العودة الى الصفحة السابقة
سيرة المسيح

سيرة المسيح

الكتاب الرابع: معجزاته العظيمة

الدكتور. جورج فورد


List of Tables

1.

Bibliography

سيرة المسيح. الكتاب الرابع: معجزاته العظيمة. الدكتور. جورج فورد. الطبعة الأولى. 1986. Order Number SPB 7353 ARA. German title: Seine grossen Wunder (Heft 4). English title: His Great Miracles (booklet 4). Copyright © 1986 All Rights Reserved Call of Hope. P.O. Box 100827 D-70007 Stuttgart Germany Internet: http://www.call-of-hope.com - .

هذا الكتاب

يسر أسرة «نداء الرجاء» أن تصدر هذا الكتاب عن حياة السيد المسيح، في سبعة أجزاء.

وقد كتب هذا الكتاب في مجلد واحد باللغة العربية الدكتور جورج فورد في أوائل العشرينات من هذا القرن، بعنوان «كتاب القول الصريح في سيرة يسوع المسيح».

وقد قام محررو نداء الرجاء بإعادة كتابته في الصورة التي تراها الآن.

ونحن نأمل أن يتعرَّف القارئ الكريم على المسيح بطريقة شخصية، وأن يكون شعاره «نحن نحبه لأنه هو أحبّنا أولاً».

أسرة «نداء الرجاء»

1 - المعمدان يشك في المسيح

«فَدَعَا يُوحَنَّا ٱثْنَيْنِ مِنْ تَلامِيذِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى يَسُوعَ قَائِلاً: «أَنْتَ هُوَ ٱلآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ ٱلرَّجُلانِ قَالا: «يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ قَدْ أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ قَائِلاً: أَنْتَ هُوَ ٱلآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» وَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ شَفَى كَثِيرِينَ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَدْوَاءٍ وَأَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ، وَوَهَبَ ٱلْبَصَرَ لِعُمْيَانٍ كَثِيرِينَ. فَأَجَابَ يَسُوعُ: «ٱذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ ٱلْعُمْيَ يُبْصِرُونَ، وَٱلْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَٱلْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَٱلصُّمَّ يَسْمَعُونَ، وَٱلْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَٱلْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لا يَعْثُرُ فِيَّ» (لوقا 7: 19-23).

وبخ يوحنا المعمدان الملك هيرودس لأن الملك اغتصب زوجة أخيه وأخذها، وغضب الملك وأمر بسَجْن المعمدان في قلعة مخيروس في بيرية حيث بقي أكثر من سنة. إلا أن سجنه لم يمنع تردد تلاميذه عليه، فأخبروه بمعجزات المسيح المتكاثرة، ولا سيما بأعجبها وهي إقامة الشاب الميت، ابن أرملة نايين. وأخبروه أيضاً كيف تتبع الجماهير المسيح وتُدهَش لأقواله وأفعاله.

وكان المعمدان في الماضي قد أعلن اعتباره وشدة حبه للمسيح، وهو لا يرتاب في حب المسيح له - فكيف لا يسأل المسيح عنه في سجنه هذه الأشهر الطويلة؟ أليس هو المسيح الموعود به، نصير المظلوم؟ فأي ظلم أفظع من هذا الذي أصابه، بسبب صلاحه وغيرته على الصلاح؟ فكيف لا يمدُّ له المسيح نسيبُه وحبيبه، يده القديرة لينتشله من هذا الضيق والخطر، ولو اقتضى الأمر إجراء معجزة؟ ولعل يوحنا كان ينتظر أن يكون ملكوت المسيح زمنياً، محاطاً بالمجد: أين هذا الملكوت الذي بشرتُ أنا باقترابه؟ وأين المحبة والرأفة التي يُنتظَر ظهورها في المسيح ملك هذا الملكوت؟ ولما كان المعمدان بشراً معرَّضاً للسقوط في الخطأ، فلا بد أن استولى عليه الشك والقنوط أحياناً في مرارة ظروفه المتغيّرة، خصوصاً بعد كل ما كان له من الحرية والسطوة والعظمة. ويصعب جداً على رجل في عزِّ قوته أن يُقيَّد بلا عمل، بعد سنتين كلها عمل بهمة ونشاط. ففي ذات يوم خار عزمه وفرغ صبره، فأرسل اثنين من تلاميذه الأمناء إلى المسيح ليسألاه إنْ كان هو حقاً المسيحَ الموعود به، أو أن المسيح الحقيقي سيأتي بعده.

والتقى تلميذا يوحنا بالسيد المسيح وسألاه: «أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟» فأجرى المسيح أمامهما معجزات، ثم قال: «طوبى لمن لا يعثر فيَّ». ونستنتج من إجابة المسيح على تلميذي يوحنا أن سؤال المعمدان نتج عن شكوك حقيقية، يُلام عليها، بعد كل ما قد رآه وسمعه وشهد به في برية الأردن. فتكون هذه زلة وإنْ كانت وحيدة، ذُكرت لرجل اللّه العظيم هذا، كما ذُكرت زلات لغيره من الأنبياء والرسل، وقد صلى نبي الله داود «اَلسَّهَوَاتُ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا! مِنَ ٱلْخَطَايَا ٱلْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي» (مزمور 19: 12) لكن «ٱلصِّدِّيقَ يَسْقُطُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَيَقُومُ» (أمثال 24: 16) وقد وجهت الشكوكُ المعمدانَ ليتوجه إلى المسيح، لا ليبتعد عنه.

يتظاهر بعض الناس بالشكوك الدينية بدافع الادّعاء. أو لأجل غايات أنانية. مع أن المتظاهرين بها لا يعتقدون بصحة ذلك، ودينونة هؤلاء ظاهرة.

وهناك شكوك ناتجة عن تمسك أصحابها بخطايا معينة، ولا يمكن اهتداء هؤلاء إلى الحقيقة ما لم يتركوا أولاً تشبُّثهم بخطاياهم، سواء كانت علنية أو خفية.

أما الشكوك الناتجة عن قلة المعرفة فقط، فالأمل قوي بزوالها بواسطة الدرس والسؤال، وطلب الهداية الإِلهية، وعمل الواجب الحاضر في حينه بكل أمانة وإخلاص.

ولما كان المعمدان مزيجاً من المحبة والغيرة والتواضع، مع شيء من الخوف والميل الطبيعي إلى القنوط، فلا بد أن تكون النتيجة أخيراً انقشاع غيوم الشكوك وبزوغ شمس اليقين التام، وهذا ما جرى معه.

زعم البعض أن المعمدان لم يشك، بل قصد أن يأخذ رسولاه من المسيح جواباً مقنعاً لهما على هذا السؤال الجوهري، يفيد سائر تلاميذه. فإنْ صدق هذا الفرض يكون المعمدان في آخر خدمته، قد سعى ليهدي الناس إلى المسيح الأعظم منه، الذي يأتي بعده والذي هو قبله.

شاء الآب في حكمته وحبه أن يموت المعمدان شهيداً ليحصل على مجد مضاعف في أبديته، وليعطينا نموذجاً مؤثِّراً للجرأة الدينية التي لا تهاب إنساناً في اتِّباع الأوامر الإِلهية ولو كان ملكاً، ويكون مثالاً للمجاهرة بالدين الحق ومبادئه. ولهذا لم ينقذ المسيح المعمدان في ضيقه.

جواب عملي

فضَّل المسيح أن يجيب على سؤال المعمدان بالأفعال قبل الأقوال «ففي تلك الساعة شفى كثيرين من أمراض وأدواء وأرواح شريرة، ووهب البصر لعميان كثيرين». وبعد هذا البرهان النظري الوافي بأنه المسيح، أفهم الرسولين أن يبلغا مرسِلهَما الكريم خبر ما رأيا وسمعا من معجزاته وتعاليمه، وخصَّ بالذكر علامة روحية، هي أن شخصاً قد أحرز شهرة وأظهر سلطاناً بهذا المقدار، ثم يعتني بتبشير المساكين، لا يمكن إلا أن يكون المسيح. ألم يعْطِ النبيُ العظيم هذه العلامة في قوله: «يَزْدَادُ ٱلْبَائِسُونَ فَرَحاً بِٱلرَّبِّ، وَيَهْتِفُ مَسَاكِينُ ٱلنَّاسِ بِقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ» (إشعياء 29: 19) وأيضاً «ٱلرَّبُّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ» (لوقا 4: 18).

«فَلَمَّا مَضَى رَسُولا يُوحَنَّا، ٱبْتَدَأَ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ عَنْ يُوحَنَّا: «مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا ٱلرِّيحُ؟ بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَاناً لابِساً ثِيَاباً نَاعِمَةً؟ هُوَذَا ٱلَّذِينَ فِي ٱللِّبَاسِ ٱلْفَاخِرِ وَٱلتَّنَعُّمِ هُمْ فِي قُصُورِ ٱلْمُلُوكِ. بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ! هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاكِي ٱلَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ! لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ بَيْنَ ٱلْمَوْلُودِينَ مِنَ ٱلنِّسَاءِ لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ مِنْ يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانِ، وَلٰكِنَّ ٱلأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ أَعْظَمُ مِنْهُ».وَجَمِيعُ ٱلشَّعْبِ إِذْ سَمِعُوا وَٱلْعَشَّارُونَ بَرَّرُوا ٱللّٰهَ مُعْتَمِدِينَ بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا. وَأَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلنَّامُوسِيُّونَ فَرَفَضُوا مَشُورَةَ ٱللّٰهِ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، غَيْرَ مُعْتَمِدِينَ مِنْهُ»(لوقا 7: 24-30).

أعلن المسيح في جوابه على سؤال المعمدان أهمية العمل، برهاناً قاطعاً لمزايا الشخص. فإنْ كان هو المسيح حقاً، يتضح ذلك من أعماله أكثر من أقواله. ولكنْ لئلا يُؤخذ سكوته، ثم كيفية جوابه، ثم تخلّيه عن إنقاذ المعمدان، دليلاً على عدم اهتمامه بالمعمدان الشهم الغيور المعتبَر عند الشعب أنه من أنبياء اللّه، أسرع المسيح في مدحه حالما انصرف رسولا المعمدان راجعيْن إليه. لم يشأ أن يبلغ مديحه هذا آذان المعمدان، لئلاّ يظن أنه فقط من باب التعزية أو الترضية أو التمليق، ولأن المدح في غياب الممدوح تكون قيمته مضاعفة.

ذكَّر المسيح الجمهور بأيام نجاح المعمدان، حين كان بعض سامعيه بين الجماهير المتقاطرة إليه في البرية، تاركين الأوطان والأشغال، وطالبين أن يسمعوه ويعتمدوا منه. سأل المسيح الجمهور: هل وجدوا المعمدان آنئذٍ رجلاً متقلِّباً تزعزعه المخاوف أو المطامع، فيشبه قصبةً تحرّكها الريح؟ أليس ثباته وعزمه وحزمه سبب وجوده في ذلك السجن المخيف؟ إذاً لا يجوز اتّخاذ سؤاله بواسطة رسوليْه أساساً للحكم بأنه رجل ضعيف ومتقلِّب.

وسأل المسيح الجمهور أيضاً إن كانوا قد وجدوا المعمدان رجلاً محبّاً للذات يطلب التنعُّم والرفاهية، حتى يروا بين كلامه وسلوكه تناقضاً يمنع من اتّباع إرشاداته. ألم يجدوا بخلاف ذلك أنه يسلك في منتهى إنكار الذات، ويعطي نفسه كلها لخدمة اللّه بواسطة خدمته للبشر؟

فإن اعتبروه نبياً فقد أصابوا العلم. لكنه أيضاً أعظم من نبي. لأن لا موسى بتسليمه الشريعة للشعب بعد إخراجهم من عبودية مصر، ولا إيليا بمقاومته عبادة الوثن وصنُعْه المعجزات المدهشة، ولا داود برعايته شعب إسرائيل كملكٍ مدة أربعين سنة وإعطائه العالم مزاميره الشهيرة، قد خدموا العالم خدمةً جوهرية مثل خدمة المعمدان، الذي هيّأ الطريق للمسيح الموعود به، ثم دلَّ الناس عليه.

إنْ صحَّ من كتب: «الخَلْق عيال اللّه، وأحبُّهم إليه أنفعهم لعياله» يكون المعمدان من أحب الناس إلى الله. وتؤيد ذلك شهادة المسيح عنه، إذ قال: «الحق أقول لكم إنه بين المولودين من النساء ليس نبي أعظم من يوحنا المعمدان». وهذا يعني أنه أعظم من كل نبي وُلد ولادة طبيعية - فيُستثنَى المسيح من ذلك - وقد فاق المعمدان كل الأنبياء في أنه أقربهم إلى المسيح. وأكمل المسيح كلامه هذا بالقول: «ولكن الأصغر في ملكوت السماوات أعظم منه». وهذا يعني أن أدنى مركز في العهد الجديد هو حظٌ أعظم من أرفع مركز في العهد القديم، لأن مؤمن العهد الجديد يدرك أكثر من مؤمن العهد القديم أن ملكوت المسيح ملكوت روحي، وأنه قد جاء ليفدي شعبه بموته.

ثم وبخ المسيح رؤساء اليهود لأنهم من الناس الذين يصح فيهم القول إن «الأولين يكونون آخِرين». فبدلاً من أن يكونوا في مقدمة المستفيدين من خدمة المعمدان في الوعظ والتعميد، بسبب معارفهم ووظيفتهم «رفضوا مشورة اللّه من جهة أنفسهم غير معتمدين منه». بينما العشارون المحتقرون «برروا اللّه معتمدين بمعمودية يوحنا» إذْ أقروا بصلاح اللّه الذي ظهر في كرازة المعمدان. وقال المسيح إن رؤساء اليهود انتقدوا يوحنا المعمدان لابتعاده عن الناس، ولاختياره العيشة التقشُّفية قائلين إن به شيطاناً، فرفضوه. ثم انتقدوا المسيح لاقترابه من الناس، واختياره العيشة الطبيعية، مشتركاً معهم في أفراحهم وأتراحهم، فقالوا عنه: «هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ» (متى 11: 19) فرفضوه أيضاً. وأثبتوا بذلك أنهم غير مخلصين في توجيه التهمتين. وأوضحوا أنه لا يؤمل ظهور الحكمة الحقيقية وتزكيتها إلا في أهلها الحقيقيين.

عزيزي القارئ، افتح قلبك لتقبل المسيح طريق اللّه الوحيد للخلاص، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً.

2 - المسيح يزور فريسياً

«وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ ٱلْفَرِّيسِيِّ وَٱتَّكَأَ. وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِ ٱلْفَرِّيسِيِّ، جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَٱبْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِٱلدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِٱلطِّيبِ. فَلَمَّا رَأَى ٱلْفَرِّيسِيُّ ٱلَّذِي دَعَاهُ ذٰلِكَ، قَالَ فِي نَفْسِهِ: «لَوْ كَانَ هٰذَا نَبِيّاً لَعَلِمَ مَنْ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئِةٌ!» (لوقا 7: 36-39).

دعا فريسي اسمه سمعان المسيح ليتناول الطعام على مائدته مع أناس آخرين، فلبّى المسيح الدعوة. ونحن نجهل قصد سمعان من هذه الدعوة، لأننا نجهل صفاته. قد يكون قصده بسيطاً لكي يكرم إنساناً شهيراً ويرى أعماله ويسمع أقواله. وقد يكون قصده خبيثاً لكي يخدم أفكار زملائه فريسيي اليهودية ويصطاد يسوع بكلمة. أما قصد المسيح في قبول الدعوة فواضح لأننا نعلم صفاته ومبادئه، فقد أحب خصومه مع أنهم قصدوا أن يهلكوه. وبرهن على غيرته أنه يغتنم كل فرصة ليصيد النفوس، سواء كانت من أدنياء القوم أو عظمائهم.

ومع أن سمعان كان يحترم المسيح، بسبب معجزاته وانتشار صيته كنبيّ، إلا أنه كان يزدري به بعض الازدراء بالنظر إلى أصله الناصري، وإلى عدم تخرُّجه من إحدى مدارسهم العالية، وإلى معيشته الفقيرة.

وكان يحتقره من الوجه الديني لعدم قيامه بالعوائد والتقاليد الفريسية. لذلك لم يقدم للمسيح الاحترام والخدمة حسب العادات الجارية في الضيافة. ويظهر أنه اعتبر مجرد دعوته شرفاً كافياً لهذا الناصري.

وانتشر في المدينة خبر قبول المسيح دعوة سمعان، وربما انتشر أيضاً خبر تقصير سمعان في إكرامه الواجب، فتحمست لذلك امرأة في المدينة كانت خاطئة، لم تتحمل معاملة التحقير لهذا المعلم والنبي الفاضل، فقصدت أن تعوّض عن ذلك التقصير في إكرامه، فجاءت بقارورة طيب ووقفت عند قدميه، لأنها تعرف مقامها الدنيء في أعين المجتمعين، وتشعر بثقل خطاياها الماضية. فلم تجسر أن تتقدم لتسكب هذا الطيب الثمين على رأس المسيح، فاستبدلت رأسه بقدميه. ألا يحق لنا أن نعتبرها من المتعَبين والثقيلي الأحمال، الذين سمعوا دعوته السامية منذ ساعات قليلة، وأنها قبلت الدعوة وأتت إليه بالتوبة والإيمان؟

نراها واقفة وراء تدهن قدميه بالطيب. لكن أطيب من الطيب دموع توبتها السخية التي تتساقط وتمتزج مع الطيب، لأن بعضها محزنة بسبب ماضيها المعيب وبعضها مفرحة بسبب شكرها لأجل الغفران الجديد الذي وجدت فيه راحةً لنفسها. فعملها هذا الإكرامي مألوف عند الناظرين. لكن غير المألوف رؤية امرأة شريرة تذرف دموع التوبة أمام عيونهم، مع الاحترام الذي جعلها تمسح قدمي هذا المعلم بأعزّ ما لديها أي شعرها. ولعلهم نسبوا ما فعلته إلى أنها سكرى بالخمر. ولم يدركوا أنها فعلت فعل المستعصي المتذلل، ثم الآخذ الشكور، فقبلّت قدمي المسيح الذي قادها للتوبة والخلاص.

كان سمعان الفريسي يتحاشى العشارين والخطاة تماماً، فاستاء جداً من دخول المرأة الخاطئة بيته، ومن العمل الذي قامت به للمسيح - ولا بد أنه استغرب كيف يقبل المسيح ما عملته به هذه المرأة. ألا يعلم من تكون؟ إن كان المسيح يعلم فقد أخطأ بقبول لمساتها له. وإنْ لم يكن يعلم فهو ليس نبياً. دارت هذه الأفكار في عقل سمعان الفريسي - ولكنه لم يقل منها شيئاً. وعرف المسيح ما جال في فكر سمعان، فوجَّه إليه مثلاً، ثم سأله سؤالاً.

«فَقَالَ يَسُوعُ: «يَا سِمْعَانُ عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ». فَقَالَ: «قُلْ يَا مُعَلِّمُ». «كَانَ لِمُدَايِنٍ مَدْيُونَانِ. عَلَى ٱلْوَاحِدِ خَمْسُ مِئَةِ دِينَارٍ وَعَلَى ٱلآخَرِ خَمْسُونَ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَا يُوفِيَانِ سَامَحَهُمَا جَمِيعاً. فَقُلْ: أَيُّهُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ حُبّاً لَهُ؟» فَأَجَابَ سِمْعَانُ: «أَظُنُّ ٱلَّذِي سَامَحَهُ بِٱلأَكْثَرِ». فَقَالَ لَهُ: «بِٱلصَّوَابِ حَكَمْتَ». ثُمَّ ٱلْتَفَتَ إِلَى ٱلْمَرْأَةِ وَقَالَ لِسِمْعَانَ: «أَتَنْظُرُ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِٱلدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِٱلطِّيبِ رِجْلَيَّ. مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أَقُولُ لَكَ: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا ٱلْكَثِيرَةُ لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيراً. وَٱلَّذِي يُغْفَرُ لَهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلاً». ثُمَّ قَالَ لَهَا: «مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ». فَٱبْتَدَأَ ٱلْمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: «مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أَيْضاً؟». فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: «إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ! اِذْهَبِي بِسَلامٍ» (لوقا 7: 40-50).

كان لمداين مديونان، واحد مديون بخمسين ديناراً، والآخر مديون بخمسمئة. وسامح المداين المديونيْن - فمَنْ منهما يحبُّ المداين أكثر؟ فأجاب سمعان: «أظن الذي سامحه بالأكثر».

كان المسيح يريد أن يقول لسمعان إنه هو المديون بالقليل، أما المرأة الخاطئة فهي المديونة بالكثير. قارن المسيح دموعها التي سكبتها على رجليه ونشفتهما بشعر رأسها بالماء الذي لم يقدمه سمعان لغسلهما. وقارن تقبيلها لقدميه بالقُبلة التي لم يطبعها سمعان على وجنتيه. وقارن الطّيب الثمين الذي سكبته، بالزيت الرخيص الذي بخل به سمعان عليه. وفسر قصدها الشريف بأنه طلب المغفرة منه على خطاياها الجسيمة، وأنه منحها الضمان بأنه قد استجاب هذا الطلب. فشكْرُها الحبي للذي منح الغفران جاء نتيجة لشعورها بعظم آثامها. وأما سمعان فلأنه لم يشعر بعظم آثامه، ولم يشعر أيضاً بالشكر الحبيّ نظيرها، فلم يفهم شعورها.

وقول المسيح: «قد غُفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيراً» يؤخذ مع المَثَل الذي أوضح فيه المسيح لسمعان أن الخاطئ يحب كثيراً لأنه غُفر له كثير. فلا يستنتج أن محبة الخاطئ لله تسبق المغفرة وتكون سببها، بل عكس ذلك هو الصحيح. في القولين ليس المقصود أن الذي يحب كثيراً يُغفر له لأنه أحب، بل إن الذي يُغفر له كثيراً يحب كثيراً لأنه غُفر له الكثير.

