العودة الى الصفحة السابقة
حياة المسيح

حياة المسيح

اسكندر جديد


Bibliography

حياة المسيح. اسكندر جديد. Copyright © 2007 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . . SPB 7360 ARA. English title: The Life of Christ. German title: Jesu Leben. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 D - 70007 Stuttgart Germany http: //www.call-of-hope.com .

السؤال:

أرجو يا سيدي، أن تكتب لي ما تعرفه عن نشأة المسيح... ما هي الأساليب التي اتبعها المسيح مع الكفار!

ع. م. أ. ع.

القاهرة - مصر

1 - نشأة المسيح

المسيح شخصية عجيبة فريدة، لا مثيل لها ولا نظير. فهو الرب من السماء، وإنما هبط إلى الدنيا مولوداً من عذراء، حبل به فيها من الروح القدس. وهذا الميلاد العجيب، أعلن لرجال الله في العهد القديم ومنهم إشعياء النبي، الذي كتب عنه بوحي من الله: «هَا ٱلْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ٱبْناً وَتَدْعُو ٱسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ» (الذي تفسيره الله معنا)... لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ٱبْناً، وَتَكُونُ ٱلرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ» (إشعياء 7: 14، 9: 6).

وهكذا قال ملاك الرب للعذراء المباركة: «لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ ٱللّٰهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى» (لوقا 1: 30-32).

ويخبرنا الإنجيل أن المسيح، وُلد في بيت لحم. وفي الليلة، التي وُلد فيها، ظهر ملاك الرب، وكلم جماعة من الرعاة، كانوا يحرسون قطعانهم بالقرب من بيت لحم: «هَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱلرَّبُّ... وَظَهرَ بَغْتَةً مَعَ ٱلْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ ٱلْجُنْدِ ٱلسَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ ٱللّٰهَ وَقَائِلِينَ: «ٱلْمَجْدُ لِلّٰهِ فِي ٱلأَعَالِي، وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ» (لوقا 2: 10-14).

وانقضت أربعون يوماً، وكانت مريم ويوسف والطفل ما زالوا ساكنين في بيت لحم. وفي نهاية الأربعين يوماً، أخذت مريم ويوسف الصبي إلى الهيكل العظيم في أورشليم، لكي يقدماه للرب. ولما تمت المراسيم المفروضة، إذا برجل شيخ، كان الشعب يجله، لأنه كان باراً، والروح القدس كان عليه. وكان قد أوحي إليه، إنه لا يرى الموت، قبل ان يرى مسيح الرب. فأتى مسوقاً بالروح إلى الهيكل، وحين قدم الصبي يسوع، أخذه على ذراعيه، وسبح الله بنغمة الفرح وقال الآن تطلق عبدك يا سيد، بحسب قولك بسلام، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك! الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب.

وكذلك كان هناك عجوز اسمها حنة، متقدمة جداً في السن. وكانت معروفة أنها نبية، وقد صرفت أيامها في التأمل والصلاة في الهيكل، ليلاً ونهاراً. فهذه القديسة إذ رأت الطفل، وقفت تسبح الرب، وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في المدينة المقدسة.

وسرعان ما سرت الأخبار عن الطفل العجيب، فارتجت المدينة. واهتز قصر هيرودس، الذي كان يعيش في خوف مستمر من أن يقوم منافس له على العرش. وبينما هذه الأمور تجري، جاء عظماء من المشرق، وسألوا هيرودس قائلين: «أَيْنَ هُوَ ٱلْمَوْلُودُ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي ٱلْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ» (متى 2: 2).

فلما سمع هيرودس ازداد اضطرابه، إذ كان قد سمع ببراعة المشارقة في مراقبة النجوم واستطلاع معانيها. ولعله سمع من أحبار اليهود أن ميلاد شخص عظيم تصحبه علامات في السماء، سيتم في مملكته. ولكن ما أن سمع إعلان عظماء المشرق أن الطفل الوليد هو ملك اليهود، حتى ثارت ثائرته. وطلب إلى الغرباء أن يتقصوا الحقائق، ويحيطوه علماً بمكان الصبي.

وما أن غربت الشمس، حتى غادر عظماء المشرق مدينة الله أورشليم، وأضاء لهم النجم، الذي رأوه في المشرق. وراح يتقدمهم،حتى جاء ووقف حيث كان الصبي. حينئذ أدركوا أنهم وصلوا إلى نهاية مطافهم. فدخلوا البيت، ووجدوا الصبي مع مريم أمه. فخروا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم، وقدموا له هدايا ذهباً ولباناً ومراً. وقد قدموا هذا الإكرام، لأنهم أدركوا أن المولود، لم يكن طفلاً عادياً، بل كان شخصاً إلهياً، يستحق عبادة قلوبهم.

