حينئذ أن نؤمن أن الله أجاب صلاتنا تبعاً لوعد. هذا هو الإيمان المجرد المطلوب. فليس علينا أن نعرف بل أن نؤمن. ولا بد أن يعطينا الله الفرح لتأكيد إتمام عمله حسبما يرى هو. ولكن يجب أن نثبت في نفس الوقت بالإيمان على كلمة الله التي لا تتزعزع ونبقى مصرّين على تصديق الله. لأن الإيمان يقول ليكن الله صادقاً وكل إنسان كاذباً.

فأيهما يجب الإعتماد عليه؟ وعد الله الذي لا يتغير أم شعورنا المتقلب؟ ويعلمنا بطرس الرسول بخصوص هذا في رسالته الثانية في الأصحاح الأول عندما كان على جبل التجلي وسمع الصوت من السماء ورأى المجد الإلهي وشعر بشعور البهجة حتى أنه أراد أن يبني ثلاث مظال ويسكن هناك. ويقول بعد ذلك (وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت) من السمع والنظر والشعور. كلمة الله الباقية إلى الأبد. فشعورنا يخدعنا أما كلمة الله فهي ثابتة كثبات عرشه الأبدي. نحن يمكن أن نتزعزع أما الله صخر الدهور فلا. فدم المسيح وصدق الله بل بالحري صفات اللاهوت رهينة إتمام الوعد، فإذا آمنا نأخذ ما نطلب ويكون لنا ما نأخذ.

الكتاب المقدس هو إعلان الله من السماء. فيه إعلان عهد الرحمة وعمل دم المسيح وقوة الروح القدس وصدق الله. فعلى هذه نحن نأخذ ما نصلي لأجله عندما نطلب طلباتنا حسب وعد الله ونثق أننا نأخذ ما نطلب عند الصلاة.

ما هو التقديس؟

ليس التقديس أن يكون الإنسان المؤمن بلا خطية: «إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ ٱلْحَقُّ فِينَا... إِنْ قُلْنَا إِنَّنَا لَمْ نُخْطِئْ نَجْعَلْهُ كَاذِباً، وَكَلِمَتُهُ لَيْسَتْ فِينَا» (1 يوحنا 1: 8و10).

وليس معناه أن لا يُجرّب المؤمن، بل بالعكس فإنه بعد تبريره يشن عليه الشيطان حرباً شعواء.

وكذلك ليس معناه الكمال أو العصمة فإن الكمال والعصمة لله وحده سبحانه تعالى.

إن كان التقديس هو أن يكون المؤمن بلا خطية وبلا تجربة وأن يكون كاملاً ومعصوماً - فبناء على ذلك لا يوجد ولا قديس واحد لا في الكتاب المقدس ولا في التاريخ المسيحي كله .

إن الرسول بولس يضع لنا مبدأً شريفاً حين يحث المؤمنين على حياة الطهارة والقداسة العملية. ليس على أساس العبارتين المتداولتين على الألسن (هذا حرام وذلك حلال) بل يقول لهم: «وَأَمَّا ٱلّزِنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ، وَلاَ ٱلْقَبَاحَةُ، وَلاَ كَلاَمُ ٱلسَّفَاهَةِ وَٱلْهَزْلُ ٱلَّتِي لاَ تَلِيقُ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلشُّكْرُ» (أفسس 5: 3و4).

فيطلب منهم الامتناع عن الخطية ذاكراً لهم مقامهم الجديد في المسيح ونسبتهم المباركة إليه حاضاً إياهم كما يليق بقديسين أن يمتنعوا عن الأمور التي لا تليق بهم .

هذا هو المبدأ المسيحي لشعب الله المتبررين. وهل يليق بمقامنا في المسيح أن نأتي هذا العمل وألاّ يليق بنا أن نمتنع عن كل شبه شر؟

هل التقديس فُجائي أم تدريجي؟

التقديس عمل فجائي وتدريجي في نفس الوقت. إن التقديس ليس طبيعة بل حالة، أي أن المؤمن عندما يكرس حياته لله لا تصير هذه عادة طبيعية سواء كان مستيقظاً أو نائماً. ولكن هذه الحالة التي وصل إليها يمكن أن تزيد، أو أن تنقص، أو أن تضيع.

إن في استطاعة كل مؤمن أن يحتفظ بحالة قداستة بالاتكال المستمر على الله، واستخدام وسائط النعمة على الدوام، أما إذا أهمل فإنه لا شك يفقد هذه الحالة، كما حصل مع داود ومع بطرس أيضاً وغيرهما.

وإذا فقد المؤمن حالة القداسة، يجب أن يرجع إلى الله حالاً عن طريق التوبة واستخدام وسائل النعمة الإلهية.

الاعتراف أول خطوات التقديس

«إِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (1 يوحنا 1: 9). هذا هو شرط الغفران والتطهير، بمجرد أن نشعر بأي فكر، أو قول، أو عمل سيء قد ارتكبناه، أو بأي اعوجاج في السلوك والحياة اليومية، أو بأي خطية بيننا وبين الله، أو بأي خطأ بيننا وبين الناس، لنعترف به حالاً وبدون تردد، وقد وعد الله بأن يغفر لنا خطايانا ويطهرنا منها.

وكما كان دم المسيح أي موته سبب غفران الله لنا ورضاه علينا في التبرير، كذلك دمه أي موته هو سبب رضا الله علينا وغفرانه لنا أيضاً في التقديس .

الخطية لا تؤثر على تبريرنا بل على تقديسنا. إننا لا نفقد الخلاص إذا سقطنا في الخطية بل نفقد بهجة الخلاص: «رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلاَصِكَ» (مزمور 51: 12). وعلى هذا فنحن لا نفقد تبريرنا إذا أخطأنا بل تقديسنا.

لم يطلب داود من الرب أن يرد إليه خلاصه. كلا. بل بهجة وفرح خلاصه - إن المتبرر قد صار ابناً لله: «ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ» (1يوحنا 3: 2). والابن لا يفقد بنوته إذا أخطأ، ولا يُطرد من بيت أبيه، كلا، لأنه ليس خادماً. ولكنه يفقد الشركة بينه وبين أبيه إلى حين، وعندما يرجع إلى نفسه، ويعترف لأبيه بخطأه، تعود إليه الشركة التي فقدها .

هذا ما أقصده عندما أقول إن سقوطنا لا يؤثر على تبريرنا أو خلاصنا، ولكنه يؤثر على تقديسنا، نفقد شركتنا مع الرب ونفقد سلام التقديس والتسليم، هذه تعود بالاعتراف والتطهير بالدم. وكتب بولس للمسيحيين في كورنثوس عن كسر الوصية السابعة: «أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هٰذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ ٱلْجَسَدِ، لِكَيْ تَخْلُصَ ٱلرُّوحُ فِي يَوْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ» (1 كورنثوس 5: 5). وكذلك كتب للكثيرين منهم: «مِنْ أَجْلِ هٰذَا فِيكُمْ كَثِيرُونَ ضُعَفَاءُ وَمَرْضَى، وَكَثِيرُونَ يَرْقُدُونَ. لأَنَّنَا لَوْ كُنَّا حَكَمْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا لَمَا حُكِمَ عَلَيْنَا، وَلٰكِنْ إِذْ قَدْ حُكِمَ عَلَيْنَا نُؤَدَّبُ مِنَ ٱلرَّبِّ لِكَيْ لاَ نُدَانَ مَعَ ٱلْعَالَمِ (1كورنثوس 11: 30-32).

وهنا نلاحظ ثلاثة أمور بإزاء التأديب:

  1. أن يكون المؤمن حكماً على نفسه عندما يرتكب أي خطأ ويرجع إلى الرب من القلب.

  2. إذا أهمل المؤمن ولم يحكم على نفسه يكون أمام الأمر الواقع وهو محاكمة الله له، وفي هذه الحالة يؤدّبه الرب.

  3. إذا لم يرتدع المؤمن، ولم يتّعظ من التأديبات الواقعة عليه، بضعف أو مرض أو خلافهما، يوقع على نفسه التأديب النهائي وهو الموت.

فكم من مؤمنين لانغماسهم في أمور هذه الحياة وانشغالهم بالعالم لدرجة الارتباك وإهمالهم عبادة الله وخدمته، عرضوا نفوسهم لتأديبات صارمة، وإذ لم تنجح كل هذه ماتوا في غير وقتهم.

ألم تسمع عن كثيرين من المطيعين الذين عمروا طويلاً، وعن كثيرين جداً من الذين عصوا وقد ماتوا في غير وقتهم. ألم تسمع عن مؤمنين ماتوا عقب ارتباك؟ أو حزن؟ أو خسارة في تجارة؟ أو عقب دين فاحش وقعوا فيه وكسروا الوصية الصريحة: «لاَ تَكُونُوا مَدْيُونِينَ لأَحَد» (رومية 13: 8) «لأَنَّ هٰذِهِ هِيَ إِرَادَةُ ٱللّٰهِ: قَدَاسَتُكُمْ» (1 تسالونيكي 4: 3)؟ فلنحترس ونعمل بما جاء في كلمة الرب: «مُكَمِّلِينَ ٱلْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ ٱللّٰهِ» (2 كورنثوس 7: 1).

إن كلمة الله تحذر المؤمن عندما يحيد عن طريق الرب «وَأُذُنَاكَ تَسْمَعَانِ كَلِمَةً خَلْفَكَ قَائِلَةً: هَذِهِ هِيَ ٱلطَّرِيقُ. ٱسْلُكُوا فِيهَا حِينَمَا تَمِيلُونَ إِلَى ٱلْيَمِينِ وَحِينَمَا تَمِيلُونَ إِلَى ٱلْيَسَارِ» (إشعياء 30: 21).

وبذلك يصح القول عنها: «نَامُوسُ ٱلرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ ٱلنَّفْسَ» (مزمور 19: 7).

وإنها تحرق ما بنا من أفكار وأعمال رديئة: «أَلَيْسَتْ هٰكَذَا كَلِمَتِي كَنَارٍ» (إرميا 23: 29).

وهي أيضاً تعمل على إزالة ما يصيبنا من الأتربة التي تتعلق بأرجلنا أثناء سيرنا في هذه الحياة: «أَحَبَّ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً ٱلْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ ٱلْمَاءِ بِٱلْكَلِمَةِ» (أفسس 5: 25 و26).

وهي تبني المؤمن: «وَٱلآنَ أَسْتَوْدِعُكُمْ يَا إِخْوَتِي لِلّٰهِ وَلِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ، ٱلْقَادِرَةِ أَنْ تَبْنِيَكُمْ وَتُعْطِيَكُمْ مِيرَاثاً مَعَ جَمِيعِ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (أعمال 20: 32).

حياة القداسة

(1) حالة القداسة الحقيقية لا يمكن الوصول إليها بحجة انتظار ما يسمح به الرب لأن زمن الرب هو الآن.

(2) ولا تأتي كنتيجة لأعمال الناموس، أو أي نوع آخر من الأعمال التي يمارسها الإنسان بمجهوده الشخصي دون نعمة الله. وأقصد بهذا أننا لو استخدمنا قوتنا الجسدية دون أن نختبر نعمة الله فلن نصل إلى حياة القداسة، لأن كل مجهوداتنا باطلة.

(3) ولا تأتي عن طريق خداعنا لأنفسنا إذ نقنعها بأننا طيبون. كثيرون يصرفون أوقاتاً طويلة وهم يحاولون أن يقنعوا أنفسهم أن حالتهم الروحية لا بأس بها، ينبغي أن نفهم جيداً أن الحياة المسيحية ليست مجرد مشاعر أو عواطف.

(4) ولن نصل إلى القداسة الحقيقية إذا أردنا أن نحصل على النعمة بأعمال الناموس. إن الإيمان فقط هو شرط سكنى القداسة في المؤمن، وما لم يدرك الإنسان أن الإيمان هو أساس كل فضيلة وتوبة عن الخطية وكل طاعة لله فهو مخدوع لأنه يعتقد أنه يمكنه إرضاء الله بدون الإيمان، وأنه يحصل على النعمة بأعمال الناموس.

ولكي نوضح ذلك بالأمثلة نقول: إن الشخص الخاطئ قد يبدي رغبة صادقة في الخلاص، فيسأل هذا السؤال: «ماذا أعمل لكي أخلص؟»، ثم يبدأ في محاولات فاشلة لتحطيم قيود الخطية، ولكن بدون إيمان. إنه يصمم أن يعمل حسناً وأن يصلح هذا الأمر أو ذاك. إنه يتوقع أن يخلص بدون النعمة والإيمان، ولكن خطأه هو في محاولته أن يحصل على النعمة بأعمال الناموس.

وهذا نفس الشيء الذي نراه في المؤمنين الذين يريدون أن يغلبوا العالم والجسد والشيطان، فهم يصدقون الحق الإلهي: «هٰذِهِ هِيَ ٱلْغَلَبَةُ ٱلَّتِي تَغْلِبُ ٱلْعَالَمَ: إِيمَانُنَا» (1 يوحنا 5: 4)، وأنه: «بدِرْعِ ٱلإِيمَانِ» (1 تسالونيكي 5: 8) يمكنهم أن: «يُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ ٱلشِّرِّيرِ ٱلْمُلْتَهِبَةِ» (أفسس 6: 16).

إنهم يسألون لماذا تغلبنا الخطية ؟ لماذا لا ننتصر عليها؟ لماذا نحيا عبيداً لبعض الشهوات والميول؟ ثم نراهم وكأنهم اكتشفوا السبب في إهمالهم إتمام واجب من الواجبات أو لاستسلامهم في تجربة من التجارب، وبدلاً من معالجة الأمر بالإيمان نراهم يستجمعون جهودهم في ناحية النقص والضعف، لكنهم سرعان ما يكتشفون أن ضعفاً آخر قد ظهر في ناحية أخرى من حياتهم!!

وهكذا يقضون سنين يدورون حول حلقة مفرغة، ينشئون سدوداً من الرمال أمام تيار شهواتهم الجارف.

إن الجواب على سؤالهم عن سبب فشلهم هو أن قوة التجربة، وضعف القلب، وقساوة العادات، والميول الشيطانية، هي سبب الفشل والهزيمة. ولكن كيف نتغلب على ذلك؟ الجواب بالإيمان فقط.

وهنا يبرز هذا السؤال: «ألا ينبغي أن نصلي ونصوم ونقرأ الكتاب ونجاهد، أم هل نجلس هكذا دون أن نعمل شيئاً؟»

والجواب على ذلك أنه من اللازم أن تعمل ما يأمرك به الرب، ولكن ابدأ أيضاً بما يأمرك أن تبدأ به، واعمل ذلك بالطريقة التي يأمرك أن تعمله بها.

أولاً، طهّر قلبك بالإيمان بابن الله، ولا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أي ليحدر المسيح، أو من يهبط إلى الهاوية أي ليصعد المسيح من الأموات، الكلمة قريبة منك، هي في فمك وفي قلبك - أعني كلمة الإيمان. ثم بعد أن تؤمن تمم وصايا الله من حيث الصلاة والصوم...الخ

إن تاريخ الشخص يكيف اختباراته في الحاضر والمستقبل أيضاً، فالمشاعر التي يحس بها المختبر تختلف عن تفاصيل المشاعر التي يحس بها مختبر آخر. يجب أن نفهم جيداً فلا نكون مقلدين الآخرين ، إذ أننا حينما نقلد الآخرين يجد الشيطان فرصة لخداعنا.

إن اختبارات المسيحيين الحقيقيين تتشابه في جملتها باعتبار الإيمان بشخص الفادي، لكنها تختلف في تفاصيلها.

(5) ولنتذكر أن حياة القداسة ليست مجرد العواطف التي تعودنا أن نسمع عنها من بعض المسيحيين، ولكن حياة القداسة تتضمن تكريساً كاملاً لا يمكن الحصول عليه بمجرد تقليد مشاعر قد لا تتفق والحق الإلهي.

(6) ولن نصل إلى حالة القداسة إذا انتظرنا حتى نعمل بعض التحسينات قبل أن نختبرها. لاحظ أنك ترنو إلى أن تكون لك حياة القداسة أمام الله، فلا تظن أنه ينبغي أن يسبق ذلك بعض التدريبات والتمرينات الجسدية والذاتية. والأمر الملاحظ لدى الكثيرين أن البعض يستفسرون عن موضوع القداسة برغبة صادقة، فقط يظنون أن وجود هذا المعطل أو ذاك يمنع تقدمهم في هذا الطريق، فيحسبون حساباً لكل المعطلات ولا يفطنون إلى أن عملهم هذا هو عقبة العقبات. إنها الأنانية والذاتية التي تدفعهم لإصلاح ذواتهم.

(7) ولا يمكن الوصول إلى القداسة الحقيقية عن حضور الاجتماعات والطلب من المؤمنين أن يصلوا من أجلنا، أو عن طريق الاعتماد على أي وسيلة مشابهة.

ولست أقصد أن أقول أن هذه الوسائل غير ضرورية، ولكن أقصد أن أحذر أنه إذا اعتمدنا على أية وسيلة من هذه الوسائل فإنها تقود تفكيرنا إلى الانحراف عن الهدف الحقيقي الذي أمامنا فنضل السبيل إلى حياة القداسة.

(8) ولا يمكننا الوصول إليها إذا كنا نتوقع إعلاناً خاصاً من المسيح. عندما يسمع شخص بعض المؤمنين يتحدثون عن الرب يسوع في حياتهم، يقول: «آه لو أعلن لي الرب هذه الإعلانات لكنت أؤمن! ينبغي أن أرى هذه الاعلانات قبل أن أؤمن!!».

والآن يجب أن ندرك أن هذه الاعلانات تأتي نتيجة الإيمان بوعد الروح القدس الذي يأخذ مما للمسيح ويخبرنا، ولكن ليست هذه الرؤى والإعلانات هي وسيلة القداسة أو الخلاص، فقط ينبغي أن تتمسك بوعود الرب وتثق أنه يقصد ما يقول، وهذا ما يقودك بعد الإيمان إلى الإعلان الذي تتوقعه.

(9) ولا يمكن أن نصل إلى القداسة الحقيقية بالطريقة التي نرسمها لأنفسنا. بعض الأشخاص يسترسلون في تصوراتهم فيرسمون طريق القداسة لأنفسهم، ويتوقعون أن يختبروا كذا وكذا، وأن يكون لهم هذا الإعلان أو ذاك الشعور قبل أن يصلوا إلى هدفهم. والنتيجة أن جميعهم يفشلون لأنهم نسوا قول الرب إنه يقود الأعمى في طريق لا يعرفها. إن تصوراتك التي ترسم بها طريقاً معيناً للقداسة هي في الواقع معطل كبير. إنها تضيع عليك أوقات كثيرة، وتسبب لك متاعب جمة. ثم هي تحزن روح الله القدوس، فبينما يحاول أن يقودك إلى نقطة معينة تقفز أنت من الطريق وتصر على أن ما تتصوره هو الطريق، وفي كبريائك وجهلك تسبب تعطيلاً كثيراً، وتضايق الرب كثيراً. اسمعه إذ يقول: «هذه هي الطريق، إسلكوا فيها». ولكنني أكاد أسمعك تجيب: «لا.. بل هذه هي الطريق». وهكذا تقف مكابراً ومعارضاً، وأنت في كل لحظة تحزن روح الله وتعرض نفسك للخسارة.

(10) ولن نحصل أيضاً على هذا الاختبار بوسيلة معينة في وقت معين أو مكان معين. إن كانت في فكرك طريقة معينة، أو مكان معين، أو زمن معين لتحصل على هذا الاختبار فأنت معرض لخداع الشيطان، وستفشل في النهاية، وتكتشف أن حكمة البشر هي جهالة عند الله، وأن طريق الله ليست كطرقنا، ولا أفكاره كأفكارنا: «لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ عَنِ ٱلأَرْضِ هَكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ» (إشعياء 55: 9).

ولكن:

(11) يمكن الحصول على حياة القداسة الحقيقية بالإيمان فقط. تذكر هذا إلى الأبد أنه بدون إيمان لا يمكن إرضاء الله، وإن كل ما ليس من الإيمان فهو خطية. إن كلاً من التبرير والقداسة هو بالإيمان فقط: «لأَنَّ ٱللّٰهَ وَاحِدٌ، هُوَ ٱلَّذِي سَيُبَرِّرُ ٱلْخِتَانَ بِٱلإِيمَانِ وَٱلْغُرْلَةَ بِٱلإِيمَانِ» (رومية 3: 30).

«فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِٱلإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ ٱللّٰهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية 5: 1).

«فَمَاذَا نَقُولُ؟ إِنَّ ٱلأُمَمَ ٱلَّذِينَ لَمْ يَسْعَوْا فِي أَثَرِ ٱلْبِرِّ أَدْرَكُوا ٱلْبِرَّ - ٱلْبِرَّ ٱلَّذِي بِٱلإِيمَانِ. وَلٰكِنَّ إِسْرَائِيلَ وَهُوَ يَسْعَى فِي أَثَرِ نَامُوسِ ٱلْبِرِّ لَمْ يُدْرِكْ نَامُوسَ ٱلْبِرِّ لِمَاذَا؟ لأَنَّهُ فَعَلَ ذٰلِكَ لَيْسَ بِٱلإِيمَانِ، بَلْ كَأَنَّهُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ» (رومية 9: 30-32).

(12) ولكن لا يتبادر إلى الذهن أنني أعلم أن القداسة فقط بالإيمان، بمعنى أن ذلك يتعارض مع القداسة بالروح القدس - روح المسيح - مع أن الإثنين واحد. فقداستنا هي بالمسيح الذي يحيا ويملك على قلوبنا، والإيمان هو الوسيلة أو الشرط وليس السبب المباشر للقداسة. ولكن الإيمان يقبل المسيح كملك يحيا ويملك في نفوسنا.

