العودة الى الصفحة السابقة
النبي داود وابنه سليمان الحكيم

النبي داود وابنه سليمان الحكيم

الدكتور القس . منيس عبد النور


Bibliography

النبي داود وابنه سليمان الحكيم. الدكتور القس . منيس عبد النور. Copyright © 2005 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . 1990. SPB 7150 ARA. English title: David and Solomon. German title: David und Salomo. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 70007 Stuttgart Germany http: //www.call-of-hope.com .

النبي داود

هذا الكتاب.....

نتأمل في هذا الكتاب حياة رجلين عظيمين من رجال الله الذين ذكرتهم التوراة: النبي داود وابنه سليمان الحكيم.

لقد كان داود ثاني ملك على بني إسرائيل بعد شاول، الملك الاول - كما تولى المُلك بعده ولده سليمان. وقد شهد الكتاب المقدس أن الله قال عنه: «وَجَدْتُ دَاوُدَ بْنَ يَسَّى رَجُلاً حَسَبَ قَلْبِي، ٱلَّذِي سَيَصْنَعُ كُلَّ مَشِيئَتِي» (أعمال 13: 22). ويكفي داود فخراً أن السيد المسيح دُعي «ابن داود».

أما سليمان فقد كان إمام الحكماء، وهو الذي بنى لله الهيكل العظيم، أول بناء ثابت في تاريخ بني إسرائيل. وقد دُعي «الجامعة» لأنه جمع أقوال المعرفة والحكمة.

ونحن نرجو للقارئ الكريم أن يجد كل فائدة لقلبه وعقله، وهو يدرس حياة هذين الرجلين العظيمين.


الدكتور القس 
منيس
عبد النور 

النبي داود

الفصل الأول: الله يختار داود

في هذا الكتاب سنتأمل أولاً حياة نبي الله داود صاحب المزامير، الذي كان في مطلع حياته يرعى الأغنام، وكان مستعداً أن يبذل نفسه في سبيل خرافه. وفي صدر حياته لاقى التعب والعناء من مطاردة الملك شاول له، بعد أن غنّت بنات إسرائيل أن شاول قتل ألوفه، بينما قتل داود عشرات ألوفه. وفي بقية حياته مَلك على بني إسرائيل ونظّم دولتهم، كقائد سياسي وديني، يعلّم الشعب طريق الرب.

وداود هو المرنم الذي نرتل مزاميره التي تملأ قلوبنا بالبهجة والعزاء، لأننا نعلم أن الله هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد، فكما تعامل مع داود يتعامل معنا ليبارك حياتنا.

ولا يوجد شخص آخر في التوراة يحمل اسم داود، إلا داود صاحب المزامير الذي نتحدث عنه في هذا الكتاب. ومعنى اسمه «المحبوب من الله».

عائلة داود:

داود هو ابن يسى. ويقول التقليد اليهودي إن يسى كان رجلاً تقياً، ينسج السجاد الذي يفرشون به بيت الله، وكان يملك قطعة أرض صغيرة، كما كان يملك بعض الأغنام القليلة التي كان يرعاها له ابنه داود. لم يكن يسى غنياً ويظهر هذا من بساطة الهدية التي أرسلها لأولاده عندما كانوا يحاربون جليات الجبار، ومن قول أولاده عن أغنامهم إنها «غنيمات قليلة». ولا نعرف شيئاً عن أم داود، غير أنه ذكرها في المزامير مرتين، فقال في المزمور 86: 16: «أَعْطِ عَبْدَكَ قُوَّتَكَ وَخَلِّصِ ٱبْنَ أَمَتِكَ». وفي المزمور المئة والسادس عشر يقول: «يَا رَبُّ. إَنِّي عَبْدُكَ. ٱبْنُ أَمَتِكَ». (مزمور 116: 16) وفي هاتين الآيتين يصف داود أمه بأنها «أَمَة الرب» - كما قالت مريم العذراء عن نفسها إنها «أَمَة الرب» بمعنى خادمة الرب (لوقا 1: 38).

وكان لداود سبعة إخوة وأختان، وهو أصغر إخوته الأولاد، فكان قريباً في العمر من أولاد أخته التي كان اسمها «صروية» فأخذ من أولاد أخته مساعدين له في المملكة.

ولا بد أن إيمان هذه الأسرة كان ذا تأثير كبير على حياة داود. لقد أرضعت الأم ولدها الإيمان والحب للرب، وهكذا كل أم مؤمنة تكون بركة لنفسها ولكل أولادها، لأن الأم التقية تُرضع أولادها لبن الإيمان العديم الغش مع لبن الرضاعة.

كان داود محبوباً من الرب ومحبوباً من أمه وأبيه. ولكن إخوته كانوا يغارون منه، ولم يكونوا متعاطفين معه. وقد ظهرت خشونتهم معه في مرات كثيرة. ولكن داود كان كريماً معهم وكان محباً لهم، كما كان يوسف الصديق كريماً ومحباً لإخوته مع أنهم حسدوه وباعوه عبداً في مصر.

مكان ولادة داود:

وُلد نبيّ الله داود في بيت لحم، التي أُطلق عليها فيما بعد اسم «مدينة داود» تكريماً له ولها، بسبب ولادته فيها. وبيت لحم معناها «بيت الخبز» ويرجع هذا الاسم إلى أن المدينة الصغيرة كانت تقع فوق تل تحته وادٍ خصيب ينبتُ فيه القمح، الذي يصنعون منه الخبز، ولذلك صار اسمها بيت لحم أي «بيت الخبز». هي تقع على مسافة ثمانية كيلو مترات من أورشليم. وهي أهم مدن فلسطين في التاريخ المقدس، فمع أنها صغيرة، جرت فيها قصة زواج بوعز من راعوث التي نجدها في سفر راعوث في التوراة. وفيها نشأ داود. وفوق هذا كله ففي بيت لحم وُلد السيد المسيح الذي جاءنا مولوداً في مذود. وفوق سهول بيت لحم رنَّت ترنيمات الملائكة: «ٱلْمَجْدُ لِلّٰهِ فِي ٱلأَعَالِي، وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ» (لوقا 2: 14).

الله يكلم صموئيل عن داود:

داود هو الملك الثاني لبني إسرائيل. أما الملك الأول فكان شاول. وكان في المملكة قائد عظيم اسمه صموئيل، كان قاضياً للشعب كما كان كاهناً ونبياً للرب. وبدأ الملك شاول بدايةً طيبة، لكنه انحرف وعصى الرب ولم يطعه، وكانت النتيجة أن الله رفض شاول من المُلك. وحزن صموئيل النبي على شاول وبكى عليه، ولكن المملكة دوماً أهم من الملك، وعمل الرب دوماً أهم من الشخص الذي يعمله. لذلك قال الله لصموئيل: «حَتَّى مَتَى تَنُوحُ عَلَى شَاوُلَ، وَأَنَا قَدْ رَفَضْتُهُ عَنْ أَنْ يَمْلِكَ عَلَى إِسْرَائِيلَ؟ اِمْلأْ قَرْنَكَ دُهْناً وَتَعَالَ أُرْسِلْكَ إِلَى يَسَّى ٱلْبَيْتَلَحْمِيِّ، لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ لِي فِي بَنِيهِ مَلِكاً» (1صموئيل 16: 1-13). أما قرن الدهن فهو الوعاء الذي يضعون فيه الدُهن الخاص، الذي يمسحون به الكهنة والملوك، علامة اختيار الله لهم. وهذا الدُّهن ذو رائحة طيبة. وأمر الرب صموئيل أن يذهب إلى بيت لحم ليقدم ذبيحة للرب، فأخذ صموئيل عِجْلة من البقر، وسار نحو بيت لحم وهو لا يعلم من يكون الملك الجديد، لكنه كان يعرف أن الرب سيعلن له من يكون ذلك الملك.

وما أن وصل صموئيل إلى بيت لحم حتى اجتمع حوله شيوخ المدينة، فقال لهم: «سلام. جئت لأذبح للرب. تقدسوا وتعالوا معي إلى الذبيحة». واهتم صموئيل بأهل بيت يسى والد داود، وطلب أن يستعدوا استعداداً خاصاً، وربما نزل صموئيل ضيفاً عندهم. وكان الله قد قال لصموئيل إن الذي يمسحه ملكاً هو أحد أولاد يسى، ولذلك طلب أن يرى كل أولاد يسى، فجاء يسى ومعه كل أولاده، ما عدا داود الصغير. ورأى صموئيل النبي ابن يسى الأكبر واسمه أليآب، وكان طويل القامة وحسن المنظر، فظنّ صموئيل أن أليآب هو الشخص الذي يطلبه الرب ليكون ملكاً. ولكن الرب كان يقصد شخصاً آخر، فقال الرب لصموئيل: «لا تنظر إلى المظهر لأن الإنسان ينظر إلى العينين، وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب».

هذه الكلمات تعلمنا درساً عظيماً. إن الله لا تهمه المظاهر الخارجية، لكنه يهتم كثيراً بحالة القلب الداخلية. فلتكن حالة قلوبنا موضع اهتمامنا، ولنعتنِ بأن يكون لنا القلب النقي، كما قال السيد المسيح: «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ ٱلْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ ٱللّٰهَ» (متى 5: 8).

وجاء يسى بالابن الثاني واسمه أبيناداب ولكن الربَّ لم يقبله. وجاء بالابن الثالث واسمه شمَّة ولكن الرب لم يقبله. فجاء يسى بالأبناء الرابع والخامس والسادس والسابع، ولم يقبل الرب أحداً منهم. فقال صموئيل ليسى: «ٱلرَّبُّ لَمْ يَخْتَرْ هٰؤُلاَءِ». وفي حيرة تساءل صموئيل: «هَلْ كَمُلَ ٱلْغِلْمَانُ؟» فأجاب يسى: «بَقِيَ بَعْدُ ٱلصَّغِيرُ وَهُوَذَا يَرْعَى ٱلْغَنَمَ». فَقَالَ صَمُوئِيلُ لِيَسَّى: «أَرْسِلْ وَأْتِ بِهِ، لأَنَّنَا لاَ نَجْلِسُ حَتَّى يَأْتِيَ إِلَى هٰهُنَا» (1صموئيل 16: 11). فأرسل يسى رسولاً يدعو داود للحضور، فترك داود أغنامه في رعاية الرسول الذي أرسله أبوه، وأسرع ليقابل صموئيل رجل الله، وهو لا يعرف سبب تلك الدعوة المفاجئة.

صموئيل يمسح داود:

كان صموئيل نبي الله ينتظر دون أن يأكل، إلى أن وصل داود، الذي تصفه التوراة لنا بالقول: »كَانَ داود أَشْقَرَ مَعَ حَلاَوَةِ ٱلْعَيْنَيْنِ وَحَسَنَ ٱلْمَنْظَرِ» (1صموئيل 16: 12) وهنا أمر الرب صموئيل أن يمسح داود بالدهن المقدس، لأنه هو الملك القادم. وكان المَسح بالدهن رمزاً لتخصيص الإنسان لخدمة الله.

ولا زال الله يفتش عن أوانٍ بشرية لتعمل عمله، ولقد طلب داود ليعمل إرادته. فهل يجدك أنت مستعداً أن تعمل إرادته وتقوم بخدمته؟ استراح قلب صموئيل وهو يجد الشخص الذي اختاره الله، فأخذ قرن الدهن ومسح داود في وسط إخوته، وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعداً. وكما كانت الأرض خربة وخالية، فصارت فيها الحياة عندما رف روح الله على وجه المياه، هكذا أعطى روح الله داود قوة جسدية وعقلية وروحية جديدة، فصارت لداود معرفة الرب وامتلأ بالغيرة على عمل الله، واستعد لدعوة الله العليا له. وكما حل روح الله على داود يمكن أن يحل عليك ويملأك لتقوم بخدمة الرب ولتعمل عمله، فأدعوك أن تسلم حياتك للرب تسليماً كاملاً. لا تحتفظ بشيء لنفسك، ولا تسمح لشيء خاطئ أن يتواجد في قلبك. عليك أن تطلب من الله أن يطهرك وينقي حياتك، فلا يبقى فيها ما يعطل امتلاءك من الروح القدس. اجعل الرب صاحب السلطان الكامل عليك. اعزم أن تطيعه في كل ما يقوله لك، وعند هذا ستمتلئ من روح الرب.

الله يختارك أنت:

اختار الرب الغلام الصغير الذي كان يرعى الأغنام ليصبح قائداً لبني إسرائيل. اختاره صغيراً ليجهزه لهذه الخدمة الكبيرة. وأرجو أن نتذكر كيف يختار الله الناس ليخدموه. إن الله ينظر إلى قلوب البشر، ولا تهمه المظاهر لأنه يريد القلب والجوهر. لعن المسيح شجرة التين التي كانت مورقة دون أن تحمل ثمراً (مرقس 11: 11-14). وهو يريدنا أن نكون مثمرين، نقدم للناس من حولنا ثمراً صالحاً يشبعهم ويفيدهم، لا بالكلام ولا باللسان لكن بالعمل والحق.

ونلاحظ أن حكم الله علينا يختلف عن حكم البشر علينا. كان صموئيل يظن أن أليآب الابن الأكبر ليسى هو الشخص الذي اختاره الله ليكون ملكاً. ولكن الله رأى أن داود هو الأصلح. وقد اختار الله داود لأنه رأى قلبه الصالح.

تأكد أن الله يعرف حالة قلبك ويريد أن يعطيك القلب النقي، ويسعدك بأن يغير حياتك. ادعُ الله أن يدخل قلبك ليجعل منك إناءً صالحاً لخدمته، وآلة مقدسة لطاعته وتنفيذ مشيئته.

الله يجهِّز البطل:

كان الله يجهز داود وهو يرعى غنمه في البرية. قال بعض المفسرين إن داود كان في الخامسة عشرة من عمره عندما مسحه صموئيل النبي. وقال آخرون إن عمره كان عشرين سنة. ولا نعلم بالضبط كم كان عمره، ولكننا نعلم أن الله كان يجهزه ليصير ملكاً. في الجو الجميل كان جسد داود يتقوى. في رعاية الغنم كان يستعمل السلاح، فيضرب الحجارة بمقلاعه ويصيب هدفه، وكان يسهر ليحمي أغنامه من اللصوص والوحوش. ولقد جهزه هذا ليرعى الشعب بعد ذلك بنفس الحب والحنان. ولقد علمته رعاية الأغنام كيف أن الله المحب هو الراعي الصالح، فكما يعتني بأغنامه يعتني الله بشعبه. وعندما كان يغني للغنم تعلم أن يعزف على العود، وهو يُنشد القصائد الموسيقية. وعندما كان يجلس مع أغنامه وحيداً، كان يتأمل صلاح الله ومحبته. وفي الليل عندما كان يسهر لحراسة غنمه كانت النجوم فوقه تحكي عن عظمة الله، فكتب بعد ذلك مزموره الذي قال فيه: «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (مزمور 19: 1). لقد كانت النجوم تحكي له عن محبة الله، فقال في مزموره الثامن: «إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ، ٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ ٱلَّتِي كَوَّنْتَهَا، فَمَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَٱبْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ» (مزمور 8: 3 و4).

لم تكن سنوات حياة داود الأولى سنوات غير مجدية ولكنها كانت سنوات التجهيز فقد كان الله يجهزه ليخدمه بعد ذلك.

عزيزي القارئ، قد تشعر أن حياتك بلا معنى، وأن السنوات التي تحياها الآن بغير قيمة. لكن لو أنك وضعت نفسك بين يدي الله وسلمت حياتك له، أؤكد لك أن هذه السنوات ستكون ذات قيمة، لأن الله يجهزك أثناءها لتخدمه ولتعمل مشيئته. إن الله يضع برنامجاً عظيماً لحياة الإنسان الذي يفتح قلبه لنعمة المسيح، فأدعوك أن تفعل ذلك.

داود نقي القلب:

عندما جاء صموئيل النبي ليمسح داود ملكاً لبني إسرائيل، تقول التوراة: «إن يسى قدَّس أولاده السبعة حتى يأتوا إلى الذبيحة». أما داود فقد كان مستعداً دائماً. عندما جاء رجل ا لله للعبادة لم يكن داود محتاجاً للاغتسال أو التطهير. كانت حياته طاهرة، وكان قلبه دوماً للرب.

ونحن الآن ندعوك أن تنزع من قلبك الخصام. تصالح مع جارك، انزع من قلبك كل شكوى. كن شاكراً على كل شيء، مستعداً أن تتقابل مع الله في أية لحظة. إن أصحاب القلب النقي يستطيعون أن يكلموا الله دائماً، ليس بينهم وبينه حاجز، لأنهم يحبونه من كل قلوبهم، حباً يجعلهم مستعدين دوماً أن يخاطبوه وأن يتقَّربوا إليه في غير خوف.

الله يدرِّب داود:

كان الله يجهّز عبده داود ليملك على بني إسرائيل، فعلَّمه عن عظمته وعن محبته. ودربه تدريباً كافياً ليجعل منه ملكاً عظيماً. وكان داود مستعداً لهذا، فكان منفتح القلب دوماً لمعاملات الله معه.

وهناك صفة أخرى جميلة في داود: أنه كان متواضعاً. يقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس إن صموئيل النبي همس في أذن داود وهو يمسحه ملكاً: «ستكون ملك بني إسرائيل». ولكن هذا لم يجعله يتكبر أو ينتفخ أبداً. الأغلب أن إخوته لم يفهموا معنى المسحة.

وكنا نظن أن يمتنع داود عن العودة إلى رعاية أغنامه بعد أن عرف أنه سيصير ملكاً، وأن يقوم أحد إخوته برعاية الغنم بدلاً منه. لكن شيئاً من هذا لم يحدث. لقد رجع داود إلى أغنامه كما كان. اختار الله داود ووافق داود على الاختيار، بتواضع وبغير كبرياء.

ليعطنا الله التواضع الذي يجعلنا نقبل أن نقوم بأي عمل مهما كان بسيطاً. ولنتعلم من مثال السيد المسيح الذي قال: « ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ أَيْضاً لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (مرقس 10: 45).

الفصل الثاني: داود في القصر الملكي

مسح صموئيل النبي داود ملكاً مقبلاً لبني إسرائيل. لكن كيف يصير داود ملكاً؟ لا بد أن يتعلم ويفهم ويتدرب، ليصبح صالحاً ومستعداً للمُلْك. ولقد جاءت الفرصة لداود لما وصلته دعوة من شاول الملك ليذهب لقصره. وعندما ذهب إلى القصر أحبه شاول، وطلب أن يلازمه. وبقي داود في قصر شاول حارساً للملك يشغل وظيفة حامل سلاح الملك. ما أعجب ترتيب الله! إنه لا يدعونا إلى عمل دون أن يجهزنا له، ليكون فضل القوة لله وليس منا. دعا الله داود، وعمل على تجهيزه ليكون ملكاً. وعندما يكلفك الله بمهمة فإنه يجهزك لها قبل أن تقوم بها.

شاول يمرض:

كان الملك شاول قد أُصيب بمرض شديد، وحاول كبار أطباء المملكة أن يعالجوه، لكن بغير نفع. فاقترح أحد رجاله فكرة الموسيقى التي تشفي. قال: «فَلْيَأْمُرْ سَيِّدُنَا عَبِيدَهُ قُدَّامَهُ أَنْ يُفَتِّشُوا عَلَى رَجُلٍ يُحْسِنُ ٱلضَّرْبَ بِٱلْعُودِ. وَيَكُونُ إِذَا كَانَ عَلَيْكَ ٱلرُّوحُ ٱلرَّدِيءُ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ أَنَّهُ يَضْرِبُ بِيَدِهِ فَتَطِيبُ» (1صموئيل 16: 16). وكان بنو إسرائيل بارعين في الموسيقى، يستخدمونها في العبادة والمناسبات المختلفة. كانوا يودّعون الضيوف الأعزاء بالموسيقى، ويحتفلون بها في الانتصارات، ويستخدمونها في النهضات الروحية. وعندما بنى نحميا حائط أورشليم ودشّن الهيكل احتفلوا بذلك بالموسيقى (نحميا 12: 27). حتى الجنازات استعملوا فيها الموسيقى (2 أيام 35: 25).

ووافق الملك شاول على اقتراح رجاله وقال: «فتشوا لي عن رجل يحسن العزف بالعود وأتوا به إليّ». فقال واحد من رجاله: «رَأَيْتُ ٱبْناً لِيَسَّى ٱلْبَيْتَلَحْمِيِّ يُحْسِنُ ٱلضَّرْبَ، وَهُوَ جَبَّارُ بَأْسٍ وَرَجُلُ حَرْبٍ وَفَصِيحٌ وَرَجُلٌ جَمِيلٌ، وَٱلرَّبُّ مَعَهُ» (1صموئيل 16: 18). فارتاح شاول لهذا الكلام. وبدأ داود مهمته. فعندما كان الروح الشرير يجيء على شاول كان داود يعزف على العود فيرتاح الملك، ويذهب عنه الروح الرديء. وهكذا وصل داود إلى قصر الملك ودخل على الرحب والسعة، وكان هذا تدبير الله الصالح ليتواجد داود في القصر الملكي وليتعلم شئون المملكة.

سبب مرض شاول:

تُرى لماذا مرض شاول؟ تقول لنا التوراة إن مرض شاول كان بسبب الشعور بالذنب. لقد شعر أن الله غير راضٍ عنه، وعرف أن المملكة قد ضاعت منه. وكانت كلمات صموئيل له مثل سيف يمزق قلبه. فلقد قال صموئيل لشاول: «لأَنَّكَ رَفَضْتَ كَلاَمَ ٱلرَّبِّ، فَرَفَضَكَ ٱلرَّبُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَلِكاً عَلَى إِسْرَائِيلَ... يُمَّزِقُ ٱلرَّبُّ مَمْلَكَةَ إِسْرَائِيلَ عَنْكَ ٱلْيَوْمَ وَيُعْطِيهَا لِصَاحِبِكَ ٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ» (1صموئيل 15: 26 و28). وكان صموئيل يقصد بذلك داود.

لقد عصى شاول صوت الله. طلب الله من شاول طلباً فاستحسن شاول أن يفعل شيئاً غير ما طلبه الرب. ولم يعتذر شاول ولم يعترف بخطيته للرب، فقد كان حريصاً على كرامته وكبريائه فوق كل شيء، وهكذا حرم نفسه من رحمة الله.

إن قوة الله تكون بركة لنا إذا أطعنا الله، لكن إذا عصينا يكون الحزن والضيق والألم من نصيبنا. وكل من يرفض إرشاد الروح القدس يستولي عليه إبليس ويستخدمه للشر. إن الله يقبلك إذا قبلته في قلبك، لكن إن رفضته يرفضك. وكل من يرفض الرب يفتح قلبه لإبليس دون أن يدري. ولا يمكن أن نخدم سيدين، فإما أن تخدم الله وإرادته الصالحة، أو أن تخدم الشيطان. لا مكان للحياد. لا بد من اتخاذ موقف سليم من جهة إرادة الله.

تضحية داود:

ربما تظن أن وجود داود في قصر شاول كان امتيازاً. لكن لا يوجد امتياز بغير تضحية، فلقد دفع داود ثمن هذا الامتياز. ترك غنمه التي يحبها، وترك الطبيعة الجميلة التي كان يرى الله فيها. ترك بيت أبيه والأرض التي نشأ فيها، ترك حريته التي كان يتمتع بها في الخلاء الواسع مع أغنامه.

ولا شك أن يسى أب داود كان بين الحزن والفرح. هل يفرح لأن زيارة صموئيل النبي لبيته أثمرت، وشقَّ داود ابنه طريقه إلى العرش؟ أو هل يحزن لأن داود سيتركه ويترك رعاية الغنم؟ على أن شعور داود بدا واضحاً من المزامير التي كتبها يقول فيها: «ٱلرَّبُّ نَصِيبُ قِسْمَتِي وَكَأْسِي. أَنْتَ قَابِضُ قُرْعَتِي. دَرِّبْنِي فِي حَقِّكَ وَعَلِّمْنِي. لأَنَّكَ أَنْتَ إِلٰهُ خَلاَصِي. إِيَّاكَ ٱنْتَظَرْتُ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ. مَا أَعْظَمَ جُودَكَ ٱلَّذِي ذَخَرْتَهُ لِخَائِفِيكَ وَفَعَلْتَهُ لِلْمُتَّكِلِينَ عَلَيْكَ تُجَاهَ بَنِي ٱلْبَشَرِ. تَسْتُرُهُمْ بِسِتْرِ وَجْهِكَ مِنْ مَكَايِدِ ٱلنَّاسِ. تُخْفِيهِمْ فِي مَظَلَّةٍ مِنْ مُخَاصَمَةِ ٱلأَلْسُنِ. مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ لأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ عَجَباً رَحْمَتَهُ لِي فِي مَدِينَةٍ مُحَصَّنَةٍ» (مزامير 16: 5، 25: 5، 31: 19-21).

أيها القارئ، هناك قصد من خلقك، فقد رسم الله برنامجاً لحياتك. حاول أن تعرف الخدمة التي يريدك الله أن تقدمها له. كن مستعداً أن تدفع الثمن، ولكن ثق أن الله لا بد أن يجازيك، فإن تعبك لن يكون باطلاً في الرب.

ما أجمل ما قال الإنجيل المقدس عن المؤمنين: «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس 2: 10). لقد سبق الله أن أعدّ لك عملاً صالحاً لتقوم به، وهو مستعد أن يجهزك لذلك. هل أنت مستعد لتؤدي ما يكلفُك به الله؟

وصف جميل لداود:

وقد وصف أحد رجال شاول داود في ذلك الوقت قال: «رَأَيْتُ ٱبْناً لِيَسَّى ٱلْبَيْتَلَحْمِيِّ يُحْسِنُ ٱلضَّرْبَ، وَهُوَ جَبَّارُ بَأْسٍ وَرَجُلُ حَرْبٍ وَفَصِيحٌ وَرَجُلٌ جَمِيلٌ، وَٱلرَّبُّ مَعَهُ» (1صموئيل 16: 18). فلنتأمل هذه الصفات الجميلة التي نرجو أن يجعلها الله من نصيبنا:

  1. كانت الصفة الأولى أن داود يحسن العزف. وكانت هذه هي المقدرة التي بها وصل إلى القصر الملكي. كان يعزف على العود هو يرعى غنمه، ولا بد أن غنمه سعدت كثيراً بعزفه. لكن الأكثر من ذلك أن داود كتب مزاميره العظيمة. لم يكن يعرف أن العزف على العود سيقوده إلى قصر الملك. لكن الله في صلاحه أعطاه تلك الموهبة، التي استخدمها بمقدرة وأمانة ليخدم بها الله والناس.

    ونحن نتعلم من داود أن نصرف وقتنا في شيء نافع. لقد صرف وقته في العزف، ونحن يجب أن نفتدي الوقت ونستفيد منه ونتعلم خلاله أشياء تنفعنا. يجب أن تكون لنا هواية نافعة نصرف فيها وقت الفراغ بعد انتهاء عملنا اليومي. ما هي هوايتك؟ كيف تصرف وقت فراغك؟ اعمل شيئاً ينفعك، وتعلَّمْ شيئاً ينفع الآخرين.

  2. وهناك وصف آخر: إن داود «جبار بأس ورجل حرب». نعم. كان داود شجاعاً وهو يرعى غنمه. كان إذا جاء لص يقاومه دون خوف، لأن اللص لا يأتي إلا ليسرق ويذبح ويهلك. وكان إذا جاء وحش «مفترس» يقابله جبار البأس الذي لا يخاف. كان داود رجل حرب يقاوم الوحش ويخلّص غنمه منه. وكانت هذه الصفة الممتازة في الشجاعة وفي الحرب نافعة له في مستقبل أيامه كملك على بني إسرائيل.

    هل عندك الشجاعة لتقف إلى جوار الحق، تدافع عما تظن أنه صواب، وما يكلفك الله أن تفعله؟ هل لك شجاعة أن تقف في وجه التجربة وتقاوم إبليس؟ كن رجل حرب روحية مقدسة. قاوم إبليس ليهرب منك، لأن إبليس كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه.

  3. ووصف رجل البلاط الملكي داود بقوله إنه فصيح. كان فصيحاً في الكلام، فكتب المزامير الجميلة التي نرتلها إلى يومنا هذا. والذي يقرأ مزاميره يرى فصاحتها وجمال معانيها. الفصيح هو الذي يختار الكلمة المناسبة ويقولها في وقتها المناسب. ويقول رسول المسيحية يعقوب: »إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْثُرُ فِي ٱلْكَلاَمِ فَذَاكَ رَجُلٌ كَامِلٌ، قَادِرٌ أَنْ يُلْجِمَ كُلَّ ٱلْجَسَدِ» (يعقوب 3: 2). هل أنت فصيح في الكلام؟ هل سلمت لسانك للرب ليستخدمه؟

  4. وهناك وصف رابع: «إنه رجل جميل». ولقد وصفته التوراة بالقول: «كان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر».

    أيها القارئ الكريم، يمكن أن تجعل يديك جميلتين عندما تخدم الله والناس، ويمكن أن تجعل شفتيك جميلتين عندما تقول كلمة حلوة وتشجع إنساناً بكلمة لطيفة. يمكن أن تجعل رجليك جميلتين عندما تذهب إلى بيت الرب تسبحه. يمكن أن تجعل عينيك جميلتين عندما تنظر دائماً إلى الجانب المشرق من الأمور، وعندما تقرأ بهما كلمة الله، فتكون الكلمة سراجاً لرجلك ونوراً لسبيلك.