ثم قال المسيح للمرأة: «مغفورة لك خطاياك». ولما عرف المسيح أن الحاضرين ينتقدونه، كما سبق أن انتقده أهل كفر ناحوم على غفرانه لخطايا المفلوج، قال للمرأة: «إيمانك قد خلَّصك. إذهبي بسلام». وكل من يغفر الله له الكثير يجتهد أَلا يعود إلى الخطية التي غفرها الله له.

ولا زال المسيح إلى يومنا، المخلِّص الذي يغفر للخاطئ ويردُّه عن ضلال طريقه. هل وجدت هذا المخلِّص الذي ليس بأحدٍ غيره الخلاص؟

3 - أقرباء المسيح الحقيقيون

شفاء مجنون أعمى أخرس

«حِينَئِذٍ أُحْضِرَ إِلَيْهِ مَجْنُونٌ أَعْمَى وَأَخْرَسُ فَشَفَاهُ، حَتَّى إِنَّ ٱلأَعْمَى ٱلأَخْرَسَ تَكَلَّمَ وَأَبْصَرَ. فَبُهِتَ كُلُّ ٱلْجُمُوعِ وَقَالُوا: «أَلَعَلَّ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ دَاوُدَ؟» أَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: «هٰذَا لا يُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ إِلا بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ ٱلشَّيَاطِينِ». فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: «كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لا يَثْبُتُ. فَإِنْ كَانَ ٱلشَّيْطَانُ يُخْرِجُ ٱلشَّيْطَانَ فَقَدِ ٱنْقَسَمَ عَلَى ذَاتِهِ. فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟ وَإِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَزَبُولَ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَأَبْنَاؤُكُمْ بِمَنْ يُخْرِجُونَ؟ لِذٰلِكَ هُمْ يَكُونُونَ قُضَاتَكُمْ! وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ ٱللّٰهِ أُخْرِجُ ٱلشَّيَاطِينَ، فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ! أَمْ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ ٱلْقَوِيِّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ، إِنْ لَمْ يَرْبِطِ ٱلْقَوِيَّ أَوَّلاً، وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ؟» (متى 12: 22-29).

جاء الناس للمسيح بمريض مصاب بثلاث علل: كان مجنوناً، أعمى وأخرس. فلما شفاه تماماً من العلل الثلاث، تهلل الجمهور متسائلاً إن كان هذا المحسن المقتدر هو مسيحهم ابن داود. أما الفريسيون والكتبة الذين نزلوا من أورشليم ليراقبوه فلم يقدروا أن يسكتوا على عواطف الحب والاحترام التي بدأت تظهر في الجمهور، فاستعانوا بسطوتهم السياسية ليبعدوا الجمهور عنه، وقالوا إنه آلة في يد «بعلزبول رئيس الشياطين». وأذاعوا هذا الحكم بين القوم على غير مسمع من المسيح. لكن المسيح عالم الخفايا، أدرك ما أذاعوه، وأوضح لهم مرة أخرى طبيعته السماوية في علمه الخفايا، دون أن يرى أو يسمع. فدعاهم إليه وابتدأ يفنّد حكمهم الشرير.

وقد دفع المسيح تهمة شيوخ اليهود له بدفاع مثلث:

  1. لا يمكن أن إبليس يساعد المسيح الذي يقاومه ويخطف من يده فرائسه من البشر. لو أن الشيطان فعل ذلك لسقطت مملكته، لأن انقساماً حدث في بيته. ولا يمكن أن إبليس يُخرج شيطاناً من إنسان، وإلاّ هلكت مملكته. والشيطان لا يفسد عمله في العالم عمداً.

  2. أما الدفاع الذي دافع به المسيح، فهو أن بعض اليهود كانوا يدَّعون أنهم يُخرجون شياطين، فإذا صحَّ الاتهام على المسيح أنه بقوة الشيطان يخرج الشياطين، يصح أيضاً على كل اليهود الذين يقولون أنهم يخرجون شياطين. وعندما يُثبت أولئك كذب كلام شيوخ اليهود، فيكونون القضاة الذين يدينونهم. وعندما يعلن أولئك اليهود أنهم يطردون الشياطين بقوة الله يسكتون شيوخ اليهود.

  3. ثم قال المسيح إن إخراج الشياطين هو من عمل روح الله، الذي يعلن قدوم ملكوت المسيح الجديد. فإن المسيح قد هاجم الشيطان القوي وقيَّده وأخذ فرائسه من بين أسنانه. عندما أخرج المسيح الشياطين من المسكون برهن أنه المخلِّص القوي القادر أن يخلص إلى التمام. فكيف يكون المسيح شريك الشيطان وهو الذي قيده بسلسلة سلطانه؟

أليس غريباً أن الفريسيين رأوا في معجزات المسيح ناحية القوة فقط، ولم يروا فيها ناحية الرحمة؟ عند الشيطان قوة فائقة ولكن بلا رحمة، فكيف أغفل شيوخ اليهود عنصر الرحمة في معجزات المسيح، ولم يفطنوا إلى ما هو ظاهر كعين الشمس، وهو أن طبيعة الشيطان وكل أعماله منافية تماماً لأعمال الرحمة والخير؟ فما أعظم عماهم وهم ينسبون إلى الشيطان الأعمال الخيرية، التي لا يمكن أن يقوم بها إلا صانع الخيرات!

الحياد في الدين مستحيل

«مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لا يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ» (متى 12: 30).

بعد أن شرح المسيح أن معجزاته هي من عند الله، أثبت أننا لا يمكن أن نقف موقف الحياد في الدين، فكل إنسان يكون في صف المسيح أو ضده. إن الذي لا يعمل أعمال الله، فهو من إبليس. فهو لا يجمع معه بل يفرق، لأن الجميع أصلاً في خدمة عدوه إبليس، ولا يكونون قد تركوا خدمته الطبيعية فيهم إلا بانتقالهم عمداً إلى خدمة المسيح.

في العالم الروحي مملكتان فقط، والحرب بينهما لا تهدأ ولا تنتهي. لا صلح ولا هدنة بين هذين الضدين. مملكة الله (مملكة النور والحق والبر) ومملكة الشيطان (مملكة الظلمة والبُطل والإثم). وموقف الحياد فيهما مستحيل على كل إنسان.

لم يفعل المسيح معجزاته إلا بقوة الروح القدس الذي لم يعطَ بالكيل بل بفيضان. وكان هذا الروح دائماً يقود الإنسان يسوع المسيح ويقويه. ولقد أهان شيوخ إسرائيل الروح القدس إذ نسبوا فعله إلى بعلزبول، فأدانهم المسيح بسبب إضلالهم للشعب. لقد سبق أن حكم الرؤساء على المسيح حكماً ظالماً لما قال للمفلوج: «مغفورة لك خطاياك» - وها هو المسيح الآن يثبت عليهم حكماً عادلاً بأنهم جدفوا في ما افتكروه وقالوه في أمر إخراج الشياطين.

في قلب حكم المسيح الصارم هذا على الرؤساء، أعلن أعظم تعزية لعالم الخطاة وهي أن الغفران الإلهي يشمل جميع الخطايا، مهما كان جُرمها، متى تقدَّم الخاطئ في توبة حقيقية مع إيمان. لم يبق لأعظم الخطاة عذر يعطلهم عن الخلاص من الخطايا ونتائجها، ولم يبق موجب لليأس لأي خاطئ تفاقمت شروره وأحب أن يقدم التوبة ويطلب الغفران. ويؤيد كلام المسيح هذا قول الله على فم النبي إشعياء: «هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَٱلْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَٱلثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَٱلدُّودِيِّ تَصِيرُ كَٱلصُّوفِ» (إشعياء 1: 18).

التجديف على الروح القدس

«لِذٰلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ خَطِيَّةٍ وَتَجْدِيفٍ يُغْفَرُ لِلنَّاسِ، وَأَمَّا ٱلتَّجْدِيفُ عَلَى ٱلرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَرَ لِلنَّاسِ. وَمَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ يُغْفَرُ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ، لا فِي هٰذَا ٱلْعَالَمِ وَلا فِي ٱلآتِي» (متى 12: 31، 32).

أظهر المسيح لرؤساء اليهود وللعالم، نوعاً واحداً من الخطايا يُستثنى من رجاء الغفران، وهو التجديف على الروح القدس، ذلك أن التوبة الحقيقية هي بفعل هذا الروح القدس. فالذي يهين الروح القدس يمنع فعله فيه ويحرم نفسه الواسطة الوحيدة للتوبة والغفران الذي يتبع التوبة. وكل من يخاف التجديف على الروح القدس يبرهن برهاناً قاطعاً أنه لم يجدف، لأن الذي يجدف على الروح القدس يفقد تماماً كل شعور روحي، ويضيع منه كل رجاء بالغفران، لأن الرجاء بتوبته مفقود، لعدم مبالاته كلياً بهذه الأمور، إذ أن ضميره قد مات، فرفض التوبة عن عمد، وأصر أن يختار الظلمة، إلى أن تركه الروح الإلهي لقساوة قلبه.

في كلام المسيح عن التجديف على الروح القدس، ودرجة شر ذلك، إثبات لحقيقة شخصية ذلك الروح، وإثبات لحقيقة التثليث في الله الواحد.

من فضلة القلب يتكلم الفم

«اِجْعَلُوا ٱلشَّجَرَةَ جَيِّدَةً وَثَمَرَهَا جَيِّداً، أَوِ ٱجْعَلُوا ٱلشَّجَرَةَ رَدِيَّةً وَثَمَرَهَا رَدِيّاً، لأَنْ مِنَ ٱلثَّمَرِ تُعْرَفُ ٱلشَّجَرَةُ. يَا أَوْلادَ ٱلأَفَاعِي! كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِٱلصَّالِحَاتِ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ؟ فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ ٱلْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ ٱلْفَمُ. اَلإِنْسَانُ ٱلصَّالِحُ مِنَ ٱلْكَنْزِ ٱلصَّالِحِ فِي ٱلْقَلْبِ يُخْرِجُ ٱلصَّالِحَاتِ، وَٱلإِنْسَانُ ٱلشِّرِّيرُ مِنَ ٱلْكَنْزِ ٱلشِّرِّيرِ يُخْرِجُ ٱلشُّرُورَ. وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا ٱلنَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَاباً يَوْمَ ٱلدِّينِ. لأَنَّكَ بِكَلامِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلامِكَ تُدَانُ» (متى 12: 33-37).

نبَّه المسيح أفكار سامعيه إلى أن الكلام ثمر الأفكار، ولا يصلح الكلام إلا إذا صلُحت الأفكار أولاً. لا تقدر أفكار الرؤساء الشريرة الكاذبة أن تأتي بكلام صالح، ولذلك فإنهم يستحقون اللقب الذي رشقهم به المعمدان في أيام سطوته، وكرره المسيح بتسميتهم: «أولاد الأفاعي». كان سمُّهم موروثاً، فهو لهذا السبب أصعب وأردأ. في هذه القرينة لفظ المسيح بحكمة جوهرية ثمينة. قال: «من فضلة القلب يتكلم الفم». وعلّم أنه حتى على الكلمة الواحدة البطالة يجري الحساب يوم الدين، لأنها تكفي للدلالة على حالة القلب الفاسدة، التي هي الأساس الحقيقي للدينونة.

اليهود يطلبون معجزة

«حِينَئِذٍ قَالَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ: «يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً». فَقَالَ لَهُمْ: «جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلا تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلا آيَةَ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ ٱلْحُوتِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاثَ لَيَالٍ، هٰكَذَا يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي قَلْبِ ٱلأَرْضِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاثَ لَيَالٍ. رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي ٱلدِّينِ مَعَ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هٰهُنَا! مَلِكَةُ ٱلتَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي ٱلدِّينِ مَعَ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَتَدِينُهُ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ هٰهُنَا! إِذَا خَرَجَ ٱلرُّوحُ ٱلنَّجِسُ مِنَ ٱلإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ، يَطْلُبُ رَاحَةً وَلا يَجِدُ. ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي ٱلَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغاً مَكْنُوساً مُزَيَّناً. ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذٰلِكَ ٱلإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ. هٰكَذَا يَكُونُ أَيْضاً لِهٰذَا ٱلْجِيلِ ٱلشَّرِّيرِ» (متى 12: 38-45).

طلب شيوخ اليهود من المسيح آية يتفرجون عليها، فاستحقوا على عماهم الروحي هذا تأنيباً جديداً مُرّاً، إذ قال لهم: «جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي». الجيل فاسق، لأن الفسق الحقيقي الأصلي هو الابتعاد القلبي عن حب الله، والتمسك بحب غيره. والفسق المتعارف بين الناس هو رمز لذلك. يتظاهرون كأنهم مستعدون أن يؤمنوا بالمسيح، إن هو أشبعهم بالآيات مع أن المعجزات التي شاهدوها تزيد عما يحتاجونه ليقتنعوا بأنه مسيحهم المنتظر، وكانت توجب عليهم الإيمان به. أمثالهم كثيرون في كل الأجيال. هؤلاء يعتذرون في رفضهم الدين، بما يسمُّونه النقص في البيّنات، بينما الواقع هو أنهم لا يريدون أن يؤمنوا، ولا يؤمنون ولو زادت البراهين أضعافاً.

وقد أحالهم المسيح على آية يونان النبي المألوفة جيداً عندهم، لأن فيها إشارة نبوية إلى قصده أن يمكث في القبر ثلاثة أيام وثلاث ليال. وقد برهن اقتباس المسيح هذا صدق قصة يونان تاريخياً، فكل ما نعهده في المسيح يكذّب الزعم أنه يتّخذ خرافة يمثّل بها عمله العظيم في موته الفدائي. إذاً قصة يونان والحوت ليست خرافة، لأن المسيح علّق عليها تعليقاً مهماً، فشرح أن الله سيفضِّل في يوم الدين رجال نينوى الوثنيين، وملكة التيمن الوثنية، على هؤلاء المدَّعين أنهم رجال الله، لأن أهل نينوى تابوا عند مناداة يونان، ولأن ملكة التيمن الوثنية آمنت بسليمان وقصدته من بعيد. بينما المسيح الذي هو أعظم جداً من يونان ومن سليمان، ظهر لهم وكلَّمهم بكلام الحكمة السماوية ولم يؤمنوا به.

شبَّه المسيح ذلك «الجيل الشرير الفاسق» برجل خرج منه شيطان كان ساكناً فيه، ثم عاد إليه ترافقه سبعة أرواح أُخر أكثر شراً منه، فهُمْ على زمان المعمدان ذهبوا إليه وقدموا توبة من خطاياهم وقبلوا معموديته، لكن لأنهم لم يؤمنوا بالمسيح، ولم يقبلوا روحه القدس ليسكن فيهم، أبقوا قلوبهم فارغة، فعادت إليهم شرورهم القديمة متجددة أضعافاً. ثم أكّد المسيح أن أواخر الجيل الشرير الذي كان يكلّمه تصير شراً زمن الخراب الهائل والعذاب المخيف الذي سماه المسيح «ضيقٌ عظيمٌ لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن، ولن يكون».

أما الفائدة التي نتعلمها من هذا المثل، فهي أن مجرد ترك الشرور يكون عبثاً لو لم يملأ الإنسان مكانها بالخيرات، التي هي ضد تلك الشرور - وإلا فتعود الشرور القديمة ترافقها شرور جديدة إلى القلب الذي طردها، لأن فراغ القلب مستحيل. وما لم يحل روح الله ويسكن القلب الذي يخرج الشيطان منه، فإن الشيطان يرجع متنشطاً أكثر، ويمتلك القلب امتلاكاً مضاعفاً. والعودة إلى الخطيئة شرٌّ جداً من ارتكابها أولاً.

أقرباء المسيح الحقيقيون

«وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ ٱلْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ. فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: «هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ». فَأَجَابَهُ: «مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟» ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلامِيذِهِ وَقَالَ: «هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي. لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي» (متى 12: 46-50).

لما سمع أقرباء المسيح أن الازدحام زاد عليه وعلى من معه، حتى أنهم لم يجدوا وقتاً للأكل، خرجوا ليمسكوه باعتبار أنه «مختل العقل» (مرقس 3: 21) وكان الواجب أن يدركوا أن ليس الغيور في الدين هو المختل، بل الفاتر في الدين.

هل يمكن أن نقدّر مرارة الحزن التي تولَّدت في قلب المسيح المحب، عندما جاءت أمه مع إخوته ليحجزوا عليه كمختل، لكنهم لم يقدروا أن يصلوا إليه لسبب الجمع المزدحم من حوله؟ أليس غريباً أن درجة الحماسة والتفاني التي يحسبها الناس نشاطاً، ويمدحونها كحكمة في جمع المال، أو مقاومة الخصوم، أو تحصيل العلوم، يعتبرونها جنوناً إن كانت في خدمة الدين والإصلاح؟ فلما منع الازدحام أقرباء المسيح من الوصول إليه كلَّفوا بعض الواقفين أن يقولوا له: «هوذا أمك وإخوتك واقفون خارجاً يريدون أن يروك، طالبين أن يكلّموك». وكانوا يأملون أن يخرج ليكلّمهم خارجاً، فيسهل لهم أخذه معهم ولو قسراً، ليستعملوا الوسائط اللازمة لشفائه من هذا الاختلال العقلي الذي اتّهموه به ظلماً وجهالة.

وانفتح للمسيح بهذا الطلب باب مناسب ليعلّم أهله، ثم تلاميذه، ثم جمهور سامعيه، أموراً جوهرية، يأمل رسوخها في أذهانهم. علّمهم أنه ليس من هذا العالم، فهو لا يعتبر أحداً من البشر أُمّاً حقيقياً أو إخوة حقيقيين له، كغيره من البشر. فقد زالت العلاقة الوقتية الجسدية مع أهل بيته، وحلّت محلها العلاقة الدائمة الروحية، التي تربطه، مستقلة عن الروابط الجسدية، مع كل الذين يتّحدون به اتحاداً روحياً. أعلن كل هذا في سؤاله للذي كلَّمه: «من هي أمي، ومن هم إخوتي؟» ثم مدَّ يده نحو تلاميذه (من رجال ونساء) وقال: «ها أمي وإخوتي. أمي وإخوتي الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها. لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمي».

كانت محبة المسيح لأمه مريم العذراء واحترامه لها ومحبته لإخوته حسب الجسد أشد وأنقى من محبة أي إنسان كان لذويه، فالمسيح مثال الكمال في هذا الأمر، كما في غيره. لكن أمانته وحبه لأقربائه هؤلاء تخضع كل الخضوع لأمانته وحبه للآب الذي أرسله. كما تخضع أيضاً للمحبة الروحية التي تربط أولاد هذا الآب الروحيين معه كإخوة حقيقيين. ومن جواب المسيح هذا نرى أن كل الذين يعملون مشيئة الآب يكونون أقرب البشر إليه وأعزهم عنده.

وللقارئ العزيز أن يتخيل مقدار تعزية رسل المسيح من تأثير هذا الكلام في أيام الاضطهاد المرّ القادم عليهم، الذي سيقاسونه من مبغضيهم. فإن المسيح يُكافئ كل من يصنع مع تلاميذه خيراً، ويعاقب كل من يصنع معهم شراً، حتى ومن يتغاضى عن فعل الخير لأجلهم. فيتحقق معهم قول النبي زكريا: «مَنْ يَمَسُّكُمْ يَمَسُّ حَدَقَةَ عَيْنِهِ» (زكريا 2: 8).

رفض المسيح أن ينقاد إلى أهله في حبهم البشري الطبيعي، الممتزج بقصر البصر الروحي، وخرج من البيت وجلس عند البحر، ليسرد سلسلة أمثال تبيّن ماهية ملكوت السماوات.

4 - المسيح يعلّم بأمثال

علّم المسيح كثيراً بالأمثال. وأمثاله خالية من القصص الخيالية كنطق الحيوان وحركة الجماد، كما أنها اجتنبت كل إشارة هزلية، لأنها شرحت لسامعيه أسرار ملكوت السماوات.

مثل الزارع

«هُوَذَا ٱلزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى ٱلطَّرِيقِ، فَجَاءَتِ ٱلطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلأَمَاكِنِ ٱلْمُحْجِرَةِ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. وَلٰكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ ٱلشَّمْسُ ٱحْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلشَّوْكِ، فَطَلَعَ ٱلشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى ٱلأَرْضِ ٱلْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَراً، بَعْضٌ مِئَةً وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ ثَلاثِينَ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ» (متى 13: 3-9).

في المثل الأول المسمَّى مثل الزارع، قسم المسيح سامعي كلام ملكوته إلى أربعة أقسام. قسم يسمعون بآذانهم فقط، ولا يفهمون بأذهانهم، وذلك إمَّا لانشغالهم بأمور أخرى، أو لقساوة قلوبهم من جراء انصبابهم السابق على المعاصي. وهؤلاء يكونون كأنهم لم يسمعوا. وتظهر عدم استفادتهم سريعاً، لأنهم لم يذوقوا من لذة هذا الطعام الروحي شيئاً. شبَّه المسيح هؤلاء ببذار يقع على الطريق فيُداس ويخطفه الطائر بأقرب وقت، فلا يأتي بثمر.

أما القسم الثاني من سامعي التعليم، فهم الذين يفهمونه ويقبلونه بفرح. لكن فرحهم سطحي ووقتي. هؤلاء لم يحسبوا حساب النفقة، ولم يستعدوا لاحتمال المقاومات الداخلية والخارجية التي تترصد كل محبي كلام الله. لذلك عند وقوع الضيقات يرتدُّون عما كانوا أولاً يتباهون ويفرحون به. ويشبّه المسيح هؤلاء بالزرع الذي يقع على الأرض الخفيفة، التي قعرها صخر، هذا الزرع ينبت سريعاً لعدم عمق التربة، ثم يجف عند وقوع حرارة الشمس عليه، فلا يأتي بثمر.