وبعدما انصرفوا، ظهر ملاك الرب ليوسف في حلم، وقال له: «قُمْ وَخُذِ ٱلصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَٱهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ ٱلصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ» (متى 2: 13). واستيقظ يوسف من حلمه فوراً، وأيقظ مريم وأخبرها بحلمه. وبعد التشاور، جمعا أمتعتهما القليلة، وحملا الصبي إلى مصر.

في هذه الأثناء كان عظماء المشرق في طريق العودة إلى بلادهم، دون أن يعرجوا على هيرودس. فغضب جداً، وبدافع من خوفه من الطفل، أن ينمو وينازعه الملك، أرسل كتيبة من جنوده مع أوامر بقتل جميع أطفال بيت لحم، من ابن سنتين وما دون.

وبعد عدة أسابيع من هروب مريم ويوسف والصبي إلى مصر، مات هيرودس. فعاد يوسف بالطفل وأمه إلى الوطن، وسكنوا معاً في الناصرة. وهناك بدأ يشتغل، يعول مريم والطفل. أما يسوع فكان ينمو ويتقوى بالروح، ممتلئاً حكمة وكانت نعمة الله عليه.

ولما بلغ الثانية عشرة من عمره، ذهب مع أمه ويوسف ونفر من أهل الناصرة إلى أورشليم، للاشتراك في احتفالات عيد الفصح. لم يكن يسوع آنئذ يعتبر طفلاً، بل كان ينتظر منه، أن يقوم بنصيبه في عبادة الله الجمهورية.

وحين انتهى العيد، أخذ الحجاج، يعودون إلى قراهم وبلادهم. وبسبب الزحام الشديد، لم تلاحظ مريم ويوسف، أن يسوع ليس بين الراجعين إلى الناصرة. بل ظنا أنه بين رفقائه الصبيان. ولكن في المساء، حين توقف العائدون، ونصبوا خيامهم للمبيت، عرفا أنه لم يعد. فخافا خوفاً شديداً، من أن يلحقه أذى. ورجعا حالاً إلى المدينة المقدسة يطلبانه. وبعد تفتيش دام ثلاثة أيام، وجداه في الهيكل جالساً في وسط معلمي الشريعة، يسمعهم ويناقشهم في مواضيع الكتب المقدسة. وأحياناً، يطرح عليهم أسئلة عن الشريعة الدينية.

حينئذ تقدمت أمه، مدفوعة بحنانها وسألته معاتبة: لماذا فعلت بنا هكذا؟ لقد كنا نطلبك، ونبحث عنك معذبين. فنظر إليها يسوع، وبعد لحظة من الصمت، سألها: لماذا كنتما تطلبانني؟ ألم تعلما أنه ينبغي، أن أكون في ما لأبي؟

بعد هذا ودع الفقهاء، وذهب طائعاً مع أمه ويوسف إلى الناصرة. وهناك مكث مدة ثمانية عشر عاماً، عاملاً بيديه في دكان النجارة، مع يوسف. وخلال هذه الحقبة من الزمن، كان موضوعاً لتقدير الناس، نظراً لتواضعه وسلوكه الطيب.

وكان يعيش في البرية، التي تقع شرقي نهر الأردن رجل نبي، في عزلة عن الناس. وقد قضى سنين عديدة، في التأمل والصلاة. كان هذا النبي يوحنا المعمدان، الذي أعلن رسالته قائلاً: «أنا صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب». وقد طلب إلى جميع الذين قبلوا رسالته أن يعتمدوا، معترفين بخطاياهم. وكان يخبرهم أن المسيح المنقذ سيظهر في أية لحظة.

وذات يوم فيما كان يوحنا المعمدان، يكرز بملكوت الله، ويعمد التائبين في نهر الأردن، جاء رجل في نحو الثلاثين، وطلب أن يعتمد منه. ولما تفرس يوحنا في وجه القادم، علم أنه المسيا الآتي إلى العالم، فتهيب إجلالاً وقال له: أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ! فأجاب يسوع، وقال اسمح الآن، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر.

أمام هذه الرغبة الإلهية. لم يكن في وسع نبي البرية إلا الرضوخ. لم تكن للمسيح خطية، يعترف بها ويتوب عنها، وينال المعمودية رمزاً للاغتسال منها، نظير غيره من الذين اعتمدوا على يدي يوحنا. ولكنه تصرف هكذا، كأول خطوة في طريق آلامه البديلة الكفارية. ففي فرصة لاحقة، نرى المعمدان يشير إليه قائلاً: هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم.