    قال أحد الأتقياء: «الله يدير معهداً للتجميل». يمكن أن تسلّم حياتك لله فتصبح جميلاً جمالاً روحياً مقدساً يمجد الله. ويجعل الله حياتنا جميلة إن كنا نطيعه ونعمل بوصاياه. إن الخطية تجعل الإنسان قبيحاً. لكن النعمة هي التي تجمّل الإنسان.

    وكلمة نعمة معناها «جمال الحياة» - والله ينعم علينا بأن يُجمِّل حياتنا. صاحب الحياة الجميلة هو الذي نال نعمة من الله. والنعمة تعني جمال الحياة مجاناً. فالله يعطي جمالاً لحياتنا وهو الذي يدفع ثمنه. وهو يعطي جمال الحياة مجاناً لمن لا يستحق، فنحن لا نستحق شيئاً من رضاه، لكنه في محبته الإلهية يعطينا جمال الحياة. إنني أدعوك أن تفتح قلبك لتقبل نعمة الله فتكون جميلاً لله.

  5. وهناك صفة خامسة أطلقها رجل البلاط الملكي على داود، قال: «الرب معه». ما أعظم هذه الشهادة عن داود، أن الرب معه. ألا تلاحظ معي أن الناس من حولنا يمكن أن يلاحظوا أن الله معنا؟ تقول التوراة: «كان الرب مع يوسف فكان رجلاً ناجحاً» (تكوين 39: 23) وتقول أيضاً: «الرب معكم ما دمتم معه».

    هل ستسافر إلى بلد بعيد؟ خُذْ معك إيمان داود. خُذْ معك إله داود. هل أنت مع الله؟ إن كنت معه سيكون معك، لن يهملك ولن يتركك.

    عندما يراك الناس، ماذا سيكون حكمهم عليك؟ ما هي الصفات البارزة فيك؟ اطلب من الله أن يجعل حياتك جميلة، ذات رائحةٍ زكية.

الفصل الثالث: داود وجليات

في الفصل الماضي رأينا داود يعزف على العود للملك شاول المريض، حتى ارتاح وطابت نفسه، وذهب عنه مرضه. ويبدو أن الملك تحسَّن فسمح لداود أن يرجع إلى بيت أبيه، فرجع داود ليرعى غنمه في بيت لحم. وحدث أن أعداء بني إسرائيل اجتمعوا عليهم، ووقفوا على رأس جبل، واجتمع جيش بني إسرائيل على جبل مقابلهم، وكان الوادي يفصل بين الجيشين. ولم يهجم الجيشان الواحد على الآخر، ولكن خرج رجل واحد من صفوف الأعداء اسمه جليات، وهو رجل مبارز بمعنى أنه وحده يطلب أن يبارز رجلاً واحداً. كان رجلاً طويلاً جداً، طوله ستة أذرع وشبر، أي ثلاثة أمتار تقريباً، وكانت ملابسه ضخمة ومخيفة. كان مثل القلعة التي تتحرك بأسلحتها، ولم يكن في القلعة مكان بدون غطاء إلا الجبهة والوجه. وكان جليات يقف كل يوم مرتين في الصباح والمساء يعيِّر بني إسرائيل ويسخر منهم، يطلب منهم رجلاً يخرج إليه ويحاربه، ويقول: «إِنْ قَدِرَ أَنْ يُحَارِبَنِي وَيَقْتُلَنِي نَصِيرُ لَكُمْ عَبِيداً. وَإِنْ قَدِرْتُ أَنَا عَلَيْهِ وَقَتَلْتُهُ تَصِيرُونَ أَنْتُمْ لَنَا عَبِيداً وَتَخْدِمُونَنَا» (1صموئيل 17: 9). وظل يكرر هذا الكلام أربعين يوماً كل يوم مرتين.

داود يزور أرض المعركة:

كان الملك شاول وشعبه خائفين للغاية من جليات. وكان بين جنود شاول ثلاثة من إخوة داود، فطلب يسى من ابنه داود أن يذهب إلى أرض المعركة ليسأل عن سلامتهم، وليحمل لهم بعض الطعام.

وما أن وصل داود إلى هناك حتى اكتشف أن جليات الوثني يعيِّر بني إسرائيل الذين يعبدون الإله الحي. فقال داود إنه يقدر أن يحارب جليات. وعندما اقتادوه إلى الملك شاول قال له الملك: «لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَذْهَبَ إِلَى هٰذَا ٱلْفِلِسْطِينِيِّ لِتُحَارِبَهُ لأَنَّكَ غُلاَمٌ وَهُوَ رَجُلُ حَرْبٍ مُنْذُ صِبَاهُ». فَقَالَ دَاوُدُ لِشَاوُلَ: «كَانَ عَبْدُكَ يَرْعَى لأَبِيهِ غَنَماً، فَجَاءَ أَسَدٌ مَعَ دُبٍّ وَأَخَذَ شَاةً مِنَ ٱلْقَطِيعِ. فَخَرَجْتُ وَرَاءَهُ وَقَتَلْتُهُ وَأَنْقَذْتُهَا مِنْ فَمِهِ. وَلَمَّا قَامَ عَلَيَّ أَمْسَكْتُهُ مِنْ ذَقْنِهِ وَضَرَبْتُهُ فَقَتَلْتُهُ. قَتَلَ عَبْدُكَ ٱلأَسَدَ وَٱلدُّبَّ جَمِيعاً. وَهٰذَا ٱلْفِلِسْطِينِيُّ ٱلأَغْلَفُ يَكُونُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمَا لأَنَّهُ قَدْ عَيَّرَ صُفُوفَ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ». وَقَالَ دَاوُدُ: «ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ يَدِ ٱلأَسَدِ وَمِنْ يَدِ ٱلدُّبِّ هُوَ يُنْقِذُنِي مِنْ يَدِ هٰذَا ٱلْفِلِسْطِينِي» (1صموئيل 17: 33-37).

وفي هذا الكلام نلمس إيمان داود بقوة الرب الحي الحقيقي. فقال شاول له: «اذهب وليكن الرب معك». ولكنّ شاول تذكّر أن داود بدون سلاح، فطلب أن يعطيه سلاحاً، ولكن داود لم يقدر أن يلبس ملابس الحرب، لأنه لم يكن مدرباً على ذلك، كما أنه سيكون خفيف الحركة بدون تلك الملابس، فوافق شاول.

داود يقتل جليات:

وذهب داود ليقابل جليات الجبار. وما أن رآه الجبار حتى احتقره، وشتم داود وإلهه. ولكن داود قال له: «أَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ بِسَيْفٍ وَبِرُمْحٍ وَبِتُرْسٍ. وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ بِٱسْمِ رَبِّ ٱلْجُنُودِ إِلٰهِ صُفُوفِ إِسْرَائِيلَ ٱلَّذِينَ عَيَّرْتَهُمْ. هٰذَا ٱلْيَوْمَ يَحْبِسُكَ ٱلرَّبُّ فِي يَدِي فَأَقْتُلُكَ وَأَقْطَعُ رَأْسَكَ. وَأُعْطِي جُثَثَ جَيْشِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ هٰذَا ٱلْيَوْمَ لِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ وَحَيَوَانَاتِ ٱلأَرْضِ، فَتَعْلَمُ كُلُّ ٱلأَرْضِ أَنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ لإِسْرَائِيلَ. وَتَعْلَمُ هٰذِهِ ٱلْجَمَاعَةُ كُلُّهَا أَنَّهُ لَيْسَ بِسَيْفٍ وَلاَ بِرُمْحٍ يُخَلِّصُ ٱلرَّبُّ، لأَنَّ ٱلْحَرْبَ لِلرَّبِّ وَهُوَ يَدْفَعُكُمْ لِيَدِنَا» (1صموئيل 17: 45-47).

وكان السلاح الذي قرر داود أن يستعمله مقلاعاً وحجارة يرسلها لتستقر في جبهة الجبار الوثني. وكان هجوم داود يحتاج إلى التصويب السليم واليد الثابتة. أما التصويب فقد تعلَّمه وهو يرعى غنمه، لأنه حين كانت إحدى غنمه تبتعد كان يصوّب حجراً بمقلاعه ويرميه أمام أنفها لترجع الضالة عن طريق الضلال، وتسير مع بقية الأغنام. أما اليد الثابتة فقد كانت له بتأثير إيمانه بقوة الرب التي تهديه وتساعده.

واجه داود جليات بقوة من عند الرب، وصوّب حجراً أملس إلى جبهة جليات. وكان التصويب صحيحاً، فارتزَّ الحجر في جبهة الجبار، وسقط على وجهه إلى الأرض. لم يكن الجبار يظن أن الضربة ستأتيه من مقلاع بسيط، ونسي أن جبهته عارية. وكان احتقاره لداود الصغير سبباً في هلاكه.

كان الجيشان واقفين على الجبل، وكان كل جندي يرى المعركة التي تحدث في الوادي. لم يكن أحد من الوثنيين ينتظر هزيمة بطلهم العظيم جليات الذي بلغ طوله نحو ثلاثة أمتار. وعندما رأى الوثنيون أن بطلهم مات، هربوا وهتف بنو إسرائيل هتاف النصر، وخرجوا وراءهم يطردونهم من بلادهم.

انتصر داود على الجبار الوثني جليات، وما أجمل ما كتب بعد ذلك في مزموره الرابع والأربعين: «لأَنِّي عَلَى قَوْسِي لاَ أَتَّكِلُ، وَسَيْفِي لاَ يُخَلِّصُنِي. لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَّصْتَنَا مِنْ مُضَايِقِينَا، وَأَخْزَيْتَ مُبْغِضِينَا. بِٱللّٰهِ نَفْتَخِرُ ٱلْيَوْمَ كُلَّهُ وَٱسْمَكَ نَحْمَدُ إِلَى ٱلدَّهْرِ» (مزمور 44: 6-8).

كيف انتصر داود:

كان داود بطلاً أعظم من جليات. كان جليات عظيماً في جسده، وعظيماً في تسليحه، وعظيماً في حالته النفسية وهو يهدد بني إسرائيل. ولكن داود كان أعظم، لأن بطولته كانت نابعة من حبه لإلهه، وثقته في قوة الإله الذي سينصره.

كانت في داود صفات عظيمة، نصلي أن تتحقق لنا:

  1. كان بطلاً في وداعته. فعندما ذهب إلى ميدان المعركة ليسأل عن إخوته أصغى إلى جليات وهو يعيّر إلهه، فقال: «من هو هذا الوثني حتى يعيّر صفوف الله الحي؟». وابتدأ يسأل الرجال الواقفين عن مصير الرجل الذي يقتل جليات، فقالوا له: «إن الملك شاول قرر أن يُغني هذا الرجل، ويزوجه ابنته، ويجعل بيت أبيه أحراراً» (بمعنى أنهم لا يدفعون جزية). وسمع أليآب أخ داود الأكبر أسئلة داود فغضب عليه وقال له: «أَنَا عَلِمْتُ كِبْرِيَاءَكَ وَشَرَّ قَلْبِكَ، لأَنَّكَ إِنَّمَا نَزَلْتَ لِتَرَى ٱلْحَرْبَ» (1صموئيل 17: 28). وفي كلام أليآب نرى الحسد، وعدم الشعور بالمسئولية من نحو خدمة الله، كما نرى احتقاره لأخيه. وكان يمكن أن يجاوب داود على أخيه بحسب حماقته فيقول له: «وماذا فعلت أنت في الحرب؟ إنك خائف! كَلِّمْ جليات بخشونة قبل أن تكلمني أنا بذات الخشونة». ولكن داود كان عظيماً في وداعته، فقد انتصر على الغضب واحتمل كلام أخيه القاسي. ما أجمل ما قال إمام الحكماء سليمان، وكأنه يصف أباه داود في هذا الموقف: «اَلْبَطِيءُ ٱلْغَضَبِ خَيْرٌ مِنَ ٱلْجَبَّارِ، وَمَالِكُ رُوحِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ يَأْخُذُ مَدِينَةً» (أمثال 16: 32). وتقول لنا التوراة المقدسة إن داود عندما سمع سخرية أخيه ضبط نفسه وقال: «ماذا عملت الآن؟ أما هو كلام؟» (1صموئيل 17: 29).

    أيها القارئ الكريم، كثيرون أبطال في القوة أو في جمع المال. لكن الذي يحفظ نفسه في وقت الغضب هو البطل الحقيقي لأنه وديع، ولقد قال السيد المسيح: «طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ ٱلأَرْضَ» (متى 5: 5). ولقد ورث داود الوديع الأرض كلها، إذ جعله الله ملكاً عليها.

  2. كان بطلاً في إيمانه. لم يذكر أبداً أنه قادر على التصويب بالمقلاع، لكنه قال إنه يتكل على قوة الله. ولم يذكر للملك شاول حكاية قتل الأسد والدب، إلا عندما شدَّد عليه شاول بالسؤال، وخاف أن يمنعه الملك من أن يحارب جليات. كان داود بطلاً في إيمانه، أرجع المجد كله لله، وقال إن الله هو مصدر الانتصار الوحيد. كان يعرف إلهه، وقد تعامل معه. وأدرك أن الله قادر أن ينصره هذه المرة. ولقد كان.

    إن معاملاتنا المستمرة مع الله تعلِّمنا أن إلهنا أمين، وأنه لا ينكر نفسه، وأننا عندما نتمسك بمواعيده يستجيب لنا ويعطينا ما نطلب. كان داود بطلاً في الإيمان في وقت كان فيه عدد المؤمنين قليلاً، وكان إيمانه مصدر انتصاره.

  3. وكان داود بطلاً في تواضعه، أعطى المجد كله للرب. كان كل غرضه أن يمجد الله. لم يفتخر بنفسه ولا بقدرته، لكنه قال إن الرب هو مصدر النصر، لأن الحرب للرب. هذا ما فعله يوحنا المعمدان عندما قال عن السيد المسيح: »يَنْبَغِي أَنَّ ذٰلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ» (يوحنا 3: 30). وهذا ما أعلنه رسول المسيحية بطرس عندما أقام الأعرج، وقال للرجال المذهولين من المعجزة: « مَا بَالُكُمْ تَتَعَجَّبُونَ مِنْ هٰذَا، وَلِمَاذَا تَشْخَصُونَ إِلَيْنَا كَأَنَّنَا بِقُّوَتِنَا أَوْ تَقْوَانَا قَدْ جَعَلْنَا هٰذَا يَمْشِي؟ إِنَّ إِلٰهَ آبَائِنَا، مَجَّدَ فَتَاهُ يَسُوعَ» (أعمال 3: 12 و13).

وأنت أيها القارئ، هل لك الوداعة فلا تغضب بل تضبط نفسك؟ هل لك بطولة الإيمان فتثق في الرب الذي ينقذ؟ هل لك بطولة التواضع فتنسب القوة والفضل لله؟

كما كان جليات يعيّر صفوف الله، يجيء أعداء كثيرون ضدنا. وإبليس العدو الأكبر يهجم علينا كل حين كأسد زائر. ولكن النصرة الدائمة لك إن كنت تعتمد على الله... إن كنت تصلي وتطلب عون الله، فستجد النصرة حاضرة عندك دائماً. إن كنت تصلي وبابك مغلق تقدر أن تغلب التجربة وبابك مفتوح.

الفصل الرابع: داود يصادق ابن الملك

لما انتصر داود على جليات الجبار، سأل شاول عن داود وعن عائلته. ولا بد أن الحديث الذي جرى بين شاول وداود كان طويلاً، لأن التوراة تقول: «وَكَانَ لَمَّا فَرَغَ مِنَ ٱلْكَلاَمِ مَعَ شَاوُلَ أَنَّ نَفْسَ يُونَاثَانَ تَعَلَّقَتْ بِنَفْسِ دَاوُدَ، وَأَحَبَّهُ يُونَاثَانُ كَنَفْسِهِ» (1صموئيل 18: 1). لقد أحب يوناثان داود عندما رأى شجاعته، وعندما سمع كلامه الجميل ولمس لباقته في الحديث. ولا شك أن داود الراعي المرنم كان صاحب شخصية جذابه تأسر القلوب، فانجذب إليه يوناثان. ولكن هناك نقطة مهمة: نعتقد أن أكثر ما جذب يوناثان إلى داود كان تقواه ووجود الرب معه، إذ تقول التوراة إن نفس يوناثان تعلَّقت بنفس داود. لقد كانت هذه المحبة عميقة مؤسسة على شيء مشترك في نفس داود ونفس يوناثان، هو التقوى ومحبة الله. ولقد رأى يوناثان في داود بركة عظيمة لخدمة الله ولخير الشعب. فأحب يوناثان داود. وكل أولاد الله يشعرون بالمحبة لبعضهم، لأن روح الله القدوس الساكن فيهم يجعلهم واحداً ويربط قلوبهم بعضهم ببعض.

الله يعوِّض داود:

لقد عوّض الله داود كثيراً بتلك الصداقة الجديدة.. في الصباح قبل أن يهزم داود جُليات سمع كلمات خشنة من أخيه الأكبر أليآب، إذ قال له إنه متكبر شرير القلب، ولم يجاوب داود على أخيه. وفي المساء عوّض الله داود صديقاً أفضل من الأخ. والرب الصالح لا يترك واحداً منا بدون تعويض. إنه يجازي خير الجزاء. إن كان الذي يسقي أخاه كأس ماء بارد باسم المسيح لا يُضيع أجره، فكم بالحري الذي يحارب في سبيل الرب ويعمل عمله! مهما سمعت من كلامٍ قاسٍ في سبيل خدمة الله فإن الله سيعوّضك ويعطيك أعظم من كل تعب تتعبه.

  1. نشأت تلك الصداقة العظيمة بين يوناثان وداود خالية من الغرض. فماذا يعطي داود المسكين ليوناثان ابن الملك؟ كانت صداقة يوناثان شرفاً لداود، وكان يوناثان صديقاً مخلصاً بدون غرض. لم يصادق داود لأنه يطلب منه شيئاً، بل لأنه مخلص ومحب. فهل أنت صديق مخلص تحب أصحابك بدون أنانية؟

  2. ثم كانت هذه الصداقة مضحيّة. أحب يوناثان داود فأعطاه الجبّة، وهي التي كان يلبسها الشخص العظيم فوق ملابسه. ثم أعطاه سيفه وثيابه وقوسه ومنطقته (حزامه). وهي هدية ثمينة، لأن هذه الثياب والأسلحة ثياب وأسلحة ابن الملك. ولا تذكر التوراة أن داود أعطى يوناثان هدية. ربما تكون هدية داود بسيطة، لا قيمة مادية كبيرة لها بالقياس إلى هدية يوناثان، لذلك لم تذكرها التوراة. وربما لم يقدم داود هدايا بالمرة ليوناثان لأنه فقير بسيط. والصداقة العظيمة فيها دوماً تضحية، فهل تضحي أنت من أجل أصدقائك؟

  3. وكانت صداقة دائمة، بقيت طوال حياة يوناثان وداود، فقد أحب داود يوناثان ونسله من بعده. كم من صداقة كانت وانتهت! صديق يصادق صديقه، وتستمر المحبة بينهما إلى أن تحدث غلطة، تكون نهاية الصداقة. ينسى الإنسان كل المحبة والأيام الحلوة. ويذكر الغلطة الواحدة، فتنتهي صداقة سنوات لأجل غلطة!

    أيها القارئ الكريم، عليك أن تكون صديقاً تستمر صداقتك مع الذين تحبهم.

  4. وكانت صداقة مقدسة، تصفها التوراة أنها «أمام الله». تقول التوراة: «قطع يوناثان وداود عهداً» (1صموئيل 18: 3). كان العهد جزءاً من الدِّين، فقد كان هناك عهد بين الله وشعبه. ودخل يوناثان مع داود في عهد محبة وصداقة أمام الله. والكلمة «قطع عهداً» معناها أن الذي يكسر العهد يتقطع ويهلك، فإن الله يشهد ويجازي كل واحد حسب عمله. لا شك أن سرّ دوام هذه الصداقة كان في أنها كانت أمام الله. هل صداقتك مع أصحابك ترضي الله؟ وهل هي أمام الله؟ هل أنت صديق مقدَّس الصداقة؟

كل من يباركه الرب يعطيه الصديق المخلص، لأن الصداقة المخلصة أكبر بركة. قد تقول إن الأصحاب لا يحفظون عهد الصداقة، وقد تتأسف أنهم غير مخلصين. لكني أرجوك أن تصلح عيوب نفسك قبل أن تحاول إصلاح عيوب الناس. لا تهتم بإصلاح أخلاق صديقك قبل اهتمامك بإصلاح نفسك.

ولا تنس أن الصديق الواحد الذي يبقى معك دوماً هو السيد المسيح. خذه صديقاً لك، تجد السلام والنجاح.

الفصل الخامس: شاول يحاول أن يقتل داود

غضب الملك شاول يوم انتصار داود على جليات، لأن نساء بني إسرائيل خرجن للغناء هتافاً بالنصر، وقلن: «قتل شاول ألوفه وقتل داود ربواته» بمعنى أنه قتل عشرات الألوف، فاغتاظ شاول: كيف أنه وهو الملك تغنّي النساء أنه قتل ألوفاً، بينما داود، وهو خادم الملك، يغنين له أنه قتل عشرات الألوف؟ استاء شاول للغاية، وملأ الحسد قلبه، وعندها رجع إليه مرضه القديم، فتقول التوراة: «وَكَانَ فِي ٱلْغَدِ أَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلرَّدِيءَ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ ٱقْتَحَمَ شَاوُلَ وَجُنَّ فِي وَسَطِ ٱلْبَيْتِ» (1صموئيل 18: 10). مسكين شاول... كلمات غناء تقلب حياته وتغيَّر حاله. وأسرع داود يؤدي واجبه من نحو الملك، فأخذ العود وجعل يعزف عليه. وطلب الملك شاول من ولده يوناثان أن يترك صداقة داود، ولكن يوناثان بقي يحب داود بالرغم من كل الظروف. لم يهتم يوناثان بغضب أبيه شاول، ولم يهتم بشتيمة أبيه له، وبقي مخلصاً لصديقه داود رغم كل شيء.

في المرات السابقة التي كان داود يعزف فيها على العود، كان شاول يرتاح ويذهب عنه الروح الرديء، ولكن في هذه المرة كان مرض الكراهية قد ملأ قلبه، وكانت الغيرة تنهشه، فأخذ الرمح الذي كان الملك يمسكه بيده عادة، وأشرعه وضرب داود. ولكن داود تحول من أمامه، فلم يقتله. وعاد داود يعزف على العود مرة أخرى فأشرع شاول الرمح مرة ثانية وضربه، ولكن داود تحوّل من أمامه مرة أخرى فلم يقتله الرمح. وعرف شاول أن الرب مع داود، لأنه قد فارقه هو. ولم يكن هذا سبب توبة لشاول. بالعكس، لقد كان هذا سبب حقد أكثر من شاول على داود. كان يمكن أن يتبكت شاول على خطاياه، لكنه للأسف زاد في خطيئته، فأبعد داود عنه.

صحيح أن الشمس التي تليّن الشمع، هي نفسها التي تجفف الطين. كان قلب شاول مثل الطين لم تلينه الشمس، لكنه زاد جفافاً وزاد خطية.

حاول شاول أن يقتل داود، وظل داود يعزف بعوده ليقوم بواجبه، لعل الملك يُشفى. لا تنس أن العدو الذي يقاومك لأنك تفعل الخير شخص «مسكين» يحتاج إلى مساعدتك. لا تقطع صلتك به، لكن ساعده. اعمل الواجب معه بكل الخير لأنه مريض. لا تترك الواجب، ولا تهرب من المسئولية. لا تفشل من المقاومة، بل بالعكس اجعل مقاومة الآخرين لك دافعاً يدفعك لزيادة خدمتك لله، فإن الله لم يعطنا روح الفشل بل روح القوة والمحبة. عندما يقاومك الناس لأنك تفعل الخير، افرح واستمر في عمل الخير، ولا تفشل، لأنك ستحصد في وقته إن كنت لا تكلّ.

داود رئيس ألف:

لم يستطع الملك شاول أن يحتمل منظر داود أمامه، لأن المؤمن يذكِّر الخاطئ بخطيته، فأبعد شاول داود عنه، وجعله رئيس ألف. فكان داود يخرج ويدخل أمام الشعب، فأحبه الشعب لأنهم رأوا حكمته وتقواه. كان الله يجهز داود للمملكة، إذ جعل قادة الشعب يرونه ويحتكّون به باستمرار. وكان شاول يرجو أن يخطئ داود خطية تجعل الشعب يثور ضده، لكن داود أفلح في جميع طرقه، وكان الرب معه، فأحبه الشعب. كان يمكن أن شاول يعرف إرادة الله ويخضع، لكنّ كراهيته لداود كانت قد بلغت درجة عظيمة جعلته يفزع من نجاح داود ويخاف.

ولقد عمل هيرودس الملك ما عمله شاول، فعندما سمع هيرودس أن المولود الجديد في بيت لحم هو ملك اليهود، أمر بقتل كل أطفال بيت لحم، ليموت الملك الجديد المولود بين أولئك الأطفال. ولكن عناية الله حفظت المسيح ابن داود، كما حفظت داود من يد الملك الشرير شاول. وفشل هيرودس وفشل شاول من قبله، وسيفشل كل من يقاوم أولاد الله، وسيستخدم الرب عنادهم لخير أولاده ولامتداد ملكوته.

رأينا كيف كان شاول يقاوم داود لأنه غار منه، ونصلي أن تكون حياتنا كحياة داود عامرة بالمحبة لله وبالخدمة للناس. وإن كانت هناك مقاومة لنا، فإننا نطلب من الله أن يعيننا لنستمر في عمل الخير، ونصلي الصلاة التي صلاها داود في المزمور السابع: «لِيَنْتَهِ شَرُّ ٱلأَشْرَارِ وَثَبِّتِ ٱلصِّدِّيقَ» (مزمور 7: 9).

زواج ابنة الملك:

فشل الملك شاول في أن يقتل داود بالرمح مرتين، فعيَّنه رئيس ألف، لعله يخطئ. ولكن داود لم يرتكب خطأ. ورأى شاول أن يقتل داود بيد أعدائه الوثنيين. كان الملك قد وعد من يقتل جليات بثلاثة وعود: أن يغنيه، وأن يزِّوجه من ابنته، وأن يجعل بيت أبيه أحراراً، بمعنى أنهم لا يدفعون ضرائب ولا يشتغلون في السُّخرة. وعندما قتل داود جليات نسي شاول كل وعوده، ولم يعطه شيئاً. وعندما فشل في قتل داود تذكّر وعوده له. فقال له: «هُوَذَا ٱبْنَتِي ٱلْكَبِيرَةُ مَيْرَبُ أُعْطِيكَ إِيَّاهَا ٱمْرَأَةً. إِنَّمَا كُنْ لِي ذَا بَأْسٍ وَحَارِبْ حُرُوبَ ٱلرَّبِّ» (1 صموئيل 18: 17).

وكان شاول يرجو أن يقتل الأعداء داود وهو يحاربهم، وكأنه يقول: «بيد الأعداء لا بيدي أنا». ووافق داود على أن يتزوج من ميرب، لكن قبل أن يتم ذلك زوَّجها شاول لرجل آخر. وكان الملك شاول يرجو أن يغضب داود ويخطئ، فيكون هذا سلاحاً ضده. لكن داود تصرف بحكمة عظيمة وقال: »مَنْ أَنَا وَمَا هِيَ حَيَاتِي وَعَشِيرَةُ أَبِي فِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَكُونَ صِهْرَ ٱلْمَلِكِ!» (1صموئيل 18: 18). ولم يخطئ داود في هذا كله.

وسمع الملك شاول أن ميكال ابنته بدأت تحب داود. ربما سمعت ميكال من أخيها يوناثان عن داود فأحبته بسبب ما سمعته عنه. وقد يكون أنها رأته وهتفت له مع العذارى: «قتل داود ربواته». ورأى شاول أن حُبَّ ميكال لداود فرصة جديدة يوقع بها داود في يد الوثنيين، فأرسل رجاله يقولون لداود إن الملك مسرور به، ويريد أن يزوِّجه ابنته ميكال. وجاوب داود بتواضع: إن مصاهرة الملك ليست شيئاً بسيطاً، وإنه مسكين وفقير. فطلب شاول من رجاله أن يقولوا إن الملك لا يهتم بالمهر، لكنه يطلب أن يقتل داود مئة رجل من الوثنيين، وأن يأتي بعلامة هذا القتل للملك شاول.

ولم يكن شاول في الواقع يريد أن يزوج ميكال ابنته من داود، ولكنه كان يرجو أن يموت داود وهو يحاول أن يقتل مئة رجل من الوثنيين. ووافق داود على شرط الملك، وأخذ رجاله وذهب يحارب، وقتل داود لا مئة رجل بل مئتي رجل. ورجع إلى شاول ومعه علامة انتصاره. ولم يجد شاول طريقة للهروب من وعده. لقد اكتشف أن الرب يقف إلى جوار داود، ورأى أن ابنته ميكال تحب داود فزوَّجه منها.