القسم الثالث هم الذين يفهمون التعليم ويقبلونه بفرح، ويثبتون في وجه المقاومات غير متزعزعين من الاضطهادات والخسائر التي تنتج عنها. لكن ثباتهم هذا ناتج عن عنادهم الطبيعي، إذ يحسبون أنفسهم شهداء الدين، فلا يأتون بثمر - أي لا يمجدون الله ولا يفيدون الناس - لأنهم منهمكون بأمور الدنيا.. إن كانوا من الفقراء فهمُّهم عوزهم، أو من الأغنياء فهمُّهم مقتنياتهم وأشغالهم الكثيرة. ويشبّههم المسيح بالزرع الذي ينمو جيداً وتظهر فيه للناظرين كل علامات الأثمار، ولا يُعرَف عدم إثمارهم إلا يوم الحصاد، إذ تكون السنابل فارغة، لأن الأشواك والأعشاب البرية تغلَّبت على الزرع وخنقته، فلم يثمر.

القسم الرابع والأخير من سامعي التعليم الإلهي هم السالمون من العيوب التي مرّ ذكرها. هؤلاء يطلبون أولاً ملكوت الله وبرّه، فلا يلتهون عنه بأمور العالم، أغنياء كانوا أم فقراء. ولذلك لا يبالون بضيقاتهم (رومية 5: 3). وبالطبع يفهمون جيداً ما يسمعونه، فيأتون بثمر كثير لمجد الله وخير الناس. أما أثمار هؤلاء فتكون على درجات متفاوته، تتبع المواهب والفرص المتنوعة وموافقة الأحوال التي يوجدون فيها. فشبّه المسيح هؤلاء بالزرع في الأرض الجيدة، الذي يثمر ثلاثين ضعفاً وبعضه ستين وغيره مئة. وفي تفسير هذا المثل أعطى المسيح مفتاحاً يساعد كثيراً على تفسير سائر الأمثال التي وردت بلا تفسير. لما ابتدأ بالمثل نبَّه السامعين بقوله: «اسمعوا، هوذا الزارع قد خرج ليزرع». ولما انتهى المثل نبَّههم ثانية بندائه: «من له أذنان للسمع فليسمع».

مثل زوان الحقل

«قَالَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً زَرَعَ زَرْعاً جَيِّداً فِي حَقْلِهِ. وَفِيمَا ٱلنَّاسُ نِيَامٌ جَاءَ عَدُوُّهُ وَزَرَعَ زَوَاناً فِي وَسَطِ ٱلْحِنْطَةِ وَمَضَى. فَلَمَّا طَلَعَ ٱلنَّبَاتُ وَصَنَعَ ثَمَراً، حِينَئِذٍ ظَهَرَ ٱلزَّوَانُ أَيْضاً. فَجَاءَ عَبِيدُ رَبِّ ٱلْبَيْتِ وَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، أَلَيْسَ زَرْعاً جَيِّداً زَرَعْتَ فِي حَقْلِكَ؟ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ زَوَانٌ؟. فَقَالَ لَهُمْ: إِنْسَانٌ عَدُوٌّ فَعَلَ هٰذَا فَقَالَ لَهُ ٱلْعَبِيدُ: أَتُرِيدُ أَنْ نَذْهَبَ وَنَجْمَعَهُ؟ فَقَالَ: لا! لِئَلا تَقْلَعُوا ٱلْحِنْطَةَ مَعَ ٱلزَّوَانِ وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ. دَعُوهُمَا يَنْمِيَانِ كِلاهُمَا مَعاً إِلَى ٱلْحَصَادِ، وَفِي وَقْتِ ٱلْحَصَادِ أَقُولُ لِلْحَصَّادِينَ: ٱجْمَعُوا أَوَّلاً ٱلزَّوَانَ وَٱحْزِمُوهُ حُزَماً لِيُحْرَقَ، وَأَمَّا ٱلْحِنْطَةَ فَٱجْمَعُوهَا إِلَى مَخْزَنِي» (متى 13: 24-30).

المثل الثاني بناه المسيح على أن العدو إبليس يُدخِل في ملكوت المسيح الخارجي (أي الكنيسة) أناساً ليسوا من شعب اللّه. وهؤلاء لا يعرفهم الناس في أول أمرهم. فلما تظهر عليهم تدريجياً دلائل حقيقتهم، يريد رجال اللّه أن يفرزوهم ويخرجوهم من الكنيسة المسيحية. لكن هذا الإِفراز محفوف بالخطر، لأن مدبّري الكنيسة لا يعلمون ما في القلوب. فقد يُخرِجون بطرساً تائباً هو تلميذ حقيقي، بينما هم يحاولون أن يخرِجوا إسخريوطياً خائناً فاقد كل الصفات المسيحية. ولذلك يطلب اللّه من قادة شعبه التأني الكافي قبل طرد الضعفاء والساقطين، لئلا يخطئ حكمهم فيظلمون.

في مثل زوان الحقل يشبّه المسيح نفسه بإنسان زرع في حقله زرعاً جيداً. ثم يشبّه عدوه إبليس بإنسان آخر، زرع في ذات الحقل زواناً. ويشبّه الملائكة بالحاصدين، ويوم الدين بيوم الحصاد. ويختم تفسيره هذا المثل بقوله: «كما يُجمَع الزوان ويُحرَق بالنار، هكذا يكون في انقضاء العالم. يرسل ابن الإِنسان ملائكته فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم، ويطرحونهم في أتون النار. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم، من له أذنان للسمع فليسمع».

مثل النمو الخفي للزرع

«وَقَالَ: «هٰكَذَا مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ: كَأَنَّ إِنْسَاناً يُلْقِي ٱلْبِذَارَ عَلَى ٱلأَرْضِ، وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَاراً، وَٱلْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لا يَعْلَمُ كَيْفَ، لأَنَّ ٱلأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَوَّلاً نَبَاتاً، ثُمَّ سُنْبُلاً، ثُمَّ قَمْحاً مَلآنَ فِي ٱلسُّنْبُلِ. وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ ٱلثَّمَرُ فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ ٱلْمِنْجَلَ لأَنَّ ٱلْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ» (مرقس 4: 26-29).

قدم المسيح مثلاً ثالثاً بدون أن يفسره، وبناه على الحقيقة أن النمو في ملكوته الروحي على الأرض أمر طبيعي لا بد منه، وأنه يأتي تدريجياً لا فجأة. وأن هذا النمو يكون له أصل سري غامض، يعجز البشر عن فهمه وتفسيره.

مثل حبة الخردل

«قَالَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ، وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ ٱلْبُزُورِ. وَلٰكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ ٱلْبُقُولِ، وَتَصِيرُ شَجَرَةً، حَتَّى إِنَّ طُيُورَ ٱلسَّمَاءِ تَأْتِي وَتَتَآوَى فِي أَغْصَانِهَا» (متى 13: 31، 32).

لما كان الوقت الذي يتكلم فيه المسيح أول فصل الشتاء، وكان عمل الزرَّاع منتشراً حوله، حكى لسامعيه مثلاً رائعاً زراعياً لإظهار حقيقة ضَعْف ملكوته في العالم عند إنشائه، ثم عظمته أخيراً بواسطة نموّ خارجي مهم، حتى تمكّنه عظمته من خدمة الناس خدمات عظيمة. شبَّه المسيح ملكوته بحبّة الخردل، أصغر جميع البزور التي يزرعها الإِنسان، لكنها تنمو شيئاً فشيئاً إلى أن تصبح أكبر البقول، بل شجرة تأوي إليها طيور السماء للاستفادة منها. ويناسب الخردل تشبيهاً للملكوت الجديد الذي أدخله المسيح، بالنظر إلى صغر حجمه، ولاستعماله دواء في الأمراض، ولاتّصافه بشيء من القساوة المؤلمة، ولأن مفعوله في الشفاء يتوقف على سحقه، كما تتوقف قوة المخلّص للخلاص على سحقه على الصليب.

مثل الخميرة

«قَالَ لَهُمْ مَثَلاً آخَرَ: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ خَمِيرَةً أَخَذَتْهَا ٱمْرَأَةٌ وَخَبَّأَتْهَا فِي ثَلاثَةِ أَكْيَالِ دَقِيقٍ حَتَّى ٱخْتَمَرَ ٱلْجَمِيعُ» (متى 13: 33).

المثل الخامس الذي قدّمه المسيح في هذا الوقت، هو مثل الخميرة، وهو مبني على ثلاث حقائق مهمة. الأولى أن إنماء الملكوت لا يكون بواسطة الازدياد الخارجي كنمو الجماد، بل بواسطة المفعول الداخلي كنمو الحي. ونجاح كنيسة المسيح لا يتوقف على أسباب خارجة عنها، بل على الأسباب التي في داخلها. فالسطوة السياسية والثروة المادية وما يشابههما، لا تنمّي كنيسة المسيح الحقيقية إلا قليلاً ونادراً، لا بل كثيراً ما توقِفُ هذه ذلك النمو، مع أنها قد تنمّي جماعات ظاهرة تسمَّى خطأ كنيسة المسيح. لا ينمّي الكنيسة إلا أعضاؤها الذين يحصلون على قوة إلهية تحل فيهم من الروح القدس.

والحقيقة الثالثة هي أن الدين الحقيقي، من طبيعته أن يخترق كل دقائق حياة المؤمن ويتملَّك فيها. فيكون جسمه وعقله وروحه كلياً تحت سطوة تأثير الدين الذي في قلبه... يمثّل المسيح هذه الحقائق بالخميرة التي خبأتها امرأة في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع. فيصحُّ تشبيه فعل المسيح في ملكوته بفعل الخمير، لأنه خفي ومتزايد، ويتوقف على وضعه في قلب الذي يطلب تخميره، ولأنه من جنسه أيضاً. أي أن المسيح المخلص يتّخذ لنفسه طبيعة البشر الذين أتى ليخلصهم.. وأخبار خلاص البشر لا تتم بواسطة الملائكة، بل بواسطة الناس.

هذا بعض ما حُفظ لنا من مجموع الأمثال الجميلة التي ألقاها المسيح على الجمهور المحتشد على شاطئ البحيرة في ذلك النهار، لأن البشير يقول: «وبأمثال كثيرة مثل هذه كان يكلمهم حسبما كانوا يستطيعون أن يسمعوا. وبدون مثل لم يكن يكلمهم. «لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِٱلنَّبِيِّ: «سَأَفْتَحُ بِأَمْثَالٍ فَمِي، وَأَنْطِقُ بِمَكْتُومَاتٍ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (متى 13: 35).

لماذا علم المسيح بأمثال؟

بعد أن ترك المسيح وتلاميذه البحر وعادوا إلى البيت، سأله تلاميذه عن سبب اتّخاذه هذا الأسلوب الجديد في الوعظ، الذي لغموضه يتطلَّب تفسيراً، فأجابهم أنه تعمَّد الإغماض عن الذين يرفضون النور الذي لهم، ففقدوا كل حق بأن يزيدهم نوراً. ولما طلبوا منه أن يفسر لهم مثل الزارع وبّخهم بقوله: «أمَا تعلمون هذا المثل؟ فكيف تعرفون جميع الأمثال؟ فإني الحق أقول لكم إن أنبياء وأبراراً كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا».

ومع أسف المسيح على غباوة تلاميذه، احتملهم وفسرّ لهم مثليْن تسهيلاً لفهمهم غيرهما.. من مثلي الزارع والزوان وحدهما قد نظن أن نجاح الملكوت يكون قليلاً. ولكن في مثلي حبة الخردل والخميرة نقيضٌ لهذا الوهم، وتبشير بنجاح باهر لهذا الملكوت الذي نشأ في ضعف.

مثل الكنز المخفي

«أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ كَنْزاً مُخْفىً فِي حَقْلٍ، وَجَدَهُ إِنْسَانٌ فَأَخْفَاهُ. وَمِنْ فَرَحِهِ مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَٱشْتَرَى ذٰلِكَ ٱلْحَقْلَ» (متى 13: 44).

في البيت زاد المسيح ثلاثة أمثال أخرى. أراد أن يبيّن أن ملكوته ذو قيمة تفوق كل شيء في العالم. وحتى لو ضحَّى الإنسان لأجله يكون في ذلك حكيماً. أراد المسيح أيضاً أن يبيّن أن البعض وإن لم يفتشوا عن كنز الدين الحق، يعثرون عليه كأنه بالصُّدفة، بينما يشتغلون في أمور أخرى، كما حدث لشاول الطرسوسي في طريق دمشق (أعمال 9: 1-22). مثَّل ذلك بإنسان وجد كنزاً في حقل إنسان آخر، فذهب وباع كل مقتنياته واشترى الحقل ليحصل على هذا الكنز.

مثل اللؤلؤة الحسنة

«أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً تَاجِراً يَطْلُبُ لآلِئَ حَسَنَةً، فَلَمَّا وَجَدَ لُؤْلُؤَةً وَاحِدَةً كَثِيرَةَ ٱلثَّمَنِ، مَضَى وَبَاعَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ وَٱشْتَرَاهَا» (متى 13: 45، 46).

لكن ليس هذا العثور العرضيّ هو القانون، بل السعي الجدّي وراء هذا الكنز. فالذي في تفتيشه بين مذاهب العالم يعثر على ملكوت المسيح الروحي، ينسى كل ما سواه، ويبذل كل نفيسٍ وغالٍ ليتمسّك به. وإظهاراً لهذه الحقيقة قدم المسيح مَثَل إنسانٍ تاجر يطلب لآلئ حسنة، فلما وجد لؤلؤة كثيرة الثمن، مضى وباع كل ما له واشتراها.

مثل الشبكة

«أَيْضاً يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ شَبَكَةً مَطْرُوحَةً فِي ٱلْبَحْرِ، وَجَامِعَةً مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. فَلَمَّا ٱمْتَلأَتْ أَصْعَدُوهَا عَلَى ٱلشَّاطِئِ، وَجَلَسُوا وَجَمَعُوا ٱلْجِيَادَ إِلَى أَوْعِيَةٍ، وَأَمَّا ٱلأَرْدِيَاءُ فَطَرَحُوهَا خَارِجاً. هٰكَذَا يَكُونُ فِي ٱنْقِضَاءِ ٱلْعَالَمِ: يَخْرُجُ ٱلْمَلائِكَةُ وَيُفْرِزُونَ ٱلأَشْرَارَ مِنْ بَيْنِ ٱلأَبْرَارِ، وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ ٱلنَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ» (متى 13: 47-50).

ختم المسيح سلسلة أمثاله في هذا اليوم، بمثل يشير إلى انقضاء العالم، حين يفرز الديّان الإلهي الأشرار من بين الأبرار، بواسطة الملائكة ثم يطرح الأشرار في أتون النار، حيث يكون البكاء وصرير الأسنان، فلا يطمئن الخاطئ نفسه بأن التساهل الإلهي في عدم سرعة قصاصه يدوم إلى الأبد، بل عليه أن ينتبه الآن. وإيضاحاً لهذه الحقيقة قدم المسيح مَثَل الشبكة المطروحة في البحر، التي تجمع من كل نوع، فلما امتلأت، أصعدوها على الشاطئ، وجلسوا وجمعوا الجياد إلى أوعية، وأما الأردياء فطرحوها خارجاً.

«قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَفَهِمْتُمْ هٰذَا كُلَّهُ؟» فَقَالُوا: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ». فَقَالَ لَهُمْ: «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كُلُّ كَاتِبٍ مُتَعَلِّمٍ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ يُخْرِجُ مِنْ كَنْزِهِ جُدُداً وَعُتَقَاءَ» (متى 13: 51 ، 52).

العتقاء هي أقوال الكتاب، والجدد هي الفوائد المستخرجة منها، التي تستدعي الدرس المدقق، لأجل الوقوف على معانيها المقصودة. فالذي اعتدنا أن نسمعه من الصغر هو عتيق قديم، ولكن الدروس التي نستفيدها منه هي جديدة تناسب حاجة كل يوم جديد. فكل حقائق كتاب الله كنز ثمين، نستخرج منها الجديد الذي يقوي ضعيف الإيمان، وينير الجاهل، ويعزي الحزين ويرشد الضال.

5 - المسيح يهدئ العاصفة

«وَقَالَ لَهُمْ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ لَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ: «لِنَجْتَزْ إِلَى ٱلْعَبْرِ». فَصَرَفُوا ٱلْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي ٱلسَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضاً سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ. فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ، فَكَانَتِ ٱلأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى ٱلسَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ. وَكَانَ هُوَ فِي ٱلْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِماً. فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟» فَقَامَ وَٱنْتَهَرَ ٱلرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ: «ٱسْكُتْ. اِبْكَمْ». فَسَكَنَتِ ٱلرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. وَقَالَ لَهُمْ: «مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هٰكَذَا؟ كَيْفَ لا إِيمَانَ لَكُمْ؟» فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً، وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هٰذَا؟ فَإِنَّ ٱلرِّيحَ أَيْضاً وَٱلْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!» (مرقس 4: 35-41).

كان النهار قد مال ودنا المساء، فصرف التلاميذ الجمع وأخذوا المسيح وأقلعوا قاصدين شاطئ بحر الجليل الشرقي، ورافقتهم سفن أخرى صغيرة. وفي سيرهم تحت جنح الليل، نام المسيح على وسادة في مؤخر السفينة. ذُكر عنه أنه جاع وعطش وحزن وتعب وتنهد وبكى وابتهج. ولكن لم يُذكر مطلقاً أنه ضحك أو مرض أو خاف. ولم يُذكر أنه نام إلا في هذا الحادث. نام كابن الإنسان، فأعطى بذلك برهاناً قاطعاً على صدق بشريته. أما بالنظر إلى طبيعته الإلهية فلم يزل كلام المرنم صادقاً «لا يَنْعَسُ وَلا يَنَامُ» (مزمور 121: 4). لا بل على رغم هذا النوم الجسدي، هو ساهر على رفقائه في السفينة وهم يسيّرونها ويلاحظون علامات النوء النازل عليهم من بين الجبال المحيطة بهذه البحيرة. كان التلاميذ قد قضوا أكثر أوقاتهم على هذا البحر، وقابلوا أنواء عديدة في مياهه، ولذلك بدأوا يهيئون القلوع والمجاديف، وكل ما يلزم، استعداداً لما قد يطرأ عليهم في النوء الهاجم.

لم يطل الوقت حتى غطت الأمواج السفينة وصارت تمتلئ فصاروا في خطر. سلمت قديماً من ذلك الطوفان الهائل في أيام نوح سفينة كانت تُقلُّ ثمانية أشخاص، هم عائلة نوح الصالح - فهل تسلم الآن البذرة الوحيدة للكنيسة المسيحية في العالم، وهي المسيح ورسله في هذه السفينة على بحر الجليل؟ أليست أهمية سلامة المسيح وتلاميذه مثل أهمية سلامة نوح وبنيه سام وحام ويافث؟

نرى في هذا النوء القوات المهلكة تتخذ نوم المسيح فرصة لتحاول إهلاكه وإهلاك تابعيه. ونتخيل هؤلاء الصيادين وحركاتهم العنيفة في مقاومة العاصفة، ونسمع صياحهم فوق هدير الريح وتلاطُم الأمواج، وهم يصرخون الواحد إلى الآخر بما هو جارٍ معه، وما يطلب كل واحد من الآخر أن يعمله. ننظر كيف يترنّحون من ملاطمة الأمواج في ظلام الليل الدامس، وهم يتعبون في تفريغ المياه من قعر السفينة، لأن السفينة في البحر الهائج يمكن أن تنجو، ولكن متى صار البحر الهائج في داخلها لا يمكن أن تنجو.. كما أن الإنسان الذي يهيج حوله نوء الشر في قلبه.. نوء المحيط لا يغرق، لكن الذي يهلك هو النوء الذي في النفوس... يصحُّ هذا القول في الكنيسة إجمالاً كما يصحّ في أفرادها، لأن الأشرار حولها لا يمكن أن يفنوها، لكن يهدمها الأشرار الذين فيها.

هل خطر للتلاميذ أن المسيح هو نائم «حرز وتميمة» يحفظ السفينة ومَنْ فيها من كل أذى؟ لا نظن. لأن الخوف جبارٌ يضعضع الرشد ويشتّت الإيمان متى كان ضعيفاً. نقصتهم الثقة بالمسيح وهو نائم، كما نقصتنا نحن الثقة بالمسيح وهو غائب عن الأبصار. وقد يكون أنهم لاحظوا اقتراب النوء قبل أن يقلعوا من البر، وربما كان إلحاح المسيح عليهم بأن يسافروا بعد محاولتهم البقاء في الميناء سبباً في أنهم ألقوا اللوم عليه. فكيف لا يزال نائماً على رغم ضجيج النوء وضجيج النوتية؟ كيف لا يبالي بهذا الخطر العظيم المحيط بهم؟

ربما قصد المسيح حتى بعد اشتداد النوء أن يمتحن إيمانهم. في البدء أمسكهم حبهم واحترامهم له عن إيقاظه لأنهم لا ينتظرون منه مساعدة في تدبير السفينة. لكن بعد أن فشل كل ما عندهم من الوسائل، لم يسَعْهم إلا أن يوقظوه. ألا يحقُّ لهم أن يطلبوا معونته في الخطر الشديد صارخين: «يا معلم، أما يهمك أننا نهلك؟». هل نسوا سريعاً ما تعلَّموه عن مقامه الإلهي وقدرته الفائقة، حتى ظنوا في جهالتهم أنه يُحتمل وقوع أقل ضرر لسفينة فيها الذي عرفوه رباً حقيقياً؟ أيقظوه فقام الذي «يَجْمَعُ كَنَدٍّ أَمْوَاهَ ٱلْيَمِّ. يَجْعَلُ ٱللُّجَجَ فِي أَهْرَاءٍ». القائل: « أَنَا ٱلَّذِي وَضَعْتُ ٱلرَّمْلَ تُخُوماً لِلْبَحْرِ فَرِيضَةً أَبَدِيَّةً لا يَتَعَدَّاهَا، فَتَتَلاطَمُ وَلا تَسْتَطِيعُ، وَتَعِجُّ أَمْوَاجُهُ وَلا تَتَجَاوَزُهَا» (مزمور 33: 7 ، إرميا 5: 22).