هكذا اعتمد المسيح بالماء، لكي يتم كل بر، أي كل مطالب الشريعة، التي تطوع باختياره أن يكملها لتبرير الخاطئ. وهذه المعمودية هي علامة رسمية على ابتداء المسيح بممارسة وظيفته، وإشارة ضمنية إلى تكريسه بها.

وفيما هو صاعد من الماء انفتحت السماء له، ورأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتياً إليه. ويبدو أن يوحنا المعمدان، كان موعوداً بعلامة يعرف بها المسيح. لأنه قال: «ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِٱلْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: ٱلَّذِي تَرَى ٱلرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ، فَهٰذَا هُوَ ٱلَّذِي يُعَمِّدُ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ» (يوحنا 1: 33 و34).

ومع حلول الروح القدس على الكلمة الأزلي المتجسد، سمع حالاً صوت من السماء قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت». لم يكن هذا الصوت من النوع الذي يسمع في الرؤيا، بل كان صوتاً حقيقياً، يحمل شهادة الآب السماوي. ويرجح أن كل الحاضرين سمعوا الصوت.

ومما لا ريب فيه، هو أن ابتهاج المعمدان، كان عظيماً جداً في تلك الساعة. لأنه بعد جهاده الطويل في الكرازة يقرب ظهور المسيح، وانتظاره يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، شاهده الآن واقفاً أمامه. وكان له الشرف العظيم بأن يعمده.

كان المسيح قد أشرف على الانتهاء، من سني الاستعداد لخدمته الجهارية، ولكن كان عليه قبل البدء بها، أن يمر في بوتقة التجارب، ليثبت أهليته كوسيط صلح بين الله والناس. كان ينبغي أن يصارع رئيس الظلمة وسلطان هذا الدهر إبليس الرجيم، ويقهره، لتتم أولى النبوات التي أعطيت للبشر، حين قال الله، بعد سقوط آدم وحواء، أن نسل المرأة يسحق رأس الحية (تكوين 3: 15). ولكي يفتح الباب أمام كل مؤمن لكي يقاوم هذا الخصم الجبار، الذي لا يمكن أن يخلص أحد من براثنه إلا باسم يسوع المسيح.

يقول الإنجيل أن يسوع بعد المعمودية أصعد إلى البرية، ليجرب من إبليس (متى 4: 1) قال أحد القديسين: في طيلة الثلاثين عاماً التي قضاها يسوع في بيت أمه وفي العمل مع يوسف النجار، لم يتحرك إبليس ضده. ولكن في اللحظة التي تقدم فيها للبدء بعمله الكفاري، الذي جاء من أجله، أسرع الشيطان لمحاربته.

لقد رأى عدو النفوس يسوع ممجداً للغاية عند اعتماده، ومبتهجاً بحلول الروح القدس عليه، ومغتبطاً برضى الآب، الذي عبر عنه بالقول: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت فانقض عليه بأقوى تجاربه خلال أربعين يوماً، آملاً أن يسقطه في مخالفة ما.

لقد سبق له أن أسقط آدم الأول، وبالتالي نسله. والآن يتوسم أن يوقع بآدم الثاني، بواسطة التجارب. لا سيما أن أحوال يسوع الآن تسهل عليه إتمام مهمته، فقد كان جائعاً جداً، بعد صيام أربعين يوماً.

حين هاجم آدم الأول بالتجربة وأسقطه، كان هذا الأخير في الفردوس، حيث كانت متوفرة له كل أسباب الرفاهية والراحة. وكان محيطه خالياً من أسباب الفساد. حتى أن كل أنواع الحيوانات، كانت أليفة وطوع أمره.

أما الآن فإنه يجد يسوع الجليلي، الذي هو آدم الثاني في برية موحشة، ليس فيها طعام، تحيط به الوحوش الضارية، المستعدة لافتراس كل من تجده. وفوق هذا، كان يسوع عالماً بأنه لم يرجع عن قصده، فليس أمامه سوى التعب والشقاء والإهانة من الناس، ثم الموت على الصليب. فكيف لايكون الإيقاع به وإسقاطه سهلاً؟

مضى أربعون يوماً على يسوع، دون أن يبتلع شيئاً من الطعام. فاقتنص المجرب فرصة ضعفه الجسدي وحاجته الملحة إلى الطعام، فقال له: إن كنت ابن الله، فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً. هذه العبارة تحملنا على التصور بأن الشيطان تقدم إلى يسوع في صورة ملاك نور، متظاهراً بأنه يشفق عليه من الجوع، ثم لا يلبث أن يذكره بقدرته على صنع المعجزات، بحيث يزرع الشك في كونه ابن الله حقاً إن لم يصنعها.