إن المسيح في اختبار علاقاته المختلفة بالنفس وكفايته لسد حاجات النفس بالإيمان هو ضمان قداستنا.

إنه يقدس النفس إذا إكتشفته النفس في كماله وملئه الإلهي بالإيمان وعمل الروح القدس.

«اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ ٱلَّذِي يُحِبُّنِي، وَٱلَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي». قَالَ لَهُ يَهُوذَا لَيْسَ ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ: «يَا سَيِّدُ، مَاذَا حَدَثَ حَتَّى إِنَّكَ مُزْمِعٌ أَنْ تُظْهِرَ ذَاتَكَ لَنَا وَلَيْسَ لِلْعَالَمِ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً» (يوحنا 14: 21 -23).

إذاً شرط قبول المسيح هو الطاعة والإيمان.

إن الوصول إلى حالة القداسة الحقيقية في هذه الحياة يتطلب إدراكنا للأمور التي تحارب النفس والتي ينبغي أن نتغلب عليها.

عندما تجددنا حديثاً تكرس القلب والإرادة لله وأصبح الكل للرب. وأدركنا أن هذه حالة سمو روحي، واكتشفنا أن الخطية كلها تتركز في محبة الذات، أو بمعنى آخر أن الخطية هي محاولة الذات تمجيد نفسها وتسليم الإرادة لإطاعة الشر بدلاً من طاعة الرب.

إن حواسنا أصبحت مدربة تدريباً عظيماً لإدراك الأمور الحسية المادية، ولكن لجهلنا بالأمور الروحية لم يتدرب الحس على التفكير فيها لأننا لا نراها ولا نلمسها.

أصبحت عواطفنا وإدراكنا لا تتجاوب مع الأمور الروحية، لأن إدراكنا للأشياء الحسية العالمية أصبح في غاية الحيوية واليقظة. لكن إدراكنا ميت من جهة الأمور الروحية.

طريق القداسة

علينا أن نتعلم شيئاً واحداً إن شئنا أن نعيش الحياة المسيحية المنتصرة وهي البساطة. لقد جعلنا هذه البساطة معقدة، وكتبنا الكتب الكثيرة عنها، واستعملنا كل العبارات التكنولوجية لتوضيحها، ولكنها ظلت للكثيرين منا معقدة، حتى إننا وإن عرفناها نظرياً لا نستطيع سرد ما نعرفه في حياتنا العملية واليومية. وكي نحصل على أبسط الحقائق فنحن نحاول وضعها في شكل صور.

الصورة العامة للحياة المنتصرة جاءتنا من سفر إشعياء حيث يقول النبي: «وَتَكُونُ هُنَاكَ سِكَّةٌ وَطَرِيقٌ يُقَالُ لَهَا «ٱلطَّرِيقُ ٱلْمُقَدَّسَةُ» (إشعياء 35: 8). والصورة أن الطريق مبنية من أمور العالم المحيطة بها. ورغم أن هذه الطريق ضيقة وعالية إلا أنها ليست فوق طاقتنا للسير فيها لأن العابرين حتى ولو كانوا جهالاً لا يضلون سبيلهم. ولو كثرت المخاطر فيها فإذا لازمنا السير في تلك الطريق نكون في أمان. إذ لا أسد أو وحشاً مفترساً يصعد إليها. والشخص الوحيد الذي يمنع من السير فيها هو غير الطاهر والمقدس. وبكلمات النبي: «لاَ يَعْبُرُ فِيهَا نَجِسٌ». ولا يشمل هذا الخاطىء فقط الذي لا يعرف المسيح مخلصاً إنما يشمل أيضاً المسيحي الذي يعرفه لكنه يسير في ذلك الدرب وهو يحمل معه خطيته التي لم يعترف بها ويحصل على تطهيرها.

والسبيل الوحيد الناجح هو السير في تلك الطريق العامة، وإن بدت مظلمة إلى تلة الجلجثة. وهي تلة علينا أن نتسلقها زحفاً على أيدينا وركبنا، ولكن إن كنا قانعين بحياتنا المسيحية الحاضرة، وإن لم تكن لنا رغبة لنسير في تلك الطريق، فنحن لا نسير على ركبنا، وبالتالي فنحن لن نتسلق تلك التلة! ولكن إذا كنا غير راضين عن حالنا وشاعرين بالجوع الروحي نجد أنفسنا صاعدين إليها. لا تسرع أيها الأخ! بل اجعل الله يشعرك بالجوع لتلك الطريق! اجعله يدفعك بصلاة حارة لتسير على ركبك! أما التفرج من الشرفة فلا يوصلك بعيداً: «تَطْلُبُونَنِي فَتَجِدُونَنِي» يقول الله، (لا سيما عندما تفتشون عني من كل قلوبكم) (إرميا 29: 13).

الباب الضيق

ويرتفع صليب قائم على رأس التلة ليحمي الممر إليها. فهناك يرتفع ذاك الذي يفصل الأزمان، ويقسم أصناف الناس. ونجد عند أسفل الصليب باباً ضيقاً. فإذا أراد أحد أن يجتاز منه عليه أن ينحني ويزحف. فهو المدخل إلى الطريق العامة. وعلينا أن نجتازه إذا رمنا أن نسير أبعد في تلك الطريق. ويدعى هذا الباب بباب «المنكسري القلوب» حيث يسير هؤلاء فقط من ذلك الباب. ومعنى الانكسار أن نجعل المسيح بارزاً لا نحن. وفي كل منا عنصر التكبر والافتخار المتجسّد في كلمة «أنا». وهذا العناد بدأ أولاً في جنة عدن عند أبوينا آدم وحواء. ففي البدء طأطآ الرأس خضوعاً لإرادة الله لكنهما عادا فصلّبا رقبتيهما ونشدا الاستقلال في محاولة منهما لتقليد الله.

ونرى على صفحات الكتاب المقدس أن الله يتّهم شعبه دوماً بالتمرّد وصلابة الرقبة التي لا نخلو نحن أيضاً منها. فنحن قساة ولا نرضى بأن نخضع لأحد. ونحن حساسون، ومتهيجون ومنتقدون، ونحن عرضة للغضب وعدم المسامحة. ونحاول بقوتنا، ونجرب أن نعمل ما هو مختص بالله. وننغمس في أمور الذات، وهذا يقودنا إلى النجاسة. فكل هذه المساوىء إنما تنبع من النفس المتكبّرة. ولو أنها ما كانت هناك ولو أن المسيح حلّ محلها لما حصلنا على مثل هذه الإنفعالات. وقبل أن نسير في هذه الطريق العامة، على الله أن يكسر هذه الرقاب المتصلّبة، لكي يحكم المسيح مكانها. ومعنى الانكسار ألا تكون لنا حقوق أمام الله والانسان، ولا يعني هذا فقط أن نسلم حقوقنا له، بل أن ندرك أننا لا نستحق شيئاً سوى الجحيم. وهذا معناه التجرّد من كل شيء ندعوه ملكاً لنا. فلا مال أو وقت أو مقتنيات أو وظيفة وقف لنا.

ولكي تُكسر إرادتنا لله، يجلبنا الروح القدس إلى قدمي الصليب وهناك يرينا معنى الانكسار الحقيقي. فنرى اليدين والرجلين المثقوبتين والوجه المكلّل بإكليل الشوك. فنلمس عند ذاك الانكسار التام المبتدئ من شخص ذاك الذي قال: «لتكن إرادتك لا إرادتي» ونراه يشرب كأس الخطية المُرَّة حتى ثمالتها. وهكذا فإن معنى الانكسار هو أن نتطلع إليه ونتحقق أن خطيتنا هي التي سمّرته هناك. وعندما نرى المحبة والانكسار اللذين أظهرهما ابن الله بموته عنا على الصليب، عندئذ تذوب قلوبنا، ونرغب أن ننكسر مثله وترانا نصلي قائلين:

خلاصنا يا رب معك، أن نذوب فيك!

وليتك أيها المسيح تسكن فيّ فأنسى نفسي وأتّحد بك!

ولشد ما وجد البعض أن لا صلاة يستجيبها الله أسرع من الصلاة التي فيها يطلب صاحبها الانكسار.

ولا تظن أيها القارىء أنه يطلب منا أن ننكسر مرة واحدة عندما نحاول اجتياز الباب، بل أن هذا اختبار سيواجهنا دوماً ويكون رهن اختيارنا. فالله يضغط علينا ونحن بدورنا يجب أن نختار. فإذا أساء أحد إلينا أو أهاننا ففي وسعنا حالاً أن نختار قبول تلك الإهانة واعتبارها وسيلة للنعمة لحملنا على الإتضاع أو أن نرفض ذلك فتصلب رقابنا ونعيش باضطراب يجلبه الروح لنا. وطوال ساعات النهار نتعرض لتجربة الانكسار هذه، ولا جدوى من اعترافنا بالانكسار أمام الله إن لم نظهر ذلك لمن نحتك بهم من إخوتنا بني الإنسان. والله دوماً يمتحننا بالناس الذين حولنا. وليس هنالك من أسباب ثانوية للمسيحي إذ أن إرادة الله تعلن عن طريق مشيئته، وهذه المشيئة غالباً ما ترتبط بحياة الآخرين. وإذا وجدت نفسك في حالة انكسار، فما عليك إلا أن تهرع من جديد إلى تلة الجلجثة فترى المسيح مكسوراً من أجلك، فتذهب من هناك وأنت راض أن تنكسر من أجله.

وسوف نرى فوق باب الذين انكسرت نفوسهم دم المسيح مرشوشاً عليه، وعندما ننحني لنجتاز من ذلك الباب نلمس دمه الثمين يطهرنا من كل خطية، ولا يكفي أن ننحني لنجتاز الطريق، بل علينا أن ندرك أنه لا يمكن لغير الطاهر أن يجتاز ذلك الطريق، وربما أنك ما عرفت المسيح مخلصاً أبداً، وربما تكون قد عرفته لسنوات، ولكن مهما كانت الحال فأنت ملوث بخطية الكبرياء والحسد، والغضب والنجاسة... فإذا ألقيتها على ذاك الذي حمل خطايا العالم على الصليب فإنه يهمس لك ثانية تلك الكلمات التي دوى بها في سالف من الزمن على الجلجثة: «قد أُكمل». وعند ذاك يتطهّر قلبك كالثلج.

وهكذا نصل نحن إلى الطريق العام. وهو طريق ضيق يسير صُعداً نحو السماء. وعلىجانبيه تقوم ظلمة كثيفة. وتكتنف الظلمة جنبات الطريق، إنما في الوسط نجد النور يسطع ويشع، ووراءنا يتراءى الصليب، ليس قاتماً بل مشعاً بالنور. ولا نعود نرى المسيح مشدود اليدين علىالصليب بل سائراً في ذلك الطريق، مملوءاً بحياة القيامة وحاملاً بيديه إبريق ماء الحياة. إنه يقترب منا ويسألنا أن نمسك قلوبنا وكأنه يقدم لنا كأساً. فيتطلع إلى تلك القلوب الفارغة بإمعان وعندما يرى أننا قد سمحنا لدمه أن يطهّرها يملأها بماء الحياة. ونسير في دربنا فرحين وحامدين الله، وممتلئين بحياته الجديدة...

هذا هو الانتعاش أن نكون مملوئين من الروح القدس كل الوقت، محبين الآخرين، وتواقين من أجل خلاصهم. فلا تريث ولا جهاد، بل تسليم له ليطهر خطايانا بدمه الثمين، ومتناولين من يديه عطية الامتلاء المجانية، وسامحين له أن يعمل عمله فينا. وفيما نحن نسير معه نجده دوماً هناك ليملأ كؤوسنا ويجعلها تفيض وتفيض...

وتصبح بقية حياتنا المسيحية سيراً في هذا الطريق العام بقلوب فياضة، وبرقاب محنية لإرادته بحيث نثق دوماً بأن دمه يطهرنا من خطايانا فنعيش في وحدة تامة مع يسوع. وليس هذا بأمر غريب أو عجيب، ولا يتطلب اختبارات عاطفية أو تنهدات دعاء لحدوث مثل هذا، فهذه حياة يومية وبسيطة أرادها الرب لنا ورتّبها لنفوسنا، وهو خلاصة القداسة الحقة.

ولكن أحياناً تسول النفس للإنسان أن ينحرف عن هذا الطريق العام لأنه ضيق. وخطوة واحدة فإذا بنا خارج الطريق وفي الظلام. وينجم هذا عن قصور في طاعتنا لله، أو عن ضعف لنسمح لله أن يعمل عمله فينا. وينتصب إبليس على قارعة الطريق لينادينا. ولكنه لا يقدر أن يلمسنا. وإنما نستطيع أن نخضع له إذا أردنا. وهذه هي أول خطوة في الخطية، وبدء الابتعاد عن يسوع. وتجدنا في بعض الأوقات نصلب رقابنا حتى ضد الله نفسه. وفي بعض الأوقات نجد الغضب والحسد والأنانية تهاجمنا. وفي أوقات أخرى تجدنا قلقين ومضطربين بحيث لا نحاول أن نجد راحتنا في الله... وهكذا نكون قد خرجنا عن الطريق السوي لأن لا نجس يستطيع أن يسير فيه. فتتلوث كأسنا ولا تعود تمتلىء وتفيض وهكذا نفقد سلامنا مع الله.

وإذا ما عدنا إلى الطريق القديم حالاً فلا بد لنا من الانحراف أكثر. وكيف السبيل للعودة؟ أول ما يجب أن نعمله هو أن نري الله الأسباب التي دعتنا للإنزلاق والله يرينا خطأ ذلك. فربما يكون شخص قد أزعجني فثرت واضطربت غير أن الله يريني ذلك. فهو يريدني أن أعلم أن المهم عنده ليس ما أعمل بل ما هو رد فعلي؟! فاذا كنت ممن تعوّد الانكسار فلا أتهيج! ولهذا فأنا أتطلع بشوق إلى الطريق فأرى يسوع ثانية وأرى أنه أمر مستقبح أن أنزعج لا سيما وأن المسيح مات ليخلصني من مثل هذا الانزعاج!

وعندما أزحف ثانية على يدي وركبتي في الطريق القويم أعود إلى المسيح ثانية ليطهّرني بدمه الثمين، فأرى السيد في انتظاري مستعداً ليملأ كأسي مرة ثانية. هللويا! وستجده يا أخي بانتظارك مهما كان المكان الذي تركته فيه وستجد الدم متهيئاً ليطهرك. وهذا هو سر الطريق العظيم أن تعرف كيف تعالج الخطية متى داهمتك، وأن تأخذ دائماً الخطية للصليب وتعترف لله بها وتعتبرها قد زالت بواسطة دم المسيح الثمين.

وهكذا يكون الامتحان الحقيقي للسير في الطريق العام، أن تظل كؤوسنا مملوءةً وأن يكون سلام الله في قلوبنا. فهل لنا محبة للآخرين؟ هذا هو المقياس الذي يضمن سيرنا في الطريق القويم. وإذا ما انزعجنا فلا بد وأن يكون لون من الخطية قد تسرّب إلى مكان فينا. فربما كان ذلك انغماساً شخصياً أو عطفاً ذاتياً في الفكر أو العمل، أو إحساساً رقيقاً أو دفاعاً شخصياً أو خجلاً أو قلقاً أو خوفاً أو غير ذلك من الأمور التي تزعجنا وتعكر صفو سيرنا.

السير مع الآخرين

أمر آخر مهم لم نذكره عن هذا الطريق وهو أننا لا نسير في هذا الطريق القويم وحدنا، فهناك آخرون يسيرون معنا وفي مقدّمتهم الرب يسوع. ومن قوانين هذا الطريق أن تكون شركتنا معهم كشركتنا مع المسيح. وفعلاً فإن هاتين الشركتين شديدتا الارتباط. فإذا تعطلت شركتنا مع أخواننا فلا بد لشركتنا مع الله أن تتعطل أيضاً، لأن الاثنتين مرتبطتان بعضهما ببعض ارتباطاً وثيقاً. وكل ما يعترض سبيلنا كالغضب وعدم الصبر والحسد يبعدنا عن الله. وقد تكون هذه الحواجز في بعض الأوقات أقنعة في الوسع أن نراها. ولكن إذا لم تزل هذه الأقنعة فإنها تصبح كالأغطية السميكة وبالتالي كالجدران التي تفصل بين نفوسنا وبين الله وإخواننا بني الانسان. وما دام الله محبة فالمحبة يجب أن تشمل الآخرين، وفي اللحظة التي فيها نقصد أن نظهر حبنا للآخرين لمجرد إظهار المحبة فقط وليس بداعي المحبة الحقة، فإننا نعطل شركتنا مع الله، لأن الله يحب الانسان حتى إذا كنا لا نريد ذلك.

وزيادة على هذا فإن تأثير الخطية يجعلنا دائماً نسلك في الظلمة. وهذا يعني أننا نغطيها ونخبئ كل ما نشعر به ونخفي حقيقتنا. وهذا ما تعنيه «الظلمة» في الكتاب المقدس إذ أن النور يكشف في حين أن الظلمة تخفي. وأول تأثير للخطية علينا هو أنها تجعلنا دائماً نخفي الأمور، فنكون كمن يلبس قناعاً، فلا نظهر على حقيقتنا مع الله والإنسان. ويجب أن نعلم يقيناً أن كلاً من الله والانسان، لا يقدران أن تكون لهما شركة مع شخص يخفي حقيقته.

وتوطيد شركتنا مع الرب يسوع معناه إرجاع شركتنا مع أخينا الإنسان أيضاً. وكل ما هو غير محبة يعتبر خطية لكن إذا اعترفنا بها فدم يسوع يغطيها، وعند ذاك تصلح أمورنا مع أخينا. وعندما نعود إلى يسوع نجد حبه لأخينا قد ملأ قلوبنا، وفاض منه ليعبر بالأعمال عنها. وهكذا نعود فنسلك في شركة مرة ثانية معاً.

وهذا هو طريق الحياة الأمثل. وليست هي عقيدة جديدة ومذهلة. وليس هذا أمراً جديداً لوعظنا وكرازتنا. إنها الحياة التي نعيشها يوماً تلو الآخر والتي وضعها الله لنا، وهي لا تتغير بتغير الأزمان والظروف، وهذا لا يناقض ما تعلمناه عن الحياة المسيحية. إنما هي توضح بلغة بسيطة الحقائق العظمى عن التبرير. فإذا بدأنا نحيا هذه الحياة الآن فإن ذلك يعني بداءة الانتعاش في حياتنا. وإذا استمرينا في هذا العيش فمعناه ضمان استمرار الانتعاش. والانتعاش يعني أن نسير في وحدة تامة مع المسيح ومع بعضنا البعض، وكؤوسنا طاهرة ونقية، وفائضة بحياة ومحبة الله.

من هو الروح القدس؟

صحيح أن خدمة الروح القدس أو عمله هو أن يمجد المسيح، لكن الله يريدنا أن نفهم الكيفية التي بها يعمل الروح عمله لكي نستطيع الاستجابة لدوافعه عن فهم. والكتاب المقدس يتكلم عن الروح القدس باستمرار من أول فصل في سفر التكوين حتى آخر فصل في سفر الرؤيا. أما بحثنا فينحصر في شرح دور الروح القدس في مهمة الكنيسة لتبشير العالم وتقديس المؤمن. ولكي نفهم ذلك الدور فلا بد لنا من إلقاء نظرة سريعة لنرى من هو الروح القدس وماذا يعمل.

أولاً: الروح القدس شخص. نرى هذه الحقيقة واضحة في صفاته. يصف الكتاب المقدس الروح القدس على أساس أن له فكراً وفهماً (إشعياء 11: 2، 1كورنثوس 2: 10- 11). وللروح عواطف فمن الممكن أن يحزن (إشعياء 63: 10، أفسس 4: 30). وفوق هذا يستطيع أن يصمّم وأن يتخذ قرارات حسبما يريد.

ثانياً: نرى حقيقة شخصيته في أعماله. يقول الكتاب المقدس أن الروح القدس يعلّم (يوحنا 14: 26 و16: 13)، ويقود (رومية 8: 14). يعزّي ويوجِّه (يوحنا 14: 16،26)، ويشفع (رومية 8: 26)، ويبكت (يوحنا 16: 8) ويصدر الأوامر (أعمال 8: 29 و13: 2) ويمنع القيام بأعمال معيّنة (أعمال 16: 7). إن هذه جميعها ليست أعمال قوة غير شخصية. إنها أعمال لا يقوم بها إلا شخص.

ثالثاً وأخيراً: إنّ استخدام الكتاب المقدس للضمائر الشخصية عند الكلام عن الروح يؤكد كون الروح شخصاً. عندما تكلّم يسوع عن الروح القدس قال: «هو» (يوحنا 15: 26 و16: 13)، بل الروح نفسه عندما تكلّم عن نفسه استخدم الضمائر الشخصية مثل: «أفرزوا لي» (أعمال 13: 2).

إذن، يصوّر الكتاب المقدس الروح القدس لنا شخصا ذا فكر وعاطفة وإرادة، يعمل ويتصرّف كشخص ويشار إليه كشخص كذلك.

الروح القدس هو الله. نجد لاهوت الروح حقيقة واضحة في كل الكتاب المقدس. ويظهر لنا أنه هو الله من وجوه مختلفة - من ألقابه وصفاته وأعماله. إنه يدعى روح الله (تكوين 1: 2)، وروح رب الجنود (زكريا 7: 12)، وروح الرب (لوقا 4: 18)، وروح المسيح (رومية 8: 9)، وروح الله الحي (2 كورنثوش 3: 3)، وروح ابن الله (غلاطية 4: 6)، وروح المجد، وروح الله (1بطرس 4: 14).

