العودة الى الصفحة السابقة
موسى كليم الله

موسى كليم الله

الدكتور القس. منيس عبد النور


Bibliography

موسى كليم الله. الدكتور القس. منيس عبد النور. الطبعة الأولى. 1989. Order Number SPB 7140 ARA. German title:Mose, der Sprecher Gottes. English title:Moses, the Speaker of God. Copyright © 1989 All Rights Reserved Call of Hope. P.O. Box 100827 D-70007 Stuttgart Germany Internet: http://www.call-of-hope.com - .

هذا الكتاب..

نتأمل في هذا الكتاب حياة رجل عظيم، هو موسى، الذي نطلق عليه لقب «كليم الله» لأنه كان يتحدث إلى الله، وكان الله يتحدث إليه باستمرار، كما تقول التوراة: «يكلّم الرب موسى وجهاً لوجه، كما يكلّم الرجل صاحبه» (تثنية 5: 4 والعدد 12: 8). وأعتقد أن كل الذين يؤمنون بكتب الوحي المقدسة يجب أن يعرفوا شيئاً عن شخصية هذا الرجل العظيم، كليم الله، الذي عاش قريباً من الله وخدمه بأمانة وقتاً طويلاً. ونرجو أن نجد معونةً لحياتنا الدينية ونحن ندرس أحداث مئة وعشرين سنة، هي حياة ذلك القائد العظيم موسى، الذي ألهم كثيرين ليخدموا الله كما فعل هو بأمانة وحب.

نرجو لك أيها القارئ العزيز كل البركة الروحية والعقلية وأنت تطالع سيرة هذا الرجل العظيم، كليم الله وعبد الرب، موسى بن عَمْرام.

الدكتور القس منيس عبد النور

الفصل الأول: موسى قبل أن يدعوه الله

كلنا يعرف يوسف الذي أنقذ مصر من المجاعة، بعد أن فسَّر لفرعون حُلمَيه عن البقرات السمان والبقرات العجاف، ثم عن السنبلات السبع اليابسة التي ابتلعت السنبلات الممتلئة. وعندما جاءت على مصر سبع سني الشبع، خزن يوسف القمح ليطعم مصر كلها والدول المحيطة بها مدة سبع سنوات الجوع. فاحتل يوسف مكانة عظيمة جداً، وصار رجلاً عظيماً في مصر، فاستدعى أسرته. وجاء أبوه يعقوب مع سبعين شخصاً من نسله، وسكنوا في أرض جاسان شمال شرقي القاهرة الحالية. وعندما مات يوسف حنَّطوه وأبقوه في مصر، ولكننا لا نعلم شيئاً عن أعمار بقية إخوة يوسف، ولا عن زمن وفاتهم. ويبيّن لنا سفر التكوين أن تسعة وخمسين عاماً انقضت ما بين موت يوسف وولادة موسى. كان عمر يوسف حين وقف أمام فرعون ثلاثين عاماً، مضت بعدها سبع سنوات الخير، وأعقبتها سنتان من المجاعة قبل أن ينزل يعقوب إلى أرض مصر. فكان عمر يوسف حين حضر أبوه يعقوب إليه تسعة وثلاثين عاماً. وعاش بعد ذلك واحداً وسبعين سنة أخرى، ومات وهو ابن مئة وعشر سنوات.

ويقول لنا سفر الخروج في التوراة إنه قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف، ذلك أن الملوك الرعاة، الهكسوس، كانوا يحكمون مصر عندما جاء يوسف إليها. ولكن الفرعون أحمس، أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة، طرد الهكسوس من مصر، وتولى الحكم ملوك مصريون. فخاف الملك الجديد من قوة العبرانيين العظيمة، لأنهم أصبحوا أمة كبيرة، ويقال إن عددهم بلغ مليونين من النفوس. وخاف الملك أن ينضم العبرانيون إلى أعداء مصر إذا نشبت حرب، فيقلبون البلاد رأساً على عقب، فبدأ يرغمهم على العمل بلا مقابل، ونصَّب عليهم رؤساء تسخير ساموهم سوء العذاب، فبنوا لفرعون مدينتين هما: فيثوم ورعمسيس لتكونا مدينتي مخازن. ورغم الاضطهاد المتزايد عليهم كان عددهم يزداد.

وعندما رأى فرعون أن كل محاولات الاضطهاد لم تنقص عدد العبرانيين، قرر أن كل مولود عبراني ذكر يجب أن يموت، وأمر القابلتين - اللتين تعاونان العبرانيات على الولادة - أن تقتلا كل مولود ذكر. ولكن القابلتين رفضتا أن تفعلا ذلك، وقالتا للملك إن النساء العبرانيات كن يلدن قبل أن تصل القابلة إليهن. وهذا منطقي، لأن السيدة التي تعمل وتتحرك تلد أسهل من السيدة التي لا تتحرك. وكانت نساء العبرانيين يقمن بالأعمال الشاقة. فأمر فرعون عندئذٍ أن يقتلوا كل مولود ذكر من العبرانيين، بأن يطرحوه في النيل.

لقد كانت حياة العبرانيين في مصر صورة من حياة الخطاة الذين يرسفون في عبودية الشيطان، إذ كانت حياتهم مريرة في تلك العبودية، ولم يكن لهم منها مهرب. غير أن الله قدم العلاج والتحرير. ولا زال إلهنا الصالح الذي يحبنا، يريد أن ينتشلنا من عبودية خطيتنا ليخلصنا، وليعطينا الحياة المتحررة البعيدة عن عبودية الخطية.

موسى في النيل:

في ذلك الوقت المظلم، الذي أمر فرعون فيه أن يُقتل كل مولود ذكر، وُلد موسى لأب اسمه عَمْرام، وأم اسمها يوكابد. وكان هارون يكبر موسى بثلاث سنوات. أغلب الظن أن هارون وُلد قبل أن يُصدر فرعون أمره بقتل المواليد الذكور. كما كان لموسى أخت اسمها مريم كانت تكبره بست سنوات. ورأى والدا موسى أن الطفل المولود جميل، وخافا عليه فخبآه ثلاثة أشهر. ويقول كاتب رسالة العبرانيين في الإنجيل، إنهما بالإيمان خبآه ولم يخشيا أمر الملك (عبرانيين 11: 23). ولكن صوت الطفل بدأ يرتفع، فلم يمكنهما أن يخبآه أكثر، فأخذا له سَفَطاً من البَردْي، وطلياه بالحُمَر والزفت، كما طلى جده نوح فُلْكه قبل ذلك بنحو ثمانمائة سنة. ووقفت مريم تراقب الطفل موسى في نهر النيل من بعيد.

وهنا جاءت ابنة فرعون، ومعها جواريها، لتستحم في نهر النيل، فرأت الطفل موسى وسمعته يبكي، فرقَّ قلبها له. وعندما حملت إحدى جواري ابنة فرعون الطفل موسى، جرت مريم إليها وقالت: «هَلْ أَذْهَبُ وَأَدْعُو لَكِ ٱمْرَأَةً مُرْضِعَةً مِنَ ٱلْعِبْرَانِيَّاتِ لِتُرْضِعَ لَكِ ٱلْوَلَدَ؟» فَقَالَتْ لَهَا ٱبْنَةُ فِرْعَوْنَ: «ٱذْهَبِي» (خروج 2: 7، 8). فذهبت مريم لتدعو أمها يوكابد. وهكذا أصبح موسى في حماية ابنة الفرعون العظيم نفسه، تعتني به أمه نفسها، ترضعه لبنها مع الإيمان، وتعلمه عن الله، فلقد كانت يوكابد وزوجها عمرام من سبط لاوي، سبط الكهنوت. وتلاحظ أيها القارئ معي، العناية الإلهية العجيبة. لقد حمى الله هذا الطفل الذي كان له مستقبل عظيم في خدمة الله، وجعل أمه تقوم بواجب الأم من نحوه، لقاء أجر.

يا لعناية الله العظيمة! ألم تختبر أنت في حياتك كيف أنقذك الله من مأزق كنت لا تظن أنك ستجد منه مخرجاً، وفي محبته النادرة أنقذك ورفعك. دعنا نسبِّح الله معاً بما قاله نبي الله داود: «أَمَّا أَنَا فَعَلَى رَحْمَتِكَ تَوَكَّلْتُ. يَبْتَهِجُ قَلْبِي بِخَلاصِكَ. أُغَنِّي لِلرَّبِّ لأَنَّهُ أَحْسَنَ إِلَيَّ»(مزمور 13: 5، 6).

موسى في القصر الملكي:

كانت مصر قمة الحضارة وأعظم بلاد العالم المعروفة آنذاك. ولا شك أن موسى تلقى أعظم علوم عصره. ولقد تحدث الشهيد المسيحي الأول إستفانوس عن هذه القصة فقال: «قَامَ مَلِكٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ يُوسُفَ. فَٱحْتَالَ هٰذَا عَلَى جِنْسِنَا وَأَسَاءَ إِلَى آبَائِنَا، حَتَّى جَعَلُوا أَطْفَالَهُمْ مَنْبُوذِينَ لِكَيْ لا يَعِيشُوا. وَفِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ وُلِدَ مُوسَى وَكَانَ جَمِيلاً جِدّاً، فَرُبِّيَ هٰذَا ثَلاثَةَ أَشْهُرٍ فِي بَيْتِ أَبِيهِ. وَلَمَّا نُبِذَ، ٱتَّخَذَتْهُ ٱبْنَةُ فِرْعَوْنَ وَرَبَّتْهُ لِنَفْسِهَا ٱبْناً. فَتَهَذَّبَ مُوسَى بِكُلِّ حِكْمَةِ ٱلْمِصْرِيِّينَ، وَكَانَ مُقْتَدِراً فِي ٱلأَقْوَالِ وَٱلأَعْمَالِ»(أعمال 7: 18 - 22).

لا بد أن موسى تلقى علومه في جامعة هليوبوليس، التي تقع على بعد عشرة كيلو مترات شمال شرق القاهرة الحالية. ولا شك أنّه تعلم كيف يكتب ويقرأ اللغة الهيروغليفية، ثم تعلم الحساب والموازين والهندسة. وإن كنا نفكر في مقدار علم المصريين الذين بنوا الأهرامات، ندرك مقدار معرفتهم التي علَّموها لموسى في الهندسة والفلك والمباني والكيمياء والتشريح وعلم المعادن والموسيقى. لقد كان موسى أميراً مصرياً يتمتع بكل الامتيازات التي يتمتع بها أعظم رجال مصر، كيف لا، وهو حفيد الفرعون العظيم نفسه بالتبنّي! ويحدثنا المؤرخ يوسيفوس أن موسى قاد حملة عسكرية إلى بلاد الحبشة، وُفِّق فيها توفيقاً عظيماً، وتلقى أكبر النياشين، وزوَّجه الفرعون من ابنته ساربيس.

موسى يسأل عن إخوته:

وذات يوم تعب موسى من حياة القصر، فخرج يتجول ليتأمل أحوال البلاد. ترك العاصمة تانيس واتجه ليزور إخوته الذين كانوا يُسامون سوء العذاب، وهناك رأى رجلاً مصرياً يضرب رجلاً عبرانياً. والتفت موسى هنا وهناك فلم يجد أحداً، فقتل المصري ودفنه في الرمل، فقد كانت عصبيته لجنسه أقوى من حكمته. وفي اليوم التالي تحمَّس ليخرج مرة أخرى ليرى أهله وعشيرته، فرأى رجلين عبرانيين يتخاصمان معاً، واستمع إلى الخصومة، فعرف أيّ الاثنين كان مذنباً فقال له: «لماذا تضرب أخاك؟». فما كان من هذا إلا أن قال له: «من جعلك رئيساً وقاضياً علينا؟ هل تريد أن تقتلني كما قتلت الرجل المصري بالأمس ودفنته في الرمل؟» وهنا أدرك موسى أن فعلته قد ذاعت، وأن الناس قد سمعوا عنها. وسرعان ما سيصل الخبر إلى القصر الملكي. فخاف موسى وقال: «لقد انكشف أمري». ووصل الأمر فعلاً إلى فرعون فأصدر أوامره بقتل موسى. وهنا هرب موسى إلى بلاد بعيدة - إلى أرض مديان - وله من العمر أربعون سنة (خروج 2: 11 - 15).

ويقول الشهيد المسيحي الأول استفانوس عن ذلك: «لما بلغ موسى الأربعين من العمر، خطر بقلبه أن يتفقد أحوال إخوته من بني إسرائيل، فرأى واحداً منهم يعتدي عليه مصريٌّ، فتدخل ليدافع عن المظلوم، وانتقم له. فقتل المصري على أمل أن يدرك إخوته أن الله سينقذهم على يده، غير أنهم لم يدركوا. وفي اليوم التالي وجد اثنين من إخوته يتعاركان، فحاول أن يصلح بينهما قائلاً: أنتما أخوان، فلماذا يعتدي أحدكما على الآخر؟ فما كان من المعتدي على قريبه إلا أن دفعه بعيداً وقال: «مَنْ أَقَامَكَ رَئِيساً وَقَاضِياً عَلَيْنَا؟ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ أَمْسَ ٱلْمِصْرِيَّ؟». وهنا هرب موسى من مصر إلى بلاد مديان، وعاش فيها غريباً. وهناك أنجب ولدين» (أعمال 7: 23 - 29).

لقد كانت دوافع موسى سليمة، وأدرك أن الله يدعوه. لكن التوقيت والوسيلة التي اتَّبعهما كانا خاطئين، إذ لم يكن وقت الله قد حان بعد ليُخرج بني إسرائيل من مصر. فكان على موسى أن لا يحذو حذو قايين فيقتل رجلاً. ويقول لنا كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «بِٱلإِيمَانِ مُوسَى لَمَّا كَبِرَ أَبَى أَنْ يُدْعَى ٱبْنَ ٱبْنَةِ فِرْعَوْنَ، مُفَضِّلاً بِٱلأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ ٱللّٰهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِٱلْخَطِيَّةِ، حَاسِباً عَارَ ٱلْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ، لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى ٱلْمُجَازَاةِ. بِٱلإِيمَانِ تَرَكَ مِصْرَ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ غَضَبِ ٱلْمَلِكِ، لأَنَّهُ تَشَدَّدَ، كَأَنَّهُ يَرَى مَنْ لا يُرَى»(عبرانيين 11: 24 - 27).

موسى في مديان:

تنقسم حياة موسى إلى ثلاث مراحل، مدة كل منها أربعون سنة كما قال استفانوس (أعمال 7: 23، 30، 36). صرف موسى أربعين سنة في قصر فرعون، حيث تلقى حكمة المصريين وتعلم آدابهم وعلومهم. وقضى أربعين سنة أخرى على أطراف الصحراء، وهناك تدرب في مدرسة الله، في خلوة مع الله ومع الطبيعة، حيث كان الله رفيقه وحده.

تختلف طرق الله عن طرق البشر، فداود صاحب المزامير رجل عظيم آخر من رجال الله، عرف فكر الله بينما كان يرعى مواشي أبيه تحت السماء المرصَّعة بالنجوم. وهكذا فعل رسول المسيحية بولس بعد أن التقى به السيد المسيح على الطريق إلى دمشق، فذهب إلى الصحراء العربية ليلتقي بالله، ليعيد تفكيره في كل ما تعلَّمه من فقه ديني. وقد أصبح موسى بعد تدريب في مدرسة الله استغرق أربعين عاماً في صحراء مديان مستعداً لأن يقوم بالمهمة التي سيكلفه الله بها وكرس لها حياته، فأنفق السنوات الأربعين الثالثة من حياته في إخراج شعب الله من أرض مصر وقيادتهم إلى حدود الأرض التي وعدهم الله بها.

أقام موسى في مديان أربعين سنة - وهي بلاد تتخذ اسمها من مديان، أحد أبناء إبراهيم من زوجته قطورة، التي تزوج بها بعد موت زوجته سارة. وكان رئيس كهنة مديان يُدعَى رعوئيل، كما يُدعى أيضاً يثرون. ومعنى اسم «يثرون» صاحب سعادة، ولعل هذا لقبه وليس اسمه، وكان ليثرون سبع بنات يقمن على رعاية غنمه، فأخذن الأغنام لتشرب، ولكن الرعاة الآخرين طردوا البنات مع قطعانهن عن البئر، فلم يستطعن أن يسقين قطعانهن، ولكن موسى أنجدهن. واستخدم الله رغبة موسى في مساعدة الآخرين فأرسله ليخلص شعبه. وأراد كاهن مديان أن يسكن موسى معه، وزوَّجه من ابنته صفورة، وأعطاه الله ابنين، هما جرشوم وأليعازر. وظل موسى يرعى قطعان حميه يثرون.

الفصل الثاني: الله يدعو موسى

لما كان موسى يرتحل طلباً للمراعي لقطعانه اقترب من جبل حوريب، الذي يُدعى أيضاً جبل سيناء. وهو الجبل الذي تلقى فيه بعد ذلك شريعة الله التي نزلت إليه.

وتقول التوراة لنا إن الله ظهر لموسى عند جبل حوريب بلهيب نار من وسط عليقة. فنظر موسى وإذا بعليقة تتوقد بالنار دون أن تحترق، فقال موسى: «أَمِيلُ ٱلآنَ لأَنْظُرَ هٰذَا ٱلْمَنْظَرَ ٱلْعَظِيمَ. لِمَاذَا لا تَحْتَرِقُ ٱلْعُلَّيْقَةُ؟» فَلَمَّا رَأَى ٱلرَّبُّ أَنَّهُ مَالَ لِيَنْظُرَ، نَادَاهُ ٱللّٰهُ مِنْ وَسَطِ ٱلْعُلَّيْقَةِ وَقَالَ: «مُوسَى مُوسَى». فَقَالَ: «هَئَنَذَا». فَقَالَ: «لا تَقْتَرِبْ إِلَى هٰهُنَا. ٱخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ، لأَنَّ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ»(خروج 3: 1 - 5).

أيها القارئ الكريم، إن كان الله قد ظهر لموسى ناراً في عليقة، ألا يمكن أن يظهر لنا في شخص المسيح؟ بورك من في النار، وسبحان الله الذي يُظهر نفسه لعباده الصالحين بأي طريقة يشاء. ظهر لموسى في وسط تلك الشجرة المشتعلة بالنار دون أن تحترق، كما أظهر ذاته لنا في شخص المسيح، الذي يقول الإنجيل المقدس عنه: «وَبِٱلإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ»(1تيموثاوس 3: 16).

الله يتكلم من العُلَّيقة:

ثم قال الله لموسى، من خلال العليقة التي كانت تشتعل بالنار دون أن تحترق: «أَنَا إِلٰهُ أَبِيكَ، إِلٰهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلٰهُ إِسْحَاقَ وَإِلٰهُ يَعْقُوبَ». فَغَطَّى مُوسَى وَجْهَهُ لأَنَّهُ خَافَ... فَقَالَ ٱلرَّبُّ له: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي ٱلَّذِي فِي مِصْرَ وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ. إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ، فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ مِنْ أَيْدِي ٱلْمِصْرِيِّينَ، وَأُصْعِدَهُمْ مِنْ تِلْكَ ٱلأَرْضِ إِلَى أَرْضٍ جَيِّدَةٍ وَوَاسِعَةٍ،... وَٱلآنَ هُوَذَا صُرَاخُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَتَى إِلَيَّ، وَرَأَيْتُ أَيْضاً ٱلضِّيقَةَ ٱلَّتِي يُضَايِقُهُمْ بِهَا ٱلْمِصْرِيُّونَ، فَٱلآنَ هَلُمَّ فَأُرْسِلُكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَتُخْرِجُ شَعْبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ»(خروج 3: 7 - 10).

عزيزي القارئ، ألا ترى كيف يرقُّ قلب الله لشعبه، فيريد أن يحررهم من العبودية، ويصعدهم إلى أرض جيدة؟ هذا تماماً ما يحدث معك. فإن كنت تحس أن الخطية تستعبدك وأن إبليس يذلّك، فإنني أؤكد لك أن الله يريد أن يحررك من العبودية، وأن يصعدك إلى أرض جيدة فيها تجد خلوة معه، وتفرح به وتستمتع بشخصه. إن الله لا يشاء لإنسان أن يُذل إنساناً آخر، وهو يسرع لمعونة المذلولين والمتعَبين. عندما كان السيد المسيح في عالمنا ورأى الناس كغنم بلا راع، رق قلبه لهم (متى 9: 36). وقال لتلاميذه أن يصلّوا ليرسل الرب فعَلةً لحصاده (متى 9: 38). ثم أرسل تلاميذه برسالة الإنجيل ليوصّلوا بشرى الفرح والخلاص للنفوس المحتاجة. وها هو المسيح يدرك ما تقاسيه أنت من عبودية ومن متاعب، ولا زال قلبه مليئاً بالرأفة، فيرسل إليك هذه الرسالة ليقول لك: «إنني أريد أن أنقذك. إنني أسمع صراخك».

ما أجمل ما قال نبي الله داود وهو يعبّر عن هذه الحقيقة: «اِنْتِظَاراً ٱنْتَظَرْتُ ٱلرَّبَّ فَمَالَ إِلَيَّ وَسَمِعَ صُرَاخِي، وَأَصْعَدَنِي مِنْ جُبِّ ٱلْهَلاكِ، مِنْ طِينِ ٱلْحَمْأَةِ، وَأَقَامَ عَلَى صَخْرَةٍ رِجْلَيَّ. ثَبَّتَ خُطُواتِي، وَجَعَلَ فِي فَمِي تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً تَسْبِيحَةً لإِلٰهِنَا» (مزمور 40: 1 - 3).