لما استيقظ هذا السيد النائم رأى نوئين، الواحد في البحيرة، والآخر في صدور تلاميذه، فاهتم لهذا أكثر من ذاك. إنما بلطفه ابتدأ بتوبيخ النوء البحري، بينما كان التلاميذ أوْلَى بالتوبيخ، فقد كان يعلم أنهم لا يستفيدون بالتوبيخ إلا بعد أن يسكن النوء، فسكّته أولاً. تكلّم سلطان البحار وقال للبحر: «اسكت.. ابكم».

ليس كما ضرب موسى البحر بعصاه بأمر الرب، فخضع، بل بمجرد كلمته أخضعه، لأنه هو «ٱلْمُتَنَطِّقُ بِٱلْقُدْرَةِ، ٱلْمُهَدِّئُ عَجِيجَ ٱلْبِحَارِ عَجِيجَ أَمْوَاجِهَا وَضَجِيجَ ٱلأُمَمِ» (مزمور 65: 6 و7).

نحن نشهد له فنقول قول المرنم: «مَنْ مِثْلُكَ قَوِيٌّ... أَنْتَ مُتَسَلِّطٌ عَلَى كِبْرِيَاءِ ٱلْبَحْرِ. عِنْدَ ٱرْتِفَاعِ لُجَجِهِ أَنْتَ تُسَكِّنُهَا. صَوْتُ ٱلرَّبِّ عَلَى ٱلْمِيَاهِ.. ٱلرَّبُّ فَوْقَ ٱلْمِيَاهِ ٱلْكَثِيرَةِ» (مزمور 89: 8 و9 و29: 3). فالذي ينتهر الآن بحر طبرية هو الذي انتهر قديماً بحر «سوف» فيبس، وسيَّرهم في اللجج كالبرية. تسلط آنئذٍ على البحر الأحمر خدمةً لجماعة خائفيه، وها هو يسكن هيجان بحر الجليل لمرور تلاميذه فيه، لأنه كما أن الخراف لا تعرف ولا تطيع إلا صوت راعيها، كذلك الرياح والأمواج لا تعرف ولا تطيع إلا صوت باريها. فبأمره سكتت الريح وصار هدوء عظيم. ولم يكن هذا الهدوء طبيعياً، لأن قانون الموج أن يزول تدريجياً بعد زوال الريح، فكانت هذه معجزة مزدوجة.

نعلم أن السر في الحياة اليومية هو السرّ في تلك السفينة المعذبة. أي أن السلامة للأشخاص وللكنيسة في وسط أنواء الحياة، تقوم بوجود المسيح في القلوب، وسائراً مع كنيسته، لينتهر قوات الشر، ويوجد الهدوء والظفر.

ولنا في تسكين المسيح هذا النوء لمحة من القصد الإلهي، بأن يعيد إلى الإنسان سلطته على الطبيعة التي فقدها بسقوطه، وذلك بواسطة عمله الفدائي. نرى هذا يتم على نوعين: أولاً بواسطة رقيّه الروحي، فيقابل مخاطر القوات الطبيعية وأضرارها دون ارتعاب. وثانياً: بواسطة رقيّه العلمي، فيستولي على كثير من هذه القوات ويتلافى أضرارها ويستخدم منافعها - كما يستخدم سرعة الرياح في توليد الكهرباء.

مثّلت الريح من خارج البحر المصائب الخارجية التي تنقضُّ على الإنسان، ومنها القُوى الطبيعية المهلكة للأجساد. ومثَّل التموُّج من داخل البحر التجارب الداخلية التي تثور في نفس الإنسان، وهي القوى الشيطانية المهلكة للنفوس. ففي تسكين المسيح هذا النوء المزدوج بالمعجزة المزدوجة، أعلن استعداده أن يعمل عملاً مزدوجاً في سفينة حياة الإنسان التي تتخبط في بحر هذا الدهر. وهو الذي يعطي الفوز على نوعي البلايا، والسلامة من شرهما. فالمصائب والتجارب هي كبوتقة الصائغ، التي لا تحوّل الذهب نحاساً ولا النحاس ذهباً، بل تُظهر الحقيقة وتزيل الإلتباس، وتزيد الذهب جلاءً وانفصالاً عن النحاس. هكذا التجارب لا تصيّر الصالح صالحاً ولا الشرير شريراً، لكنها تُظهر الحقيقة وتكشف عن شر الشرير وتزيده، وعن صلاح الصالح وتزيده.

أما النوء الثاني الذي كان في صدور التلاميذ فقد سكّنه المسيح بتوبيخ لطيف، عندما قال: «ما بالكم خائفين هكذا يا قليلي الإيمان؟ كيف لا إيمان لكم؟» فأظهر سلطانه في معالجة المصائب الخارجية، كما في ذلك معالجة التجارب الداخلية الأشدّ خطراً. فإنه يوقف النوعين متى شاء، وكان في ذلك خير، لأن سماح الله بالتجارب والمصائب، ليس إلا للخير. «ٱللّٰهَ أَمِينٌ، ٱلَّذِي لا يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ، بَلْ سَيَجْعَلُ مَعَ ٱلتَّجْرِبَةِ أَيْضاً ٱلْمَنْفَذَ، لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا» (1 كورنثوس 10: 13).

6 - المسيح يشفي لجئون

«وَجَاءُوا إِلَى عَبْرِ ٱلْبَحْرِ إِلَى كُورَةِ ٱلْجَدَرِيِّينَ. وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ ٱلسَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ ٱسْتَقْبَلَهُ مِنَ ٱلْقُبُورِ إِنْسَانٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ، كَانَ مَسْكَنُهُ فِي ٱلْقُبُورِ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَرْبِطَهُ وَلا بِسَلاسِلَ، لأَنَّهُ قَدْ رُبِطَ كَثِيراً بِقُيُودٍ وَسَلاسِلَ فَقَطَّعَ ٱلسَّلاسِلَ وَكَسَّرَ ٱلْقُيُودَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يُذَلِّلَهُ. وَكَانَ دَائِماً لَيْلاً وَنَهَاراً فِي ٱلْجِبَالِ وَفِي ٱلْقُبُورِ، يَصِيحُ وَيُجَرِّحُ نَفْسَهُ بِٱلْحِجَارَةِ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ مِنْ بَعِيدٍ رَكَضَ وَسَجَدَ لَهُ، وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ! أَسْتَحْلِفُكَ بِٱللّٰهِ أَنْ لا تُعَذِّبَنِي!» لأَنَّهُ قَالَ لَهُ: «ٱخْرُجْ مِنَ ٱلإِنْسَانِ يَا أَيُّهَا ٱلرُّوحُ ٱلنَّجِسُ». وَسَأَلَهُ: «مَا ٱسْمُكَ؟» فَأَجَابَ: «ٱسْمِي لَجِئُونُ، لأَنَّنَا كَثِيرُونَ». وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً أَنْ لا يُرْسِلَهُمْ إِلَى خَارِجِ ٱلْكُورَةِ. وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ ٱلْجِبَالِ قَطِيعٌ كَبِيرٌ مِنَ ٱلْخَنَازِيرِ يَرْعَى، فَطَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ ٱلشَّيَاطِينِ قَائِلِينَ: «أَرْسِلْنَا إِلَى ٱلْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا». فَأَذِنَ لَهُمْ يَسُوعُ لِلْوَقْتِ. فَخَرَجَتِ ٱلأَرْوَاحُ ٱلنَّجِسَةُ وَدَخَلَتْ فِي ٱلْخَنَازِيرِ، فَٱنْدَفَعَ ٱلْقَطِيعُ مِنْ عَلَى ٱلْجُرْفِ إِلَى ٱلْبَحْرِ - وَكَانَ نَحْوَ أَلْفَيْنِ، فَٱخْتَنَقَ فِي ٱلْبَحْرِ. وَأَمَّا رُعَاةُ ٱلْخَنَازِيرِ فَهَرَبُوا وَأَخْبَرُوا فِي ٱلْمَدِينَةِ وَفِي ٱلضِّيَاعِ، فَخَرَجُوا لِيَرَوْا مَا جَرَى. وَجَاءُوا إِلَى يَسُوعَ فَنَظَرُوا ٱلْمَجْنُونَ ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ ٱللَّجِئُونُ جَالِساً وَلابِساً وَعَاقِلاً، فَخَافُوا. فَحَدَّثَهُمُ ٱلَّذِينَ رَأَوْا كَيْفَ جَرَى لِلْمَجْنُونِ وَعَنِ ٱلْخَنَازِيرِ. فَٱبْتَدَأُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ تُخُومِهِمْ. وَلَمَّا دَخَلَ ٱلسَّفِينَةَ طَلَبَ إِلَيْهِ ٱلَّذِي كَانَ مَجْنُوناً أَنْ يَكُونَ مَعَهُ، فَلَمْ يَدَعْهُ يَسُوعُ، بَلْ قَالَ لَهُ: «ٱذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَهْلِكَ، وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ صَنَعَ ٱلرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ». فَمَضَى وَٱبْتَدَأَ يُنَادِي فِي ٱلْعَشْرِ ٱلْمُدُنِ كَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ. فَتَعَجَّبَ ٱلْجَمِيعُ» (مرقس 5: 1-20).

حدث بعد تسكين النوء أمرٌ يحوّل الفكر من أفعال المسيح إلى أفعال خصمه إبليس، الذي لم يسكت عن المسيح كل مدة وجوده طاهراً بين الناس. فتعويضاً عن فشله في محاولة التسلُّط على المسيح ضاعف سلطته على بعض البشر، ليستخدمهم في مقاومة خصمه العظيم

ومن جملة آلات إبليس البشرية رجلان مجنونان يطوفان البرية في منطقة الجرجسيين، في المكان الذي قصد المسيح أن ينزل فيه من السفينة. وإذ رأى هذان المجنونان قدوم سفينة، هجما من مأواهما في المدافن الصخرية، لأنهما كانا قد قطعا بجنونهما الطرقات في تلك الناحية كلها على العابرين. ويُرجَّح أنهما قصدا الفتك بالقادمين فيها، وعلى الأخصّ بالمسيح لأنهما عرفاه، فأتيا يصرخان ملطخيْن بدمائهما، لأنهما كانا يجّرحان نفسيهما بالحجارة. عند ذلك أمر المسيح الأرواح النجسة الحالَّة فيهما أن تخرج منهما، فصاحا للوقت بكلام بعضه شيطاني وبعضه معقول، مما دلَّ على سطوة المسيح عليهما، قائلين: «ما لنا ولك يا يسوع ابن الله العلي! أجئت هنا قبل الوقت لتعذبنا؟».

حصر البشير مرقس هذا الخبر في أشهر هذين الرجلين وأورده مفصَّلاً. بعد انتهار المسيح الأرواح الشريرة الحالَّة في هذا الرجل وفي رفيقه، ركض هذا وسجد له صارخاً: «أستحلفك بالله أن لا تعذبني». التأثير الأول لأمر المسيح للشياطين أن تخرج، كان تعذيباً للمسكون، لأن الشيطان لا يخرج من إنسان إلا ويصرعه ويؤلمه، ولذلك كان المسكون يخاف ويطلب التخلُّص من الآلام. وفعل المسيح الثاني كان تعذيباً للشيطان، الذي يتلذّذ بتعذيب الإنسان وإهلاكه. وعذابه يكون بنزع فريسته من بين مخالبه، فالساكن والمسكون يصرخان: «لا تعذبنا».

يا لها من صورة مؤثرة على شاطئ هذا البحر! يقف المسيح مكلَّلاً بهيبة القداسة، المقترنة بالسلطان والحنان، ووراءه التلاميذ وهيئتهم تدلُّ على الاضطراب الشديد من تعب الليل الماضي، وعلى اضطراب جديد من هجوم المجنونيْن عليهم في هذا الوعر، وجهلهم ماذا يصير من أمرهما. ومع اضطرابهم ترى في وجوههم ملامح الشفقة على هذا المعذب بالأرواح النجسة. وأمامهم هذا الشخص البربري الجاثي في عريه وجروحه أمام سيدهم، وفي هيئته شيء من أمل المستنجد بشخص يعرفه قادراً على تخليصه من شقائه.

سأله المسيح «ما اسمك؟» فأجاب: «اسمي لجئون». لأن شياطين كثيرة دخلته. واقترحت الشياطين على المسيح أن يسمح لها بالدخول في الخنازير، وليس إلى الهاوية. فسمح لهم بالدخول في قطيع كبير من الخنازير، نحو ألفين، كان يرعى عند الجبال بعيداً عنهم - وما أكبر الشبه بين الأرواح النجسة والخنازير - فالخنازير محرمة عند اليهود، وامتلاكها برهان غلبة الطمع على الدين في أصحابها اليهود، فعاقبهم المسيح بهلاك خنازيرهم المحرمة، ولا سيما أن في هذا برهاناً ملموساً بأن الاحتلال الشيطاني حقيقي، وبأن الشفاء من هذا الإحتلال كان حقيقياً ودائماً، ويرى الجميع عاقبة الاستعباد للشيطان، وبرهاناً لسلطان المسيح على الخيرات الزمنية، فيتصرف بها حسب حكمته. لأن الذي سمح بهذه الخسارة على أصحاب الخنازير هو المالك الأصلي الحقيقي. أَوَلا تسمح عنايته كل يوم بمثل هذا العالم، حتى بين خائفيه أيضاً؟ فكل تقي يقول لربه: ما لا يأتيني أستغني عنه دون تذمر قائلاً: «ٱلرَّبُّ أَعْطَى وَٱلرَّبُّ أَخَذَ فَلْيَكُنِ ٱسْمُ ٱلرَّبِّ مُبَارَكاً» (أيوب 1: 21).

قال المسيح للأرواح: «امضوا» فخرجت ودخلت في الخنازير، وإذا القطيع كله يندفع من على الجُرف إلى البحيرة ويختنق في المياه. وانذهل رعاة الخنازير من هذا الأمر الغريب، فهربوا وأذاعوا في طريقهم بين الضياع وفي المدينة خبر ما حدث للمجنونين وللخنازير، فأسرع الجمهور قاصدين مكان هذا الحادث الغريب. وعند وصولهم رأوا في جثث الخنازير برهان صحة رواية الرعاة. وزادت دهشتهم عند رؤيتهم المجنون لابساً وعاقلاً وجالساً عند قدمي المسيح، يسمع تعليمه في موضوع ملكوت السماوات الذي دخله جديداً، إذ آمن بالملك الروحي الذي نجّاه.

كنا ننتظر أن يبتهج الناس بظهور خصم إبليس القوي، القادر أن يقيّده ويخلص الناس من الاستعباد له، وكنا ننتظر أن يشكروا المسيح على معجزاته، ولكن الغريب أنهم طردوا المسيح من بلدهم، لأنهم حسبوا خسارة خنازيرهم أكبر من فائدة الانتصار على إبليس.

لكن ماذا يفعل هذا الرجل الذي شُفي؟ هل يطلب العودة إلى بيته وأملاكه وأشغاله، ليستعيض عن الزمان الطويل الضائع؟... لو كان شفاؤه جسدياً فقط لفعل ذلك. لكن المسيح لم يشفِ جسده فقط، بل شفى نفسه أيضاً، وهذا أهم من شفاء جسده بما لا يُقاس. فظهر الشفاء الروحي في هذا المجنون من طلبه أن يكون مع المسيح.

ولنا في هذا المجنون مثال صادق للخاطئ. حقاً إن الخطيئة جنون النفس، والجنون المعروف رمز إلى الجنون الحقيقي وهو الخطيئة، ففضَّل مجنون جدرة القبور النجسة مسكناً على البيوت النظيفة الصحية المرتّبة، وكان عمله إضراراً بذاته مع كل من لاصقه أو مرّ به. كان يتجنّب معاشرة الأصحّاء، ويختار عشراء من المجانين نظيره ومن وحوش البرية، ويقول للمخلص الوحيد: «ما لي ولك!» ولم يظهر مخلِّص من جنون الخطيئة ومن نتائجها في الدنيا والآخرة، إلا المسيح الذي خلَّص مجنون جدرة في ذلك اليوم من جنونه وأسبابه ونتائجه.

7 - المسيح يقيم ابنة يايرس من الموت

«وَلَمَّا ٱجْتَازَ يَسُوعُ فِي ٱلسَّفِينَةِ أَيْضاً إِلَى ٱلْعَبْرِ ٱجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ عِنْدَ ٱلْبَحْرِ. وَإِذَا وَاحِدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ ٱلْمَجْمَعِ ٱسْمُهُ يَايِرُسُ جَاءَ. وَلَمَّا رَآهُ خَرَّ عِنْدَ قَدَمَيْهِ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيراً قَائِلاً: «ٱبْنَتِي ٱلصَّغِيرَةُ عَلَى آخِرِ نَسَمَةٍ. لَيْتَكَ تَأْتِي وَتَضَعُ يَدَكَ عَلَيْهَا لِتُشْفَى فَتَحْيَا». فَمَضَى مَعَهُ وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَكَانُوا يَزْحَمُونَهُ. وَٱمْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ تَأَلَّمَتْ كَثِيراً مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ، وَأَنْفَقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا وَلَمْ تَنْتَفِعْ شَيْئاً، بَلْ صَارَتْ إِلَى حَالٍ أَرْدَأَ - لَمَّا سَمِعَتْ بِيَسُوعَ، جَاءَتْ فِي ٱلْجَمْعِ مِنْ وَرَاءٍ، وَمَسَّتْ ثَوْبَهُ، لأَنَّهَا قَالَتْ: «إِنْ مَسَسْتُ وَلَوْ ثِيَابَهُ شُفِيتُ». فَلِلْوَقْتِ جَفَّ يَنْبُوعُ دَمِهَا، وَعَلِمَتْ فِي جِسْمِهَا أَنَّهَا قَدْ بَرِئَتْ مِنَ ٱلدَّاءِ. فَلِلْوَقْتِ ٱلْتَفَتَ يَسُوعُ بَيْنَ ٱلْجَمْعِ شَاعِراً فِي نَفْسِهِ بِٱلْقُوَّةِ ٱلَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ، وَقَالَ: «مَنْ لَمَسَ ثِيَابِي؟» فَقَالَ لَهُ تَلامِيذُهُ: «أَنْتَ تَنْظُرُ ٱلْجَمْعَ يَزْحَمُكَ، وَتَقُولُ مَنْ لَمَسَنِي؟» وَكَانَ يَنْظُرُ حَوْلَهُ لِيَرَى ٱلَّتِي فَعَلَتْ هٰذَا. وَأَمَّا ٱلْمَرْأَةُ فَجَاءَتْ وَهِيَ خَائِفَةٌ وَمُرْتَعِدَةٌ، عَالِمَةً بِمَا حَصَلَ لَهَا، فَخَرَّتْ وَقَالَتْ لَهُ ٱلْحَقَّ كُلَّهُ. فَقَالَ لَهَا: «يَا ٱبْنَةُ، إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. ٱذْهَبِي بِسَلامٍ وَكُونِي صَحِيحَةً مِنْ دَائِكِ». وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جَاءُوا مِنْ دَارِ رَئِيسِ ٱلْمَجْمَعِ قَائِلِينَ: «ٱبْنَتُكَ مَاتَتْ. لِمَاذَا تُتْعِبُ ٱلْمُعَلِّمَ بَعْدُ؟» فَسَمِعَ يَسُوعُ لِوَقْتِهِ ٱلْكَلِمَةَ ٱلَّتِي قِيلَتْ، فَقَالَ لِرَئِيسِ ٱلْمَجْمَعِ: «لا تَخَفْ. آمِنْ فَقَطْ». وَلَمْ يَدَعْ أَحَداً يَتْبَعُهُ إِلا بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ، وَيُوحَنَّا أَخَا يَعْقُوبَ. فَجَاءَ إِلَى بَيْتِ رَئِيسِ ٱلْمَجْمَعِ وَرَأَى ضَجِيجاً. يَبْكُونَ وَيُوَلْوِلُونَ كَثِيراً. فَدَخَلَ وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تَضِجُّونَ وَتَبْكُونَ؟ لَمْ تَمُتِ ٱلصَّبِيَّةُ لٰكِنَّهَا نَائِمَةٌ». فَضَحِكُوا عَلَيْهِ. أَمَّا هُوَ فَأَخْرَجَ ٱلْجَمِيعَ، وَأَخَذَ أَبَا ٱلصَّبِيَّةِ وَأُمَّهَا وَٱلَّذِينَ مَعَهُ وَدَخَلَ حَيْثُ كَانَتِ ٱلصَّبِيَّةُ مُضْطَجِعَةً، وَأَمْسَكَ بِيَدِ ٱلصَّبِيَّةِ وَقَالَ لَهَا: «طَلِيثَا، قُومِي». (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا صَبِيَّةُ، لَكِ أَقُولُ قُومِي). وَلِلْوَقْتِ قَامَتِ ٱلصَّبِيَّةُ وَمَشَتْ، لأَنَّهَا كَانَتِ ٱبْنَةَ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. فَبُهِتُوا بَهَتاً عَظِيماً. فَأَوْصَاهُمْ كَثِيراً أَنْ لا يَعْلَمَ أَحَدٌ بِذٰلِكَ. وَقَالَ أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ» (مرقس 5: 21-43).