عندما عمَّد يوحنا يسوع كان أشخاص اللاهوت الثلاثة حاضرين هناك . الله الابن اعتمد آنذاك، والله الآب تكلّم من السماء بصوت مسموع، والله الروح نزل من السماء في هيئة منظورة كحمامة (متى 3: 13-17). وتظهر العلاقة الوثيقة بين الأشخاص أو الأقانيم الثلاثة في عبارة التعميد الواردة في وصية المسيح الأخيرة والمسمّاة بالمأمورية العظمى: «... وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (متى 28: 19). والبركة الرسولية أيضاً تضم الأقانيم الثلاثة الواحد إلى الآخر: «نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ ٱللّٰهِ، وَشَرِكَةُ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ» (2كورنثوس 13: 14).

إن الكثير من الصفات التي لا يمكن أن تنطبق على غير الله نجدها تنطبق على الروح القدس على نحو يدل على وحدته مع الآب. إنه أزلي (عبرانيين 9: 14) وهو روح الحق (يوحنا 16: 13) وروح الحياة (رومية 8: 2) وروح المحبة (رومية 15: 30) وروح القداسة (رومية 1: 4). إن الاسم «الروح القدس» نفسه المستخدم كثيراً جداً في الكتاب المقدس يشدّد على الميزة الأخيرة أي القداسة. والروح كلي الوجود أي حاضر في كل مكان. ونجد كاتب المزمور 139 يعجز عن الهرب من حضور روح الله (مزمور139: 7-12). وهو كُلّي العلم ويقدر أن يفحص ويفهم أعماق الله، تلك الأعماق التي لا يقدر أي إنسان أن يسبرها (1كورنثوس2: 10-11).

يرد الروح القدس في الكتاب المقدس مرادفاً لله. فإن بطرس، على سبيل المثال، بعد أن اتهم كلاً من حنانيا وسفيرة بالكذب على الروح القدس (أعمال 5: 3) أردف قائلا إنهما لم يكذبا على الناس بل على الله (أعمال 5: 4) والذي يُفهم منه ضمناً أنّ من يكذب على الروح القدس إنما يكذب على الله. وكتب بولس إلى أهل كورنثوس فقال إنهم هيكل الله وفيهم يسكن روح الله. ثم عاد فقال إنهم هيكل الروح القدس (1كورنثوس 6: 19).

ما هو عمل الروح القدس؟

إن عمل الروح القدس حسب الشواهد الكثيرة والمتنوعة في كل الكتاب المقدس، أيضا يدل على لاهوته. وابتغاءً للإيضاح سنقسم البحث إلى أربعة أقسام نستعرضها باختصار:

الروح القدس عامل في مقاصد الله الابدية. لقد عمل ويعمل مع الله الآب في الخلق، وفي إعطاء كلمة الله المكتوبة، وفي مسح الأفراد وإعدادهم للخدمة.

نقرأ في قصة الخلق عن روح الله أنه كان: «يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ ٱلْمِيَاهِ» (تكوين 1: 2). ويقول أيوب عن الله: «بِنَفْخَتِهِ (أي روحه) ٱلسَّمَاوَاتُ مُشْرِقَةٌ» (أيوب 26: 13)، ويقول ايضاً: «رُوحُ ٱللّٰهِ صَنَعَنِي وَنَسَمَةُ ٱلْقَدِيرِ أَحْيَتْنِي» (أيوب 33: 4). ويضيف صاحب المزامير: «تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ» (مزمور 104: 30).

والكتاب المقدس نفسه حصيلة وحي الروح.

لقد شهد بهذا أنبياء العهد القديم: «رُوحُ ٱلرَّبِّ تَكَلَّمَ بِي وَكَلِمَتُهُ عَلَى لِسَانِي» (2صموئيل 23: 2)، انظر أيضاً (إشعياء 59: 21). وأكد يسوع المسيح الحقيقة ذاتها عندما وعد بإرسال الروح القدس الذي سيساعد الرسل في تسجيلهم أقوال المسيح: «وَأَمَّا ٱلْمُعَزِّي، ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ، ٱلَّذِي سَيُرْسِلُهُ ٱلآبُ بِٱسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (يوحنا 14: 26). واعترف الرسل بهذه الحقيقة. فقد قال بولس: «حَسَناً كَلَّمَ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ آبَاءَنَا بِإِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ» (اعمال 28: 25)، وقال بطرس: «لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ ٱللّٰهِ ٱلْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (2بطرس 1: 21).

والروح القدس ينير القلوب أيضاً ويمنح الفهم للذين يقرأون الكتاب المقدس: «وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ ٱلْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ ٱلْحَقِّ» (يوحنا 16: 13). «أُمُورُ ٱللّٰهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ ٱللّٰهِ. وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ ٱلْعَالَمِ، بَلِ ٱلرُّوحَ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ، لِنَعْرِفَ ٱلأَشْيَاءَ ٱلْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ ٱللّٰهِ» (1كورنثوس 2: 11 و12). وهكذا نجد أن أفكار الله، التي هي من جملة عطاياه التي يمنحنا إياها، لا يمكننا فهمها إلا إذا أنارنا روح الله.

وكان الروح في كل التاريخ يهب القوة اللازمة لأفراد معيَّنين لكي يُعدَّهم لعمل خاص دعاهم الله ليقوموا به. نرى هذا الأمر واضحاً في حياة أشخاص ورد ذكرهم في الكتاب المقدس، مع أن العطية ليست مقصورة على أولئك وحدهم. اختار الله بصلئيل ليشرف على إقامة خيمة الاجتماع وقال عنه: «وَمَلأْتُهُ مِنْ رُوحِ ٱللّٰهِ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْفَهْمِ وَٱلْمَعْرِفَةِ وَكُلِّ صَنْعَةٍ، لٱخْتِرَاعِ مُخْتَرَعَاتٍ لِيَعْمَلَ فِي ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلنُّحَاسِ وَنَقْشِ حِجَارَةٍ لِلتَّرْصِيعِ وَنِجَارَةِ ٱلْخَشَبِ. لِيَعْمَلَ فِي كُلِّ صَنْعَةٍ» (خروج 31: 3-5). وعندما اختار الله يشوع ليخلف موسى قال الله لموسى: «خُذْ يَشُوعَ بْنَ نُونَ، رَجُلاً فِيهِ رُوحٌ، وَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهِ» (عدد 27: 18).

عندما أقام الله جدعون لينقذ إسرائيل من المديانيين «لَبِسَ رُوحُ ٱلرَّبِّ جِدْعُونَ» (قضاة 6: 34). وكان أشهر جميع القضاة من حيث الأعمال البطولية الجسدية القاضي شمشون. فعندما كان بعد فتى «وَٱبْتَدَأَ رُوحُ ٱلرَّبِّ يُحَرِّكُهُ» (قضاة 13: 25). وفي ثلاث مناسبات في حياته العجيبة «حَلَّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلرَّبِّ» (قضاة 14: 6،19و15: 14). وكان القصد من ذلك الحلول في كل مرة القيام بأعمال لإنقاذ شعب الله.

لعب الروح دوراً هاماً في حياة المسيح على الأرض. فقد حبلت به العذراء بالروح القدس (متى 1: 20 ولوقا 1: 35). ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية لدى معموديته (متى 3: 16 ولوقا 3: 22) ثم قاده الى البرية ليجرَّب من الشيطان (متى 4: 1).

بعد التجربة عاد يسوع بقوة الروح الى الجليل (لوقا 4: 14) ليبدأ خدمته العامة. واعترف يسوع منذ البداية بأن قوته كانت من الروح بدليل أنه عندما كان في المجمع في الناصرة وقف وقرأ من سفر إشعياء المقطع الذي يقول: «رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لِأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ...» (لوقا 4: 18). وأجرى معجزاته بواسطة الروح: «وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ ٱللّٰهِ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ!» (متى 12: 28).

يقول لنا كاتب الرسالة إلى العبرانيين عن موت المسيح إنه: «بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ» (عبرانيين 9: 14). وهذا يعني أن موت المسيح كعمل كفاري أنجز بقوة الروح. وكذلك كانت قيامته، إذ أن الروح أقامه من الموت. يتكلّم بولس في رومية 8: 11 مشيراً إلى «رُوحُ ٱلَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» وفي القيامة التي أنجزها الروح ثبت بما لا يقبل النقض أن يسوع هو ابن الله. ويقول بولس بهذا الصدد عن المسيح أنه: «تَعَيَّنَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ بِقُّوَةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ، بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (رومية 1: 4).

وهكذا، إذ نرى الروح القدس عاملاً في ولادة المسيح، وفي معموديته، وفي تجربته، وفي خدمته كلها، وفي موته، وفي قيامته، لا نعجب أن نرى عمل الروح في الوقت الحاضر أن يمجد المسيح كما سبق فرأينا ذلك مذكوراً في يوحنا 16: 14.

للروح خدمة محددة يقوم بها بالنسبة للذين لا يتبعون المسيح. إن له تأثيراً رادعاً في العالم، علماً بأن هذا التأثير قد ينحسر مثلما حدث في زمن الطوفان. فقد جاء في سفر التكوين عن ذلك: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي ٱلإِنْسَانِ إِلَى ٱلأَبَدِ. لِزَيَغَانِهِ هُوَ بَشَرٌ» (تكوين 6: 3). والروح في عمله الرادع يبكت غير المؤمن على خطيته: «وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ ٱلْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ. أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي. وَأَمَّا عَلَى بِرٍّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضاً. وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ قَدْ دِينَ» (يوحنا 16: 8-11).

الروح يعمل في حياة المؤمن. في لحظة الخلاص تحدث أشياء كثيرة في وقت واحد. فالمؤمن، بناء على توبته وإيمانه بالمسيح، يتجدد بواسطة الروح القدس، قال المسيح لنيقوديموس: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ... إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ ٱلْمَاءِ وَٱلرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ» (يوحنا 3: 3،5). ويقول بولس: «لاَ بِأَعْمَالٍ فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ - خَلَّصَنَا بِغَسْلِ ٱلْمِيلاَدِ ٱلثَّانِي وَتَجْدِيدِ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، ٱلَّذِي سَكَبَهُ بِغِنًى عَلَيْنَا بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مُخَلِّصِنَا» (تيطس 3: 5 و6).

ومع التجديد تأتي معمودية الروح، التي بها يعتمد المؤمن منضماً إلى جسد المسيح ويصبح عضواً في العائلة السماوية، عائلة الله. «لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضاً ٱعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، يَهُوداً كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ، عَبِيداً أَمْ أَحْرَاراً. وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحاً وَاحِداً» (1كورنثوس 12: 13).

والروح كذلك يختم كل من يأتي إلى المسيح: «ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضاً أَنْتُمْ، إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ ٱلْحَقِّ، إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ، ٱلَّذِي فِيهِ أَيْضاً إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ ٱلْمَوْعِدِ ٱلْقُدُّوسِ، ٱلَّذِي هُوَ عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ ٱلْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ» (أفسس 1: 13 و14). (انظر كذلك 2 كورنثوس 1: 22 وأفسس 4: 30).

في الوقت ذاته يسكن الروح في حياة المؤمن: «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ فِي ٱلْجَسَدِ بَلْ فِي ٱلرُّوحِ إِنْ كَانَ رُوحُ ٱللّٰهِ سَاكِناً فِيكُمْ. وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ ٱلْمَسِيحِ فَذٰلِكَ لَيْسَ لَهُ... وَإِنْ كَانَ رُوحُ ٱلَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ، فَٱلَّذِي أَقَامَ ٱلْمَسِيحَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ ٱلْمَائِتَةَ أَيْضاً بِرُوحِهِ ٱلسَّاكِنِ فِيكُمْ» (رومية 8: 9،11) .(انظر كذلك 1 كورنثوس 6: 19 وغلاطية 4: 6 و1يوحنا 4: 13).

يتوجب على المسيحي، بعد أن يأخذ الروح لحظة حصوله على الخلاص، أن يمتلئ تكراراً بالروح. يعطي الروح المؤمنين هبات من أجل نموهم كأفراد ومن أجل بنيان الكنيسة، ولإظهار ثمره في حياة أولئك المؤمنين. يصف بولس هذا الثمر بأنه: «مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ» (غلاطية 5: 22 و23).

أخيرا، يشفع الروح القدس في المؤمنين ويساعدهم عندما يصلون: «ٱلرُّوحُ أَيْضاً يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا، لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي. وَلٰكِنَّ ٱلرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا» (رومية 8: 26) .(أنظر كذلك أفسس 2: 18 و6: 18 و1كورنثوس 14: 15 ويهوذا 20 و21).

بعد هذا الاستعراض المختصر لماهية الروح القدس وعمله، سنبحث الآن بتفصيل أكثر شمولا في خدماته الخاصة في حياة المؤمن وحياة الكنيسة في مهمتها لتبشير العالم.

الامتلاء بالروح القدس

«ٱمْتَلِئُوا بِٱلرُّوحِ» (أفسس 5: 18)

كان المؤمنون في أفسس جماعة مسيحية ناضجة ونامية. ويتبين من موضوع رسالة بولس إليهم أنهم كانوا قادرين على تناول الطعام الصلب بدلاً من اللبن على نقيض عدد من الكنائس الأخرى. فمثلا، عندما كتب بولس رسالته الى أهل كورنثوس لم يقدر أن يخاطبهم كروحيين بل كجسديين، واضطر أن يقدّم لهم اللبن، كما لأطفال، بدلاً من الطعام الذي للكبار (1كورنثوس 3: 1 - 3). أما مع الأفسسيين فكان يستطيع البحث في قضايا أكثر عمقاً. ولم يكن في حاجة لتعنيفهم على أي تصرف جسدي.

لكننا نجد بولس يقول للأفسسيين: «وَلاَ تَسْكَرُوا بِٱلْخَمْرِ ٱلَّذِي فِيهِ ٱلْخَلاَعَةُ، بَلِ ٱمْتَلِئُوا بِٱلرُّوحِ» (أفسس 5: 18). لماذا اضطر بولس ان يقول لمؤمنين ناضجين أن يمتلئوا بالروح؟ إن لذلك سببين. السبب الأول هو أن المؤمن، على الرغم من تحرره بدم المسيح من عقاب الخطية فإنه يعيش ضمن محدودية الجسد ويظل عرضة للخطية. عندما كتب يوحنا رسالته إلى المؤمنين اعترف بهذا ولذلك قال: «إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ ٱلْحَقُّ فِينَا» (1يوحنا 1: 8). إذا حدث أن أخطأ مؤمن فإن الروح القدس لا يتركه، لكنه على أي حال لا يكون في ساعة خطيته مؤمناً مملوءاً بالروح. مع وجود الروح فيه يظل محتاجاً للامتلاء بالروح من جديد. والمؤمنون الناضجون أنفسهم لا يكونون دائماً مؤمنين مملوئين. لذلك نجد بولس يعظ أهل أفسس قائلاً: «ٱمْتَلِئُوا بِٱلرُّوحِ».

أما السبب الثاني الذي يجعل المؤمنين في حاجة للامتلاء مراراً فهو لكي يتقووا لتقديم الشهادة. يقدم لنا سفر أعمال الرسل أمثلة عظيمة على الامتلاء بالروح في حياة المؤمنين الذين كانوا يشهدون لغير المؤمنين. ويجب ألا نقع في خطأ الظن بأن كل ما حدث وورد ذكره في سفر الأعمال هو قياسي للحياة المسيحية، وأن على كل مؤمن أن يطلبه أو يتوقع حدوثه في حياته. إن سفر الأعمال قصة تاريخية تتضمن وصفاً لما حدث في حياة أفراد معينين في فترة معينة في تاريخ الكنيسة. لكن البعض الآخر من تلك الاختبارات قد لا يتكرر. إن سفر الأعمال، على كل حال، يعطينا صورة للأسلوب الذي عمل به روح الله. لذلك نجد أنه من النافع لفهم هذا الموضوع أن نعود إلى سفر الأعمال ونفحص المقاطع التي تتكلم عن أناس امتلأوا بالروح.

إن هذا يتفق بشكل خاص مع غاية هذا الكتاب التي هي دراسة عمل الروح القدس والتقديس وعلاقة ذلك بمهمة الكنيسة في تبشير العالم. إن سفر الأعمال يصور لنا كيف ابتدأ تنفيذ هذه المهمة. لذلك فإننا نستهدف فهم الكيفية التي عمل بها الروح في ذلك الزمن الأول لكي يتضح لنا بعض طرقه وأساليبه.

يوم الخمسين

«وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ ٱلْخَمْسِينَ كَانَ ٱلْجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ ٱلسَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلأَ كُلَّ ٱلْبَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ، وَظَهَرَتْ لَهمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَٱسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَٱمْتَلأَ ٱلْجَمِيعُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، وَٱبْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ ٱلرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا» (أعمال 2: 1-4).

كانت هذه المرة الأولى التي أُعطي فيها الروح القدس. لقد كانت، كما رأينا، تحقيقا لنبوة يوحنا المعمدان ولوعد المسيح. إن الذي جرى بموجب هذه الآيات ضروري لنا لنفهم عمل الروح القدس.

إن النتيجة الأولى لحلول الروح في حياة المسيحيين هي أنهم جميعاً ابتدأوا يتكلمون. وأنها لحقيقة هامة أنهم تكلّموا بألسنة، لكننا نريد الآن أن نركز على الذي قالوه وليس على الكيفية التي قالوه بها. إن ما تضمنه كلامهم هو الشيء الهام. أما الذين سمعوا أولئك المسيحيين يتكلمون فقالوا: «أَتُرَى لَيْسَ جَمِيعُ هٰؤُلاَءِ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ جَلِيلِيِّينَ؟ فَكَيْفَ نَسْمَعُ نَحْنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا لُغَتَهُ ٱلَّتِي وُلِدَ فِيهَا؟... نَسْمَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا بِعَظَائِمِ ٱللّٰهِ؟» (اعمال 2: 7 - 8 ،11).

لقد كان موضوع رسالتهم (عظائم الله)! والنتيجة الأولى لامتلائهم بالروح كانت إذن، أنهم بشروا الناس بعظائم الله، أي أعماله العظيمة التي كان يعملها، فآمن كثيرون بكلامهم. وعندما وعظ بطرس عظته العظيمة المسجلة في أعمال 2: 14 - 40 كانت بمثابة دعامة وتأييد لأولئك المسيحيين فقبل ثلاثة آلاف الإيمان بيسوع أنه المسيح. كان هذا الحادث مثالاً لباقي سفر الأعمال كما سنرى في المقاطع التالية:

بطرس أمام المجمع: «وَحَدَثَ فِي ٱلْغَدِ أَنَّ رُؤَسَاءَهُمْ وَشُيُوخَهُمْ وَكَتَبَتَهُمُ ٱجْتَمَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ حَنَّانَ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ وَقَيَافَا وَيُوحَنَّا وَٱلإِسْكَنْدَرِ، وَجَمِيعِ ٱلَّذِينَ كَانُوا مِنْ عَشِيرَةِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ. وَلَمَّا أَقَامُوهُمَا فِي ٱلْوَسَطِ، جَعَلُوا يَسْأَلُونَهُمَا: «بِأَيَّةِ ُقوَّةٍ وَبِأَيِّ ٱسْمٍ صَنَعْتُمَا أَنْتُمَا هٰذَا؟» حِينَئِذٍ ٱمْتَلأَ بُطْرُسُ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَقَالَ لَهمْ: «يَا رُؤَسَاءَ ٱلشَّعْبِ وَشُيُوخَ إِسْرَائِيلَ، إِنْ كُنَّا نُفْحَصُ ٱلْيَوْمَ عَنْ إِحْسَانٍ إِلَى إِنْسَانٍ سَقِيمٍ، بِمَاذَا شُفِيَ هٰذَا، فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً عِنْدَ جَمِيعِكُمْ وَجَمِيعِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ، أَنَّهُ بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلنَّاصِرِيِّ، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمُ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، بِذَاكَ وَقَفَ هٰذَا أَمَامَكُمْ صَحِيحاً. هٰذَا هُوَ ٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي ٱحْتَقَرْتُمُوهُ أَيُّهَا ٱلْبَنَّاؤُونَ، ٱلَّذِي صَارَ رَأْسَ ٱلّزَاوِيَةِ. وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ ٱلْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ ٱسْمٌ آخَرُ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ» (أعمال 4: 5 - 12).

نجد هنا أن بطرس الذي امتلأ بالروح في يوم الخمسين عاد فامتلأ مرة ثانية. لماذا؟ لأن الضرورة كانت تدعو لامتلاء جديد ليستطيع بطرس القيام بالعمل الخاص الذي ألقي على عاتقه. لقد وقف ليُحاكم أمام المجلس لأنه كان ينادي مع يوحنا بيسوع والقيامة من الأموات، الأمر الذي أثار اليهود (4: 1 - 3). إن شفاءه الرجل الأعرج عند باب الهيكل كان الباعث لاعتقاله لكن السبب الحقيقي لذلك كان وعظه وكرازته.

«لقد لعبت المأمورية العظمى دوراً قوياً في الشهادة التبشيرية في الكنيسة الأولى من يوم الخمسين إلى هذا اليوم. من الممكن القول إنها كانت دائماً، ولا تزال، كما ستظل دائماً القلب والنفس لكل شهادة تبشيرية صحيحة. لكن معناها ووضعها في حياة الجماعة التبشيرية يجب أن يفسرا، في اعتقادنا، بشكل مختلف عن المعتاد. إن المأمورية العظمى تستمد معناها وقوتها كلياً من حادث يوم الخمسين دون سواه».