أيها القارئ الكريم، أؤكد لك أن الله يحبك، ويريد أن ينقذك. وأرجوك أن تجيء إليه دوماً تطلب منه المعونة والإرشاد. إن الله في محبته يدرك ما أنت فيه من ضيق، ويريد أن يحررك من كل مذلة. إن كنت عبداً للخطية فإن الله يريد أن ينقذك من عبودية الخطية، وأن يطلقك إلى حرية مجد أولاد الله. وإن كنت مستعبداً لإنسان قاس، فإن الله في حبه يريد أن ينقذك ويخلصك.

موسى يقدم خمسة اعتذارات:

عندما وجَّه الله دعوته إلى كليمه موسى ليذهب إلى فرعون، بدأ موسى يقدم الاعتذارات عن عدم أدائه هذه المهمة الشاقة. قدم موسى خمسة اعتذارات (سفر الخروج 3: 11 - 4: 16)

  1. قال الله لموسى: «هَلُمَّ فَأُرْسِلُكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَتُخْرِجُ شَعْبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ». فجاء اعتذار موسى الأول: «مَنْ أَنَا حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ؟». لا شك أن موسى يتذكر اختباره القديم، عندما أراد أن ينقذ شعبه من العذاب الذي يُسامونه، فكان أن هدده فرعون بالقتل، فهرب من هناك. وجاوب الله على اعتذار موسى بقوله: إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ. وأكد الله له أنه حالما يُخرج الشعب من مصر، فأنهم سيعبدون الله على جبل حوريب، الذي هو جبل سيناء. ووعد الله هذا هو علامة للإيمان وحده - فلا يمكن لبني إسرائيل أن يجيئوا إلى جبل سيناء ليعبدوه إلا بعد أن يحقق وعده لهم بالخروج. (خروج 3: 11، 12).

  2. وعاد موسى يعتذر من جديد، قال: «هَا أَنَا آتِي إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَقُولُ لَهُمْ: إِلٰهُ آبَائِكُمْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. فَإِذَا قَالُوا لِي: مَا ٱسْمُهُ؟ فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟» فَقَالَ ٱللّٰهُ لِمُوسَى: «أَهْيَهِ ٱلَّذِي أَهْيَهْ». وَقَالَ: «هٰكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ»(خروج 3: 13 و14). «وأهيه» اسم عبري معناه «الكائن» ويعبّر هذا الاسم عن أبدية الله ووجوب وجوده. إنّ الله هو الموجود بذاته لا بداية له، غير مخلوق، أبدي.

    وأمر الرب موسى أن يستأذن فرعون في أن يذهب الشعب للصحراء في رحلة تستغرق ثلاثة أيام ليقدموا للرب ذبائح، وقال الرب لموسى: «أَمُدُّ يَدِي وَأَضْرِبُ مِصْرَ بِكُلِّ عَجَائِبِي ٱلَّتِي أَصْنَعُ فِيهَا. وَبَعْدَ ذٰلِكَ يُطْلِقُكُمْ (فرعون)». (خروج 3: 18 - 20).

  3. ولكن موسى عاد يعتذر مرة ثالثة وقال: «هَا هُمْ لا يُصَدِّقُونَنِي وَلا يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي، بَلْ يَقُولُونَ لَمْ يَظْهَرْ لَكَ ٱلرَّبُّ» (خروج 4: 1). فأعطى الله لموسى ثلاث معجزات يؤديها، ليُقنع الشعب أنه مرسل من عند الله.

    المعجزة الأولى أن عصا موسى تتحول إلى حية. وما إن طرح موسى عصاه على الأرض حتى صارت حية، فهرب موسى منها. ثم قال الرب لموسى: «مُدَّ يدك وأمسك ذنبها» فمد يده وأمسك بذنبها فصارت عصا في يده من جديد.

    ثم قال الله لموسى: «أدخل يدك في عبك» فأدخلها ثم أخرجها، وإذ يده برصاء. فقال الله: «رُدَّ يدك إلى عبك». وعندما فعل ذلك عادت يده سليمة صحيحة. وقال الله لموسى: «إذا لم يصدقوك بسبب المعجزة الأولى وهي تحويل العصا إلى حية، فإنهم سيصدقونك بسبب المعجزة الثانية».

    ثم قال الله لموسى: «إذا لم يصدقوا المعجزتين، فعليك أن تأخذ من ماء نهر النيل وتسكب على الأرض، فيصير الماء الذي تأخذه من النهر دماً على الأرض» (خروج 4: 1 - 9)

  4. ولكن موسى عاد يعتذر مرة رابعة وقال للرب: «ٱسْتَمِعْ أَيُّهَا ٱلسَّيِّدُ، لَسْتُ أَنَا صَاحِبَ كَلامٍ مُنْذُ أَمْسِ وَلا أَوَّلِ مِنْ أَمْسِ، وَلا مِنْ حِينِ كَلَّمْتَ عَبْدَكَ، بَلْ أَنَا ثَقِيلُ ٱلْفَمِ وَٱللِّسَانِ» (خروج 4: 10).

    عزيزي القارئ، كيف يمكن لموسى أن يتوقع من الله أن يهبه نعمة الفصاحة، في حين أنه يتهرب من أمر الله؟ إن المواهب التي يعطيها الله لنا تنمو بالممارسة. لقد أصبح موسى واحداً من أكبر الخطباء الذين عرفهم العالم، وقبل أن يموت ألقى في بني إسرائيل خطباً رائعة مدونة في سفر التثنية من التوراة. ورداً على هذا الاعتذار ذكَّر الله موسى بأنه خلق فم الإنسان، وفي قدرته أن يمنح موسى الفصاحة (خروج 4: 10 - 12).

  5. وعاد موسى يعتذر من جديد. فقال له: «أيها السيد، أرسل بيد من ترسل». وكأن موسى يطلب من الله أن يرسل إنساناً آخر. وهنا غضب الله على موسى وقال له إن أخاه هارون أكثر فصاحة منه، وسوف يقف هارون بجانب موسى.

    أيها القارئ الكريم، عندما يوجّه الله لك دعوة لتخدمه، أرجوك ألا تعتذر أو تتهرَّب من تلك الدعوة. فما أعظم الخسارة التي كان يمكن أن تحل بموسى لو أنه رفض أن يؤدي خدمة لله. عندما تعتذر أعذاراً واهية، فإنك تخسر خدمة عظيمة وشرفاً كبيراً يكلفك الله به. عندما يدعوك الله، أرجوك أن تصغي إلى صوته وأن تستمع إليه (خروج 4: 13 - 16).

    وأخيراً وافق موسى على طاعة دعوة الله إليه.

الفصل الثالث: موسى يطيع الدعوة

كان عمر موسى عندما دعاه الله ليُخرج شعبه من أرض مصر ثمانين عاماً. ولقد أطاع أخيراً صوت الرب. وحكى موسى وهارون الأمر كله للشعب، فاقتنع بنو إسرائيل بأن الله قد أرسل لهم موسى وهارون. وذهب موسى وهارون إلى الفرعون وقالا له إن الله يريد منه أن يطلق بني إسرائيل للصحراء ليعبدوه وليقدموا له ذبائح. ولم يكن فرعون يعرف من هو «الله». لم يسبق له أن سمع عن إلهٍ بهذا الاسم. كان يعرف عن الكثير من آلهة الوثن، ولكنه لا يعرف إلهاً اسمه «الله». فرفض أن يأذن للشعب بالسفر. ونعتقد أن الغلط يقع كثيراً على بني إسرائيل، لأنهم لم يذيعوا اسم «الله» بين المصريين، فلم يعرف فرعون اسم «يهوه» رب السماء والأرض، وظن أن العبرانيين ينتحلون عذراً ليتهرَّبوا من العمل. وأمر فرعون موسى وهارون أن يستمرا في عملهما كما يستمر الشعب في عمله كذلك. ونتيجة لطلب موسى وهارون هذا، زاد فرعون من إرهاق بني إسرائيل. فبينما كان على كل واحد أن يصنع عدداً معيّناً من الطوب كل يوم، أصبح لزاماً عليهم أن يجمعوا التبن ويصنعوا نفس كمية الطوب. وبدأ رؤساء التسخير يهينون بني إسرائيل، وعندما ذهب قادة بني إسرائيل إلى الفرعون يحتجون على سوء العذاب الذي يُسَامونه قال لهم فرعون: «متكاسلون أنتم، لذلك تقولون نذهب ونذبح للرب». وعندما خرج رؤساء بني إسرائيل من أمام الفرعون التقوا بموسى وهارون، ووجَّهوا لهما اللوم لأنهما تسبّبا في الضيق الزائد الذي حلَّ بهم، وقالوا: «أعطيتما فرعون سيفاً ليقتلنا». فتضايق موسى واحتج على الله لأنه أرسله لهذا الشعب، فبدل أن يأذن فرعون للشعب بالذهاب، أثقل عليهم الأحمال (خروج 5).

وهذا ما يحدث كثيراً لنا عندما نريد أن نؤدي لله خدمة نساعد بها الآخرين، فنكتشف أننا لم نستطع أن نساعدهم، بل أضفنا إلى أعبائهم عبئاً جديداً. ولكننا عندما نصرخ إلى الله نطمئن فيريح قلوبنا. فقد قال الله لموسى مشجعاً: «ٱلآنَ تَنْظُرُ مَا أَنَا أَفْعَلُ بِفِرْعَوْنَ. فَإِنَّهُ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ يُطْلِقُهُمْ وَبِيَدٍ قَوِيَّةٍ يَطْرُدُهُمْ مِنْ أَرْضِهِ». ثُمَّ قَالَ ٱللّٰهُ لِمُوسَى: «أَنَا ٱلرَّبُّ. وَأَنَا ظَهَرْتُ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بِأَنِّي ٱلإِلٰهُ ٱلْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَأَمَّا بِٱسْمِي «يَهْوَهْ» فَلَمْ أُعْرَفْ عِنْدَهُمْ. وَأَيْضاً أَقَمْتُ مَعَهُمْ عَهْدِي: أَنْ أُعْطِيَهُمْ أَرْضَ كَنْعَانَ أَرْضَ غُرْبَتِهِمِ ٱلَّتِي تَغَرَّبُوا فِيهَا. وَأَنَا أَيْضاً قَدْ سَمِعْتُ أَنِينَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ٱلَّذِينَ يَسْتَعْبِدُهُمُ ٱلْمِصْرِيُّونَ، وَتَذَكَّرْتُ عَهْدِي. لِذٰلِكَ قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَا ٱلرَّبُّ. وَأَنَا أُخْرِجُكُمْ مِنْ تَحْتِ أَثْقَالِ ٱلْمِصْرِيِّينَ وَأُنْقِذُكُمْ مِنْ عُبُودِيَّتِهِمْ وَأُخَلِّصُكُمْ بِذِرَاعٍ مَمْدُودَةٍ وَبِأَحْكَامٍ عَظِيمَةٍ، وَأَتَّخِذُكُمْ لِي شَعْباً وَأَكُونُ لَكُمْ إِلٰهاً. فَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُكُمُ» (خروج 6: 1 - 7).

لاحظ كم مرة كرر الله قوله: «أنا الرب». إنه يريد أن يلفت أنظارنا إليه هو، لا إلى الظروف. فإذا حدث أنك وجدت وكأن مواعيد الله لا تتحقق، فأرجوك أن ترفع عينيك إلى الله مباشرة، لأنه لا بد أن يصدق وعده ويحقق كلمته.

ولقد أطاع موسى الرب وحمل هذه الرسالة إلى الشعب. وحين رفضوا أن يصغوا إليه أمر الرب موسى أن يَمْثُل أمام فرعون مرة ثانية، فأبى موسى أن يفعل ذلك، وقال إن الفرعون لن يصغي إليه، واحتج بأن شفتيه عاجزتان عن الكلام (خروج 6: 9-12). غير أن الرب أصر على ذهاب موسى ليمثل أمام فرعون ومعه أخاه هارون. وقدم الله تشجيعاً عجيباً لموسى. قال له: «أَنَا جَعَلْتُكَ إِلٰهاً لِفِرْعَوْنَ. وَهَارُونُ أَخُوكَ يَكُونُ نَبِيَّكَ» (خروج 7: 1). في هذه الكلمات يقول الله لموسى: إنني لم أوجّه دعوتي إليك لتتكلم، بل لتعمل، فتكون بمنزلة إلهٍ لفرعون، في القوة والمعجزات، فلا يستطيع أن يقاومك. وهارون يصير نبياً لك، بمعنى أنه يخاطب فرعون لأنه فصيح، فهارون نبيُّك بمعنى أنه يُبلِغُ كلامك لفرعون ويوضّح له قصدك.

نعم، سيكون موسى سيداً لفرعون. العبد يصبح سيد الملك! لكن هذه هي قوة الله أن يجعل موسى وكيلاً في الأرض. إنه كليمه، يحمل قوله ويوصل رسالته.

أيها القارئ، أرجوك أن تدرك قيمتك في نظر الله. إن كنت تحبه، أدعوك أن تطيعه في كل مرة يصدر إليك أمراً لكي تؤدي خدمة له. وسيؤيدك الله بكل قوة من عنده، لأنك تتحدث باسمه. سلِّم قلبك ولسانك وجسدك للرب، لتكون وكيلاً من الله لتأدية رسالته والقيام بخدمته في العالم.

عشر ضربات ضد مصر:

عندما وجّه الله الدعوة لموسى لينقذ بني إسرائيل من سوء العذاب، أعطاه معجزات تمكِّنه أن يؤدي الخدمة التي كلفه بها. ولا يمكن أن يكلفنا الله بأن نؤدي له خدمة إلا بعد أن يؤهلنا لأدائها. أعطى الله موسى ثلاث معجزات ليثبت بها أن إرساليته من عند الله. فإذا طرح العصا أمام فرعون تتحول إلى ثعبان. وإذا وضع يده في عبه فإنها تصير برصاء، ثم يعيدها إلى عبه ويخرجها سليمة. ثم أنه يسكب من ماء نهر النيل على الأرض فيصير الماء دماً. ومع أن سحرة فرعون استطاعوا أن يجعلوا من عصيهم ثعابين، إلا أن الله دوماً سيد كل موقف، فقد ابتلعت عصا موسى عصي السحرة، فتقسى قلب فرعون، ولم يصدّق أن الله قد أرسل موسى وهارون. فكان أن أيَّد الله كليمه موسى بعشر معجزات أجراها في مصر. وكانت تلك المعجزات العشر، موجَّهة ضد آلهة فرعون. فكانت الضربات العشر مواجهة بين الإله الحقيقي، خالق السماوات والأرض، وبين نهر النيل والعجل أبيس وغيرهما من معبودات القدماء. لقد أراد الله أن يُظهر لفرعون بتلك الضربات أنه هو الإله الحقيقي ليُلفت نظره إليه. كانت الضربة الأولى تحويل ماء النهر إلى دم، فلم يجد المصريون ماء ليشربوا. وكان أنه حين مدَّ موسى عصاه إلى النيل وسواقي مصر تحولت جميعها إلى دم، بما في ذلك المياه التي اختزنوها في الجرار. واستمر الحال هكذا مدة سبعة أيام. على أن سحرة فرعون استطاعوا أن يفعلوا الشيء نفسه، فتقسى قلب فرعون ورفض أن يطلق الشعب. واضطر المصريون أن يحفروا حول النهر ليجدوا ماء ليشربوا، لأنهم لم يستطيعوا أن يشربوا من ماء النيل (خروج 7: 19 - 24).

ثم أمر الله موسى أن يذهب إلى فرعون من جديد ليضرب البلاد بالضفادع، فقال لفرعون إن النيل سيفيض بالضفادع حتى أنها تدخل قصر فرعون نفسه، إلى فراشه وعلى سريره. وفعل سحرة مصر الشيء نفسه. ولكن فرعون طلب من موسى وهارون أن يصليا ليرفع الله الضفادع عنه، ووعدهما بأنه إذا استجاب الله لهما فإنه سيخرج الشعب ليذبحوا للرب. وصلى موسى وهارون، وارتفعت الضفادع، ولكن فرعون لم يحقق وعده (خروج 8: 1 - 15).

ثم ضرب الله أرض مصر بالبعوض. مدَّ هارون عصاه وضرب تراب الأرض، فخرج البعوض على الناس والبهائم، وقال السحرة لفرعون: «هٰذَا إِصْبِعُ ٱللّٰهِ» (خروج 8: 16 - 19).

وبدأت الضربات تتوالى على أرض مصر، ضربة بعد ضربة. فجاءت الضربة الرابعة وهي ضربة الذباب، فامتلأت بيوت المصريين منه. وميَّز الله مرة أخرى بين أرض جاسان حيث يسكن بنو إسرائيل وبين بقية البلاد. وقال الله لفرعون: «لكي تعلم أني أنا الرب في الأرض». وبعد ضربة الذباب قال فرعون لموسى وهارون: «اذهبوا اذبحوا لإلهكم في هذه الأرض». فقال موسى: «لا يصلح أن نفعل هكذا. علينا أن نسافر للصحراء لنصلي». فقال فرعون: «أنا أطلقكم لكي تذبحوا للرب إلهكم في البرية، لكن لا تذهبوا بعيداً. صليا لأجلي». ورفع موسى وهارون صلاتهما إلى الله، فارتفع الذباب عن البلاد، ولكن فرعون لم يحقق وعده (خروج 8: 21-32)، فأنزل الله ضربة خامسة، بأن ضرب بالوبأ مواشي فرعون. ولم يصب الوبأ مواشي بني إسرائيل. فماتت جميع مواشي المصريين، أما مواشي بني إسرائيل فلم يمت منها واحد (خروج 9: 6 و7).

ولكن فرعون لم يرعو، فأنزل الله به ضربة سادسة، هي ضربة الدمامل والبثور التي ظهرت على كل أرض مصر. ولم يستطع سحرة فرعون أن يقفوا أمام موسى من أجل الدمامل التي أصابتهم، لأن الدمامل كانت في السحرة كما كانت في كل المصريين. ولكن فرعون لم يسمع (خروج 9: 10-12).

ثم جاءت الضربة السابعة، ضربة البَرَد العظيم، الذي لم يكن مثله في مصر منذ يوم تأسيسها، فكان بَرَد متواصل أهلك كل ما في الحقل من ناس وبهائم، ودمر عشب الحقل وكسر جميع شجر الحقل، إلا أن أرض جاسان حيث كان بنو إسرائيل لم يكن فيها بَرَد. وطلب فرعون من موسى وهارون أن يتوسَّطا له لدى الرب. وفعل موسى هكذا (خروج 9: 22-27 و33).

وعندما ارتفع البَرَد والرعود عاد فرعون يتقسى، فلم يطلق بني إسرائيل (خروج 9: 34 و35)، فجاءت الضربة الثامنة، وهي ضربة الجراد، تلتها ضربة تاسعة، هي ضربة الظلام (خروج 10: 14 و15 و21-23).

الضربة الكبرى، موت الأبكار:

وأخيراً جاءت الضربة الكبرى وهي العاشرة، عندما أهلك ملاك الرب الابن البكر في كل بيت من بيوت المصريين. وعندما حدث هذا، أمر فرعون بني إسرائيل أن يخرجوا من مصر - فطردهم واستعجلهم للسفر (خروج 11: 1 و4-7).

عندما حلت الضربات بمصر استطاع سحرة فرعون أن يقلدوا اثنتين منها، ولكنهم قالوا عن الضربة الثالثة وما بعدها إنها إصبع الله. وفي الضربة السادسة (ضربة الدمامل) لم يستطيعوا أن يقفوا أمام موسى، لأن الدمامل ملأت أجسادهم. وأخيراً جاءت الضربة العاشرة القاضية، التي فيها مات كل أبكار المصريين. وأخيراً قَبِل فرعون أن يطلق سراح الشعب، بل إنه أمرهم أن يخرجوا بسرعة من البلاد. لا شك أن تلك الضربات العشر، استغرقت أشهراً طويلة، إلى أن جاءت الذروة في إهلاك الأبكار. وانطلقت صرخات البكاء في كل بيت مصري، حتى في بيت فرعون نفسه.