وهنا درس لنا: ونحن نفكّر في ما فعل شاول مع داود نرى ما يفعله البشر معنا. لقد وعد شاول داود، ولكنه لم يحقق الوعد. وعندما عزم أن يحقق وعده كان يرجو أن يموت داود قبل أن يتحقق الوعد. ووعود البشر دوماً وعود بشروط، وقليلاً ما تَصْدق. الله وحده هو الذي يَصْدق دوماً. حتى إذا فتر عزمنا وضعف حبنا فإن وعد الله صادق دوماً، لأنه لا ينبع من صلاحنا بل من محبة الله. وليس مصدره الخير الذي فينا، بل أمانة الله التي لا تتغير. فعلى مواعيد الله فقط نضع اعتمادنا واتكالنا.

يوناثان يُصلح الموقف:

فشل شاول في أن يقتل داود بالرمح، وفشل في أن يجعله يخطئ وهو رئيس ألف، وفشل في أن يموت داود بيد الوثنيين. أخيراً قرر شاول أن يرسل رجاله ليقتلوه. لكن قبل أن يذهبوا أنهى يوناثان ابن الملك النزاع، وصالح أباه مع داود، فطلب يوناثان من داود أن يختبئ في مكان بعيد، وخرج يتمشى مع أبيه في حقل، وبدأ يتكلم كلاماً صالحاً عن داود. قال إنه لم يخطئ ضد الملك، فلماذا يقاومه الملك مع أنه لم يضرّ الملك بشيء؟ وقال إن أعمال داود حسنة للغاية. يكفي أنه خاطر بنفسه وقتل جليات، وكان في ذلك اليوم خلاص للشعب كله. وقال يوناثان لشاول: «أَنْتَ رَأَيْتَ وَفَرِحْتَ. فَلِمَاذَا تُخْطِئُ إِلَى دَمٍ بَرِيءٍ بِقَتْلِ دَاوُدَ بِلاَ سَبَبٍ؟» (1صموئيل 19: 5).

كان كلام يوناثان معقولاً، فوافق عليه الملك شاول، وحلف لابنه قائلاً: «حي هو الرب. داود لا يُقتل» (1صموئيل 19: 6). ودعا يوناثان صديقه داود وأخبره أن أباه الملك رضي عنه. ورجع داود إلى القصر الملكي. لكن هل يهدأ شاول؟ هل كان غفرانه حقيقياً؟... لا! كان الشيطان قد سيطر على شاول، وكان شاول قد باع نفسه للشيطان، ولا يمكن أن يُؤمَن جانب من يحيا في الشر.

الفصل السادس: شاول يتمادى في كراهية داود

رجع المرض إلى الملك شاول وهو جالس في قصره، فأسرع داود إلى عوده يعزف عليه لعل الملك يُشفى. وكان الملك يمسك الرمح بيده علامة السلطان الملكي، فأراد أن يطعن داود بالرمح، ولكن داود كان يحسب حساب الموقف، فهرب من أمام شاول فاصطدم الرمح بالحائط ونجا داود.

لم يهرب داود من الواجب، ولكنه كان قد وجد أن علاج شاول بالموسيقى لا يشفيه، لذلك فضَّل أن ينجو بحياته عن أن يؤدي خدمة بغير نتيجة. كان يمكن أن يبقى داود ويعرِّض حياته للخطر - لو كان في هذا الخطر فائدة للملك، ولكنه وجد أن حالة شاول بدون علاج، فهرب لينجو بحياته. وأنت أيها القارئ الكريم: حاول أن تصلح، وكن مستعداً أن تقوم بالواجب مهما تعبت، أو تعرضت حياتك للخطر. ولكن إن وجدت أن الواجب الذي تعمله لا ينفع الشخص الذي تخدمه، بل بالعكس يضرك أنت، عندها تهرب لتنجو بحياتك.

شاول يرسل ليقتل داود:

كان شاول الملك يعلم أن زواج داود بابنته ميكال هو الفخ الذي يمكن أن يوقع فيه داود. وعندما هرب داود من أمام شاول أدرك شاول أن داود سيرجع إلى بيته، فأرسل بعض جنوده ليراقبوه ويقتلوه في الصباح. ويظهر أن أحد رجال الملك شاول أخبر ميكال بعزم الملك على قتل زوجها، أو لعل ميكال خمَّنت ذلك، لأنها أكثر من يعرف صفات أبيها الملك الشرير. ويقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس إن ميكال علمت أن أباها شاول سيحاكم زوجها داود ويحكم عليه بالإعدام، ولذلك هرَّبت داود من بيتها بسرعة، ثم أخذت تمثالاً بحجم الإنسان وغطته بثوبها. ولما حضر رجال أبيها ليُلقوا القبض على داود قالت لهم إنه مريض في الفراش. فاحترم الرسل ابنة الملك، ولم يطلبوا تفتيش البيت، وعادوا إلى الملك يخبرونه بمرض داود، فأمرهم أن يحضروه في مرضه، لأنه يريد أن يقتله. فعاد الرسل من جديد إلى بيت داود وفتشوه، فوجدوا التمثال فأخبروا شاول بهرب داود. وغضب شاول وسأل ابنته: «لِمَاذَا خَدَعْتِنِي، فَأَطْلَقْتِ عَدُوِّي حَتَّى نَجَا؟» فَقَالَتْ مِيكَالُ لِشَاوُلَ: «هُوَ قَالَ لِي: أَطْلِقِينِي، لِمَاذَا أَقْتُلُكِ؟» (1صموئيل 19: 17).

لقد امتلأ بيت الملك شاول بالبغض، ولا غرابة إن خدعته ابنته. لا شيء يهدم البيوت مثل عدم الغفران والكراهية. فالكراهية والحقد يفسدان حياة الشخص الذي يحقد، ويفسدان بيته، ويفسدان حياة الآخرين الذين يحقد عليهم.

إن كان في قلبك حقد اتركه، لأنه يفسد حياتك وحياة غيرك، وتكون نتيجته وبالاً على أولادك وعلى نفسك وعلى الشخص الذي تحقد عليه.

ويقول معظم المفسرين إن داود كتب المزمورين السابع والعشرين والرابع والثلاثين بمناسبة هروبه هذا، فاسمعه في إيمان واثق يقول: «اَلرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي، مِمَّنْ أَخَافُ؟ ٱلرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِي، مِمَّنْ أَرْتَعِبُ؟ إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي. إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ فَفِي ذٰلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ. لأَنَّهُ يُخَبِّئُنِي فِي مَظَلَّتِهِ. عَلَى صَخْرَةٍ يَرْفَعُنِي. مَلاَكُ ٱلرَّبِّ حَالٌّ حَوْلَ خَائِفِيهِ وَيُنَجِّيهِمْ. ذُوقُوا وَٱنْظُرُوا مَا أَطْيَبَ ٱلرَّبَّ! طُوبَى لِلرَّجُلِ ٱلْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ. قَرِيبٌ هُوَ ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ، وَيُخَلِّصُ ٱلْمُنْسَحِقِي ٱلرُّوحِ» (مزمور 27: 1 و3 و5، 34: 7 و8 و18)

ونحن نرى حياة شاول في كراهيته وحياة أهل بيته، دعنا نتذكر كلمات السيد المسيح: «بِهٰذَا يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ» (يوحنا 13: 35).

داود يهرب إلى صموئيل:

هرَّبت ميكال زوجها داود، فنزل من الكوة إلى خارج سور المدينة ووقف حائراً: إلى أين يذهب؟ وتذكر صديقه وأباه الروحي صموئيل. وكان صموئيل قد فتح مدرسة للأنبياء ليدرِّب فيها أولاد الله على الوعظ. وحكى داود لصموئيل كل ما عمله شاول معه. فدعاه صموئيل ليقيم معه في نايوت (ونايوت معناها «مساكن»). وعرف شاول أن داود ذهب إلى نايوت فأرسل رسلاً ليُلقوا القبض عليه ليقتله. ولكن شيئاً غريباً حدث، فعندما رأى رسل شاول جماعة الأنبياء يتنبأون بالوعظ والترتيل والصلاة، وصموئيل يقودهم، حلَّ روح الله على رسل الملك فبدأوا يتنبأون هم أيضاً، ولم يُلقوا القبض على داود.

وأرسل شاول جماعة أخرى فحدث معهم الشيء نفسه، وأخيراً جاء شاول بنفسه ليرى الخبر الغريب، فلم يقدر أن يلقي القبض على داود. كان الرب قادراً أن ينقذ داود بالقليل وبالكثير، وبهذه المعجزة الغريبة نجا داود من الهلاك. والله يُعلّم داود ويعلّمنا أن النجاة والإنقاذ هما من يده وحده.

كنا نظن أن شاول سيترك داود في سلام بعد أن رأى خلاص الرب لداود بطريقة معجزية. ولكن شاول بقي في فساده وشره. ونلاحظ أنه كلما زادت المقاومة زاد خلاص الرب، وكلما ظن العدو أنه أشرف على إهلاك أولاد الله خابت ظنونه. وسنذكر بعض الحوادث في تاريخ حياة داود تكشف لنا أن الله لا ينعس ولا ينام، وأنه يحامي عن أولاده وينقذهم ويحقق لهم مواعيده. ونرى فيه الإله المحب الطيب الذي لا يخزى منتظروه.

داود يهرب إلى أماكن مختلفة:

بعد أن حلَّ روح الله على شاول وعلى رجاله، قابل داود صديقه المحبوب يوناثان وقال له: «مَاذَا عَمِلْتُ وَمَا هُوَ إِثْمِي وَمَا هِيَ خَطِيَّتِي أَمَامَ أَبِيكَ حَتَّى يَطْلُبَ نَفْسِي؟» (1صموئيل 20: 1) فوعد يوناثان أن يكلم أباه عن داود. وعندما كلَّمه غضب وشتمه، وطلب منه أن يهرب لينجو. لقد كان يوناثان صديقاً حميماً لداود، وسبق أن قدم له الحماية، وصالحه مع شاول أبيه. لكنه في هذه المرة رأى أن الصلح مستحيل، ولذلك حذّر داود لكي يهرب. وهرب داود وذهب إلى نوب. ونوب مدينة من مدن الكهنة في شمال أورشليم. وقابل داود الكاهن الذي كان هناك، وأخذ منه «خبز الوجوه» الذي كانوا يضعونه في بيت الرب مدة أسبوع، ثم يبدلونه بخبز جديد. ومن ذلك الكاهن أخذ داود أيضاً سيف جليات. وفي نوب رأى داود واحداً من رجال شاول اسمه دواغ، فأدرك أن دواغ لا بد سيخبر شاول عن مكانه، فهرب داود إلى بلاد الفلسطينيين. وقد حدث فعلاً ما توقعه داود، فقد أبلغ دواغ شاول أن الكهنة يحبون داود ويعطونه الطعام والسلاح. وفي جنونٍ غضب شاول وقتل من الكهنة خمسة وثمانين كاهناً، ثم ضرب مدينتهم بالسيف، وقتل كل من فيها - ما عدا أبياثار ابن الكاهن الذي أعطى داود الخبز والسيف، لأن أبياثار هرب إلى داود. وهرب داود بعد ذلك من نوب إلى بلد من بلاد الوثنيين اسمها «جت» ولما وجد أنه في خطر تظاهر بالجنون، فتركوه ليذهب إلى مكان آخر. فهرب داود إلى مغارة اسمها عدلام وهي قريبة من بلده الأصلية بيت لحم. وسكن هناك، فاجتمع إليه المتضايقون وسكنوا معه. وقد استطاعت عائلة داود أن تزوره هناك.

وسمع داود أن الوثنيين هاجموا مدينة اسمها قعيلة، وجعلوا ينهبون محصول القمح منها. ولما كانت قريبة من مغارة عدلام، ذهب داود في شجاعة إليها ليحارب الوثنيين، وانتصر عليهم وخلّص قعيلة. وعندما سمع الملك شاول أن داود في قعيلة، أسرع إليها ليمسكه ويقتله. وعرف داود من الله أن أهل قعيلة سوف يسلمونه إلى الملك شاول، فهرب إلى مكان خرب مقفر اسمه «برية زيف». وسمع يوناثان ابن الملك شاول أن صديقه داود موجود في برية زيف، فذهب إليه وشدَّد يده بالله. وما أجمل أن يسمع الإنسان منا تشجيعاً أن الله معه. عندما تظلم الدنيا في وجوهنا نحتاج إلى كلمة رجاء وأمل، ونشكر الله أن كلمة الرجاء والأمل في وسط الظروف الصعبة موجودة دائماً في مواعيد الله الأمينة. ما أجمل أن تكون أنت صديقاً صالحاً تعطي تشجيعاً لنفس حائرة. وما أجمل أن يرسل الله لنا كلمة تشجيع في ضعفنا وضيقنا على فم صديق يحبنا.

وذهب سكان برية زيف إلى الملك شاول وأخبروه أنهم سيسلمونه داود. ولكن الله أنقذ داود، فإن شاول وهو في طريقه ليقبض على داود، سمع أن الأعداء قادمون ليحاربوه، فرجع ليدافع عن أرضه، وهكذا أنقذ الله داود. وصار اسم برية زيف «صخرة الزلقات» لأن شاول عثر وانزلق ولم يقدر أن يمسك داود فيها. وانتقل داود بعد ذلك من برية زيف ليسكن في حصون «عين جدي».

نرى من هذه القصص جميعاً أنه عندما يأتي العدو كنهر فنفخة الرب تدفعه (إشعياء 59: 19). وكما أنقذ الله داود ينقذك أنت من العدو الذي يقاومك، ومن الشيطان الذي يجول حولك ملتمساً أن يبتلعك، ومن الخطية الساكنة فيك والتي تسبيك إلى الشر الذي لا تريده. ما أجمل أن ننفذ الوصية التي تقول: «فِي كُلِّ طُرُقِكَ ٱعْرِفْهُ وَهُوَ يُقَوِّمُ سُبُلَكَ» (أمثال 3: 6).

الفصل السابع: داود يعفو عن شاول

بعد أن هرب داود من «صخرة الزلقات» التي انزلق فيها شاول، ولم يقدر أن يقبض عليه، سكن في حصون «عين جدي» وهي حصون «طبيعية» في الصخور، فوق جبل عال جداً يصعب الوصول إليها. وفيها مغائر كبيرة مظلمة، تسع الواحدة أكثر من أربعمائة رجل. وكان فيها ينبوعان للماء، كما كان بها بعض الأشجار والنباتات. ولقد وجد داود في عين جدي ملجأ طبيعياً يلجأ إليه وقت الخطر.

وعندما رجع شاول من الحرب مع أعدائه عرف أن داود موجود في برية عين جدي، فأخذ معه ثلاثة آلاف جندي، وذهب يطلب داود على «صخور الوعول» وهي أعلى مكان في تلك الجبال. وجاء شاول إلى «صير الغنم» وهي حظائر يبنيها الرعاة عند باب الكهف ليحفظوا فيها الغنم أثناء الليل، أو ليحفظوها من العاصفة أو من المطر. وجلس رجال شاول تحت صير الغنم، أما هو فدخل إلى الكهف وحده ليستريح بينما كان داود ورجاله جالسين داخل الكهف في الظلام. وبالطبع لم يقدر شاول أن يراهم، لكن رجال داود استطاعوا أن يروه ويعرفوه، لأنه دخل من النور، وعيونهم قد اعتادت الظلام. ورأوا أن هذه فرصة ذهبية يقتل فيها داود عدوه شاول الذي يطارده، ويتولى حكم البلاد، فيستريحون من الجولان في الأرض والهروب في الجبال، ويستقرون. فقال رجال داود له: «هُوَذَا ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي قَالَ لَكَ عَنْهُ ٱلرَّبُّ: هَئَنَذَا أَدْفَعُ عَدُوَّكَ لِيَدِكَ فَتَفْعَلُ بِهِ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ» (1صموئيل 24: 4).

لكن داود رفض هذا رفضاً باتاً، وعفا عن شاول الذي وقع بين يديه. واكتفى بأن قطع طرف جُبَّة شاول سراً. ربما كان قد خلع جبته ووضعها إلى جانبه، فقطع داود طرفها. وثار ضمير داود عليه، وتأسف في قلبه لأنه قطع طرف الجبة. وقال داود: «حَاشَا لِي مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ أَنْ أَعْمَلَ هٰذَا ٱلأَمْرَ بِسَيِّدِي بِمَسِيحِ ٱلرَّبِّ، فَأَمُدَّ يَدِي إِلَيْهِ لأَنَّهُ مَسِيحُ ٱلرَّبِّ هُوَ» (1صموئيل 24: 6). وحاول رجاله أن يقتلوا عدوهم شاول، ولكن داود منعهم.

وبعد أن استراح شاول قام من نومه وخرج من الكهف. وانتظر داود مدة حتى ابتعد شاول، ولعله نزل من على صخرة وصعد إلى صخرة أخرى. ثم نادى داود على شاول. وعندما سمع شاول التفت إلى ورائه، فخرَّ داود على وجهه إلى الأرض احتراماً، فقد كان يعرف أن شاول هو الملك الحالي الذي يستحق الاحترام، وأطاع كلمات التوراة: «رئيس شعبك لا تقل فيه سوءاً» (خروج 22: 28). وبدأ داود يكلم شاول فقال: «لِماَذَا تَسْمَعُ كَلاَمَ ٱلنَّاسِ ٱلْقَائِلِينَ: هُوَذَا دَاوُدُ يَطْلُبُ أَذِيَّتَكَ. هُوَذَا قَدْ رَأَتْ عَيْنَاكَ ٱلْيَوْمَ هٰذَا كَيْفَ دَفَعَكَ ٱلرَّبُّ لِيَدِي فِي ٱلْكَهْفِ، وَقِيلَ لِي أَنْ أَقْتُلَكَ، وَلٰكِنَّنِي أَشْفَقْتُ عَلَيْكَ وَقُلْتُ: لاَ أَمُدُّ يَدِي إِلَى سَيِّدِي لأَنَّهُ مَسِيحُ ٱلرَّبِّ هُوَ. فَٱنْظُرْ يَا أَبِي، ٱنْظُرْ أَيْضاً طَرَفَ جُبَّتِكَ بِيَدِي. فَمِنْ قَطْعِي طَرَفَ جُبَّتِكَ وَعَدَمِ قَتْلِي إِيَّاكَ ٱعْلَمْ وَٱنْظُرْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِي شَرٌّ وَلاَ جُرْمٌ، وَلَمْ أُخْطِئْ إِلَيْكَ، وَأَنْتَ تَصِيدُ نَفْسِي لِتَأْخُذَهَا. يَقْضِي ٱلرَّبُّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَيَنْتَقِمُ لِي ٱلرَّبُّ مِنْكَ، وَلٰكِنْ يَدِي لاَ تَكُونُ عَلَيْكَ. كَمَا يَقُولُ مَثَلُ ٱلْقُدَمَاءِ: مِنَ ٱلأَشْرَارِ يَخْرُجُ شَرٌّ. وَلٰكِنْ يَدِي لاَ تَكُونُ عَلَيْكَ. وَرَاءَ مَنْ خَرَجَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ؟ وَرَاءَ مَنْ أَنْتَ مُطَارِدٌ؟ وَرَاءَ كَلْبٍ مَيِّتٍ! وَرَاءَ بُرْغُوثٍ وَاحِدٍ! فَيَكُونُ ٱلرَّبُّ ٱلدَّيَّانَ وَيَقْضِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَيَرَى وَيُحَاكِمُ مُحَاكَمَتِي وَيُنْقِذُنِي مِنْ يَدِكَ» (1صموئيل 24: 9-15).

ونلاحظ في حديث داود الأمور التالية:

  1. كان يتكلم عن الرب كل الوقت. قال إن الرب هو الذي أقام شاول ملكاً، وهو الذي دفع شاول في يده في ذلك اليوم. وهو الذي يقضي ويحاكم وينفذ. كان داود متأكداً أن يد الرب خلف الأمر كله، فهو الذي يمسك شاول ويمسك داود ويحكم كل شيء. إن شعورنا أن الرب معنا في كل حين يعطينا الطمأنينة والراحة والثقة. إن الرب هو الكل في الكل لنا، وإننا به نحيا ونتحرك ونوجد، وإن منه وبه وله كل الأشياء.

  2. ثم تكلم داود مع شاول عن كلام الناس. قال: «لماذا تسمع كلام الناس: داود يطلب أذيتك؟». يقول المفسرون إن داود كتب المزمور السابع عن هذا الأمر. ويقولون إن رجلاً اسمه كوش البنياميني كان يكلم شاول ضد داود بدون وجه حق. ويقول داود في المزمور السابع: «إن كنت يا رب فعلت الشر فلتعاقبني». ثم يقول إن عدوه يشبه الأسد الذي يريد أن يفترسه. لقد قال الناس كلاماً خاطئاً لشاول الملك، إن داود يطلب أن يؤذيه ويطلب أن يقتله.

    يسبّب كلام الناس دوماً مشاكل كثيرة ويخلق سوء تفاهم... قبل أن تصدّق ما يقوله الناس، اسأل أولاً حتى تعرف الصواب من الخطأ. قال إمام الحكماء سليمان: «لاَ تَضَعْ قَلْبَكَ عَلَى كُلِّ ٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي يُقَالُ» (جامعة 7: 21). لا تجعل كلام الناس يبعدك عن الصواب ويقلب هناء حياتك. ضَعْ عقلك في رأسك وتصرَّف بحكمة.

  3. ثم تكلم داود إلى الملك شاول بمحبة. قال له: «يا أبي». لم ينس داود أنه عاش في بيت الملك شاول وأكل عنده. ولم ينس أنه تزوج ابنته ميكال، فشاول هو حمو داود. ولم ينس أن الملك هو والد صديقه المحبوب يوناثان، لذلك خاطبه على أنه أبوه. صحيح أن شاول طلب قتل داود لكن هذه الغلطة لم تجعل داود ينسى أن شاول أبوه.

    إن كنا نكلم أعداءنا بمحبة، فسوف نكسب كل موقف. وإن كان لنا عدو فيجب أن نتذكر محاسنه كما نتذكر عيوبه، فهذا يساعدنا على أن نغفر له.

  4. وتكلم داود مع شاول بتواضع. قال عن نفسه: إنه مثل كلب ميت أو مثل برغوث واحد. وهذا معناه أن داود متواضع، لا يظن في نفسه أنه شيء كبير.

    البرغوث سريع الحركة، ومن الصعب أن تمسكه، وقبل الوصول إليه يقفز إلى مكان آخر، لكنه شيء حقير. فلماذا يأخذ شاول ثلاثة آلاف جندي ليطارد رجلاً واحداً هو داود؟ كان الواجب أن يأخذ شاول رجاله ويحارب الأعداء بدلاً من الجري وراء داود الذي استخدمه الله ليخلص به الشعب خلاصاً عظيماً يوم قتل جليات الجبار.

  5. ثم تكلم داود إلى الملك شاول بتسامح. لم يقتل الملك، مع أنه كان يقدر - بل قال له: «قيل لي أن أقتلك ولكنني أشفقت عليك، وقلت: لا أمد يدي إلى سيدي لأنه مسيح الرب هو».

شاول يعتذر لداود:

بعد أن سمع الملك شاول هذا الكلام من داود أخذه الحياء، وشعر أنه أخطأ في مطاردته لداود. وبكى وجعل يذكر الخطأ الذي سقط فيه، ونجد في كلام شاول لداود اعتذاراً. قال له: «أَنْتَ أَبَرُّ مِنِّي لأَنَّكَ جَازَيْتَنِي خَيْراً وَأَنَا جَازَيْتُكَ شَرّاً. وَقَدْ أَظْهَرْتَ ٱلْيَوْمَ أَنَّكَ عَمِلْتَ بِي خَيْراً لأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ دَفَعَنِي بِيَدِكَ وَلَمْ تَقْتُلْنِي» (1صموئيل 24: 17، 18). وتعجب الملك شاول من تسامح داود، وتساءل: «فَإِذَا وَجَدَ رَجُلٌ عَدُّوَهُ، فَهَلْ يُطْلِقُهُ فِي طَرِيقِ خَيْرٍ؟» (آية 19) والجواب أنه لا يطلقه في طريق خير، بل يقتله. وفي كلامه مع داود اعترف له أن داود سيصبح الملك القادم على بني إسرائيل. قال له: «ٱلآنَ فَإِنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ تَكُونُ مَلِكاً وَتَثْبُتُ بِيَدِكَ مَمْلَكَةُ إِسْرَائِيلَ» (آية 20). كان صموئيل قد ذكر للملك شاول أن الله نفسه يعلم ذلك. لقد رأى شاول بنفسه صلاح داود، وعرف أن داود هو الشخص الصالح الذي سيملك (1صموئيل 15: 28، 23: 17).

وأخيراً نرى شاول يقطع مع داود عهداً. طلب منه أن يحلف له أنه لا يقطع نسله من بعده، ولا يبيد اسمه من بيت أبيه. وحلف داود لشاول كما قال. ورجع شاول إلى بيته، ورجع داود إلى الحصن فوق الجبال.

ولكن السلام بين داود وشاول لم يستمر، فقد خرج شاول مرة أخرى ليفتش عن داود ليقتله، ونسي الوعد الذي قطعه على نفسه. لا شك أن الملك شاول كان مريضاً، وكان الحقد ينهش قلبه. لعل كلام كوش البنياميني جعل شاول يتغير ويحقد على داود من جديد. ومرة أخرى وقع شاول في يد داود، ولكن داود عاد يعفو عنه من جديد. ورأى داود أن لا فائدة من البقاء في بلاد إسرائيل، فذهب إلى أخيش ملك جت. وفي هذه المرة قبله أخيش لأنه علم أن شاول يطارده ويريد أن يهلكه. وعندما عرف شاول أن داود هرب إلى بلاد الوثنيين لم يعد يفتش عليه.

درس في الغفران:

يعلمنا داود درساً عظيماً في الغفران. سبق أن عفا يوسف عن إخوته بعد أن وقعوا في قبضة يده. باعوه عبداً في مصر، وأساءوا إليه، وها هو الآن صار رئيساً في مصر، وهم بين يديه، يستطيع أن يهلكهم جميعاً، ولكنه في حب كامل غفر لهم وعفا عنهم.

ولكن داود فعل شيئاً أعظم. إنه عفا عن الملك شاول الذي يريد أن يقتله. إنه يعفو عن عدوه. ويذكرنا بالكلمات التي قالها السيد المسيح في صلاته من أجل صالبيه: «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا 23: 34).

ليتنا نتخذ السيد المسيح مثالاً لنا حتى نعفو عن الذين يسيئون إلينا، ونصلي من أجلهم ليصلح الله أمورهم.

ولا شك أن سؤالاً يواجهنا الآن: هل خسر داود عندما سامح شاول؟ لقد وقع شاول بين يديه، لكنه عفا عنه، وعاد شاول يطارده من جديد ليلقي القبض عليه ليقتله... والإجابة: لا، لم يخسر داود. بالعكس: إنه ربح.

  1. أول ما ربحه أنه منع ارتكاب جريمة. كان يمكن أن يقتل شاول، ولكنه منع نفسه عن ارتكاب جريمة قتل.

  2. وامتلأ داود بالشجاعة، فقد وقف ينادي على عدوه شاول وطرف الجبة في يده دون أن يخاف. كان يعلم أنه على صواب بينما الملك على خطأ. ووقوف الشخص إلى جانب الصواب يعطيه شجاعة عظيمة.

  3. ونال راحة نتيجة غفرانه. لم يكن ضميره يعذبه. عندما قطع طرف الجبة ضربه قلبه ولم تطاوعه نفسه، لكن العفو أعطاه راحة القلب وصفاء النفس.

  4. وكان عفوه سبب تبكيت للملك شاول. شعر الملك أنه أخطأ، فاعتذر لداود عن ذلك. وأعطى الغفران داود المكان الأقوى، وصار الملك شاول في المكان الأضعف حتى أنه اعتذر له.

عندما تعفو عمن يسيء إليك تكسب الكثير، وتمنع زيادة الخطأ، فإن الخصام يزيد باستمرار، والنفوس تمتلئ دوماً بغضب أكثر، ولكنك عندما تغفر تمتلئ بشجاعة الذين يقفون إلى جانب الحق، وتنال راحة ضمير كل من يرضي الله، ثم أنك تنشئ التوبة في نفس الشخص الذي تعفو عنه.

هل يستحق الخصام وسوء التفاهم كل الثمن الذي ندفع فيه؟ إن الذي يعفو هو الذي يكسب.

وأنت...؟

هل أنت في حالة تشبه حالة داود، تجد عدواً يطاردك يريد أن يهلكك، يضايقك ويعاكسك في رغباتك، وإذ به يقع في يديك، ويمكن أن تؤذيه - ماذا ستفعل؟

إن كنت ترى نفسك في مثل الحالة التي وقع فيها داود فنرجوك أن تفعل الآتي:

  1. فتِّش قلبك. فقد يكون هناك أساس للافتراءات التي افترى بها الناس عليك. إن وجدت أي أساس لافتراءات الناس فاعمل على إزالته فوراً. يقولون أن لا دخان من غير نار. قد يكون هناك سبب لهذه الافتراءات فإن كنت مخطئاٌ أصلح الخطأ وقل: «نشكر من أهدى لنا عيوبنا»..