اجتمع المسيح مساء يوم القيامة بتلاميذه كجماعة لأول مرة بعد اجتماعه الأخير بهم في الليلة السابقة لصلبه. وكان في أثناء يوم القيامة قد رأى بعضاً منهم كأفراد، وجاء المساء فاجتمع لأول مرة بالجماعة كلها. ومما تجدر ملاحظته أن أول شيء تكلم معهم عنه كان المسؤولية التي كانوا سيضطلعون بها، وهي الكرازة بالتوبة وغفران الخطايا لكل الأمم. وإذ حمّلهم هذه المهمة أعطاهم أيضاً وعداً. فقد طلب إليهم أن يفعلوا ما لا طاقة لهم به، ولذلك وعد بإعطائهم القوة اللازمة للقيام بالمهمة المذكورة.

كان هذا، بالطبع، الوعد بالروح القدس. كان على التلاميذ أن يظلوا في أورشليم إلى أن يتحقق هذا الوعد. لكن كان عليهم بعد تحقيقه أن يذهبوا إطاعة للوصية فيكرزوا باسم يسوع لكل الأمم. وهكذا نرى أن وعد الروح القدس كان من البداية جزءاً لا يتجزأ من المأمورية العظمى.

نجد، لدى تلخيص ما سبق، إن المسيح كلف تلاميذه المأمورية العظمى في ثلاث مناسبات أو أكثر. لقدكلفهم بها في اليوم الذي قام فيه، وقد يكون ذكر الأمر لهم مرتين في تلك الليلة ذاتها مستخدماً في كل مرة كلمات مختلفة (لوقا 24 ويوحنا 20). ودعاهم مرة أخرى للقيام بالمهمة ذاتها وهو مجتمع بهم على الجبل في الجليل (متى 28). أما المرة الثالثة فيذكرها مرقس ولكنه لا يبين أين أو متى حدثت. من الممكن أن تكون هذه مناسبة قائمة بذاتها، أو إنها إحدى المرات الواردة في الأناجيل الأخرى. أخيراً، كلف يسوع تلاميذه بالمهمة العظمى في كلماته الأخيرة قبيل ارتفاعه.

من الخير أن نذكر ما يقوله لوقا في أعمال من أن يسوع: «أَوْصَى بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلرُّسُلَ ٱلَّذِينَ ٱخْتَارَهُمْ» (أعمال 1: 2). وهذا يعني أن قوة الروح القدس وإعطاء المسيح المهمة العظمى للتلاميذ أمران مترابطان بشكل مباشر. إن وصية المسيح تتضمن الوعد بإرسال الروح القدس لتكون للتلاميذ قوة لتنفيذ المهمة. المهمة عظيمة جداً وواسعة اتساع العالم نفسه. لكن القوة لتنفيذها هي قوة ذاك الذي خلق العالم.

القداسة

تظهر أهمية هذه العقيدة من آية مثل: «اتْبَعُوا ٱلسَّلاَمَ مَعَ ٱلْجَمِيعِ، وَٱلْقَدَاسَةَ ٱلَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ ٱلرَّبَّ» (عبرانيين 12: 14). ولا يركز الكتاب المقدس كثيراً على تحقيق القداسة المطلقة في الحياة بقدر ما يركز على اتباع القداسة والسير فيها. فيكتب بطرس: «نَظِيرَ ٱلْقُدُّوسِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ» (1بطرس 1: 15). وبسبب الاختلافات في هذه العقيدة في الوقت الحالي فمن الضروري بصفة خاصة أن ندرس بعناية ودقة تعليم الكتاب المقدس حول هذه هذه العقيدة، ونبدأ دراستنا بتعريف القداسة، ثم زمان القداسة، ووسائلها.

1- تعريف القداسة

توجد كلمة تقديس أو قداسة في العديد من المواضع في العهد الجديد (رومية 6: 19و22، 1كورنثوس 1: 30، 1 تسالونيكي 4: 3و4، 7، 2 تسالونيكي 2: 13، 1تيموثاوس 2: 15، عبرانيين 12: 14، 1بطرس1: 2). وهناك عدة تعبيرات أخرى وثيقة الصلة بكلمة القداسة، هي القداسة (رومية 1: 4، 2كورنثوس 7: 1، 1تسالونيكي 3: 13). قدوس (أعمال 7: 33، 1كورنثوس3: 17، 2كورنثوس 13: 12) ، قديس (1كورنثوس 16: 1، أفسس 1: 1، فيلبي 4: 21)، قدس وأقداس (عب 8: 2)، يقدّس، يتقدّس (متى 6: 19، يوحنا 17: 17، عبرانيين 13: 12). وهناك ثلاثة معان على الأقل للفعل «يقدّس»:

  1. يجعل الشيء مهيباً أو يعترف بجلاله أو يقدس (لوقا 11: 2، 1بطرس 3: 15).

  2. ينفصل عن الأمور الفاسدة ويتكرّس لله (متى 23: 17، يوحنا10: 36، 17: 19،2 تيموثاوس 2: 21).

  3. وينقي ويطهر (أفسس 5: 26، 1تسالونيكي 5: 23، عبرانيين 9: 13).

وتستخدم الصفة قدوس أو قدس أو مقدس لوصف : الجبل المقدس (2 بطرس 1: 18) القبلة المقدسة (1كورنثوس 16: 20). الروح القدس (رومية 5: 5) الآب القدوس (يوحنا 17: 11، 1بطرس 1: 15). والناموس المقدس والوصية المقدسة (رومية 7: 12، 2بطرس 2: 21). الملائكة القديسين (مرقس 8: 38). المؤمنين القديسين (أفسس 1: 1، عبرانيين 3: 1)، أنبياء العهد القديم القديسون (2بطرس 3: 2) وغير ذلك. وغالباً ما تستخدم الصفة كاسم بدون ذكر الموصوف، مثل استخدامها للملائكة «قديسيه» (يه 14)، المؤمنين (يهوذا 3، رؤيا 8: 3). أو لكليهما (1تسالونيكي 3: 13). فما معنى أن تكون قديساً أو أن تتقدس؟ يمكن تعريف القداسة بشكل عام أنها الإنفصال نحو الله، أو حسبان المسيح كقداسة لنا، أو التطهر من الشرور الأخلاقية، أو مشابهة صورة المسيح.

(أ) الانفصال في اتجاه الله:

يتضمن الانفصال في اتجاه الله انفصالاً عن الفساد وهذا يتصل بالجماد بصفة خاصة، فقد طلب حزقيال من اللاويين قائلاً: «تَقَدَّسُوا ٱلآنَ وَقَدِّسُوا بَيْتَ ٱلرَّبِّ إِلٰهِ آبَائِكُمْ وَأَخْرِجُوا ٱلنَّجَاسَةَ مِنَ ٱلْقُدْسِ» (2 أيام 29: 5 و 15- 19). ونحن عادة لدينا فكرة إيجابية عن الانفصال أو التكريس لله، فبهذا المفهوم تقدست خيمة الاجتماع بكل آنيتها وأثاثها، وكذلك الهيكل (خروج 40: 10و11، عدد 7: 1، 2 أيوب 7: 16). وقد يخصص رجل ما بيته أو جزءاً من حقله (لاويين 27: 14-16)، كما قدّس الرب كل بكر في إسرائيل له (خروج 13: 2، عدد 3: 13) والآب قدّس الابن (يوحنا 10: 36) والابن قدّس ذاته (يوحنا 17: 19) ويتقدّس المسيحيون في وقت تحولهم للإيمان (1كورنثوس1: 2، عبرانيين 10: 14، 1 بطرس 1: 2) وقال الرب لإرميا: «قَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ ٱلرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ» (إرميا 1: 5)، وأفرز الله بولس من بطن أمه (غلاطية 1: 15).

(ب) حسبان المسيح قداسة لنا:

يقترن حسبان المسيح لنا قداسة حسبانه براً. لقد صار لنا المسيح يسوع براً وقداسة (1كورنثوس 1: 30). كما يخاطب بولس المؤمنين «ٱلْمُقَدَّسِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (1كورنثوس 1: 2). وينال المؤمن هذه القداسة بإيمانه بالمسيح (أعمال 26: 18). ويسبق «غَسْلِ ٱلْمَاءِ بِٱلْكَلِمَةِ» هذه القداسة (أفسس 5: 26). وبذلك يحسب المؤمن قديساً - كما دُعي باراً - لأنه لبس ثوب قداسة المسيح. وبهذا المفهوم، فالمؤمنون جميعاً مدعوون قديسين بغض النظر عمّا بلغه ووصل إليه روحياً (1كورنثوس 1: 2و7، أفسس 1: 1، فيلبي 1: 1). أما في حالة أهل كورنثوس فإن سمة الدناسة جلية (1كورنثوس 3: 1-4، 5: 1 و2، 6: 1، 11: 17-22). أما في رسالة العبرانيين فالمؤمنون مدعوون قديسين لكن غير ناضجين (عبرانيين 2: 11، 3: 1، 5: 11-14).

(ج) التطهير من الشر الأدبي الأخلاقي:

ليس التطهير من الشر الأدبي هو - في حقيقته - إلا شكلاً آخر من الاعتزال. فعلى الكهنة أن يتقدّسوا قبل أن يقتربوا إلى الرب (خروج 19: 22) كما خاطب بولس المؤمنين قائلاً «لِذٰلِكَ ٱخْرُجُوا مِنْ وَسَطِهِمْ وَٱعْتَزِلُوا، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. وَلاَ تَمَسُّوا نَجِساً» ويعتزلون عن كل نجس عموماً (2 كورنثوس 6: 17)، وعن المعلمين الكذبة والتعاليم والعقائد المضللة (2 تيموثاوس 2: 21، 2يوحنا 9و10) وعن الطبيعة الشريرة (رومية 6: 11و12، أفسس 4: 25-32، كولوسي 3: 5-9، 1تسالونيكي 4: 3 و7) «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ ٱلْجَسَدِ وَٱلرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ ٱلْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ ٱللّٰهِ» (2كورنثوس 7: 1). ومن الملاحظ أن القداسة تعالج في بعض المواضع كعمل منفرد وفي مواضع أخرى كعملية مستمرة، كما أن التطهير في بعض المواضع - يتم بالأكثر من طبيعة خارجية، وفي بعض المواضع الأخرى التطهير بالضرورة داخلي. وفي كل هذه المواضع يعتبر عملاً من الإنسان وليس من الله، لقد ادخر الله بالفعل لنفسه كل من يؤمن بالمسيح، والآن يدخر المؤمن ذاته لله ليستخدمه الله.

(د) مشابهة صورة المسيح:

إن مشابهة الإنسان لصورة المسيح هو الجانب الإيجابي للقداسة، كما أن التطهير هو الجانب السلبي، والإنعزال وحسبان قداسة المسيح هما الجانبان المركزيان. وقد عالج الكتاب المقدس موضوع مشابهة صورة المسيح - كمرحلة في القداسة، في عدة مواضع: «لأَنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ٱبْنِهِ، لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ» (رومية 8: 29)، «لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ» (فيلبي 3: 10) «وَنَحْنُ جَمِيعاً نَاظِرِينَ مَجْدَ ٱلرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ ٱلصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ ٱلرَّبِّ ٱلرُّوحِ» (2كورنثوس 3: 18، أنظر غلاطية 5: 22 و23، فيلبي 1: 6)، ويكتب يوحنا: «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (1يوحنا 3: 2). فمن الواضح أن هذه عملية تمتد عبر الحياة كلها، وتصل إلى قمة وتمام كمالها فقط عندما نرى الرب.

2 - زمان التقديس

التقديس هو عمل وعملية وهو بذلك يختلف عن التبرير الذي هوعمل يحدث مرة واحدة، وليس عملية، وسندرس الآن العناصر الثلاثة للزمن في التقديس.

(أ) العمل الإبتدائي للتقديس:

وهذا تقديس مركزي أو بالوظيفة ولحظة أن يؤمن الإنسان بالمسيح فإنه - حسب تعليم الكتاب المقدس يتقدس. وهذا واضح من حقيقة دعوة المؤمنين قديسين في العهد الجديد بغض النظر عن المستوى الروحي (1كورنثوس1: 2 ، أفسس 1: 1، كولوسي1: 2، عبرانيين 10: 10، يهوذا 3). أما عن أهل كورنثوس فيقول بولس صراحة إنهم قد تقدّسوا (1كورنثوس6: 11) برغم أنهم «يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ ٱلْبَشَرِ» (1كولوسي 3: 3)، ويحثهم على أن يكملوا القداسة في خوف الله (2كورنثوس 7: 1) أما في رسالة أفسس فيتحدث بولس عن « تَكْمِيلِ ٱلْقِدِّيسِينَ» (أفسس 4: 12) حاثاً المؤمنين على السلوك « كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِين» (أفسس 5: 3) ويؤكد بولس أن أهل تسالونيكي قد تقدسوا بالفعل (2تسالونيكي 2: 13) برغم أنه يصلي دائماً من أجل تقديسهم (1تسالونيكي 5: 23 و24). وقد جاء في رسالة العبرانيين: «نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً» (عبرانيين 10: 10) فهو يربط بذلك التقديس بتقديم جسد المسيح. «لِذٰلِكَ يَسُوعُ أَيْضاً، لِكَيْ يُقَدِّسَ ٱلشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ ٱلْبَابِ» (عبرانيين 13: 12) ومن ثم فقد كان موت المسيح ضرورياً لتقديس شعبه. وعندما يقبل إنسان المسيح يصبح كيانه في المسيح «لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فِي ٱللّٰهِ» (كولوسي 3: 3) «مِنْهُ أَنْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي صَارَ لَنَا... قَدَاسَةً» (1كورنثوس 1: 30) وليس الأمر هو المسيح بالإضافة إلى التقديس، ولكن المسيح هو تقديس المؤمنين، حيث يمتلئ به المؤمن (كولوسي 2: 10). المؤمن وارث لبر وقداسة المسيح، فهما محسوبان للمؤمن بسبب علاقته بالمسيح وليس بسبب أي عمل يعمله أو أي استحقاق له. فهو يقف أمام الله مشابهاً للمسيح (رومية 8: 29، 1كورنثوس 1: 30). إن المؤمنين مطالبون بأن يسلكوا «بِمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ» (أفسس 5: 3).

(ب) عملية التقديس:

يستمر التقديس - كعملية - طوال الحياة. وعلى أساس ما فعله المؤمن عند تحوّله إلى الإيمان فإن عليه أن يفعل نفس الشئ فعلياً في اختباره. وعليه أن يطرح «العتيق» «ويلبس الجديد» (كولوسي 3: 8-13) وحيث لا يلتزم بالخضوع المبدأي الأولي فهو يحتاج أولا إلى أن يقدم حياته لله قبل أن تصبح القداسة الفعلية ممكنة له عملياً (رومية 6: 13، 12: 1 و2). أما إن تكرس المؤمن لله تماماً، فإن النمو في التقديس مضمون لأن الروح القدس يميت أعمال الجسد (رومية 8: 13) ويعمل فيه في طاعة الكلمة (1بطرس 1: 22) ليعطي ثمار الروح (غلاطية 5: 22 و23) ولكي يستخدمه الروح في خدمة الله، وبعد ذلك ينمو المؤمن «فِي ٱلنِّعْمَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (2بطرس 3: 18) وينمو ويزيد في المحبة (1تسالونيكي 3: 12) مطهراً ذاته «مِنْ كُلِّ دَنَسِ ٱلْجَسَدِ وَٱلرُّوحِ، (ومكملاً) ٱلْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ ٱللّٰهِ» (2كورنثوس 7: 1) ومتغيراً ومتحولاً إلى صورة المسيح (2كورنثوس 3: 18، أفسس 4: 11-16). ويعلق بولس: «لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ أَوْ صِرْتُ كَامِلاً، وَلٰكِنِّي أَسْعَى لَعَلِّي أُدْرِكُ ٱلَّذِي لأَجْلِهِ أَدْرَكَنِي أَيْضاً ٱلْمَسِيحُ يَسُوعُ» (فيلبي 3: 12).

ولا يعني هذا الكمال بلا خطية. فقد أطلقت كلمة «كامل» أو «بلا لوم» على الكثيرين في الكتاب المقدس لكنها لا تعنى أنهم بلا خطية. فقد «كَانَ نُوحٌ رَجُلاً بَارّاً كَامِلاً» (تكوين 6: 9) لكنه لم يكن كمالا بلا خطية حيث: «شَرِبَ مِنَ ٱلْخَمْرِ فَسَكِرَ وَتَعَرَّى» (تكوين 9: 20-27). وكذلك كان أيوب «كَامِلاً وَمُسْتَقِيماً يَتَّقِي ٱللّٰهَ وَيَحِيدُ عَنِ ٱلشَّرِّ» (أيوب 1: 1) لكنه كان ناقصاً ومعيباً في عدة طرق، فعندما سعى ليتفهم الله تماماً قال: «لِذٰلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي ٱلتُّرَابِ وَٱلرَّمَادِ» (أيوب 42: 6). وقال الله لإبرام (إبراهيم): «سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً» (تكوين 17: 1). وكذلك قال يسوع للمؤمنين: «فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متى 5: 48). ولو كان هذا يدل على الكمال المطلق الذي بلا خطية وعلى مشابهة الله، إذن فلم يصل إلى هذا المفهوم أي مسيحي. وواضح من سياق النص أن يسوع يحث الناس على أن يتشبهوا بالآب في إظهار الحب للأبرار والأشرار ولذلك لم يدع بولس الكمال، لكنه عاد فأكد أنه كامل (فيلبي 3: 12 و15). ومن الواضح أنه يقصد في القول الأول كمال المكانة وفي القول الثاني الكمال الاختياري. فمن جهة المكانة فهو كامل منذ آمن بالمسيح، واختبارياً فهو كامل إلى درجة محدودة فقط. وقد استخدمت في الآيتين كلمة يونانية واحدة، لكنها في الآية الأولى في صورة «الفعل» وفي الثانية «صفة» والكمال مقدم كهدف نصل إليه في النهاية، وليس في هذه الحياة (كولوسي 1: 28، 4: 12، عبرانيين 13: 12). وواضح من هذه الآيات ومن غيرها أن الكمال المطلق غير قائم في هذه الحياة. ويمكن أن نصل إلى نفس النتيجة بطريق آخر. فما كتبه يوحنا قائلاً: «مَنْ يَفْعَلُ ٱلْخَطِيَّةَ فَهُوَ مِنْ إِبْلِيسَ، لأَنَّ إِبْلِيسَ مِنَ ٱلْبَدْءِ يُخْطِئُ... كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ ٱللّٰهِ لاَ يَفْعَلُ خَطِيَّةً، لأَنَّ زَرْعَهُ يَثْبُتُ فِيهِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ لأَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنَ ٱللّٰهِ» (1يوحنا 3: 8 و9)، يستخدمون هذه الآيات في تدعيم الرأي بالكمال الذي بلا خطية. فإن نظرنا إلى الأفعال اليونانية نجدها كلها في زمن المضارعة، مما يزيل احتمال أن هذه الآيات تتكلّم عن الكمال بلا خطية، وبالتالي فإن المعنى هو أن من اعتاد أن يخطئ هو من إبليس، أما من هو من الله فلا يكرر الخطية. فإن لم يكن هذا المعنى مقصوداً، لناقض يوحنا نفسه في نفس الرسالة حيث يتحدث عن المؤمنين إن أخطأوا: «يَا أَوْلاَدِي، أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هٰذَا لِكَيْ لاَ تُخْطِئُوا. وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ ٱلآبِ، يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ ٱلْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا» (1يوحنا 2: 1 و2). فالأمر ألا يخطئ المؤمن، لكن إن أخطأ فهناك علاج. ويؤكد يوحنا أنه إن سلكنا في النور فإن «دَمُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّة» (1يوحنا 1: 7) ويضيف أنه: «إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ ٱلْحَقُّ فِينَا» (1يوحنا 1: 8).

ينطبق نفس الشيء على التعليم بأننا قد متنا عن الخطية (رومية 6: 1-10) ومن الواضح أن هذا اختبار موضوعي يتوحد فيه المؤمن مع المسيح. فلو كان هذا الموت موتاً اختبارياً مطلقاً فلماذا يصر بولس على حاجتنا إلى أن نحسب «أنفسنا» أَمْوَاتاً عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَلٰكِنْ أَحْيَاءً لِلّٰهِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا»؟ (رومية 6: 11)؟ فلا يحتاج الذي مات موتاً مطلقاً إلى أن يحسب نفسه ميتاً، فهو ببساطة ميت بغض النظر عن كل ذلك. ويجب أن نحذر من استنتاج أن حياة النقص والهزيمة هي الحياة العادية، فإن لم يكن الكمال بلا خطية تعليماً كتابياً فكذلك القول بالفساد الخاطئ الأثيم، والكتاب المقدس- بدلا من غفران الخطية في حياة المؤمن - يمنع الخطية ويحرمها تحريماً قاطعاً ويطالبنا بأن نحيا حياة النصرة. وإجابة سؤال بولس: «أَنَبْقَى فِي ٱلْخَطِيَّةِ؟» (رومية 6: 1) هو بالتشديد قوله: «حَاشَا! نَحْنُ ٱلَّذِينَ مُتْنَا عَنِ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْفَ نَعِيشُ بَعْدُ فِيهَا»؟ (رومية6: 2)، ويحذر الرسول أهل كورنثوس قائلا إن من يحيا في الخطية لن يرث ملكوت الله (1كورنثوس 6: 10).