تقول لنا التوراة إنه بالرغم من موت الأبكار في كل بيوت المصريين، إلا أن أبكار بني إسرائيل عاشوا، بفضل طاعتهم لأمر وجَّهه الله إليهم. قال الله لموسى وهارون: «كَلِّمَا كُلَّ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ قَائِلَيْنِ، فِي ٱلْعَاشِرِ مِنْ هٰذَا ٱلشَّهْرِ يَأْخُذُونَ لَهُمْ كُلُّ وَاحِدٍ شَاةً بِحَسَبِ بُيُوتِ ٱلآبَاءِ. شَاةً لِلْبَيْتِ. وَإِنْ كَانَ ٱلْبَيْتُ صَغِيراً عَنْ أَنْ يَكُونَ كُفْواً لِشَاةٍ، يَأْخُذُ هُوَ وَجَارُهُ ٱلْقَرِيبُ مِنْ بَيْتِهِ بِحَسَبِ عَدَدِ ٱلنُّفُوسِ. كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حَسَبِ أَكْلِهِ تَحْسِبُونَ لِلشَّاةِ. تَكُونُ لَكُمْ شَاةً صَحِيحَةً ذَكَراً ٱبْنَ سَنَةٍ، تَأْخُذُونَهُ مِنَ ٱلْخِرْفَانِ أَوْ مِنَ ٱلْمَوَاعِزِ. وَيَكُونُ عِنْدَكُمْ تَحْتَ ٱلْحِفْظِ إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ هٰذَا ٱلشَّهْرِ. ثُمَّ يَذْبَحُهُ كُلُّ جُمْهُورِ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْعَشِيَّةِ. وَيَأْخُذُونَ مِنَ ٱلدَّمِ وَيَجْعَلُونَهُ عَلَى ٱلْقَائِمَتَيْنِ وَٱلْعَتَبَةِ ٱلْعُلْيَا فِي ٱلْبُيُوتِ ٱلَّتِي يَأْكُلُونَهُ فِيهَا. وَيَأْكُلُونَ ٱللَّحْمَ تِلْكَ ٱللَّيْلَةَ مَشْوِيّاً بِٱلنَّارِ مَعَ فَطِيرٍ. عَلَى أَعْشَابٍ مُرَّةٍ يَأْكُلُونَهُ. لا تَأْكُلُوا مِنْهُ نَيْئاً أَوْ طَبِيخاً مَطْبُوخاً بِٱلْمَاءِ، بَلْ مَشْوِيّاً بِٱلنَّارِ. رَأْسَهُ مَعَ أَكَارِعِهِ وَجَوْفِهِ. وَلا تُبْقُوا مِنْهُ إِلَى ٱلصَّبَاحِ. وَٱلْبَاقِي مِنْهُ إِلَى ٱلصَّبَاحِ تُحْرِقُونَهُ بِٱلنَّارِ. وَهٰكَذَا تَأْكُلُونَهُ: أَحْقَاؤُكُمْ مَشْدُودَةٌ، وَأَحْذِيَتُكُمْ فِي أَرْجُلِكُمْ، وَعِصِيُّكُمْ فِي أَيْدِيكُمْ. وَتَأْكُلُونَهُ بِعَجَلَةٍ. هُوَ فِصْحٌ لِلرَّبِّ. (وكلمة فصح معناها «عبور») ثم قال الله: فَإِنِّي أَجْتَازُ فِي أَرْضِ مِصْرَ هٰذِهِ ٱللَّيْلَةَ، وَأَضْرِبُ كُلَّ بِكْرٍ فِي أَرْضِ مِصْرَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلْبَهَائِمِ. وَأَصْنَعُ أَحْكَاماً بِكُلِّ آلِهَةِ ٱلْمِصْرِيِّينَ. أَنَا ٱلرَّبُّ. وَيَكُونُ لَكُمُ ٱلدَّمُ عَلامَةً عَلَى ٱلْبُيُوتِ ٱلَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا، فَأَرَى ٱلدَّمَ وَأَعْبُرُ عَنْكُمْ، فَلا يَكُونُ عَلَيْكُمْ ضَرْبَةٌ لِلْهَلاكِ حِينَ أَضْرِبُ أَرْضَ مِصْرَ. وَيَكُونُ لَكُمْ هٰذَا ٱلْيَوْمُ تَذْكَاراً فَتُعَيِّدُونَهُ عِيداً لِلرَّبِّ. فِي أَجْيَالِكُمْ تُعَيِّدُونَهُ فَرِيضَةً أَبَدِيَّةً» (خروج 12: 3 - 14).

تعلِّمنا هذه القصة درساً كبيراً في أن الذبح العظيم واجب لفدائنا. لقد افتُدي ابن إبراهيم بذبح عظيم، وافتُدي أبكار بني إسرائيل بالدم الذي وُضع على العتبة العليا والقائمتين. ويقول لنا الإنجيل المقدس إنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة، ودم يسوع المسيح يطهِّرنا من كل خطية (عبرانيين 9: 22، 1يوحنا 1: 7).

أيها القارئ الكريم، هذه هي الطريقة التي اختارها الله منذ أول الزمان لفدائنا من خطيتنا، ولتدبير أمر غفران خطايانا. عندما نقبل طريق الله - طريق الفداء - نجد خلاص نفوسنا. أدعوك أن تستمع إلى هذه الكلمات التي قالها الله على فم موسى: «يَكُونُ لَكُمُ ٱلدَّمُ عَلامَةً عَلَى ٱلْبُيُوتِ ٱلَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا، فَأَرَى ٱلدَّمَ وَأَعْبُرُ عَنْكُمْ، فَلا يَكُونُ عَلَيْكُمْ ضَرْبَةٌ لِلْهَلاكِ»(خروج 12: 13). أدعوك أن تحتمي بكفارة المسيح لتجد خلاص نفسك فيها، فهذه هي الطريقة التي عيَّنها الله لك للخلاص.

الفصل الرابع: الخروج من مصر

عندما مات أبكار المصريين أمر فرعون بني إسرائيل أن يخرجوا من مصر فوراً، فخرجوا بسرعة. وما إن أشرقت أشعة نور الصباح حتى كان الرجال يسيرون في خمسة صفوف، تتبعهم زوجاتهم وأولادهم ومتاعهم ومواشيهم، وكان عدد الرجال ستمئة ألف، وهذا يعني أن عدد الخارجين كان نحو مليونين ونصف مليون شخصاً.

ولا شك أن موسى وهو يقود تلك الفرقة الكبيرة، كان يفتخر فخراً مقدساً، يمتزج بتواضع عميق، بأن الله شرَّفه أن يستخدمه كآلة بيده ليتمم خلاصاً عظيماً لشعبه.

بدأ بنو إسرائيل رحلتهم من سكوت، وهي تبعد نحو عشرين كيلو متراً من محل إقامتهم، وهناك استراحوا. ثم ابتدأوا من المحطة التالية وهي إيثام، على أطراف الصحراء، وليس بها أثر لزرع - مجرد رمال. ولكن التوراة تقول: «وَكَانَ ٱلرَّبُّ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ نَهَاراً فِي عَمُودِ سَحَابٍ لِيَهْدِيَهُمْ فِي ٱلطَّرِيقِ، وَلَيْلاً فِي عَمُودِ نَارٍ لِيُضِيءَ لَهُمْ - لِكَيْ يَمْشُوا نَهَاراً وَلَيْلاً. لَمْ يَبْرَحْ عَمُودُ ٱلسَّحَابِ نَهَاراً وَعَمُودُ ٱلنَّارِ لَيْلاً مِنْ أَمَامِ ٱلشَّعْبِ». نعم، كان هناك عمود يرشدهم، يظللهم في النهار، ويبعد عنهم الحيوانات المتوحشة في الليل، ويقودهم بالليل والنهار إلى الطريق السليم (خروج 13: 21 - 22).

أيها القارئ الكريم، إن كنت تطيع الله وتسير في طريقه، فإنه بالتأكيد يرشدك دائماً. إن عمود السحاب نهاراً وعمود النار ليلاً كان للإرشاد. والله دوماً يرشدنا. وهو اليوم يرشدنا بروحه القدوس في داخل قلوبنا، كما يرشدنا بالمثال الذي تركه السيد المسيح لنا. ويرشدنا بكلمات الإنجيل المقدس، وبأعمال عناية الله التي تعلّمنا ما يريده الله منا.

اسلك دوماً في إرشاد الله. اطلب دوماً هدايته. لا تتعجل متسرعاً، ولا تتصرف بحسب أوهامك ولا أفكارك الشخصية، لكن اطلب دوماً من الله أن يكشف لك ما يريدك أن تفعله. لا تتلكأ خلف إعلان الله في بلادة أو كسل، فإن الإنجيل المقدس يقول: «ٱلَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ ٱللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ» (رومية 8: 14).

أرسل الله عموداً من نار في الليل ليرشد بني إسرائيل وليضيء لهم. وهذا يعني أن الله يحمينا، فتحت ظل جناحي الله يختبئ المؤمن الذي يحب الله من شمس التجارب، كما يختبئ من شمس النجاح الذي قد يؤذيه ويضلّله ويبعده عن الله. يقول إمام الحكماء سليمان: «اِسْمُ ٱلرَّبِّ بُرْجٌ حَصِينٌ، يَرْكُضُ إِلَيْهِ ٱلصِّدِّيقُ وَيَتَمَنَّعُ» (أمثال 18: 10). ونحن ندعوك أن تجد حمايتك في الرب.

ثم أن عمود السحاب وعمود النار كانا نوراً لبني إسرائيل، هذا يعني أن الذين يتبعون الله لا يسيرون في ظلمة جهل ونجاسة وحزن. ما أجمل قول السيد المسيح: «أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلا يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاة» (يوحنا 8: 12).

تقول التوراة: «لَمْ يَبْرَحْ عَمُودُ ٱلسَّحَابِ نَهَاراً وَعَمُودُ ٱلنَّارِ لَيْلاً مِنْ أَمَامِ ٱلشَّعْبِ». هذا يعني أن الله يظلل أولاده دائماً، لا لأنهم صالحون، بل ليجعلهم صالحين.

أدعوك أن تختبر محبة الله العظيمة لك. كن من ضمن جماعته، من أفراد شعبه، واطلب منه أن يكون سيد حياتك، وعندئذٍ ستختبر تظليله الدائم لك وعنايته التي لا تنتهي بك.

فرعون وجنوده وراء بني إسرائيل:

ما إن سافر بنو إسرائيل حتى ندم فرعون، لأن أعمال البناء لديه ستتعطل بسبب هجرة الأيدي العاملة. كما أن كبرياء فرعون منعته من أن يسلم بخروج بني إسرائيل بمثل هذه السهولة. فقال فرعون في نفسه: «مَاذَا فَعَلْنَا حَتَّى أَطْلَقْنَا إِسْرَائِيلَ مِنْ خِدْمَتِنَا؟». وأسرع فرعون خلف بني إسرائيل بجيش مصر الجبار. وتقول التوراة إنه أخذ ستمائة مركبة منتخبة، وسائر مركبات مصر وجنوداً مركبية. فسعى المصريون وراء بني إسرائيل وأدركوهم. ولعله كان اليوم الخامس للخروج عندما رأى بنو إسرائيل الجيش المصري القوي قادماً من وراء الجبال نحوهم، منتظراً نور الصباح ليهجم عليهم. فصرخ بنو إسرائيل يقولون لموسى في يأس: «هَلْ لأَنَّهُ لَيْسَتْ قُبُورٌ فِي مِصْرَ أَخَذْتَنَا لِنَمُوتَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ؟ مَاذَا صَنَعْتَ بِنَا حَتَّى أَخْرَجْتَنَا مِنْ مِصْرَ؟ كان خيراً أن نموت هناك من أن نموت هنا. لماذا لم تتركنا وشأننا؟ أين هو إلهك؟». وهنا وقف موسى يخاطب الله، وفي ثقة كاملة يدعوه لينقذ شعبه وليخلصهم. واستجاب الله له، ومنحه الإرشاد في ما يجب أن يفعله (خروج 14: 5 - 14). وطاعة لهذا الإرشاد قال موسى للشعب: «لا تَخَافُوا. قِفُوا وَٱنْظُرُوا خَلاصَ ٱلرَّبِّ ٱلَّذِي يَصْنَعُهُ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ. فَإِنَّهُ كَمَا رَأَيْتُمُ ٱلْمِصْرِيِّينَ ٱلْيَوْمَ لا تَعُودُونَ تَرُونَهُمْ أَيْضاً إِلَى ٱلأَبَدِ. ٱلرَّبُّ يُقَاتِلُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ تَصْمُتُون».

يا لهذه الكلمات العظيمة من تعبير صادق من قلب مؤمن بالله، مدرك أنه لا بد يخلّص شعبه ولا يمكن أن يتركهم.. صرخ موسى إلى الله طالباً النجدة والإنقاذ، فقال الرب لموسى: «مَا لَكَ تَصْرُخُ إِلَيَّ؟ قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَرْحَلُوا. وَٱرْفَعْ أَنْتَ عَصَاكَ وَمُدَّ يَدَكَ عَلَى ٱلْبَحْرِ وَشُقَّهُ، فَيَدْخُلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ ٱلْبَحْرِ عَلَى ٱلْيَابِسَةِ. وَهَا أَنَا أُشَدِّدُ قُلُوبَ ٱلْمِصْرِيِّينَ حَتَّى يَدْخُلُوا وَرَاءَهُمْ، فَأَتَمَجَّدُ بِفِرْعَوْنَ وَكُلِّ جَيْشِهِ، بِمَرْكَبَاتِهِ وَفُرْسَانِهِ. فَيَعْرِفُ ٱلْمِصْرِيُّونَ أَنِّي أَنَا ٱلرَّبُّ حِينَ أَتَمَجَّدُ بِفِرْعَوْنَ وَمَرْكَبَاتِهِ وَفُرْسَانِهِ»(خروج 14: 15 - 18).

عصا موسى:

لقد سبق أن لعبت عصا موسى أدواراً عظيمة في مناسبات كثيرة. نبتت تلك العصا في غابة في شبه جزيرة سيناء، وهي لا تدري ما سيؤول إليه مصيرها، حتى قطعها موسى الذي كان يرعى أغنامه ليرعاها بها، وليطرد بها الوحوش المفترسة. وكانت العصا في يد موسى عندما التقى الله به وأمره أن يطرحها على الأرض لتتحول إلى حية. واستخدم الله عصا موسى في كثير من الضربات التي حلت بأرض مصر، فهي التي ضربت النهر، فتحوَّلت المياه دماً. وهي التي ارتفعت إلى السماء لتدعو العاصفة، وضرب موسى بها تراب الأرض فصار بعوضاً يلدغ المصريين، وهي التي استخدمها فيما بعد لكسب الحرب ضد عماليق، وهي التي استُخدمت لتفجّر ينابيع من الصخر. ولذلك كانوا يسمّونها «عَصَا ٱللّٰهِ» (خروج 17: 9). على أن أعظم المعجزات التي قامت بها تلك العصا كانت شق البحر الأحمر إلى نصفين كما أمر الله. وكما كانت العصا في يد موسى، كان موسى في يد الله.

وهكذا أيها القارئ الكريم، يجب أن نسلم نحن نفوسنا لله دوماً بثقة كاملة ليستخدمنا في خدمته. دع الرب يمسك بيدك ليجعل منك شيئاً نافعاً. اسمح لله أن يصوغك ويصنع منك الشخص الذي يريد أن تكونه. سلِّم للرب قلبك ونفسك. سلم للرب طريقك واتكل عليه وهو يُجري (مزمور 37: 5).

شق البحر الأحمر:

صرخ موسى إلى اللهِ لينقذ بني إسرائيل من فرعون القادم وراءهم ليعيدهم إلى عبوديته، وكان البحر أمامهم. واستجاب الله لدعاء موسى، فنقل ملاكه الذي كان يسير أمام بني إسرائيل ليسير وراءهم، وانتقل عمود السحاب من أمام بني إسرائيل ووقف وراءهم. وهكذا دخل عمود السحاب بين جنود فرعون وبين بني إسرائيل، وصار السحاب والظلام في الجانب الذي يقف فيه المصريون، بينما أضاء الليل في الجانب الذي كان فيه بنو إسرائيل، فلم يقترب جنود فرعون من بني إسرائيل الليل كله. كان عمود السحاب لجيش المصريين قاتماً يعوقهم عن التقدم، ويحجب تحركات الجماعة الهاربة، ولكنه كان لبني إسرائيل منيراً يعكس لمعاناً على الرمال، وعلى مياه البحر، ليبيّن لهم بدقة لا تخطئ الطريق الذي يجب أن يسلكوا فيه (خروج 14: 19، 20). أيها القارئ الكريم، عندما تسلم نفسك بين يدي الله، تعطل الذين يريدون أن يوقعوا بك الأذى، وتنير لنفسك طريق الصلاح.

ومدَّ موسى يده على البحر كما أمره الله، فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل، فجعل البحر يابسة، وانشق الماء. فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة، والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم. وحالما أدرك المصريون أن بني إسرائيل هربوا تبعوهم وسط البحر. وكان في هذا التصرف كثير من الكبرياء والعناد.

وأمر الرب موسى أن يمدَّ يده على البحر ليرجع الماء على المصريين، فرجع البحر وأغرق مركباتهم وفرسانهم. نعم، مدَّ موسى يده على البحر فرجع البحر عند إقبال الصبح إلى حاله الدائمة، وغرق المصريون وسط البحر. أما بنو إسرائيل فمشوا على اليابسة في وسط البحر، والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم، فخلَّص الرب في ذلك اليوم بني إسرائيل من يد المصريين. ونظر بنو إسرائيل المصريين أمواتاً على شاطئ البحر (خروج 14: 21 - 31).

عندئذٍ بدأ موسى يرتل ترتيلة النجاة، قال: «أُرَنِّمُ لِلرَّبِّ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَظَّمَ. ٱلْفَرَسَ وَرَاكِبَهُ طَرَحَهُمَا فِي ٱلْبَحْرِ. ٱلرَّبُّ قُوَّتِي وَنَشِيدِي، وَقَدْ صَارَ خَلاصِي. هٰذَا إِلٰهِي فَأُمَجِّدُهُ، إِلٰهُ أَبِي فَأُرَفِّعُهُ... تُرْشِدُ بِرَأْفَتِكَ ٱلشَّعْبَ ٱلَّذِي فَدَيْتَهُ. تَهْدِيهِ بِقُوَّتِكَ إِلَى مَسْكَنِ قُدْسِكَ... ٱلرَّبُّ يَمْلِكُ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلأَبَدِ» (خروج 15: 1 - 18).

عندما تستودع أمرك بين يدي الله تكتشف أمانته، وأنه ينقذك ويمجدك، ويحوّل مخاوفك وانزعاجاتك إلى أوقات للتسبيح والترنم، فما أجمل ما قاله المرنم في مزاميره: «عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ يَبِيتُ ٱلْبُكَاءُ، وَفِي ٱلصَّبَاحِ تَرَنُّمٌ»(مزمور 30: 5).

الفصل الخامس: الله يعتني بشعبه في سيناء

كان موسى يعرف برية سيناء معرفة جيدة. كان يعرف طبيعتها القاحلة الجافة، فكيف يمكن أن يسافر هذا الشعب الكثير الذي يبلغ عدده نحو مليونين ونصف وسط هذه الصحراء؟ لا شك أن موسى كان يعلم أن الله هو الذي أمر بخروج شعبه، ولا بد أنه يقوت هذا العدد الكبير، ويعتني به بمعجزاته العظيمة. كان عمود السحاب نهاراً وعمود النار ليلاً يرافقان بني إسرائيل، وهذا يعني أن الله موجود وحَيّ، يعتني بالذين يضعون ثقتهم فيه.

وبعد أن عبر بنو إسرائيل البحر الأحمر، ساروا ثلاثة أيام في الصحراء، ولم يجدوا ماءً. لا شك أن اليوم الأول كان متعباً كئيباً، قابلتهم فيه العواصف الرملية، ولم يجدوا ظلاً ولا أشجاراً ولا ماءً. ثم أن الماء الذي حملوه في قِرَبهم لا بد أنه صار ساخناً، أو كاد ينتهي.

وفي اليوم الثاني صارت المياه التي حملوها شحيحة، إن لم تكن قد فرغت تماماً. وما أن حل اليوم الثالث حتى شجّع موسى الشعب على الصبر والمثابرة، عالماً أن هناك بعض برك على مسافة قريبة، لأن أشجار نخيل وخضرة تظهر على بُعد في الأفق. لكن ما إن وصل الشعب إليها حتى اكتشفوا أن ذلك الماء مر، فدعوا اسم المكان «مارة». وأخذوا يتذمرون على موسى قائلين: «ماذا نشرب؟». لقد كانت خيبة أمل شديدة للشعب، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا ضعاف الإيمان، فما أسرع ما نسوا أعمال الله معهم، وتحولوا إلى عصاة متمردين بعد أن كانوا مترنمين هاتفين (خروج 15: 22 - 26).

ألا نعرف نحن كلنا هذا الاختبار نفسه؟ إننا نفرح بخلاص الله. لكن ما إن يسمح الرب لنا أن نمر في ظروف صعبة حتى نصرخ متذمرين. وبعد أن تذمر الشعب على موسى صرخ موسى إلى الله.

ألا ترى أن التجاء موسى إلى الله كان أفضل من أن يوبخ الشعب، أو أن يتنحَّى عن الخدمة التي كلفه الله بها، أو أن يجلس في يأس وفشل حزين القلب، لأن هؤلاء الناس الذين رأوا عناية الله قد أسرعوا ونسوا هذا كله؟ وهنا أرشد الله موسى إلى شجرة أخذها وطرحها في الماء، فصار الماء عذباً.

الشجرة التي تُصلح:

أؤكد لك أن بجوار كل مكان به ماء مُرّ تنمو شجرة تصلح مراره. إذا ألقيتها في الماء يصير حلو المذاق. بجوار السم يوجد الدواء، وبجوار العدوى يوجد الشفاء، وبجوار الألم يوجد العلاج. عندما نصرخ إلى الله في يأس وألم نسمعه يقول لنا: «تكفيك نعمتي» (2كورنثوس 12: 9). إن هناك نعمة كافية عند الرب لتسدد كل إعوازنا. لا داعي لليأس، فإن عناية الله عظيمة وحقيقية. لا تحزن إن قدمت لك الحياة كأساً مراً، فإن الله موجود.

إلى ماذا ترمز تلك الشجرة التي ألقاها موسى في الماء المر فصار عذباً؟ الإجابة: إنها تشير إلى صليب السيد المسيح، الذي تم عليه فداؤنا. إنّه هو الذي يحوّل هلاكنا إلى نجاة، لأنه حمل خطايانا على الصليب. لنسمع ما قاله نبي الله إشعياء قبل صليب المسيح بسبعمئة سنة، وهو يتنبأ عنه، قال: «هُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلامِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إشعياء 53: 5، 6).

لقد تعلم موسى دروساً كثيرة عن محبة الله وقدرته يوماً بعد يوم، ولا عجب أن قال المرنم عنه: «عَرَّفَ مُوسَى طُرُقَهُ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أَفْعَالَهُ» (مزمور 103: 7). وأنت في كل يوم تتعامل مع الله تدرك محبته أكثر. فلنستمعْ إلى نصيحة التوراة المقدسة: «فِي كُلِّ طُرُقِكَ ٱعْرِفْهُ وَهُوَ يُقَوِّمُ سُبُلَكَ» (أمثال 3: 6).

وبعد أن رحل بنو إسرائيل من مارة وصلوا إلى مكان اسمه إيليم، حيث وجدوا اثنتي عشرة عين ماء وسبعين نخلة. فنزلوا هناك عند الماء (خروج 15: 27).