  2. إن وجدت أن هذه الافتراءات التي ضدك بدون أساس فستكون مثل السيد المسيح في آلامه، فقد افترى شيوخ اليهود عليه بدون وجه حق. هكذا فعل العالم في القديسين والرسل. لا شك أن الافتراءات الخاطئة الكاذبة ستجعلك أقرب إلى الله، لأنك إليه ترفع قلبك بالصلاة.

  3. لا تحاول أن تنتقم لنفسك، بل اترك النقمة للرب، هو الذي قال: «لِيَ ٱلنَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ» (رومية 12: 19). لا تحاول أن تأخذ مكان الله فتحكم على المفتري وتنفذ الحكم. لا تكن قاضياً ومنفذاً، لكن خذ مكان الشاكي الذي يشكو إلى الله، وينتظر إنصاف الله. إنك إن فعلت هذا سوف تضع جمر نار على رأس عدوك، وستجد أن الله أسرع لمعونتك.

  4. لا تصدق كل كلام الناس، فإن كثيرين يحبون أن يصيدوا في الماء العكر. تأكد من صحة الكلام الذي تسمعه، واسأل عن مصدره قبل أن تتأكد أنه صحيح.

  5. وأخيراً نقول لك: اترك لله أن يظهر حقيقة أمرك ويدافع عن سمعتك. هو الذي يخرج كالنور برَّك وحقك مثل الظهيرة - هكذا قال نبي الله داود عن اختبار ولقد أنصفه إلهه.

الفصل الثامن: داود يتزوج أبيجايل

ظل داود يهرب من مكان إلى مكان والملك شاول يجري وراءه يطارده ليقتله. ومع أن داود عفا عن شاول حتى بكى شاول على خطئه، إلا أنه عاد يطارد داود مرة أخرى. وفي وسط هذا الهروب والتعب والخيانة، نرى شعاع نور يرسله الله على حياة داود. هي امرأة فاضلة اسمها أبيجايل، قال لها داود: «مُبَارَكٌ عَقْلُكِ وَمُبَارَكَةٌ أَنْتِ» (1صموئيل 25: 33).

كانت أبيجايل وزوجها نابال يملكان قطعاناً كثيرة من الغنم، وكانا يسكنان على حدود مملكة بني إسرائيل، وكان الوثنيون والعمالقة يهاجمونهم ليخطفوا غنمهم، وكان داود ورجاله يدافعون عن أهل بلدهم، حتى قال الرعاة من بني إسرائيل عن داود ورجاله إنهم محسنون إليهم جداً كانوا سوراً ليلاً ونهاراً، كل الأيام التي كانوا فيها معهم يرعون الغنم. (القصة كلها في سفر صموئيل الأول 25).

وكان اليهود يحتفلون احتفالاً عظيماً بجز الغنم يقيمون فيه الولائم ويقدمون الهدايا. وكان نابال زوج أبيجايل رجلاً غنياً يمتلك أربعة آلاف رأس من الغنم والمعز، وكان يحتفل بجزّ غنمه. فأرسل داود بعض رجاله إلى نابال يحملون إليه سلام داود، ويقولون له إن داود ورجاله حافظوا على أغنامه. ثم طلبوا منه هدية في هذه المناسبة السعيدة. ولكن نابال كان أحمق. صحيح أنه كان عظيماً في ماله، لكنه كان غنياً غبياً، فقد كان يظن أن المال هو كل شيء، ويحتقر الآخرين. وفي حماقته قال لرجال داود: «من هو داود؟ أنا لا أعرفه!». لقد كان نابال يعلم بدون شك أن داود العظيم هو الذي قتل جليات الجبار الوثني، وأنه تزوَّج ابنة الملك. لكنه كان يعلم أيضاً أن الملك يريد أن يقتل داود، ولذلك احتقر داود. وزاد نابال في حماقته فقال لرجال داود: «هل آخذ خبزي وذبيحي وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم؟». ولم يجاوب رجال داود على نابال، بل رجعوا إلى داود يحكون له ما حدث.

داود يغضب:

عندما سمع داود شعر بالإهانة الشديدة. لقد كان يستحق كل كلمة صالحة من نابال، وكان يستحق هدية عظيمة على الخير الذي عمله. ولكن نابال لم يقدّر خدمة داود له، فقرر داود أن ينتقم منه وأن يقتله.

ومن معرفتنا السابقة بشخصية داود نستغرب كثيراً أنه أراد أن يقتل نابال. لقد كان داود مخطئاً في رغبته في الانتقام، فإن الكتاب المقدس يقول لنا إن النقمة للرب وحده. الله الذي يعرف قلوب الناس، وحده له الحق أن يدين ويحكم ثم ينفذ. نحن لا نعرف كل الظروف. الله وحده هو الذي يعرف، وحكمه وحده هو الحكم الصحيح. لم يكن لداود، أو لأي إنسان آخر حق أن يحرم شخصاً من الحياة. فالله هو الذي أعطى الإنسان حياته، والله وحده هو الذي له الحق أن يأخذ تلك الحياة عندما يريد. الله عادل ولا يبرئ الخاطي، وليس عنده محاباة. لذلك يجب أن نتكل على حكم الله في كل شيء، وهو في وقته يسرع بحكمه العادل. وأدرك داود بعد أن غضب وأراد أن يقتل نابال، أنه أخطأ في غضبه السريع. وبعد أن مات نابال ميتة طبيعية قال داود: «مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي ٱنْتَقَمَ نَقْمَةَ تَعْيِيرِي مِنْ يَدِ نَابَالَ، وَأَمْسَكَ عَبْدَهُ عَنِ ٱلشَّرِّ» (1صموئيل 25: 39).

هذه القصة تعلمنا أن نحذر من الغضب، فإن الذي يملك نفسه أفضل من الذي يأخذ مدينة. إذا غضبت لا تخطئ. لا تنتقم لنفسك ولا تعمل تدبيراً للشر. ضع الأمر كله بين يدي الرب، وهو يرى كيف ينقذك ويعطيك حقك. لا تفكر في الثأر بل كن شفوقاً متسامحاً وسلّم أمورك كلها بين يدي الله.

أبيجايل تحسن التصرُّف:

أدرك رجال نابال أن داود لن يسكت على الإهانة، وأنه لا بد أن يلحق الأذى بنابال وأسرته، فأسرعوا إلى سيدتهم أبيجايل زوجة نابال، وحكوا لها الموقف كله. وبسرعة تصرفت أبيجايل. لم تصرخ على البلوى الآتية وعلى حظها السيء في زواجها من رجل أحمق، بل فكرت في عمل سريع حكيم.

كانت أبيجايل تعلم أن زوجها أحمق، ولا يمكن الكلام معه لأنه عنيد. كما أنه في ذلك الوقت كان قد سكر بالخمر، وكانت الحكمة تقتضي أن تسرع بدون أن تستشيره، لتمنع الشر عن نفسها وعنه. وجهزت هدية محترمة لداود ورجاله: أخذت مئتي قرص تين، وركبت حمارها ومعها بعض رجالها وذهبت لتقابل داود. وفي الطريق قابلته ورجاله وهم قادمون ليبطشوا بنابال. وما أن رآها داود وعرف من هي حتى بدأ يكلمها. قال إنه ندم على الخير الذي صنعه مع نابال، وأكد أنه سيقتل كل من لنابال. وفي هدوء بدأت أبيجايل السيدة الحكيمة تجاوب على داود.

أظهرت تواضعها إذ أسرعت ونزلت من على الحمار وسجدت إلى الأرض أمام داود. هذا التواضع من سيدة غنية جميلة أمام داود الرجل الفقير طريد الملك كان حكمة منها لأن داود كان غاضباً أشد الغضب.

ثم بدأت تعترف بالذنب، وقالت إن غلطة نابال عليها هي، واعتذرت لأن نابال مثل اسمه أحمق جاهل. واعتذرت بأنها لم تسمع عن مجيء رجال داود إلى بيتها ولم تقابلهم. ولو أنها قابلتهم لأعطتهم من البركة التي أعطاها الرب لها. ثم بدأت تحدثه عن الرب إلهه الذي دبَّر التدبير الصالح، ومنع داود عن القتل، ومن الانتقام لنفسه، وقالت له إنه لو قتل نابال فإنه سيندم على هذا القتل بعد أن يصبح ملكاً.

ولا بد أن كلمات أبيجايل الحكيمة نخست قلب داود بقوة. وجعلته يذكر أعمال الله الصالحة. ثم قدَّمت هديتها لداود وهي تقول إنها تعرف أنه هو الذي حارب حروب الرب، وأن ليس في داود شر. ثم قالت له إن نفسه محزومة في حزمة الحياة، وكأنها تطلب إلى الرب أن يحفظ داود بعنايته. ولا شك أن هذه الكلمات الحكيمة جعلت داود يتراجع عن غضبه.

غضب داود ينصرف:

كانت كلمات أبيجايل الجواب اللين الذي يصرف الغضب، كما قال إمام الحكماء سليمان. وبالحكمة بنت أبيجايل بيتها ونحتت أعمدتها السبعة، وبالكلمات اللينة والجواب الحكيم أرجعت داود إلى التفكير السليم.

  1. بدأ داود يجاوب على أبيجايل قال: إن الرب هو الذي أرسلها إليه لتستقبله، والرب دوماً يرسل النافع الصالح. وقال داود لأبيجايل إن عقلها مبارك وإنها هي مباركة. عقلها أفضل من عقل زوجها، وحياتها مباركة أكثر من حياة داود الغاضب.

  2. ثم قال لأبيجايل الحكيمة إن مجيئها نافع لأنه منعه من أن يرتكب الأذى الذي كان سيُتعب ضميره كل أيام حياته. ثم قال إنها جاءت في الموعد المناسب، فإن تأخيرها كان سيسبّب الأذى والضرر لنابال زوجها ولداود ورجاله.

  3. ثم أصدر عفوه عن نابال. ورجعت أبيجايل السيدة الحكيمة إلى بيتها لتجد زوجها سكراناً، فلم تتكلم معه بشيء. وفي الصباح أفاق من سُكره فحكت له كل حكاية داود، فخاف غاية الخوف. من أن يرجع داود ليقتله. وبهذا أظهر أنه ليس أحمق فقط لكنه جبان أيضاً. وبعد عشرة أيام مات! وتقول التوراة إن الرب ضربه.فهل مات نتيجة الخوف والرعب من عودة داود ليقتله؟ أو هل مات نتيجة مرض زاد عليه؟ نحن لا نعلم لكن الكتاب المقدس يقول: إن الشرّ يُبيد الشرير.

وأرسل داود رجالاً يطلب أبيجايل أن تكون زوجة له. وقبلت أبيجايل بتواضع وصارت زوجة لداود.

أيها القارئ، ليس كل رجل حكيماً، وليست كل امرأة جاهلة، لكن العقل عطية من الله، والإنجيل المقدس يعلمنا أن من تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعيِّر فسيُعطى له (يعقوب 1: 5) يقول لنا الإنجيل: ليس الرجل من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل - ففي المسيح ليس رجل ولا امرأة، بل الجميع واحد، لأن المسيح فدى الكل وأحب الجميع (1كورنثوس 11: 11، غلاطية 3: 28). دعنا نطلب من الله أن يُمتّعنا بنعمة الحكمة.

الفصل التاسع: موت شاول

رأينا داود يهرب من أمام الملك شاول، وعندما وقع شاول في يده سامحه وغفر له مرتين ولم يقتله. ولكن شاول ظل يضطهد داود الصالح. ولم يتوقف عن أن يتابعه ويطارده ليقتله، إلى أن عرف أن الأعداء من حوله قد اجتمعوا ليحاربوه، فقد اجتمع عليه ملوك خمس مدن. وعندما رأى الجيش الجبار الذي جاء ضده، خاف خوفاً عظيماً، وأراد أن يسأل الله. وتقول التوراة إن الله لم يجاوبه لا في حلم ولا بالأوريم الذي كان الكاهن يحفظه في صُدرته، ومنه يعرف إرادة الله، ولم يجاوبه بواسطة الأنبياء. وكان النبي صموئيل قد مات. ففكر شاول أن يذهب إلى امرأة صاحبة جان.

وكان شاول قد سبق ونفى من البلاد كل أصحاب الجان الذين يقولون كلاماً على لسان الجان، لأن شريعة موسى كانت تنهى عن ذلك. ولكن شاول في ضيقة نفسه قرر أن يذهب إلى واحدة منهم ليطلب منها أن تُصعد له صموئيل النبي، وأعطاها الأمان.

وبدأت المرأة تقول له إنها ترى آلهة يصعدون من الأرض. وعندما سألها أن تصف له ما تراه، قالت: «شيخ صاعد مغطى بجُبّة». لم يكن شاول يرى شيئاً وكان ممكن أن يكون هذا الصاعد مجرد خيال في عقل المرأة وحدها، ولكن شاول المريض بعقله، الذي فارقه روح الله وملأه روح الشرير، صدَّق أن المرأة أصعدت له صموئيل النبي. ومع أن كل الرجال الكبار في العمر كانوا يلبسون الجبة، إلا أن شاول صدق أن الصاعد بالجبة هذه المرة هو صموئيل.

وماذا قال الشيخ الصاعد وهو مغطى بجبة؟ لم يقل شيئاً واحداً جديداً فقد كرر الكلام القديم أن الرب فارق شاول، وأنه أعطى المملكة لداود. وقالت المرأة صاحبة الجان للملك إن الشيخ الصاعد بجبته يقول: غداً أنت وبنوك تكونون معي.

إن كان هذا الكلام صحيحاً فهل يذهب شاول الذي فارقه الرب إلى نفس المكان الذي ذهب إليه صموئيل نبي الرب؟ بالطبع لا! لقد كان الشيطان يتكلم في صاحبة الجان، والشياطين يفعلون كل ما يقدرون عليه ليُضلوا ولو أمكن المختارين أيضاً. وكل الذين يلجأون إلى الجان وقارئي البخت يجرون وراء الباطل ويضرّون أنفسهم ولا ينتفعون شيئاً. هذه شيطانية وأعمال شياطين. إن الذين يحبون الله يسمعون إرشاده ونصائحه بغير حاجة إلى وسطاء، فإن سرّ الرب لخائفيه، وعهده لتعليمهم (مزمور 25: 14).

كان الملك شاول خائفاً من الرب، وكان كلام العرافة سبباً في رعبه أكثر وأكثر، فذهب إلى الحرب وهو مرتعب. كانت الحرب شديدة عليه، ورأى جيشه يسقط أمام أعدائه، وأولاده الثلاثة يموتون أمامه ومنهم يوناثان. وأخيراً أصابه سهم جرحه جرحاً شديداً. ولم يشأ شاول أن يقع في يد الأعداء لئلا يهزأوا به، فطلب من حامل سلاحه وحارسه الخاص أن يقتله بسيفه. ولكن حامل السلاح خاف، ولم يشأ أن يفعل ذلك بسيده، فسقط الملك شاول على سيفه هو، وانتحر ومات. وفي اليوم التالي جاء الأعداء يكشفون جثث القتلى فوجدوا الملك شاول، فقطعوا رأسه وسمروا جسده على سور المدينة، ووضعوا سلاحه في بيت صنمهم، وكأنهم يقولون إن إلههم أقوى من إله شاول، وإن قوتهم أعظم من قوته. ما أرهب آخرة شاول! بدأ بالعصيان وانتهى بالهلاك، والبركة عادةً على رأس المطيع وحده.

داود يحزن لموت شاول:

كان شاول قد أمسك سيفه وسقط عليه ليموت، لكن يظهر أنّه لم يمت بسرعة. ورأى شاباً من عماليق فطلب منه أن يكمل موته فقتله العماليقي. ورأى العماليقي أن هذه فرصة طيبة ليأخذ هدية من داود عندما ينقل إليه خبر موت عدوه الملك شاول. فأخذ الإكليل الذي كان على رأس الملك شاول، وهو عصابة ضيقة من الذهب حول خوذته، وأخذ السوار الذي كان على ذراعه، وهو من الذهب لتكون علامة على صدق الرسالة وأن شاول قد مات.

وكان العماليقي يظن أن داود سيفرح بخبر موت شاول. لكن داود حزن للغاية ومزق ثيابه وندب وبكى، وصام هو والرجال الذين معه حزناً على شاول وعلى يوناثان ابنه، وحزناً على الشعب الذي مات. والحقيقة أن موت شاول يستحق الندب والبكاء، لأنه كان بعيداً عن الله. ومات بعد أن انتحر، وبعد أن جعل شعب الله يخطئ. إن الخطية تقتل الخاطئ والشر يميت الشرير.

لكن تأمل معي داود المحب المسامح. صحيح أن شاول عدوه، لكن الكراهية كانت من جانب واحد، لأن داود لم يكن عدواً لشاول. هل لك أعداء؟ هل العداوة بسبب عيب فيك؟ إن كان العيب فيك أنت فأصلح العيب. إن لم يكن العيب فيك فاملأ قلبك بالمحبة من نحو الآخرين.

وكتب داود مزمور مرثاة (في 2صموئيل 1: 19-27) يرثي شاول ويوناثان ويُظهر حزنه على موتهما، بدأه بالقول: «كيف سقط الجبابرة؟». وفي هذا النشيد نرى شدة حزن داود على موت شاول. لم يشمت داود في موت شاول، لكنه حزن عليه. ليتنا نتعلم من مثال داود كيف نبكي مع الباكين، وكيف نحب أعداءنا، وكيف نطلب خير مواطنينا عمرنا كله.

داود يسأل الرب:

لما بلغت داود أخبار موت شاول، كان داود آنذاك ساكناً في صقلغ. وكانت صقلغ قد احترقت بالنار، فوقف داود حائراً: هل يبنيها مرة ثانية بعد أن احترقت، ويسكن فيها مع رجاله؟ أو هل يلجأ إلى بلاده ليملك عليها كما وعده الرب، وكما مسحه صموئيل النبي منذ سنوات طويلة، وهو في بيت أبيه في بيت لحم؟ ولكن داود سأل نفسه: ماذا يحدث لو رجعت إلى بلادي؟ كان رجوعه سيسبَّب حرباً أهلية، تنقسم فيها بلاده إلى قسمين: قسم يقف إلى جانبه، وقسم آخر إلى جانب عائلة شاول. هل يكون داود سبب خراب ونزاع؟ وفي حيرة توجه إلى الله: وما أصلح أن يتوجه الحائر إلى الله، لأنه مكتوب: «ٱلَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ ٱللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ» (رومية 8: 14) ولا ندري كيف سأل داود الله عن فكره؟ هل صلى فكلمه الله بحلم، أو هل استشار داود المؤمنين من رجاله؟ نحن لا نعرف، لكننا نعرف أن الله نصح داود أن يرجع إلى بلاده، وأن يذهب إلى حبرون.

ليتنا نسأل الله قبل أن نخطو أية خطوة هامة في حياتنا. ليتنا نتكلم مع الله ونطلب إرشاده بدل أن نعتمد على فكرنا البشري فقط ونتكل على حكمتنا وحدها. إننا محتاجون أن نصغي لفكر الله دائماً.

داود يملك في حبرون:

توجه داود إلى حبرون كما أوصاه الله. وحبرون مدينة سكن فيها إبراهيم خليل الله. وهناك اشترى إبراهيم حقل المكفيلة ليكون قبراً لسارة وله. وفيها تغرب ابنه اسحق بعض الوقت. وبعد أن أخذ بنو إسرائيل أرض كنعان بقيادة يشوع صارت حبرون من نصيب الكهنة، وجعلوها مدينة ملجأ. ومدينة حبرون موجودة ليومنا هذا، واسمها «الخليل» لأنها مدينة إبراهيم خليل الله. لقد اختار الله حبرون أعظم مدينة في أرض يهوذا، السبط الذي جاء منه داود، ولذلك فإن أهل حبرون أعظم من يحبون داود ويميلون إليه، خصوصاً وأن الملك شاول كان من سبط آخر هو سبط بنيامين. ثم أن مدينة حبرون كانت في موقع ممتاز يحميها من هجوم الوثنيين، الأمر الذي يعطي داود فرصة لتدبير الأمر، أول عهده في الحكم، بعيداً عن الحرب والنزاع. وكان خير حبرون كثيراً لأن بالقرب منها خمسة وعشرين ينبوعاً من الماء وعشر آبار كبيرة، مع كروم وغابات أشجار زيتون. وسمع داود نصيحة الله له، وأخذ رجاله وعائلاتهم وسكنوا في مدن حبرون. وجاء رجال يهوذا ومسحوا داود ملكاً على سبط يهوذا. في تلك المناسبة كتب داود مزموره المئة والواحد. وظل داود يملك سبع سنوات ونصف.

حرب أهلية:

كان أبنير قائد جيش شاول قد نجا في الحرب، ولم يبق من أبناء شاول حياً إلا واحد اسمه إيشبوشث. وأبنير هو ابن عم الملك شاول، فيكون أيضاً عم إيشبوشث. يظهر أن أبنير نظم رجال بني إسرائيل، وبقي يحفظ النظام في المملكة، ويدافع عنها خمس سنين ونصف. ثم بعد ذلك أخذ إيشبوشث ابن شاول وملَّكه على بقية أسباط إسرائيل. فملك إيشبوشث سنتين وكان عمره حين ملك أربعين سنة.

وأراد أبنير قائد الجيش أن يضم يهوذا إلى مملكته ويطرد داود، فأخذ جيشاً كبيراً من رجاله وسار نحو بركة جبعون. وخرج يوآب قائد جيش داود وهو في الوقت نفسه ابن أخته صروية، ومعه عدد كبير من رجال جيش داود. وخرج إثنا عشر رجلاً من الجيشين، وأمسك كل واحد صاحبه في مصارعة، وضرب صاحبه بالسيف في جنبه فقتله. وسقط الرجال الأربعة والعشرون. وكانت الحرب شديدة في ذلك اليوم. واتفق الطرفان أن يتوقَّفا عن الحرب، ورجع كل جيش إلى بلاده وانتهت الحرب الأهلية التي بدأها أبنير وأنهاها أبنير أيضاً.

داود يملك على كل الأسباط:

ومنذ تلك الحرب كان داود يتقوى، وكان بيت شاول يضعف، إلى أن اختلف أبنير مع إيشبوشث فانقلب ضده. وأرسل أبنير رسلاً إلى داود يطلب أن يدخل في عهد معه ليساعده ليكون ملكاً على كل أسباط بني إسرائيل، فوافق داود على ذلك. وذهب أبنير إلى شيوخ بني إسرائيل يقنعهم أن يقبلوا داود ملكاً عليهم. وأبنير أفضل من يقدر على الإقناع، لأنه كان صديق بيت شاول، وها هو يغيِّر فكره ويتبع داود. ولا بد أن هناك سبباً يجعل أبنير يغير فكره. وقال أبنير لبني إسرائيل: الرب كلم داود قائلاً: «إني بيد داود عبدي أخلص شعبي بني إسرائيل من يد أعدائهم» فاقتنع بنو إسرائيل جميعاً وكل رجال سبط بنيامين، أهل الملك شاول، وقابلوا داود وطلبوا منه أن يملك عليهم جميعاً، وقطعوا معه عهداً، وجعلوه ملكاً على كل بني إسرائيل. لقد كان الرب مع داود فانتصر. كان الرب معه، فكان صموئيل النبي ناصحه، ولا زال المؤمنون يرنمون تراتيله. وكان الرب معه فانتصر على الآلام والتجارب، وكان الرب معه فأحب أعداءه وعاملهم معاملة حسنة، وها هو يملّكه على كل بني إسرائيل. والله يحقق وعده دوماً.

وقال جميع أسباط إسرائيل لداود: «هُوَذَا عَظْمُكَ وَلَحْمُكَ نَحْنُ. وَمُنْذُ أَمْسِ وَمَا قَبْلَهُ حِينَ كَانَ شَاوُلُ مَلِكاً كُنْتَ أَنْتَ تُخْرِجُ وَتُدْخِلُ إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ قَالَ لَكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ: أَنْتَ تَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْتَ تَكُونُ رَئِيساً لِشَعْبِي إِسْرَائِيلَ» (1أخبار11: 1، 2). وكان عمر داود عندما ملك على كل بني إسرائيل ثلاثين سنة، لكنها كانت سنوات عامرة بالاختبار، غنية بالتجارب، لأن داود رأى فيها المتاعب كما رأى البركات، وعرف البشر، وعرف الله. وأقام بنو إسرائيل حفل تتويج لداود استمر ثلاثة أيام، أكلوا فيها وشربوا، وكان الشعب القريب من حبرون يُحضرون الطعام على الحمير والجمال والبغال والبقر حتى يأكل الرجال الذين جاءوا يملّكون داود عليهم. وكان فعلاً حفلاً عظيماً.

عاصمة المملكة:

ملك داود على بني إسرائيل لأن الله قد سبق ووعده بذلك. وأراد أن يختار عاصمةً لمملكته. كانت عاصمة مملكة شاول مدينة جبعة، وسط أهله من سبط بنيامين. وملك داود في حبرون سبع سنوات ونصف، وحبرون مكان مقدس لأن إبراهيم سكن فيه. وعندما جاء كل الشعب إلى داود ليملك عليهم اختار مدينة أورشليم عاصمة لمملكته. وهي أفضل مكان جغرافياً لموقع العاصمة، لأنها في موقع متوسط يسهُل منه حكم الدولة كلها، ولأنها حصينة وسط الجبال يصعب على الأعداء أن يهجموا عليها، ثم لأنها وسط مكان جميل، وداود يحب الطبيعة لأنه مرتل موهوب.

كانت مدينة أورشليم في ذلك الوقت في يد اليبوسيين، فطلب داود منهم أن يعطوها له، فرفضوا. ولذلك حصل عليها داود بالحرب. يقول المؤرخ يوسيفوس: إن يوآب حفر خندقاً تحت الأرض ودخل منه إلى قلب الحصن، وفتح أبواب أورشليم في وجه كل جيش داود. وهكذا أخذ داود المدينة الحصينة وجعلها عاصمة لمملكته.

لنا دروس:

صار داود ملكاً على بني إسرائيل جميعاً. ولنا من هذا بعض التعاليم:

  1. أول درس نتعلمه أن الله جهز داود بالألم. لقد صرف داود نحو أربع عشرة سنة في عذاب وتشريد، ولكن كل سنة من هذه السنين كانت مدرسة تعلّم خلالها داود الشيء الكثير. لم يكن من السهل أن يجيء صبيّ من وراء الغنم ليملك. فكان لا بد لداود الراعي الصغير أن يتدرّب حتى يدرك ويفهم وينضُج. وكان الألم مدرسة الله، علّم فيها داود الشيء الكثير.

    إن كنت تتألم، فاعلم أن الله يجهزك لمكان أفضل. لقد سبق أن تألم يوسف وهو في السجن بعد أن بيع عبداً في مصر، وكانت سنوات تشريد داود الأربع عشرة هي السنوات التي تعلّم خلالها كيف يصير ملكاً، يلقي اعتماده تماماً على الله، ويحكم على شعبه بالحكمة.

  2. وهناك درس آخر: إن النجاح ليس سريعاً. لقد وعد الله أن يجعل داود ملكاً، ولكن وقتاً طويلاً مضى قبل أن يتحقق الوعد، لأن لكل شيء تحت السماء وقتاً. لا تستعجل، بل انتظر الرب. هل صلَّيت من أجل شيء ولم تحصل عليه؟ لا تفشل، لأن الكتاب المقدس يقول لنا: «في وقته أُسرع به» هل تريد أن تغيِّر حالةً تُتعبك؟ سيجيء الوقت. سلم نفسك لله. انتظر الرب واصبر له، فسوف يحقق الله في حياتك معجزته.

  3. وهناك درس ثالث: لقد جهّز الله لكل واحد من أولاده عملاً خاصاً. يقول لنا رسول المسيحية بولس: «لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ - عمل المسيح - مَخْلُوقِينَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أفسس 2: 10). ربما جهز الله لك عملاً كقائد، أو ربما جهز لك عملاً بسيطاً. ربما أعطاك وزنة واحدة، أو ربما أعطاك عشر وزنات. لكن عندك وزنة، ولك عمل وعليك مسئولية. لقد كان العمل الذي اختاره الله لداود أن يصير ملكاً، لكن قد يكون عملك أنت بسيطاً. صلِّ واطلب أن يكشف لك الله ما يريدك أن تفعله لخدمته، ثم افعله.

الفصل العاشر: داود يملك في أورشليم

بعد أن سكن داود في أورشليم صادَقَ حيرام ملك مدينة صور. وأرسل حيرام هدية إلى داود من خشب الأرز الثمين، كما أرسل نجارين وبنائين بنوا له قصراً فخماً. ولما كانت صور على شاطئ البحر، فقد كانت تحتاج إلى القمح والزيت وغيره من غلاّت الأرض، كما تحتاج أيضاً إلى طريق لتجارتها مع بلاد الشرق، فكان حيرام محتاجاً إلى داود. أما داود فقد كان محتاجاً إلى صداقة حيرام، لأن مملكته تحتاج إلى واردات البحر والمصنوعات، فقبل داود هدية الملك حيرام من خشب الأرز، وهو خشب لبنان الشهير، الأصفر اللون، فإذا مضت عليه الأيام صار أحمر اللون مُرّ الطعم فلا يأكله السوس، ولذلك يعمّر طويلاً، وهكذا بنى حيرام لداود قصراً يعمّر طويلاً.