(ج) التقديس التام والنهائي:

لن يحدث التقديس الكامل التام والنهائي إلا حين نرى المسيح، وبغض النظر عما أحرزنا من نمو في حياة القداسة فإن مشابهتنا للمسيح مشابهة تامة ستتحقق «مَتَى جَاءَ ٱلْكَامِلُ فَحِينَئِذٍ يُبْطَلُ مَا هُوَ بَعْضٌ» (1 كورنثوس 13: 10) لقد خلصنا من ذنب الخطية وجزائها، وما زلنا نخلص من سلطان الخطية، وسوف نخلص نهائياً من وجود الخطية. وسيتم خلاصنا من وجود الخطية حين نرى الرب إما عند الموت (عبرانيين 12: 23) أو عند مجيئه (1تسالونيكي 3: 13، عبرانيين 9: 28،1يوحنا 3: 2، يهوذا 21).

فلن يكون هناك إمكانية أو احتمال لعمل الخطية بعد ذلك (رؤيا 22: 11) حيث يتمجّد جسد المؤمن (رومية 8: 32، فيلبي 3: 20 و21) ويصير أداة كاملة لطاعة الله. ويحثنا مفهوم المشابهة التامة لصورة المسيح على أن نترك الآن كل الأشياء الدنسة من حياتنا (1 يوحنا 3: 2 و3).

3 - وسائل التقديس

سنعالج هذا الموضوع معالجة تامة فيما بعد، ولكن سنوليه اهتماماً مبدئياً في هذا القسم. فهناك طرفان لعملية تقديس الإنسان هما: الله والإنسان. ولا يشترك في هذا العمل الله الآب بل الله الثالوث. فالله الآب يقدس المؤمن بأن يحسب له قداسة المسيح (1 كورنثوس 1: 30) « عَامِلاً فِيكُمْ مَا يُرْضِي أَمَامَه» (وفي نظره) (عبرانيين 13: 21) ويؤدّبه (عبرانيين 12: 9 و 10، 1بطرس 4: 17 و 18، 5: 10). أما المسيح فيقدّس المؤمن «بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً» (عبرانيين 10: 10، 13: 12)، ويوجد القداسة فيه بالروح (رومية 8: 13، عبرانيين 2: 11). أما الروح القدس فيقدّس المؤمن بأن يحرّره من طبيعته الجسدية الشهوانية (رومية 8: 2)، ويقاوم ظهور هذه الطبيعة (غلاطية 5: 17) ويميت أعمال الجسد، ويميت الطبيعة القديمة حين يخضعها المؤمن للروح للصلب (رومية 8: 13) ويعطيه ثمر الروح (غلاطية 5: 22 و23). وهكذا فهناك عمل محدد لكل أقنوم في الثالوث - في قداستنا.

ولا يمكن للإنسان في ذاته أن يعمل ما ينال به التقديس. بل وحتى في المؤمن لا بد أن يأخذ الله المبادرة «لأَنَّ ٱللّٰهَ هُوَ ٱلْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسَرَّةِ» (فيلبي 2: 13). إلا أن هناك وسائل محددة يمكن أن يستخدمها الإنسان في تقديس ذاته. فالإيمان بالمسيح هنا - وفي أي عقيدة أخرى هو أول خطوة يتّخذها المؤمن (أعمال 26: 18). فمن يؤمن بالمسيح يتقدس وضعياً ووظيفياً. ففي ذات لحظة إيمانه يحسب له المسيح قداسة (1كورنثوس 1: 30) أما الخطوة التالية فيجب أن يتبع القداسة. فإن لم يتبع المؤمن القداسة لن يرى الله (2 كورنثوس 7: 1، عبرانيين 12: 14). ويقوده هذا إلى دراسة الكتاب المقدس لأنه يعلن عن حالة القلب ويكشف عن علاج أمراضه وفشله (يوحنا 17: 17و19، أفسس 5: 26، 1 تيموثاوس 4: 5، يعقوب 1: 25) وللخدمة التي أسسها الله دور في تحديد واكتشاف الحاجة إلى القداسة والحث على اتباعها (أفسس 4: 11 - 13، 1 تسالونيكي 3: 10). ويشكل تسليم الحياة لله الشرط الأسمى في التقديس العملي (رومية 6: 13و19-21، 12: 1 و 12، 2 تيموثاوس 2: 21). وإن كان لا بد أن يقدس الله الإنسان - إن كان له أن يتقدس - فعلى الإنسان أن يخضع لله حتى يتمم الله عمله فيه.

ما هي القداسة؟

القداسة عقيدة تعلمها كلمة الله كما ظلت تعلم بها الكنيسة في كل عصر من عصور المسيحية. لقد كانت هذه العقيدة تلقن في بعض الأحيان على نحو خاطئ، وإننا نهدف في هذا الفصل إلى أن نميط اللثام عما تعنيه القداسة حقا.

1 - تعاريف

الكلمة العبرية للفعل «يقدس» qadash ومعناها «القطع» أو «الفصل». كما أن كلمة «الفصل» هي المعنى الأساسي لكلمة العهد الجديد hagiazo واللفظ hagios يربط بالكلمة hagiazo وتترجم عادة «بالمقدس» وتعني حرفيا «فرْزُ» شيء ما بواسطة الله أو لله.

وهكذا فإن الشخص «المقدس» هو الذي فصل من عالم شرير وأصبح في علاقة خاصة مع الله. إنه لا يعيش خارج العالم، لكنه بينما يحيا فيه يكرس نفسه لله ولخدمته المقدسة. إن الخادم أو العبد يعيش في العالم لكنه ينفصل عنه ليكرس كل وقته وجهوده لخدمة سيده.

وهذا «الانفصال» يمثل الجانب الخارجي للقداسة. أما الجانب الداخلي فيتعلق بالامتلاء من روح الله الذي يعني عمل الله المتزايد في داخل الشخص. كما يعني ازدياد محبة الله غنى وعمقاً، والانطلاق في النمو المستمر في الحياة الروحية. وهذه السمات جميعها التي يتميز بها الشخص الممتلئ بالروح تهدف إلى أن تولد في الشخص قوة للشهادة والأعمال الصالحة.

كما ترتبط بالجانب الداخلي للقداسة مسألة التطهير من الخطية الداخلية، وإذا كان الامتلاء بالروح هو الجانب الإيجابي للقداسة فإن الجانب السلبي هو التطهير وكلاهما يتم بالقداسة. وليس ثمة تعبير عن القلب الطاهر أبدع مما نجده في سفر حزقيال 36: 25 - 26 «وَأَرُشُّ عَلَيْكُمْ مَاءً طَاهِراً فَتُطَهَّرُونَ. مِنْ كُلِّ نَجَاسَتِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَصْنَامِكُمْ أُطَهِّرُكُمْ. وَأُعْطِيكُمْ قَلْبَ لَحْمٍ»، وفي العدد 27 من نفس الأصحاح نجد التعبير عن الناحية الإيجابية أو الامتلاء بالروح «وَأَجْعَلُ رُوحِي فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَجْعَلُكُمْ تَسْلُكُونَ فِي فَرَائِضِي وَتَحْفَظُونَ أَحْكَامِي» (قارن أعمال 2 ويوئيل 2: 28-38).

إن القداسة هي عمل الله الذي يتم في الحال كما علم جون ويسلي والمفكرون المعاصرون أمثال و. ا. سانجستر وبول ريس. وتعتبر القداسة لكل فرد عملية نمو، لكن ظاهرة النمو هذه تحجب بالنسبة للبعض ظاهرة نوال الاختبار في الحال. لكن لا بد من الامتلاء بالروح والتطهير من الخطية الداخلية، مما يساعد المرء على الانطلاق نحو المزيد من التقدم والنمو في يسوع المسيح.

إن الجانب الداخلي أو ما نسميه بالحياة الممتلئة بالروح، انعكاس لتلك السمة التي تعرف بالقداسة. فالقداسة ببساطة هي انفصال عن العالم الشرير مع المعونة الإلهية على الحياة المقدسة أو الصالحة، وهذا التحرير للشخصية من قوة الخطية وتمكينها من الحياة الصالحة ينعكس في سفر الأعمال 26: 18 حيث يقول بولس الرسول أن يسوع قد أوكل إليه مهمة فتح أعين الناس «كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱللّٰهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِٱلإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (أنظر أيضاً يوحنا 17: 17، تسالونيكي الأولى 5: 23).

وعلى هذا الأساس نستطيع تقديم تعريفنا للقداسة، ولعل أفضل وسيلة لذلك هي أن نعرفها على أساس ما تتميز به. فالشخص المقدس هو الذي يتميز بحقيقة أنه «فرز» أو كرس لخدمة الله وأنه قد تطهر من الخطية، وأنه قد زود بقوة جديدة تمكنه من المحبة والنمو في المحبة، وأن له القوة للشهادة والأعمال الصالحة، كما أن له الغلبة على الخطية. وكل هذه السمات ما هي إلا نتيجة للروح الساكن فينا.

2- كلمة تحذير

يجدر بنا هنا أن نقول كلمة تحذير وهي أن الشخص المقدس لا يبلغ ذروة الكمال، إذ يقول بولس الرسول «لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ أَوْ صِرْتُ كَامِلاً» (فيلبي 3: 12). إنه حين يمتلئ الشخص بالروح يصبح مستعداً لأن ينمو إلى آفاق جديدة في النعمة ومعرفة الحق. فالقداسة بداية وليست نهاية. ويا لها من بداية مثيرة، ذلك لأنه بمجرد أن يكرس المرء نفسه لأن يتمم مشيئة الله كاملة يصبح مستعداً لأن يقهر بلاداً جديدة ويضمها إلى مملكة الله، وهذا النصر مليء بكل ألوان الإثارة والمغامرة التي تنطوي عليها عملية تسلق إحدى قمم الجبال.

لا تظن أن القداسة ستحملك إلى القمة دفعة واحدة. ويقول بولس الرسول: «أَسْعَى نَحْوَ ٱلْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ ٱللّٰهِ ٱلْعُلْيَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي 3: 14). كان بولس يرى أن القداسة عملية نمو وتطور. فتذرع بالصبر ولا تتوقع أن تبلغ الذروة دفعة واحدة. وفوق هذا كله. عليك أن تغامر باكتشافات جديدة وأنت تتسلق جبل الحياة الروحية.

الاحساس بالحاجة إلى القداسة

لا يمكن للمرء أن يمتلئ بروح الله ما لم يكن راغباً في ذلك، ولا تتولد الرغبة في نفسه إلا إذا رأى حاجته إلى هذا الاختبار.

إن الحياة المقدسة هي نتيجة لكلٍ من عمل الله وما يبذله الإنسان من جهد بمعنى أنه عمل تعاوني.

الله والإنسان يتعاونان في الحياة المقدسة

يوصى الرسول بولس: «بَارِكُوا عَلَى ٱلَّذِينَ يَضْطَهِدُونَكُمْ» (رومية 12: 14) وكونوا «مُهْتَمِّينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ ٱهْتِمَاماً وَاحِداً... لاَ تَكُونُوا حُكَمَاءَ عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ. لاَ تُجَازُوا أَحَداً عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ. مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ قُدَّامَ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ» (رومية 12: 16 و17). وما ورد في (ميخا 6: 8) هي وصية مشهورة تحث على فعل الخير: «قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ، وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ ٱلرَّبُّ، إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ ٱلْحَقَّ وَتُحِبَّ ٱلرَّحْمَةَ، وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعاً مَعَ إِلَهِكَ».

والكتاب المقدس مليء بمثل هذه الوصايا. والوصية واضحة وهي ضرورة أن نحيا حياة مقدسة. ولقد قلنا إنه لا يمكن الحصول على الحياة المقدسة بدون الامتلاء بالروح. ودور الله هو أن يملأ الإنسان بالروح، لكنه واضح كذلك من الوصايا الكتابية أن الله يطالب الإنسان أن يقوم بدوره أيضاً، وإلا لما كان لهذه الوصايا معنى. إن الله لا يضطلع بالمهمة كلها، وقد لا نتمتع بالحياة المقدسة إذا تجاهلنا الحث ورفضنا أن نفتح كنوز الروح الكامنة فينا.

إن دور الله في القداسة واضح في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تسالونيكي 5: 23 «وَإِلٰهُ ٱلسَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِٱلتَّمَامِ...» وأما دور الإنسان فواضح في رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس 7: 1 : « لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ ٱلْجَسَدِ وَٱلرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ ٱلْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ ٱللّٰهِ».

يوصي الله في كلمته أن يأتي المسيحيون أعمالاً صالحة. قال يسوع «من ثمارهم تعرفونهم» ويشير الرسول بولس في رومية 7: 4 إلى ضرورة أن «نثمر لله». والثمار هي النتيجة الطبيعية للإيمان والحياة الممتلئة بالروح. ولا يمكن أن ننتظر ثماراً تذكر بدون الروح القدس. لكن إن وجد الروح القدس لا بد أن تكون الثمار وفيرة.

قال جون ويسلي: «لا قداسة بدون قداسة اجتماعية»، وهذا يعني أن امتحان القداسة يتركز فيما إذا كان الشخص المسيحي يسهم بحق في خلق عالم أفضل. كان ويسلي ينظر إلى حياة القداسة نظرة جدية. فكان يساعد العاطلين في أن يجدوا عملاً ومن هم بلا مسكن ليجدوا مسكناً، كما كان يهتم بالمرضى وبمن يحتضرون، لقد شجع على إصلاح السجن، وساند فكرة التعليم للشعب وطورها، وقاوم شرور المسكرات.

لقد أعلن ويسلي أنه لا يكفي أن نفكر أفكاراً صالحة وأن نتمنى الخير. هذا، في نظره، لا يكفي إطلاقاً. فمن واجبنا أن نكون صالحين ونفعل الخير. وهذا ما يوصي به الكتاب المقدس، ولا شك: «فَإِذاً حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ ٱلْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ ٱلإِيمَان» (غلاطية 6: 10) كما أن هذه الحقيقة تؤكدها حياة الذين امتلأوا بالروح القدس امتلاءً حقيقياً.

معنى القداسة

إنه من الأهمية بمكان عند بدء بحث موضوع القداسة كما هو موضح في الكتاب، أن يكون لدى القارئ والكاتب فهم واضح للمعنى الذي تحمله هذه الكلمة. لأنه إذا كان عند الكاتب فكر في ذهنه عندما يستخدم هذا الاصطلاح بينما للقارئ فكر مختلف كل الاختلاف عندما يطالع هذا الكتاب فلا يمكن الوصول إلى نتيجة مشتركة.

وإني أرى أن ندع اللاهوتيين ومعلمي القداسة في أول الأمر أن يحدّدوا لنا معنى هذه الكلمة، وبعدئذ نرجع إلى المكتوب لنمتحن أقوالهم ولنأخذ أمثلة من أقوالهم: إن القداسة بالمعنى اللاهوتي هي جعل النجس الخاطئ مقدساً تماماً. إنه عمل النعمة الإلهي التدريجي في النفس المبررة بواسطة محبة المسيح. فالمؤمن يتطهر بالتدريج من فساد طبيعته، وفي النهاية «يوقف أمام مجده بلا عيب في الابتهاج» هذه عبارة بسيطة توضح وجهة النظر العادية لكثيرين من اللاهوتيين ومأخوذة من قاموس الكتاب تأليف: (W. W. Rand و. و. راند).

فالتبرير كان يُظن أنه عمل نعمة به يصبح الخطاة عند إتيانهم إلى المسيح مبررين ومتحررين من كل عاداتهم الشريرة. ولكن النفس المبررة مجرد تبرير يبقى فيها أصل فاسد، شجرة ردية أو «أصل مرارة» يميل دائماً إلى الخطية. فإذا خضع المؤمن لهذا التأثير وارتكب الشر بإرادته يتلاشى تبريره، ومن هنا تنشأ الرغبة في استئصال هذا الأصل حتى يقل احتمال الارتداد إلى حد كبير. واستئصال هذا الأصل الشرير هي القداسة. فالقداسة إذا في نظرهم هي تطهير الطبيعة من كل غرائز الخطية الأصلية بواسطة دم المسيح (عند تطبيقه بالإيمان في حالة تكريس النفس تكريساً تاماً) وبواسطة نار الروح القدس المطهرة التي تحرق كل زغل عندما يوضع الكل على مذبح التكريس. هذا، وهذا فقط، هو التكريس الحقيقي، وهو عمل ثانٍ للنعمة متميز، ويتلو التبرير، وبدونه يصبح التبرير قابلاً للضياع!!

ولا شك أن الثقاة في «مدرسة القداسة» سيقرون هذا لأنه يعبر تعبيراً صحيحاً عن تعليمهم. والآن دعنا نمتحن هذه العبارات في ضوء كلمة الله. ولكي نتمم ذلك بدقة، أريد أن نتأمل أولاً في بعض الفصول في كلا العهدين، لنرى إن كان فيها ما يثبت صحة التعاريف المشار إليها سابقاً، وإني أحب أن أقول إن القداسة والتقديس كلمتان مترادفتان، وأن هاتين الكلمتين هما ترجمة لكلمة واحدة في اللغتين اليونانية والعبرية ويكفي أن أورد هنا اثني عشر فصلاً مشهوراً لإيضاح كيفية استخدام هذا التعبير في الكتاب المقدس.

  1. إن قداسة الأشياء التي ليس لها روح تعلمنا إياها كلمة الله بوضوح، «وَتَمْسَحُ مَذْبَحَ ٱلْمُحْرَقَةِ وَكُلَّ آنِيَتِهِ، وَتُقَدِّسُ ٱلْمَذْبَحَ لِيَكُونَ ٱلْمَذْبَحُ قُدْسَ أَقْدَاسٍ. وَتَمْسَحُ ٱلْمِرْحَضَةَ وَقَاعِدَتَهَا وَتُقَدِّسُهَا» (خروج 40: 11 و12) هل يمكن أن نظن أنه كان يحدث أي تغيير في طبيعة هذه الأشياء؟ أو أنه كان يقتلع منها أي عنصر شرير؟ ونقرأ أيضاً في خروج 19: 23 « أَقِمْ حُدُوداً لِلْجَبَلِ وَقَدِّسْهُ» هل حدث أي تغيير في تكوين الجبل عندما أعطى الله عليه الناموس؟

  2. يمكن للناس أي يقدسوا أنفسهم بدون أي تدخل للقوى الإلهية، وبدون أي عمل للنعمة يحدث فيهم «وَلْيَتَقَدَّسْ أَيْضاً ٱلْكَهَنَةُ ٱلَّذِينَ يَقْتَرِبُونَ إِلَى ٱلرَّبِّ» (خروج 19: 22) هل كان على هؤلاء الكهنة أن يغيروا طبيعتهم من طبيعة شريرة إلى طبيعة صالحة؟ أو أن يلاشوا من داخلهم مبدأ الشر؟

  3. ممكن للرجل أن يقدس الآخرين «قَدِّسْ لِي كُلَّ بِكْرٍ... إِنَّهُ لِي» (خروج 13: 2) وأيضاً، «فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِمُوسَى: ٱذْهَبْ إِلَى ٱلشَّعْبِ وَقَدِّسْهُمُ... وَلْيَغْسِلُوا ثِيَابَهُمْ» (خروج 19: 10) ما هو التغيير الداخلي أو التطهير الذي كان على موسى أن يعمله للبكر أو لجميع إسرائيل؟ إنه لم يكن يغير شيئاً من خطيتهم الأصلية (الغريزية) كما تشهد بذلك صراحة الاصحاحات التالية.

  4. الأشخاص يستطيعون تقديس أنفسهم لفعل الشر «ٱلَّذِينَ يُقَدِّسُونَ وَيُطَهِّرُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي ٱلْجَنَّاتِ وَرَاءَ وَاحِدٍ فِي ٱلْوَسَطِ، آكِلِينَ لَحْمَ ٱلْخِنْزِيرِ وَٱلرِّجْسَ وَٱلْجُرَذَ، يَفْنُونَ مَعاً، يَقُولُ ٱلرَّبُّ» (إشعياء 66: 17) يا لها من قداسة مرعبة! ويا له من فكر سخيف أن نظن أنه يوجد هنا تطهير.

  5. الآب قدس الابن: «فَٱلَّذِي قَدَّسَهُ ٱلآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، أَتَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُجَدِّفُ، لأَنِّي قُلْتُ إِنِّي ٱبْنُ ٱللّٰهِ؟» (يوحنا 10: 36) إنهم هم وليس هو الذين جدفوا، ولا يكون أقل من ذلك تجديفاً أن يقول أي شخص أن قداسة المسيح تضمن اقتلاع طبيعة فاسدة أو تغيير إرادة عاصية. حاشا وكلا. لقد كان على الدوام القدوس... الذي يدعى ابن الله (لوقا 1: 35).

  6. الرب يسوع قدس نفسه، «وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً مُقَدَّسِينَ فِي ٱلْحَقِّ» (يوحنا 17: 19). فإذا كان لأي من التعاريف السابقة أن يقوم، فماذا نقول في هذه الحقيقة إن ذاك الذي قدسه الأب قد قدس نفسه أيضاً بعد ذلك؟ أليس واضحاً أن هناك تناقضاً عظيماً بين اللاهوتيين والمعلمين بالكمال وبين الكتاب؟

  7. غير المؤمنين يقدسون أحياناً، «لأَنَّ ٱلرَّجُلَ غَيْرَ ٱلْمُؤْمِنِ مُقَدَّسٌ فِي ٱلْمَرْأَةِ، وَٱلْمَرْأَةُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنَةِ مُقَدَّسَةٌ فِي ٱلرَّجُلِ وَإِلاَّ فَأَوْلاَدُكُمْ نَجِسُونَ. وَأَمَّا ٱلآنَ فَهُمْ مُقَدَّسُونَ» (1كورنثوس7: 14). هنا نجد لمؤمن (أو مؤمنة) شريك حياة غير مخلّص، ومع ذلك يقال عنه أنه مقدس، فهل مثل هذا الشخص خال من الخطية الأصلية؟ أو سائر في طريق تغيير الطبيعة التدريجي؟ إذا كان ذلك فكراً سخيفاً للغاية، فالقداسة إذاً لا يمكن أن تعني أي اختبار مما سبق ذكره.