ولعل كثيرين تساءلوا، ما المانع أن يفعل المسيح هذه العجيبة، ليسد جوعه. والجواب هو أنه لما أخلى نفسه وأخذ جسد إنسان، حسب خلسة أن يستعمل قدرته على صنع العجائب لأغراضه الشخصية، وخصوصاً باقتراح من إبليس!

ويقيناً أنه لو فعل، لخرج على مبدأ اتضاعه، وتجاوز القاعدة، التي ارتضاها لنفسه حين قال: طعامي أن أفعل مشيئة الذي أرسلني، وأتمم عمله. ولعل المسيح أراد أن يذوق في نفسه طعم الجوع الشديد، الذي هو نصيب كثيرين من بني البشر. ولهذا، وإذ هو عالم بقصد المجرب، ورفض الاقتراح قائلاً: «مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱللّٰهِ» (متى 4: 4). وفي جوابه هذا أعلن أن الله كفيل بكل شيء، وهو حكيم ومحب، بحيث لا يهمل خاصته من عنايته.

ولعل في هذا القول، الزم درس لنا. فنحن نضطرب لأجل الخبز ونشكو ونتذمر. وفي أحيان كثيرة نرتكب الشر في سبيل الحصول عليه. فشكراً للمسيح لأجل هذا الدرس العظيم، الذي يعلمنا أن لا نبالغ في اهتمامنا بما نأكل، لئلا يصير اهتمامنا هماً. فليتنا نثق في الله ونتمثل لوصية المسيح القائلة: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم».

في الواقع لو أن المسيح عمل بمشورة الشيطان، وقدم الأمور الجسدية على الروحية، لانضم إليه كثيرون لهذا السبب. ولكنه كان سيخرج بذلك على المخطط الإلهي، الذي أعد لفداء الجنس البشري.

كان رد المسيح حاسماً، ولكن إبليس لا ينثني بسهولة عن هدفه الخبيث. إنه يحاول كرة ثانية، ويجدد الهجوم على صورة تخالف الأولى. ها هو يقف بجانب يسوع على جناح الهيكل. ويقول له اطرح نفسك إلى أسفل، إلى الدار الوسطة من الهيكل. «لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ» (متى 4: 6).

كان عند اليهود تقليد يتوراثونه عن مجيء المسيح، إنه يأتي من السماء محمولاً على أيدي الملائكة، إلى أن يستقر في صحن الهيكل. فكأن الشيطان الماكر يقول ليسوع: ألست أنت المسيح الآتي؟ إذن اطرح نفسك إلى أسفل، وعندما يرى الجمهور أنك لم تصب بأذى، سيخر الجميع عند قدميك، معترفين بأنك أنت المسيح!

كان في اقتراح الشيطان شيء من المنطق، ولكنه منطق مبطن بالمكر، فهو يدعو المسيح إلى التعالي والاستكبار، وفي هذا خروج على تواضعه، واستخدام القوى الإلهية لإدهاش الناس. وبالتالي انتزاع التأييد منهم.

أما يسوع فلم يقع في الفخ، ومع أنه مزمع أن يصنع عجائب كثيرة فيما بعد، لخير الناس وليس لادهاشهم، إلا أنه رفض الاقتراح. ثم عاد إلى المكتوب، فقال للمجرب: «مَكْتُوبٌ أَيْضاً: لاَ تُجَرِّبِ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ» (متى 4: 7).

كان الجواب سهماً آخر، صوب إلى صدر العدو الماكر. ولكنه لم يسلم بالهزيمة، بل صمم على أن يجرب الرب يسوع بطريقة أشد مكراً ودهاء. وقد تمت التجربة على جبل عال جداً، يرجح أنه جبل حرمون المعروف بجبل الشيخ، الذي ترى منه كل الأرض المقدسة، وقال له: إن كل هذا قد دُفع إليّ، وأنا أعطيه لمن أريد. فإن سجدت لي، يكون لك الجميع.

قال أحد الثقات: في اعتقادي أن الشيطان أراد باقتراحه أن يقول ليسوع، أنت أتيت لتسترد العالم عن طريق الفداء، الذي سيقتضيك الألم والصليب والموت، فأنا مستعد أن أسلمه لك دون هذه الكلفة الباهظة. وكل ما أطلبه منك، هو أن تستعمل أساليبي في شيء من السياسة الحكيمة، في اتصالاتك مع رؤساء اليهود. فبقليل من المسايرة، يمكنك أن تنال تأييدهم. صحيح أن فيهم عيوباً، ولكنهم يمكلون نفوذاً واسعاً. غض الطرف قليلاً عن مخالفاتهم، فتكسب ودهم.