ذهب المسيح إلى كفر ناحوم، بعد أن طرده أهل جدرة التي شفى فيها المجنون، وأهلك خنازيرهم. وكان في كفر ناحوم رجل اسمه يايرس، وهو رئيس المجمع هناك. كانت له ابنة توشك على الموت، لم تنجح معها معالجات الأطباء، ولا خدمة الأقرباء ولا تضرعات الأحباء. ولم يبق رجاءً إلا في الالتجاء إلى الناصري الشهير.

لا بد أن يايرس قرر الذهاب إلى المسيح ليطلب مجيئه إلى بيته، لكنه استصعب مفارقة وحيدته في حالتها هذه. كما أنه لم يكن ينتظر أن يأتي المسيح إلى بيته لو أرسل له آخر، ولا يمكن أن يأخذ ابنته إلى المسيح وهي في هذه الدرجة من الخطر. فأسرع يايرس بنفسه إلى الشاطئ، ووقع عند قدمي المسيح وسجد له. وكم كانت دهشة الحاضرين عند رؤيتهم رئيسهم متذلّلاً بهذا المقدار أمام النجار الناصري الفقير، الذي هو رفيق للعشارين والخطاة. غير أن ما عرفه يايرس وأهل كفر ناحوم عن فضائل المسيح وفضله، يفسّر شيئاً من هذا الاحترام غير المنتظر. لقد ذللت المصيبة الشديدة يايرس، وساقته إلى المسيح، فانفتح له باب الفرج، وتحولت مصيبته إلى بركة أعظم.

صبر المسيح على يايرس إلى أن «طلب إليه كثيراً» ووصف حالة ابنته، وأظهر كامل الإيمان بالمسيح، لأنه قال: «ابنتي الصغيرة على آخر نسمة. ليتك تأتي وتضع يدك عليها لتُشفى. تعال وضَعْ يدك عليها فتحيا». يستحيل أن يتغاضى المسيح عن طلب كهذا مقرون بإيمان، لأن الإيمان هو الدلو الوحيد الذي يسحب به الإنسان ماء الحياة من آبار الخلاص. وهو العين الوحيدة التي بها يرى الإنسان طريق السماء ليسير فيه، وهو اليد الوحيدة التي بها يتناول الإنسان خبز الحياة ليحيا به «أَمَّا ٱلْبَارُّ فَبِٱلإِيمَانِ يَحْيَا» (رومية 1: 17).

وهنا يواجهنا سؤال: لماذا لم يأمر المسيح بالشفاء عن بُعد كما فعل مرتين قبلاً؟ ألا يكون في ذلك معجزة أبهج، وموجباً أقوى لإيمان الجمهور وأهل المدينة به؟ ربما كان ذلك لأن المسيح علم ما لم يعرفه يايرس أو غيره من الحاضرين، وذلك أن الابنة قد ماتت فعلاً بعد خروج أبيها من البيت. وبما أن رئيس المجمع عدو للمسيح، ففي ذهاب المسيح معه يظهر له محبة تكون لنا مثالاً في محبة العدو. وبما أن يايرس أتمّ الشروط الأربعة اللازمة لنوال بركات المخلّص، فقد نال طلبه، وذهب المسيح معه إلى بيته. وهذه الشروط هي: (أ) الإتيان إلى المسيح. و(ب) الإتضاع أمامه. و(ج) الحرارة في الطلب منه. و(د) الإيمان الحي به.

وفيما كان المسيح منطلقاً زحمته الجموع. وإذْ لا يمكن للمُحاط بازدحام كهذا أن يسرع في السير، فلا ريب أن يايرس استاء من هذا البطء، لأن الدقائق كانت عنده كالساعات، لا بل كالأيام. وزاده استياءً وقوف المسيح في الطريق. ووقوف الجمهور معه بسبب امرأة مسكينة، كانت مريضة بنزف دم. غير أن هذا التأخير عاد على يايرس بالبركة في تقوية إيمانه وإحياء رجائه.

فقد اقتربت من المسيح امرأة مريضة بنزف دم منذ اثنتي عشرة سنة، هدَّ قُواها، وضيَّع مالها على الأدوية بغير فائدة، كما أنه كان يُعتبر نجاسة بحسب طقوس شريعة موسى. لم تكن نازفة الدم تقدر أن تلتقي بالمسيح منفردة لتحكي له عن مرضها، ولم تكن تقدر أن تحكي عن مرضها جهاراً - فماذا تعمل؟

اجتمعت قوة إيمانها بالمسيح، مع شدة حاجتها إليه، فقالت في نفسها: «يكفيني لمْسَ ثيابه فقط، ولي ملء اليقين أن ذلك يُنيلني الشفاء، دون إزعاج المعلِّم والتعرُّض لملاحظة الجمهور». ولأنها لم تتوقف كالكثيرين عند الفكر الحسن والقول الصائب، نالت أمنيتها. ولم يكن الازدحام مانعاً لها، بل اقتربت إلى وراء هذا الشافي ولمست هدب ثوبه، وللحال علمت بشفائها الفجائي على صورة لم تكن تتوقعها.

جاءت هذه المرأة وراء المسيح، فلم يرها ولم تلمس جسمه. فتوهمت أنه لا يحس بما فعلته. لكن لأنه عالم الخفايا، أوقف السير وسأل: «من لمس ثيابي؟» فظن الجميع حتى رسله أنه سأل استعلاماً. وناب بطرس المتسرع في الكلام عن زملائه في تلويم المسيح، وقال إن الازدحام جعل الكثيرين يلمسون ثيابك. لكن المسيح لم يسأل عن اللمس البسيط، بل عن لمس الإيمان، إذْ لا شيء كالإِيمان، فإيمان هذه المريضة هو الذي ميَّزها عن الكثيرين غيرها، الذين كانوا مثلها يطلبون الشفاء. ومجرد لمس هُدْب ثوب المسيح مقروناً بالإِيمان، كان باب الخلاص لها، بينما معاشرة المسيح ومساكنته ثلاث سنين دون إيمان لم تأت بهذه النتيجة الجوهرية للإِسخريوطي، بل زادته دينونة.

قصد المسيح بهذه المعجزة شفاءً جسدياً وروحياً، كما قصد تقوية إيمان تلاميذه ويايرس. وقد قال الكتاب: «لأَنَّ ٱلْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ، وَٱلْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاصِ» (رومية 10: 10).

نظر المسيح إلى الوراء وتطلع في نازفة الدم مبيّناً أنه عرفها، فارتعبت لأنها لا تعرف لطفه وحبه للناس، وخافت من القصاص على عمل لا حقَّ لها فيه، أو على الأقل من توبيخ صارم أمام الجمهور، وإذْ لم يعد يمكنها إلا الاعتراف العلني، تقدمت وسجدت له واعترفت بعلتها المخجلة أولاً: ثم بما فعلته خُفية، وبالشفاء العجيب الذي نالته. فكلمها حالاً بكلام كله عطف ورحمة قائلاً: «ثقي يا ابنة، إيمانك قد شفاك. اذهبي بسلام وكوني صحيحة من دائك».

ثم تابع المسيح مسيرته نحو بيت يايرس. وإذا برسولٍ من بيت يايرس يقول له: «ابنتك ماتت. لماذا تتعِب المعلم بعد؟». تُرى هل أسف يايرس على تذلله للمسيح، أو هل ندم على خروجه من بيته وغيابه ساعة احتضار وحيدته؟ أوَلا يتوقع شماتة زملائه الفريسيين الذين يكرهون هذا الناصري الذي لا يخضع لهم؟ ولكن المسيح استدرك هذا التأثير السييء، وطيّب خاطره بقوله: «لا تخف. آمن فقط، فهي تُشفَى».

فلما وصل المسيح والأب والجمع إلى البيت، أمر أن يبقى تلاميذه مع الجمهور خارجاً، ما عدا بطرس ويعقوب ويوحنا، الذين ابتدأ يميّزهم فوق رفقائهم، فأدخلهم معه ليكونوا شهوداً للمعجزة العظيمة، وترك التسعة خارجاً إيناساً للجمْع الذي لم يسمح له بالدخول، وعند دخوله الدار تكدر من الضجيج والبكاء والنوح، ووبّخ القائمين بها، وسعى ليزيل أوهامهم في أمر الموت الجسدي، بإرجاعه روحاً إلى جسدها بعد الموت. وشبَّه الموت بالنوم بالنظر إلى القيامة الآتية، فقال للمجتمعين: «لماذا تضجون وتبكون؟ تنحّوا. لا تبكوا. فإن الصبية لم تمت لكنها نائمة». فاستهزأ الجميع به ولا سيما النائحون المأجورون، وضحكوا عليه لعدم معرفته الفرق بين النائم والمائت. فأخرجهم من الغرفة - ولم يشهد هذه المعركة التي فيها يقهر المسيح الموت - إلا الوالد والوالدة والرسل الثلاثة. قيل عنه في الأنبياء إنه «يَبْلَعُ ٱلْمَوْتَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَيَمْسَحُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ ٱلدُّمُوعَ عَنْ كُلِّ ٱلْوُجُوهِ» (إش 25: 8). «مِنْ يَدِ ٱلْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ ٱلْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟» (هوشع 13: 14) ووصف الرسول عمله أنه «أَبْطَلَ ٱلْمَوْتَ وَأَنَارَ ٱلْحَيَاةَ وَٱلْخُلُودَ» (2 تيموثاوس 1: 10).

نرى الذي قال عن حياته: «لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً» يدخل مع هؤلاء الخمسة غرفة الموت، وبهذا السلطان يمسك يد الجثة، ويكلم الروح التي فارقت الجسد، ويُرجِعها إليه بقوله: «يا صبية قومي». وللوقت قامت الصبية ومشت. ثم أمر أبويها أن يقدّما لها طعاماً. فأحدثت هذه المعجزة دهشة عظيمة.

شفاء أعميين

«وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ تَبِعَهُ أَعْمَيَانِ يَصْرَخَانِ وَيَقُولانِ: «ٱرْحَمْنَا يَا ٱبْنَ دَاوُدَ». وَلَمَّا جَاءَ إِلَى ٱلْبَيْتِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ ٱلأَعْمَيَانِ، فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «أَتُؤْمِنَانِ أَنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ هٰذَا؟» قَالا لَهُ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ». حِينَئِذٍ لَمَسَ أَعْيُنَهُمَا قَائِلاً: «بِحَسَبِ إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا». فَٱنْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا. فَٱنْتَهَرَهُمَا يَسُوعُ قَائِلاً: «ٱنْظُرَا، لا يَعْلَمْ أَحَدٌ!» وَلٰكِنَّهُمَا خَرَجَا وَأَشَاعَاهُ فِي تِلْكَ ٱلأَرْضِ كُلِّهَا» (متى 9: 27-31).

بعد أن أقام المسيح ابنة يايرس، رجع إلى المنزل الذي كان يُقيم فيه. وفي الطريق صرخ وراءه أعميان طالبين الرحمة، أظهرا إيمانهما به في اللقب الذي نادياه به: «يا ابن داود». وكان كلام الأنبياء يؤكد أن المسيح يكون ابن داود، وهكذا رأى فاقد البصر الجسدي السيد المسيح بالبصر الروحي، وهذا ما لم يره أهل البصر الجسدي، واختبر الأعميان قول داود: «لأَنَّهُ يُنَجِّي ٱلْفَقِيرَ ٱلْمُسْتَغِيثَ وَٱلْمِسْكِينَ إِذْ لا مُعِينَ لَهُ. يُشْفِقُ عَلَى ٱلْمِسْكِينِ وَٱلْبَائِسِ وَيُخَلِّصُ أَنْفُسَ ٱلْفُقَرَاءِ» (مزمور 72: 12 و13) وعرفا تصريح إشعياء النبي بأن المسيح سيعطي البصر للعميان. أما المسيح فلم يلبِّ طلبهما أو ينتبه إليهما أولاً. لكن إغضاءه لم يُثْن عزمهما، فتبعاه إلى البيت مجدِّدَيْن استنجادهما به.. تُرى لماذا أبدى المسيح عدم الاهتمام بهما أولاً؟ لقد قصد أن يمتحن إيمانهما به. لم يسألهما إنْ كانا يؤمنان أن اللّه قادر، بل كان سؤاله: «هل تؤمنان أني قادر؟».

ولما كان الأعميان عاجزيْن عن رؤية وجه المسيح، لم يقدرا أن يكتشفا محبته العظيمة التي ترافق قدرته العظيمة، فأعلن لهما محبته بواسطة أصابعه، إذْ لمس أعينهما فانفتحت. ومع انفتاح أعينهما فتح لهما طريق الخلاص بقول: «بحسب إيمانكما ليكن لكما». فلم يكن سبب نجاحهما في المعارف ولا المقام ولا الغنى ولا الصلاح، بل في الإِيمان.

8 - المسيح يرسل الإثني عشر للكرازة

«وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ ٱلْمُدُنَ كُلَّهَا وَٱلْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ ٱلْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي ٱلشَّعْبِ. وَلَمَّا رَأَى ٱلْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لا رَاعِيَ لَهَا. حِينَئِذٍ قَالَ لِتَلامِيذِهِ: «ٱلْحَصَادُ كَثِيرٌ وَلٰكِنَّ ٱلْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَٱطْلُبُوا مِنْ رَبِّ ٱلْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ» (متى 9: 35-38).

ترك المسيح الناصرة، وأخذ يطوف المدن والقرى في خدمته المتنوّعة يكرز بالبشارة، ويعلّم في المجامع، ويشفي المرضى. وساءه حال الشعب فشبّهه بقطيع غنمٍ لا راعيَ لها، إذْ كان لهم رعاة اسماً لا فعلاً. هم في الحقيقة «أجْرَى لا يبالون بالخراف» فلا يقودونهم إلى المراعي الخضر وإلى مياه الراحة. إلى هذه الخراف التعيسة جاء «الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن الخراف» وتحنّن لما رأى شقاءها.

وبناءً على إثمار مساعي المسيح في تدريب تلاميذه وجَعْلهم أهلاً لأن يشتركوا في هذه الخدمة الشريفة دعا الاثني عشر وابتدأ يرسلهم اثنين اثنين، لأن تمرينهم على العمل بعد تمرينهم في التعليم صار ضرورياً للغاية. فألهمهم أولاً بقوله: «الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون». وأفهمهم أن الفعلة لا يكونون إلا مرسَلين من رب الحصاد، الذي يرسلهم استجابة للصلاة.

لا بد من استعداد الرعاة الروحيين لعملهم، فعليهم أن يتطوعوا أولاً، ثم يختارهم أصحاب الكلمة والحق في ذلك. ولكن بعد التطوُّع، واختيار الناس لهم، لا تنجح خدمتهم إلا إذا كان المرسِل الحقيقي لهم هو روح اللّه. فلا يتوقف إيجاد الفعلة الروحيين الناجحين على المدارس اللاهوتية التي يتعلَّمون فيها، ولا على الأجْر الذي يُقدَّم لهم ترغيباً، بل على إرسال رب الحصاد لهم.

«هٰؤُلاءِ ٱلٱثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً: «إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لا تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لا تَدْخُلُوا. بَلِ ٱذْهَبُوا بِٱلْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ ٱلضَّالَّةِ. وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ ٱكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ. اِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصاً. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّاناً أَخَذْتُمْ مَجَّاناً أَعْطُوا. لا تَقْتَنُوا ذَهَباً وَلا فِضَّةً وَلا نُحَاساً فِي مَنَاطِقِكُمْ، وَلا مِزْوَداً لِلطَّرِيقِ وَلا ثَوْبَيْنِ وَلا أَحْذِيَةً وَلا عَصاً، لأَنَّ ٱلْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ طَعَامَهُ» (متى 10: 5-10).

زوَّد ربُّ الحصاد هؤلاء التلاميذ المتفرِّقين اثنين اثنين للتبشير زاداً كافياً، لأنه أعطاهم السلطان والقوة لتأييد تبشيرهم بمعجزات الشفاء، وإخراج الشياطين، حتى وإقامة الموتى. وأعطاهم أيضاً ما هو أهمّ، أي التعليمات الصريحة المتعلِّقة بمواضيع تبشيرهم وأساليبه.

ثم أوضح المسيح لهم الفرق بينهم وبين رؤساء الدين، والمعلمين الذي يجعلون خدمة الدين تجارة لأجل الأرباح المادية. لأن الخير الذي يعمله الإِنسان ولا يأخذ عنه بدلاً مادياً يكون حُسْنُ تأثيره مضاعفاً. لذلك جعل قاعدة عملهم: «مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا». وتسهيلاً لحفظ هذه القاعدة ضمن لهم أن حاجاتهم الجسدية في هذه الرحلة تأتيهم دون تدبير منهم، فهو يعتني بزمنيّاتهم إنْ كانوا يهتمون بروحياته، فإن هذه كلها تُزاد للذين يطلبون أولاً ملكوت اللّه وبره - أي للذين يتفرغون للاهتمام بالحاجات الروحية.

«وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ دَخَلْتُمُوهَا فَٱفْحَصُوا مَنْ فِيهَا مُسْتَحِقٌّ، وَأَقِيمُوا هُنَاكَ حَتَّى تَخْرُجُوا. وَحِينَ تَدْخُلُونَ ٱلْبَيْتَ سَلِّمُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ ٱلْبَيْتُ مُسْتَحِقّاً فَلْيَأْتِ سَلامُكُمْ عَلَيْهِ، وَلٰكِنْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقّاً فَلْيَرْجِعْ سَلامُكُمْ إِلَيْكُمْ. وَمَنْ لا يَقْبَلُكُمْ وَلا يَسْمَعُ كَلامَكُمْ فَٱخْرُجُوا خَارِجاً مِنْ ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ أَوْ مِنْ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ، وَٱنْفُضُوا غُبَارَ أَرْجُلِكُمْ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ ٱلدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ» (متى 10: 11-15).

أوصى المسيح تلاميذه أن لا يتنقّلوا من بيت إلى بيت في القرية الواحدة، لأن الوقت لا يكفي للتأثير المطلوب في أكثر من البيت الواحد، بواسطة تكرار التعليم والتأثير الشخصي. فكان يجب أن يتركوا في كل بلد بيتاً واحداً مختمراً جيداً، يخمِّر البلد كلها بعد ذلك. وأوصاهم أن يعزّزوا كرامة عملهم وشرف الحق الذي هو موضوع كرازتهم بواسطة إنذارات مخيفة لكل من يرفض قبولهم وقبول كلامهم، لأنهم يمثّلون الملك الذي أرسلهم. فمن يهينهم يهين ملكهم الذي أرسلهم، وهو يعاقب كل من يؤذيهم. ومن يرفض سفيراً يمثّل العرش السماوي لا يمكن أن يسْلَم من عقاب مخيف.

«هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ، فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَٱلْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَٱلْحَمَامِ. وَلٰكِنِ ٱحْذَرُوا مِنَ ٱلنَّاسِ، لأَنَّهُمْ سَيُسْلِمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَفِي مَجَامِعِهِمْ يَجْلِدُونَكُمْ. وَتُسَاقُونَ أَمَامَ وُلاةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي شَهَادَةً لَهُمْ وَلِلأُمَمِ. فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلا تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ، لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ».

«وَلا تَخَافُوا مِنَ ٱلَّذِينَ يَقْتُلُونَ ٱلْجَسَدَ وَلٰكِنَّ ٱلنَّفْسَ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِٱلْحَرِيِّ مِنَ ٱلَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ ٱلنَّفْسَ وَٱلْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ» (متى 10: 16-20 ، 28).

تنبأ المسيح لهم باضطهادات عنيفة من أناس يكونون هم بينهم «كغنم في وسط ذئاب». لأن عملهم الكرازي يعرّضهم للكره والاضطهاد من ملوك وولاة. فعليهم بحفظ طبيعة الحملان، واجتناب الشراسة والانتقام، وليعلموا أن الروح الإِلهي لا يفارقهم، وعليه يستندون في الدفاع عن أنفسهم «فيُعْطَون في تلك الساعة ما يتكلمون به». قد عُومل المسيح قبلهم بمثل بما سيقاسونه من الاضطهاد، وهذا يعزّيهم متى «أمسوا مبغَضين من الجميع من أجل اسمه». وخطر العذاب أو الهلاك الجسدي لا يوجب الخوف والحذر كخطر عذاب النفس الأبدي. وعناية الآب السماوي بهم تتناول كل أمورهم حتى «إحصاء شعور رؤوسهم جميعاً». ومن لا يخاف من الاعتراف بالمخلِّص ينال أخيراً اعتراف المخلِّص به في السماء.

«لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاماً عَلَى ٱلأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاماً بَلْ سَيْفاً. فَإِنِّي جِئْتُ لأُفَرِّقَ ٱلإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَٱلٱبْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَٱلْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا. وَأَعْدَاءُ ٱلإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِهِ. مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلا يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ٱبْناً أَوِ ٱبْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلا يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ لا يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلا يَسْتَحِقُّنِي. مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا. مَنْ يَقْبَلُكُمْ يَقْبَلُنِي، وَمَنْ يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي. مَنْ يَقْبَلُ نَبِيّاً بِٱسْمِ نَبِيٍّ فَأَجْرَ نَبِيٍّ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَقْبَلُ بَارّاً بِٱسْمِ بَارٍّ فَأَجْرَ بَارٍّ يَأْخُذُ، وَمَنْ سَقَى أَحَدَ هٰؤُلاءِ ٱلصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِٱسْمِ تِلْمِيذٍ، فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لا يُضِيعُ أَجْرَهُ» (متى 10: 34-42).