داود ينقل خيمة الاجتماع:

بعد أن استراح داود في أورشليم بدأ يفكر في تنظيم العبادة والأمور الروحية. وكانت خيمة الاجتماع مكان اجتماع الرب بشعبه موجودة في بلدة اسمها نوب. ولكن لما مات أهلها نقلوا الخيمة إلى جبعون. وكان تابوت الله في قرية اسمها يعاريم. وبقي التابوت في يعاريم سبعين سنة. والتابوت هو صندوق صنعه موسى من خشب السنط المغطى بالذهب، طوله ذراعان ونصف، وعرضه ذراع ونصف، وارتفاعه ذراع ونصف. وعلى جانبي التابوت أربع حلقات من الذهب، توضع في كل حلقتين منها عصا، ليحمل اللاويون التابوت. وكان بالتابوت وعاءٌ فيه المن، وعصا هارون التي أفرخت، ولوحا العهد عليهما الوصايا العشر التي كتبها الله. وفوق التابوت كان يوجد الكاروبيم، وهو منظر ملاك بجناحين. وكان التابوت يمثل حضور الله وسط شعبه. وعندما أراد داود أن ينقل التابوت إلى عاصمة مُلكه أخذ معه ثلاثين ألف رجل من الجيش. وكان القصد من ذلك أن يحرس الشعب من هجوم الأعداء إذا فكروا أن يهاجموه، كما أن هذا يُظهر احترام داود العظيم لعبادة الله، ويُظهر أيضاً أن كل الشعب بكل أسباطه يشترك في العبادة وفي الرغبة أن تكون أورشليم مركز العبادة.

ودعا داود الشعب والكهنة ليحضروا عملية نقل التابوت. واجتمع الجميع لأنهم عرفوا أن إهمال الدين كان سبب هلاك شاول. ولم يتبع داود الطريقة التي أمر الله أن يحملوا التابوت بها. فقد وضع التابوت على عربة تجرها الثيران. وعندما انشمصت الثيران أسند رجل اسمه عُزّة التابوت بيده، فضربه الله فمات. فخاف داود كثيراً، وقال في نفسه: «إن كان عزة لمس التابوت فمات، فكيف يأتي التابوت إليّ؟ أنا أخاف منه». وترك داود التابوت في المكان الذي مات فيه عُزة، وكان ذلك المكان قرية جت، عند بيت رجل اسمه عوبيد أدم. وبارك الله عوبيد وبيته، فانتقل من الفقر إلى الغنى. ولما سمع داود أن الله بارك عوبيد ذهب عنه خوفه وقرر أن يُصعد التابوت إلى مدينة أورشليم. وفي هذه المرة عرف داود طريقة حمل التابوت، فجاء الكهنة وحملوا التابوت على أكتافهم كما يجب أن يفعلوا. وذبح الكهنة سبعة عجول وسبعة ثيران. ثم بعد ما تقدموا ستّ خطوات قالوا إن الرب أعانهم، فذبحوا ثوراً وعجلاً. وخرج الملك داود يهتف ويغني ويرقص ويسبح الله. وأدخل داود التابوت في مكانه وسط الخيمة التي نصبها له. وذبح ذبائح كثيرة للشكر على نقل التابوت وأعطى الشعب هدايا، ووعظهم أن يثبتوا في عبادة الرب.

داود يبارك بيته:

بعد نهاية عبادة الله في الخيمة، رجع داود إلى بيته ليبارك أفراد أسرته. لم ينس أن عليه واجباً نحو أهل بيته، فأراد أن يشترك الجميع معه في الفرح المقدس.

ومن هذا نتعلم ضرورة الاهتمام بالعبادة في بيوتنا. فإن كنا نتعبّد وسط الناس، يجب علينا أن نتعلم كيف نتعبّد في بيوتنا، كما قال يشوع: «أَمَّا أَنَا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ ٱلرَّبَّ» (يشوع 24: 15). ماذا تفعل لأهل بيتك؟ هل تشجعهم على العبادة؟ هل تصلي معهم في البيت؟ هل أنت قدوة طيبة لهم؟ لا تفشل إن كان أحد أفراد العائلة بعيداً عن الله، فإن حياتك الصالحة وقدوتك الطيبة ستكون رائحة ذكية لذلك الشخص البعيد، فيرجع إلى الله. ثق أن المحبة التي تبيّنها للشخص البعيد ستربحه للطريق الصحيح إلى الإيمان.

وقبل أن ننهي تأملنا هذا، دعني أؤكد لك أننا يجب أن نقترب إلى الله بكثير من الاحترام. أحياناً نرتّل بدون انتباه، ونصلي حتى نظهر للناس أننا نصلي، وندخل بيت الله كعادة تعوّدناها، بغير تفكير في أننا نريد أن نمجد الله. دعنا نذكر دائماً أن رأس الحكمة هي مخافة الله.

داود يريد بناء بيت للرب:

وضع داود التابوت في خيمةٍ مصنوعة من جلود الغنم. وعندما ذهب إلى قصره العظيم المبني من خشب الأرز الغالي الثمن، الذي أرسله إليه حيرام ملك صور، قال داود في نفسه: «ليس جيداً أن أسكن في قصر، وتابوت الله يسكن داخل خيمة من جلود الغنم». فدعا الملك داود ناثان النبي وقال له: «أريد أن أبني بيتاً للرب». وأُعجب ناثان النبي كثيراً بفكرة داود، فقال له: «افعل ما بقلبك لأن الرب معك». لكن يبدو أن ناثان النبي قال هذه الكلمة بناءً على رغبة قلبه هو، وكردّ فعل طبيعي تجاه رغبة داود، بغير أن يستشير الله. وعندما ذهب ناثان إلى بيته أعلن الله له في الليل أنه لا يوافق على فكرة أن يبني داود هيكلاً للرب، وقال الله لنبّيه ناثان إنه لم يسكن في بيت من قبل، وإنه لو كان يريد بيتاً لطلب من أحد قضاة بني إسرائيل أن يبني له البيت المطلوب، ثم قال: إن ابن داود هو الذي يبني البيت له، أما داود نفسه فلا يبني البيت، لأنه سفك دماً كثيراً، وقام بحروب عظيمة. غير أن الله أرسل لداود رسالة تشجيع. قال إن الله سيبني له بيتاً، وهذا معناه أن عائلته ستدوم في النجاح ويثبت كرسي مملكته إلى الأبد. وقال الله إنه سيجعل ابن داود ابناً له، فإذا تعوَّج يؤدبه ويسلط عليه البشر حتى يضايقوه، لكنه لا يرفضه ولا يطرده، ولن ينزع رحمته عن نسل داود كما سبق أن نزعها من الملك شاول.

فرفع داود صلاة شكر إلى الله في مزمور ترنيم جميل، تحدث فيه عن محبة الله ومواعيده ورأى أنه لا يستحق هذا الفضل كله. قال: «أنت عرفت عبدك» - نعم عرف خطايا عبده، وضعفه، كما عرف محبته وغيرته، وتجاربه وضيقه. لقد عمل الله كل صلاح مع داود حسب قلب الرب وليس بحسب صلاح داود، ولا بسبب خير أتاه داود، بل بحسب مسرة قلب الله ورضى مشيئته. وختم داود صلاة شكره لله بأن طلب البركة على نفسه وعلى بيته.

هل شعرت بفضل الله عليك.ماذا تريد أن تردّ للرب من أجل كل ما عمل معك؟ إن حاولت أن تقدم لله خدمة سيعطيك جزاءها، لأن الله لا ينسى تعب المحبة. ولقد قال السيد المسيح إن من يسقي أحداً كأس ماء بارد من أجل المسيح فلا يضيع أجره (متى 10: 42).

داود ينظم المملكة:

كان داود ملكاً عظيماً، عرف أن المملكة يجب أن تُنظَّم حتى تسير في نجاح، فإن إلهنا إله نظام وليس إله تشويش. فنظَّم داود العبادة في الهيكل، ونظم الجيش ونظم حكام البلاد، واعتنى بمدرسة الأنبياء التي بدأها صموئيل النبي، والتي كانت تدِّرب خدام الله.

وفي تنظيم خدمة الهيكل وجد أن هناك ثمانية وثلاثين ألف رجل من سبط لاوي، جعل منهم أربعة وعشرين ألفاً لخدمة عمل بيت الرب، وستة آلاف للقضاء، وأربعة ألاف يحرسون الهيكل، وأربعة آلاف للترتيل والتسبيح. ونظم داود الترنيم على آلات موسيقية وكتب الكثير من المزامير، وقوّى مدرسة الأنبياء لتعليم اللاويين الترتيل والشريعة.

ثم نظم الجيش، وكان أقوى جزء منه الستمئة رجل الذين رافقوه في الصحراء عندما كان هارباً من شاول. ومن هؤلاء الرجال الستمئة أبطال سجلت لنا التوراة عظيم أعمالهم.

ونظم داود حكم البلاد، فجعل لكل بلد حاكماً، ومنحه حرية الحكم في بلده. وكان الحكام يجتمعون اجتماعات دورية معاً للتشاور مع الملك داود ولمعاونته. لم يكن الملك داود يملك كما يريد، بل كان دوماً تحت سلطة النبي الذي كان يعلن له إرادة الله، وكان يخضع لهذه الإرادة. صحيح أن داود كان رجل الله، وكان نبي الله، وكان صاحب المزامير، ولكنه لم يكن ينفرد بالسلطة وحده، فقد كان دوماً يتشاور مع الحكام الذين يحكمون بلاد بني إسرائيل ومع رجال الدين.

لا يمكن أن ينجح عمل بدون ترتيب، وهذا يعلمنا ضرورة الترتيب في بيوتنا وكنائسنا وعملنا.

وعندما نتأمل حياة داود ونرى كيف أنه أحب الله بكل قلبه حتى أراد أن يبني للرب بيتاً، يمكن أن نلمس محبته لله التي وجدت خير الجزاء من الله.

الفصل الحادي عشر: داود يخطئ

حتى الآن رأينا رجلاً يصعد من لا شيء ليكون ملكاً عظيماً - من وراء الغنم إلى قصر الملك - إلى الانتصار، إلى المُلك في حبرون على سبط يهوذا، وأخيراً إلى المُلك في أورشليم على كل بني إسرائيل. ولقد أعطاه الله ملكاً عظيماً.

كانت حياة داود حتى دراستنا الحالية نصرة تتلوها نصرة وكانت كل صفحة من حياته أكثر لمعاناً من الصفحة التي قبلها. كان يتقدم من مجد إلى مجد. ولكن داود سقط: ومنذ سقوطه بدأ في الهبوط، وكان كل يوم يحمل إليه خبراً سيئاً يحزن القلب. صحيح أنه لم يهلك، ولكنه انحدر ونزل في نظر نفسه، وفي نظر عائلته، وفي نظر شعبه. ونحن نسأل: هل تستحق الخطية كل الثمن المدفوع فيها؟ كان داود مثل البلبل الذي ارتفع في جو الصداقة مع الله، يرنم في السماء بفرح وابتهاج، وفجأة سقط على الأرض مكسور الجناح يصرخ طالباً رحمة الله.

يجب أن نحترس:

لا يجب أن نلوم داود لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا. في كل واحد منا شيء يقرِّبه إلى الله، وشيء آخر يشدُّه إلى الشر. فلنقف في حذر لئلا ندخل في تجربة، فإن رسول المسيحية بولس يحذرنا قائلاً: «مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ» (1كورنثوس 10: 12). لذلك لنكن ساهرين صاحين، لأن الشيطان كأسد زائر يريد أن يبتلعنا. لا نظن أن فترة الشباب وحدها هي مرحلة الخطية، فإن داود جاز مرحلة الشباب في انتصار، ولكنه سقط في الخطية وهو كبير العمر. وليس على الخطية كبير، ففي اللحظة التي نبتعد فيها عن الله نهوي إلى الشر. ولكن لتكن لنا ثقة بالله، فلا نفشل إن سقطنا، لأننا بقوة الله محروسون بإيمان لخلاص مستعد أن يُعلن في الزمان الأخير (1بطرس 1: 5). وإن سقطنا يجب أن نجري بسرعة إلى الرب ونطلب منه الغفران، عالمين وعد السيد المسيح المبارك: «وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي ٱلَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ ٱلْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي. أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يوحنا 10: 28-30).

غلطة داود:

كان بنو إسرائيل يحاربون بينما كان داود مستريحاً في قصره في أورشليم. وفي كسله وراحته زاره فكرٌ شرير، ورحَّب داود به، وانتزع امرأةً زوجة رجل. وكان داود قد سبق أن شجع هذا الضيف الشرير أن يزوره، فقد سبق أن تزوج سيدتين وهو في البرية، ثم تزوج خمس سيدات وهو في حبرون، ثم تزوج بعدد آخر وهو في أورشليم، وأضاف إلى كل زوجاته ست عشرة سُريّة. وعندما جاء الضيف الشرير إلى داود مرة أخرى أخطأ داود وأخذ نعجة الرجل الفقير. ويظهر أن النجاح الذي عاش فيه جعله ينسى الحذر، فلم ينتبه وسقط.

ولكن شكراً لله أنه لم يترك داود في خطيته، إذ أرسل إليه ناثان النبي لينبِّهه. واستيقظ داود ليبكي على خطيته، وكتب المزمور الحادي والخمسين اعترافاً.

وينقسم هذا المزمور إلى ثلاثة أقسام: طلب داود الغفران، ثم طلب التطهير، ثم طلب أن يعيده الله إلى خدمته.

اعتراف داود:

اعترف داود بالخطية التي ارتكبها، واستعمل كلمات مختلفة في وصفها. قال أنه ارتكب «معصية». والمعصية هي الثورة ضد الله.

وقال إنه عمل «إثماً» والإثم هو العَوَج. والذي يرتكب الإثم يحب الطريق الأعوج.

وقال إنه ارتكب «الخطيئة» والخطيئة هي عدم إصابة الهدف. لم يصب داود هدف وجوده في الحياة وأخطأ. وقال إنه عمل الشر، والشر هو عبور الخط الذي رسمه الله لنا، فقد وضع الله لنا حدوداً، والشرير هو الذي يعبر الخط إلى عالم الممنوع.

وفي طلب الغفران طلب داود أن «يمحو» الله معاصيه، كأن الخطيئة مكتوبة في كتاب، وداود يطلب من الله أن يمحوها.

وقال لله: «ٱغْسِلْنِي كَثِيراً مِنْ إِثْمِي». والغسل هنا هو بالخبط على حجر ليخرج الطين من الملابس القذرة، وكأن داود يطلب من الله أن يخبطه حتى يُخرج منه قذر الخطية. ثم يقول داود: «وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي». ثم يقول: «طَهِّرْنِي بِٱلّزُوفَا فَأَطْهُرَ». والتطهير بالزوفا هو استخدام الأعشاب التي كان بنو إسرائيل يغمسونها في الدم ليغطوا باب بيوتهم أثناء عيد الفصح، تذكاراً لوجود الدم على العتبة العليا وعلى قائمتي الباب، حتى لا يهلكهم الملاك المهلك. ومن يطهرنا إلا السيد المسيح؟

ثم يقول داود للرب: «ٱسْتُرْ وَجْهَكَ عَنْ خَطَايَايَ». وهذه فكرة الكفارة - وضع غطاء على الخطيئة حتى لا يراها الله. ودم المسيح هو الغطاء الذي يغطي الخاطئ ويستره.

أيها القارئ الكريم، هل في قلبك ثورة ضد كلام الله؟ هل فيك عوج وعدم استقامة؟ هل عجزت عن أن تصيب الهدف؟ هل عبرت الحدود التي رسمها الله لك؟... إذاً تعال إلى الله واطلب منه أن يمحو خطاياك ويسترك.

داود يطلب التطهير:

بعد أن طلب الغفران طلب التطهير. الغفران هو أن الله يسامحنا على ماضينا، والتطهير هو أن يعطينا الله القلب النقي الذي لا يحب الخطيئة. ونحن نحتاج بعد الولادة الجديدة إلى التطهير. تحتاج أيها التاجر إلى الاستقامة في تجارتك، كما تحتاجها أيها العامل وأنت تقوم بعملك. تحتاجها أيها التلميذ وأنت تجوز امتحاناتك، إذ يغسل الله قلوبنا من الشر حتى لا نحب الشر، وتتغير ميولنا من جهة الخطية.

تعال بنا نرى كيف طلب داود التطهير من الله، لنطلب نحن أيضاً منه أن يطهرنا.

  1. طلب داود من الله قلباً نقياً: «قَلْباً نَقِيّاً ٱخْلُقْ فِيَّ يَا اَللّٰهُ». والقلب النقي هو القلب النظيف الذي غسله السيد المسيح ويعطيه الله للإنسان كما يقول الإنجيل المقدس: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2كورنثوس 5: 17). فلنطلب من الله أن يعطينا القلب النقي.

  2. ثم طلب من الله أن يعطيه روحاً مستقيماً، قال: «وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي». هذه الروح عكس الروح الذي نجده في الآثام، فإن الروح المستقيم عكس الروح الملتوي. عندما خلقنا الله كانت لنا استقامة، لكن الخطية عوّجتها، ونحن نطلب من الله أن يجدّد استقامتنا التي ضاعت منا.

  3. ثم يقول داود للرب: «تُعَرِّفُنِي حِكْمَةً» والمقصود بالحكمة ليس المعرفة العقلية فقط، لكن حكمة التطبيق والتصرف. ورأس الحكمة مخافة الله. نحتاج إلى الحكمة في التصرف والتفكير، لنعرف كيف نواجه التجارب التي تهاجمنا. ويقول لنا الإنجيل إن كل من تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي بسخاء. فلنطلب من الله أن يعطينا الحكمة التي بها نتصرف ونحن نواجه الشهوة.

  4. ومضى داود يصلي لله: «لاَ تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ» نحتاج دوماً إلى الإحساس الدائم أن الله قريب منا حتى نعيش في القداسة والطهارة. قال رسول المسيحية بولس: «الربُّ قريب» (فيلبي 4: 5). بمعنى أنه عن يميننا فلا نتزعزع. إن الابتعاد عن الله هو سبب كل البلايا، لكن الشعور أن الله معنا ينصرنا على خطيتنا. صحيح أن الخطية تبعدنا عن الله، لكن وجه الله الذي يسير معنا يبعدنا عن الخطيئة.

  5. وقال داود لله: «وَرُوحَكَ ٱلْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي». الخطيئة في القلب تحزن روح الله، وداود يصلي أن لا ينزع الله روحه منه، بل أن يبقى عمل الروح القدس فيه، لأنه نادم على خطيئته ولأنه يريد أن تتطهر حياته.

  6. ثم قال داود للرب: «رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلاَصِكَ». الخطيئة تسلب الفرح، وتضيِّع بهجة الأُنس مع الله. لكن الذي يتوب إلى الله ترجع إليه بهجة الخلاص.

  7. ثم قال داود للرب: «بِرُوحٍ مُنْتَدِبَةٍ ٱعْضُدْنِي». والروح المنتدبة هي الروح التي تعطي بسخاء. كان داود مثل اللص الذي أخذ ما لجاره الفقير، لكنه يصلي أن يعطيه الرب روحاً سخية تجعله يتعب عاملاً الصالح ليعطي من له احتياج.

داود يطلب فرصة للخدمة:

بعد أن طلب داود من الله الغفران والتطهير، عاد يطلب من الله أن يعطيه فرصة الخدمة.

  1. قال لله: «أُعَلِّم ٱلأَثَمَةَ طُرُقَكَ» لقد سقط داود وتعب وعمل الإثم، ورأى نتيجته المُرّة، ولذلك فهو يريد أن يحذِّر الأثمة من طريقهم الشرير، ويهديهم إلى طريق الرب، لأن من ردّ خاطئاً عن ضلال طريقه، ينقذ نفس الخاطئ من الموت ويستر كثرة من الخطايا التي كان الخاطئ التائب سيرتكبها لو لم يتُب (يعقوب 5: 20).

  2. ثم يقول داود: «يُخْبِر فَمِي بِتَسْبِيحِكَ». كان داود قد نظّم مدرسة الأنبياء وأدخل فيها تعليم الترتيل والموسيقى، وهو يريد أن تستمر خدمة الترنيم والتسبيح.

  3. ثم قال داود لله إنه يريد أن يبني أسوار مدينة الله. الخطيئة تهدم السور الذي يحمي النفس. وإن كان الشعب قد رأى داود يخطئ، فإن الخطيئة تهون أمامهم، لأن الناس على دين ملوكهم، ويريد داود أن يضيّع تأثير خطئه، فطلب من الله أن يعطيه فرصة الخدمة وبناء سور مدينة الله.

يا ليتنا نعترف إلى الله بعد أن نخطئ، لنجد من الله مغفرة لخطايانا. لا تترك الخطية دون أن تعترف بها، فالمرنم يقول: «قُلْتُ: أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي» (مزمور 32: 5).

الفصل الثاني عشر: أبشالوم يثور على أبيه

رأينا كيف أخطأ داود إلى الله. وقد بدأ يحصد أجرة الخطيئة التي وقع فيها. بدأ الفساد ينخر بيته ثم مملكته، فقد ثار أبشالوم ابنه ضده، وجمع جيشاً كبيراً، وكاد يحدث انقلاباً في المملكة ضد أبيه، فهرب داود من عاصمة مُلكه، ودخلها أبشالوم بعده. وذهب داود إلى الصحراء حزيناً مكسور القلب. ولولا أن الرب تدخَّل وأنقذه، لكان ضاع، ولكن الله لم ينزع رحمته عنه ولا عن بيته، فأنقذه في اللحظة الأخيرة.

سبب ثورة أبشالوم:

ترى لماذا فكر أبشالوم بن داود أن يثور على أبيه؟ هناك عدة أسباب يمكن أن نجدها في التوراة.

  1. السبب الأول أن داود كان يفرّق في معاملة أولاده. كان أبشالوم يتضايق من أبيه لأنه كان يحب سليمان أكثر مما يحبه، وكان يريد أن يُملّكِ سليمان مكانه. ورأى أبشالوم أنه الوارث الأول للمُلك. كان أخواه الكبيران قد ماتا، وبقي أبشالوم أكبر الأبناء الأحياء، فله الفرصة أن يملك مكان أبيه. رأى أبشالوم أيضاً أنه الوحيد الذي يجيء من أصل ملكي، فإن أمّه معكة كانت ابنة ملك جشور، أما بقية إخوته، بمن فيهم سليمان، فإنهم أبناء سيدات عاديات. وهكذا رأى أبشالوم أنه الوارث الوحيد للعرش، وأنه وحده الذي يستحقه، فكيف يحاول أبوه داود أن يجعل من سليمان ملكاً؟

    إن أكثر ما يُخرب البيوت هو التفريق في معاملة الأبناء. فرّق يعقوب أبو الأسباط في معاملة أولاده، وأعطى يوسف الابن الأصغر القميص الملون، وفضله على بقية إخوته، فكانت النتيجة أن باعه إخوته لأنهم كرهوه. وكل أب يجب أن يحترس من إظهار المحبة لأحد أولاده أكثر من الباقين. إذ يجب أن يعامِل كل أولاده معاملة متساوية ويحقِّق لهم تكافؤ الفرص.

  2. وهناك سبب آخر هو عدم إيمان أبشالوم. لم يكن أبشالوم قريباً من الله. لقد عرف من ناثان النبي أن سليمان أخاه سيرث كرسي داود أبيه، ولكن كلام ناثان النبي لم يعجبه، فأراد أن يقوم بالثورة ليأخذ العرش. كان هذا نفس ما عمله الملك السابق شاول، إذ أراد أن يقتل داود حتى لا يأخذ المملكة منه، بينما كان يعلم تماماً أن الله وعد داود أن يكون ملكاً على بني إسرائيل. غير أن الله حقق وعده لداود رغم كل مقاومة شاول. وأبشالوم يفعل الشيء نفسه مع أبيه ومع سليمان أخيه.

    ومع أننا لا نعفي أبشالوم من مسئولية عدم إيمانه، إلا أننا نلوم داود الذي لم يهتم بأولاده كما يجب. صحيح أنه عندما نقل تابوت الرب إلى أورشليم اهتم بأهل بيته في العبادة، لكن أولاده كانوا يحتاجون إلى رعاية روحية أكثر من الرعاية التي قدمها لهم. لكن كيف يستطيع داود أن يعطي أولاده رعاية روحية وهو متزوج بنساء كثيرات وله أولاد كثيرون؟

    أيها الآباء، أولادكم عطية من الله في أيديكم، فعلِّموهم كلمة الله واهتموا بتنشئتهم في مخافته.

  3. وهناك سبب ثالث جعل أبشالوم يقوم بانقلابه. كان أبشالوم جميل المنظر. تقول التوراة عنه إنه لم يكن مثله في كل الشعب في جماله. من رأسه إلى قدميه لم يكن فيه عيب. كان شعره الطويل الذهبي غزيراً يحلقه كل سنة، فأحب الناس جمال منظر أبشالوم، والناس دوماً ينظرون إلى المظاهر. وكان أبشالوم ذكياً، فكان يجلس مبكراً على جانب الطريق حيث يجلس الملك وقضاة الشعب. ويبدو أن الملك داود كان يتأخر عن الحضور إلى مجلس القضاء، فكان أبشالوم يقابل أصحاب الشكاوى ويقول لهم كلاماً صالحاً، ويشكو من نقص الإنصاف في المملكة، ثم يقول: «مَنْ يَجْعَلُنِي قَاضِياً فِي ٱلأَرْضِ فَيَأْتِيَ إِلَيَّ كُلُّ إِنْسَانٍ لَهُ خُصُومَةٌ وَدَعْوَى فَأُنْصِفَهُ؟» (2صموئيل 15: 4). ولم يكن يقبل أن يسجد له أحد، بل كان يمسك الناس ويقبِّلهم، فأحبَّ الناس أبشالوم وأعجبتهم وعوده الجميلة. وعندما سمع الناس صوت البوق يدعو: قد ملك أبشالوم، أطلقوا أصواتهم يؤيدون ذلك الدعاء.

  4. وكان هناك سبب رابع. كان أبشالوم شاباً صاعداً في الحياة، وكان داود يكبر وينزل في طريق الشيخوخة. كان أبشالوم يحيط نفسه بخمسين رجلاً يجرون أمامه، وأغلب الظن أن داود كان مريضاً منطوياً في قصره. ويقول بعض المفسرين إن داود كتب المزمور الحادي والأربعين وهو مريض في تلك الأيام، وفيه يقول: «ٱلرَّبُّ يَعْضُدُهُ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِ ٱلضُّعْفِ. مَهَّدْتَ مَضْجَعَهُ كُلَّهُ فِي مَرَضِهِ. أَنَا قُلْتُ: يَا رَبُّ ٱرْحَمْنِي. ٱشْفِ نَفْسِي لأَنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَيْكَ» (مزمور 41: 3 و4). وكان الشعب قد عرف قصة سقوط داود في خطيئته، ولكنهم رأوه يجمع المواد اللازمة لبناء الهيكل. ولعل الشعب تساءل: «كيف يقتل هذا الرجل ويزني، وفي الوقت نفسه يعمل على بناء بيت الرب؟».

    لا بد أنهم لم يعرفوا أن داود قد تاب، لذلك أسرع كثيرون وراء الملك الجديد أبشالوم.

كيف قام أبشالوم بثورته:

حاول أبشالوم أن يسرق قلوب الشعب، فجعل يتظاهر أمامهم أنه لا يوجد عدل في المملكة، وأنه لو تولاّها وأصبح هو الملك لأجرى العدل والقضاء لجميع المظلومين، فأحبّه الشعب وجعلوا يتطلعون إلى اليوم الذي يعتلي فيه العرش.

بعد أن اطمأن أبشالوم إلى أن الشعب أحبه وتعلّق به قال لأبيه إنه نذر للرب نذراً في حبرون، وطلب الإذن أن يذهب ليقدم تقدمات للرب، فسمح داود له، وهو لا يعلم أن ابنه قد دبّر انقلاباً ضده. وأرسل أبشالوم جواسيس في كل البلاد لينادوا في وقت واحد أنه قد ملك، حتى إذا سمع الناس صوت البوق يخرجون وراءه. وأخذ أبشالوم معه مئتي رجل من عظماء المملكة، لا يعرفون فكرة الثورة ضد داود. وقد أراد أبشالوم أن يكون هؤلاء الرجال مشيرين له. وعندما سمع داود بخبر الثورة وعرف أن كثيرين تبعوا أبشالوم هرب من أورشليم هو والمخلصون له. ولكنه رفض أن يأخذ معه تابوت الرب المقدس، وطلب من الكاهن أن يُرجع التابوت إلى مكانه. كان داود يعلم أن إله العهد معه، فإذا قبل توبته أرجعه إلى أورشليم بسلام ليعبده هناك. مع أن داود أخطأ، إلا أنه كان يدرك أن الرب راعيه. لقد قال هو: «اَلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ. فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ ٱلرَّاحَةِ يُورِدُنِي. يَرُدُّ نَفْسِي. يَهْدِينِي إِلَى سُبُلِ ٱلْبِرِّ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ» (مزمور 23: 1-3). كان داود يعلم أنه حتى لو كان أخطأ فإن الله لا بد أن يردّ نفسه إلى سبل البر، سواء كان تابوت العهد معه أو لم يكن، فإن الله الحيّ الدائم الوجود معه يؤازه.