كانت التجربة مغرية وجذابة جداً. فمن لا يستعمل حكمة التساهل مع الشر القليل لأجل الخير الجزيل؟! ولكن المتأمل بعمق في مرامي هذا الاقتراح، يرى أن التجربة كانت تطلب من يسوع أن يتنازل عن المثل العليا، ويعتمد الوسائل العالمية، لتحقيق عظمة زائفة، لا تحسب شيئاً، إذا ما قيست بمجده الإلهي.

وهل يقبل يسوع الذي أحب البشر محبة فائقة، أن يشتري مجداً عالمياً لقاء تنازله عن فكرة الفداء، فيترك ملايين النفوس أسرى الخطية، عبيداً لإبليس الرجيم؟ فيقيني أنه في تلك اللحظة مثلت في خاطره صور أولئك الرجال والنساء والأطفال، الذين كانوا في قبضة عدو الصلاح. الذين كانوا بلا مسيح، بلا إله، وبلا رجاء في العالم!

وشكراً لهذا الفادي، الذي جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك، والذي قاوم إغراءات رئيس هذا العالم، وصرخ في وجهه: «ٱذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (متى 4: 10).

وإذ سمع الشيطان جواب المسيح القاطع، الذي يضع حداً لكل مهادنة، ورأى إصراراه على عدم التعامل معه، ولّى يجر أذيال الهزيمة.

هذا هو موجز نشأة المسيح منذ تجسده في بيت لحم، إلى أن بلغ الثلاثين من عمره. وهي السن التي حددها الناموس للكهنة لبدء ممارسة وظيفتهم (عدد 4: 3).

2 - ما هي الأساليب التي اتبعها المسيح مع الكفار؟

حين تتأمل في إنجيل المسيح، لا تجد لكلمة كافر أثراً. ولعل هذه الكلمة لا تنسجم مع رسالة المسيح الذي جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك. والذي حين عرّض الفريسيون باهتمامه بالخطاة، متبجحين ببرهم الذاتي، قال لهم: «فَٱذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ» (متى 9: 13).

هذا هو مبدأ المسيح في التعامل مع الخطاة، إنه يشفق على الساقطين، ويحنو على الضالين، ويهتم بالمنبوذ والأبرص والأعمى والمفلوج، واليتيم والأرملة. ويواسي المحزون، ويمسح الدمعة من عين الباكي. ويقف إلى جانب المعذبين على الأرض.

نعم أنه نزل إلى وسط الخطاة والأثمة، واستضافهم وأكل خبزاً معهم، وحدثهم. وذلك لكي يرفع معنوياتهم، وينهضهم من سقطاتهم، ويعيد إليهم اعتبارهم بغفران خطاياهم.

لقد جال في رحاب الأرض، يصنع خيراً، ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس. وفي معالجته آفات المجتمع، لم يأخذ مذنباً بذنبه، ولا شقياً بشقاوته، بل عامل كل من أقبل إليه بالمحبة التي لا تقبح، بل تستر كثرة من الخطايا. ومنح كل الذين قبلوا رسالته مع الغفران، نعمة للتوبة والقداسة، ونصيباً في الحياة الأبدية.

دعي ذات يوم لتناول الطعام في بيت سمعان الفريسي، وفيما هو يأكل تسللت امرأة وجلست عند قدميه. كانت من ذوات السيرة الردية، وكانت معروفة كامرأة خاطئة.

لم يرها سمعان وهي تدخل بيته، وإلا لمنعها بقسوة، لأنها في اعتباره نجسة، ولا يصح أن تتخطى عتبة بيته. ولكنها دخلت خلسة، وكانت تبكي بدموع غزيرة، بللت بها قدمي يسوع ثم مسحت القدمين بشعر رأسها، نهاية في التذلل. لأن شعرها في عرف أهل ذلك الزمن، كان مجدها.

وكانت معها قارورة طيب غالية الثمن، ففكت ختومها، وأهرقت محتوياتها على رأسه ورجليه، فامتلأ البيت من رائحة الطيب.

كان عملها عظيماً، دللت به على انكسار قلبها ندماً على ماضيها الملوث، وشوقها الملح إلى خلاص الله. ولكن سمعان لم يدرك ذلك. وكل ما رآه هو أن امرأة خاطئة، دخلت بيته وتجاسرت على لمس ضيقه!!!

كان المسيح يتمتع بهيبة، لم يستطع سمعان بإزائها أن يتكلم. ولكنه قال في نفسه: كنت أظن أن يسوع الناصري نبي، وكثيرون يتحدثون عن عجائبه. ولكن أي نبي هذا، الذي يسمح لخاطئة أن تدنو منه؟! كيف احتمل لمسة يدها الملوثة بالآثام؟! وكيف احتمل دموعها الممزوجة بلعاب الشيطان؟! لو كان نبياً حقاً، لأحس بلسعات شفيتها وهما تقبلان رجليه!