بعد كل شتاء طويل لا بد أن تظهر زهور الربيع. إن كنت اليوم في مارة، أؤكد لك أن خيراً ينتظرك على مقربة منك. فقُل لنفسك: «يَا نَفْسِي، تَرَجَّيِ ٱللّٰهَ لأَنِّي بَعْدُ أَحْمَدُهُ، خَلاصَ وَجْهِي وَإِلٰهِي» (مزمور 42: 11). إن وسيلة النجاة موجودة أمامك، وإن كنت لا تراها. لا تيأس أبداً من رحمة الله.

التذمر خطية كبيرة:

بعد مارة جاء بنو إسرائيل إلى مكان اسمه إيليم، وهناك وجدوا اثنتي عشرة عين ماء وسبعين نخلة، فنزلوا هناك وأقاموا عند الماء. لكن لا بد أن يرتحلوا، فساروا في الصحراء إلى برية سين. وهنا بدأ الشعب يتذمرون على موسى وهارون وقالوا: «لَيْتَنَا مُتْنَا بِيَدِ ٱلرَّبِّ فِي أَرْضِ مِصْرَ، إِذْ كُنَّا جَالِسِينَ عِنْدَ قُدُورِ ٱللَّحْمِ نَأْكُلُ خُبْزاً لِلشَّبَعِ! فَإِنَّكُمَا أَخْرَجْتُمَانَا إِلَى هٰذَا ٱلْقَفْرِ لِتُمِيتَا كُلَّ هٰذَا ٱلْجُمْهُورِ بِٱلْجُوعِ»(خروج 16: 1 -3).

لا يجب أن نلوم بني إسرائيل، فإننا نحن الذين نتمتع بالكثير من خيرات الله وبركاته نتصرف التصرف نفسه، فنتذمر على الله. بل إننا كثيراً ما نجد الناس الذين نخدمهم يتذمرون علينا باستمرار. إن كنت أباً فإنك تعلم أن أولادك يتذمرون عليك، مع أنك تحبهم وتعمل كل ما تستطيع لتوفر لهم أساليب الراحة. إن سلسلة التذمر لا تنقطع، فالشفاه التي تشترك في ترانيم التسابيح تشكو في بعض الأحيان. كم مرة تختلط تذمراتنا بالطعام الذي نأكله لأننا لا نرضى عليه فنتذمر على نوعه أو على طريقة تجهيزه، وحتى على الذي جهّزه! وكثيراً ما نتذمر على الطقس لأنه لا يتناسب مع الخطط التي رسمناها لأنفسنا. وما أكثر ما نتذمر بسبب أعمالنا اليومية لأنها متعبة أو مملة. إنّ التذمر خطية شديدة نقع فيها كلنا، وعلينا أن نتعلم الشكر لله والتسبيح له دائماً.

تذمر بنو إسرائيل على موسى لأنه أخرجهم من أرض مصر حيث كانوا يأكلون لحماً وخبزاً. ونحن نرى أن المتذمرين كثيرو النسيان. فالإنسان الذي يتذمر على الله هو الذي نسي بركات الله، لذلك يقول المرنم: «بَارِكِي يَا نَفْسِي ٱلرَّبَّ، وَلا تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ»(مزمور 103: 2). لم يكن قد مضى أكثر من شهر واحد على خروج بني إسرائيل من مصر حتى تذمروا على موسى. لقد نسوا السياط وسوء العذاب الذي كانوا يلاقونه في مصر، وذكروا فقط الطعام الذي كانوا يأكلونه هناك.

عندما نتذمر على الله وعلى الآخرين فإن هذا يعني أننا كثيرو النسيان، نسينا البركة التي قدمها الله لنا والخدمة التي قدمها الآخرون إلينا. ولم نعد نذكر إلا الأشياء السيئة. يجب أن نتخلص من خطية التذمر، ولنتذكر قول المرنم: «أَذْكُرُ أَعْمَالَ ٱلرَّبِّ إِذْ أَتَذَكَّرُ عَجَائِبَكَ مُنْذُ ٱلْقِدَمِ»(مزمور 77: 11).

والذين يتذمرون قصيرو النظر. إنهم لا يستطيعون أن يروا عناية الله من خلف الظروف الصعبة التي يمرون بها. إن كل ما يركزون عليه هو الضيق الذي يواجهونه للتوِّ واللحظة، لكنهم لا يدركون أن محبة اللّه خلف الغيوم وخلف المتاعب، وأن يد اللّه تمتد إلينا حتى لو كنا لا نراها، بسبب الدموع التي تملأ عيوننا. لا بد أن اللّه من وراء كل شيء يأمر به أو يسمح به. فلا يجب أن نتذمر، لأن تذمرنا معناه الاحتجاج على اللّه الذي يعرف كل أمورنا. إن التذمر والشكوى موجَّهان ضد اللّه وضد إرادته وتدبيره، وعلاج ذلك أن نقبل كل شيء من يده، ونرضى بما يرتبه لنا بحكمته، مؤمنين بأنه يستطيع أن يستخرج منه أفضل النتائج.

والمتذمرون قليلو الإِيمان. لقد واجه بنو إسرائيل في الصحراء مشكلة نقص الخبز ونقص اللحم. وبدأوا يحسون أن ما جاءوا به من طعام سوف لا يكفيهم إلا لفترة وجيزة. فجاءوا لموسى متذمرين. لقد نسوا أن اللّه في محبته سوف يدبّر لهم كل شيء. إن المتذمرين قليلو الإِيمان، لا يدركون أن يد اللّه سوف تمتد بسرعة لتنقذهم من الضيق الذي هم فيه، فتخور عزائمهم إلى درجة اليأس، بسبب ما يخافون منه، ويتذمرون لئلا يهلكوا، مع أنهم لو تأملوا لحظة واحدة لرأوا أن اللّه يعتني بهم. لماذا تتذمر؟ لأنك تشك. ولماذا تشك؟ لأنك تتطلع إلى المستقبل بعيداً عن اللّه.

المن والسلوى:

عندما سمع اللّه تذمر بني إسرائيل قال لموسى: «هَا أَنَا أُمْطِرُ لَكُمْ خُبْزاً مِنَ ٱلسَّمَاءِ! فَيَخْرُجُ ٱلشَّعْبُ وَيَلْتَقِطُونَ حَاجَةَ ٱلْيَوْمِ بِيَوْمِهَا. لأَمْتَحِنَهُمْ، أَيَسْلُكُونَ فِي نَامُوسِي أَمْ لا؟»(خروج 16: 4).

ما أروع هذه الكلمات: «ها أنا أمطر لكم خبزاً من السماء». وأخبر موسى وهارون الشعب أن الرب سيمجِّد ذاته في المساء والصباح. لم يكن تذمر الشعب تذمراً على موسى وهارون، إنما كان على الرب. ثم قال موسى إن الرب سيعطيهم لحماً في المساء وخبزاً في الصباح. وطلب موسى إلى هارون أن يجمع كل جمهور الشعب، ليخبرهم بأمر هذا الطعام.

وبغتةً رأى الشعب أن مجد الرب قد ظهر، ومن المجد قال الرب إنه سمع تذمر الشعب، لذلك سيعطيهم لحماً في المساء وخبزاً في الصباح. في ذلك المساء نفسه توافدت أسراب طيور السلوى وغطت المعسكر كله. وفي الصباح بعد أن ارتفع سقيط الندى شاهد الشعب شيئاً دقيقاً كقشور الجليد فقالوا: منا. وهي كلمة عبرانية معناها: «من هو؟» فأخبرهم موسى أن هذا هو الخبز الذي وعدهم به الرب. وطلب منهم أن يلتقطوا حوالي كيلة لكل عائلة، ولا يبقوا شيئاً منه إلى اليوم التالي، لأن اللّه سيعطيهم في اليوم التالي أكثر منه. وفي كل صباح سوف يعطيهم هذا المن.

لم يؤمن بعض بني إسرائيل بأن الرب سيظل يزوِّدهم بالمن يوماً بعد يوم، فحاولوا أن يخزنوا منه شيئاً لليوم التالي، فربما لا يعطيهم اللّه في اليوم التالي، فكان أن ابتلاه الفساد في الليل. وغضب موسى على هؤلاء الذين لم يؤمنوا غضباً شديداً (خروج 16: 19، 20).

وجمع بنو إسرائيل في اليوم السادس من المن ضعف ما اعتادوا أن يجمعوه في كل يوم، لأن يوم السبت كان يوم راحة لا ينزل فيه المن، ولا يجمع الشعب فيه شيئاً. وطلب موسى من بني إسرائيل أن يخبزوا المن أو يطبخوه فيظل صالحاً ليوم السبت. وكان هدف الرب أن يعوِّد شعبه على تقديس يوم الرب.

وبالرغم من ذلك فإن بعض أفراد الشعب، بسبب عدم إيمانهم، خرجوا يوم السبت ليلتقطوا المن، فلم يجدوا شيئاً. ورأى الرب ذلك فأمرهم أن يستريحوا في يوم السبت. وكان المن يشبه بذر الكزبرة، لونه أبيض، وطعمه كرقاقٍ بعسل (خروج 16: 31).

ما أجمل أن نرى محبة اللّه تزوّد البشر بما يحتاجون إليه. ولكننا في الوقت الذي نرى فيه محبة اللّه التي لا تتغير، نرى عصيان الشعب المستمر. إن إحسان اللّه لنا أعظم بكثير من ذلك المن الذي أعطاه لشعبه في البرية قديماً، فيجب أن نحب اللّه وأن نطيعه أكثر، وأن نُخْلِص له وأن نبتعد عن التذمر.

ثم أمر الرب موسى أن يأخذ إناءً من ذهب يملأه بالمن، لتذكر أجيالهم القادمة كيف أطعم اللّه آباءهم في الصحراء. ولقد وُضع هذا الإِناء فيما بعد في تابوت العهد، مع لوحي الحجر اللذين كتب اللّه عليهما شريعته، كما أودعوا في ذلك التابوت عصا هارون التي أفرخت. ولقد دُعي المن في سفر المزامير بأنه «خبز الملائكة» بمعنى أنه طعام عظيم ملائكي. ويشتمل هذا المزمور الثامن والسبعون على موجز لمعاملات الرب مع شعبه: «قُدَّامَ آبَائِهِمْ صَنَعَ أُعْجُوبَةً فِي أَرْضِ مِصْرَ بِلادِ صُوعَنَ. شَقَّ ٱلْبَحْرَ فَعَبَّرَهُمْ، وَنَصَبَ ٱلْمِيَاهَ كَنَدٍّ. وَهَدَاهُمْ بِٱلسَّحَابِ نَهَاراً، وَٱللَّيْلَ كُلَّهُ بِنُورِ نَارٍ. شَقَّ صُخُوراً فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَسَقَاهُمْ، كَأَنَّهُ مِنْ لُجَجٍ عَظِيمَةٍ... َأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ مَنّاً لِلأَكْلِ، وَبُرَّ ٱلسَّمَاءِ أَعْطَاهُمْ. أَكَلَ ٱلإِنْسَانُ خُبْزَ ٱلْمَلائِكَةِ. أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ زَاداً لِلشِّبَعِ»(مزمور 78: 12 - 25).

في هذه القصةِ الرائعة التي رأينا فيها عناية اللّه بشعبه، إذ أرسل إليهم المن في الصباح والسلوى في المساء، نرى أن اللّه هو مصدر سد إعوازنا كلها. تطلع إلى فوق، إلى يد الآب السماوي التي تعطيك بغنى وسخاء.

ونتعلم من هذه القصة أننا يجب أن نتغذى بخبز السماء كل يوم. في الصباح الباكر عليك أن تبدأ يومك بالصلاة والتأمل في كلمة اللّه. لا تترك فرصة الحديث المبكر مع اللّه في مطلع كل يوم. فكما كان بنو إسرائيل يلتقطون المن مبكرين كل صباح، فإذا حميت الشمس كان المن يذوب، عليك أن تتعلم أن تبدأ يومك في صحبة اللّه، تتحدث إليه ليشبع قلبك وليشجع نفسك.

إن التغذية الحقيقية للمؤمن هي بكلمة الرب، التي يقول عنها النبي إرميا: «وُجِدَ كَلامُكَ فَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ كَلامُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي»(إرميا 15: 16). إن كلمة اللّه هي الغذاء اليومي للمؤمنين، فإنه «لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱللّٰهِ» (متى 4: 4).

ولا يجب أن نختم حديثنا هذا دون أن نشير إلى ما قاله السيد المسيح عن المن. قال: «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ. آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا ٱلْمَنَّ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. هٰذَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلنَّازِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ ٱلإِنْسَانُ وَلا يَمُوتَ. أَنَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلْحَيُّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هٰذَا ٱلْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ. وَٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي ٱلَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 6: 47 - 51). ندعوك أن تتعرف على السيد المسيح، وأن ترتوي بماء نهر نعمته، وأن تشبع به هو.

الماء من الصخرة في رفيديم:

سافر بنو إسرائيل من برية سين، ونزلوا في مكان اسمه رفيديم. ولم يجد الشعب هناك ماء ليشربوا، فابتدأوا يتذمرون مرة أخرى على موسى وهارون وقالوا: «أَعْطُونَا مَاءً لِنَشْرَبَ!» فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: «لِمَاذَا تُخَاصِمُونَنِي؟ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَ ٱلرَّبَّ؟» وَعَطِشَ هُنَاكَ ٱلشَّعْبُ إِلَى ٱلْمَاءِ، وَتَذَمَّرَ ٱلشَّعْبُ عَلَى مُوسَى وَقَالُوا: «لِمَاذَا أَصْعَدْتَنَا مِنْ مِصْرَ لِتُمِيتَنَا وَأَوْلادَنَا وَمَوَاشِيَنَا بِٱلْعَطَشِ؟» فَصَرَخَ مُوسَى إِلَى ٱلرَّبِّ: «مَاذَا أَفْعَلُ بِهٰذَا ٱلشَّعْبِ؟ بَعْدَ قَلِيلٍ يَرْجُمُونَنِي!» فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِمُوسَى: «مُرَّ قُدَّامَ ٱلشَّعْبِ وَخُذْ مَعَكَ مِنْ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ. وَعَصَاكَ ٱلَّتِي ضَرَبْتَ بِهَا ٱلنَّهْرَ خُذْهَا فِي يَدِكَ وَٱذْهَبْ. هَا أَنَا أَقِفُ أَمَامَكَ هُنَاكَ عَلَى ٱلصَّخْرَةِ فِي حُورِيبَ، فَتَضْرِبُ ٱلصَّخْرَةَ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَاءٌ لِيَشْرَبَ ٱلشَّعْبُ». ففعل موسى هكذا أمام شيوخ بني إسرائيل. ضرب الصخرة بعصاه، فأخرج اللّه الماء من الصخرة، وأروى الشعب كله (خروج 17: 1 - 7).

في رفيديم تعلم كليم اللّه موسى درساً عظيماً هو أن قوته محدودة. كثيراً ما يتجرب القائد بأن يحسب نفسه أنه شيء، إذ ينجح يوماً بعد يوم في مواجهة المشكلات التي تعترض طريقه. ولكن اللّه يوقظ القائد ليعلِّمه أن النجاح هو من الرب وحده، وأن القائد بدون الرب عاجز تماماً عن أن يفعل شيئاً. وما أجمل ما قاله نبي اللّه إشعياء: «هَلْ تَفْتَخِرُ ٱلْفَأْسُ عَلَى ٱلْقَاطِعِ بِهَا، أَوْ يَتَكَبَّرُ ٱلْمِنْشَارُ عَلَى مُرَدِّدِهِ؟ كَأَنَّ ٱلْقَضِيبَ يُحَرِّكُ رَافِعَهُ؟»(إشعياء 10: 15). إن اللّه هو الذي يمسك الفأس، والذي يردد المنشار، والذي يرفع القضيب. وما نحن إلا فؤوس بين يدي الرب - علينا أن نسلِّم أنفسنا له، ليصنع بنا ومنا الخدمة التي يريدها.

أيها القارئ الكريم، إن كان اللّه قد وضعك في مكان قيادة، فأرجوك أن تدرك أن القائد الحقيقي هو اللّه. وكلما سلَّمت نفسك له، وأخضعت إرادتك لإرادته وُفِّقت فيما تفعل. هل أنت أب تعمل ليل نهار لتكسب رزق أولادك، لتوفر لهم العيش الكريم؟ إن اللّه من وراء عقلك ومن وراء ساعديك، يساعدك. هو الذي يعطيك ما تقتات به، وما يقتات به أولادك. وعليك أن تمثُل أمامه في خضوع حقيقي، تطلب منه الهداية والإِرشاد اليومي لك، لأنه مصدر صحتك، ورزقك، وكل خير تتمتع به.

على أننا نلمس كيف أن بني إسرائيل تذمروا على قائدهم الذي خدمهم، ولكنه بالرغم من تذمرهم ظل يخدمهم. فإن كنت تقدم خدمة للمجتمع المحيط بك، وتجد أن هذا المجتمع لا يعترف لك بفضل، بل بالحري تراه دائم التذمر عليك، فتعلم من موسى كليم الله درساً، أن تستمر في خدمتك، لأن الله هو الذي كلفك بها.

وفي رفيديم تعلم موسى درساً عن طول أناة الله على شعبه المتذمر. لو أن الله أهلكنا بسبب خطايانا لما بقي منا إنسان واحد على الأرض. لكن الله في محبته يطيل أناته علينا. ولنستمع إلى ما يقوله رسول المسيحية بولس: «أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ ٱللّٰهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ؟» (رومية 2: 4).

وتعلم موسى أن الله حاضر معه دائماً، قال له: «هَا أَنَا أَقِفُ أَمَامَكَ هُنَاكَ عَلَى ٱلصَّخْرَةِ»(خروج 17: 6). إن كنا نفعل شيئاً صالحاً فإن الله موجود معنا. هو مصدر كل عمل صالح نقوم به. لنستمع إلى ما يقوله لنا وهو يشجعنا - وهو نفس ما قاله لموسى: «لا تخف. أنا معك. لا ترهب أنا إلهك. لا يقع بك أحد ليؤذيك، لأني أنا معك لأنقذك. مُرّ قدام هذا الشعب. لن يؤذيك أحد. وهذه لك العلامة بأنني أنا فعلاً على الصخرة، أنها ستفيض ماءً».

إن الله موجود معنا دائماً ومخازنه سرية. تضرب الصخرة فيخرج منها الماء. من يقول إن الصخرة تخرج ماء؟ لكن، أليس هذا هو ما لم تر عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان، ما أعده الله للذين يحبونه، فأعلنه الله لنا نحن بروحه؟ (1كورنثوس 2: 9، 10). إن الله هو صخرنا الذي يستجيب صلاتنا ويمنحنا ما نحتاج إليه بالرغم من عدم استحقاقنا.

ويقول لنا الإنجيل المقدس إن بني إسرائيل كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح (1كورنثوس 10: 4). إن المسيح هو الذي يروي عطش نفوسنا. فلنسمعه يتحدث مع المرأة السامرية عند بئر يعقوب قائلاً: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ ٱللّٰهِ، وَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّاً». قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ، لا دَلْوَ لَكَ وَٱلْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ ٱلْمَاءُ ٱلْحَيُّ؟ أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، ٱلَّذِي أَعْطَانَا ٱلْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هٰذَا ٱلْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلٰكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ، بَلِ ٱلْمَاءُ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّة» (يوحنا 4: 10 - 14).

نصيحة يثرون:

وفي صباح اليوم التالي جلس موسى ليقضي للشعب، فوقف الشعب عند موسى من الصباح إلى المساء. ولما رأى يثرون ما يفعل موسى، قال له: «مَا هٰذَا ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي أَنْتَ صَانِعٌ لِلشَّعْبِ؟ مَا بَالُكَ جَالِساً وَحْدَكَ وَجَمِيعُ ٱلشَّعْبِ وَاقِفٌ عِنْدَكَ مِنَ ٱلصَّبَاحِ إِلَى ٱلْمَسَاءِ؟» فَقَالَ مُوسَى لِحَمِيهِ: «إِنَّ ٱلشَّعْبَ يَأْتِي إِلَيَّ لِيَسْأَلَ ٱللّٰهَ. إِذَا كَانَ لَهُمْ دَعْوَى يَأْتُونَ إِلَيَّ فَأَقْضِي بَيْنَ ٱلرَّجُلِ وَصَاحِبِهِ، وَأُعَرِّفُهُمْ فَرَائِضَ ٱللّٰهِ وَشَرَائِعَهُ». فَقَالَ حَمُو مُوسَى لَهُ: «لَيْسَ جَيِّداً ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي أَنْتَ صَانِعٌ. إِنَّكَ تَكِلُّ أَنْتَ وَهٰذَا ٱلشَّعْبُ ٱلَّذِي مَعَكَ جَمِيعاً، لأَنَّ ٱلأَمْرَ أَعْظَمُ مِنْكَ. لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصْنَعَهُ وَحْدَكَ. اَلآنَ ٱسْمَعْ لِصَوْتِي فَأَنْصَحَكَ. فَلْيَكُنِ ٱللّٰهُ مَعَكَ. كُنْ أَنْتَ لِلشَّعْبِ أَمَامَ ٱللّٰهِ، وَقَدِّمْ أَنْتَ ٱلدَّعَاوِيَ إِلَى ٱللّٰهِ، وَعَلِّمْهُمُ ٱلْفَرَائِضَ وَٱلشَّرَائِعَ وَعَرِّفْهُمُ ٱلطَّرِيقَ ٱلَّذِي يَسْلُكُونَهُ وَٱلْعَمَلَ ٱلَّذِي يَعْمَلُونَهُ. وَأَنْتَ تَنْظُرُ مِنْ جَمِيعِ ٱلشَّعْبِ ذَوِي قُدْرَةٍ خَائِفِينَ ٱللّٰهَ أُمَنَاءَ مُبْغِضِينَ ٱلرَّشْوَةَ، وَتُقِيمُهُمْ عَلَيْهِمْ رُؤَسَاءَ أُلُوفٍ وَرُؤَسَاءَ مِئَاتٍ وَرُؤَسَاءَ خَمَاسِينَ وَرُؤَسَاءَ عَشَرَاتٍ، فَيَقْضُونَ لِلشَّعْبِ كُلَّ حِينٍ. وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ ٱلدَّعَاوِي ٱلْكَبِيرَةِ يَجِيئُونَ بِهَا إِلَيْكَ. وَكُلَّ ٱلدَّعَاوِي ٱلصَّغِيرَةِ يَقْضُونَ هُمْ فِيهَا. وَخَفِّفْ عَنْ نَفْسِكَ، فَهُمْ يَحْمِلُونَ مَعَكَ. إِنْ فَعَلْتَ هٰذَا ٱلأَمْرَ وَأَوْصَاكَ ٱللّٰهُ تَسْتَطِيعُ ٱلْقِيَامَ. وَكُلُّ هٰذَا ٱلشَّعْبِ أَيْضاً يَأْتِي إِلَى مَكَانِهِ بِٱلسَّلامِ»(خروج 18: 14-23). وسُرَّ موسى كثيراً من نصيحة حميه، وسمع لكلامه، وفعل كما قال. فاختار موسى أصحاب مواهب من جميع بني إسرائيل ونصّبَهم مسئولين عن الشعب، فكانوا يقضون للشعب كل حين في الدعاوي الصغيرة. أما الدعاوي العسرة فكانوا يجيئون بها إلى موسى.