هرب داود من أورشليم ومعه أصدقاؤه المخلصون له، وطلب من مشيره وصديقه حوشاي أن يذهب إلى أبشالوم ليتكلم ضد مشورة رجل اسمه أخيتوفل الجيلوني، كان قد تبع أبشالوم. كان داود حزيناً لأن أخيتوفل الذي انضم إلى أبشالوم كان صديقاً له، ومع ذلك فقد خانه. وفي هذا كتب داود مزموره الخامس والخمسين وقال فيه: «فَرِّقْ أَلْسِنَتَهُمْ، لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ ظُلْماً وَخِصَاماً فِي ٱلْمَدِينَةِ... لأَنَّهُ لَيْسَ عَدُوٌّ يُعَيِّرُنِي فَأَحْتَمِلَ. لَيْسَ مُبْغِضِي تَعَظَّمَ عَلَيَّ فَأَخْتَبِئَ مِنْهُ. بَلْ أَنْتَ إِنْسَانٌ عَدِيلِي، إِلْفِي وَصَدِيقِي، ٱلَّذِي مَعَهُ كَانَتْ تَحْلُو لَنَا ٱلْعِشْرَةُ. إِلَى بَيْتِ ٱللّٰهِ كُنَّا نَذْهَبُ فِي ٱلْجُمْهُورِ» (مزمور 55: 9-14).

نهاية الثورة:

وسار أبشالوم وأصحابه من حبرون إلى أورشليم، وهناك أشار أخيتوفل أن يهاجم أبشالوم دواد أباه مباشرة. ولكن حوشاي أشار مشورة ضد مشورة أخيتوفل. قال أن يتأخر أبشالوم حتى يجمع رجالاً من كل أسباط إسرائيل، ثم يسير معهم ليحارب أباه. وأُعجب أبشالوم بمشورة حوشاي، مع أن مشورة أخيتوفل كانت أفضل لأن الله لم يُرد لثورة أبشالوم أن تنجح. وأسرع حوشاي يخبر داود عن عزم أبشالوم على الهجوم على أبيه بعد أن يدعو كل أسباط إسرائيل. وكان الوقت الذي قضاه أبشالوم في جمع أسباط بني إسرائيل يكفي لأن يعبر داود نهر الأردن ويهرب إلى محنايم، ويستعد مع الرجال الذين معه للموقعة. وأقام أبشالوم قائداً على جيشه ونزل إلى محنايم. وقسم داود جيشه إلى ثلاثة أقسام، وحارب جيشُ داود جيشَ أبشالوم ابنه، وانتصر. في ذلك اليوم مات من جيش أبشالوم عشرون ألفاً، وكان عدد الذين ماتوا بين أشجار الغابة أكثر من الذين ماتوا بالسيف. وكان من ضمن القتلى أبشالوم نفسه. كان راكباً على بغل، دخل تحت أغصان شجرة بطم، فتعلَّق رأس أبشالوم في غصن، ومرّ البغل وبقي أبشالوم معلقاً من شعره الغزير في فرع تلك الشجرة. وعرف يوآب قائد جيش داود بمكان أبشالوم، فأخذ ثلاثة سهام ضربها في قلب أبشالوم وهو حي، فقتله، ودفنوه في حفرة كبيرة بالقرب من المكان الذي مات فيه، وأقاموا عليه كومة كبيرة من الحجارة، حسب عادة اليهود في تحقير المجرمين.

داود يبكي ولده:

وعندما عرف داود أن أبشالوم مات جعل يبكي بكاء مراً. وجلس الشعب حائراً حزيناً ليس لهم ملك. داود هرب من الأرض أمام أبشالوم ومات أبشالوم مقتولاً، والملك ليس في عاصمته. عرف داود أن أهله الذين هم سبط يهوذا لن يتحركوا ليدعوه ليعود إلى عاصمته لأنهم كانوا في خجل شديد بسبب مؤازرتهم للانقلاب، فأرسل إليهم كاهنين يقولان لهم إنه غفر لهم، وينتظر منهم أن يُرجعوه إلى عرشه. ثم أرسل لعماسا قائد جيش أبشالوم ووعده أن يجعله رئيس جيشه، وقصد داود بذلك أن يُرضي رجال يهوذا، كما قصد أن يُرضي الذين آزروا ابنه. وقبل رجال يهوذا كلام الملك وأرسلوا إليه يقولون: «ارجع أنت وعبيدك». فرجع الملك داود ليملك، ولاقاه الشعب عند نهر الأردن. وجاء إليه كثيرون يوضحون له محبتهم ويهنئونه بسلامة الرجوع. لقد كان ذلك اختباراً مراً جاز فيه داود، لكن الله أنقذه. صحيح أن داود خسر ولده لكنه تعلم درساً من جديد في محبة الله له.

الفصل الثالث عشر: نشيد الخلاص

مات داود ودُفن في أورشليم وله من العمر سبعون سنة. وكان قد ملك أربعين سنة: سبع سنين في حبرون، وثلاثاً وثلاثين سنة في أورشليم. رقد ملك عظيم ومرنم عظيم وإنسان عظيم. رقد صاحب المزامير الذي كان حسب قلب الله، وأيُّ إنسان يحيا ولا يرى الموت؟

في ختام حياة داود ردَّد مزموراً جميلاً، سجل فيه شعوره من نحو الإله المحب المنقذ. نجده في الأصحاح الثاني والعشرين من سفر صموئيل الثاني، كما نجده مع تغيير بسيط في المزمور الثامن عشر. والأغلب أن داود كتب مزموره ليستعمله كل الشعب في العبادة الجمهورية. في مقدمة المزمور يتكلم عن علاقته بالرب، ثم يصف الضيقات التي جاز فيها، وكيف خلَّصه الرب منها. وأخيراً يشرح الطريقة التي أنقذه الرب بها. ثم يلخص عمل الرب معه ويرفع شكره لله منتظراً مجيء المسيح من نسله.

علاقة داود بالرب:

يتحدث داود في الأعداد الأربعة الأولى من مزموره الثامن عشر عن علاقته بالله فيقول: «ٱلرَّبُّ صَخْرَتِي وَحِصْنِي وَمُنْقِذِي. إِلٰهِي صَخْرَتِي بِهِ أَحْتَمِي. تُرْسِي وَقَرْنُ خَلاَصِي وَمَلْجَإِي» (مزمور 18: 2). وفي هذه الآيات نرى داود في ضعفه وهجوم الأعداء عليه، لكنه يرى الله في قوته ينقذ ويخلّص وينجي. يقول عن الله إنه الصخر، فيه الحماية، ويقول إنه الترس الذي يحفظ ويحمي من سهام العدو، ويقول إنه الملجأ والمناص، أي النصيب. يدعو الله في كل حين فيخلّصه.

ليس لنا إلا الضعف والخطأ نلجأ بهما إلى الله، وعنده نجد الخلاص، بمعنى الشفاء والإنقاذ. أسرِع إلى الرب في كل ضيقة، وسينقذك كما أنقذ داود.

خلاص داود بالرب:

ويمضي داود في مزموره فيتكلم عن الضيقات والخلاص. يقول إن الضيق مثل الأمواج التي تُغرق، والسيول التي تجرف. كان الضيق الذي جاء عليه من الحيل والغش مثل حبال الهاوية ومثل القبر. هذه الأخطار اكتنفت داود، وأحاطت به وأفزعته. وفي وسط هذه كلها صرخ إلى الله.

ويشرح داود خلاص الله الذي جاء إليه بطريقة غريبة مدهشة، ويستعمل تعبيرات بشرية تشرح ما عمل الله معه. إنه يصور الله في صورة جبار عظيم، أقبل إلى معونته بعد أن نزل من سمائه. يقول إن الله جاء لخلاصه في نار ورعودٍ وبرق. وعند مجيء الله إليه ارتعدت الجبال التي هي أسس السماوات، وطأطأ الله السماوات حين نزل لينقذ عبده وليظهر قوته للعالم، والضباب تحت رجليه، بمعنى أن طرقه لا يمكن أن يفهمها البشر، كأن كلام الله نار وكأنه جمر. يقول داود إن الله ركب على كروب، والكروب يرمز إلى الملاك الذي يخدم الله، وكأن الله وملائكته جاءوا ينجدون داود. ما أكرم رحمة الله لأولاده. إن الله يعمل المعجزات.

هل أنت في ضيق حتى كأن حبال الهلاك تسحبك؟ هل أحاطت بك المكائد؟ هل تضايقك الأهوال؟ توجّه إلى الله واطلب وجهه تجد الإنقاذ والنجاة.

ثم يتقدم داود ليشرح الطريقة التي أنقذه الرب بها. إنه يصف نفسه بالطهارة والكمال والبر. ونحن نعلم أن صلاح المؤمن وبرَّه ليسا منه، لكنهما من الله. لنا البر الذي من الله بالإيمان، وهو الذي يبرر الخاطئ. ليس عند داود بر ولا طهارة ولا كمال من نفسه، ولكن الله هو الذي برره من بعد شره، وهو الذي نقل عنه خطيته وستر إثمه وطهَّره، فابيضّ أكثر من الثلج.

هل أخذت من الله غفران خطاياك؟ أسرع وصلِّ إليه قائلاً: «اللهم ارحمني أنا الخاطئ». قبل الله داود، لأن الله رحيم. وظل يعامله بهذه الرحمة الإلهية. ويقول داود إن الله سراجه، وإنه ينير ظلمته، وظلمة الخوف من الأعداء وظلمة الضيق من المضايقين.

صورة الرب في نظر داود:

ثم يلخص داود عمل الله معه، ويقدم ثلاثة أوصاف للرب:

  1. أمانة الله. يقول: «قَوْلُ ٱلرَّبِّ نَقِيٌّ. تُرْسٌ هُوَ لِجَمِيعِ ٱلْمُحْتَمِينَ بِهِ» (2صموئيل 22: 31) وهذا كلام رائع لأن وعد الله صادق وكل من يستند عليه ويحتمي به ينال عونه وبركته.

  2. ثم يتحدث عن محبة الله فيقول: «ٱلإِلٰهُ ٱلَّذِي يُعَزِّزُنِي بِٱلْقُوَّةِ» (2 صموئيل 22: 33). يعزّز أولاده ويعطيهم القوة الداخلية التي تمكّنهم من الصمود أمام العدو.

  3. أما الصفة الثالثة فهي دوام الله. يقول: «حيٌّ هو الرب». الله حيٌّ عامل فينا ومعنا. وهو حيٌّ دائم الوجود، لا تغيير فيه.

وفي الآيتين الأخيرتين يقدم داود شكراً ويعبر عن الانتصار. يرفع الشكر القلبي وينتظر الخلاص الكامل في المسيح الآتي.

تُرى هل نذكر الله بعد نجاتنا ونشكره؟ ما أكثر الذين يأخذون من الله، ولكنهم يمضون وينسون. على أن داود جاء يشكر. ونحن اليوم نتمتع بالخلاص الكامل في المسيح وننتظر مجيئه ثانيةً من السماء.

أيها القارئ الكريم، كن مع الله لتكون حياتك ترنيمة فرح دائم. وكما كان داود صاحب المزامير يمكن أن تكون أنت مؤمناً فرحاناً دائماً، لأن الله يحبك، ولأنك تسلك معه.

سليمان الحكيم

الفصل الرابع عشر: سليمان يملك

سليمان إمام الحكماء هو ملك بني إسرائيل، الذي خلف أباه الملك داود على العرش، وملك أربعين سنة. وكان أعظم ملك. ومع أن الملك سليمان عاش منذ ثلاثة آلاف سنة. إلا أن اسمه لا زال مشهوراً في العالم كله، بحكمته وبعظمة مملكته. ولقد وصلتنا تقاليد كثيرة من الأيام القديمة تروي عظمة قوة سليمان وإنجازاته وروعة حكمته، وربما كانت بعض هذه الأخبار صحيحة. على أن الكتاب المقدس يحتوي القصة الصحيحة عن حياة سليمان وعن مُلكه.

وفي كتابنا هذا سنعتمد على الكتاب المقدس كالمرجع الوحيد لحياة سليمان، هذا الملك العظيم.

كان سليمان أصغر أبناء الملك داود من زوجته بثشبع. وُلد في أورشليم عاصمة مملكة داود حوالي سنة 970 قبل ميلاد السيد المسيح. وكان الله قد قال للملك داود إن ابنه هذا سوف يصبح خليفته على العرش وقال له: «يُولَدُ لَكَ ٱبْنٌ يَكُونُ صَاحِبَ رَاحَةٍ، وَأُرِيحُهُ مِنْ جَمِيعِ أَعْدَائِهِ حَوَالَيْهِ، لأَنَّ ٱسْمَهُ يَكُونُ سُلَيْمَانَ. فَأَجْعَلُ سَلاَماً وَسَكِينَةً فِي إِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِهِ. هُوَ يَبْنِي بَيْتاً لٱِسْمِي، وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ٱبْناً، وَأَنَا لَهُ أَباً وَأُثَبِّتُ كُرْسِيَّ مُلْكِهِ عَلَى إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلأَبَدِ» (1أخبار 22: 9 و10).

وسليمان اسم عبري معناه «رجل سلام». ولقد أطلق الله على سليمان اسماً آخر - سمّاه «يديديا» أي محبوب الرب (2صموئيل 12: 24، 25).

داود يختار سليمان خليفة له:

عندما بلغ داود السبعين من عمره أراد ابنه الأكبر أدونيا أن يأخذ المملكة من أبيه، وأن يجلس على عرشه. ولكن بثشبع أم سليمان أسرعت إلى داود تقول: «أَنْتَ يَا سَيِّدِي حَلَفْتَ بِٱلرَّبِّ إِلٰهِكَ لأَمَتِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ ٱبْنَكِ يَمْلِكُ بَعْدِي وَهُوَ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّي. وَٱلآنَ هُوَذَا أَدُونِيَّا قَدْ مَلَكَ. وَٱلآنَ أَنْتَ يَا سَيِّدِي ٱلْمَلِكُ لاَ تَعْلَمُ ذٰلِكَ... وأَعْيُنُ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ نَحْوَكَ لِتُخْبِرَهُمْ مَنْ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ سَيِّدِي ٱلْمَلِكِ بَعْدَهُ» (1ملوك 1: 17-20). وعندما عرف الملك داود من مصادر أخرى أن ابنه أدونيا قد حاول اغتصاب المُلك منه، أصدر أوامره بتجليس سليمان على العرش وقال: «حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي فَدَى نَفْسِي مِنْ كُلِّ ضِيقَةٍ إِنَّهُ كَمَا حَلَفْتُ لَكِ بِٱلرَّبِّ إِلٰهِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ سُلَيْمَانَ ٱبْنَكِ يَمْلِكُ بَعْدِي وَهُوَ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّي عِوَضاً عَنِّي، كَذٰلِكَ أَفْعَلُ هٰذَا ٱلْيَوْمَ» (1ملوك 1: 29-30). وأمر الملك داود صادوق الكاهن وناثان النبي وبقية قادة المملكة أن يُركبوا سليمان ابنه على البغلة التي له وينزلوا به إلى جيحون ليمسحه صادوق الكاهن هناك ملكاً. وأمر بأن يُضرب بالبوق وأن يقولوا: «لِيَحْيَ ٱلْمَلِكُ سُلَيْمَانُ» (1ملوك 1: 16-39).

ولما تمت هذه المراسيم جاء رجال الملك يهنئون ملكهم داود قائلين: «يَجْعَلُ إِلٰهُكَ ٱسْمَ سُلَيْمَانَ أَحْسَنَ مِنِ ٱسْمِكَ، وَكُرْسِيَّهُ أَعْظَمَ مِنْ كُرْسِيِّكَ. فَسَجَدَ ٱلْمَلِكُ عَلَى سَرِيرِهِ. وَأَيْضاً هٰكَذَا قَالَ ٱلْمَلِكُ: مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ ٱلَّذِي أَعْطَانِيَ ٱلْيَوْمَ مَنْ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّي وَعَيْنَايَ تُبْصِرَانِ» (1ملوك 1: 47، 48).

ولما قربت أيام وفاة الملك داود، جاء بابنه سليمان وأوصاه قائلاً: «أَنَا ذَاهِبٌ فِي طَرِيقِ ٱلأَرْضِ كُلِّهَا. فَتَشَدَّدْ وَكُنْ رَجُلاً. اِحْفَظْ شَعَائِرَ ٱلرَّبِّ إِلٰهِكَ إِذْ تَسِيرُ فِي طُرُقِهِ وَتَحْفَظُ فَرَائِضَهُ وَصَايَاهُ وَأَحْكَامَهُ وَشَهَادَاتِهِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى، لِتُفْلِحَ فِي كُلِّ مَا تَفْعَلُ وَحَيْثُمَا تَوَجَّهْتَ. لِيُقِيمَ ٱلرَّبُّ كَلاَمَهُ ٱلَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ عَنِّي قَائِلاً: إِذَا حَفِظَ بَنُوكَ طَرِيقَهُمْ وَسَلَكُوا أَمَامِي بِٱلأَمَانَةِ مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ وَكُلِّ أَنْفُسِهِمْ لاَ يُعْدَمُ لَكَ رَجُلٌ عَنْ كُرْسِيِّ إِسْرَائِيلَ» (1ملوك 2: 1-4).

وطالب الملك داود ابنه سليمان أن يُدير العدل في المملكة، وأن يقتصَّ من المجرمين الذين ثاروا ضده. وكلَّفه أن يقيم بيتاً للرب، وقال له: «يَا ٱبْنِي، قَدْ كَانَ فِي قَلْبِي أَنْ أَبْنِيَ بَيْتاً لٱِسْمِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِي. فَكَانَ إِلَيَّ كَلاَمُ ٱلرَّبِّ: قَدْ سَفَكْتَ دَماً كَثِيراً وَعَمِلْتَ حُرُوباً عَظِيمَةً، فَلاَ تَبْنِي بَيْتاً لٱِسْمِي لأَنَّكَ سَفَكْتَ دِمَاءً كَثِيرَةً عَلَى ٱلأَرْضِ أَمَامِي. هُوَذَا يُولَدُ لَكَ ٱبْنٌ يَكُونُ صَاحِبَ رَاحَةٍ، وَأُرِيحُهُ مِنْ جَمِيعِ أَعْدَائِهِ حَوَالَيْهِ، لأَنَّ ٱسْمَهُ يَكُونُ سُلَيْمَانَ. فَأَجْعَلُ سَلاَماً وَسَكِينَةً فِي إِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِهِ. هُوَ يَبْنِي بَيْتاً لٱِسْمِي... يُعْطِيكَ ٱلرَّبُّ فِطْنَةً وَفَهْماً وَيُوصِيكَ بِإِسْرَائِيلَ لِحِفْظِ شَرِيعَةِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِكَ. حِينَئِذٍ تُفْلِحُ... تَشَدَّدْ وَتَشَجَّعْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَرْتَعِبْ. هَئَنَذَا فِي مَذَلَّتِي هَيَّأْتُ لِبَيْتِ ٱلرَّبِّ ذَهَباً» (1أخبار 22: 6-14). وجعل داود يحصر لسليمان كمية الذهب والفضة والنحاس والأخشاب التي جهزها لبناء بيت الرب. وطلب من سليمان أن يقوم بالبناء.

سليمان ينفِّذ وصايا أبيه:

وعندما تولى سليمان المُلك نفذ الوصايا التي أوصاه أبوه بها، فجعل يُرسي قواعد العدل في المملكة، ووقع العقاب على كثيرين من المجرمين الذين لم يكن داود قد وقع العقاب عليهم. ثم أخذ يبني بيتاً للرب، استغرق بناؤه سبع سنوات، على مثال الرسم الذي أعطاه الله لموسى، ولكن بضعف الحجم الذي بنى به موسى خيمة الاجتماع. ورفع الملك داود صلاة من أجل ابنه، قال: «أَعْطِهِ قَلْباً كَامِلاً لِيَحْفَظَ وَصَايَاكَ، شَهَادَاتِكَ وَفَرَائِضَكَ، وَلِيَعْمَلَ ٱلْجَمِيعَ، وَلِيَبْنِيَ ٱلْهَيْكَلَ ٱلَّذِي هَيَّأْتُ لَهُ» (1أخبار 29: 19).

وتقول التوراة إن الرب عظَّم الملك سليمان جداً في أعين جميع بني إسرائيل، وجعل عليه جلالاً ملكياً لم يكن على ملك قبله (1أخبار 29: 25).

عندما نسمع الصلاة التي رفعها داود من أجل ابنه سليمان، نشكر الله من أجل كل أب تقي يرفع صلاة من أجل ابنه، ليُلهم الله ابنه حياة التقوى والصلاح. قد يترك الآباء لأولادهم ثروات كبيرة، لكن أجمل ثروة يمكن أن يتركها أب لابنه هي ثروة التقوى.

عزيزي القارئ، اترك لابنك قدوة حسنة بسلوكك اليومي الصالح وصلِّ من اجل ابنك لينشأ صالحاً، فلا بد أن يستجيب الله الصلاة. وإن كان لديك ابن ضال بعيد عن الله، فأرجوك أن تصلي من أجله، لكي يرجع إلى الله ويتوب، فلا بد أن الله يستجيب لك من أجل أولادك، كما استجاب صلاة داود من أجل سليمان، الذي تقول التوراة عنه: «جلس سليمان على كرسي داود أبيه وتثّبت مُلكه جداً».

الفصل الخامس عشر: سليمان يختار الحكمة

كان أول ما فعله سليمان بعد توليه الحكم أنه عقد صلحاً مع ملك مصر وتزوج واحدة من بناته، ولقد كان ذلك مصدر أمن لسليمان. وتزوج سليمان بكثيرات بعد ذلك لأغراض دبلوماسية، فبقي بنو إسرائيل أربعين سنة، هي مدة حكم سليمان، في سلام بغير حرب. وأغلب الظن أن فرعون الذي تزوج سليمان بابنته هو «بسيناسيس»، وأغلب الظن أن ابنة فرعون لما تزوجت سليمان دانت بالدين اليهودي، ومما يؤيد ذلك أنه في آخر حياة سليمان، لما بنى مرتفعات لآلهة نسائه الأجنبيات لم يُذكر أنه بنى مرتفعة لآلهة مصر.

سليمان يتعبّد:

بعد ما تولى سليمان الحكم، ذهب إلى مدينة جبعون، وهي مدينة لسبط بنيامين تقع على بُعد ثمانية كيلو مترات شمال أورشليم، واسمها اليوم «الجيب»، وموقعها على قمة هضبة، في أسفلها ينبوع ماء، فكانت مكاناً ملائماً لتقديم الذبائح. وكانت خيمة الاجتماع التي أقامها موسى موجودة في جبعون وبها مذبح النحاس، فدُعي المكان: «المرتفعة العظمى». وهناك أصعد سليمان ألف محرقة على ذلك المذبح (1ملوك 3: 1-4).

وتقول لنا التوراة إن مسكن الرب الذي عمله موسى في البرية ومذبح المحرقة كانا في ذلك الوقت في المرتفعة في جبعون، وكانت الذبائح التي قدمها سليمان عظيمة توافق عظمة الملك، وتبّين تكريسه للرب في أول مُلكه. وحضر تقديم تلك الذبائح رؤساء جميع بني إسرائيل، فكانت علامة اتحادهم جميعاً في عبادة واحدة للإله الواحد. وبعد أن قدّم سليمان تلك الذبائح، ظهر الرب لسليمان في حلم ليلاً وقال له: «ٱسْأَلْ مَاذَا أُعْطِيكَ». فَقَالَ سُلَيْمَانُ: «إِنَّكَ قَدْ فَعَلْتَ مَعَ عَبْدِكَ دَاوُدَ أَبِي رَحْمَةً عَظِيمَةً حَسْبَمَا سَارَ أَمَامَكَ بِأَمَانَةٍ وَبِرٍّ وَٱسْتِقَامَةِ قَلْبٍ مَعَكَ، فَحَفِظْتَ لَهُ هٰذِهِ ٱلرَّحْمَةَ ٱلْعَظِيمَةَ وَأَعْطَيْتَهُ ٱبْناً يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّهِ كَهٰذَا ٱلْيَوْمِ. وَٱلآنَ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلٰهِي، أَنْتَ مَلَّكْتَ عَبْدَكَ مَكَانَ دَاوُدَ أَبِي، وَأَنَا فَتىً صَغِيرٌ لاَ أَعْلَمُ ٱلْخُرُوجَ وَٱلدُّخُولَ. وَعَبْدُكَ فِي وَسَطِ شَعْبِكَ ٱلَّذِي ٱخْتَرْتَهُ شَعْبٌ كَثِيرٌ لاَ يُحْصَى وَلاَ يُعَدُّ مِنَ ٱلْكَثْرَةِ. فَأَعْطِ عَبْدَكَ قَلْباً فَهِيماً لأَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ وَأُمَيِّزَ بَيْنَ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ، لأَنَّهُ مَنْ يَقْدُِرُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ ٱلْعَظِيمِ هٰذَا؟». وكانت إجابة سليمان هذه سبب رضى الله عليه، فَقَالَ لَهُ ٱللّٰهُ: «مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ قَدْ سَأَلْتَ هٰذَا ٱلأَمْرَ وَلَمْ تَسْأَلْ لِنَفْسِكَ أَيَّاماً كَثِيرَةً وَلاَ سَأَلْتَ لِنَفْسِكَ غِنًى وَلاَ سَأَلْتَ أَنْفُسَ أَعْدَائِكَ، بَلْ سَأَلْتَ لِنَفْسِكَ تَمْيِيزاً لِتَفْهَمَ ٱلْحُكْمَ، هُوَذَا قَدْ فَعَلْتُ حَسَبَ كَلاَمِكَ. هُوَذَا أَعْطَيْتُكَ قَلْباً حَكِيماً وَمُمَيِّزاً حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِثْلُكَ قَبْلَكَ وَلاَ يَقُومُ بَعْدَكَ نَظِيرُكَ. وَقَدْ أَعْطَيْتُكَ أَيْضاً مَا لَمْ تَسْأَلْهُ، غِنًى وَكَرَامَةً حَتَّى إِنَّهُ لاَ يَكُونُ رَجُلٌ مِثْلَكَ فِي ٱلْمُلُوكِ كُلَّ أَيَّامِكَ. فَإِنْ سَلَكْتَ فِي طَرِيقِي وَحَفِظْتَ فَرَائِضِي وَوَصَايَايَ كَمَا سَلَكَ دَاوُدُ أَبُوكَ فَإِنِّي أُطِيلُ أَيَّامَكَ» (1ملوك 3: 5-14).

واستيقظ سليمان وإذا هو حلم. فامتلأت نفسه بالرضى والسرور. لقد سُرَّ سليمان بالحق في الباطن، فطلب عقله الباطن أثناء نومه حكمة، لأنه كان يقّدر المسئولية العظمى الموضوعة على كتفيه. وعندما عاد إلى أورشليم وقف أمام تابوت عهد الرب وأصعد محرقات وقرَّب ذبائح سلامة وعمل وليمة لكل عبيده.

سليمان المتواضع:

قال سليمان للرب: «أَنَا فَتىً صَغِيرٌ لاَ أَعْلَمُ ٱلْخُرُوجَ وَٱلدُّخُولَ». هذه الروح الجميلة هي روح متواضعة، ترغب في أن تتعلم. وما أحوجنا أن نقف أمام الله دائماً في تواضع، نطلب منه أن يعلمنا وأن يعطينا الحكمة. ويقول لنا الإنجيل المقدس: «إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يُعْطِي ٱلْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ. وَلٰكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ ٱلْبَتَّةَ، لأَنَّ ٱلْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجاً مِنَ ٱلْبَحْرِ تَخْبِطُهُ ٱلرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ. فَلاَ يَظُنَّ ذٰلِكَ ٱلإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنَالُ شَيْئاً مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ. رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ وَلْيَفْتَخِرِ ٱلأَخُ ٱلْمُتَّضِعُ بِٱرْتِفَاعِهِ، وَأَمَّا ٱلْغَنِيُّ فَبِٱتِّضَاعِهِ، لأَنَّهُ كَزَهْرِ ٱلْعُشْبِ يَزُولُ. لأَنَّ ٱلشَّمْسَ أَشْرَقَتْ بِٱلْحَرِّ، فَيَبَّسَتِ ٱلْعُشْبَ، فَسَقَطَ زَهْرُهُ وَفَنِيَ جَمَالُ مَنْظَرِهِ. هٰكَذَا يَذْبُلُ ٱلْغَنِيُّ أَيْضاً فِي طُرُقِهِ» (يعقوب 1: 5-11).

أيها القارئ الكريم، لو أن الله قال لك: «اسأل ماذا أعطيك؟». لا بد أن هذه تكون نقطة تحوُّل في حياتك. ماذا عساك تقول؟ إلى أي شيء يشتاق قلبك أكثر مما يمكن أن تمنحه لك الأرض والأصحاب المحيطون بك؟ هل ترغب في أن تعرف الله معرفة أكبر؟ هل تشتاق أن تتقدس أكثر في محبة الله؟ استمع إلى ما قال نبي الله داود في مزموره السابع والعشرين:

«وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ ٱلرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ ٱلرَّبِّ، وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ. لأَنَّهُ يُخَبِّئُنِي فِي مَظَلَّتِهِ فِي يَوْمِ ٱلشَّرِّ. يَسْتُرُنِي بِسِتْرِ خَيْمَتِهِ. عَلَى صَخْرَةٍ يَرْفَعُنِي. وَٱلآنَ يَرْتَفِعُ رَأْسِي عَلَى أَعْدَائِي حَوْلِي، فَأَذْبَحُ فِي خَيْمَتِهِ ذَبَائِحَ ٱلْهُتَافِ. أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ لِلرَّبِّ» (مزمور 27: 4-6).