المسيح رئيس السلام، وملكوته ملكوت سلام، لكن السلام قد يستوجب الحرب الفكرية لأجل تأييده. وإظهار الحق يهيّج البُطْل لمحاربته، فلم يأتِ المسيح ليلقي سلاماً على الأرض، بل سيفاً. وعمله لا بد أن يفرّق بين أقرب الأقرباء في كثير من الأوقات والأماكن. وعند ذلك يظهر من يفضّل رضَى الأهل على رضى ربه، ومن يترك ربه ليلتصق بأهله.. ومن ينكر ربه وإيمانه للتخلُّص من الموت الجسدي فهؤلاء هم الخاسرون، أما من يبقى أميناً فينال الجزاء على كل خير يعمله، مهما كان بسيطاً، نظير إعطاء كأس ماء بارد لتلميذ من تلاميذ المسيح حُباً له.

فلما أكمل المسيح هذا الخطاب تفرَّق رسله في الجهات المختلفة للعمل الخطير الذي كلَّفهم به.

«وَٱجْتَمَعَ ٱلرُّسُلُ إِلَى يَسُوعَ وَأَخْبَرُوهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، كُلِّ مَا فَعَلُوا وَكُلِّ مَا عَلَّمُوا. فَقَالَ لَهُمْ: «تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاءٍ وَٱسْتَرِيحُوا قَلِيلاً». لأَنَّ ٱلْقَادِمِينَ وَٱلذَّاهِبِينَ كَانُوا كَثِيرِينَ، وَلَمْ تَتَيَسَّرْ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلأَكْلِ. فَمَضَوْا فِي ٱلسَّفِينَةِ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاءٍ مُنْفَرِدِينَ. فَرَآهُمُ ٱلْجُمُوعُ مُنْطَلِقِينَ، وَعَرَفَهُ كَثِيرُونَ. فَتَرَاكَضُوا إِلَى هُنَاكَ مِنْ جَمِيعِ ٱلْمُدُنِ مُشَاةً، وَسَبَقُوهُمْ وَٱجْتَمَعُوا إِلَيْهِ. فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ رَأَى جَمْعاً كَثِيراً، فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا كَخِرَافٍ لا رَاعِيَ لَهَا، فَٱبْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيراً» (مرقس 6: 30-34).

بعد أن أرسل المسيح تلاميذه للكرازة اثنين اثنين، قطع الملك هيرودس رأس يوحنا المعمدان، بناء على طلب زوجة أخيه، التي كان هيرودس قد أخذها منه.

ولما عاد الاثنا عشر رسولاً من رحلتهم التبشيرية فاجأهم خبر قتل المعمدان. ولا بد أنهم تأثروا جداً، ولا سيما الذين اهتدوا منهم بواسطته. وبعدما قصُّوا على المسيح اختباراتهم المتنوعة، والشرح والتعليم الذي كرزوا به في البلاد التي زاروها، استحسن المسيح أن يختلي بهم مدة ليستريحوا قليلاً، لأنه وجد الجماهير تتوارد إليهم في كفر ناحوم ونواحيها - وكانت خدمة هذه الجماهير تضغط عليهم حتى لم يجدوا فرصة للأكل. وبالنظر إلى الأحوال الحرجة بعد قَتْل المعمدان، قرر المسيح أن يتوارى مع تلاميذه عن أبصار الرؤساء إلى حين، وأن يفرّق الجماهير التي قد تكون حجَّة سياسية للقبض عليه كما حدث لما سُجن المعمدان.

وكانت السفينة المخصصة لخدمته تنتظر، والإعياء يدعو للاستراحة. والبحر أفضل مكان للانسحاب من ازدحام الجمهور وضغط الأشغال. والحكمة تقضي بالانتقال من تحت ولاية قاتل المعمدان إلى مقاطعة أخيه فيلبس الأصلح منه كثيراً. وهذا يمكّن المسيح من تعليم تلاميذه حقائق لا تتسنَّى له في المدينة. فركب وتلاميذه السفينة وأقلعوا عبر البحر. وبما أن الريح لم توافقهم، كان بطء سير السفينة سبباً في زيادة استراحة ركابها.

أما الجماهير فتراكضوا إلى بيت صيدا في العبر، مُشاةً على شطّ البحيرة الشمالي عابرين الأردن عند مصبه وسبقوا السفينة. وحال وصولها اجتمعوا إليه مع كثيرين من سكان تلك الجهات التي مرّوا بها. فلم يسمح قلبه الحنون أن يدفعهم أو يجافيهم أو يؤنبهم. وما داموا يطلبونه فهو يترفق بهم، فشفى المحتاجين إلى الشفاء. ثم عاد فانسحب ثانية وصعد مع تلاميذه إلى جبل. لكنه لم يكد يجلس هناك حتى رفع عينه ونظر أن جمعاً كثيراً مقبلٌ إليه. فلم يتضجر، بل زاد حنواً إذْ رأى في أفرادهم ما رآه سابقاً من نفوس جائعة تشبه خرافاً تائهة بلا راع، فتحنن عليهم وشفى مرضاهم.

وبقي الجمهور مع المسيح حتى جاء المساء - ومعه مسؤولية جديدة.. من سيطعم هذه الآلاف؟

9 - المسيح يشبع خمسة آلاف

«وَبَعْدَ سَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلامِيذُهُ قَائِلِينَ: «ٱلْمَوْضِعُ خَلاءٌ وَٱلْوَقْتُ مَضَى. اِصْرِفْهُمْ لِكَيْ يَمْضُوا إِلَى ٱلضِّيَاعِ وَٱلْقُرَى حَوَالَيْنَا وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ خُبْزاً، لأَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ». فَأَجَابَ: «أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». فَقَالُوا لَهُ: «أَنَمْضِي وَنَبْتَاعُ خُبْزاً بِمِئَتَيْ دِينَارٍ وَنُعْطِيهُمْ لِيَأْكُلُوا؟» فَقَالَ لَهُمْ: «كَمْ رَغِيفاً عِنْدَكُمْ؟ ٱذْهَبُوا وَٱنْظُرُوا». وَلَمَّا عَلِمُوا قَالُوا: «خَمْسَةٌ وَسَمَكَتَانِ». فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا ٱلْجَمِيعَ يَتَّكِئُونَ رِفَاقاً رِفَاقاً عَلَى ٱلْعُشْبِ ٱلأَخْضَرِ. فَاتَّكَأُوا صُفُوفاً صُفُوفاً: مِئَةً مِئَةً وَخَمْسِينَ خَمْسِينَ. فَأَخَذَ ٱلأَرْغِفَةَ ٱلْخَمْسَةَ وَٱلسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ، وَبَارَكَ ثُمَّ كَسَّرَ ٱلأَرْغِفَةَ، وَأَعْطَى تَلامِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا إِلَيْهِمْ، وَقَسَّمَ ٱلسَّمَكَتَيْنِ لِلْجَمِيعِ، فَأَكَلَ ٱلْجَمِيعُ وَشَبِعُوا، ثُمَّ رَفَعُوا مِنَ ٱلْكِسَرِ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوَّةً، وَمِنَ ٱلسَّمَكِ. وَكَانَ ٱلَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ ٱلأَرْغِفَةِ نَحْوَ خَمْسَةِ آلافِ رَجُلٍ» (مرقس 6: 35-44).

جاء المساء ومعه مسؤولية جديدة جعلت التلاميذ يتأففون في حيرتهم ويتشاورون على انفراد، إلى أن قرَّ رأيهم أخيراً أن يعرضوا على المسيح ما رأوه واجباً. لم يتعلّموا بعد أن يصبروا إلى أن يأخذوا التعلميات من سيدهم. وغفلوا عن أنه لا يحتاج إلى من يعلّمه أو يذكّره بما يجب أن يفعله. فهل اعتبروا أنفسهم أكثر شفقة منه، أو أدرى منه بما يقتضيه صالح هذا الجمهور وراحة المسيح وراحتهم؟

تقدم التلاميذ الاثنا عشر إلى المسيح وقالوا له: «الموضع خلاء والوقت مضى. اصرف الجموع لكي يمضوا إلى الضياع والقرى حوالينا فيبيتوا ويبتاعوا لهم طعاماً، لأننا ههنا في موضع خلاء. وليس عندهم ما يأكلون». يظهر أنهم خافوا أن يطالبهم الجمهور بحقوق الضيافة، وحسبوا أن هؤلاء الرجال والنساء والأطفال مع مرضاهم يتضّررون إذا دخل الليل عليهم في هذا الخلاء.

وهنا وجّه المسيح لفيلبس جوابه على هذا الكلام، وكان في صيغة سؤال عن مكان يوجد فيه طعام، كأنه يكلّف فيلبس بتدبير ما يلزم لهؤلاء الضيوف. سأله المسيح: «من أين نبتاع خبزاً ليأكل هؤلاء؟» لا ليستفهم، بل ليمتحن ويعلّم، لأنه كان يعلم جيداً ما سيفعل، لكنه أراد أن ينبّه تلاميذه إلى عجزهم وضعف إيمانهم. لأن درس التواضع درس أوّلي يجب أن يتعلموه.

كان فيلبس متنبّهاً إلى صعوبة الأمر من وجوه عديدة، فعمل حساباً بأن الخبز وحده يكلّف أكثر من مئتي دينار. فأين الدنانير؟ هل هي عند المسيح الذي ليس له أين يسند رأسه؟ وفضلاً عن ذلك: لو وجدوا الدنانير، فأين الوقت للذهاب إلى قرى عديدة لجَمع كمية كهذه، ولو من الخبز وحده والإتيان به، والشمس أوشكت أن تغرب؟ وفوق هذا كله: أين وسائل النقل لإحضار طعام يكفي الألوف؟ ويُلاحظ أيضاً أن حصة يسيرة من الخبز الحاف لا تقوم بضيافة يليق أن يقدمها شخص كالمسيح لضيوفه. بناء على هذا كله أجاب فيلبس المسيح: «لا يكفيهم خبز بمئتي دينار ليأخذ كل واحد منهم شيئاً يسيراً». وظن أن جوابه يقنع المسيح فيتبع نصيحة الرسل ويصرف الجمع. فكم كان عجبه لما أجابه المسيح: «لا حاجة لهم أن يمضوا. أعطوهم أنتم ليأكلوا».

قال المسيح: «اعطوهم أنتم ليأكلوا» وهو يعلم أن ليس لديهم طعام، ليعلّمهم أن الذين يقصدون إفادة الآخرين يحتاجون إليه، إذ ليس لديهم ما يطعمون به نفوساً جائعة. وفي الوقت ذاته يشير إلى أن الله يختار الوسائط البشرية ليُجري مقاصده في العالم، لأنه لا يوزّع خيراته الروحية والزمنية رأساً، أو بواسطة الملائكة إلا نادراً - وذلك عندما لا توجد وسائط بشرية. وهذا القانون هو لخير الذين يقدمون والذين يأخذون معاً، إذ تنشأ بذلك رُبط المحبة بين المحسِن والمحسَن إليه، ويتنشط الذي يوزّع في ممارسة إنكار الذات وخدمة الآخرين.

لكن التلاميذ اعترضوا على أمر المسيح قائلين: «أنمضي ونبتاع خبزاً بمئتي دينار ونعطيهم ليأكلوا؟» فسأل: «كم رغيفاً عندكم؟ اذهبوا وانظروا». نبّههم بهذا الكلام إلى أن العمل الإلهي لا يُغني عن العمل البشري المستطاع، ولم يُرد أن يوجِد خبزاً من لا شيء، طالما يوجد شيء. فاستخدم أولاً الموجود بين أيديهم ليعلّمهم أن لا يطلبوا من الناس - حتى ولا من الله - عملاً يستطيعونه بالوسائط الطبيعية، لأن هذه دبرها لهم الله - فلا حق لهم في غيرها، إلا بعد الفراغ من استعمالها. اعتماد الإنسان على غيره في ما يستطيعه يُحسب دناءة، وانتظارُه أن الله يعمل ما يطلب منه هو يُعَدّ كسلاً وتواكلاً. فمتى عجز العمل الإنساني أو انتهى، يحقُّ طلب العمل الإلهي.

وكان أندراوس تلميذ المسيح الأول قد لاحظ غلاماً بين الجمهور (ربما كان يبيع طعاماً) معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان. فأخبر المسيح عنه مع التحفُّظ قائلاً: «لكن ما هذا لمثل هؤلاء؟». ولم يقل المسيح بعد أن سمع بوجود هذا القليل: «اتركوه لأنه لا يستحق الذِّكر». ولا قال: «قدموها للجمع». بل قال: «إيتوني بها إلى هنا» ليعلمهم أنه هو مصدر الخير والبركة - هو الملك وصاحب الحق. وكل ما عندنا هو له، يتصرف فيه كما يشاء دون مُعارض.

ولما كان الترتيب من أبواب الرقي في الدين والدنيا، فلا نعجب من اهتمام المسيح به، فأمر أن يجعلوا الناس يتكئون فرقاً خمسين خمسين على العشب الأخضر. فلو توزَّع الطعام على هذه الألوف دون ترتيب، لداس بعضهم بعضاً، وتغلَّب القوي على الضعيف. وأخذ البعض كثيراً والبعض لم يأخذوا شيئاً. لكن بواسطة الترتيب يتمّ التوزيع بسرعة ولياقة وإنصاف، ويرى كل مفكرٍ في أمور الطبيعة، اهتمام الخالق بأمر الترتيب. استلم المسيح الأرغفة الخمسة والسمكتين، ثم رفع نظره نحو السماء وشكر. فعلَّم تلاميذه أن كل خير - حتى الطعام الذي نشتريه - هو عطية إلهية، وأننا يجب دائماً أن نقدم الشكر للمعطي الجواد عندما نتناول الطعام - ولا يجب أن نشكر في وقت الطعام فقط، بل نشكر عندما ننال أي نوع من الخيرات. لأن «كُلَّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلَّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي ٱلأَنْوَارِ» (يعقوب 1: 17).

وبعد أن شكر المسيح بارك وكسر الأرغفة والسمكتين، ثم ناول الكسر التي باركها للرسل ليقدموها للمصطفّين فرقاً على البساط الأخضر. وفي هذا العمل علّمهم أن يطعموا غيرهم أولاً، ثم يأكلوا هم بعدهم، كما يجدر بالمؤمنين الأفاضل.

في أثناء التوزيع على هذا العدد الغفير حدثت معجزة الإكثار. قيل إنه «قسم السمكتين على الجميع بقدر ما شاءوا فأكلوا وشبعوا جميعاً». وليس ذلك فقط بل أن القطع التي لم تؤكل كانت أضعاف الموجود أصلاً.

بهذه المعجزة المؤثرة الغنية بالفوائد، علّم المسيح أتباعه أنه مستعد أن يأخذ خدمتهم الدينية الضعيفة، وكلامهم البسيط، ويضع فيها قوة وتأثيراً ليزيد فعلهما أضعاف فعلهما الطبيعي، لأنه يأخذ ما يقدَّم له ويزيده، ثم يعيده لمقدَّمه زائداً. فالنفوس والأجساد مع قواها ومواهبها ومعارفها ثم العائلة، ثم المقتنيات والأوقات والمساعي والأشغال كافة، إذا تكرَّست للمسيح، يقبلها ويباركها ويجعلها تزيد نمواً وفائدة. فأعظم تشجيع لفاعل الخير المتواضع، يأتيه من يقينه بأن الذي أشبع الألوف بالزاد القليل مستعدٌ أن يرافق خدمته الحقيرة ببركته الفياضة، فتفعل كثيراً.

بقي أن نتعلم درساً من اهتمام المسيح بالفضلات والكسر، لأنه يخشى أن يستخف تلاميذه بالكسر الفاضلة بعد المعجزة التي جرت أمام عيونهم. وأن يقولوا: هل يحتمل أن الذي أوجد من هذا القليل ما يكفي هذا العدد الكبير، يفكّر في فضلات الكسر الساقطة على العشب؟ نعم يسأل، لأن قانوناً من قوانين عنايته هو «لكي لا يضيع شيء».

Table 1. 

لا تحقّرنّ صغير أمرٍ إنما تلك الصغار إلى الكبار دليل

بعد أن أطعم المسيح الجموع هتفوا له، وأرادوا أن يملّكوه عليهم - وكان ردُّ فعله الأول هو أنه فصل تلاميذه عن الجمهور المتحمّس لهذا العمل، وألزمهم أن يدخلوا السفينة، ويسبقوه إلى العبر، حتى يكون قد صرف الجموع. لم يسهُلْ عليهم ترك سيدهم أثناء نجاحه الباهر، وانتشار صيته، خصوصاً بعد أن ظهر لهم أن باب العظمة العالمية، والثروة الزمنية، قد فُتح أمامهم. وإن كان المسيح قد صرفهم بشيء من العنف، لأنهم رفضوا فكره، نراه يُتبع العنف باللطف، لأن البشير يذكر صريحاً أنه ودّعهم. ومع أنه سيفترق عنهم ساعات قليلة فإنه يودّعهم وداعاً حبياً يحقق لهم به عواطفه الحارة نحوهم.

وكان رد فعل المسيح الثاني أنه صرف الجمهور.

وكانت خطوته الثالثة انصرافه هو، وصعوده منفرداً إلى الجبل ليصلي. يذكّرنا فعل إبليس في أفكار الجمهور في هذا الوقت بالتجربة الثالثة العظيمة التي قدمها إبليس للمسيح في البرية قبل هذا بسنتين، لما وعده بكل ممالك العالم ومجدها. فإعادة هذه التجربة في ظروفه الحالية تستدعي صلاة خصوصية للآب لتلافي الأخطار الجديدة، ولذلك انصرف إلى الجبل منفرداً. ولما رأى الناس أن المسيح لم يسافر مع تلاميذه في السفينة راجعاً إلى وطنه في العبر، توقعوا رؤيته في ذلك المكان في الغد، فلم ينصرفوا إلى أماكنهم البعيدة.

وأما هو فمضى إلى الجبل وحده ليصلي، وما أكثر المرات التي كان فيها يختلي للصلاة. وفي المرة التي اختلى منفرداً ليصلي - بعد أن أطعم الخمسة الآلاف، كانت هناك أسباب دفعته لذلك - منها قَتْل يوحنا المعمدان، وظنُّ الجمهور أن مملكة المسيح من هذا العالم، فهي مملكة سياسية، وانقياد التلاميذ إلى هذا الضلال، وعلمه بأن أكثر الذين تظاهروا أنهم معه، سيتخلُّون عنه....

10 - المسيح يمشي على الماء

«وَبَعْدَمَا صَرَفَ ٱلْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى ٱلْجَبَلِ مُنْفَرِداً لِيُصَلِّيَ. وَلَمَّا صَارَ ٱلْمَسَاءُ كَانَ هُنَاكَ وَحْدَهُ. وَأَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ قَدْ صَارَتْ فِي وَسَطِ ٱلْبَحْرِ مُعَذَّبَةً مِنَ ٱلأَمْوَاجِ. لأَنَّ ٱلرِّيحَ كَانَتْ مُضَادَّةً. وَفِي ٱلْهَزِيعِ ٱلرَّابِعِ مِنَ ٱللَّيْلِ مَضَى إِلَيْهِمْ يَسُوعُ مَاشِياً عَلَى ٱلْبَحْرِ. فَلَمَّا أَبْصَرَهُ ٱلتَّلامِيذُ مَاشِياً عَلَى ٱلْبَحْرِ ٱضْطَرَبُوا قَائِلِينَ: «إِنَّهُ خَيَالٌ». وَمِنَ ٱلْخَوْفِ صَرَخُوا! فَلِلْوَقْتِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لا تَخَافُوا». فَأَجَابَهُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ، فَمُرْنِي أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ عَلَى ٱلْمَاءِ». فَقَالَ: «تَعَالَ». فَنَزَلَ بُطْرُسُ مِنَ ٱلسَّفِينَةِ وَمَشَى عَلَى ٱلْمَاءِ لِيَأْتِيَ إِلَى يَسُوعَ. وَلٰكِنْ لَمَّا رَأَى ٱلرِّيحَ شَدِيدَةً خَافَ. وَإِذِ ٱبْتَدَأَ يَغْرَقُ صَرَخَ: «يَا رَبُّ نَجِّنِي». فَفِي ٱلْحَالِ مَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: «يَا قَلِيلَ ٱلإِيمَانِ، لِمَاذَا شَكَكْتَ؟» وَلَمَّا دَخَلا ٱلسَّفِينَةَ سَكَنَتِ ٱلرِّيحُ. وَٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: «بِٱلْحَقِيقَةِ أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ» (متى 14: 22-33).

كان المسيح يصلي على الجبل وحده في الليل، بينما كان تلاميذه في السفينة، عندما وقع اضطراب في البحيرة، إذ هاج البحر من ريح عظيمة. وكانت السفينة معذبة من الأمواج لأن الريح كانت مضادة، لم يكن التلاميذ قد نسوا ما عمله المسيح في النوء قبل هذا الوقت بنحو نصف سنة، ولكنه كان وقتها معهم في السفينة. أما الآن فيخيفهم غيابه - فهل ظنوا يا ترى أن الذي يشفي العليل بكلمة، وعن بُعْد، يستطيع أن يحفظ ويعطي السلامة عن بُعْد أيضاً؟

ظلوا يصارعون الأمواج إلى قرب الصباح، دون أن يتمكنوا من عبور البحيرة. وعرف المسيح بعذابهم وهو في مخدع الصلاة الهادئ على الجبل. وهو المحب الذي لا يريد عذابهم إلا بمقدار ما يؤول لخيرهم. فلما رأى اضطرابهم والخطر عليهم، نزل من الجبل ومشى على البحر الهائج معتلياً أمواجه في هبوطها وارتفاعها، كأنها اليابسة، وهو مسرع للإفراج منهم.