ما أجمل هذه الزيارة التي قام بها يثرون لزوج ابنته موسى. لقد قدَّم له نصيحة ثمينة، كما كان شجاعاً في انتقاده لزوج ابنته. كان فياضاً بالمحبة والحكمة في تقديم ذلك الانتقاد. لم يكن في انتقاده هدّاماً لكنه كان بانياً، لأنه ساعد موسى على تكوين قيادات مختلفة في الشعب، تكون قادرة على القيام بالعمل. وكان في ذلك حكيماً، لأنه شغَّل أصحاب الوزنات والمواهب والإمكانيات المدفونة. وكم من مواهب مدفونة، علينا أن نفتش عنها ونشغّلها! إن الإنسان الذي يستأثر بالخدمة كلها يزعج نفسه ويزعج غيره، ويحرم الآخرين من خدمة يحبون أن يقدموها لله ولإخوتهم من البشر. إن النصيحة التي قدمها يثرون إلى زوج ابنته موسى تعلِّمنا أننا يجب أن نُشرِك الآخرين في خدمة الله، وأن نعمل على تشجيعهم، على أن يقدموا ما يستطيعون أن يقدموه لعمل الخير للآخرين. ألا نوزع نحن جهودنا في دائرة متسعة جداً أكثر مما نتحمل؟ ألا نحاول أن نحتكر لأنفسنا خدمات كثيرة يمكن أن يقوم بها غيرنا كما نقوم بها نحن؟ إن نصيحة يثرون لزوج ابنته موسى نصيحة خليقة بأن نمارسها نحن أيضاً في حياتنا.

الفصل السادس: أحداث في صحراء سيناء

حدثت معجزة أخرى أجراها الله على يد كليمه موسى، لينقذ شعبه بني إسرائيل. فقد أقبلت جماعة من قبيلة عماليق، وهم من نسل عيسو، لكي يحاربوا بني إسرائيل (خروج 17: 8 - 16). كانت تلك القبيلة وحشية فظة، تحب القتال، فهل كان يمكن أن يتركوا هذا الشعب الجديد يتطفل على مراعيهم ويهدد حصونهم التي ثبتت أمام غارات مصر؟ إن هذا مستحيل. لقد كانوا قبيلة قوية يخبرنا المؤرخ يوسيفوس عنها أنها جمعت في ذلك المكان كل قوات الصحراء من البتراء إلى البحر الأبيض المتوسط. فضرب عماليق مؤخرة الإسرائيليين - أي كل المستضعفين - عندما أعيوا من التعب.

وكان لا بد لموسى أن يواجه هذا الموقف الحرج، فانقبضت نفسه من شدة وطأة الحرب. وكان قد بلغ الحادية والثمانين من العمر، فأوكل قيادة الجيش إلى تلميذه يشوع، الذي نلتقي به على صفحة التوراة هنا لأول مرة. أما موسى فقد صعد إلى رأس التلة، والعصا المقدسة في يده. وإذ تطلع موسى إلى ساحة الحرب، وقد أقبل أولئك العماليقيون العمالقة ليبيدوا بني إسرائيل المستضعفين، بسط موسى يديه إلى الله في الصلاة، فانتصر بنو إسرائيل على العدو بالصلاة والدعاء، التي كانت اليدان المبسوطتان إلى الله ترمزان إليها. فكان إذا رفع موسى يديه أن بني إسرائيل ينتصرون، وإذا خفض يديه كانت قبيلة عماليق تغلب. فلما صارت يدا موسى ثقيلتين، أخذ حجراً وجلس عليه، ووقف هارون عن يمينه يدعِّم يده اليمنى، ووقف شخصٌ آخر اسمه «حور» ليرفع يد موسى من الجانب الأيسر. فظلَّت يدا موسى ثابتتَيْن إلى غروب الشمس، فهزم يشوعُ وجيشه الضعيف الصغير العمالقة الأقوياء المتمرِّسين في الحرب.

أيها القارئ الكريم، هذه معركة من نوع فريد، لم تشترك فيها الأسلحة الفتاكة ولا القوة الحربية، لكن المؤازرة الإلهية. وهي تعلّمنا أن الصلاة وحدها يمكن أن تربح المعارك. فكلما كان الإنسان قريباً إلى الله انتصر على أعدائه يقول الكتاب: «إِذَا أَرْضَتِ ٱلرَّبَّ طُرُقُ إِنْسَانٍ جَعَلَ أَعْدَاءَهُ أَيْضاً يُسَالِمُونَهُ»(أمثال 16: 7).

لقد قضى موسى أربعين سنة في مصر يظن أن كَسْب المعارك لا يكون إلا بالحروب، ولكن ها هو يتعلم أنه يستطيع أن يكسب الانتصار بالصلاة، وبالصلاة وحدها. ونستطيع أن نرى هارون وحور يساعدان موسى، وهذا يعلِّمنا أنه إن لم نكن من القادة، فإننا يمكن أن نساعد القادة بأن نشدِّد أيديهم بالصلاة، وأن نسندهم بالتشجيع. لنملأ حياتنا بالدعاء إلى الله، لنحصل بالإيمان على الانتصار لنفوسنا، وللآخرين. إن صعدنا على جبل الشركة مع الله، باسطين أيدينا ثابتة في الصلاة، نلنا بركات عظيمة وخلاصاً لأحبائنا.

أيها القارئ الكريم، إننا ندعوك أن ترفع صلاتك دوماً إلى الله لكي يحطم الفخ المنصوب لك، فتقول: «لَوْلا ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي كَانَ لَنَا عِنْدَ مَا قَامَ ٱلنَّاسُ عَلَيْنَا، إِذاً لابْتَلَعُونَا أَحْيَاءً عِنْدَ ٱحْتِمَاءِ غَضَبِهِمْ عَلَيْنَا، إِذاً لَجَرَفَتْنَا ٱلْمِيَاهُ، لَعَبَرَ ٱلسَّيْلُ عَلَى أَنْفُسِنَا. إِذاً لَعَبَرَتْ عَلَى أَنْفُسِنَا ٱلْمِيَاهُ ٱلطَّامِيَةُ. مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي لَمْ يُسْلِمْنَا فَرِيسَةً لأَسْنَانِهِمْ. ٱنْفَلَتَتْ أَنْفُسُنَا مِثْلَ ٱلْعُصْفُورِ مِنْ فَخِّ ٱلصَّيَّادِينَ. ٱلْفَخُّ ٱنْكَسَرَ وَنَحْنُ ٱنْفَلَتْنَا. عَوْنُنَا بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ ٱلصَّانِعِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ»(مزمور 124).

إن قصة انتصار بني إسرائيل على عماليق في رفيديم يمكن أن تتكرر عندما يهاجمك إبليس ليحطمك. لقد طلب الرب من موسى أن يكتب هذا الكلام تذكاراً في التوراة، فبنى موسى مذبحاً دعا اسمه «يهوه نِسِّي» بمعنى الرب رايتي. نعم، عَلَمُهُ فوقي محبة (نشيد الأنشاد 2: 4). اجعل محبة الله تحوطك دائماً في كل خطوة من خطوات حياتك، فتنال النصر الأكيد - الرب رايتي - الرب عَلَمي.

يثرون يُحضِر لموسى عائلته:

بلغت أخبار الانتصارات المتتالية إلى يثرون حمي موسى الذي كان يسكن أرض مديان، فقرر أن يأتي لزيارة موسى، ومعه ابنته صفورة زوجة موسى، وابني موسى: جرشوم وأليعازر (خروج 18).

وكان موسى قد أطلق على ابنه البكر اسم جرشوم، الذي معناه غريب - لأن موسى قال: كنت نزيلاً في أرض غريبة. أما الابن الآخر أليعازر فمعنى اسمه «الله عون» لأن موسى قال إن إله أبيه كان عونه، وأنقذه من سيف فرعون. وهذان الاسمان اللذان اختارهما موسى لولديه يعلّماننا درساً في أن الإنسان منا غريب، ولكن الله عونه، ينقذه ويعينه في غربته.

أغلب الظن أن موسى لم يكن قد اصطحب زوجته وولديه معه إلى مصر، حرصاً على سلامتهم، فتركهم عند حميه يثرون. وقد أخذ يثرون زوجة موسى وولديه ليلتقوا به، مقدِّماً أروع مثل للآب الفاضل، الذي يعمل مجتهداً ليقيم صرح الحياة الزوجية لابنته. وأرسل يثرون رسولاً إلى موسى ينبئه أنه قادم مع زوجته وولديه. فقابل موسى هذا الأمر بتقدير كبير، ورحَّب بحميه ترحيباً مقترناً بالإكرام، إذ سجد له إلى الأرض. وهكذا قدم يثرون درساً للآباء والأمهات يجدر بهم أن يتذكروه دائماً. كما أن موسى قدم درساً للأزواج يجدر بهم أن يطبقوه على حياتهم.

وبدأ موسى يحكي لحميه كل ما صنع الرب بفرعون والمصريين، وكل المشقة التي أصابت بني إسرائيل في الطريق، وكيف خلصهم الله منها. ففرح يثرون بجميع الخير الذي صنعه الله إلى بني إسرائيل، وقال يثرون: «مُبَارَكٌ ٱلرَّبُّ ٱلَّذِي أَنْقَذَكُمْ مِنْ أَيْدِي ٱلْمِصْرِيِّينَ وَمِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ. اَلَّذِي أَنْقَذَ ٱلشَّعْبَ مِنْ تَحْتِ أَيْدِي ٱلْمِصْرِيِّينَ. ٱلآنَ عَلِمْتُ أَنَّ ٱلرَّبَّ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ ٱلآلِهَةِ، لأَنَّهُ فِي ٱلشَّيْءِ ٱلَّذِي بَغُوا بِهِ كَانَ عَلَيْهِمْ»(خروج 18: 10-11). وقدّم يثرون محرقة وذبائح لله. وجاء هارون وجميع شيوخ بني إسرائيل ليأكلوا طعاماً مع يثرون.

الفصل السابع: موسى يتلقى الوصايا العشر

بعد ثلاثة شهور من خروج بني إسرائيل من مصر، وصلوا إلى برية سيناء. وهي الأرض المعروفة اليوم باسم وادي الراحة، وأقاموا في سهل طوله ثلاثة كيلو مترات وعرضه كيلو متر واحد، تحيط به سلسلة من جبال من حجر أسود وأصفر. ويُعرف بعض أقسام ذلك الجبل في طرف الصحراء باسم «رأس الصفصافة» وهو هضبة يكثر عليها الشجر الذي يظهر في كل موضع في السهل.

وصعد موسى إلى الله إلى جبل سيناء، فناداه الرب من الجبل وقال له: «أَنْتُمْ رَأَيْتُمْ مَا صَنَعْتُ بِٱلْمِصْرِيِّينَ. وَأَنَا حَمَلْتُكُمْ عَلَى أَجْنِحَةِ ٱلنُّسُورِ وَجِئْتُ بِكُمْ إِلَيَّ»(خروج 19: 4).

لعله بسبب هذا الوعد قال موسى بعد ذلك: «كَمَا يُحَرِّكُ ٱلنَّسْرُ عُشَّهُ وَعَلَى فِرَاخِهِ يَرِفُّ، وَيَبْسُطُ جَنَاحَيْهِ وَيَأْخُذُهَا وَيَحْمِلُهَا عَلَى مَنَاكِبِهِ، هٰكَذَا ٱلرَّبُّ وَحْدَهُ ٱقْتَادَهُ»(تثنية 32: 11 و12). والمعنى أن الله بقدرته ساعد شعبه على سَيْرهم، فلم يدَعْهم يسقطون من الإعياء. وكما يساعد النسر فراخه، أنقذهم الله من الشدائد والأخطار، وجاء بهم إليه، ليعبدوه بعيداً عن العبادة الوثنية. ثم قال الله لموسى: «ٱلآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ ٱلشُّعُوبِ. فَإِنَّ لِي كُلَّ ٱلأَرْضِ. وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً»(خروج 19: 5، 6). وهذا يعني أن الله خصّص هذه الأمة لتوصل رسالة محبته لكل الشعوب - الذين هم مِلْكٌ له. فللرب الأرض كلها، وبنو إسرائيل سيُسمِعون العالم صوت الله.

موسى يخبر قادة الشعب:

بعد أن سمع موسى هذه الكلمات على الجبل - جمع شيوخ بني إسرائيل معاً، فتعهدوا أن يفعلوا ما أمر الرب به. وعن طيب خاطر قالوا إنهم سيحفظون شريعة الله. ولا شك أنهم لم يكونوا يعرفون مقدار ضعفهم وعدم عصمتهم.

وقال الرب لموسى إنه سيخاطبه في السحاب، فيؤمن الشعب أن الرب حقاً هو الذي تكلم. وطلب الله من الشعب أن يستعدوا لذلك اليوم العظيم، وأن يقدسوا أنفسهم جسداً وروحاً، لأن الرب سينزل في اليوم الثالث إلى جبل سيناء، حيث يجتمع الشعب عند سفح الجبل، وكل من يمس الجبل يموت. وفي هذا إعلان لقداسة الله (خروج 19: 10 - 13).

ونزل موسى من على الجبل وقدَّس الشعب، فغسلوا ثيابهم. وحدث في صباح اليوم الثالث أنه صارت رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل، وصوت بوق شديد جداً، فارتعد كل الشعب الذي في المعسكر. وأخرج موسى الشعب من المعسكر ليلاقوا الرب، فوقفوا في أسفل الجبل. وكان جبل سيناء كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، فكان صوتُ البوق يزداد اشتداداً وموسى يتكلم والله يجيبه بصوت يسمعه الشعب كله.

ثم صعد موسى إلى الجبل ليستمع إلى الله يكلمه قائلاً:

«أَنَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ ٱلَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ ٱلْعُبُودِيَّةِ. لا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي. لا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتاً وَلا صُورَةً مَا مِمَّا فِي ٱلسَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي ٱلْمَاءِ مِنْ تَحْتِ ٱلأَرْضِ. لا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلا تَعْبُدْهُنَّ، لأَنِّي أَنَا ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ إِلٰهٌ غَيُورٌ، أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ ٱلآبَاءِ فِي ٱلأَبْنَاءِ فِي ٱلْجِيلِ ٱلثَّالِثِ وَٱلرَّابِعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ وَأَصْنَعُ إِحْسَاناً إِلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ. لا تَنْطِقْ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِكَ بَاطِلاً، لأَنَّ ٱلرَّبَّ لا يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِٱسْمِهِ بَاطِلاً. اُذْكُرْ يَوْمَ ٱلسَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ. سِتَّةَ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ، وَأَمَّا ٱلْيَوْمُ ٱلسَّابِعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ. لا تَصْنَعْ عَمَلاً مَا أَنْتَ وَٱبْنُكَ وَٱبْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنَزِيلُكَ ٱلَّذِي دَاخِلَ أَبْوَابِكَ - لأَنْ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ ٱلرَّبُّ ٱلسَّمَاءَ وَٱلأَرْضَ وَٱلْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، وَٱسْتَرَاحَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلسَّابِعِ. لِذٰلِكَ بَارَكَ ٱلرَّبُّ يَوْمَ ٱلسَّبْتِ وَقَدَّسَهُ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِتَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي يُعْطِيكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ. لا تَقْتُلْ. لا تَزْنِ. لا تَسْرِقْ. لا تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ. لا تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ. لا تَشْتَهِ ٱمْرَأَةَ قَرِيبِكَ وَلا عَبْدَهُ وَلا أَمَتَهُ وَلا ثَوْرَهُ وَلا حِمَارَهُ وَلا شَيْئاً مِمَّا لِقَرِيبِكَ»(خروج 20: 2 - 17).

كيف كلمنا المسيح؟

أيها القارئ الكريم، هذه هي الوصايا العشر التي أعطاها الله لموسى على جبل سيناء. ولكن المسيح جاءنا بطريقة مختلفة تماماً، إذْ يقولُ الإنجيل المقدس: «إنكم لم تقتربوا إلى جبل ملموس مشتعل بالنار، ولا إلى غموض وظلام وريح عاصفة، حيث انطلق صوت بوق هاتفاً بكلمات واضحة، وقد كان مرعباً حتى أن سامعيه التمسوا أن يتوقف عن الكلام، فإنهم لم يطيقوا احتمال الأمر الصادر إليهم: «حتى الحيوان الذي يمس الجبل يجب أن تقتلوه رجماً». والواقع أن ذلك المشهد كان مرعباً إلى درجة جعلت موسى يقول: «أنا خائف جداً بل مرتجف خوفاً». ولكنكم قد اقتربتم إلى مدينة الله الحي، بل تقدمتم إلى حفلة يجتمع فيها عدد لا يُحصى من الملائكة، إلى كنيسة تجمع أبناء الله أبكاراً، أسماؤهم مكتوبة في السماء، بل إلى الله نفسه ديان الجميع، وإلى أرواح أناس بررهم الله وجعلهم كاملين. كذلك تقدَّمتم إلى يسوع، وسيط العهد الجديد، وإلى دمه المرشوش» (عبرانيين 12: 18 - 24).

وهذا هو الفرق بين حديث الله مع موسى على جبل سيناء، وحديث الله لنا من خلال المسيح، الذي هو كلمة الله.

هارون يعمل عجلاً ذهبياً:

صعد موسى إلى جبل سيناء وقضى هناك أربعين يوماً في محضر الله، أعطاه اللهُ في نهايتها لوحي الحجر، مكتوب عليهما الوصايا العشر. فوضع موسى هذين اللوحين في التابوت الذي كان في قدس الأقداس، في خيمة الاجتماع.

وتقول التوراة، إن الله بعد أن انتهى من الحديث مع موسى على جبل سيناء، أعطاه «لوحي شهادة» أي لوحي حجر مكتوبَيْن بإصبع الله.

وكان موسى قد أمر الشعب قبل أن يصعد إلى الجبل أن يرفعوا المشاكل التي يصادفونها أثناء غيابه إلى هارون وحور، فاجتمع الشعب كله على هارون وقالوا له: «ٱصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا، لأَنَّ هٰذَا مُوسَى ٱلرَّجُلَ ٱلَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لا نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ»(خروج 32: 1 - 6).

ونحن نستغرب كثيراً كيف أن بني إسرائيل يطلبون عبادة الأوثان! فما أكثر ما يتبدَّل شكر الإنسان لله بنسيان الجميل. وما أكثر ما يبتعد الإنسان عن عبادة الإله الحقيقي ليعبد الأوثان التي يصنعها بيديه. أليس هذا ما نفعله نحن اليوم، حين نضع ثقتنا في أموالنا أو في درجاتنا العلمية، أو في صحتنا، أو في ذكائنا، أو في عائلاتنا، فترانا نصرف الوقت كله في أمورنا الأرضية المادية، ناسين حياتَنا الروحية وصِلَتنا بالله؟

وعندما سمع هارون طلب الشعب أن يصنع لهم صنماً، حاول أن يعطلهم ويمنعهم عن عبادة الأوثان فقال لهم: «ٱنْزِعُوا أَقْرَاطَ ٱلذَّهَبِ ٱلَّتِي فِي آذَانِ نِسَائِكُمْ وَبَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَأْتُونِي بِهَا»(خروج 32: 2). لم يستطع هارون أن يثني الشعب عن طلبهم بطريقة مباشرة، فظن أن نساءهم وأولادهم لا يسمحون لهم بأن يقدموا أقراط الذهب التي في آذانهم. ولكن لدهشة هارون نزع كل الشعب أقراط الذهب، فقد كان تعصُّبهم للأوثان أكثر من محبتهم للذهب، وكان ميلهم إلى الآلهة المنظورة أكثر من ميلهم إلى الروح الأزلي الذي لا يُرى. وأخذ هارون منهم الذهب وصبَّه عِجلاً، ثم أخذ يصوّره بالإزميل ويصنعه كما كان المصريون يصنعون العجل أبيس الذي كان معبده في ممفيس. وما إن رأى الشعب العجل الذهبي حتى بدأوا يهتفون كلهم: «هٰذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ ٱلَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ» (خروج 32: 4). وبعد أن سلَّم هارون للشعب بطلبه الأول، إذ صنع لهم العجل الذهبي، سلَّم لهم بطلبهم الثاني، وهو أن صنع للعجل مذبحاً من الحجارة، ووضعه أمام العجل، وقال هارون للشعب: «غداً عيد ليهوه».