هكذا كان سمعان يقول في أفكاره وهو يعتقد أن أحداً لم يعلم ما دار في خاطره. ولكن يسوع فاحص القلوب والكلي، سمع همسات ضميره، كما لو كانت كلمات صارخة، ولم يلبث أن قال: يا سمعان عندي شيء أقوله لك. كان لمداين مديونان على الواحد خمس مئة دينار، وعلى الآخر خمسون. وإذا لم يكن لهما ما يوفيان، سامحهما جميعاً. فقل أيهما يكون أكثر حباً له.

فأجاب سمعان وقال، أظن الذي سامحه بالأكثر. فقال يسوع، بالصواب أجبت. وبينما كان سمعان يسأل نفسه، ترى ماذا يقصد المعلم الناصري أن يقول، تفرس المسيح في وجهه، ثم التفت إلى المرأة وقال لسمعان: أتنظر هذه المرأة؟ ونظر سمعان إليها، ولعله بصق على الأرض، وتعوذ بالله من شياطينها، وظهرت في عينيه علامات الحقارة والازدراء. ولكنه لم يتكلم.

ولكن يسوع تكلم، وقال: إني دخلت بيتك وماء لأجل رجلي لم تعط، وأما هي فقد غسلت رجلي بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها.

قبلة لم تقبلني، وأما هي فمنذ دخلت، لم تكف عن تقبيل رجلي!

بزيت لم تدهن رأسي، وأما هي فقد دهنت بالطيب رجلي! من أجل ذلك، أقول لك قد غفرت خطاياها الكثيرة، لأنها أحبت كثيراً. والذي يغفر له قليل يحب قليلاً!

وبعد لحظة من الصمت نظر إلى المرأة المضطربة، وأرسل من عينيه ذلك الشعاع النوراني، الذي يفيض بالرجاء، ثم قال لها: مغفورة لك خطاياك... إيمانك خلصك اذهبي بسلام!

وذات يوم فيما هو في الهيكل يعلم الشعب، قدم إليه الكتبة والفريسيون امرأة أمسكت وهي تزني. وقالوا له إن موسى أوصانا في الناموس أن مثل هذه ترجم حتى الموت، فماذا تقول أنت؟

كان المشتكون من النوع المتعصب الذين أعمامهم البر الذاتي عن الاعتراف بعيوبهم، وقد وجدوا في ضعف امرأة مسكينة أغويت وزلت بها القدم ضالتهم، ليتخذوا منها وسيلة لإيقاع المسيح، فيما لو تغاضى عن فعلتها. لكأنهم جعلوا من ضعفها وقوداً لإزكاء نار حقدهم على المسيح.

يقول البشير يوحنا أنهم أقاموها في الوسط، للتشهير بفعلتها. ولو كانوا نزهاء لأقاموها من سقتطها. وعالجوا بقوتهم ضعفها.

لم يبالوا بانكسار قلبها، وتعاموا عن مرارة نفسها، فدلوا على قساوة قلوبهم، وبعدهم عن الرحمة بالشاة الضالة.

فوقف بهم المسيح والغضب المقدس يملأ صدره، وكرهه للرياء والخسة يثيران سخطه. فلو كانوا حماة للفضيلة كما ادعوا، لأتوا بالرجل الذي شاركها في ذات الفعل، أو لعله أسقطها وطلبوا الحكم عليه.

ثم تفرس في وجوههم الواحد تلو الآخر، ولم يلبث أن صرخ بهم: من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر!

كانت كلمته لاذعة كالسوط، لاهبة كالنار. فارتعدت فرائضهم، لأن كلمة ابن الله أوقعتهم في الحفرة، التي حفروها بأيديهم. ولكي يترك المجال لضمائرهم لكي تحتج، انحنى إلى أسفل، وكان يكتب على الأرض.

ويبدو أن كلمة المسيح، أيقظت ضمائرهم النائمة تحت ثقل الآثام، وتطلع كل واحد إلى رفيقه، عله يكون بلا خطية فيرميها بحجر أولاً، ولكن انتظارهم خاب. ولم يلبثوا أن ارتعشت أيديهم. فأفلتت الحجارة. ثم انسلوا واحداً بعد الآخر، ابتداء من الشيوخ.

كانت المشتكى عليها مذنبة حقاً، وقد أوقعها الذنب في أيدي جماعة من الأبرار في أعين أنفسهم. والمتمسكين بحرف الناموس الذي يقتل. ولكن لسعادتها، وجدت أمام الذي جاء بناموس روح الحياة، ليطلب ويخلص ما قد هلك.

فحين انصرف المشتكون، وخلت الساحة، وجدت تلك الشقية التاعسة أمام الشخص الوحيد الذي بلا خطية، والذي في وسعه أن يرميها بحجر!