  8. المؤمنون الجسديون مقدسون: «بُولُسُ، ٱلْمَدْعُوُّ رَسُولاً لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ ٱللّٰهِ، وَسُوسْتَانِيسُ ٱلأَخُ، إِلَى كَنِيسَةِ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ، ٱلْمُقَدَّسِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» «وَأَنَا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَكُمْ كَرُوحِيِّينَ، بَلْ كَجَسَدِيِّينَ كَأَطْفَالٍ فِي ٱلْمَسِيحِ... لأَنَّكُمْ بَعْدُ جَسَدِيُّونَ. فَإِنَّهُ إِذْ فِيكُمْ حَسَدٌ وَخِصَامٌ وَٱنْشِقَاقٌ، أَلَسْتُمْ جَسَدِيِّينَ وَتَسْلُكُونَ بِحَسَبِ ٱلْبَشَرِ؟» (1 كورنثوس 1: 1، 2،3: 1 و3) هل يمكن أن يقال إنهم كانوا جسديين ومع ذلك خالين من الخطية الأصلية؟ إن هذا مستحيل! ومع ذلك فإن الذين أعلن الرسول عنهم في الأصحاح الأول أنهم مقدسون يقول عنهم في الأصحاح الثالث أنهم جسديون فبأي طريقة أو بأي منطق سليم يمكن أن نقول إن الذين ذكروا في الأصحاح الثالث يختلفون عن المخاطبين في الأصحاح الأول؟

  9. لقد طلب منا أن نتبع القداسة، «اِتْبَعُوا ٱلسَّلاَمَ مَعَ ٱلْجَمِيعِ، وَٱلْقَدَاسَةَ ٱلَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ ٱلرَّبَّ» (عبرانيين12: 14) فبأي معنى يمكن أن يتبع الناس تغيير الطبيعة، أو كيف يتبعون استبعاد الذهن الجسدي؟ إني أتبع ما هو أمامي؟ أتبع ما لم أدركه تماماً بالمعنى العملي، كما يخبرنا الرسول بولس أنه قد فعل ذلك (فيلبي 3: 13-16).

  10. المؤمنون مدعوون أن يقدسوا الله «بَلْ قَدِّسُوا ٱلرَّبَّ ٱلإِلٰهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ دَائِماً لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ ٱلرَّجَاءِ ٱلَّذِي فِيكُمْ بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ» (1بطرس 3: 15) كيف نفهم نصيحة مثل هذه إذا كانت القداسة تتضمن تطهيراً داخلياً، أو جعل النجس مقدساً؟ أليس من الواضح أن هذا التعريف هكذا يقود إلى مثل هذه السخافات الواضحة؟

  11. الأشخاص الذين يخاطبون كقديسين يحرضون بعد ذلك على أن يكونوا قديسين: «بُطْرُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى ٱلْمُتَغَرِّبِينَ مِنْ شَتَاتِ بُنْتُسَ وَغَلاَطِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَأَسِيَّا وَبِيثِينِيَّةَ، ٱلْمُخْتَارِينَ بِمُقْتَضَى عِلْمِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ ٱلسَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ ٱلرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ... بَلْ نَظِيرَ ٱلْقُدُّوسِ ٱلَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضاً قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ. لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ» (1بطرس 1: 1، 2 و 15 و 16). فكر في عدم التوافق هنا إذا كان التقديس والقداسة يشيران إلى عمل داخلي به نقتلع الخطية الأصلية من كيان الشخص. إن المقدسين يحرضون على أن يكونوا قديسين، بدلاً من أن يخبروا بأنهم قد تقدسوا فعلاً بالتمام لدرجة أنهم لا يحتاجون إلى مثل هذا التحريض.

  12. القديسون يخاطبون بأنهم قد كملوا إلى الأبد: «لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى ٱلأَبَدِ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (عبرانيين 10: 14) من من بين الكماليين ممكن أن يشرح هذا شرحاً مشبعاً؟ لا يوجد شيء أكثر شيوعاً بين معلمي هذه العقيدة من مبدأ إمكانية أن يسقط ويهلك نهائياً أولئك الذين قد سبق تبريرهم وتقديسهم، وقد تمتعوا بأعجب الاختبارات. ومع هذا يذكر الكتاب هنا أن المقدسين قد أكملوا إلى الأبد. ونتيجة لذلك فلا يمكن أن يهلكوا أبداً ولا يمكن أن يفقدوا القداسة التي كانت موضوعهم مرة.

بعد الاستماع بعناية إلى هذه الشواهد الاثني عشر أسأل قرائي، هل يمكن أن يستنتجوا من الاقتباسات الكثيرة السابقة لكلمة (قداسة) أيّة إشارة لتغيير الطبيعة في المؤمن، أو إزالة الشر الساكن فيها؟ إني أشعر بكل تأكيد أن كل مخلص يجب أن يعترف بأن الكلمة لها معنى مختلف جداً، وإني أريد الآن أن أبين هذا المعنى باختصار.

وأنا، متحرر من كل نظريات اللاهوتيين، أقول: إن المعنى المجرد للفعل «يقدّس» «يعزل أو يخصّص» والمعنى الحرفي للإسم «قداسة» هي «فصل أو تخصيص» وهذا المفتاح البسيط يوضح كل عدد من الأعداد التي أوردناها، ويستحضر الكل في اتفاق تام، بينما يبدو في الظاهر أنه لا اتفاق بينها. فأدوات خيمة الاجتماع كانت تفصل وتخصص لخدمة الله.

ورافضو الايمان في أيام إشعياء قد خصصوا أنفسهم، على العكس، لفعل الشر أمام نظر الله.

ثم نرى أن الآب خصص الابن ليكون مخلص الهالكين.

وفي نهاية حياته على الأرض إذ أكمل عمله، نجده هناك يفصل نفسه ويصعد إلى المجد لكي يكون غرض قلوب شعبه، لكي بذلك يفصلوا أنفسهم عن العالم الذي رفض وصلب فاديهم.

والمرأة الغير المؤمنة إذا ارتبطت بشريكها المخلص المنفصل لله تصبح بذلك في علاقة خارجية بالرب بكل مزاياها ومسؤولياتها وكذا الأولاد يكونون أيضاً منفصلين عن أولئك الذين لم يأتوا مطلقاً تحت تأثير صوت الحق.

وكل المسيحيين مهما كانت حالتهم العملية، جسديين كانوا أو روحيين، قد فصلوا لله في المسيح يسوع، ومن هذا تأتي مسؤوليتهم لأن يعيشوا له.

وهذا الانفصال يجب أن يتبع يومياً فالمؤمن يسعى لأن يصير أكثر فأكثر متغيراً إلى صورة المسيح، والأشخاص المعترفون بأنهم مسيحيون ولا يتبعون القداسة لا يرون الرب لأنهم مزيفون. وليست فيهم حياة الله.

والرب الإله يجب أن يتقدس في قلوبنا إذا كانت شهادتنا لمجده.

وكل مؤمن هو مقدّس لله في المسيح، ومع ذلك يحتاج إلى التحريض على حياة الانفصال العملي عن كل نجاسة ومحبة العالم.

وأخيراً فكل من تقدّسوا هكذا هم في نظر الله كاملون إلى الأبد من جهة الضمير وذلك بواسطة ذبيحة المسيح الواحدة على الصليب، لأنهم مقبولون في المحبوب ومرتبطون به أبدياً. خذ المفتاح فتتبدد كل صعوبة. إن القداسة بالمعنى المسيحي هي إذاً مزدوجة: قداسة مطلقة وكاملة وقداسة تدريجية.

القداسة بالروح القدس: داخلياً

إنَّ القداسة نوعان: مطلقة أو كاملة وتدريجية. فالقداسة المطلقة: هي بواسطة ذبيحة المسيح الوحيدة على الصليب. إنها بدم المسيح وهي أبدية؟ إنها ليست اختباراً بل هي مقام. وهي تتعلّق بالمكان الجديد الذي يشغله المؤمن في دائرة رضى الله الرضى الأبدي. إنها وضع ثابت لا يمكن تغييره، ولا يمكن أن يلصق به أي دنس في نظر الله.

أما القداسة التدريجية: فلها وجهتان: بالروح القدس، وبالكلمة، على أن القداسة بالروح القدس داخلية وهي اختبار داخل المؤمن. أما القداسة بكلمة الله فهي خارجية، تتعلق بسلوك المؤمن وطرقه. إنها النتيجة الظاهرة للقداسة بالروح، وتستمر متدرجةً طول مدة الحياة.

نقرأ عن أنواع من الخطاة لا يمكن أن يرثوا ملكوت الله، وبعد ذلك مباشرة نقرأ في 1كورنثوس 6: 11 «وَهٰكَذَا كَانَ أُنَاسٌ مِنْكُمْ. لٰكِنِ ٱغْتَسَلْتُمْ، بَلْ تَقَدَّسْتُمْ، بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلٰهِنَا».

وأيضاً في 2 تسالونيكي 2: 13 نقرأ: «وَأَمَّا نَحْنُ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَشْكُرَ ٱللّٰهَ كُلَّ حِينٍ لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ٱلْمَحْبُوبُونَ مِنَ ٱلرَّبِّ، أَنَّ ٱللّٰهَ ٱخْتَارَكُمْ مِنَ ٱلْبَدْءِ لِلْخَلاَصِ، بِتَقْدِيسِ ٱلرُّوحِ وَتَصْدِيقِ ٱلْحَقِّ».

ويرتبط بذلك ما ورد في 1 بطرس 1: 1و2 ارتباطاً وثيقاً: «ٱلْمُخْتَارِينَ بِمُقْتَضَى عِلْمِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ ٱلسَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ ٱلرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ».

والاقتباس الرابع والآخير هو رومية 15: 16 «حَتَّى أَكُونَ خَادِماً لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لأَجْلِ ٱلأُمَمِ، مُبَاشِراً لِإِنْجِيلِ ٱللّٰهِ كَكَاهِنٍ، لِيَكُونَ قُرْبَانُ ٱلأُمَمِ مَقْبُولاً مُقَدَّساً بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».

من الأهمية بمكان أن نلاحظ أن القداسة بالروح القدس يُنظر إليها كابتداء عمل الله في نفوس الناس الذي يقودهم إلى المعرفة الكاملة للتبرير بالإيمان برش دم يسوع المسيح.

وهذا بعيد كل البعد عن فكرة كون أنَّ القداسة بركة ثانية تتبع التبرير، ولكي يصبح ذلك واضحاً لفكر القارئ سأتناول بتحليل دقيق الأعداد السابق اقتباسها.

كان أهل كورنثوس متصفين بالخطايا الشائعة بين الناس، لقد كانوا مثل الأفسسيين الذين كانوا يسلكون قبلاً «حَسَبَ دَهْرِ هٰذَا ٱلْعَالَمِ» وكان يعمل فيهم «ٱلرُّوحِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ ٱلآنَ فِي أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ» (أفسس 2: 2-5) ولكن حدث فيهم تغيير عظيم، فالعواطف والرغبات القديمة حلت محلها أشواق مقدسة جديدة والحياة الشريرة تحولت إلى حياة أخرى تتميز بالسعي نحو التقوى. ما الذي صنع هذا التغيير؟ ثلاثة تعبيرات تستخدم لتحمل إلينا المعنى كاملاً. يقول الرسول «لكن اغتسلتم، بل تقدّستم، بل تبرّرتم»، وكل هذا «باسم الرب يسوع وبروح إلهنا»، فقد وضع الرب يسوع المسيح أمام هؤلاء المؤمنين في شخصه وفي عمله كما هو موضح في الإنجيل، إذ هو وحده مخلص الخطاة ولكن في تطبيق هذا الخلاص على الناس لا بد من غسلهم لأنهم نجسون بسبب الخطية. إن كلمة الله موجهة للناس جميعاً، ولكن لا يحدث للجميع نفس التأثير. فالمسيح المصلوب قد يكرز به لمائة شخص غير متجددين، ولكن قد لا يستفيد إلا شخص واحد إذ ينكسر قلبه على خطاياه ويطلب السلام مع الله، بينما التسعة والتسعون يذهبون في طريقهم دون أن يتأثروا. لماذا هذا الاختلاف؟ لأن الروح القدس قد استخدم الكلمة بقوة في أعماق ضمير هذا الشخص ففصله وعزله، بواسطة عمل إلهي في داخله، عن كل الجمهور غير المبالي الذي كان هو واحداً منه. وهنا تنطبق قداسة الروح. قد يحدث له ذلك قبل أن يجد السلام التام مع الله، ولكنه على أي حال لن يكون فيما بعد خاطئاً غير مبال. إن الروح القدس قد أمسك به للخلاص. وهذا موضح بمنتهى الجمال في الأعداد الأولى التي يفتتح بها سفر التكوين، فالعالم الذي خلق كاملاً (تكوين 1: 1، إشعياء 45: 18) نراه في العدد الثاني مباشرة موصوفاً بالكلمات: «وَكَانَتِ ٱلأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ ٱلْغَمْرِ ظُلْمَةٌ». يا لها من صورة للإنسان الساقط البعيد عن الله، إن نفسه في حالة خراب أدبي، وذهنه مظلم، وفكره وضميره مدنسان، وهو في الواقع ميت «بالذنوب والخطايا» وعدو «في الفكر والأعمال الشريرة» كل هذا تحدثنا عنه الأرض الخربة. ولكن الله قد أعاد عمل هذه لتصير مكان سكن للإنسان، بيتاً يصلح له طول أجيال الزمن وكيف عمل ذلك؟ كان العامل الأول الفعال هو الروح، والثاني الكلمة. «روح الله يرف على وجه المياه» وعندما أخذ الروح يرف على مشهد الخراب هذا، بدأت كلمة القوة عملها «وقال الله ليكن نور، فكان نور». وهكذا في خلاص الإنسان، الروح والكلمة يجب أن يعملا. الروح يبدأ بالعمل في النفس ثم يحييها مستخدماً رسالة كلمة الخلاص بالكلمة. فهو يوقظ النفس وينشئ معها الشوق لمعرفة المسيح. وللتخلّص من سلطة الخطية والنجاة من عقابها بعد هذا العمل أو كنتيجة له ينفتح القلب للإنجيل في كماله، وإذ تؤمن النفس به يدخلها النور مبدّداً الظلام: «لأَنَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ ٱلَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لِإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱللّٰهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (2كورنثوس 4: 6). لذلك نحن الذين آمنا لسنا أبناء ليل أو أبناء ظلمة، ولكننا أبناء نهار. كنا قبلاً ظلمة وأما الآن فنحن نور في الرب. ولكن قبل أن يضيء النور كان يجب أن يرف الروح. وهذه هي القداسة المشار إليها في الأربعة النصوص السابق إيرادها.

ولاحظ الترتيب في 2 تسالونيكي 2: 13 «ٱخْتَارَكُمْ... لِلْخَلاَصِ، بِتَقْدِيسِ ٱلرُّوحِ (العامل الإلهي) وَتَصْدِيقِ ٱلْحَقِّ». كلمة الله المبددة للظلام والمدخلة النور لمعرفة الخلاص باسم الرب يسوع. ونرى نفس هذا الأمر في (1 بط 1: 1 و 2) المخلصون مختارون، ولكن في قداسة الروح التي تقودهم إلى الطاعة «ورش دم يسوع المسيح». فمعرفة التبرير هي ملكي الآن إذ أن الروح القدس يؤكد لي ذلك بواسطة رش دم يسوع. إن الإيمان بذلك الدم الثمين الذي يطهر نفسي من كل شائبة، هو الذي يمنحني السلام.. والروح القدس هو الذي يقودني إلى ذلك وإلى حياة الطاعة كما أطاع المسيح. وهذا هو التأثير العملي لقداسة الروح.

والآن من الأهمية بمكان أن نتحقق أن التبرير ليس في ذاته حالة، ليس هو عملاً في النفس، ولكنه عمل تم بواسطة آخر لأجلي فهو خارج عني بالكلية إنه عمل بعيد كل البعد عن جميع أعمالي ومشاعري. وبعبارة أخرى هو مقامي وليس أختباري:

والفرق بين الاثنين ربما يوضح بالمثل الآتي:

قدم إثنان للمحاكمة أمام القضاء بتهمة ارتكابهما جريمة ما، وبعد تمام الفحص حكم القاضي بأنهما غير مذنبين، أصبحا حرين. أحدهما عند سماعه الحكم امتلأ بهجة، لأنه كان متوقعاً أن يحكم عليه، وكان يخشى النتائج المريرة، ولكنه الآن سعيد لأنه علم أنه قد تبرر. والآخر كان قلقاً ويائساً لدرجة أنه لم يستطع أن يتبين حكم المحكمة «غير مذنب». لقد سمع الكلمة الأخيرة فقط «مذنب» وامتلأ رعباً، إنه كان بريئاً. كان السجن المكروه ماثلاً أمامه وابتدأ يتفوّه بكلمات اليأس إلى أن اقتنع بكل صعوبة بأنه أصبح بريئاً. وحينئذ امتلأ هو أيضاً سروراً.

إن الشخص الذي سمع وصدق صار سعيداً، والشخص الذي لم يفهم الحكم كان تعيساً، مع أن كليهما كان مبرراً. لقد كان حكم القاضي لصالحهما، وهذا هو التبرير. الله يبرر المذنبين عندما يؤمنون بشخص الرب يسوع الذي حمل دينونتهم على الصليب. إن الخلط بين المقام الشرعي وحالة نفس المؤمن معناه التشويش والارتباك.

ولكن يقول قائل: إني لا أشعر بأني مبرر، التبرير لا يتعامل مطلقاً مع المشاعر، ولكن السؤال المهم هو: هل تصدق أن الله قد أكتفى بابنه المحبوب كبديلك على الصليب؟ وهل أنت قبلت المسيح كبديلك ومخلصك الشخصي؟ إذا كان هذا هو الأمر معك فالله يقول إنك مبرر، وهذا هو فصل الخطاب، لأنه لا يسحب كلامه مطلقاً. فبتصديق إعلان الانجيل تتمتّع النفس بالسلام مع الله وهذا من جهة المقام. أما السير مع الله فيجلب السرور والابتهاج والنصرة على الخطية بكيفية عملية وهذه حالة وليست مقاماً.

إن الروح القدس الذي يحيي ويقدّس النفس في البداءة إذ يقودها إلى معرفة التبرير بالإيمان بما قاله الله عن رش دم يسوع المسيح، يسكن الآن في كل مؤمن، ليكون قوة الحياة الجديدة وذلك للقداسة العملية يوماً بعد يوم.

وبهذه الوسيلة أصبح الأمم - الفقراء الأجنبيون المنقادون لعبادة الأوثان، الغرباء عن عهود الموعد - مقبولين عند الله إذ تقدّسوا بالروح القدس فهو الذي يرافق الكرازة، خدمة المصالحة، ويفتح القلب للحق، مبكتاً على خطية وعلى بر وعلى دينونة ويقود للإيمان الشخصي بابن الله.

والآن أصبح الأمر واضحاً لدى كل من تَتبَّعَني باعتناء، من هذه الوجهة أن القداسة لا تعني على الإطلاق «البركة الثانية» إنها على العكس بدء عمل الروح في النفس، ويستمر الروح القدس عاملاً في المؤمن طول حياته إلى أن يستحضر عند مجيء الرب، في جسده الممجد الخالي من الخطية، بلا لوم في حضرة الله. وهكذا بطرس، بعد أن يخبر المسيحيين الذين يكتب إليهم أنهم مقدسون بالروح. من المناسب جداً أن يتقدم بعد ذلك حاضاً إياهم على أن يكونوا قديسين لأن الذي خلصهم هو قدوس، وأنهم يمثلونه في هذا العالم وكذلك بولس أيضاً بعد تأكيده لقداسة التسالونيكيين، يطلب إليهم أن يتقدَّسوا بالتمام، وهذا بالطبع يكون بلا معنى إذا كانت هذه القداسة قد تمت عندما تقدَّسوا أولاً بالروح القدس: «وَإِلٰهُ ٱلسَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِٱلتَّمَامِ. وَلْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ وَنَفْسُكُمْ وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً بِلاَ لَوْمٍ عِنْدَ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. أَمِينٌ هُوَ ٱلَّذِي يَدْعُوكُمُ ٱلَّذِي سَيَفْعَلُ أَيْضاً» (1 تسالونيكي 5: 23 و24). لا يوجد أي مجال للشك بالنسبة للنتيجة النهائية. إن القداسة هي عمل الله: «قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُهُ ٱللّٰهُ أَنَّهُ يَكُونُ إِلَى ٱلأَبَدِ» (جامعة 3: 14) وأيضاً: «وَاثِقاً بِهٰذَا عَيْنِهِ أَنَّ ٱلَّذِي ٱبْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (فيلبي 1: 6). وعندما نسأل عن شاهد من الكتاب لتدعيم «البركة الثانية» يشير أصحاب هذا الرأي عادة إلى (2 كورنثوس 1: 15) حيث يكتب هناك بولس للكورنثوسيين (الذين أعلن عنهم عدة مرات في رسالته الأولى أنهم مقدَّسون) قائلاً: «وَبِهٰذِهِ ٱلثِّقَةِ كُنْتُ أَشَاءُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ أَوَّلاً، لِتَكُونَ لَكُمْ نِعْمَةٌ ثَانِيَةٌ» وفي الهامش «بركة ثانية» ومن هذا التعبير البسيط يستنتجون هذه النتيجة الغريبة فيقولون: إنه من المعلوم كنتيجة لزيارة بولس الأولى إلى كورنثوس إن كثيرين قد تبرروا، ولكن لأن الذهن الجسدي كان باقياً فيهم قد أظهروه بطرق مختلفة ولأجل ذلك وبخهم في رسالته الأولى. والآن هو يشتاق إلى أن يأتي إليهم هذه المرة، لا لكي يكرز لهم بالإنجيل، بل بالأحرى ليعقد لهم اجتماعاً للقداسة لكي يكونوا قديسين.