هذا هو الكلمة «الذي كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ» (يوحنا 1: 3) وقد وصفه بقوله: «ٱلْبَاسِطُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَحْدَهُ وَٱلْمَاشِي عَلَى أَعَالِي ٱلْبَحْرِ» (أيوب 9: 8). رفقاً بهم لم يتجه فوراً إلى السفينة لئلا يخيفهم، بل مرّ بقربهم كأنه يتجاوزهم. لا شك أنهم اعتادوا القصص الخرافية الدارجة في كل عصر، عن ظهور أشباح روحية مزعجة. والآن يشاهدون لأول مرة في حياتهم روحاً أو خيالاً، فصرخوا مرتعدين - لعلهم أرادوا أن يخيفوا هذا الخيال ليبتعد عنهم. ولكن أتى صدى صراخهم خلافاً لما انتظروا، لأن هذا الخيال أجابهم بصوت لا يُشتبه به، وبكلام مطمئن حبي قال: تشجعوا، أنا هو، لا تخافوا». ولا زال هذا الصوت الحنون المشجع يُسمع حينما يوجد مؤمن مضطرب من جراء هموم ومخاوف الحياة. ولا سيما متى كان انزعاجه نتيجة لثقل خطاياه ومخاوف الابتعاد الأبدي عن الله.

فلما اقترب المتكلم وعرفوه، تمنى بطرس الجسور أن يتشبّه بسيده في المشي على الماء، فصرخ: «يا سيد إن كنت أنت هو، فمُرْني أن آتي إليك على الماء». فهل يسمح له بما طلب، رغم قوله: «إن كنت أنت هو» خصوصاً بعد أن قال سيده: «أنا هو»؟ نعم، إذا كان بذلك يقدر أن يُري تلاميذه أن كل شيء مستطاع عند الله. فمتى شاء يمكّن الإنسان من فعل المستحيلات.

نجح بطرس في أول الأمر لأنه نزل من السفينة ومشى على الماء ليأتي إلى المسيح. لما كان فكره ونظره متجهيْن إلى المسيح لم يكن خائفاً، واستطاع أن يفعل المستحيل. لكن نجاحه أدّى إلى فشله، لأنه ابتدأ يفتكر بذاته ويفتخر بعمل لم يسبقه إليه أحد، فحوَّل فكره ونظره من المسيح إلى نفسه، فابتدأت الأمواج الهائجة ترعبه، وحالاً أخذ يغرق، ولم تفِدْه معرفته بالسباحة. وصار يحسد رفقاءه في السفينة، بعد أن كانوا هم يحسدونه لما مشى على الماء. صرخ: «يا رب نجني». ففي الحال مدّ المسيح يده وأمسك به ونشله. ثم وبخه بقوله: «يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟». فصحَّ فيه كلام داود النبي: «نَشَلَنِي مِنْ مِيَاهٍ كَثِيرَة» (مزمور 18: 16).

نجا بطرس من الغرق لأن المسيح أمسك به، لا هو بالمسيح. وهكذا نجاة الخاطئ عندما تكلُّ يداه وتغمض عيناه ويرتخي تمسكه بالمخلّص، فلا يرى أمامه إلا الهلاك. ولكن متى أدرك أن المخلص المقتدر الذي لا ينام يمسك به يحلُّ الرجاء عنده مكان اليأس.

لما ظن التلاميذ في السفينة أنهم رأوا خيالاً، صرخوا ليبعدُوه عنهم. أما الآن فقبلوا أن يدخل السفينة، فصعد إليهم وبمجرد دخوله إليها سكنت الريح وللوقت صارت السفينة إلى أرض جنيسارت، التي كانوا ذاهبين إليها. ويقول الإنجيل إن التلاميذ «لم يفهموا بالأرغفة، إذ كانت قلوبهم غليظة» فلما رأوا هذه المعجزة الثانية في اليوم الواحد بُهتوا وتعجبوا جداً - مع أن المسيح أسكت هذا البحر من أجلهم منذ بضعة أشهر. وحالما وصلوا إلى الشاطئ تقدموا وسجدوا له سجودهم الأول كجماعة قائلين: «بالحقيقة أنت ابن الله».

تعليم عن خبز الحياة

«وَفِي ٱلْغَدِ لَمَّا رَأَى ٱلْجَمْعُ ٱلَّذِينَ كَانُوا وَاقِفِينَ فِي عَبْرِ ٱلْبَحْرِ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ سَفِينَةٌ أُخْرَى سِوَى وَاحِدَةٍ، وَهِيَ تِلْكَ ٱلَّتِي دَخَلَهَا تَلامِيذُهُ، وَأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَدْخُلِ ٱلسَّفِينَةَ مَعَ تَلامِيذِهِ بَلْ مَضَى تَلامِيذُهُ وَحْدَهُمْ - غَيْرَ أَنَّهُ جَاءَتْ سُفُنٌ مِنْ طَبَرِيَّةَ إِلَى قُرْبِ ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي أَكَلُوا فِيهِ ٱلْخُبْزَ، إِذْ شَكَرَ ٱلرَّبُّ - فَلَمَّا رَأَى ٱلْجَمْعُ أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ هُوَ هُنَاكَ وَلا تَلامِيذُهُ، دَخَلُوا هُمْ أَيْضاً ٱلسُّفُنَ وَجَاءُوا إِلَى كَفْرِنَاحُومَ يَطْلُبُونَ يَسُوعَ. وَلَمَّا وَجَدُوهُ فِي عَبْرِ ٱلْبَحْرِ، قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، مَتَى صِرْتَ هُنَا؟» أَجَابَهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ، بَلْ لأَنَّكُمْ أَكَلْتُمْ مِنَ ٱلْخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ. اِعْمَلُوا لا لِلطَّعَامِ ٱلْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ ٱلْبَاقِي لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ ٱلَّذِي يُعْطِيكُمُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّ هٰذَا ٱللّٰهُ ٱلآبُ قَدْ خَتَمَهُ». فَقَالُوا لَهُ: «مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ ٱللّٰهِ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «هٰذَا هُوَ عَمَلُ ٱللّٰهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَهُ». فَقَالُوا لَهُ: «فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟ آبَاؤُنَا أَكَلُوا ٱلْمَنَّ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزاً مِنَ ٱلسَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا» (يوحنا 6: 22-31).

عند شقّ فجر اليوم التالي، ابتدأ الجمهور الذي كان ينتظر المسيح في عبر البحر يفتش عنه. كانوا يعرفون أنه لم يدخل السفينة مع تلاميذه، بل صعد إلى الجبل وحده - وأنه لم تكن سفينة أخرى هناك تقلُّه إلى الشاطئ الجليلي. فقضى هذا الجمهور ليلة في البرية عازماً على العودة إلى الأوطان بموكب يقوده هذا النبي المقتدر بعد أن يرجع صباحاً من الجبل.

ولما وجدوه قد سبقهم تعجبوا من كيفية وصوله قبلهم. أما المسيح المترفّع عن الغايات الذاتية، فلم يكترث باحتفائهم به، ولم يذكر لهم معجزة مشيه على الماء تفسيراً لحيرتهم. ولما سألوه: «يا معلم، متى صرت هنا؟» أجابهم: «الحق الحق أقول لكم، أنتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم الآيات، بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم». كأنه يقول: «أنتم تطلبونني، ليس لأجل التعليم الروحي، قوت النفس الباقي، بل لأجل طعام الجسد البائد، مع أني قادر ومستعد أن أعطيكم الطعام الباقي للحياة الأبدية، لأني كابن الإنسان مختومٌ من الله الآب لهذا العمل». لقد فتحوا له الباب ليقدم لهم خطاباً عن خبز الحياة، هو من أعظم أحاديثه.

الذي يهُّمنا بالدرجة الأولى ما يكشفه لنا هذا الخطاب عن حقيقة شخصية المسيح، فقد أشار فيه ست مرات إلى ضرورة أكل جسده وشرب دمه، وكرر ثلاث عشرة مرة أنه نزل من السماء، وصرّح اثنتي عشرة مرة أنه هو الذي يهب الحياة للمؤمنين به، لأن الله أرسله مخلِّصاً. ويقول أربع مرات إنه يقيم المؤمنين به من الموت في اليوم الأخير. ثم ينفرد عن البشر في تسميته الله «أبي». وقال إنه قد رأى الآب وإنه هو الوحيد الذي رآه. فكيف يقدر مجرد بشر أن ينطق بأقوال كهذه؟ بل ما كان أكذبها لو لفظها رجلٌ ليس إلا كأحد الأنبياء. فالأمر واضحٌ إذاً أن المسيح قصد أن يفهم سامعوه أنه ليس مجرد بشر. ولأنه فهيم ومستقيم، لا بد من تصديقه.

كان من أصعب الأمور على سامعي المسيح من اليهود أن يقبلوا كلامه عن أكل جسده وشرب دمه، فخاصم بعضهم بعضاً بسبب هذا الكلام. فقد كان محرماً عندهم أكل اللحم بدمه، فلا بد أنهم اشمأزوا من ذكر شُرب دمه أضعاف اشمئزازهم من ذكر أكل جسده، فحقَّ للذين لم يعترفوا بأصله السماوي أن يتذمروا من كلامه هذا إذ يحسبون أنهم يعرفون جيداً أصله وأهله، فأيُّ حقٍ له بهذه الأقوال؟

يصحُّ تشبيه المسيح بالخبز من وجوه شتى. لأن لا حياة إلا به. ولا حياة به إلا بعد سحقه، ولا حياة بعد سحقه إلا بتخصيصه للنفس بفعل الإيمان الذي يشبّهه هو بالأكل. لكن السامعين أخذوا كلام المسيح هذا بالمعنى الحرفي فعثروا بسببه. وامتدَّت هذه العثرة إلى كثيرين من تلاميذه أيضاً. ولا يزال إلى الآن جمهور غفير نظيرهم يتقيّدون بالمعنى الحرفي.

وقد أيَّد صدق مثاله بإشارته إلى حادث قادم عجيب جداً. إذ تنبأ لهم لأول مرة عن صعوده إلى السماء، الذي سوف يشاهده كثيرون من تلاميذه المؤمنين. فيكون لهم حينئذ أفضل برهان على أنه نزل من السماء، فلا يمكن أن يتكلم إلا بالصدق. ثم حذرهم من التفسير الحرفي بقوله: «الروح هو الذي يحيي. أما الجسد فلا يفيد شيئاً. الكلام الذي أكلّمكم به هو روح وحياة».

قال المسيح لتلاميذه إنه يعرف ما في قلوبهم، فيقدر أن يميّز المؤمنين الحقيقيين من غيرهم. ويعرف أن إيمان بعض تلاميذه سطحي، وأن واحداً منهم سيسلّمه، وأنه مطَّلع على ذلك من البدء. وأشار إلى الكفارة التي أتى ليقدّمها عن الخاطئ بقوله إنه يبذل جسده من أجل حياة العالم. فجاء هذا الخطاب كحدٍّ فاصل بين احتفاء جماهير الجليل به، والرفض والعدوان الذي ما زال يعلو ويتفاقم، إلى أن طما فوق رأسه، وأغرقه بتعليقه على الصليب.

من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء، ولم يعودوا يمشون معه. ولا يُستبعَد أن إيمان الاثني عشر تزعزع ولو قليلاً بسبب ارتداد هؤلاء، فاستحسن المسيح أن يفتح لهم باب الارتداد لكي يختاروا إمَّا أن يتركوه أو أن يجدّدوا التصاقهم به. لكن الاثني عشر أجابوه بفم بطرس سريعاً وصريحاً: «يا رب، إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك. ونحن قد آمنّا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي». فمع فرحه بجواب بطرس حزن الرسول الخائن يهوذا الإسخريوطي، فقال مشيراً إليه: «أليس أني اخترتكم وواحد منكم شيطان؟».

11 - طهارة القلب وطهارة الطقس

«حِينَئِذٍ جَاءَ إِلَى يَسُوعَ كَتَبَةٌ وَفَرِّيسِيُّونَ ٱلَّذِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: «لِمَاذَا يَتَعَدَّى تَلامِيذُكَ تَقْلِيدَ ٱلشُّيُوخِ، فَإِنَّهُمْ لا يَغْسِلُونَ أَيْدِيَهُمْ حِينَمَا يَأْكُلُونَ خُبْزاً؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ أَيْضاً، لِمَاذَا تَتَعَدَّوْنَ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ؟ فَإِنَّ ٱللّٰهَ أَوْصَى قَائِلاً: أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَمَنْ يَشْتِمْ أَباً أَوْ أُمّاً فَلْيَمُتْ مَوْتاً. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَقُولُونَ: مَنْ قَالَ لأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ: قُرْبَانٌ هُوَ ٱلَّذِي تَنْتَفِعُ بِهِ مِنِّي. فَلا يُكْرِمُ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ. فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ وَصِيَّةَ ٱللّٰهِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِكُمْ! يَا مُرَاؤُونَ! حَسَناً تَنَبَّأَ عَنْكُمْ إِشَعْيَاءُ قَائِلاً: يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هٰذَا ٱلشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُنِي بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيداً. وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا ٱلنَّاسِ». ثُمَّ دَعَا ٱلْجَمْعَ وَقَالَ لَهُمُ: «ٱسْمَعُوا وَٱفْهَمُوا. لَيْسَ مَا يَدْخُلُ ٱلْفَمَ يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ، بَلْ مَا يَخْرُجُ مِنَ ٱلْفَمِ هٰذَا يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ». حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ تَلامِيذُهُ وَقَالُوا لَهُ: «أَتَعْلَمُ أَنَّ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ لَمَّا سَمِعُوا ٱلْقَوْلَ نَفَرُوا؟» فَأَجَابَ: «كُلُّ غَرْسٍ لَمْ يَغْرِسْهُ أَبِي ٱلسَّمَاوِيُّ يُقْلَعُ. اُتْرُكُوهُمْ. هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ. وَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى يَسْقُطَانِ كِلاهُمَا فِي حُفْرَةٍ». فَقَالَ بُطْرُسُ لَهُ: «فَسِّرْ لَنَا هٰذَا ٱلْمَثَلَ». فَقَالَ يَسُوعُ: «هَلْ أَنْتُمْ أَيْضاً حَتَّى ٱلآنَ غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَلا تَفْهَمُونَ بَعْدُ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ ٱلْفَمَ يَمْضِي إِلَى ٱلْجَوْفِ وَيَنْدَفِعُ إِلَى ٱلْمَخْرَجِ، وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنَ ٱلْفَمِ فَمِنَ ٱلْقَلْبِ يَصْدُرُ، وَذَاكَ يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ، لأَنْ مِنَ ٱلْقَلْبِ تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ، زِنىً، فِسْقٌ، سِرْقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ. هٰذِهِ هِيَ ٱلَّتِي تُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ. وَأَمَّا ٱلأَكْلُ بِأَيْدٍ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ فَلا يُنَجِّسُ ٱلإِنْسَانَ» (متى 15: 1-20).

يتبادر إلى الذهن أن الحوادث الأخيرة شوّقت الرؤساء في أورشليم إلى رؤية المسيح، في هذا الفصح، لكي يجدوا عليه علّة لمحاكمته وإعدامه، لكن المسيح لم يصعد إلى هذا العيد. فلما خابت آمالهم أرسلوا بعض رجالهم ليراقبوه، حاسبين أنهم يتمكنون على الأقل من تحريك النفور في قلوب الشعب وكلامه وأفعاله.

لكن هذا الأمر لا يتم باتّهامه بأقل مخالفة للشريعة الإلهية، فلا سبيل لهم للوصول إلى غايتهم إلا فيما يختص بشرائعهم الإضافية، التي وضعها علماؤهم وتُسمى «تقليد الشيوخ».

اعتنى النظام الموسوي كثيراً بأمر النظافة لدواع صحية وأدبية وروحية، ليوجّه النظر إلى أهمية نظافة القلب الداخلية، بواسطة ما فيه من أوامر عن النظافة الجسدية. فلكي يعلّمهم عن تنجُّس النفس بالخطيئة، وضع الله نظاماً لليهود، من ضمنه أن التنجُّس الديني ينتج عن إهمال النظافة الخارجية. ونتج عن ذلك إفراز شعب الله الخاص عن الأمم من حولهم، لصيانتهم من اقتباس عادات الأمم السيئة، وعبادتهم الباطلة.

أما التقليديون فحوّلوا هذا النظام إلى نيرٍ ثقيل، إذ بنوا عليه اختراعاتهم السخيفة العديدة. فقد أفتى ربيُّهم الشهير «يوسي» أن خطيئة الأكل بأيدٍ غير مغسولة تعادل خطيئة الزنا. وقالوا إن من يهمل هذا الواجب يتسلط عليه شيطان يسمى «شيتا» ليلاً على فراشه. وقيل إن حاخامهم الشهير أكيبا سُجن مرة وكان يُعطي في سجنه مقداراً قانونياً من الماء يكفي بالكاد غسلاته وشربه. فلما أتاه السجان يوماً بما لا يكفي الاحتياجين ارتبك كثيراً. وأخيراً قرر أن يترك الشرب ليُتِمُّ الاغتسال قائلاً: «أفضِّل الموت على مخالفة سُنَّة أجدادي». وكان عليهم أن يجلبوا الماء اللازم للغسلات في أوانها، ولو عن بُعد ساعة ونصف.

ولا يمكن أن المسيح كمصلح ومعلم يجاري الرؤساء في هذه الأباطيل، كما أن شعوره الرقيق لا يسمح له أن يؤيد الحرم الكبير الذي كانوا يوقّعونه على من يهمل الغسلات المفروضة. فلما رفض الرضوخ لهذه الفرائض البشرية، عمل تلاميذه (أو بعضهم) مثله. ولاحظ المراقبون الذين حضروا من أورشليم هذه المخالفة فانتهزوا الفرصة لتعنيفه. فلما وجهوا سؤالهم إليه انتقاداً على تلاميذه - وهو يعلم نواياهم الخبيثة - أجابهم حالاً: «يا مراؤون».

لم يضرب المسيح على نوع من الشر بمقدار ما ضرب على شر الرياء. وقد وجّه إلى المرائين توبيخاته. والعالم اليوم في حاجة إلى مصلحين ينهجون سبيل المسيح في محاربة هذه الآفة المهلكة، وإلى مجتهدين في طرد هذا الشيطان الخبيث من الدوائر الدينية، لكي تتفق ظواهر أهل الدين تماماً مع بواطنهم. عندها يلبس الدين هيبة جديدة، ويتمجد الإله الذي من أسمى أسمائه «الحق».

نكاد لا نجد في كلام المسيح ما يجوز تسميته تهكُّماً، لأنه لم يستعمل المزح مطلقاً، لكنه في هذا الوقت قال للرؤساء تهكّماً: «حسناً رفضتم وصية الله لتحفظوا تقليدكم!» ونبههم على تشبُّثهم بالأمور الطفيفة، وتساهلهم بالأمور العظيمة، كالغسلات التي يفتكرون بها الآن. هي كالقذى في أعين تلاميذه أو كالبعوضة، لأنها فرائض بشرية ثانوية. وبينما يتشبّثون بها يجهلون الشرائع الإلهية الجوهرية، كالرحمة والحق التي شبّهها المسيح بالخشبة الكبيرة أو بالجمل. لذلك هم كمن يبلع الجمل ويصفّي عن البعوضة، أو الذي يطلب إخراج القذى من عين أخيه والخشبة في عينه.

ومع أن التلاميذ تشبّهوا بالمسيح في إهمال الغسلات المفروضة، لكنهم لم يفهموا المبدأ المُتَّبع في ذلك، فقالوا له: «أتعلم أن الفريسيين لما سمعوا القول نفروا؟». ولما تركوا الجمع ودخلوا البيت سألوه تفسير ما قاله، فوبخهم بقوله: «هل أنتم أيضاً حتى الآن غير فاهمين؟». لكنه أوضح لهم الأمر باختصار إذ قال: «كل ما يدخل فم الإنسان من خارج، لا يقدر أن ينجسه، وأما ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر، وذلك ينجس الإنسان. لأنه من داخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة: قتل زنى فسق سرقة خبث مكر عهارة عين شريرة شهادة زور تجديف كبرياء جهل. جميع هذه الشرور تخرج من الداخل. هذه هي التي تنجس الإنسان. وأما الأكل بأيدٍ غير مغسولة فلا تنجس الإنسان».

12 - المسيح يبشر الوثنيين

جاء المسيح مخلصاً للعالم كله، وكما قدَّم خدمته لبني إسرائيل قدم خدمته للوثنيين من الأمم، فاتجه إلى البلاد الفينيقية - وفي هذا جملة فوائد: فبانتقاله إلى بلاد أممية يحصل هو وتلاميذه على بعض الراحة الجسدية والعقلية، لأن الازدحام عليه يخفُّ بين أناس يجهله أكثرهم. وينال أيضاً غايته إذ يتفرغ لتعليم تلاميذه استعداداً لتركهم، فبرؤيتهم بلاداً جديدة تتّسع مداركهم، ويبتدئ فيهم الاستعداد لوصيته الوداعية أن «يتلمذوا جميع الأمم ويكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها» (متى 28: 18). وسيرون في هذه السياحة شاهداً جديداً على صدق نبوّته لما قال في مسامعهم: «يَأْتُونَ مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 8: 11). فيعلمهم بالمشاهدة أن الدين ليس بالإرث بل بالإيمان. لذلك انصرف معهم إلى نواحي صور وصيدا، أفضل وأشهر البلاد الفينيقية.

وهناك دخل المسيح بيتاً وهو لا يريد أن يعلم أحد، فلم يقدر أن يختفي. إذ كيف يمكن أن تختفي الرائحة الذكية التي كانت تفوح من شخصه الكريم؟ كان قد وصل إلى هذه الأصقاع شيء من أخبار محبته وقدرته، لأن بعض أهلها كانوا قد ذهبوا إليه سابقاً إلى كفر ناحوم. ويستحيل أن مسافراً مهوباً مثل المسيح يدخل قرية يرافقه تلاميذه إلا ويسأل الناس عن أمره. فسمعت به امرأة واقعة في مصيبة عظيمة، إذ كانت ابنتها مجنونة جداً، لأن بها روحاً نجساً.