وفي اليوم التالي استيقظ الشعب مبكرين من نومهم، وجاءوا بالقرابين والذبائح، وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة، ثم جلس الشعب للأكل والشرب، بعدها قاموا للّعب والاحتفال بتلك المناسبة.

موسى ينزل ليرى العِجل:

وهنا قال الله لموسى: «ٱذْهَبِ ٱنْزِلْ! لأَنَّهُ قَدْ فَسَدَ شَعْبُكَ ٱلَّذِي أَصْعَدْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ... وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِمُوسَى: «رَأَيْتُ هٰذَا ٱلشَّعْبَ وَإِذَا هُوَ شَعْبٌ صُلْبُ ٱلرَّقَبَةِ. (بمعنى أنه شعب عنيد ومقاوم. كأنه فرس صلب العنق جموح، لا يستطيع راكبه أن يثنيه باللجام). ثم قال الله لموسى: فَٱلآنَ ٱتْرُكْنِي لِيَحْمَى غَضَبِي عَلَيْهِمْ وَأُفْنِيَهُمْ، فَأُصَيِّرَكَ شَعْباً عَظِيماً»وهذا يعني أن الله سيفني بني إسرائيل ويقيم من نسل موسى شعباً جديداً. ولكن موسى بدأ يتشفَّع في شعبه، فقال لله: «لِمَاذَا يَا رَبُّ يَحْمَى غَضَبُكَ عَلَى شَعْبِكَ ٱلَّذِي أَخْرَجْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ بِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ وَيَدٍ شَدِيدَةٍ؟ لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ ٱلْمِصْرِيُّونَ قَائِلِينَ: أَخْرَجَهُمْ بِخُبْثٍ لِيَقْتُلَهُمْ فِي ٱلْجِبَالِ وَيُفْنِيَهُمْ عَنْ وَجْهِ ٱلأَرْضِ؟ اِرْجِعْ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِكَ وَٱنْدَمْ عَلَى ٱلشَّرِّ بِشَعْبِكَ. اُذْكُرْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَإِسْرَائِيلَ عَبِيدَكَ ٱلَّذِينَ حَلَفْتَ لَهُمْ بِنَفْسِكَ وَقُلْتَ لَهُمْ: أُكَثِّرُ نَسْلَكُمْ كَنُجُومِ ٱلسَّمَاءِ، وَأُعْطِي نَسْلَكُمْ كُلَّ هٰذِهِ ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي تَكَلَّمْتُ عَنْهَا فَيَمْلِكُونَهَا»(خروج 32: 7 - 14).

وفي هذا الجواب الذي قدمه موسى نكتشف أنه قال لله ثلاثة أمور. قال له: إن الله قدَّم خدمات كثيرة لشعبه، فليس له أن يترك كل ذلك عبثاً. ثم قال له إن إفناء بني إسرائيل يعني أن المصريين قد انتصروا، كما أنه يبطل المواعيد لإبراهيم وإسحق ويعقوب. استغفر موسى لشعبه وقبل استغفاره وكان لشفاعته تأثير عظيم، فقد عفا الرب عن الشعب، ولم يعاقبهم رغم استحقاقهم للعقاب. ولا يلزم من ذلك أن الله غيَّر قصده. لأن الله كان يعلم أن موسى سيشفع في الشعب- وأنه سيقبل شفاعته، لأن عقاب الله للشعب مشروط بعدم الشفاعة وبعدم التوبة. وهنا حدث الأمران، فإن موسى تشفَّع في الشعب... والشعب تاب كما سيأتي.

موسى يكسر لوحي الشريعة:

وعندما نزل موسى من على الجبل كان لوحا الشريعة في يده، مكتوبين على جانبيهما واللوحان صنعة الله، والكتابة كتابة الله منقوشة على اللوحين. وعندما اقترب موسى من معسكر بني إسرائيل أبصر العجل الذي يعبدونه، ورآهم يرقصون أمامه، فغضب غضباً شديداً، وطرح اللوحين من يديه وكسَّرهما في أسفل الجبل. ثم أخذ العِجل الذي صنعوه وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعماً، وذرَّاه على وجه الماء ثم سقى بني إسرائيل. ووبخ موسى هارون أخاه توبيخاً شديداً، لأنه خضع لمطالب بني إسرائيل، وصنع لهم العجل الذهبي. وبعد ذلك أمر موسى بني لاوي أن يقتلوا كل الذين رفضوا أن يعودوا إلى عبادة الله واستمروا يعبدون الوثن، فقتل موسى نحو ثلاثة آلاف رجل أصرُّوا أن يستمروا في عبادة الأوثان.

أيها القارئ الكريم، علينا أن نحترس من عبادة الأوثان، فهناك أصنام كثيرة تستحوذ على انتباهنا، ويجب أن يكون الله وحده متقدماً في حياتنا كلها - كل ما يحتل في قلبك المكانة الأولى هو الصنم الذي تتعبَّد له (خروج 32: 15 - 35) سواء كان هذا: المال، أو الشهوة، أو العلم، أو المركز الاجتماعي، أو العائلة.

الفصل الثامن: موسى يُقيم خيمة الاجتماع

صعد موسى كليم الله إلى الجبل بناءً على طلب الله، وهناك أعطاه الله تفصيلات المسكن الذي يجب أن يبنيه ليتعبَّد الشعب فيه. وأعطى الله موسى تفصيلات كاملة عن طرق البناء، وأنواع المواد التي يستخدمها في البناء. وأمر موسى الشعب أن يقدموا لله ما يملكون من المواد المختلفة لبناء المسكن الذي سيُستخدم للعبادة، تقرُّباً إلى الله وشكره، وتؤدَّى فيه التقدمات والذبائح والمحرقات عن حرية وعن اختيار (خروج 35).

إن عبادة الإله الحقيقي تتطلب مكاناً خاصاً للعبادة، وإذ يوضع هذا المسكن وسط معسكر بني إسرائيل، يدل على أن الله يجب أن يحتل مكان الصدارة في قلوب شعبه، لأنه يجب أن يسكن وسط شعبه. وقد سُمي هذا المسكن «خيمة الاجتماع» لأن الرب يجتمع فيه بشعبه، يستمع إلى صلواتهم ويقبل تقدماتهم ويُنزل إليهم بركاته. وقال الله لموسى: «انظر، اصنعها على مثالها الذي أظهر لك في الجبل». ويقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين في الإنجيل: «هذا واضح من قول الله لموسى قبل أن يصنع خيمة العبادة، إذ أوحى إليه قائلاً: ٱنْظُرْ أَنْ تَصْنَعَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ ٱلْمِثَالِ ٱلَّذِي أُظْهِرَ لَكَ فِي ٱلْجَبَلِ»(عبرانيين 8: 5).

ولقد قدم الشعب مواد البناء تبرعاً واختياراً، فقد طلب الرب من موسى أن يدعو الشعب قائلاً: «مِنْ كل من يحثُّه قلبه تأخذون تقدمتي». ويقول لنا الكتاب المقدس إن المعطي المسرور يحبه الرب. وتقول التوراة إن بني إسرائيل كانوا يجيئون إلى موسى بكل شيء تبرعاً كل صباح. وقد تبرع الشعب بوفرة وسخاء، حتى جاء المشرفون على العمل، كل الحكماء الصانعين عمل المسكن المقدس، كل واحد من عمله الذي هم يصنعونه، وقالوا لموسى: «يَجِيءُ ٱلشَّعْبُ بِكَثِيرٍ فَوْقَ حَاجَةِ ٱلْعَمَلِ لِلصَّنْعَةِ ٱلَّتِي أَمَرَ ٱلرَّبُّ بِصُنْعِهَا»(خروج 36: 5). لقد قدّم الشعب أكثر من احتياج المبنى. أما الله سبحانه فقد أعطى حكمة لرجلين هما بصلئيل وأهوليآب، ومعهما عدد كبير من الصناع المهرة، ليقوموا بتنفيذ الخطة التي أعلنها الله لموسى على الجبل. وتقول التوراة إن الله جعل في بصلئيل وأهوليآب حكمة وفهماً ليعرفا أن يصنعا كل المطلوب لعمل المسكن المقدس، بحسب كل ما أمر الرب. فقد أعطى الله الأوامر عن طريقة البناء، وقدّم الشعب مواد البناء، ومنح الله الذين سينفذون الخطة المقدسة حكمة من عنده لينفذوا المثال الذي قدّمه لموسى، فأكملوا إقامة المسكن المقدس، خيمة الاجتماع، مكان العبادة. وفي يوم تدشين المكان للعبادة، قدّم الشعب قرابين كثيرة متنوعة، ليقدموها تقدمة للرب إعلاناً لحبهم له (خروج 36 - 39).

تدشين الخيمة:

بعد أن تمَّ بناء المسكن المقدس الذي هو مكان العبادة، وقدّم الشعب محرقاتهم وذبائحهم تدشيناً للمكان، غطت سحابةٌ خيمة الاجتماع. وتقول التوراة إن بهاء الرب ملأ المكان، فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة الاجتماع، لأن السحابة حلَّت عليها، وبهاء الرب ملأ المسكن (خروج 40: 34 - 38). وكان ذلك رمزاً لحلول الله في وسط شعبه ليقبل عبادتهم وليباركهم. الله يسكن في وسط شعبه ويعيِّن لهم الوسيلة التي يتّصلون بها بشخصه. وكان عند ارتفاع السحابة عن خيمة الاجتماع، أن بني إسرائيل يسافرون بقيادة موسى في جميع رحلاتهم، وإن لم ترتفع السحابة لا يرتحلون، إلى يوم ارتفاعها، لأن سحابة الرب كانت على خيمة الاجتماع نهاراً، وكان فيها نار بالليل، يراها كل بني إسرائيل في جميع رحلاتهم.

أيها القارئ الكريم، إننا نرى المثال الذي قدمه الله لموسى ليبني خيمة الاجتماع على مثاله، فالله يهتم بأن نقدم له العبادة، ويريدنا أن نعبده بالروح والحق. يريدنا أن نعبّر عن حبنا الكامل له، لأنه الإله المحب الذي أحبنا أولاً، وينتظر منا أن نرد له حبه حباً ونقول: «نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً» (1يوحنا 4: 19). فإن الساجدين الحقيقيين يسجدون لله بالروح والحق، لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. «اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا»(يوحنا 4: 24).

ويواجهنا سؤال: إن كان للرب الأرض كلها، وإن كان قد أعطى موسى المثال لخيمة الاجتماع على الجبل، فلماذا لم يعط موسى الذهب والفضة والنحاس والجلود التي يبني بها موسى خيمة الاجتماع؟

والإجابة: إن الله يريد منا أن نتبرع مما أعطانا. هو أعطانا الكل، ويطالبنا بدفع العشور له. وعندما نعطي الله مما أعطانا، نتشبَّه بالله المعطي الكريم، الذي يعطي دوماً بسخاء ولا يعيّر.

لقد أعطانا الله كل شيء بغنى للتمتع، فماذا نعمل وماذا نعطي، وكيف نعبِّر لله عن شكرنا وتقديرنا ومحبتنا؟ ماذا ستفعل أنت لتبيّن حبك لله؟

لماذا الخيمة؟

  1. هناك عدة أسباب لإقامة الخيمة، أولها: لقد أراد الله أن يُطَمئن شعبه أنه وسطهم. صحيح أنهم رأوا الله كنار آكلة على رأس الجبل عندما صعد موسى ليتلقَّى الشريعة من عند الله، لكننا هنا نرى وجهاً آخر من وجوه صفات الله، فإن الله عظيم المحبة، يقول: «فَيَصْنَعُونَ لِي مَقْدِساً لأَسْكُنَ فِي وَسَطِهِمْ»(خروج 25: 8). ويقول أيضاً: «وَأَسْكُنُ فِي وَسْطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَكُونُ لَهُمْ إِلٰهاً»(خروج 29: 45).

    أيها القارئ الكريم، إن الله ليس بعيداً عنا ولا متعالياً، لكنه يجيء إلينا ليحل في وسطنا، ويقول إني أنا معك. ومن هذا نرى الله يجهز فكر الإنسان ليعلم أن الله يمكن أن يتجسد ليحل بيننا، كما حلت بيننا خيمة الاجتماع. وهناك اللقب العجيب للسيد المسيح أنه عمانوئيل بمعنى أنه «الله معنا» (متى 1: 23). إن جسد السيد المسيح هو خيمة الاجتماع الحقيقية التي أقامها الرب، وفي ذلك الجسد حل الله بين البشر وصنع لنا فداءً أبدياً.

  2. وهناك درس آخر أراد الله أن يعلمه للشعب من بناء خيمة الاجتماع، وهو أن الله عظيم. كانت تلك الخيمة - خيمة الاجتماع - أعظم من كل الخيام التي أقامها بنو إسرائيل لأنفسهم. ولا بد أن تكون قد تكلفت على الأقل أكثر من مليون من الجنيهات. وهذا مبلغ ضخم بالنسبة لجماعة مشردة من العبيد، يسافرون في الصحراء. صنعوا قواعد الخيمة التي توضع على الرمال من الفضة. وكان الأثاث من الذهب، ومن ضمنه المنارة ذات الشعب السبعة التي تزن قنطاراً من الذهب. وكان هناك ستون عموداً من النحاس، لها رؤوس ورزز من الفضة، ومن تلك الرزز كانت تتدلى ستائر من قماش دقيق ليستطيع الشعب أن يروا من خلالها كل ما يجري في الداخل. وعندما تم بناء خيمة الاجتماع وانتصبت في الصحراء، لا بد أنها ظهرت بالغة الجمال في عيني كل من رآها.

  3. وهناك درس ثالث أراد الله أن يعلِّمه لشعبه: إن الله واحد. لقد كانت خيمة الاجتماع واحدة رغم تعدد أجزائها وأدواتها. هناك تابوت واحد، ومذبح واحد للبخور، ومذبح واحد للمحرقة تأكيداً لوحدانية الله الذي قال: «اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد». هذا الرب الواحد هو روح. على الجبل رأى موسى مجد الله، لكنه لم ير شخص الله. إنّ خلو خيمة الاجتماع من أي صورة منظورة، كان رمزاً لأن الله الواحد روح لا يراه البشر. الله روح والساجدون لله بالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.

  4. وكانت خيمة الاجتماع ترمز إلى طهارة الله. كانت قائمة أعلى من الأرض، مسوَّرة لكي تكون بعيدة عن الاستعمال العادي. كان الجزء الخارجي لا يدخله إلا الذين مارسوا طقساً معيناً من التطهير، أما الجزء الداخلي فكان يدخله رئيس الكهنة وحده مرة واحدة كل سنة، بعد أن يتطهر بحرص شديد بطقوس كثيرة، ويلبس ملابس خاصة، وكان يرش حوله دم الحيوانات التي بلا عيب التي يختارها من أفضل القطعان. وكان قصد الله من هذا كله أن يعطي الشعب فكرة أنهم يجب أن يتطهروا. وتظهر قداسة الله من القرابين والذبائح التي أمر الله بتقديمها في خيمة الاجتماع. كانت هناك خمس ذبائح تتطلب سفك دم، الثلاث الأولى منها تقدمات اختيارية، كانت تُدعى ذبائح سرور، أما الذبيحتان الأخريان فقد كانتا تُقدَّمان تكفيراً عن الخطايا والآثام، أولهما قربان محرقة، وهي ذبيحة مختارة بلا عيب. ويضع صاحب الذبيحة يده على رأس الحيوان الذي يموت عوضاً عنه، ثم يذبح صاحب القربان الحيوان ويرش الكاهن دمه على مذبح النحاس. وفي ذبيحة المحرقة يحرق الحيوان كله على المذبح. وهناك ذبيحة الخطية التي يقدمها الخاطئ الذي ارتكب الخطيئة سهواً. وهناك ذبيحة الإثم التي كانت تُقدَّم بسبب ارتكاب الخطيئة سهواً، ولكنها كانت تقتضي تعويضاً. فإذا سها أحد أن يقدم عشوره أو أية ذبيحة مطلوبة، عليه أن يدفع ذلك ويعوِّض عليه خُمسها. وهذه الذبائح تعلمنا أن دم المسيح وحده هو أساس الغفران، وإن أخطأ المؤمن فله محام وشفيع أمام الآب، يسوع المسيح البار، الذي هو كفارة عن خطايانا (1يوحنا 2: 1، 2). ولا يمكن أن يدع الرب الخطيئة تفلت من العقاب، ولكن الله يغفر خطيتنا إن اعترفنا بها. وإذا لم نعترف، فإن الله يوقع علينا عقوبته.

  5. وقدَّم الله لموسى على الجبل نموذجاً كاملاً لخيمة الاجتماع، لأن لله خطة واضحة. وخطته في حياة كل واحد منا خطة محكمة علينا أن نعرفها لننفّذها. وهي تتطلَّب منّا الطاعة والثبات. يقول: «مَا أَمَرَهُ ٱلرَّبُّ. هٰكَذَا فَعَلَ» (خروج 40: 16). وهكذا يجب أن نفعل نحن. لقد كان موضوع فرح موسى العظيم، وبهجة قلبه أنه لم يُضِف شيئاً إلى ما أمر الله به، ولم يُنقِص شيئاً من أمر الله، وهكذا أكمل العمل. وعلينا نحن أن ندرب أنفسنا على عادة الخضوع لإرادة الله لنتممها في كل أمور الحياة، بسيطها وكبيرها، وبهذا تصبح حياتنا نحن البشر متناسقة مع المشيئة الإلهية، وتصبح خيمة حياتنا بيتاً لساكن الأبد القدوس اسمه. هناك نتمتع برفقة الله، إذ يحل عمود السحاب علينا نهاراً، وعمود النار ليلاً في كل رحلاتنا، إلى أن نصل إلى بيت أبينا السماوي.

الفصل التاسع: موسى يواجه متاعب

لا يمكن أن نقدم خدمة لله دون أن تواجهنا المتاعب، وهذا ما حدث مع موسى.

في هذا الفصل سنذكر ثلاث حوادث متعبة حدثت مع موسى - من أخته وأخيه، ومن عائلة قورح، ثم من موسى نفسه. ونجد هذه القصص الثلاث في سفر العدد.

مريم وهارون ينتقدان موسى: (العدد 12)

تزوج موسى كليم الله بزوجة كوشية سوداء اللون. وقد انتقدت أخته مريم، وأخوه هارون هذا التصرف، وزادا على الانتقاد قولهما: «هَلْ كَلَّمَ ٱلرَّبُّ مُوسَى وَحْدَهُ؟ أَلَمْ يُكَلِّمْنَا نَحْنُ أَيْضاً؟». وهنا دعا الله موسى وهارون ومريم إلى خيمة الاجتماع، وظهر مجد الرب في عمود السحاب ووقف في باب الخيمة، ودعا الله هارون ومريم وحدهما، وقال لهما: «ٱسْمَعَا كَلامِي. إِنْ كَانَ مِنْكُمْ نَبِيٌّ لِلرَّبِّ، فَبِالرُّؤْيَا أَسْتَعْلِنُ لَهُ. فِي ٱلْحُلْمِ أُكَلِّمُهُ. وَأَمَّا عَبْدِي مُوسَى فَلَيْسَ هٰكَذَا، بَلْ هُوَ أَمِينٌ فِي كُلِّ بَيْتِي. فَماً إِلَى فَمٍ وَعَيَاناً أَتَكَلَّمُ مَعَهُ... فَلِمَاذَا لا تَخْشَيَانِ أَنْ تَتَكَلَّمَا عَلَى عَبْدِي مُوسَى؟» فَلَمَّا ٱرْتَفَعَتِ ٱلسَّحَابَةُ عَنِ ٱلْخَيْمَةِ إِذَا مَرْيَمُ بَرْصَاءُ كَٱلثَّلْجِ. فَقَالَ هَارُونُ لِمُوسَى: «أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، لا تَجْعَلْ عَلَيْنَا ٱلْخَطِيَّةَ ٱلَّتِي حَمِقْنَا وَأَخْطَأْنَا بِهَا». وكان موسى حليماً جداً، أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض، فصلى مُوسَى إِلَى ٱلرَّبِّ: «ٱللّٰهُمَّ ٱشْفِهَا» وقال الله: إن مريم ستظل مريضة بالبرص سبعة أيام. وبقي الشعب كله معسكرين حيث كانوا إلى أن مرت الأيام السبعة، ونالت مريم شفاءها، فبدأ الشعب رحلته (العدد 12: 1-16).

لم تسقط مريم لأنها امرأة، فما أكثر النساء العظيمات اللواتي ذكرتهن الكتب المقدسة لما قمن به من أعمال عظيمة. ومريم نفسها قامت بخدمة رائعة لله. إننا نذكر سارة زوجة إبراهيم، ورفقة زوجة إسحق، ودبورة القاضية، وحنة النبية، وليديا التي كانت في فيلبي، وفيبي التي كانت تخدم في الكنيسة، ومريم المجدلية أول من رأت المسيح المقام، كما نذكر القديسة العظيمة مريم العذراء أم يسوع. كلا لم تسقط مريم لأنها امرأة.

ولم تسقط مريم بسبب نقص في وزناتها وإمكانياتها، فقد كانت موهوبة منذ الصِّغر. نذكر كيف وقفت عند شاطئ النيل وعمرها نحو ست سنوات، تراقب أخاها الطفل موسى وهو بين الحلفاء على الشاطئ. وعندما جاءت ابنة فرعون أسرعت إليها لتعرِّفها بأمها لتكون مرضعة للطفل الوليد. كانت مريم تقدِّر المسئولية أكثر من كثيرين من الكبار. كانت مريم موهوبة فعلاً في ذكائها وسرعة خاطرها وتحملها للمسئولية.