إنها لنظرية تبدو كأنها حاذقة، ولكنها تنهار تماماً عندما يلاحظ دارس الكتاب أن القديسين الجسديين في الرسالة الأولى كانوا مقدسين في المسيح (ص 1: 2) وحصلوا على روح الله (ص 2: 12) وكانوا مسكناً له (ص 3: 6) وكما لاحظنا، بشيء من التطويل، كانوا مغتسلين، مقدسين ومبررين «بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلٰهِنَا» (ص 6: 11).

فماذا إذاً كانت البركة الثانية التي رغبها لهم الرسول؟ نقول أولاً إنها لم تكن «البركة الثانية» بل بركة ثانية. لقد تباركوا بواسطة خدمته بينهم في الفرصة الأولى، كما قد تعلموا من شفتيه ورأوا في طرقه حق الله. وكراع صادق القلب كان يشتاق لأن يزورهم ثانية ليخدم بينهم، لكي يحصلوا على بركة أو نعمة مرة ثانية. ماذا يكون أبسط من ذلك، لو أن العقل غير مرتبك بالتعليم الخطأ الذي تحت تأثيره يفسر المكتوب، بدلاً من قبول التعليم من المكتوب.

إن المؤمنين، من لحظة تجديدهم يصبحون مباركين بكل بركة روحية في السماويات في المسيح يسوع (أفسس 1: 3) والروح القدس قد أعطى ليقودنا للأعمال الصالحة التي أعدت لنسلك فيها «كل الأشياء لكم» هذا مكتوب لأناس كاملين في طرقهم. ولكنه مكتوب لنفس الكورنثوسيين الذين كنا نتأمل في حالتهم، وذلك قبل أن ينالوا، بواسطة الرسول، بركة ثانية.

القداسة بدم المسيح: أبدية

إن الموضوع الرئيسي في رسالة العبرانيين هي القداسة الكاملة من ناحية المقام، لا كعمل عمل في النفس بالروح القدس ولكن كنتيجة مجيدة لعمل المسيح الكامل

العجيب أنّه عندما قدم نفسه ذبيحة أبطل الخطية على صليب الجلجثة، وبفضل هذه الذبيحة يصير المؤمن مفرزاً لله، مُطهر الضمير، وهو نفسه قد تحول من خاطئ أثيم إلى عابد مقدس، وأصبح متمتّعاً بالعلاقة المستمرة بشخص الرب يسوع المسيح، «لأَنَّ ٱلْمُقَدِّسَ وَٱلْمُقَدَّسِينَ جَمِيعَهُمْ مِنْ وَاحِدٍ، فَلِهٰذَا ٱلسَّبَبِ لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً» (عبرانيين 2: 11) وطبقاً لما جاء في 1كورنثوس 1: 30 هم: «وَمِنْهُ... بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ ٱللّٰهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً». إنهم مقبولون في المحبوب. الله يراهم فيه وينظر إليهم كما ينظر لابنه، « لأَنَّهُ كَمَا هُوَ فِي هٰذَا ٱلْعَالَمِ هٰكَذَا نَحْنُ أَيْضاً» (1 يوحنا 4: 17) هذا فيما يختص بالمقام لا الحالة، لأنه لم يوجد مؤمن يشابه الرب يسوع تماماً من الناحية العملية. إن أسمى وأفضل اختبار لم يصل إلى هذا. ولكن بالنسبة لمقامنا الجديد، قد حسبنا الله مثل ابنه المحبوب.

والأساس لكل هذا هو دم مخلصنا المسفوك، والمرشوش «لِذٰلِكَ يَسُوعُ أَيْضاً، لِكَيْ يُقَدِّسَ ٱلشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ ٱلْبَابِ» (عبرانيين 13: 12).

ولا توجد طريقة أخرى بها نتطهر من خطايانا ونقدس لله. إن الحجة الرئيسية في هذه الرسالة نجدها موضحة تماماً في الأصحاحات من 8 - 10. هناك نجد العهدين في تباين. العهد القديم يطلب من الإنسان ما لا يمكنه الحصول عليه بنفسه وهو الطاعة التامة. أما العهد الجديد فيضمن كل بركة بعمل شخص آخر (المسيح) وبمعرفة هذا تتولد الطاعة فيمن صار غرض هذه النعمة.

في التدبير القديم كان هناك القدس الأرضي مرتبطة به طقوس جسدية كانت ظلاً للخيرات العتيدة التي من امتيازنا الآن أن نتمتع بها.

ولكن في خيمة الاجتماع أغلق الله على نفسه بعيداً عن الإنسان الخاطئ وسكن في قدس الأقداس. والإنسان واقف بعيداً. وكان رئيس الكهنة يدخل إلى الله مرة واحدة في السنة ممثلاً للإنسان وذلك «ليس بلا دم» وكان لا بد من تكرار هذه الخدمة عينها سنوياً في يوم الكفارة العظيم، ولكن كل الذبائح التي قدمت تحت الناموس لم تستطع أن تنزع الخطية، كما لم تستطع «مِنْ جِهَةِ ٱلضَّمِيرِ أَنْ تُكَمِّلَ ٱلَّذِي يَخْدِمُ» (عبرانيين 9: 9).

ولنلاحظ أن الكمال في رسالة العبرانيين ليس هو كمال الأخلاق أو الاختبار، ولكنه كمال من جهة الضمير. وهذا هو السؤال الهام المطلوب الإجابة عنه، كيف يستطيع الخاطئ النجس المدنس الضمير أن يحصل على ضمير لا يشتكي عليه، بل يسمح له بالاقتراب من الله بلا عائق؟ إن دم العجول والتيوس لا يمكن أن يأتي بهذه النتيجة. أعمال الناموس لا يمكن أن تهب مثل هذه الهبة الثمينة. وبرهان هذا نجده ظاهراً في تاريخ الشعب القديم. فالذبائح المستمرة برهنت على أنه لم تقدم بعد ذبيحة كافية لتطهير الضمير «وَإِلاَّ، أَفَمَا زَالَتْ تُقَدَّمُ؟ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ٱلْخَادِمِينَ، وَهُمْ مُطَهَّرُونَ مَرَّةً، لاَ يَكُونُ لَهمْ أَيْضاً ضَمِيرُ خَطَايَا» (عبرانيين 10: 2).

ما أقل ما يفهمه معلمو القداسة من كلمات مثل هذه «مطهرون مرة لا يكون لهم أيضاً ضمير خطايا» ما معنى هذه الكلمات؟ إنها تعني شيئاً. لو فهمه المسيحيون عموماً لتحرروا من الشكوك والمخاوف.

إن الذبائح الطقسية لم تكن عظيمة القيمة لدرجة تجعلها تكفر عن الخطية، ولذلك أتى المسيح نفسه ليفعل مشيئة الله كما هو مكتوب عنه في درج الكتاب. وفعل هذه المشيئة معناه أن يقاسى آلام الموت ويسفك دمه لأجل خلاصنا. «فَبِهٰذِهِ ٱلْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً» (عبرانيين 10: 10) فنلاحظ إذن أن قداستنا وذبيحة المسيح الواحدة إما أن يقوما معاً أو يسقطا معاً. إننا نؤمن بالمكتوب، والله يقول «نحن مقدسون» لا يوجد في هذا الأمر نمو أو تقدم، وبكل تأكيد لا يوجد أي عمل آخر بعد ذلك. إنها حقيقة عظيمة وصادقة بالنسبة لكل المسيحيين الحقيقيين. وهذه القداسة أبدية في صفتها لأن المسيح قد أكمل العمل تماماً. ولا يمكن تكرارها كما تؤكد ذلك الكلمات التالية «لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى ٱلأَبَدِ ٱلْمُقَدَّسِين» (عبرانيين 10: 14) هل توجد كلمات أوضح من هذه؟ أو أية لغة لها تعبير أكثر من ذلك؟ إن الذي يشك يرى كأنه خائف من أن يستريح على هذا الحق الثابت. إن الذبيحة الواحدة الحقيقية كافية لتطهير الضمير مرة واحدة ولذا فالمؤمن له الآن أن يبتهج في التأكيد بأنه قد تطهر إلى الأبد من كل إثم ودنس بواسطة رش دم يسوع المسيح. ولهذا فقط المقدسون كاملون إلى الأبد، هذا من جهة الضمير.

ويوجد أيضاح بسيط يمكن أن يساعد أولئك الذين لا تزال أمامهم صعوبة بالنسبة لهذا التعبير الوارد في الرسالة إلى العبرانيين وهو «ضمير مطهر». كان رجل مديناً لآخر وقد طالبه الدائن المرة بعد الأخرى بدفع الدين، ولأنه كان عاجزاً عن الدفع، لأنه بدد ممتلكاته بدون حكمة، والدائن كان يعلم بذلك لهذا كان يشعر بحزن في حضرة الدائن. وكانت تتملكه رغبة ملحة في البعد عن محضره وتجنب الوجود معه. لقد كان ضميره مثقلاً ومدنساً، إنه كان يعلم أنه ملوم، ولكن ظهر شخص آخر في صف المدين سدد الدين تماماً وسلم للمدين المتعب، إيصالاً بتسديد الدين. والآن هل يخشى المدين مقابلة الدائن. هل يرتعب عند مواجهته؟ طبعاً لا. وما السبب؟ لأن له الآن ضميراً كاملاً أو مطهراً بالنسبة للدين الذي كان يزعجه سابقاً.

كذلك عمل الرب يسوع المسيح، الذي واجه كل مطاليب الله العادلة ضد الخاطئ، والمؤمن إذ يستريح على شهادة الله لقيمة ذلك العمل. يتطهر بدم المسيح؟ «ويكمل إلى الأبد» أمام نظر الله القدوس. إنه قد تقدس بذلك الدم، وهذا إلى الأبد.

وإذ أفلت من سلطان الشيطان وصار لله، نال بالإيمان بالمسيح «غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (أعمال 26: 18).

ولكن يوجد تعبير يستخدم في هذا الاصحاح وربما لا يزال يحير أولئك الذين لم يفهموا أن المقام شيء والحالة العملية شيء آخر. ولكي يمكن توضيح الأمر تماماً يجب فحص كل الفصل الذي سأقتبسه بكامله، واضعاً خطاً تحت التعبير المشار إليه. «فَإِنَّهُ إِنْ أَخْطَأْنَا بِٱخْتِيَارِنَا بَعْدَمَا أَخَذْنَا مَعْرِفَةَ ٱلْحَقِّ، لاَ تَبْقَى بَعْدُ ذَبِيحَةٌ عَنِ ٱلْخَطَايَا، بَلْ قُبُولُ دَيْنُونَةٍ مُخِيفٌ، وَغَيْرَةُ نَارٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَأْكُلَ ٱلْمُضَادِّينَ. مَنْ خَالَفَ نَامُوسَ مُوسَى فَعَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يَمُوتُ بِدُونِ رَأْفَةٍ. فَكَمْ عِقَاباً أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقّاً مَنْ دَاسَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ، وَحَسِبَ دَمَ ٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي قُدِّسَ بِهِ دَنِساً، وَٱزْدَرَى بِرُوحِ ٱلنِّعْمَةِ؟» (عبرانيين 10: 26-29).

لقد رأينا فيما سبق أن الذي تقدَّس بواسطة ذبيحة المسيح الواحدة على الصليب، أي بدمه الكريم قد كمل إلى الأبد. ولكن في هذا الفصل واضح أيضاً أن الشخص الذي يحسب دم العهد الذي قدس به دنساً يهلك إلى الأبد. لهذا صار من الضروري أن نعطي انتباهاً لما سبق أن أوضحنا، ألا وهو «التقديس الشرعي» في العهد القديم قد انفصل لله جميع الشعب، وكل الذين كانوا مجتمعين معهم، وذلك في ليلة عمل الفصح في مصر، وبعد ذلك في البرية أيضاً. ولكن هذا ليس معناه أنه أجرى في نفوسهم جميعاً عمل إلهي بواسطة الروح القدس، وكذلك أيضاً الذين كانوا تحت السحابة واجتازوا في البحر، إذ اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر. الجميع كانوا في الوضع الواحد. الجميع تقاسموا البركات الخارجية، ولكن البرية كانت مكان الاختبار، وسريعاً ما أظهرت من كانوا مؤمنين بالحق، ومن كانوا غير مؤمنين.

وفي الوقت الحاضر لا يوجد لله أمة خاصة تنتمي إليه،

ولكن له شعبه المفدي بدم حمل الله الكريم، غير أن هناك من اتحدوا أنفسهم مع تلك الجماعة خارجياً بالاعتراف الظاهري، وبهذا المعنى هم مقدسون بواسطة دم العهد. فالدم قائم للمسيحية التي في جوهرها إعلان الخلاص بموت المسيح الكفاري. فكل المؤمنين الحقيقيين الذين حكموا على أنفسهم أمام الله، وبإخلاص يثقون في نعمته سيبقون داخلاً، أما إذا خرج أحد فذلك دليل على كذب إيمانه، مثل هذا لا يجد بعد ذبيحة عن الخطايا، لأن كل الذبائح الرمزية قد أبطلت في المسيح، وعن هؤلاء يتكلم الرسول يوحنا بكل خطورة «مِنَّا خَرَجُوا، لٰكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لٰكِنْ لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا» (1يوحنا 2: 19). هؤلاء المؤمنون الاسميون كانوا بحسب وضعهم الظاهري مقدَّسين ولكن لأنهم كانوا بلا إيمان حقيقي لذلك «خرجوا» وبذا احتقروا روح النعمة وحسبوا دم العهد الذي به قُدّسوا دنساً، هؤلاء أخطأوا باختيارهم، لا بمعنى الفشل في السلوك الصحيح ولكنهم ارتدّوا كلية عن المسيحية، بعد أن تعرفوا على الرسالة المجيدة المقدمة للهالكين.

ولكن حيث يحصل العكس والنفس تستقر حقيقة على المسيح، فالقداسة الشرعية تكون أبدية. لأن المقدسين والمقدس كما رأينا مرتبطون ببعضهم رباطاً لا ينحل فالمسيح نفسه صار حكمتهم، وهذا في ثلاث أمور: هو برّهم وقداستهم وفداؤهم.

هذه هي القداسة، وهنا البر الصحيح، وهنا القبول أمام الله (وأنتم مملؤون) (كاملون) فيه، ولو أننا يومياً في حاجة إلى التذلل أمام الله بسبب ما نقع فيه من فشل. إن ما يعطيني مكاناً بين المقدسين في النور ليس قداستي العملية بل هي الحقيقة المجيدة أن المسيح مات ليفتديني لله، إن دمه طهرني من كل خطية، والآن لي حياة فيه، حياة جديدة لا يرتبط بها أي إثم إلى الأبد. كوني فيه هذا حق، فهو قداستي ويمثلني أمام الله كما كان رئيس الكهنة قديماً يحمل على عمامته العبارة «قدس للرب» وعلى كتفيه وعلى صدره يحمل أسماء الأسباط الإثني عشر. كان يمثلهم جميعاً داخل الأقداس. كان هو رمزياً قداستهم: فإذا كان مقبولاً أمام الله فهم كذلك. إن الشعب كان يرى في رئيس الكهنة، وكل مؤمن متعلم من الروح لا ينكر ولو لحظة واحدة، أنه من الواجب أن تكون لنا الحياة التي تناسب مقامنا حياة التكريس والقداسة لله.

القداسة بواسطة كلمة الله ونتائجها الخارجية

في صلاة المسيح كرئيس الكهنة في إنجيل يوحنا 17 يقول عن المؤمنين الذين أعطاهم الآب له: «لَيْسُوا مِنَ ٱلْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ ٱلْعَالَمِ. قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ. كَمَا أَرْسَلْتَنِي إِلَى ٱلْعَالَمِ أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً مُقَدَّسِينَ فِي ٱلْحَقِّ» (يوحنا 17: 16-19). هذا الفصل ثمين، وممكن أن يدخل إلى موضوع القداسة العملية. لقد نظّم طرقنا الخارجية حسناً، وجعلها جميعها مطابقة لإرادة الله المعلنة.

ولكن قبل البدء في هذا الموضوع يجب أن يثبت في أذهاننا أن هذا وثيق الصلة بقداسة الروح الذي كنا نتأمل فيها. فالروح يعمل في داخلنا، والكلمة التي هي خارجة عنا، هي الواسطة التي تستخدم في العمل داخلنا. وأني قصدت أن أتناول الوجهتين، كلاً على حدة، لكي يظهر واضحاً أمام أذهاننا الفرق بين قداسة الروح فينا، الذي هو بداءة عمل الله في نفوسنا، وبين تطبيق الكلمة بعد ذلك على طرقنا الخارجية. فالولادة الجديدة هي التي تدخلنا في عائلة الله. ولكن مع أننا ولدنا ثانية قد نكون في ظلام من جهة فهم أمور كثيرة، ونحتاج إلى نور الكلمة ليهدى أذهاننا الحائرة. ولكن بواسطة قداسة الروح على أساس الدم المرشوش، نفهم أن موت المسيح الكفاري هو وحده الذي يكفر عن كل خطايانا، فنحن مقدسون بدم المسيح، وهذا هو مقامنا أمام الله، ثم بعد ذلك نبدأ السير بالإيمان، ولذلك نحتاج بعدئذ إلى القداسة اليومية بواسطة الحق، أي كلمة الله.من الواضح أنه في طبيعة هذه الأشياء لا يمكن أن يوجد ما يسميه البعض خطأ «عمل نعمة ثانياً محدداً» إنه على العكس هو «حياة» عمل متدرج مستمر دوماً حتى أنتهي من المشهد الذي أحتاج فيه إلى تعليم يومي بالنسبة لسلوكي، وكلمة الله وحدها هي التي تعطيني هذا التعليم. فإذا كانت القداسة في معناها العملي هو بواسطة الكلمة فلا يمكن أبداً أن أتقدس بالتمام من هذه الوجهة حتى أعرف الكلمة معرفة كاملة، ولا أتصرف ضدها في أمرٍ ما. وهذا لا يتم هنا على الأرض. هنا أحتاج إلى التغذي بالكلمة باستمرار وأن أتفهّمها بكيفية أفضل وأتعلّم معانيها بكيفية أكمل، وكما أعرف منها فكر الله يطلب مني أن أدين في نفسي مع كل ما لا يتفق والنور المتزايد الذي أحصل عليه، وأن أكون اليوم أكثر إطاعة من اليوم الذي سبقه. بذلك أتقدَّس في الحق. ولنفس هذا السبب يقدّس الرب ذاته أو يخصص نفسه لأجلنا، لقد ذهب إلى السماء ليهتم بخاصته لكي يكون رئيس كهنة لأجلنا أمام الله وذلك بالنسبة لضعفاتنا، وليكون شفيعنا أمام الآب بالنسبة لخطايانا. وهو هناك أيضاً كغرض قلوبنا. ونحن الآن مدعوون لأن نسلك سبيلنا بصبر، ناظرين إلى المسيح، والروح القدس داخلنا والكلمة بين أيدينا كسراج لأرجلنا ونور لسبيلنا. وبقدر تقديرنا للكلمة وسيرنا في حقها الثمين في قوة الروح القدس بواسطة الله الآب وبواسطة شخص ربنا يسوع المسيح نفسه. لأنه في يوحنا 17 يطلب المسيح من الله الآب قائلاً: «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ». وفي أفسس 5: 25 و26 نقرأ: «أَحَبَّ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً ٱلْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ ٱلْمَاءِ بِٱلْكَلِمَةِ»، هنا نجد المسيح هو المقدس، لأنه هو الذي قال «أنا والآب واحد» وهنا كما في يوحنا، القداسة واضحة أنها تدريجية. والواقع أن غسل الأفسسيين بالكلمة موضح توضيحاً جميلاً في يوحنا 13. هناك نجد سيدنا، وهو في كمال معرفته ببنوته الأزلية، أخذ مكان خادم متمنطق ليغسل أرجل تلاميذه وغسل الأرجل يدل على تطهير السلوك، والفصل جميعه صورة رمزية للعمل الذي يشغل سيدنا ومنذ صعوده إلى السماء، يحفظ أرجل قدّيسيه بغسلها مما لحق بها من وسخ الطريق، تلك الأقذار التي تعلق بقدمي السائح لابس الحذاء أثناء سيره في طرق العالم.

إنه يقول لكل واحد منا كما قال لبطرس «إن لم أغسلك فليس لك معي نصيب» فالنصيب فيه قد حصلنا عليه على أساس عمله الكفاري وكنتيجة للحياة التي يعطيها هو، أما النصيب معه، أو الشركة اليومية فإننا نتمتع بها فقط عندما نكون مُقدّسين بماء الكلمة.

وظاهر من كلام الرب لبطرس أن المنظر كله كان استعارياً «لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع ولكنك ستفهم فيما بعد». لقد تعلم بطرس غسل الأرجل روحياً عندما رد الرب نفسه عقب سقوطه المؤلم. حينئذ دخل في معنى الكلمات: «الذي اغتسل (استحم) لا يحتاج إلا إلى غسل رجليه بل هو طاهر كله» والمعنى ممكن معرفته بسهولة، فكل مؤمن قد أغتسل مرة واحدة، «غسل الميلاد الثاني» (تيطس 3: 5) وهذا الاغتسال لا يمكن أن يتكرر. فلا يمكن أن أحداً مولوداً من الله يهلك. لأن الكل لهم الحياة، وهذه الحياة أبدية، وبالتبعية غير قابلة للضياع (يوحنا 10: 27-29). فإذا سقطوا وأخطأوا فهم لا يحتاجون إلى خلاص من جديد، لأن معنى ذلك أنهم يغتسلون مرة أخرى، ولكن الذي اغتسل لا يحتاج إلى تكرار ذلك مرة أخرى بسبب اتساخ قدميه، بل يغسّلهما فيطهر.