ولكن هذا الشخص الإلهي، الذي ظهر تفوقه بالسلطان على المشتكين، كان أيضاً متفوقاً بالحب الغني بالرحمة.

وهذا الشخص الإلهي، الذي له السلطان كل السلطان لغفران الخطايا، سأل المذنبة البائسة: يا امرأة أين هم أولئك المشتكون عليك؟ أما دانك أحد؟

سؤالان، خرجا من فم الذي به النعمة والحق صارا، بنبرة رقيقة ناعمة، لكي يعيد إلى المرأة اطمئنانها، ولكي يفهم الحاضرين من غير المشتكين، أن معرفة الله أكثر من عقاب. وأنه يكون في السماء فرح بخاطئ واحد يتوب، أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة.

عندئذ تجاسرت المرأة البائسة أن ترفع طرفها وتنظر في وجه المسيح وبكل انكسار قلب، قالت: لا احد أدانني يا سيد.

فقال لها من له حق الدينونة، ولا أنا أدينك، اذهبي ولا تخطئي أيضاً. يخطئ كل من يعتقد بأن المسيح، تساهل مع تلك الخاطئة بتصرفه معها على هذا النحو. فهو لم يتجاهل فعلتها، ولم يقلل من فظاعة إثمها. وإنما عالج قضيتها بلطف، لكي يقتادها إلى التوبة. لقد غفر لها، لكيلا تبقى خطيتها عقبة في سبيل إصلاحها. ويقيناً أنها لو بقيت عائشة في ظل سقطتها، لانغمست في الشر، واحترفت الخطية كل أيام حياتها. لذلك رأى الفادي أن أفضل علاج لها، هو قطع صلتها بالماضي، وأن خير وسيلة لقطع هذه الصلة هو الغفران.

كان في أريحا رجل اسمه زكا، يشغل وظيفة رئيس محصلي الضرائب، وكان ثرياً جداً.

وقد تميز هذا الإنسان بأمرين متناقضين. فقد كان قصير القامة وطويل الحيلة. وإنما طول حيلته، ساعده على تكوين ثروته الطائلة. ولكن ثراءه الطائل، لم يشبع جوعه إلى المال. فكان كلما كدس منه في خزانته، كانت تمتلكه رغبة جامحة في الاستزادة منه.

ولا ريب في أن حبه للمال، شغله عن الاهتمام بزوجته وأبنائه. وأن الجشع حمله على استعمال الدهاء حيناً، والقسوة أحياناً أخرى في معاملاته. فكثر مبغضوه، وتعدد لاعنوه. وأفظع الأمور التي وقعت عليه، هو حكم رجال الدين بطرده من المجمع، وهكذا صار منبوذاً ومحرماً.

وذات يوم، أحس زكا بحركة غير عادية في المدينة. وعلم أن إنساناً اسمه يسوع، جاء إليها. وأنه فتح عيني برتيماوس الأعمى. وأكثر من ذلك أنه نبي مقتدر بالقول والفعل. وأنه طهر البرص، وشفى المشلولين، وأقام الموتى! ومع أنها أنباء مثيرة، إلا أنها لم تجد اهتماماً لديه، لأن اهتمامه كان مركزاً على المال.

ولكن حين سمع البعض يتكلمون عن عطفه على المنبوذين وترأفه بالساقطين، وحبه للعشارين والخطاة، وثب قلبه في صدره، ولم يلبث أن قال في نفسه، هذا هو الرجل الذي أحتاج إليه. الرجل الذي يتجاوز اعتبارات رجال الدين، فيحب العشارين والخطاة نظيري.

وفيما زكا يجتاز أحد شوارع المدينة، أبصر من بعد جمعاً كبيراً محيطاً بالنبي الجليلي. ولما كان زكا قصير القامة، فقد علم أنه من المستحيل عليه أن يشاهده. ماذا يعمل إذاً؟ إن في نفسه شوقاً ملحاً لرؤيته، ولكنه لا يستطيع. إنه يعتقد أن مشاهدته ستتيح له الحصول على امتياز ما، فما العمل؟

وفيما هو يتساءل، أبصر شجرة جميز قائمة إلى جانب الطريق. فدار في خاطره أن يتسلقها، ويطل من بين أغصانها وينظر يسوع. وهكذا أبصرت أريحا في ذلك اليوم منظراً طريفاً، أبصرت زكا، نعم زكا الثري نفسه، شوهد يتسلق الشجرة الضخمة، ويجثم بين أغصانها!