ولم تسقط مريم لضعف في شخصيتها، فتتجلى شخصيتها القوية في ثلاثة أشياء على الأقل: الخُلُق والتأثير والنشاط. وكانت تملك هذه الثلاثة. من جهة الخلُق وصلت في التقوى والعلاقة بالله مبلغ النبوة، فتسميها التوراة «مريم النبية». من جهة النشاط فهي ابنة الست والثمانين سنة، ومع ذلك فهي تخرج وتتقدم الصفوف وتقود فرقة ترتيل كبيرة. من جهة التأثير استطاعت أن تتزعم كل نساء بني إسرائيل، حتى إن الله يقول لبني إسرائيل: «أرسلت أمامكم موسى وهارون ومريم».

لكن لماذا سقطت مريم، بالرغم من هذه الإمكانيات الكثيرة؟

الإجابة: هناك عنصر غريب دخل حياة هذه الزعيمة. كانت تملك كل مؤهلات الزعامة الناجحة، ولكنها سقطت بسبب خطية دخلتها هي الحسد. جاء كلام عن المرأة الكوشية السوداء اللون التي تزوج بها أخوها موسى، لكن سياق القصة يُظهر أن هناك حسداً كامناً في نفسها وفي نفس هارون ضد موسى. والحسد غباوة. لقد رأت مريم أنها تستحق المكانة التي وصل إليها موسى، وهي لا تعلم أن الله هو الذي أنعم على موسى بمكانته، والله هو الذي ينعم عليها هي بالمكانة التي يمكن أن تكون فيها.

ثم كانت هناك خطية أخرى: كانت ساخطة. ساخطة على الله الذي منح موسى ما لم يمنحها إياه، وسخطت على الناس الذين كانوا يتبعون موسى كقائد عظيم لهم، وسخطت على نفسها لأنها لم تستطع أن تحتل المكانة الممتازة التي وصل إليها موسى. إن الحاسد يفضح نفسه. إنه مسكين وتعس. إنّ وجهه ينفر منه كل الناس. وكان الحسد والسخط قد ملأ عيني مريم، فلم تستطع أن تبصر فضائل الشخص الذي تحسده، ولا الامتيازات التي منحها الله لها، فانتقدت موسى انتقاداً شديداً على مسألة شخصية محضة، ونسيت أن تشكر الله على ما أعطاه لها.

وتقول لنا التوراة إن موسى كان حليماً جداً أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض. لا شك أنه ذكر أخته وضعفها بكل محبة، فصلى من أجلها ليشفيها الرب من البرص الذي حل بها، بسبب غضب الرب عليها. تذكر موسى أخته الكبيرة مريم. ذكر لها كيف حملته صغيراً إلى شاطئ النيل وأنقذته. ذكر لها غيرتها ومحبتها لله. ذكر لها ثقتها التي جعلتها تقود الترتيل وهي تسبح لله الذي خلَّص شعبه، فصلَّى للرب: «اللهم اشفها». نعم، لقد مرضت بسبب إساءة وجَّهتها ضده، لكنه نسي الإساءة تماماً، ورفع الطلبة إلى الله ليشفي أخته.

أشعلت مريم ناراً كادت تحرق الشعب كله، لولا أن الله في محبته أطفأ تلك النار، ولولا أن موسى غفر لها. عندما نحسد الآخرين ونثير الأقاويل السيئة ضدهم، لا نسيء إليهم فقط، ولا إلى أنفسنا فقط، بل إلى مجتمعنا كله. في كل مرة نوجه نقداً باطلاً لإنسان نحن نجرحه، ولكننا نسبِّب إساءة لجماعة الرب كلها، وعلينا أن نتعلم من هذه القصة التي مرت بها مريم كيف نضبط أنفسنا وألسنتنا، ونحترم اختيارات الناس المحيطين بنا، ولا نُقحم أنفسنا في شؤونهم الشخصية.

أما إن كنت أيها القارئ الكريم محل سخط وحسد من إنسان يسيء إليك، دون أن تسيء إليه، فأرجوك أن تتعلم من مثال موسى، الرجل الذي صلى من أجل المسيئين إليه، فتوجه إلى الله طالباً أن يشفي أخته مريم من برصها، بالرغم من أنها أساءت إليه. ولنستمع إلى ما علَّمنا السيد المسيح في الصلاة الربانية: «ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا»(متى 6: 12).

شكراً لله الذي يستر خطايانا، ولنصلِّ أن يحفظنا من أن نحسد الآخرين. فإذا قُدِّر لنا أن نكون محسودين، فلنطلب منه أن يبارك حاسدينا ويغفر لهم.

أولاد قورح ينتقدون موسى: (العدد 16 و17)

في أثناء قيادة موسى لبني إسرائيل في سفرهم في صحراء سيناء قام ثلاثة رجال ضده، أحدهم قورح ابن عمه، أما الآخران فهما: داثان وأبيرام. وقال هؤلاء الثلاثة لموسى وهارون: «كفاكما! إن كل الجماعة بأسرها مقدسة في وسطها الرب. فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب؟». وانضم إلى هؤلاء الثلاثة مئتان وخمسون من قادة بني إسرائيل. فطلب موسى من الثائرين ضده أن يأتي كل واحد منهم بمجمرته ويضع فيها بخوراً، كما أن هارون وبنيه يأتون بمجامرهم ويضعون فيها بخوراً، ثم يقفون أمام باب خيمة الاجتماع مع موسى وهارون، وينتظرون جميعاً أن يعلن الرب عن الشخص الذي اختاره لخدمته. فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِمُوسَى وَهَارُونَ: «ٱفْتَرِزَا مِنْ بَيْنِ هٰذِهِ ٱلْجَمَاعَةِ فَإِنِّي أُفْنِيهِمْ فِي لَحْظَةٍ!». فخرَّ موسى وهارون على وجهيهما وقالا: «اٰللّٰهُمَّ إِلٰهَ أَرْوَاحِ جَمِيعِ ٱلْبَشَرِ، هَلْ يُخْطِئُ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَتَسْخَطَ عَلَى كُلِّ ٱلْجَمَاعَةِ؟» فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِمُوسَى: «كَلِّمِ ٱلْجَمَاعَةَ قَائِلاً ٱطْلَعُوا مِنْ حَوَالَيْ مَسْكَنِ قُورَحَ وَدَاثَانَ وَأَبِيرَامَ». وكان أن الأرض انفتحت وابتلعت هؤلاء جميعاً أحياء إلى الهاوية، حتى ارتعب الناس المحيطون بهم قائلين: «لَعَلَّ ٱلأَرْضَ تَبْتَلِعُنَا». وَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ وَأَكَلَتِ ٱلْمِئَتَيْنِ وَٱلْخَمْسِينَ رَجُلاً ٱلَّذِينَ قَرَّبُوا ٱلْبَخُورَ (عدد 16: 21-35).

وهنا تذمر كل جماعة بني إسرائيل على موسى وهارون قائلين: «أنتما قتلتما شعب الرب». فذهب موسى وهارون إلى خيمة الاجتماع فغطتهما السحابة رمزاً لحضور الرب فيها، وقال الرب لموسى وهارون: «اطلعا من وسط هذه الجماعة، فإني أفنيهم في لحظة». فخر موسى وهارون على وجهيهما، وقال موسى لهارون: «خذ المجمرة واجعل فيها ناراً من على مذبح الرب، وضع بخوراً، واذهب بهما مسرعاً إلى بني إسرائيل وكفِّر عنهم، لأن الرب قد غضب عليهم غضباً شديداً، وبدأ يضربهم بالوبأ». فاستجاب الله وامتنع الوبأ عن الشعب.

وقال الرب لموسى: «على كل رئيس من رؤساء أسباط إسرائيل أن يأتي بعصا، ويكتب كل واحد اسمه على عصاه، واسم هارون تكتبه على عصا لاوي، ولتوضع هذه العصي كلها في خيمة الاجتماع، والرجل الذي يختاره الرب تُخرج عصاه اليابسة أغصاناً خضراء». وفعلوا ذلك (العدد 17: 1-5).

وفي اليوم التالي دخل موسى إلى خيمة الاجتماع وإذا عصا هارون قد أفرخت: أخرجت أغصاناً وأزهرت زهراً، وأنضجت لوزاً. فأخرج موسى جميع العصي من أمام الرب إلى جميع بني إسرائيل، فأخذ كل واحد منهم عصاه. وبهذا أعلن الرب أنه قد اختار هارون ونسله كهنة له.

قليلون هم الذين عانوا الأمرَّين من جحود زملائهم كما عانى موسى وأخوه هارون، اللذان هبت العاصفة عليهما من واحد من أبناء عمومتهما، واشترك معه مئتان وخمسون من رؤساء بني إسرائيل! وما أكثر ما يجد القادة والمعروفون الناجحون مقاومة وحسداً من أشخاص أقل منهم بكثير. في مثل هذه الأحوال جدير بنا أن نتأمل قصة التوراة عن تلك الثورة ضد موسى وهارون.

إن كنت تواجه ما واجهه موسى، ثق أن مركزك هو الذي رسمه الله لك. عندما هبَّت العاصفة على موسى ركع أمام الله وانحنى أمام الرب. لم يبذل موسى أي جهد ليقنع الشعب أنه القائد الذي اختاره الله. ولم يذكِّرهم بشيء مما فعله لخدمتهم، بل اتجه إلى الله مباشرة وكلَّمه. ونظر الله لإيمان موسى ودموعه وتوسلاته من أجل الشعب، واستمع له.

عندما ينقلب الناس ضدنا قد نهجر مراكزنا أو نترك خدمتنا في فزع لا مبرر له. أو قد نتجه إلى الصلح مع الأشرار، أو أن نغضب عليهم أو نوبخهم. وهذه كلها أخطاء لا تتفق مع المركز الكبير الذي يعطيه الله للإنسان الذي يقود. إنما علينا في كل وقت أن نتجه إلى الله نفسه. لا تسمح لعداوة الآخرين أو تذمرهم أن يؤثرا في تحديد مركزك. لكن عليك أن تتجه إلى الله دائماً، كما تتجه البوصلة إلى الشمال، وليرتفع قلبك دائماً إلى الله، لتأخذ منه النعمة والتشجيع، لتستمر في الخدمة التي كلفك بها. لنتصرف كما تصرف موسى الخادم الأمين، ولنترك تحديد مراكزنا لربنا وسيدنا. فإن أراد أن يبقيك حيث أنت، فإنه سيعطيك النعمة، وعليك أن تقول ما قاله موسى: «الرب قد أرسلني لأعمل كل هذه الأعمال، وإنها ليست من نفسي، فلا يقدر إنسان أن يأخذ شيئاً إن لم يكن قد أُعطي من السماء».

وعليك أن تقابل مقاوميك بعطف ورقة. لقد كان موسى نبيلاً في تصرفه مع هذه الجماعة المتذمرة. لم يرد أن يهلك منهم أحد، لكنه صلّى إلى الله ليغفر لهم، فطلب المغفرة للذين أساءوا إليه، وانتظر من الله أن يُظهِر حقه. وكان أن انشقت الأرض وفتحت فاها وابتلعت أولئك الذين احتجوا على الله لأنه اختار موسى. وكان هذا انتقاماً مروعاً.

أيها القارئ الكريم، إن كنت تقياً تخاف الله فاتكل عليه. تمم مشيئته. لا ترهب البشر. لا تنزعج من تهديداتهم لأنه معك يخلصك. إن حاربوك فلن ينجحوا، ولن تتم تهديداتهم، فالله يحب قديسيه، ويجمعهم في يده. وعندما يدعونه يسمع لهم ويسرع لمعونتهم.

موسى يفقد أعصابه! (العدد 20)

تسجل لنا التوراة المقدسة خطيةً وقع فيها كليم الله موسى، فقد أمره الله أن يكلم الصخرة لتُخرج ماء يشرب منه الشعب العطشان، ولكن موسى في غضب لم يكلم الصخرة، بل ضربها مرتين. وتقول القصة إن بني إسرائيل جاءوا إلى برية سين في الشهر الأول من السنة الأربعين لخروجهم من أرض مصر، وأقاموا في موضع اسمه قادش فترة طويلة. وهناك ماتت مريم أخت موسى وهارون ودفنوها هناك، وهي واحدة من شخصيات قليلة كان موسى يستطيع أن يتحدث معها عن الحياة في أرض الفراعنة، وعن عبور البحر الأحمر، وعن الرحلة الطويلة التي ساروها مدة أربعين عاماً في صحراء سيناء. ولا بد أن موسى افتقد أخته مريم، فقد كانت بمثابة أم له، اعتنت به عندما وضعته في سفط من البردي وسط الحلفاء على شاطئ النيل العظيم. في ذلك الشهر الأول من السنة الأربعين لخروج بني إسرائيل من مصر، لم يجد بنو إسرائيل ماءً في قادش، فاجتمعوا على موسى وعلى هارون، يتذمرون عليهما تذمراً جديداً، وقالوا لهما: «ليتنا فنينا فناء إخوتنا أمام الرب. لماذا أتيتما بجماعة الرب إلى هذه البرية لنموت فيها نحن ومواشينا؟». لا بد أن بني إسرائيل تذكروا كيف فتحت الأرض فاها وابتلعت قورح وأولاده الذين ثاروا على قيادة موسى وهارون، فقالوا: «لماذا أصعدتمانا من مصر لتأتيا بنا إلى هذا المكان الرديء؟ ليس هو مكان زرع وتين وكرم ورمان، ولا فيه ماء للشرب».

هذه الكلمات التي اشتكى بها بنو إسرائيل ضد موسى، ترينا أنهم تجاهلوا كل الجهود الجبارة التي بذلها موسى معهم ومن أجلهم في كل السنوات السابقة. كما أنهم اتهموا موسى وهارون بمؤامرة، كأن موسى وهارون دبّراها لإهلاك كل الجماعة بالعطش. وبالرغم من أن سحابة الله كانت تظللهم، ومع أن المن كان يسقط يوماً فيوماً ليطعمهم، إلا أنهم وبخوا موسى ولعنوا المكان الذي حلوا فيه، وقالوا: «هذا المكان الرديء ليس هو مكان زرع وتين وكرم ورمان». وطلبوا ماء للشرب. ولا بد أن موسى تألم نفسياً ألماً شديداً من أولئك الذين لا يشكرون. ومضى موسى وهارون كعادتهما دائماً إلى باب خيمة الاجتماع، حيث يتعبد الشعب كله. وسقط موسى وهارون على وجهيهما خشوعاً وخضوعاً أمام الله. فقال الرب لموسى: «خذ عصاك واجمع الجماعة أنت وهارون أخوك، وكلم الصخرة أمام أعينهم أن تعطي ماءها، فتُخرج لهم ماء من الصخرة، وتسقي الجماعة ومواشيهم».

وكان موسى متعَباً بسبب موت أخته، كما كان متضايقاً من هذا الشعب الذي لا يشكر أبداً. فجمع موسى وهارون بني إسرائيل جميعاً أمام الصخرة، وقال لهم في غضب: «اسمعوا أيها المردة، أَمِن هذه الصخرة نُخرج لكم ماء؟» ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرتين، فخرج ماء غزير، فشربت الجماعة ومواشيها. فقال الرب لموسى وهارون: «من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل، لذلك لا تُدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها». وفي هذه الكلمات أعلن الله عدم رضاه على موسى، وأنه لن يستطيع أن يدخل أرض كنعان قائداً للشعب. كأن الله يطلب من موسى في هذا الموقف أن يستقيل.

ولا بد أن نتساءل: لماذا اتخذ الله مع موسى هذا الإجراء القاسي؟ الإجابة: بالرغم من أن أمر الله كان واضحاً أن يكلم الصخرة، إلا أنه في غضبه ضربها مرتين. وتقول التوراة إنه لم يقدس الله في أعين الشعب. كان ينبغي أن يقدم موسى مثالاً في الطاعة الكاملة لكل حرف من أوامر الله، ولكننا نكتشف أنه غيَّر الأمر. إن الله يهتم بكلمته ويريدنا أن ننفذها كما هي، لأنها لخيرنا.

أيها القارئ الكريم، ندعوك أن تستمع إلى أقوال الله وأن تطيعها تماماً من كل قلبك.

ولربما كان في تصرف موسى عندما ضرب الصخرة مرتين بدلاً من أن يكلمها إعلاناً لنقص إيمانه، كأنه أحس أن الكلام مع الصخرة لا يكفي، فكان يجب أن يفعل شيئاً أقوى، وهو أن يضربها بعصاه السحرية مرتين، لذلك قال الله له ولهارون: «إنكما لم تؤمنا بي». ألا يجعلنا هذا الكلام نسهر ونصلي لئلا يكون في أحدنا قلب شرير بعدم إيمان؟ (عبرانيين 3: 12).

وربما فكر موسى أن يستخدم الطريقة القديمة في إخراج ماء من الصخرة بأن يضربها، كما سبق له أن فعل (خروج 17: 1-7). ولكن عند الله طرق كثيرة، ولا يمكن أن الماضي يحكم الحاضر.

إن كنا نريد أن نعالج حالة جديدة تواجهنا بالطريقة القديمة التي عالجنا بها مشاكل متشابهة، وتحاشينا التوجيه الإلهي لنا، فإننا بذلك نُظهِر عدم الإيمان. فلنطلب من الله أن يعطينا إيماناً قوياً.

كان قلب موسى يتوق أن يدخل الأرض التي قاد الشعب كله ليصل إليها ويدخلها، ولكن ها هو بسبب غلطته يُحرم من دخول تلك الأرض. وحدَّث موسى بني إسرائيل قائلاً: «تَضَرَّعْتُ إِلَى ٱلرَّبِّ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ ٱلرَّبُّ، أَنْتَ قَدِ ٱبْتَدَأْتَ تُرِي عَبْدَكَ عَظَمَتَكَ وَيَدَكَ ٱلشَّدِيدَةَ... دَعْنِي أَعْبُرْ وَأَرَى ٱلأَرْضَ ٱلْجَيِّدَةَ ٱلَّتِي فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ لكن الرب غضب عليَّ بسببكم، ولم يسمع لي، بل قال لي الرب:«كَفَاكَ! لا تَعُدْ تُكَلِّمُنِي أَيْضاً فِي هٰذَا ٱلأَمْرِ... لا تَعْبُرُ هٰذَا ٱلأُرْدُنَّ»(تثنية 3: 23 - 26).

ليت الله يحفظنا لئلا تداهمنا تجربة فجأة على غير انتظار. فإذا حلَّت بنا التجربة في منتصف طريق حياتنا دعنا نطلب من الله أن ينصرنا عليها، لنطيعه بكل القلب وبكل النفس وبكل الفكر.

الفصل العاشر: موسى يُنهي خدمته

ها هي الأربعون الثالثة من حياة موسى توشك أن تنتهي. وسندرس في هذا الفصل قصة الحية النحاسية، ثم خطابات موسى الأخيرة التي فيها ذكر الشريعة كلها مرة ثانية، ثم نرى كيف انتهت حياة موسى كما لم تنته حياة شخص آخر غيره!

الحية النحاسية: (العدد 21)

في الشهر السادس من السنة الأربعين بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر، تذمر الشعب على الله وعلى موسى. أما سبب التذمر فإنه السير الطويل في الجو الحار في ذلك الوقت من السنة. وكانت الرحلة قد طالت، وتعب الجميع وبدأوا يتذمرون على الله وعلى موسى قائلين: «لماذا أصعدتمانا من مصر لنموت في البرية؟ لأنه لا خبز ولا ماء، وقد كرهت أنفسُنا الطعام السخيف». قالوا عن المن إنه طعام سخيف. عافته نفوسهم، لأنهم ظلوا يأكلونه أربعين سنة متتالية، مع أن التوراة تصفه لنا أنه كبذر الكزبرة، أبيض اللون، وطعمه كرقاق بعسل. وكان آباؤهم قد سبقوا أن قالوا لموسى: «من يطعمنا لحماً؟ لقد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجاناً، والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم، والآن قد يبست أنفسنا. ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن». وغضب الله على بني إسرائيل بسبب هذا التذمر الذي ليس في محله، فأرسل الرب عليهم الحيات المحرقة، فلدغت الشعب فمات منهم كثيرون. وأما القول بأن الحيات محرقة، فالظاهر أن المقصود به نوع الحيات شديدة السم التي لدغتهم. وظن البعض أنها وُصفت بالحيات المحرقة لأن لون رؤوسها الأحمر ولمعانها كان كالنار. وقال آخرون: إن شدة لمعان الشمس المنعكسة على أبدان الحيات جعلتها تبدو كالنار. وقال غيرهم إن لدغة الحيات المحرقة كانت شديدة الألم كلدغ النار. ولا زالت تلك المنطقة من سيناء مليئة بالحيات السامة كثيرة العدد. وعندما اشتدت لدغات الحيات على الشعب، وزاد عدد الذين ماتوا، التجأوا إلى موسى وقالوا له: «قد أخطأنا إذ تكلمنا على الرب وعليك، فصلِّ إلى الرب ليرفع عنا الحيات». وصلى موسى لأجل الشعب، فقال الرب لموسى: «اصنع لك حية محرقة، وضعها على راية. فكل من لُدغ ونظر إليها يحيا». فصنع موسى حية من نحاس ووضعها على راية، فكان متى لدغت حية إنساناً ونظر إلى حية النحاس يحيا.

هذه القصة التي حدثت في صحراء سيناء مع بني إسرائيل ذكرها السيد المسيح في حديثه مع رجل الدين اليهودي نيقوديموس، فقال له: «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ. ثم مضى المسيح يقول: لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ». لقد رفع موسى الحية في البرية، وانتقل السيد المسيح بمحدّثه نيقوديموس من المعلوم - أي من حادثة رَفْع موسى الحية في البرية - إلى غير المعلوم وهو أن المسيح سيُرفع على الصليب من أجل خطايا البشر (يوحنا 3: 14 - 16).

وهناك أربعة أوجه شبه على الأقل بين رفع موسى الحية في البرية وارتفاع السيد المسيح على الصليب.