إيمان المرأة الفينيقية

«ثُمَّ قَامَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، وَدَخَلَ بَيْتاً وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لا يَعْلَمَ أَحَدٌ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْتَفِيَ، لأَنَّ ٱمْرَأَةً كَانَ بِٱبْنَتِهَا رُوحٌ نَجِسٌ سَمِعَتْ بِهِ، فَأَتَتْ وَخَرَّتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ. وَكَانَتْ ٱلْمَرْأَةُ أُمَمِيَّةً، وَفِي جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً - فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُخْرِجَ ٱلشَّيْطَانَ مِنِ ٱبْنَتِهَا. وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهَا: «دَعِي ٱلْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ، لأَنَّهُ لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ ٱلْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلابِ». فَأَجَابَتْ وَقَالَتْ لَهُ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ! وَٱلْكِلابُ أَيْضاً تَحْتَ ٱلْمَائِدَةِ تَأْكُلُ مِنْ فُتَاتِ ٱلْبَنِينَ». فَقَالَ لَهَا: «لأَجْلِ هٰذِهِ ٱلْكَلِمَةِ ٱذْهَبِي. قَدْ خَرَجَ ٱلشَّيْطَانُ مِنِ ٱبْنَتِكِ». فَذَهَبَتْ إِلَى بَيْتِهَا وَوَجَدَتِ ٱلشَّيْطَانَ قَدْ خَرَجَ، وَٱلٱبْنَةَ مَطْرُوحَةً عَلَى ٱلْفِرَاشِ» (مرقس 7: 24-30).

كانت المرأة الفينيقية وشعبها يحتقرون اليهود، ولكنها سجدت عند قدمي المسيح، وصرخت باحترام قائلة: «يا سيد». ربما فهمت أنه أشرف عائلة عند اليهود، أو علمت أن مسيح اليهود يكون ابن داود، فظنت أنها تعظّمه وتسرُّه بمناداتها إياه: «يا سيد، يا ابن داود». لكن لو صَدَقَ ظنُّ اليهود عنه أنه ابن داود فقط، والمسيح الذي تصوروه، فلن ينفعها بشيء، لأنه يكون مخلصاً سياسياً عالمياً لا يبالي إلا باليهود، ويرفض جميع الأمم، عبدَة الأصنام نظيرها، لأنه يعتبرهم كالكلاب المكروهة المطرودة، فطلبت منه الرحمة. لكنها لم تقل: ارحم ابنتي بل «ارحمني». لأن ابنتها المجنونة لا تشعر ولا تهتم لمصيبتها. لكن الأمومة جعلت مصيبة الأم جسيمة جداً.

أكرمت المرأة الفينيقية المسيح وسجدت له، واستنجدت به بحرارة، لكنه لم يجبها بكلمة. وظهر أنه خرج من البيت متوجّهاً إلى مكان آخر، فتبعته مكررة صراخها وهو لا ينتبه إليها، لكنها لم تيأس. لعلها رأت فيه ما حقَّق لها على رغم سكوته أن صيته في الحنوّ ليس كاذباً، وأنها تحصل بواسطة اللجاجة على بركة منه. ولعل سكوته ناتج من اشتغال أفكاره في أمور أخرى أهم من أمرها. يكفي أنه لم يضجَرْ من صراخها ولم ينتهره. وتضايق التلاميذ من إلحاحها، فطلبوا من المسيح أن يعطيها طلبها، لكنه قال لهم: «لم أُرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة».

لكن كيف يخصص مخلص العالم ذاته لخراف بيت إسرائيل فقط؟ الجواب: أن المسيح قرر أن يبدأ خدمته بتبشير اليهود، لأن عندهم مواعيد الله. ولو خرج المسيح للكرازة بين الأمم، لرفض اليهود الإصغاء إليه. ولم يشأ أن يخدم اليهود والأمم معاً، لأن الفرصة ضيقة لا تكفي لتبشير اليهود والأمم أيضاً. كما أنه كان يدرب تلاميذه ليحملوا بشارته للجميع من يهود وأمم.

قيل حقاً إن الريح التي تطفئ الفتيلة، تزيد الحريق الكبير اضطراماً، فالصدمة التي تطفئ الإيمان الضعيف تزيد الإيمان القوي قوة. فنرى هذه المرأة تتقدم وتجدد استنجادها، كأن الرفض يزيد قوة إيمانها، فسجدت ثانية وصرخت: «أعنّي». كان مفعول هذه الكلمة الواحدة البسيطة الصادرة من قلب ملتهب، أعظم من كل الصلوات الفصيحة التي تقدمت في الهيكل العظيم في ذلك اليوم. أفلا يترأف الآن هذا السيد الصارم؟ ألا يكفي هذا القدر من احتراق قلبها؟ لأن هذا الرؤوف يريد أن يعطيها مجداً أعظم، بعد تزكية إيمانها بامتحان جديد أمرّ من الأول، إذ قال لها: دعي البنين أولاً يشبعون. ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب؟ ألا يشك من يقرأ هذا الجواب أنه من اختلاق وتزوير أحد مبغضي المسيح؟ أيحتمل أن يخرج كلامٌ كهذا من فم ذلك الذي أحب العالم بأسره كبيره مع صغيره، وأميره مع فقيره، صالحه مع شريره حتى بذل نفسه عنهم جميعاً؟

الإجابة: كلا! فقد أراد المسيح بهذه الكلمات أن يفتح عيني هذه السيدة إلى حقيقة روحية خفيت عنها. نظرت هذه المرأة إليه كابن داود. ومسيح اليهود وحدهم، وإذ ذاك لا نصيب لها مطلقاً في عطاياه وبركاته. ولا يقدر أن يجعل لها هذا النصيب إلا بعد أن تعرفه وتعترف به مسيحاً للأمم أيضاً. ففتح لها بجوابه القاسي باباً تصل منه إلى هذه المعرفة وهذا الاعتراف.

ففي تواضعها العظيم مع احتياجها الكبير، عادت تطالبه بإلحاح. ألم يقل لها: «دعي البنين أولاً يشبعون؟» إذاً الكلاب تأخذ دورها بعد البنين! فجعلت المسيح بوضعه إياها بين الكلاب، يعترف أن لها حقوقاً، لأن أب البنين حول المائدة، هو أيضاً رب الكلاب تحت المائدة. فإنْ كانت هي من الكلاب، فللكلاب أرباب، وهو إذاً ربها. ولها الفتات الفاضلة عن البنين.

في إيمانها هذا أعطت مثالاً يوضح شيئاً عن الإيمان. لو كان إيمانها الإيمان العقلي فقط - نظير إيمان كثيرين، لأقنعتها معاملة المسيح أن تتركه وأن لا نصيب لها عنده. لكن لأن إيمانها قلبي، نظر إلى وراء الظواهر، وتأكد أن المسيح لا يردّ طلب مستغيث ولو أجَّل الإغاثة، فإذا به يلبّي طلبها اللجوج بقوله: «يا امرأة، عظيم إيمانك. ليكن لك كما تريدين. ولأجل هذه الكلمة اذهبي. قد خرج الشيطان من ابنتك». هذا المسيح العظيم الذي لم يرضخ البتة في كل مناقشاته مع فلاسفة اليهود بل كان يلجمهم بأجوبته السديدة، ويريهم بُعدهم عن ملكوت الله، يتنازل الآن ويرضخ بحِلْم عجيب لهذه المسكينة في احتياجها إليه، ويبيّن قُربها لهذا الملكوت.

فائدة للتلاميذ

نلاحظ أيضاً أن التلاميذ حصلوا على نتيجة في هذا الإمتحان، لأنهم رأوا أمامهم مثالاً لخراف هذا الراعي العظيم، التي ليست من الحظيرة اليهودية (يوحنا 10: 16) بعضها يفوق الخراف اليهودية في المواهب الروحية. قد تعوّدوا أن يسمعوا من المسيح تأنيباً بقوله لهم مراراً: «يا قليلي الإيمان». ولما كاد بطرس يغرق وبّخه قائلاً: «يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟». فأيُّ خجل يغمرهم جميعاً إذ سمعوا سيدهم يقول مبتهجاً لهذه الوثنية المعدومة الوسائط الدينية: «عظيم إيمانك. ليكن لك كما تريدين!»

استجابة الصلاة

ويرينا هذا الحادث أن استجابة الصلاة لا تتوقف على مقام الطالب كما يتوهم كثيرون، بل على روحه في الطلب. ظهر هذا لما أتى للمسيح يوماً تلميذاه الممتازان يعقوب ويوحنا الحبيب مع والدتهما، التي كانت ترافقهم وتخدمهم من مالها، وطلبوا منه شيئاً، فلم يسمع لهما، أما الآن فاستجاب لهذه الفينيقية الغريبة العديمة المقام. قد رأينا فيما سبق تلاميذ كثيرين في وطن المسيح يرتدُّون عنه. لكن تلك الخسارة - وإن كان ظاهرها عظيماً - لا توازي ربحه هذه النفس النادرة المثال، التي انضمَّت إليه في القرية الوثنية، في نواحي صور وصيداء.

كرازة في المدن العشر

«ثُمَّ خَرَجَ أَيْضاً مِنْ تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، وَجَاءَ إِلَى بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ فِي وَسْطِ حُدُودِ ٱلْمُدُنِ ٱلْعَشْرِ» (مرقس 7: 31).

ثم سافر المسيح من جهات صور وصيداء شرقاً إلى مقاطعة ديكابوليس (أي العشر المدن)، في الجولان. وكانت هذه البلاد عظيمة بالتمدُّن اليوناني، وتجارتها الواسعة. ولم تكن تابعة لحكم هيرودس أنتيباس وسلطته الجائرة، كما كانت بعيدة عن سلطة رؤساء اليهود التي هي أشدُّ خطراً على المسيح. وكان قد قضى قبلاً في هذه المقاطعة ساعات قليلة عندما أخرج الشيطان من «لجئون». وعلى ما نرى أن عمل هذا الرجل أثّر في تلك المقاطعة، حتى لما جاء المسيح وصعد إلى جبل وجلس، جاء إليه جموع كثيرة مع عُرج وعُمي ومشلولين وخُرس وآخرون كثيرون وطرحوهم عند قدمي المسيح فشفاهم.

شفاء الأصم الأعقد

«وَجَاءُوا إِلَيْهِ بِأَصَمَّ أَعْقَدَ، وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ. فَأَخَذَهُ مِنْ بَيْنِ ٱلْجَمْعِ عَلَى نَاحِيَةٍ، وَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَتَفَلَ وَلَمَسَ لِسَانَهُ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ وَأَنَّ وَقَالَ لَهُ: «إِفَّثَا». أَيِ ٱنْفَتِحْ. وَلِلْوَقْتِ ٱنْفَتَحَتْ أُذْنَاهُ، وَٱنْحَلَّ رِبَاطُ لِسَانِهِ، وَتَكَلَّمَ مُسْتَقِيماً. فَأَوْصَاهُمْ أَنْ لا يَقُولُوا لأَحَدٍ. وَلٰكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا أَوْصَاهُمْ كَانُوا يُنَادُونَ أَكْثَرَ كَثِيراً. وَبُهِتُوا إِلَى ٱلْغَايَةِ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ عَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَناً! جَعَلَ ٱلصُّمَّ يَسْمَعُونَ وَٱلْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ» (مرقس 7: 32-37).

ورد بتفصيل من بين حوادث الشفاء في صور وصيدا حادث شفاء أصم أعقد جاءوا به محمولاً، إمَّا لعجزهم عن إفهامه ما يقصدونه له، أو لكونه مختل العقل أو معتل الجسم. فهذا الأصم الأعقد لم يسمع كغيره من المسيح ولا عنه، فقصد المسيح أن يحرك فيه عاطفة الإيمان الضرورية في كل عليل يشفيه. ولكي يكلمه كلاماً روحياً انفرد به عن الجمع، ثم وضع أصابعه في أذنيه كأنه يفتح فيهما باباً للسمع. وتفل ولمس لسانه. بهذه الحركات البسيطة أحيا فيه إيماناً جديداً، وأيّد مبدأ استعمال كل ما يمكن من الوسائط الملائمة.

بقي عليه تحويل أفكار هذا المسكين إلى الإله مصدر كل الخيرات، ليعلم مِنْ حيث يأتي عونه. فرفع يسوع نظره نحو السماء (مظهراً بذلك تعلُّقه الكامل بالآب) و «أنَّ» - لعله جمع في أنّته أنين الخلق أجمع، ورفع شاكياً مصائبهم التي لا تُحصى إلى الآب السماوي، طالباً منه الرحمة لجميع المصابين بالعلل الجسدية، لأنه هو الذي قيل عنه «فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ» (إشعياء 63: 9). ثم أمر العليل بلغته الأرامية قائلاً: «إفّثا» أي «انفتح» فانحلَّ رباط لسانه وتكلم مستقيماً. فتمَّ قول النبي «آذَانُ ٱلصُّمِّ تَتَفَتَّحُ» (إشعياء 35: 5).

كانت مناظر الشفاء جديدة عند أكثر هذا الجمهور، وعرفوا أن المسيح من بني إسرائيل وليس وثنياً نظيرهم. وأن آلهتهم التي كانوا يفتخرون بها ويتكلون عليها لا تستطيع شيئاً من هذا الذي كان المسيح يصنعه. فلذلك عندما «تعجبوا وبُهتوا للغاية» صاروا يمجدون المسيح قائلين: «إنه عمل كل شيء حسناً». وهذه الشهادة إنه يعمل كل شيء حسناً يقدمها الملايين من الناس الذين على توالي الأجيال والقرون، يأتون إليه ويتخذونه لأنفسهم المخلص والمدبّر في حياتهم اليومية.

إطعام أربعة آلاف وثني

«فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ إِذْ كَانَ ٱلْجَمْعُ كَثِيراً جِدّاً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ، دَعَا يَسُوعُ تَلامِيذَهُ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى ٱلْجَمْعِ، لأَنَّ ٱلآنَ لَهُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ يَمْكُثُونَ مَعِي وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ. وَإِنْ صَرَفْتُهُمْ إِلَى بُيُوتِهِمْ صَائِمِينَ يُخَوِّرُونَ فِي ٱلطَّرِيقِ، لأَنَّ قَوْماً مِنْهُمْ جَاءُوا مِنْ بَعِيدٍ». فَأَجَابَهُ تَلامِيذُهُ: «مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هٰؤُلاءِ خُبْزاً هُنَا فِي ٱلْبَرِّيَّةِ؟» فَسَأَلَهُمْ: «كَمْ عِنْدَكُمْ مِنَ ٱلْخُبْزِ؟» فَقَالُوا: «سَبْعَةٌ». فَأَمَرَ ٱلْجَمْعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلَى ٱلأَرْضِ، وَأَخَذَ ٱلسَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَشَكَرَ وَكَسَرَ وَأَعْطَى تَلامِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا، فَقَدَّمُوا إِلَى ٱلْجَمْعِ. وَكَانَ مَعَهُمْ قَلِيلٌ مِنْ صِغَارِ ٱلسَّمَكِ، فَبَارَكَ وَقَالَ أَنْ يُقَدِّمُوا هٰذِهِ أَيْضاً. فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا، ثُمَّ رَفَعُوا فَضَلاتِ ٱلْكِسَرِ: سَبْعَةَ سِلالٍ. وَكَانَ ٱلآكِلُونَ نَحْوَ أَرْبَعَةِ آلافٍ. ثُمَّ صَرَفَهُمْ» (مرقس 8: 1-9).

أجرى المسيح معجزة إشباع خمسة آلاف نفس في الجليل - وأجرى معجزة أخرى لإشباع أربعة آلاف نفس في دائرة ديكابوليس أي (المدن العشر) وهي من البلاد الوثنية.

اجتمع الناس هناك من حول المسيح في البرية، وطال اجتماعهم به ثلاثة أيام حتى نفد الزاد، لأن قوماً جاءوا من بعيد. فحمله إشفاقه على تكرار إشباع الجمهور بمعجزة. وإشفاق المسيح هذا يرافق كل فرد من البشر من مهده إلى لحده. كان كلامه الحنون: «لست أريد أن أصرفهم إلى بيوتهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق». لا يسعنا إلا أن نستغرب تكرار التلاميذ اعتذارهم بالعجز في صيف ذات السنة التي في ربيعها أشبع المسيح جَمْعاً أكثر بشيء زهيد من الطعام. غير أن المسيح بكّتهم بعد قليل على نسيان المعجزتين معاً وعدم استفادتهم منهما. فالشكوك الحاضرة تولّد نسيان المراحم الماضية.

شفاء أعمى وثني

«وَجَاءَ إِلَى بَيْتِ صَيْدَا، فَقَدَّمُوا إِلَيْهِ أَعْمَى وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسَهُ، فَأَخَذَ بِيَدِ ٱلأَعْمَى وَأَخْرَجَهُ إِلَى خَارِجِ ٱلْقَرْيَةِ، وَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ هَلْ أَبْصَرَ شَيْئاً؟ فَتَطَلَّعَ وَقَالَ: «أُبْصِرُ ٱلنَّاسَ كَأَشْجَارٍ يَمْشُونَ». ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ أَيْضاً عَلَى عَيْنَيْهِ، وَجَعَلَهُ يَتَطَلَّعُ. فَعَادَ صَحِيحاً وَأَبْصَرَ كُلَّ إِنْسَانٍ جَلِيّاً. فَأَرْسَلَهُ إِلَى بَيْتِهِ قَائِلاً: «لا تَدْخُلِ ٱلْقَرْيَةَ، وَلا تَقُلْ لأَحَدٍ فِي ٱلْقَرْيَةِ» (مرقس 8: 22-26).

زادت هذه المعجزة في انتشار شهرة المسيح في هذه البلاد الجديدة، فاضطر أن يغادرها تخلّصاً من الازدحام، فدخل السفينة مع تلاميذه وجاء إلى تخوم مجدل ودلمانوثة المجاورة لها. ولما وصل إلى بيت صيدا يولياس، على جانب البحيرة الشرقي، حيث أشبع الخمسة الآلاف، أتوه بأعمى ليشفيه باللمس، فلم يقبل أن يعيّنوا له أسلوب الشفاء. لكنه استجاب طلبهم وشفاه على الأسلوب الذي استحسنه هو. أخرجه إلى خارج القرية، وبينما كان الأعمى ينتظر متحيّراً ماذا يفعل المسيح أو ماذا يطلب منه، تفل المسيح في عينيه ووضع على كل عين يداً، فأبصر الناس كأشجار يمشون - أي أتاه البصر على قدر إيمانه - ولما زاد إيمانه بعد البصر القليل كرر المسيح وضع يديه على عينيه، فأتاه البصر الكامل. وبذلك مثَّل الذين يستنيرون تدريجياً في الأمور الروحية. فإن استعملوا النور القليل الذي لهم، تكون النتيجة ازدياد النور «فَإِنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَيُزَادُ» (متى 13: 12).

مسابقة الكتاب

عزيزي القارئ،

إن أرسلت إلينا إجابة صحيحة على عشرين سؤالاً من الأسئلة الخمسة والعشرين التالية، نرسل لك كتاباً جائزة من كتبنا المختلفة. نرجو أن ترسل مع الإجابة اسمك وعنوانك واضحين لنرسل لك الجائزة.

  1. ماذا كانت إجابة المسيح على شكوك يوحنا المعمدان؟

  2. لماذا قبل المسيح دعوة سمعان الفريسي؟

  3. لماذا أحبت المرأة الخاطئة المسيح كثيراً؟

  4. لماذا يعتبر الفاترون أن الغيرة في الدين جنوناً؟

  5. من هم إخوة المسيح الحقيقيون؟

  6. اذكر برهاناً قدمه المسيح على أنه لا يخرج الشياطين بقوة رئيس الشياطين.

  7. ما هو الفرق بين قوة المسيح وقوة الشيطان؟

  8. اكمل الآية الآتية: «هلم نتحاجج يقول الرب: - » (إشعياء 1: 18).

  9. لماذا لا يغفر الله خطية التجديف على الروح القدس؟

  10. في آية يونان النبي إشارة إلى المسيح - ما هي؟

  11. اذكر الأنواع الأربعة للأرض التي يقع عليها البذار، كما ذكرها المسيح في مثل الزارع.

  12. اذكر صفتين لحبة الخردل موجودتين في ملكوت السماوات.

  13. اذكر شبهاً بين عمل ملكوت السماوت وعمل الخميرة.

  14. ماذا نتعلم من مثل اللؤلؤة الحسنة كما ذكره المسيح في متى 13: 45 ، 46؟

  15. اذكر آية من المزامير توضح سلطان المسيح على الطبيعة.

  16. عاصفتان ونوءان هاجما تلاميذ المسيح على البحيرة - ما هما؟

  17. لماذا طلب أصحاب الخنازير من المسيح أن يذهب بعيداً عن بلدهم؟

  18. لماذا لم تطلب نازفة الدم من المسيح أن يشفيها، ولماذا لمست هدب ثوبه؟

  19. ما هي الشروط الأربعة لنوال البركات من المسيح؟

  20. ما معنى أن المسيح لم يُلقِ سلاماً بل سيفاً؟

  21. لماذا طلب المسيح من تلاميذه أن يعطوا الجمع ليأكلوا، وهو يعلم أن ليس عندهم طعام؟

  22. ماذا نتعلم من شكر المسيح على الأرغفة والسمكتين؟

  23. لماذا استطاع بطرس أن يمشي على الماء؟

  24. ما هي أوجه الشبه بين المسيح والخبز؟ - اذكر ثلاثة.

  25. لماذا قال المسيح للمرأة الفينيقية: «ليس جيداً أن يُؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب»؟

ارسل الإجابة فقط بدون تعليقات أخرى لئلا تُهمل، ونحن بانتظار إجابتك.

  
Call of Hope  
P.O.Box 100 827  
D-70007  
Stuttgart  
Germany