لم يبال بسخرية الناس حين ركض، ولم يهتم بثيابه الثمينة التي اتسخت. لأن رغبته كانت مركزة على شيء وحيد، أن يرى الرجل، الذي قيل أنه صديق العشارين والخطاة. وإن كل ما يرجوه، هو أن يملأ عينيه من صاحب القلب الكبير، الذي لم يوجد في العالم نظير له!

وفي تلك البرهة، برهة الترقب تجسمت مظالمه قدام عينيه، وأحس أنه جدير بكل مقت وحقد من الناس. وفكر أن ينزل من الجميزة، لأنه لا يستحق أن يرى ملك المحبة. ولكن لسعادته أن المسيح جاء قبل أن ينفذ فكرة النزول.

تطلع زكا إلى القادم، وإذ به يرى وجهاً يفيض بالعطف والحنان. فأحس بقشعريرة تهز كيانه، وإذ بكل ما فيه من متناقضات، تذوب وتتلاشى. واختفت كل صور ماضيه وحاضره، ولم يعد يرى إلا يسوع!

وبغتة رفع يسوع عينيه، وتفرس في وجه زكا. وكانت نظرته نظة حب مملوء بالرقة، فدخلت أعماق قلبه، وأرسلت فيه لهيباً حارقاً قتل كل جراثيم خبث العشار. وإذ به يصبح إنساناً جديداً صانعاً سلاماً.

وفيما الجماهير مأخوذة بروعة المشهد، قال يسوع: اسرع وانزل يا زكا، ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك!

يا إلهي، هل يصدق هذا؟ أممكن أن يتلفظ نبي الجليل باسمه، وهو الظالم الغاش عميل رومية؟

لو أنه قال: يا زكا أنت شرير أثيم، تستحق نار جهنم لكان القول منصفاً، والحكم عادلاً!

أما أن يقول له القدوس الحق، ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك، فهذا العجب العجاب!!

أصحيح ان النبي المقدس، يدخل بيتي؟ هل يلمس جسده الطاهر أثاث منزلي؟ إن هذا لعمر الحق فوق احتمال تصديقي!

ومع ذلك ، نزل زكا من مكانه، وذهب بالسيد إلى منزله، وقد غمر نفسه سرور عارم، ظهرت علائمه في كل حركة قام بها، وبكل كلمة تفوه بها.

ويسوع المسيح أيضاً ابتهج، وبدا الارتياح على وجهه وفي بريق عينيه، لأنه وجد ضالاً واسترد مطروداً.

وفي هذا الجو البهيج، وفي غمرة سروره بدخول السيد إلى بيته، وقف زكا وانطلق أمام الحضور بتعهدات حسبتها الأجيال مثلاً أعلى للتوبة الحقيقية، إذ قال: ها أنا يا رب أعطي نصف أموالي للفقراء، وإن كنت قد وشيت بأحد أرد أربعة أضعاف.

قال هذا لا بنغمة المتفاخر ببره الذاتي، بل بنغمة التائب، الذي عملت النعمة المخلصة في قلبه، وبقي أن ينال براءة الخلاص من إله خلاصه وهذا ما قاله الرب المخلص:

«اليوم حصل خلاص لهذا البيت، إذ هو ابن إبراهيم. لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك».

لما مضى أعداء يسوع به إلى الموضع الذي يدعى جلجثة صلبوه هناك بين مجرمين، واحداً عن يمينه والآخر عن يساره فقال يسوع يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون.

لقد صرخ الأعداء إلى بيلاطس: اصلبه، اصلبه، أما المسيح فصرخ إلى الآب: يا أبتاه اغفر لهم. فما أعظم محبته، وما أشنع خطيتهم!!

في عظته على الجبل قال المسيح لسامعيه أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطرودنكم. وها هو الآن، يعطينا مثالاً في تنفيذ وصيته العزيزة.

وليت منظر المسيح المصلوب، يذيب قلب الإنسان المتحجر على أخيه الإنسان، فلا يبقى فينا أثر للانتقام، بل نتمثل بالمسيح بالصفح عن المسيئين إلينا.

وليكن صفحنا لا عن بلادة، كمن لا تؤلمهم غضاضة، ولا عن رياء كمن يتوخون مديح الناس، ولا عن استسلام أعمى، ينشأ عنه الضرر، ولا عن إكراه بتأثير قوة خارجية تتدخل لمصلحة المسيء. بل ليكن صفحنا من نوع صفح المسيح، الذي صفح عن أعدائه حباً بالصفح نفسه.

هذه بعض النماذج من تعامل المسيح مع الخطاة، فليتك يا صديقي تتخذ المسيح معلماً لك، ومثالاً تقتدي به في حياتك.

وختاماً أرجو لك نعمة وسلاماً بربنا يسوع المسيح.


Call of Hope 
P.O.Box 10 08 27 
D-70007
Stuttgart
Germany