وهكذا هو الحال مع المسيحيين، فنحن قد تجدّدنا مرة، ولا يمكن أن يتكرر ذلك مرة ثانية. ولكن في كل مرة نسقط نحتاج أن ندين أنفسنا بكلمة الله لكي نكون طاهرين في طرقنا، وعندما نعطي كلمة الله موضعها الصحيح في أنفسنا نحفظ من الشر، ونستطيع أن نتمتع بشركة صافية مع ربنا ومخلصنا، وصاحب المزمور يسأل: «بِمَ يزكي الشاب طريقه؟»، والجواب: «بحفظه إياه حسب كلامك».

إذاً كم هو ضروري أن نفتش الكتب ونطيعها لكي يمكن أن نقدس بالحق، ومع هذا فكم من عدم المبالاة نجده عند المعترفين «بالبركة الثانية» بالنسبة إلى هذا الأمر بالذات. ما أعظم جهلهم بالكتب المقدسة وتصورهم الباطل أنهم أسمى منها، الأمر الذي يرى كثيراً مقترناً بالاعتراف بالقداسة في الجسد.

في 1 تسالونيكي 4: 3 نجد عبارة إذ يفصلها البعض عن قرينتها يتخذونها برهاناً قاطعاً على أنه يمكن للمؤمنين أن يصلوا وهم في هذا العالم إلى حالة التحرر التام من الخطية. وهذه العبارة هي «هذه هي إرادة الله قداستكم» من يستطيع أن ينكر حقي في القداسة التامة إذا كانت القداسة معناها ذلك، وأنها إرادة الله من نحوي؟ بكل تأكيد لا أحد. ولكن كما سبق أن رأينا أن القداسة لا يمكن أن تعني ذلك. وفي هذا النص على الأخص اقرأ الثمانية الأعداد كلها التي يتكون منها الفصل وانظر بنفسك أن الموضوع هو النقاوة الشخصية والقداسة التي يتكلم عنها الوحي هنا. إن الموضوع هنا هو حفظ الجسد من الممارسات الدنسة.

فالدنايا الجسيمة كانت مرتبطة بالعبادة الوثنية وتكوّن جزءاً منها والخرافات الوثنية عند اليونان ألهبت غرائز الإنسان الساقط وهؤلاء التسالونيكيون المؤمنون كانوا قد رجعوا حديثاً إلى الله من الأوثان ليعبدوا الله الحي الحقيقي، لذا لزم لهم هذا التحريض لأنهم كانوا يعيشون بين أولئك الذين بدون خجل يمارسون كل هذه الأدناس. إن القديسين كهيكل الله يجب أن يتميزوا بحياة طاهرة غير مدنسة بشهوات الجسد، ووجهة نظر أخرى لهذه القداسة العملية ما جاء في (2تيموثاوس 2: 19-22) وممكن تسميتها القداسة الكنسية، لأن وجهة نظرها موقف المؤمن الأمين الذي يعيش في وقت ساد فيه الفساد بين المعترفين بالمسيح. والكنيسة المنظور إليها كبيت الله قد فشلت وأصبحت بيتاً كبيراً اختلط فيه الصلاح بالفساد. إنه أمر بالغ الخطورة، إنه بينما نرى هنا وفي أماكن أخرى في الكتاب أن من يريد السير مع الله يجب أن يطهر نفسه من أواني الهوان التي امتلأ بها البيت الكبير، فإننا نجد كثيرين ممن «يشهدون» أنهم يعيشون «بدون خطية» متحدين في شركة كنسية (أو في أي نوع من الشركة) مع غير المؤمنين الذين يسلكون في الدنس ولا يتمسّكون بالتعاليم السليمة، لذلك يحسن فحص الفصل بالتفصيل: إن الرسول كان يوجه التفات تيموثاوس إلى أدلة الارتداد المتزايد فهو يحذره من مماحكات الكلام (2 تيموثاوس 2: 14) ومن الأقوال الباطلة الدنسة (ع 16). ويشير إلى رجلين هما: هيمينايس وفيليتس (ع 17) اللذان زاغا عن الحق وبذلك، مع أنهما كانا مقبولين كمعلمين مسيحيين، قد قبلا إيمان قوم، وهذا ما هو إلا الابتداء، كما يرينا الأصحاح الثالث لأن «ٱلنَّاسَ ٱلأَشْرَارَ ٱلْمُزَّوِرِينَ سَيَتَقَدَّمُونَ إِلَى أَرْدَأَ، مُضِلِّينَ وَمُضَلِّينَ» (2 تيموثاوس 3: 13). لذك أعطى الرسول لتيموثاوس كلمة لتشجيعه، فيقول له: «وَلٰكِنَّ أَسَاسَ ٱللّٰهِ ٱلرَّاسِخَ قَدْ ثَبَتَ، إِذْ لَهُ هٰذَا ٱلْخَتْمُ. يَعْلَمُ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِينَ هُمْ لَهُ. وَلْيَتَجَنَّبِ ٱلإِثْمَ كُلُّ مَنْ يُسَمِّي ٱسْمَ ٱلْمَسِيحِ» (2تيموثاوس 2: 19). هنا شجاعة الإيمان، وهنا أيضا مسؤولية الأمانة، فالإيمان يقول: مهما ارتفع الشر ومهما ساد الانحطاط ومهما بردت محبة الكثيرين ومهما تأثر كثيرون بالارتداد، فإن أساس الله الراسخ قد ثبت لأن المسيح أعلن: «على هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها».

ولكن هذا يضعنا تحت المسؤولية. يجب علي ألا أسير مع الشر - فلا يوافق أن أحتج ما دمت مسايراً له ولو بتحفظ وبقلب غير كامل. إني مدعو لأن أنفصل عنه. ربما بهذه الطريقة أنفصل عن أبناء أعزاء لله وخدام محبوبين للمسيح موجودين في وسط الارتداد، ولكن هذا هو الوقت الوحيد المطلوب مني بحسب كلمة الله، وهذا يتضح مما جاء في (2تيموثاوس 2: 20) «وَلٰكِنْ فِي بَيْتٍ كَبِيرٍ لَيْسَ آنِيَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَقَطْ، بَلْ مِنْ خَشَبٍ وَخَزَفٍ أَيْضاً، وَتِلْكَ لِلْكَرَامَةِ وَهٰذِهِ لِلْهَوَانِ» البيت الكبير هو المسيحية في حالتها الحاضرة حيث الصلاح والشر، المخلصون والهالكون، المقدس والنجس - الجميع مختلطون معاً. في (1 تيموثاوس 3: 15) نقرأ عن «بَيْتِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي هُوَ كَنِيسَةُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ، عَمُودُ ٱلْحَقِّ وَقَاعِدَتُهُ»، وهذا ما يجب أن تكون عليه الكنيسة باستمرار، ولكن يا للأسف فقد انحرفت عن هذا المثل الأعلى المبارك، وأصبحت كبيت كبير يوجد فيه كل أنواع الأواني المصنوعة من مواد مختلفة. ولأغراض متعددة. فتوجد أوان ذهبية وفضية لاستخدامها في حجرة الطعام، وتوجد أوان من خشب وخزف توصف بأنها للهوان.

أما هذا فشيء عملي ينتج عن علاقتنا مع الله كمسيحيين.

وهكذا الأمر مع إنسان الله الذي طهر نفسه من كل ما يتعارض مع حق الله وقداسته فيصبح مقدساً ومخصصاً نافعاً للسيد مستعداً لكل عمل صالح. وطبعاً لا يكفي بأن نقف عند نقطة الانفصال لأنه من يفعل هذا فقط يصبح فريسياً من النوع المكروه جداً، ولكن من انفصل عن الشر مطلوب منه «اتْبَعِ ٱلْبِرَّ وَٱلإِيمَانَ وَٱلْمَحَبَّةَ وَٱلسَّلاَمَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ ٱلرَّبَّ مِنْ قَلْبٍ نَقِيٍّ»(2تيموثاوس 2: 22). ولكي نصل إلى ذلك، ما أعظم حاجتنا إلى التطبيق اليومي لكلمة الله، بقوة الروح، على كل طرقنا!

وهذا كما رأينا هو غسل الأرجل الصحيح فبالكلمة نتنقى «أَنْتُمُ ٱلآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ ٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ» (يوحنا 15: 3) والكلمة مثل الماء في تأثيرها، إذ تنقي وتنعش نفس الشخص الذي يخضع لها. ففيها نجد تعليمات لكل دقائق سلوك الإيمان. إنها تريني كيف دعيت للتصرف في العائلة، وفي الكنيسة، وفي العالم. فإذا أطعتها فإنها تغسل من حياتي كل إثم، كما يستخدم الماء في تنظيف رجلي من كل الأوساخ المادية.

ومن المستحيل أن أصل إلى حالة سامية أو اختبار على الأرض لدرجة أنني أستطيع أن أقول معه بأمانة، إني الآن قد تقدّست بالتمام ولست بعد ذلك في حاجة إلى الكلمة لغسلي، ما دمت موجوداً في هذا المشهد فإني مدعو لأن أتبع السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب (عبرانيين 12: 14) وهذا النص الواحد إذا ما فهم فهماً صحيحاً يستأصل جذور نظرية الكمال المطلق، ومع ذلك فإن هذا النص هو النص الذي يبرزونه دائماً في «اجتماعات القداسة» ويستشهدون به خطأ.

لاحظ بعناية ما هو مطلوب هنا. يجب أن نتبع شيئين، السلام مع الجميع والقداسة. والذي لا يتبع هذين لن يرى الرب. ولكننا لا نتبع شيئاً قد حصلنا عليه فعلاً. من الذي وصل إلى السلام مع جميع الناس؟ ما أكثر الذين يضطرون لأن يصرخوا مع صاحب المزمور قائلين: «أَنَا سَلاَمٌ، وَحِينَمَا أَتَكَلَّمُ فَهُمْ لِلْحَرْبِ» (مزمور120: 7). ومن الذي حصل على القداسة العملية في معناها الكامل؟ لا أنت أيها القارئ العزيز ولا أنا لأننا «فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا» (يعقوب 3: 2). ولكن كل مؤمن حقيقي، كل نفس متجددة، كل شخص حصل على روح التبني يتبع القداسة، ويتوق إلى ذلك الوقت الذي فيه يأتي شخص ربنا يسوع المسيح «الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده» حينئذ نصل إلى هدفنا، حينئذ سنصير عملياً قديسين قداسة أبدية ومطلقة.

وهكذا عندما يكتب الرسول للتسالونيكيين بالنسبة إلى هذه الحادثة السعيدة المنتظرة يقول: «ٱمْتَنِعُوا عَنْ كُلِّ شِبْهِ شَرٍّ (أو أية صورة من صور الشر) وَإِلٰهُ ٱلسَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِٱلتَّمَامِ. وَلْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ وَنَفْسُكُمْ وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً بِلاَ لَوْمٍ عِنْدَ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ. أَمِينٌ هُوَ ٱلَّذِي يَدْعُوكُمُ ٱلَّذِي سَيَفْعَلُ أَيْضاً» (1تسالونيكي5: 22-24). هذه ستكون الخاتمة السعيدة لكل الذين هنا على الأرض، كغرباء ونزلاء، يتبعون السلام والقداسة. وبذلك يظهرون الطبيعة الإلهية وثمار الروح.

ولكن ما داموا في بربة هذا العالم فلا بد وأنهم يحتاجون يومياً إلى الإلتجاء للمرحضة - كلمة الله المطهرة - التي من قديم كان موضعها بين المذبح والقدس. ولكن عندما نوجد في السماء لا تكون هناك حاجة للماء الذي يطهر من الإثم في ذلك المشهد. مشهد القداسة، لا يوجد مرحضة، ولكن أمام العرش رأى يوحنا بحراً من الزجاج لامعاً كبلور حيث يقف عليه المفديون وقد انتهت تجاربهم وحربهم إلى الأبد لأنه سيوقفنا «أَمَامَ مَجْدِهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي ٱلٱبْتِهَاجِ» (يهوذا 24).

قداسة الارتباط العائلي

لا يوجد ما يوضح أن القداسة ليست هي فقط استئصال طبيعتنا الخاطئة أكثر من الطريقة التي بها تتحدث كلمة الله عن الأقرباء الذين في صلة مع المؤمنين، وإذ قد تناولنا بكل اعتناء الوجهتين العملية للقداسة، يصح الآن أن نتأمل فيما يقوله الله عن هذه القداسة الخارجية أو قداسة القرابة.

رأينا فيما سبق في فصل القداسة بالدم أنه قد يتقدس شخص (بمعنى معين)، بسبب ارتباطه مع آخر، ومع ذلك يظل غير متجدد ويهلك. ولكن قد يقال أيضا عن أناس أنهم تقدسوا عن طريق ارتباطهم بمؤمنين وكانوا موضوع صلواتهم القلبية الحارة، فصاروا بعدها مخلصين حقاً.

والفصل الذي سنتأمل فيه الآن هو الأصحاح السابع من كورنثوس الأولى، فهو يحوي أكمل تعليم خاص بعلاقة الزواج جاء في كلمة الله. وابتداءً من عدد 10 نقرأ «وَأَمَّا ٱلْمُتَزَّوِجُونَ فَأُوصِيهِمْ، لاَ أَنَا بَلِ ٱلرَّبُّ، أَنْ لاَ تُفَارِقَ ٱلْمَرْأَةُ رَجُلَهَا. وَإِنْ فَارَقَتْهُ فَلْتَلْبَثْ غَيْرَ مُتَزَّوِجَةٍ، أَوْ لِتُصَالِحْ رَجُلَهَا. وَلاَ يَتْرُكِ ٱلرَّجُلُ ٱمْرَأَتَهُ» وبخصوص هذا قد سبق الرب وأعطى تعليماً واضحاً كما هو مدوّن في (متى 19: 1-12). ولكن بالنسبة لانتشار الإنجيل بين الوثنيين من الأمم قد نشأت حالات في كثير من الأماكن كانت في حاجة إلى توضيح. فمثلاً لنفرض أن زوجة وثنية قد رجعت إلى الرب، ولكن زوجها بقي نجساً عابد وثن، فهل يبقى الشريك المسيحي في علاقة الزواج مع الشخص غير المتجدد، دون أن يتدنس. في أيام عزرا ونحميا كان بعض الراجعين قد اتخذوا لأنفسهم زوجات من الأمم الذين حولهم، والنتيجة كانت التشويش. «وَنِصْفُ كَلاَمِ بَنِيهِمْ بِٱللِّسَانِ ٱلأَشْدُودِيِّ، وَلَمْ يَكُونُوا يُحْسِنُونَ ٱلتَّكَلُّمَ بِٱللِّسَانِ ٱلْيَهُودِيِّ، بَلْ بِلِسَانِ شَعْبٍ وَشَعْبٍ» (نحميا 13: 24). وهذه الحالة كانت مزعجة للقادة الأتقياء الذين لم يستريحوا حتى فصلوا الزوجات الغريبات ومعهن أولادهن الذين اعتبروا نجسين ويجب عزلهم من شعب الرب. لقد سطرت الأعداد التي تلي ذلك بوحي إله كل نعمة، لعلاج هذه الحالة الشاقة فيكتب الرسول بولس: «وَأَمَّا ٱلْبَاقُونَ، فَأَقُولُ لَهمْ أَنَا لاَ ٱلرَّبُّ: إِنْ كَانَ أَخٌ لَهُ ٱمْرَأَةٌ غَيْرُ مُؤْمِنَةٍ، وَهِيَ تَرْتَضِي أَنْ تَسْكُنَ مَعَهُ ،فَلاَ يَتْرُكْهَا. وَٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي لَهَا رَجُلٌ غَيْرُ مُؤْمِنٍ، وَهُوَ يَرْتَضِي أَنْ يَسْكُنَ مَعَهَا، فَلاَ تَتْرُكْهُ. لأَنَّ ٱلرَّجُلَ غَيْرَ ٱلْمُؤْمِنِ مُقَدَّسٌ فِي ٱلْمَرْأَةِ، وَٱلْمَرْأَةُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنَةِ مُقَدَّسَةٌ فِي ٱلرَّجُلِ - وَإِلاَّ فَأَوْلاَدُكُمْ نَجِسُونَ. وَأَمَّا ٱلآنَ فَهُمْ مُقَدَّسُونَ. وَلٰكِنْ إِنْ فَارَقَ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِ فَلْيُفَارِقْ. لَيْسَ ٱلأَخُ أَوِ ٱلأُخْتُ مُسْتَعْبَداً فِي مِثْلِ هٰذِهِ ٱلأَحْوَالِ. وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ قَدْ دَعَانَا فِي ٱلسَّلاَمِ. لأَنَّهُ كَيْفَ تَعْلَمِينَ أَيَّتُهَا ٱلْمَرْأَةُ، هَلْ تُخَلِّصِينَ ٱلرَّجُلَ؟ أَوْ كَيْفَ تَعْلَمُ أَيُّهَا ٱلرَّجُلُ، هَلْ تُخَلِّصُ ٱلْمَرْأَةَ» (1 كورنثوس 7: 12-16).

يا له من مثال تتجلى فيه قوة النعمة الفائقة. فتحت الناموس، الشريك النجس ينجس الشريك المقدس. أما تحت النعمة فالشخص الذي خلصه الله يقدس النجس. إن الأسرة نظام إلهي قديم جداً، وفي كل أجزاء الكتاب يتضح أن الله يريد أن يخلص شعبه كعائلات، فهو لا يريد استخدام العنف في الروابط الطبيعية التي هو نفسه قد أوجدها. فإذا خلّص الرب رجلاً رأس عائلة فهو يعلن بذلك أنه يختزن البركة لكل العائلة. وهذا طبعاً لا يمس المسؤولية الشخصية. فالخلاص كما هو حق دائماً «ليس من دم» ولكن بوجه عام نقول إن فكر الله أن يخلص عائلات شعبه مع أرباب هذه العائلات. ولذلك يعلن أن خلاص شريك يقدس الشريك الآخر كما يقدس الأولاد أيضاً.وهل معنى ذلك أنه قد حدث أي تغيير في هؤلاء الأشخاص. كلا على الإطلاق. قد يبقون كما هم بدون ولادة جديدة، محبين لطرقهم الشريرة. محتقرين النعمة، وغير خائفين من دينونة الله، ورغم كل ذلك فهم مقدسون في القريب المؤمن. كيف يتفق هذا مع فكرة الكماليين عن القداسة؟ لأنه واضح أن الكلمة هنا لا تعني أي تطهير ومن ثم تنهار فكرتهم إنهياراً تاماً. والسبب في ذلك هو أنهم ألصقوا بكلمة «القداسة» معنى غير صحيح لغوياً، وباطل كتابياً ولا ينسجم مع الواقع العملي.

واضح أن القداسة في الحالة التي أمامنا مختصة بعلاقة القرابة إذ يتغير مركز بقية العائلة بتجديد أحد الأبوين. فلا يكون البيت في نظر الله بيتاً وثنياً بعد بل بيتاً مسيحياً.

في البيت الوثني الكل ظلمة، لا يوجد نور يُضيء أبداً، ولكن دع أحد الوالدين في العائلة يتجدد، فماذا إذاً؟ على الفور تظهر منارة في ذلك البيت فينير على الآخرين سواء أرادوا أو لم يريدوا، لقد وضعوا في مكان الامتياز والمسؤولية اللذين كانا بعيدين عنهم كل البعد. وكل هذا بدون أن يعمل الله بعد في نفوسهم ولو أن هذا فتح الباب أمامهم لقبولهم المخلص، لأن اهتداء أحد الوالدين كان هو طريق الله الذي يعلن أشواقه بالنعمة لكل هذه العائلة، كما في حالة السجان، إذ كلف الله خادميه بأن يعلنا الحق الثمين: «آمِنْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ»(أعمال 16: 31) إن هذه الكلمات القليلة لم تمنح الخلاص لأهل البيت، ولكن ثبتت في قلب السجان حقيقة أنه كما فتح أمامه طريق الخلاص قد فتحه أيضاً أمام أهل بيته، وأن الله يريد منه أن يتكل عليه في هذا الأمر. فهم قد تقدسوا من اللحظة التي آمن فيها، وسريعاً ما ملأ الابتهاج كل البيت، عندما استجاب الجميع لنعمة الله المقدسة.

هذا هو بالاختصار تعليم الكتاب المقدس عن القداسة بواسطة القرابة التي يهملها أو يتجاهلها الكثيرون ولكنها على جانب عظيم من الخطورة والأهمية للأفراد المؤمنين في العائلات التي فيها بعض أفراد لم يخلصوا بعد «لأَنَّهُ كَيْفَ تَعْلَمِينَ أَيَّتُهَا ٱلْمَرْأَةُ، هَلْ تُخَلِّصِينَ ٱلرَّجُلَ؟ أَوْ كَيْفَ تَعْلَمُ أَيُّهَا ٱلرَّجُلُ، هَلْ تُخَلِّصُ ٱلْمَرْأَةَ؟» استمر في العمل واستمر في الصلاة وعش للمسيح أمام الباقين، من يوم إلى يوم، وأنت عالم أنه فيك قد تقدس الجميع، والله منتظر أن يخلصهم عندما يشعرون بحاجتهم للنعمة وثقتهم فيها.


Call of Hope 
P.O.Box 10 08 27 
D-70007
Stuttgart
Germany