سليمان الحكيم:

ظهرت حكمة سليمان في كثير من المواقف. تذكر التوراة المقدسة لنا منها قصة تقول إن امرأتين أتتا إلى الملك سليمان ووقفتا بين يديه. قالت إحداهما: «ٱسْتَمِعْ يَا سَيِّدِي. إِنِّي أَنَا وَهٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ سَاكِنَتَانِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ وَلَدْتُ مَعَهَا فِي ٱلْبَيْتِ. وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ بَعْدَ وِلاَدَتِي وَلَدَتْ هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ أَيْضاً، وَكُنَّا مَعاً وَلَمْ يَكُنْ مَعَنَا غَرِيبٌ فِي ٱلْبَيْتِ. فَمَاتَ ٱبْنُ هٰذِهِ فِي ٱللَّيْلِ لأَنَّهَا ٱضْطَجَعَتْ عَلَيْهِ. فَقَامَتْ فِي وَسَطِ ٱللَّيْلِ وَأَخَذَتِ ٱبْنِي مِنْ جَانِبِي وَأَمَتُكَ نَائِمَةٌ، وَأَضْجَعَتْهُ فِي حِضْنِهَا، وَأَضْجَعَتِ ٱبْنَهَا ٱلْمَيِّتَ فِي حِضْنِي. فَلَمَّا قُمْتُ صَبَاحاً لأُرَضِّعَ ٱبْنِي إِذَا هُوَ مَيِّتٌ. وَلَمَّا تَأَمَّلْتُ فِيهِ فِي ٱلصَّبَاحِ إِذَا هُوَ لَيْسَ ٱبْنِيَ ٱلَّذِي وَلَدْتُهُ». وجعلت كلٌّ من السيدتين تتهم الأخرى أن ابن زميلتها هو الميت وأن ابن المتكلمة هو الحي. وهنا قال الملك سليمان: «اِيتُونِي بِسَيْفٍ». فَأَتُوا بِسَيْفٍ فَقَالَ ٱلْمَلِكُ: «ٱشْطُرُوا ٱلْوَلَدَ ٱلْحَيَّ ٱثْنَيْنِ، وَأَعْطُوا نِصْفاً لِلْوَاحِدَةِ وَنِصْفاً لِلأُخْرَى». فقالت الأم الحقيقية: «ٱسْتَمِعْ يَا سَيِّدِي. أَعْطُوهَا ٱلْوَلَدَ ٱلْحَيَّ وَلاَ تُمِيتُوهُ». أما المرأة التي كانت تدّعي أمومة الولد فقالت: «اُشْطُرُوهُ» (1ملوك 3: 17-26). عندئذ أصدر الملك سليمان أمره أن يُعطى الولد الحيّ لأمه الحقيقية التي أشفقت عليه.

سليمان ينظم مملكته:

ظهرت حكمة سليمان في تنظيم شئون المملكة. كان الملك داود قد هزم كثيراً من الدول المحيطة به، فورث سليمان مملكة عظيمة من نهر الفرات في الشرق إلى حدود مصر في الغرب والجنوب، وتمتع الشعب بسلام كبير في فترة حكمه. وتقول التوراة: «وَكَانَ سُلَيْمَانُ مُتَسَلِّطاً عَلَى جَمِيعِ ٱلْمَمَالِكِ مِنَ ٱلنَّهْرِ إِلَى أَرْضِ فِلِسْطِينَ وَإِلَى تُخُومِ مِصْرَ. كَانُوا يُقَدِّمُونَ ٱلْهَدَايَا وَيَخْدِمُونَ سُلَيْمَانَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ... لأَنَّهُ كَانَ مُتَسَلِّطاً عَلَى كُلِّ مَا عَبْرَ ٱلنَّهْرِ مِنْ تَفْسَحَ إِلَى غَزَّةَ عَلَى كُلِّ مُلُوكِ عَبْرِ ٱلنَّهْرِ، وَكَانَ لَهُ صُلْحٌ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ حَوَالَيْهِ» (1ملوك 4: 21-24). ولم يكن سليمان متسلطاً فقط على الملوك، بل كان موضع احترامهم وإجلالهم. فتقول التوراة أيضاً: «وَكَانَ صِيتُهُ فِي جَمِيعِ ٱلأُمَمِ حَوَالَيْهِ. وَكَانُوا يَأْتُونَ مِنْ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ لِيَسْمَعُوا حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ مِنْ جَمِيعِ مُلُوكِ ٱلأَرْضِ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا بِحِكْمَتِهِ» (1ملوك 4: 31 و34). وتقول التوراة أيضاً: «وَكَانَ يَهُوذَا وَإِسْرَائِيلُ كَثِيرِينَ كَٱلرَّمْلِ ٱلَّذِي عَلَى ٱلْبَحْرِ فِي ٱلْكَثْرَةِ. يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَفْرَحُونَ. وَسَكَنَ يَهُوذَا وَإِسْرَائِيلُ آمِنِينَ كُلُّ وَاحِدٍ تَحْتَ كَرْمَتِهِ وَتَحْتَ تِينَتِهِ مِنْ دَانَ إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ كُلَّ أَيَّامِ سُلَيْمَانَ» (1ملوك 4: 20 و25).

ويقول المؤرخون إن عدد بني إسرائيل وقت حكم الملك سليمان كان أربعة ملايين. وقال أحد المؤرخين الدينيين: «لئن كان الملك داود قد أقام أمة إسرائيل، فإن الملك سليمان قد أقام دولة إسرائيل». فكان يعاون الملك سليمان في ملكه اثنا عشر وكيلاً، هم رئيس الكهنة ومعه كاهنان، وكاتبان يكتبان مكاتيب الملك، ومسجل يؤرخ ويكتب الحوادث المهمة. كما كان هناك رئيس للجيش، ورئيس على الوكلاء، وصاحب للملك هو المستشار، ورئيس للبيت - وهذا هو أول ذكر لهذا المنصب. وكان له رئيس للتسخير ليقيم أبنية سليمان العظيمة، لبناء الهكيل ومدن المخازن. وكان للملك اثنا عشر وكيلاً آخرين، كل وكيل على قسم من الشعب، يجمع من قسمه نفقات شهر لبيت الملك. وكان اثنان من هؤلاء الوكلاء متزوجين من ابنتين للملك سليمان. ولقد كان السلام المستمر في مملكة سليمان مصدر نجاح وثراء. وتقول التوراة: «وَأَعْطَى ٱللّٰهُ سُلَيْمَانَ حِكْمَةً وَفَهْماً كَثِيراً جِدّاً وَرَحْبَةَ قَلْبٍ كَٱلرَّمْلِ ٱلَّذِي عَلَى شَاطِئِ ٱلْبَحْرِ. وَفَاقَتْ حِكْمَةُ سُلَيْمَانَ حِكْمَةَ جَمِيعِ بَنِي ٱلْمَشْرِقِ وَكُلَّ حِكْمَةِ مِصْرَ. وَكَانَ أَحْكَمَ مِنْ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ مِنْ أَيْثَانَ ٱلأَزْرَاحِيِّ وَهَيْمَانَ وَكَلْكُولَ وَدَرْدَعَ بَنِي مَاحُولَ. وَكَانَ صِيتُهُ فِي جَمِيعِ ٱلأُمَمِ حَوَالَيْهِ. وَتَكَلَّمَ بِثَلاَثَةِ آلاَفِ مَثَلٍ، وَكَانَتْ نَشَائِدُهُ أَلْفاً وَخَمْساً. وَتَكَلَّمَ عَنِ ٱلأَشْجَارِ، مِنَ ٱلأَرْزِ ٱلَّذِي فِي لُبْنَانَ إِلَى ٱلزُّوفَا ٱلنَّابِتِ فِي ٱلْحَائِطِ. وَتَكَلَّمَ عَنِ ٱلْبَهَائِمِ وَعَنِ ٱلطَّيْرِ وَعَنِ ٱلدَّبِيبِ وَعَنِ ٱلسَّمَكِ. وَكَانُوا يَأْتُونَ مِنْ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ لِيَسْمَعُوا حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ مِنْ جَمِيعِ مُلُوكِ ٱلأَرْضِ ٱلَّذِينَ سَمِعُوا بِحِكْمَتِهِ» (1ملوك 4: 29-34).

الفصل السادس عشر: سليمان يبني الهيكل

عرفنا أن الملك داود، قبل موته، أوصى ابنه الملك سليمان أن يقيم بناء الهيكل الذي حاول هو أن يبنيه، ولكن الله منعه عن أن يبنيه، لأن يديه سفكتا كثيراً من الدماء. أما عهد سليمان فهو عهد سلام، ولذلك رضي الله أن يبني سليمان له الهيكل المقدس. صحيح أن الملك داود جهّز كثيراً من الفضة والذهب والنحاس والحديد والأخشاب لبناء بيت الرب، ولكن سليمان هو الذي قام بذلك البناء.

في السنة الرابعة من بدء حكم الملك سليمان بدأ العمل العظيم في بناء هيكل أورشليم. واكتشف سليمان أنه يحتاج إلى مزيد من الأخشاب لبناء بيت الرب، أكثر من تلك الأخشاب التي جهزها داود أبوه. ولذلك أرسل إلى ملك صور - يقول له: «أَنْتَ تَعْلَمُ دَاوُدَ أَبِي أَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَبْنِيَ بَيْتاً لٱِسْمِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِهِ بِسَبَبِ ٱلْحُرُوبِ ٱلَّتِي أَحَاطَتْ بِهِ، حَتَّى جَعَلَهُمُ ٱلرَّبُّ تَحْتَ بَطْنِ قَدَمَيْهِ. وَٱلآنَ فَقَدْ أَرَاحَنِيَ ٱلرَّبُّ إِلٰهِي مِنْ كُلِّ ٱلْجِهَاتِ فَلاَ يُوجَدُ خَصْمٌ وَلاَ حَادِثَةُ شَرٍّ. وَهَئَنَذَا قَائِلٌ عَلَى بِنَاءِ بَيْتٍ لٱِسْمِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِي كَمَا قَالَ ٱلرَّبُّ لِدَاوُدَ أَبِي: إِنَّ ٱبْنَكَ ٱلَّذِي أَجْعَلُهُ مَكَانَكَ عَلَى كُرْسِيِّكَ هُوَ يَبْنِي ٱلْبَيْتَ لٱِسْمِي. وَٱلآنَ فَأْمُرْ أَنْ يَقْطَعُوا لِي أَرْزاً مِنْ لُبْنَانَ وَيَكُونُ عَبِيدِي مَعَ عَبِيدِكَ، وَأُجْرَةُ عَبِيدِكَ أُعْطِيكَ إِيَّاهَا حَسَبَ كُلِّ مَا تَقُولُ، لأَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَنَا أَحَدٌ يَعْرِفُ قَطْعَ ٱلْخَشَبِ مِثْلَ ٱلصَّيْدُونِيِّينَ» (1ملوك 5: 3-6).

وفرح الملك حيرام فرحاً كثيراً بذلك، وأرسل لسليمان يقول: «مُبَارَكٌ ٱلْيَوْمَ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي أَعْطَى دَاوُدَ ٱبْناً حَكِيماً عَلَى هٰذَا ٱلشَّعْبِ ٱلْكَثِيرِ». وَأَرْسَلَ حِيرَامُ إِلَى سُلَيْمَانَ قَائِلاً: «قَدْ سَمِعْتُ مَا أَرْسَلْتَ بِهِ إِلَيَّ. أَنَا أَفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّتِكَ فِي خَشَبِ ٱلأَرْزِ وَخَشَبِ ٱلسَّرْوِ. عَبِيدِي يُنْزِلُونَ ذٰلِكَ مِنْ لُبْنَانَ إِلَى ٱلْبَحْرِ، وَأَنَا أَجْعَلُهُ أَرْمَاثاً فِي ٱلْبَحْرِ إِلَى ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي تُعَرِّفُنِي عَنْهُ وَأَفُكُّهُ هُنَاكَ، وَأَنْتَ تَحْمِلُهُ وَتَعْمَلُ مَرْضَاتِي بِإِعْطَائِكَ طَعَاماً لِبَيْتِي» فكان حيرام يعطي الملك سليمان خشب أرز وخشب سرو. وأعطى سليمان حيرام الكثير من الحنطة والزيت مقابل الأخشاب التي حصل عليها (1ملوك 5: 7-12).

سليمان يلجأ للسُّخرة:

كما كان سليمان الحكيم يحتاج إلى أخشاب ليبني بيت الرب، كان يحتاج أيضاً إلى عمال للبناء، ولذلك لجأ إلى السُخرة. وقد بدأ سليمان بتسخير أبناء الأموريين والحثيين والفرزيين والحويين واليبوسيين. ولكنه اكتشف بعد ذلك أنه يحتاج إلى مزيد من العمال، فابتدأ يسخر بني إسرائيل في ذلك. وتقول التوراة إن الملك سليمان سخر ثلاثين ألف رجل أرسلهم إلى لبنان، عشرة آلاف كل شهر، يكونون شهراً في لبنان وشهرين في بيوتهم. وكان له سبعون ألف رجل يحملون أحمالاً، وثمانون ألفاً يقطعون في الجبل، ما عدا رؤساء الوكلاء الذين على العمل، كان عددهم ثلاثة آلاف وثلاث مئة.

وعلاوة على الأخشاب التي قطعوها من لبنان، فإنهم أيضاً كانوا يقطعون الأحجار من الجبال، فكانوا ينحتون الأحجار في الجبل حسب الحجم المطلوب للبناء. ولم يكن يُسمع في موقع البناء صوت معول. وقد استغرق بناء بيت الرب سبع سنوات، لأنه كان عظيماً فعلاً. كانت الحوائط من الأحجار المغطاة بخشب، كما غطى سليمان بيت الرب من الداخل بالذهب الخالص، وجميع حوائط البيت في مستديرها نقشها بحفر من الكروبيم والنخل وبراعم الزهور، من الداخل ومن الخارج.

وفي داخل البيت كانت هناك حجرة مكعبة اسمها قدس الأقداس، كان يُوضع فيها تابوت العهد الذي كان يحتوي على لوحين من الحجر، كان الله قد كتب عليهما الوصايا العشر منذ أيام موسى، وكان التابوت يرمز إلى حضور الله. وقد اشترك رجل حكيم اسمه «حورام أبي» في عمل الأواني اللازمة للهيكل، لأنه كان صانعاً ماهراً في الذهب والفضة والنحاس والحديد والحجارة والأرجوان والأسمانجوني والكتان والقرمز، ونقش كل نوع من النقوش.

ولا بد أنه قد اشترك مع «حورام أبي» عدد كبير من العمال ليجهزوا الأقمشة اللازمة لثياب الكهنة، ولستائر قدس الأقدس، ولقد تم هذا العمل الكبير بمعونة الله وكان نجاحاً متكاملاً، فجاء البناء عظيماً فعلاً، حتى ظن كثيرون أن الذين قاموا ببناء هيكل سليمان ليسوا من البشر، ولكن التوراة تقول لنا: إن رجالاً مختلفين قاموا بهذه الأعمال بمعونة الرب وإرشاده. وعندما يستخدم الرب إنساناً، فإنه يمنحه النعمة والحكمة وإرشاد الروح القدس، فيعمل أشياء كثيرة وغريبة، فلقد قال رسول المسيحية بولس: «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي يُقَوِّينِي» (فيلبي 4: 13).

أيها القارئ الكريم، عندما نسلم نفوسنا بين يدي الله، يعمل بنا، ويشغلنا لنعمل معجزات ولنُجري أموراً عجيبة. أدعوك لأن تسلّم حياتك لله لتبني هيكله. وهيكل الله في أيامنا هذه هو أجسادنا. وعندما تفتح قلبك لله يسكن فيك ويملك حياتك.

رسالة من الله لسليمان:

عندما كان سليمان يبني هيكل الرب قال الرب له: «هٰذَا ٱلْبَيْتُ ٱلَّذِي أَنْتَ بَانِيهِ، إِنْ سَلَكْتَ فِي فَرَائِضِي وَعَمِلْتَ أَحْكَامِي وَحَفِظْتَ كُلَّ وَصَايَايَ لِلسُّلُوكِ بِهَا، فَإِنِّي أُقِيمُ مَعَكَ كَلاَمِي ٱلَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ إِلَى دَاوُدَ أَبِيكَ، وَأَسْكُنُ فِي وَسَطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ أَتْرُكُ شَعْبِي إِسْرَائِيلَ» (1ملوك 6: 12 و13). ولذلك فإن سليمان بعد أن أكمل بناء الهيكل جمع عدداً كبيراً من قادة وشيوخ بني إسرائيل في أورشليم ليدشن الهيكل، وليُحضر تابوت العهد من الخيمة التي كان أبوه داود قد وضع التابوت فيها. وأدخل سليمان التابوت إلى قدس الأقداس، وهو الجزء الداخلي من الهيكل. وعندما كانوا ينقلون التابوت كانوا يذبحون من الغنم والبقر ما لا يُحصى ولا يُعد من الكثرة، كما تقول التوراة. وأدخل الكهنة تابوت عهد الرب إلى مكانه في محراب البيت في قدس الأقداس إلى تحت جناحي الكروبين (1ملوك 8: 1-6). وكان يتقدم هذا كله ويرافقه مجموعة كبيرة من المرتلين الذين كانوا يُنشدون التسابيح ويستعملون الآلات الموسيقية المعروفة لهم، وكانت اللازمة التي رافقت تراتيل هؤلاء تقول: «لأَنَّ ٱلرَّبَّ صَالِحٌ. إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتُهُ» (مزمور 100: 5). وملأ السحاب الهيكل رمزاً إلى أن مجد الله قد ملأ هيكله، حتى لم يستطع الكهنة أن يقفوا ليقدموا خدمة العبادة بسبب السحاب، وهذا ما تسميه التوراة «الشكينة» أي سحابة النور المعجزي التي تظهر على غطاء تابوت العهد (خروج 40: 35، لاويين 16: 2، 1ملوك 8: 10).

بعد أن حلَّ السحاب الذي تسميه التوراة «الشكينة» على بيت الرب علّم سليمان قادة بني إسرائيل الواقفين وقال: «مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ ٱلَّذِي تَكَلَّمَ بِفَمِهِ إِلَى دَاوُدَ أَبِي وَأَكْمَلَ بِيَدِهِ قَائِلاً: مُنْذُ يَوْمَ أَخْرَجْتُ شَعْبِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ لَمْ أَخْتَرْ مَدِينَةً مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ لِبِنَاءِ بَيْتٍ لِيَكُونَ ٱسْمِي هُنَاكَ، بَلِ ٱخْتَرْتُ دَاوُدَ لِيَكُونَ عَلَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ. وَكَانَ فِي قَلْبِ دَاوُدَ أَبِي أَنْ يَبْنِيَ بَيْتاً لٱِسْمِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِ إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِدَاوُدَ أَبِي: مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ فِي قَلْبِكَ أَنْ تَبْنِيَ بَيْتاً لٱِسْمِي قَدْ أَحْسَنْتَ بِكَوْنِهِ فِي قَلْبِكَ. إِلاَّ إِنَّكَ أَنْتَ لاَ تَبْنِي ٱلْبَيْتَ، بَلِ ٱبْنُكَ ٱلْخَارِجُ مِنْ صُلْبِكَ هُوَ يَبْنِي ٱلْبَيْتَ لٱِسْمِي. وَأَقَامَ ٱلرَّبُّ كَلاَمَهُ ٱلَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ، وَقَدْ قُمْتُ أَنَا مَكَانَ دَاوُدَ أَبِي وَجَلَسْتُ عَلَى كُرْسِيِّ إِسْرَائِيلَ كَمَا تَكَلَّمَ ٱلرَّبُّ، وَبَنَيْتُ ٱلْبَيْتَ لٱِسْمِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِ إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْتُ هُنَاكَ مَكَاناً لِلتَّابُوتِ ٱلَّذِي فِيهِ عَهْدُ ٱلرَّبِّ ٱلَّذِي قَطَعَهُ مَعَ آبَائِنَا عِنْدَ إِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ» (1ملوك 8: 15-21).

صلاة سليمان لتدشين الهكيل:

ورفع سليمان صلاة لله هي صلاة تدشين الهكيل: قال بعد أن بسط يديه إلى السماء: «أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ، لَيْسَ إِلٰهٌ مِثْلَكَ فِي ٱلسَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَلاَ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ، حَافِظُ ٱلْعَهْدِ وَٱلرَّحْمَةِ لِعَبِيدِكَ ٱلسَّائِرِينَ أَمَامَكَ بِكُلِّ قُلُوبِهِمْ... هَلْ يَسْكُنُ ٱللّٰهُ حَقّاً عَلَى ٱلأَرْضِ؟ هُوَذَا ٱلسَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ ٱلسَّمَاوَاتِ لاَ تَسَعُكَ، فَكَمْ بِٱلأَقَلِّ هٰذَا ٱلْبَيْتُ ٱلَّذِي بَنَيْتُ؟ فَٱلْتَفِتْ إِلَى صَلاَةِ عَبْدِكَ وَإِلَى تَضَرُّعِهِ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ إِلٰهِي، وَٱسْمَعِ ٱلصُّرَاخَ وَٱلصَّلاَةَ ٱلَّتِي يُصَلِّيهَا عَبْدُكَ أَمَامَكَ ٱلْيَوْمَ. لِتَكُونَ عَيْنَاكَ مَفْتُوحَتَيْنِ عَلَى هٰذَا ٱلْبَيْتِ لَيْلاً وَنَهَاراً، عَلَى ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي قُلْتَ: إِنَّ ٱسْمِي يَكُونُ فِيهِ لِتَسْمَعَ ٱلصَّلاَةَ ٱلَّتِي يُصَلِّيهَا عَبْدُكَ فِي هٰذَا ٱلْمَوْضِعِ. وَٱسْمَعْ... فَٱغْفِرْ... إِذَا ٱنْكَسَرَ شَعْبُكَ إِسْرَائِيلُ أَمَامَ ٱلْعَدُّوِ لأَنَّهُمْ أَخْطَأُوا إِلَيْكَ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْكَ وَٱعْتَرَفُوا بِٱسْمِكَ وَصَلُّوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْكَ نَحْوَ هٰذَا ٱلْبَيْتِ، فَٱسْمَعْ أَنْتَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱغْفِرْ خَطِيَّةَ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ، وَأَرْجِعْهُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أَعْطَيْتَهَا لآبَائِهِمْ. إِذَا أُغْلِقَتِ ٱلسَّمَاءُ وَلَمْ يَكُنْ مَطَرٌ لأَنَّهُمْ أَخْطَأُوا إِلَيْكَ، ثُمَّ صَلُّوا فِي هٰذَا ٱلْمَوْضِعِ وَٱعْتَرَفُوا بِٱسْمِكَ، وَرَجَعُوا عَنْ خَطِيَّتِهِمْ لأَنَّكَ ضَايَقْتَهُمْ فَٱسْمَعْ أَنْتَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱغْفِرْ خَطِيَّةَ عَبِيدِكَ... فَتُعَلِّمَهُمُ ٱلطَّرِيقَ ٱلصَّالِحَ ٱلَّذِي يَسْلُكُونَ فِيهِ، وَأَعْطِ مَطَراً عَلَى أَرْضِكَ ٱلَّتِي أَعْطَيْتَهَا لِشَعْبِكَ مِيرَاثاً. إِذَا صَارَ فِي ٱلأَرْضِ جُوعٌ، إِذَا صَارَ وَبَأٌ، إِذَا صَارَ لَفْحٌ أَوْ يَرَقَانٌ أَوْ جَرَادٌ جَرْدَمٌ، أَوْ إِذَا حَاصَرَهُ عَدُّوُهُ فِي أَرْضِ مُدُنِهِ فِي كُلِّ ضَرْبَةٍ وَكُلِّ مَرَضٍ.. فَٱسْمَعْ أَنْتَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَكَانِ سُكْنَاكَ وَٱغْفِرْ، وَٱعْمَلْ وَأَعْطِ كُلَّ إِنْسَانٍ حَسَبَ كُلِّ طُرُقِهِ كَمَا تَعْرِفُ قَلْبَهُ. لأَنَّكَ أَنْتَ وَحْدَكَ قَدْ عَرَفْتَ قُلُوبَ كُلِّ بَنِي ٱلْبَشَرِ. لِيَخَافُوكَ كُلَّ ٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي يَحْيُونَ فِيهَا عَلَى وَجْهِ ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أَعْطَيْتَ لآبَائِنَا... لِيَعْلَمَ كُلُّ شُعُوبِ ٱلأَرْضِ ٱسْمَكَ فَيَخَافُوكَ كَشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ دُعِيَ ٱسْمُكَ عَلَى هٰذَا ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِي بَنَيْتُ. ... لِتَكُونَ عَيْنَاكَ مَفْتُوحَتَيْنِ نَحْوَ تَضَرُّعِ عَبْدِكَ وَتَضَرُّعِ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ، فَتُصْغِيَ إِلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَا يَدْعُونَكَ» (1ملوك 8: 22-52).

سليمان يبارك الشعب:

بعد أن رفع سليمان صلاة تدشين الهكيل، وقف ويداه مبسوطتان نحو السماء، وبارك كل الشعب قائلاً : «مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي أَعْطَى رَاحَةً لِشَعْبِهِ إِسْرَائِيلَ حَسَبَ كُلِّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَلَمْ تَسْقُطْ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ كُلِّ كَلاَمِهِ ٱلصَّالِحِ ٱلَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ عَنْ يَدِ مُوسَى عَبْدِهِ. لِيَكُنِ ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا مَعَنَا كَمَا كَانَ مَعَ آبَائِنَا فَلاَ يَتْرُكَنَا وَلاَ يَرْفُضَنَا. لِيَمِيلَ بِقُلُوبِنَا إِلَيْهِ لِنَسِيرَ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ وَنَحْفَظَ وَصَايَاهُ وَفَرَائِضَهُ وَأَحْكَامَهُ ٱلَّتِي أَوْصَى بِهَا آبَاءَنَا. وَلِيَكُنْ كَلاَمِي هٰذَا ٱلَّذِي تَضَرَّعْتُ بِهِ أَمَامَ ٱلرَّبِّ قَرِيباً مِنَ ٱلرَّبِّ إِلٰهِنَا نَهَاراً وَلَيْلاً، لِيَقْضِيَ قَضَاءَ عَبْدِهِ وَقَضَاءَ شَعْبِهِ إِسْرَائِيلَ، أَمْرَ كُلِّ يَوْمٍ فِي يَوْمِهِ. لِيَعْلَمَ كُلُّ شُعُوبِ ٱلأَرْضِ أَنَّ ٱلرَّبَّ هُوَ ٱللّٰهُ وَلَيْسَ آخَرُ. فَلِْيَكُنْ قَلْبُكُمْ كَامِلاً لَدَى ٱلرَّبِّ إِلٰهِنَا إِذْ تَسِيرُونَ فِي فَرَائِضِهِ وَتَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ كَهٰذَا ٱلْيَوْمِ» (1ملوك 8: 54-61).

وبعد أن بارك الملك سليمان الشعب بدأ يقدم المحرقات لله، فنزلت نار من السماء أكلت الذبائح من على المذبح، وسجد الشعب إلى الأرض حمداً وسبحاً لله، بينما الموسيقى تعزف التراتيل التي تسبح الله، واحتفل الشعب احتفالاً عظيماً استمر أسبوعاً كاملاً قبل أن يرجعوا إلى بيوتهم بقلوب عامرة بالفرح. ثم ظهر الرب مرة أخرى لسليمان وقال له: «قَدْ سَمِعْتُ صَلاَتَكَ وَتَضَرُّعَكَ ٱلَّذِي تَضَرَّعْتَ بِهِ أَمَامِي. قَدَّسْتُ هٰذَا ٱلْبَيْتَ ٱلَّذِي بَنَيْتَهُ لأَجْلِ وَضْعِ ٱسْمِي فِيهِ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَتَكُونُ عَيْنَايَ وَقَلْبِي هُنَاكَ كُلَّ ٱلأَيَّامِ. وَأَنْتَ إِنْ سَلَكْتَ أَمَامِي كَمَا سَلَكَ دَاوُدُ أَبُوكَ بِسَلاَمَةِ قَلْبٍ وَٱسْتِقَامَةٍ، وَعَمِلْتَ حَسَبَ كُلِّ مَا أَوْصَيْتُكَ وَحَفِظْتَ فَرَائِضِي وَأَحْكَامِي، فَإِنِّي أُقِيمُ كُرْسِيَّ مُلْكِكَ عَلَى إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلأَبَدِ كَمَا قُلْتُ لِدَاوُدَ أَبِيكَ» (1ملوك 9: 3-5).

ونحن نعلم أيها القارئ الكريم أن الشعب لم يصغوا إلى قول الرب، ولا فعل سليمان، فكانت النتيجة أن تهدم الهيكل، ولم يُترك فيه حجر على حجر لم يُنقض، وهذا الأمر يجعلنا نتبنه دائماً إلى ضرورة سلوكنا في طاعة الله.

مزيد من مباني سليمان:

كان سليمان معمارياً عظيماً حتى قيل عنه إنه يشبه رمسيس الثاني في مصر لكثرة ما بنى، فقد بنى سليمان أبنية أخرى غير الهيكل العظيم. بنى بيت وعر لبنان ورواق الأعمدة ورواق الكرسي الذي كان موضع القضاء، كما بنى بيتاً لابنة فرعون، وبنى قلعة لحماية الهيكل، وبنى حصوناً عديدة في أنحاء المملكة ليحمي المملكة ويدافع عنها، ولم يترك سليمان مجالاً لملك آخر ليبني بعده فقد أكمل الملوك الذين جاءوا بعده أو رمموا ما بدأ سليمان به. ولم يكن سليمان يؤمن بعقيدة نزع السلاح، فقد تكرر القول في التوراة: «وجمع سليمان مراكب وفرساناً فكان له ألف وأربعمائة مركبة، واثنا عشر ألف فارس، فأقامهم في مدن المراكب، ومع الملك في أورشليم». وتقول التوراة أيضاً إن الملك سليمان عمل سفناً في عصيون جابر، التي بجانب أيلة على شاطئ بحر سوف، في أرض أدوم» (1ملوك 9: 26). وأرسل صديقه الملك حيرام ملك صور، عبيده في تلك السفن لأنهم كانوا عارفين بالبحر مع عبيد سليمان، فأتوا إلى بلاد أوفير، وأخذوا من هناك ذهباً 420 وزنة، وأتوا بها إلى الملك سليمان، وفي وسط هذه كلها كان سليمان يُقيم صلواته، فكان يُصعد ثلاث مرات في السنة محرقات وذبائح سلامة على المذبح الذي بناه للرب.

الفصل السابع عشر: ملكة سبا تسمع حكمة سليمان

في منتصف فترة حكمه استقبل سليمان زائرة جاءت من بلاد بعيدة، هي ملكة سبا، لتسمع حكمته (1ملوك 10) ولم تكن تلك الزيارة مثل الزيارات المألوفة منذ بدء التاريخ التي يتبادلها الملوك والملكات بين بعضهم البعض، فقد كانت تلك تُصبغ بالصبغة السياسية، وتنتهي بأحلاف ومعاهدات سياسية أو حربية، لكن زيارة ملكة سبأ لسليمان طُبعت بالطابع الروحي، فقد سمعت في بلادها البعيدة، عن الرب إله إسرائيل، ما اجتذب قلبها، فاشتهت أن تعرف عن هذا الإله الواحد أكثر، وذلك من عبده سليمان الذي كان يملك أورشليم. وكان يشغل قلب تلك الملكة مسائل كثيرة، لم يقدر أحد ممن يجاورونها أن يجاوب على أسئلتها. ونحن لا نعرف بالضبط مكان تلك المملكة، غير أنه من المحتمل أنها كانت واقعة في جنوب بلاد العرب، في المناطق التي سكنها أبناء يقطان الذي جاء من نسل سام بن نوح. وكانت تلك الزيارة الملكية التي قامت بها ملكة سبأ هي أول استجابة للصلاة التي رفعها سليمان عندما دشن الهيكل، فلقد التمس سليمان من الله أن يهتم بالغريب الذي يأتي من بلاد بعيدة يلتمس وجه الله في هيكله المقدس، فتقول التوراة: «سمعت ملكة سبا بخبر سليمان لمجد الرب».

ملكة سبا ترى تنظيم سليمان:

أخذ سليمان ملكة سبا ليُريها أبنيته ونظام حكمه، فلما رأت كل حكمة سليمان والبيت الذي بناه، وطعام مائدته ومجلس رجاله وموقف خدامه وملابسهم، ومحرقاته التي كان يُصعدها في بيت الرب، لم يبق فيها روح بعد. فقالت للملك: «صَحِيحاً كَانَ ٱلْخَبَرُ ٱلَّذِي سَمِعْتُهُ فِي أَرْضِي عَنْ أُمُورِكَ وَعَنْ حِكْمَتِكَ. وَلَمْ أُصَدِّقِ ٱلأَخْبَارَ حَتَّى جِئْتُ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ، فَهُوَذَا ٱلنِّصْفُ لَمْ أُخْبَرْ بِهِ. زِدْتَ حِكْمَةً وَصَلاَحاً عَلَى ٱلْخَبَرِ ٱلَّذِي سَمِعْتُهُ. طُوبَى لِرِجَالِكَ وَطُوبَى لِعَبِيدِكَ هٰؤُلاَءِ ٱلْوَاقِفِينَ أَمَامَكَ دَائِماً ٱلسَّامِعِينَ حِكْمَتَكَ. لِيَكُنْ مُبَارَكاً ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ ٱلَّذِي سُرَّ بِكَ وَجَعَلَكَ عَلَى كُرْسِيِّ إِسْرَائِيلَ. لأَنَّ ٱلرَّبَّ أَحَبَّ إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلأَبَدِ جَعَلَكَ مَلِكاً، لِتُجْرِيَ حُكْماً وَبِرّاً» (1ملوك 10: 6-9). وقدمت ملكة سبا للملك سليمان مئة وعشرين وزنة ذهب، وأطياباً كثيرة جداً، وحجارة كريمة. وتقول التوراة: «لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِثْلُ ذٰلِكَ ٱلطِّيبِ فِي ٱلْكَثْرَةِ ٱلَّتِي أَعْطَتْهُ مَلِكَةُ سَبَا لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ» (1ملوك 10: 10).

شوقنا للحكمة:

إن الرغبة العظيمة في قلب ملكة سبا لتجد الحكمة والحق، يجب أن تكون قدوة لكل واحد منا. فبعد ألف سنة من هذه الزيارة وبّخ السيد المسيح رجال يومه عن عدم رغبتهم في الاستماع لحكمته، ليكونوا من أتباعه وقال لهم: «مَلِكَةُ ٱلتَّيْمَنِ ( سبا) سَتَقُومُ فِي ٱلدِّينِ مَعَ رِجَالِ هٰذَا ٱلْجِيلِ وَتَدِينُهُمْ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ» (لوقا 11: 31). فما أعظم خطية الذين يسمعون الحق الإلهي ويرفضونه. لقد قطعت ملكة سبا رحلة طويلة شاقة لتلتقي بسليمان، لكن الله في محبته جاء إلينا يفتش على الضال وسطنا ليُرجعه إليه. والمسيح يريد أن نصغي إلى صوت محبته. اسمعه يقول: «هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى ٱلْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ ٱلْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا 3: 20).

أيها القارئ الكريم، ندعوك أن تصغي إلى حق الله، وأن تفتح قلبك له، وأن تعيش للرب، فهوذا أعظم من سليمان يحدثك. إنه صوت المسيح الذي يريد أن يدخل قلبك ويمتلك حياتك.

معرفة سليمان الواسعة:

حدَّثتنا التوراة المقدسة عن عظمة سليمان المذهلة، فقد كان عصره عصر نجاح اقتصادي، ولم تكن هناك حروب تستنزف مال الشعب، وأتته سفنه محملة بأربع مائة وعشرين وزنة ذهب، وكانت له أساطيل تجارية في بحر الهند والبحر الأبيض المتوسط، جلبت له الذهب والفضة والعاج والأبنوس والخيل والمركبات والقردة والطواويس. وكان في خدمته عشرة آلاف يأكلون على مائدته، وكانت له آنية فضة وآنية ذهب. وتقول التوارة إن سليمان جعل الفضة مثل الحجارة، وخشب الأرز مثل خشب الجميز. وتُقدر قيمة دخل سليمان سنوياً بما يساوي عشرة ملايين دولار تقريباً. وتقول التوراة إن سليمان كان رحب الصدر جداً، فقد درس كل العلوم التي يمكن أن تُدرس آنذاك، وفاق فيها كل علماء عصره المشهورين، فدرس علم النبات وعلم الحيوان، وعلم الطيور، وكتب الأمثال والحكمة والقصائد. وأغلب الظن أن الملك سليمان هو الذي كتب سفر الجامعة، ونشيد الأنشاد، في التوراة المقدسة.

من كتابات سليمان:

ونقدم للقارئ الكريم عيّنة مما كتب سليمان الحكيم. والقراءة التالية من سفر الأمثال الأصحاحين الحادي عشر والثاني عشر:

«1مَوَازِينُ غِشٍّ مَكْرَهَةُ ٱلرَّبِّ، وَٱلْوَزْنُ ٱلصَّحِيحُ رِضَاهُ. 2تَأْتِي ٱلْكِبْرِيَاءُ فَيَأْتِي ٱلْهَوَانُ، وَمَعَ ٱلْمُتَوَاضِعِينَ حِكْمَةٌ. 3اِسْتِقَامَةُ ٱلْمُسْتَقِيمِينَ تَهْدِيهِمْ، وَٱعْوِجَاجُ ٱلْغَادِرِينَ يُخْرِبُهُمْ. 4لاَ يَنْفَعُ ٱلْغِنَى فِي يَوْمِ ٱلسَّخَطِ، أَمَّا ٱلْبِرُّ فَيُنَجِّي مِنَ ٱلْمَوْتِ. 5بِرُّ ٱلْكَامِلِ يُقَوِّمُ طَرِيقَهُ، أَمَّا ٱلشِّرِّيرُ فَيَسْقُطُ بِشَرِّهِ. 6بِرُّ ٱلْمُسْتَقِيمِينَ يُنَجِّيهِمْ، أَمَّا ٱلْغَادِرُونَ فَيُؤْخَذُونَ بِفَسَادِهِمْ. 7عِنْدَ مَوْتِ إِنْسَانٍ شِرِّيرٍ يَهْلِكُ رَجَاؤُهُ، وَمُنْتَظَرُ ٱلأَثَمَةِ يَبِيدُ. 8اَلصِّدِّيقُ يَنْجُو مِنَ ٱلضِّيقِ، وَيَأْتِي ٱلشِّرِّيرُ مَكَانَهُ. 9بِٱلْفَمِ يُخْرِبُ ٱلْمُنَافِقُ صَاحِبَهُ، وَبِالْمَعْرِفَةِ يَنْجُو ٱلصِّدِّيقُونَ. 10بِخَيْرِ ٱلصِّدِّيقِينَ تَفْرَحُ ٱلْمَدِينَةُ، وَعِنْدَ هَلاَكِ ٱلأَشْرَارِ هُتَافٌ. 11بِبَرَكَةِ ٱلْمُسْتَقِيمِينَ تَعْلُو ٱلْمَدِينَةُ، وَبِفَمِ ٱلأَشْرَارِ تُهْدَمُ. 12اَلْمُحْتَقِرُ صَاحِبَهُ هُوَ نَاقِصُ ٱلْفَهْمِ، أَمَّا ذُو ٱلْفَهْمِ فَيَسْكُتُ. 13ٱلسَّاعِي بِٱلْوِشَايَةِ يُفْشِي ٱلسِّرَّ، وَٱلأَمِينُ ٱلرُّوحِ يَكْتُمُ ٱلأَمْرَ. 14حَيْثُ لاَ تَدْبِيرٌ يَسْقُطُ ٱلشَّعْبُ، أَمَّا ٱلْخَلاَصُ فَبِكَثْرَةِ ٱلْمُشِيرِينَ. 15ضَرَراً يُضَرُّ مَنْ يَضْمَنُ غَرِيباً، وَمَنْ يُبْغِضُ صَفْقَ ٱلأَيْدِي مُطْمَئِنٌّ. 16اَلْمَرْأَةُ ذَاتُ ٱلنِّعْمَةِ تُحَصِّلُ كَرَامَةً، وَٱلأَشِدَّاءُ يُحَصِّلُونَ غِنًى. 17اَلرَّجُلُ ٱلرَّحِيمُ يُحْسِنُ إِلَى نَفْسِهِ، وَٱلْقَاسِي يُكَدِّرُ لَحْمَهُ. 18اَلشِّرِّيرُ يَكْسَبُ أُجْرَةَ غِشٍّ، وَٱلّزَارِعُ ٱلْبِرَّ أُجْرَةَ أَمَانَةٍ. 19كَمَا أَنَّ ٱلْبِرَّ يَؤُولُ إِلَى ٱلْحَيَاةِ كَذٰلِكَ مَنْ يَتْبَعُ ٱلشَّرَّ فَإِلَى مَوْتِهِ. 20كَرَاهَةُ ٱلرَّبِّ مُلْتَوُو ٱلْقَلْبِ، وَرِضَاهُ مُسْتَقِيمُو ٱلطَّرِيقِ. 21يَدٌ لِيَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ ٱلشِّرِّيرُ، أَمَّا نَسْلُ ٱلصِّدِّيقِينَ فَيَنْجُو. 22خِزَامَةُ ذَهَبٍ فِي فِنْطِيسَةِ خِنْزِيرَةٍ ٱلْمَرْأَةُ ٱلْجَمِيلَةُ ٱلْعَدِيمَةُ ٱلْعَقْلِ. 23شَهْوَةُ ٱلأَبْرَارِ خَيْرٌ فَقَطْ. رَجَاءُ ٱلأَشْرَارِ سَخَطٌ. 24يُوجَدُ مَنْ يُفَرِّقُ فَيَزْدَادُ أَيْضاً، وَمَنْ يُمْسِكُ أَكْثَرَ مِنَ ٱللاَّئِقِ وَإِنَّمَا إِلَى ٱلْفَقْرِ. 25ٱلنَّفْسُ ٱلسَّخِيَّةُ تُسَمَّنُ، وَٱلْمُرْوِي هُوَ أَيْضاً يُرْوَى. 26مُحْتَكِرُ ٱلْحِنْطَةِ يَلْعَنُهُ ٱلشَّعْبُ، وَٱلْبَرَكَةُ عَلَى رَأْسِ ٱلْبَائِعِ. 27مَنْ يَطْلُبُ ٱلْخَيْرَ يَلْتَمِسُ ٱلرِّضَا، وَمَنْ يَطْلُبُ ٱلشَّرَّ فَٱلشَّرُّ يَأْتِيهِ. 28مَنْ يَتَّكِلْ عَلَى غِنَاهُ يَسْقُطْ، أَمَّا ٱلصِّدِّيقُونَ فَيَزْهُونَ كَٱلْوَرَقِ. 29مَنْ يُكَدِّرْ بَيْتَهُ يَرِثِ ٱلرِّيحَ، وَٱلْغَبِيُّ خَادِمٌ لِحَكِيمِ ٱلْقَلْبِ. 30ثَمَرُ ٱلصِّدِّيقِ شَجَرَةُ حَيَاةٍ، وَرَابِحُ ٱلنُّفُوسِ حَكِيمٌ. 31هُوَذَا ٱلصِّدِّيقُ يُجَازَى فِي ٱلأَرْضِ، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلشِّرِّيرُ وَٱلْخَاطِئُ!».

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي عَشَرَ

1 «مَنْ يُحِبُّ ٱلتَّأْدِيبَ يُحِبُّ ٱلْمَعْرِفَةَ، وَمَنْ يُبْغِضُ ٱلتَّوْبِيخَ فَهُوَ بَلِيدٌ. 2ٱلصَّالِحُ يَنَالُ رِضىً مِنْ ٱلرَّبِّ، أَمَّا رَجُلُ ٱلْمَكَايِدِ فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ. 3لاَ يُثَبَّتُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ، أَمَّا أَصْلُ ٱلصِّدِّيقِينَ فَلاَ يَتَقَلْقَلُ. 4اَلْمَرْأَةُ ٱلْفَاضِلَةُ تَاجٌ لِبَعْلِهَا، أَمَّا ٱلْمُخْزِيَةُ فَكَنَخْرٍ فِي عِظَامِهِ. 5أَفْكَارُ ٱلصِّدِّيقِينَ عَدْلٌ. تَدَابِيرُ ٱلأَشْرَارِ غِشٌّ. 6كَلاَمُ ٱلأَشْرَارِ كُمُونٌ لِلدَّمِ، أَمَّا فَمُ ٱلْمُسْتَقِيمِينَ فَيُنَجِّيهِمْ. 7تَنْقَلِبُ ٱلأَشْرَارُ وَلاَ يَكُونُونَ، أَمَّا بَيْتُ ٱلصِّدِّيقِينَ فَيَثْبُتُ. 8بِحَسَبِ فِطْنَتِهِ يُحْمَدُ ٱلإِنْسَانُ، أَمَّا ٱلْمُلْتَوِي ٱلْقَلْبِ فَيَكُونُ لِلْهَوَانِ. 9اَلْحَقِيرُ وَلَهُ عَبْدٌ خَيْرٌ مِنَ ٱلْمُتَمَجِّدِ وَيُعْوِزُهُ ٱلْخُبْزُ. 10ٱلصِّدِّيقُ يُرَاعِي نَفْسَ بَهِيمَتِهِ، أَمَّا مَرَاحِمُ ٱلأَشْرَارِ فَقَاسِيَةٌ. 11مَنْ يَشْتَغِلُ بِحَقْلِهِ يَشْبَعُ خُبْزاً، أَمَّا تَابِعُ ٱلْبَطَّالِينَ فَهُوَ عَدِيمُ ٱلْفَهْمِ. 12اِشْتَهَى ٱلشِّرِّيرُ صَيْدَ ٱلأَشْرَارِ، وَأَصْلُ ٱلصِّدِّيقِينَ يُجْدِي. 13فِي مَعْصِيَةِ ٱلشَّفَتَيْنِ شَرَكُ ٱلشِّرِّيرِ، أَمَّا ٱلصِّدِّيقُ فَيَخْرُجُ مِنَ ٱلضِّيقِ. 14ٱلإِنْسَانُ يَشْبَعُ خَيْراً مِنْ ثَمَرِ فَمِهِ، وَمُكَافَأَةُ يَدَيِ ٱلإِنْسَانِ تُرَدُّ لَهُ. 15طَرِيقُ ٱلْجَاهِلِ مُسْتَقِيمٌ فِي عَيْنَيْهِ، أَمَّا سَامِعُ ٱلْمَشُورَةِ فَهُوَ حَكِيمٌ. 16غَضَبُ ٱلْجَاهِلِ يُعْرَفُ فِي يَوْمِهِ، أَمَّا سَاتِرُ ٱلْهَوَانِ فَهُوَ ذَكِيٌّ. 17مَنْ يَتَفَوَّهُ بِٱلْحَقِّ يُظْهِرُ ٱلْعَدْلَ، وَٱلشَّاهِدُ ٱلْكَاذِبُ يُظْهِرُ غِشّاً».

نطالب القارئ الكريم أن يقرأ كتابات سليمان الموحى بها، فليقرأ في الكتاب المقدس بعض مزاميره في سفر المزامير، وحكمته في سفري الأمثال والجامعة - مع قصيدته الغزلية، التي ترمز لمحبة الله لشعبه في سفر نشيد الأنشاد.

الفصل الثامن عشر: سنوات سليمان الأخيرة

كان سليمان حكيماً غاية الحكمة حتى أنه كتب سفر الأمثال من التوراة. وفي الأصحاح الأخير من ذلك السفر يصف المرأة الفاضلة فيقول: «اِمْرَأَةٌ فَاضِلَةٌ مَنْ يَجِدُهَا؟ لأَنَّ ثَمَنَهَا يَفُوقُ ٱللآلِئَ. بِهَا يَثِقُ قَلْبُ زَوْجِهَا فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى غَنِيمَةٍ. تَصْنَعُ لَهُ خَيْراً لاَ شَرّاً كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهَا... تَبْسُطُ كَفَّيْهَا لِلْفَقِيرِ وَتَمُدُّ يَدَيْهَا إِلَى ٱلْمِسْكِينِ... تَفْتَحُ فَمَهَا بِٱلْحِكْمَةِ، وَفِي لِسَانِهَا سُنَّةُ ٱلْمَعْرُوفِ... اَلْحُسْنُ غِشٌّ وَٱلْجَمَالُ بَاطِلٌ، أَمَّا ٱلْمَرْأَةُ ٱلْمُتَّقِيَةُ ٱلرَّبَّ فَهِيَ تُمْدَحُ» (أمثال 31: 10-30).

قد نظن أن الذي يكتب مثل هذه الأقوال الرائعة لا يرتكب خطاً عندما يتزوج. على أن الذي يحدث دوماً في عالمنا أن الأشخاص الذين يمتلكون الثروة والسلطة ينسون الله ويسقطون في الخطأ. ومن المؤسف أن نقول إن هذا هو ما جرى لسليمان. صحيح أنه كان إمام الحكماء، ولكنه ارتكب شيئاً أحمق. لقد كان يعلم أن الله أعطى آدم زوجة واحدة، وأن الله يعلّم البشر جميعاً أن أفضل شيء هو أن يرتبط الإنسان بزوجة واحدة مخلصة. فلو كان الزواج بأكثر من واحدة أصلح، لصنع الله في حكمته أكثر من حواء واحدة لأبينا آدم. كما أن الله في حكمته ومحبته منع شعبه من أن يتزاوج من غير مؤمنات لئلا يقودوهم إلى عبادة الأوثان.

غير أن التوراة المقدسة تقول لنا إن سليمان في سنواته الأخيرة بدأ بتعدد الزوجات، وأحب نساء غريبات كثيرات مع بنت فرعون، فكان له سبع مئة زوجة وثلاث مئة سُرّية، وتقول التوراة إن هؤلاء النسوة أملن قلب سليمان إلى الآلهة الغريبة، حتى بنى أماكن لعبادة الأوثان إرضاءً لهن. وهكذا وقع سليمان في الخطأ، وارتكب ما لا يرضي الله، وما أغضبه عليه، فقال له: «مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذٰلِكَ عِنْدَكَ، وَلَمْ تَحْفَظْ عَهْدِي وَفَرَائِضِيَ ٱلَّتِي أَوْصَيْتُكَ بِهَا، فَإِنِّي أُمَزِّقُ ٱلْمَمْلَكَةَ عَنْكَ تَمْزِيقاً وَأُعْطِيهَا لِعَبْدِكَ. إِلاَّ إِنِّي لاَ أَفْعَلُ ذٰلِكَ فِي أَيَّامِكَ، مِنْ أَجْلِ دَاوُدَ أَبِيكَ، بَلْ مِنْ يَدِ ٱبْنِكَ أُمَّزِقُهَا. عَلَى أَنِّي لاَ أُمَزِّقُ مِنْكَ ٱلْمَمْلَكَةَ كُلَّهَا، بَلْ أُعْطِي سِبْطاً وَاحِداً لٱِبْنِكَ، لأَجْلِ دَاوُدَ عَبْدِي، وَلأَجْلِ أُورُشَلِيمَ ٱلَّتِي ٱخْتَرْتُهَا» (1ملوك 11: 11-13).

ونحن اليوم قد لا نشترك مع سليمان في خطئه نتيجة زواجه بألف امرأة، لكن الذي نرتكبه أننا نقع في حب أشياء تبعدنا عن محبة الله. الذين يقعون في حب المال يجدون أنفسهم ينزلون عن مبادئهم ويعبدون الثروة ويبتعدون عن عبادة الله. والذين يحبون الأصدقاء يضحّون بمبادئهم ليُرضوا أصدقاءهم، فإن كلمة تقدير من صديق تحتل في نفوسهم مكان آيات كتابية كان يجب أن تحكم تصرفاتهم وتقود سلوكهم اليومي. ما أكثر الأشياء التي يمكن أن تأخذ مكان الله في حياتنا، ولذلك يأمرنا الله أن نطلب أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لنا.

وهناك خطأ آخر وقع فيه إمام الحكماء سليمان، وهو عيشة البذخ والإسراف. ولكي يحقق كل رغباته كان لا بد أن يسخِّر الكثيرين من شعبه ليقيموا القصور لزوجاته، حتى إن رجال سليمان بعد موته جاءوا إلى ابنه رحبعام وقالو له: «إِنَّ أَبَاكَ قَسَّى نِيرَنَا وَأَمَّا أَنْتَ فَخَفِّفِ ٱلآنَ مِنْ عُبُودِيَّةِ أَبِيكَ ٱلْقَاسِيَةِ وَمِنْ نِيرِهِ ٱلثَّقِيلِ ٱلَّذِي جَعَلَهُ عَلَيْنَا فَنَخْدِمَكَ» (1ملوك 12: 4). نعم، كان نير سليمان على شعبه قاسياً غاية القسوة، حتى أنهم أرادوا أن يتخففوا منه، وكان رحبعام مثل أبيه سليمان، فقال للشعب: «أَبِي ثَقَّلَ نِيرَكُمْ وَأَنَا أَزِيدُ عَلَى نِيرِكُمْ. أَبِي أَدَّبَكُمْ بِٱلسِّيَاطِ وَأَنَا أُؤَدِّبُكُمْ بِٱلْعَقَارِبِ» (1ملوك 12: 14). ولا يخفى أن الشعب عندما سمعوا هذا الكلام لم يريدوا أن يملك رحبعام بن سليمان عليهم، فانقسمت المملكة. قبل سبطان فقط من الأسباط الإثني عشر أن يملّكوا رحبعام عليهم، أما الباقون وهم (عشرة أسباط) فطلبوا من شخص آخر اسمه يربعام أن يملك عليهم. وهكذا جلبت خطايا سليمان غضب الله عليه هو، وعلى نسله.

عندما أخطأ نبي الله داود تاب إلى الله بدموع، وسأل الغفران، فغفر الله له. لكننا لا نقرأ في التوراة المقدسة أي تسجيل بأن سليمان قد تاب، أو أن الله قد غفر له نتيجة اعترافه بخطاياه.على أن الله كان أميناً لمواعيده لداود، في أن مملكته تستمر إلى الأبد.

واليوم نعلم أن السيد المسيح هو ابن داود عن طريق أمه العذراء القديسة مريم، ولا زال المسيح حياً يملك السماء والأرض في مملكة روحية لا تنتهي أبداً، لأنه الملك الأبدي الذي فيه تحققت مواعيد الله لداود، ولذلك قال السيد المسيح: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (متى 28: 18).

لقد مات الملك سليمان بعد أن ترك خزانة خاوية، وشعباً متألماً لكثرة الظلم والاستعباد، ومملكة منقسمة! على أن الملك سليمان الذي حكم أربعين سنة كان زمن حكمه العصر الذهبي في التاريخ العبري، وهذا يعلِّمنا أن الإنسان الحكيم لا يستمر حكيماً إلى الأبد، ما لم يحافظ على حكمته ويسلك بمقتضاها. فالإنسان الحكيم حقاً هو الذي يحافظ على صلته بالله كل يوم، عاملاً بنصيحة رسول المسيحية بولس: «إِذاً مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ» (1كورنثوس 10: 12).

مسابقة الكتاب

إن جاوبت إجابة صحيحة على 25 سؤالاً من الأسئلة الثلاثين التالية، نرسل لك كتاباً هدية. نرجو أن تكتب اسمك وعنوانك الكاملين، داخل رسالتك وليس على المظروف فقط.

  1. ماذا تعرف عن والد داود وعن والدته؟

  2. ما هو الفرق بين نظرة الله ونظرة البشر؟

  3. ما هي الفوائد التي أخذها داود من رعي الغنم؟

  4. كيف أعطى الله داود فرصة التدريب ليكون ملكاً؟

  5. ماذا تتعلم من داود في صرف أوقات الفراغ؟

  6. كيف تصبح شفتاك ويداك جميلة؟

  7. ماذا كانت أسلحة داود في محاربة جليات؟

  8. كيف ننتصر نحن في حروبنا الروحية؟

  9. اذكر بعض صفات الصَّديق الذي ترغب أن تصادقه.

  10. لماذا اغتاظ شاول من داود؟

  11. ما هو وجه الشَّبه بين شاول وهيرودس؟

  12. اذكر أسماء بعض الأماكن التي هرب إليها داود.

  13. ما هو السبب الرئيسي الذي جعل داود يعفو عن شاول؟

  14. في أية مناسبة كتب داود المزمور السابع؟

  15. اشرح ما فعلته أبيجايل لتدافع عن زوجها وبيتها.

  16. بماذا تنصح الزوجة الموفَّقة؟

  17. لماذا انتحر شاول؟

  18. لماذا طلب كل الشعب أن يملك داود عليهم؟

  19. لماذا أراد داود أن يبني بيتاً للرب؟

  20. ما معنى الكلمات: معصية - إثم - خطية - شر؟

  21. ما هي غلطة داود في تربية أبشالوم؟

  22. ما هي الصورة التي رسمها داود لله في نشيد الخلاص (مزمور 18)؟

  23. ماذا قال الله لداود عن ابنه الذي سيخلفه على العرش؟

  24. ما هي الصلاة التي رفعها داود من أجل سليمان؟

  25. ماذا فعل سليمان لله في جبعون؟

  26. ماذا فعل الله لسليمان في جبعون؟

  27. كيف نظم سليمان مملكته؟

  28. اذكر بعض طلبات سليمان في صلاة تدشين الهيكل.

  29. كيف استجاب الله طلبة سليمان في زيارة ملكة سبا؟

  30. ما الذي ضيّع الثمرة الحلوة لحياة سليمان؟ وماذا نتعلم من ذلك؟


Call of Hope 
P.O.Box 10 08 27 
70007
Stuttgart
Germany