  1. وجه الشبه الأول أن الحية النحاسية كانت على شبه الحية التي سبَّبت الموت. كذلك تجسَّد المسيح فيما يسمّيه الإنجيل «شِبْه جسد الخطية». الخطية التي سبّبت الموت للعالم. جاء المسيح إلى عالمنا مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس. ويقول الإنجيل المقدس عنه: «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلادُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ»(عبرانيين 2: 14). في كل شيء تجرب المسيح مثلنا.

  2. وهناك وجه شَبَه آخر، إن الحية التي رُفعت في البرية كانت خالية من السم لأنها كانت من نحاس، كذلك كان المسيح معصوماً من كل خطية لأنه من السماء. كل من عداه من رجال التوراة، والذين ورد ذكرهم في الإنجيل أخطأوا.. الجميع أخطأوا. واحد فقط كامل بدون عيب ولا خطأ، هو السيد المسيح (رومية 3: 12).

  3. وهناك وجه شبه ثالث، لقد رُفعت الحية في البرية على مرأى من الناس، كذلك صُلب السيد المسيح على تلة الجلجثة، وهي أكمة مرتفعة، فرآه كثيرون من البشر. وكل عليل بالخطية يرفع عينيه إليه ينال الشفاء، إن هو آمن بكفارته ووضع ثقته فيه. ولقد وردت كلمة «رفع» في بشارة يوحنا ثلاث مرات (يوحنا 3: 14، 8: 28، 12: 32) - في كل مرة منها تشير إلى الصليب والمجد الذي يليه. وفي هذه المرات الثلاث نطق بها السيد المسيح عن نفسه، فكان صليب المسيح رِفْعة له، يتمجّد به، ليراه كل خاطئ متعَب بخطاياه، وكل من لدغته أفعى الخطية، لينال الخلاص.

  4. أما وجه الشبه الرابع فهو أن النظر بالعين المادية كان واسطة الشفاء من لسعة الحية. والنظر الروحي بالإيمان للمسيح المصلوب هو واسطة الشفاء الروحي. وكل من ينظر إلى المسيح المصلوب من أجل خطاياه ينال غفران الخطية.

    أيها القارئ الكريم، ندعوك أن تنظر إلى المسيح المصلوب، لتنال غفران خطاياك.

خطابات موسى الأخيرة:

قدّم موسى وصاياه الأخيرة لبني إسرائيل في سلسلة خطابات وداعية، تضمنتها الأصحاحات الثلاثون الأولى من السفر المعروف في التوراة باسم سفر التثنية. والتثنية معناها أن نبي الله موسى ذكر الوصايا من جديد مرة ثانية - تكرار الوصايا. وسفر التثنية الذي يحوي تلك الخطابات الأخيرة التي ألقاها موسى، عامر بذكريات الماضي الرائع الذي تعامل الله فيه مع شعبه بكل محبة وعناية، كما أنه عامر بعبارات الشكر والعرفان بالجميل، بفضل الله الذي دائماً يحب ويعطي. كما أنه مليء بالتوسلات المؤثرة التي يوجّهها موسى للشعب، يدعوهم فيها إلى اتّباع الرب والسير وراءه والابتعاد عن عبادة الأوثان.

وتتكرر في سفر التثنية عبارات فيها: «احفظ»بمعنى: احفظ باجتهاد أقوال الله. و «احترز لتعمل» بمعنى: تنبَّه، فإن إبليس يريد أن يبعدك عن أن تعمل بكلمة الله. فاحترز لنفسك واعمل و «الرب يختار». ونحن نحتاج أن نحفظ كلمة الله في قلوبنا كما يقول المرنم في مزاميره: «خَبَّأْتُ كَلامَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلا أُخْطِئَ إِلَيْكَ»(مزمور 119: 11). وعلينا أيضاً أن نحترز لنعمل كل ما يكلفنا الله به، لأن ذلك مصدر سعادتنا. ثم نحتاج أن نتعلم أن الله يختار لنا طريقنا في الحياة، وأننا ينبغي أن نتبعه دائماً فيما يختار لنا.

ولتثنية ذكر الشريعة الإلهية أسباب، منها أن التثنية إكرام الشريعة، لما فيها من الحديث عن عناية الله ومحبته، وضرورة طاعته. ثم أن تكرارها كان ضرورياً لأن الذين أُعطوا الشريعة أولاً كانوا قد ماتوا، ونشأ جيل جديد، فأراد الله أن يكرر موسى لهم الشريعة التي أعطاها لآبائهم بواسطة موسى نفسه، لتتأثَّر نفوسهم من كلمة الرب كما تأثر آباؤهم من قبلهم. ثم أن سفر التثنية يكرر شريعة الله على سبيل الوعظ من وعد ووعيد، وإرشاد ونصح، وبيان ما يحتاج البشر إليه لينفذوه في حياتهم.

وتنقسم خطابات موسى الوداعية إلى ثلاثة أقسام. القسم الأول: يشمل الأصحاحات الثلاثة الأولى من سفر التثنية، وهي تذكر ما صنعه الله لبني إسرائيل منذ خروجهم من مصر إلى آخر السنة الأربعين التي شهدت نهاية رحلاتهم في صحراء سيناء. أما الجزء الثاني فيكرر الشرائع التي أعطاها الله لشعبه. وهذا يستغرق من الأصحاح الرابع إلى الأصحاح السادس والعشرين. أما القسم الثالث: فهو تكرار الشريعة الأخلاقية، والحض على طاعة الله، وهذا يستغرق أربعة أصحاحات من 27 - 30.

ويورد سفر التثنية الوصية العظمى التي اقتبسها السيد المسيح في تعليمه: «ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فَتُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ. وَلْتَكُنْ هٰذِهِ ٱلْكَلِمَاتُ ٱلَّتِي أَنَا أُوصِيكَ بِهَا ٱلْيَوْمَ عَلَى قَلْبِكَ، وَقُصَّهَا عَلَى أَوْلادِكَ، وَتَكَلَّمْ بِهَا حِينَ تَجْلِسُ فِي بَيْتِكَ وَحِينَ تَمْشِي فِي ٱلطَّرِيقِ وَحِينَ تَنَامُ وَحِينَ تَقُومُ»(تثنية 6: 4 - 7 ومتى 22: 37).

نبوة عن المسيح:

وتحتوي خطابات موسى الأخيرة على نبوة بمجيء السيد المسيح قال فيها: «يُقِيمُ لَكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ تَسْمَعُونَ... قَالَ لِيَ ٱلرَّبُّ: أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلامِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي لا يَسْمَعُ لِكَلامِي ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِٱسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ»(تثنية 18: 15 - 19).

ولقد تحدث الإنجيل المقدس أن السيد المسيح هو هذا النبي الذي من وسط إخوة موسى، ومثل موسى، وطالب الشعب أن يطيعه، وقال عنه إنه يجعل كلامه في فمه، فيكلمهم بكل ما يوصيه الرب به. فقد جاء في سفر أعمال الرسل الأصحاح الثالث: «فإن موسى قال للآباء إن نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يكلمكم به. أَنْتُمْ أَبْنَاءُ ٱلأَنْبِيَاءِ، وَٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي عَاهَدَ بِهِ ٱللّٰهُ آبَاءَنَا قَائِلاً لإِبْراهِيمَ: وَبِنَسْلِكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ. إِلَيْكُمْ أَوَّلاً، إِذْ أَقَامَ ٱللّٰهُ فَتَاهُ يَسُوعَ، أَرْسَلَهُ يُبَارِكُكُمْ بِرَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَنْ شُرُورِهِ»(أعمال 3: 25، 26).

نعم، كان المسيح من إخوة موسى، من سبط يهوذا، أرسله الله كما أرسل موسى ليرد الشعب إلى محبة الله.

ونبوّة موسى هذه لا يمكن أن تنطبق في تحقيقها على أحد من البشر. ولو أنها انطبقت على أحد منهم في أن موسى وغيره وُلد من أبوين، وتزوّج وأنجب، ثم مات ودُفن، فإنهما في هذا يشبهان جميع البشر. وهذا لا يبرهن نبوّة موسى ولا غيره. ولكن هذه النبوّة تعني السيد المسيح فقط كالنبي الموعود الآتي. وهناك أوجه شَبَه فريدة بينهما يختلفان فيها عن سائر البشر، هي:

  1. عند ولادة موسى هدد فرعون بقتله - وعند ولادة المسيح هدد هيرودس بقتله. وليس كل الناس يتهددون بالموت عند ميلادهم.

  2. أثناء الطفولة قدمت ابنة فرعون الحماية لموسى. أما المسيح فقد حماه خطيب أمه «يوسف». ولا ينال كل الناس حماية عند طفولتهم من أشخاص يعيّنهم الله للقيام بذلك عندما يقع عليهم التهديد.

  3. عاش موسى طفولته في مصر، بعيداً عن وطنه. وقد حدث الشي نفسه مع المسيح، فقد ترك وطنه إلى مصر. ولا يهرب كل الأطفال إلى مصر في طفولتهم.

  4. لما خدم موسى الله منحه قوة إتيان المعجزات، وهكذا المسيح كلمة الله الحي الذي نال قوة الله ليجري المعجزات، فشفى المرضى وأقام الموتى من قبورهم.

  5. حرّر موسى بني إسرائيل من عبودية المصريين، وحرّر المسيح من يتبعونه من أغلال الشر والموت.

  6. ومن هذا يتَّضح أن نبوّة موسى هذه كانت عن المسيح كلمة الله المتجسّد، كما أوحى الله للرسول بطرس أن يقول في أعمال 3: 25، 26.

موسى يقيم خليفته:

وقبل أن يموت موسى اهتم اهتماماً بالغاً بمن يخلفه، فقال للرب: «لِيُوَكِّلِ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ أَرْوَاحِ جَمِيعِ ٱلْبَشَرِ رَجُلاً عَلَى ٱلْجَمَاعَةِ يَخْرُجُ أَمَامَهُمْ وَيَدْخُلُ أَمَامَهُمْ وَيُخْرِجُهُمْ وَيُدْخِلُهُمْ، لِكَيْلا تَكُونَ جَمَاعَةُ ٱلرَّبِّ كَٱلْغَنَمِ ٱلَّتِي لا رَاعِيَ لَهَا»(العدد 27: 16 - 19). وإجابة لهذا الطلب أمره الرب بأن يأخذ يشوع بن نون، وهو رجل فيه روح الله، ويقدمه قدام أليعازر الكاهن، وقدام كل بني إسرائيل، ويوصيه أمام أعينهم. وتمم موسى هذا الأمر تماماً. فعندما بلغ المئة والعشرين من العمر قبل موته، دعا تلميذه يشوع وقال له: «تَشَدَّدْ وَتَشَجَّعْ لأَنَّكَ أَنْتَ تَدْخُلُ مَعَ هٰذَا ٱلشَّعْبِ ٱلأَرْضَ ٱلَّتِي أَقْسَمَ ٱلرَّبُّ لآبَائِهِمْ أَنْ يُعْطِيَهُمْ إِيَّاهَا. وَأَنْتَ تَقْسِمُهَا لَهُمْ. وَٱلرَّبُّ سَائِرٌ أَمَامَكَ. هُوَ يَكُونُ مَعَكَ. لا يُهْمِلُكَ وَلا يَتْرُكُكَ. لا تَخَفْ وَلا تَرْتَعِبْ»(تثنية 31: 7، 8).

ثم أودع موسى نصائحه في نشيدين رائعين، في الأول يحذر الشعب من الارتداد عن عبادة الله، وفي الثاني يمنح الشعب بركته الوداعية (التثنية 32، 33).

نهاية حياة موسى:

تقول التوراة: «وَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى عَبْدُ ٱلرَّبِّ فِي أَرْضِ مُوآبَ حَسَبَ قَوْلِ ٱلرَّبِّ. وَدَفَنَهُ فِي ٱلْجِوَاءِ فِي أَرْضِ مُوآبَ، مُقَابِلَ بَيْتِ فَغُورَ»(تثنية 34: 5، 6).

إن الكتاب المقدس هو كتاب الحياة، وهو يذكر حياة كثيرين من البشر بتفصيل، لكنه لا يذكر إلا القليل عن موت الذين يكتب عنهم، باستثناء شخص واحد كتب الكثير عن موته - هو شخص المسيح، لأن موت المسيح كان الهدف من مجيئه إلى العالم. ففي موته مصلوباً تم الفداء للبشر جميعاً. ولا يدوّن الكتاب المقدس إلا القليل عن شهادات أبطاله وأقوالهم واختباراتهم وقت الموت، بينما تضمن الكثير جداً من أعمال وأقوال الأشخاص الذين جاهدوا وتألموا وخدموا في معركة الحياة. ويفسر لنا هذا كيف تسجل التوراة في بساطة كاملة قصة موت موسى، ولو أنها فريدة فعلاً، فنحن لا نجد شخصاً مات كما مات موسى، تقول التوراة عنه: «مات موسى عبد الرب حسب قول الرب، ودفنه الرب، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم».

مات موسى بعد أن أكمل الخدمة العظيمة التي أعطاها الله له. ولا يسمو على موسى في معجزاته التي أداها الله بواسطته إلا السيد المسيح نفسه. لقد رأينا كيف أنزل الله بواسطة موسى الضربات العشر، وهي العقوبات العشر التي حلت بالمصريين، وكيف جفف الله مياه البحر الأحمر ليمر الشعب في وسطه بعد أن ضربه موسى بعصاه، وكيف جعل المياه المرة حلوة عند مارة. وكيف أرسل الله بواسطته السلوى إلى شعبه في برية سين. وكيف أخرج ماء من صخر عندما ضرب الصخرة مرتين لتخرج ماءً في رفيديم وفي مريبة. وموسى هو الوحيد الذي كلمه الله من على الجبل وجهاً لوجه، وأعطاه الوصايا العشر مكتوبة على لوحين من الحجر بأصبع الرب نفسه. وموسى هو الشخص الذي آزر الله نبوّته بمعجزات متنوعة، فأوقف فيها الذين حسدوه ولوّمهم. فها هو البرص يصيب أخته مريم لأنها غارت منه وحسدته وتكلمت ضده، وها هي الأرض تفتح فاها لتبتلع قورح وعشيرته الذين قاوموا قيادته. ورفع موسى الحية في البرية حتى أن كل من ينظر إليها ينال الشفاء من لدغة الحيات المحرقة التي لدغت بني إسرائيل المتذمرين في صحراء سيناء. وقاد الله شعبه بواسطته أربعين سنة بعمود من السحاب المعجزي الذي ظلل عليهم في النهار، وهداهم في الطريق، كما بعمود من النار في الليل ليبعد عنهم الوحوش المفترسة وليقودهم في سفرهم، إذ شاء الله لهم أن يسافروا بالليل أو بالنهار. لقد كان موت موسى موت رجل عظيم، تقول عنه التوراة: «وَكَانَ مُوسَى ٱبْنَ مِئَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً حِينَ مَاتَ، وَلَمْ تَكِلَّ عَيْنُهُ وَلا ذَهَبَتْ نَضَارَتُهُ»(تثنية 34: 7). وتستمر التوراة تقول: «وَلَمْ يَقُمْ بَعْدُ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ مُوسَى ٱلَّذِي عَرَفَهُ ٱلرَّبُّ وَجْهاً لِوَجْهٍ، فِي جَمِيعِ ٱلآيَاتِ وَٱلْعَجَائِبِ ٱلَّتِي أَرْسَلَهُ ٱلرَّبُّ لِيَعْمَلَهَا فِي أَرْضِ مِصْرَ بِفِرْعَوْنَ وَبِجَمِيعِ عَبِيدِهِ وَكُلِّ أَرْضِهِ، وَفِي كُلِّ ٱلْيَدِ ٱلشَّدِيدَةِ وَكُلِّ ٱلْمَخَاوِفِ ٱلْعَظِيمَةِ ٱلَّتِي صَنَعَهَا مُوسَى أَمَامَ أَعْيُنِ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ»(تثنية 34: 10 - 12).

نعم، رقد موسى الرجل العظيم، وأي عظيم يحيا ولا يرى الموت؟ ولقد كان العمل الأخير الذي أداه موسى قبل موته أنه اتخذ الإجراءات اللازمة للاحتفاظ بشريعة الله في حراسة قوية، ليضمن أن الشريعة ستبقى في أيدٍ أمينة، وأنها ستُقرأ بصفة مستمرة. لقد تمم الجزء الأول من هذا العمل عندما أودع كلمة الرب المكتوبة بجانب تابوت العهد في خيمة الاجتماع، ليحفظه اللاويون في عُهدتهم، ويقرأوا فقرات منه حين يجتمع بنو إسرائيل جميعاً في مكان العبادة الذي اختاره الله.

مات موسى بعد أن بارك بني إسرائيل جميعاً، كل سبط منهم ببركته. ويشتمل الأصحاح الثاني والثلاثون من سفر التثنية على ما نسميه ترنيمة موسى عبد الله، قال في مطلعها: «انصتي أيتها السماوات فأتكلم، ولتسمع الأرض أقوال فمي، يهطل كالمطر تعليمي ويقطر كالندى كلامي، كالطل على الكلأ وكالوابل على العشب، إني باسم الرب أنادي. أعطوا عظمة لإلهنا، هو الصخر الكامل صنيعه. إن جميع سبله عدل، إله أمانة لا جور فيه، صِدّيق وعادل هو».

وفي هذه الترنيمة الأخيرة العظيمة كرر موسى عبارات تشبّه الله بالصخر، وتحكي عن عطف الله على شعبه، منذ وجوده لأول مرة في أرض قفر، وهو يشبّه الله بالنسر الذي علَّم فراخه كيف تطير في الجو لأول مرة، ففي حب كامل يدربهم ليعيشوا حياتهم منتصرين بنعمة الله. ويقول إن الإله القديم ملجأ، والأذرع الأبدية تدعم شعبه من تحت، لترفعهم فوق التجارب والآلام.

مات موسى ودفنه الله في الجواء في أرض موآب، وكما أننا نثق أن الله يدبر حاجات الجسد في الحياة، نثق أنه يهتم بدفنه عند الموت. إنه يحدد المكان الذي يختلط فيه تراب كل واحد من أولاده بالأرض التي أُخذ منها، وعندما يُفتح القبر تتطلع عينا المؤمن إلى السماء، لأن روحه هناك، ولأن حياته الأبدية في محضر الله هناك. ومن القبر ينتظر كل مؤمن مجيء المسيح ثانية من السماء، «لأَنَّ ٱلرَّبَّ نَفْسَهُ سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلائِكَةٍ وَبُوقِ ٱللّٰهِ، وَٱلأَمْوَاتُ فِي ٱلْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَّوَلاً. ثُمَّ نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ ٱلْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعاً مَعَهُمْ فِي ٱلسُّحُبِ لِمُلاقَاةِ ٱلرَّبِّ فِي ٱلْهَوَاءِ، وَهٰكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ ٱلرَّبِّ. لِذٰلِكَ عَّزُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِهٰذَا ٱلْكَلامِ» (1 تسالونيكي 4: 16-18).

الفصل الحادي عشر: موسى شخص عظيم

عظيم هو موسى، الرجل الذي استخدمه الله لأنه أحب الله ووضع ثقته فيه. رأينا كيف دفنه الله في الجواء حيث لا يعرف أحد قبره - وفعل الله هذا لكي لا يعبده بنو إسرائيل.

وفي هذا الفصل الأخير من كتابنا نقدم أربع صفات لكليم الله موسى، نصلي أن يجعلها الله من نصيب كل واحد منا.

  1. عبد الرب: (تثنية 34: 5)

    الصفة الأولى التي لازمت موسى، ونجدها باستمرار في التوراة، هي صفة موسى «عبد الرب». كما كان إبراهيم «خليل الله» هكذا كان موسى «عبد الرب». كان موسى كامل الولاء لله، وكانت أمانته لربه في تحقيق ما يأمره به دائماً وأبداً مثلاً أعلى للمؤمنين. فعندما كان في مصر كان يقدم عبادته لله الواحد، مع أن المصريين كانوا يعبدون آلهة كثيرة. وعندما ذهب إلى مديان كان يفكر في الله تفكيراً يملك عليه عقله، حتى أنه سمى ابنه الثاني أليعازر لأنه قال: «إِلٰهُ أَبِي كَانَ عَوْنِي وَأَنْقَذَنِي مِنْ سَيْفِ فِرْعَوْنَ»(خروج 18: 4). وعندما دعاه الله ليخدمه بدأ يطيع أوامر الله، ونفَّذ تعليماته تنفيذاً حرفياً بكل قلبه. ويقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين إن موسى كان أميناً في كل بيت الله، ولكن بصفته خادماً، وكان ذلك شهادة فيما أعلنه الله فيما بعد. وكانت وصايا موسى لشعبه دائماً بالطاعة الكاملة لله. وعندما كانوا يتذمرون عليه يقول لهم: لماذا تجربون الله؟ وقال لهم مرة: «لماذا تتجاوزون قول الرب؟ الرب إلهك تتقي، إياه تعبد وبه تلتصق. هو صخرك وهو إلهك الذي صنع معك تلك العظائم والمخاوف التي أبصرَتْها عيناك».

  2. موسى المحبّ:

    وهناك صفة ثانية رائعة في موسى وهي محبته، لم يكن موسى يحتمل أن يؤذي أحداً، وكان يمد يد العون للجميع - وحتى عندما أقبل على قتل المصري فعل ذلك لأنه وجد المصري يعتدى على العبراني. وعندما ذهب إلى مديان رأى سبع بنات أتين ليسقين غنم أبيهن، ورأى الرعاة يطردونهن، فأنجدهن وسقى غنمهن. وعندما ثار الشعب ضده في مرات كثيرة كان يقف ليتشفع في الشعب الخاطئ أمام الله، ولذلك تشهد التوراة عنه قائلة: «وأما الرجل موسى فكان حليماً جداً، أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض». إن موسى يقدم لنا نموذجاً في الغفران ومحبة الذين يسيئون إليه.

  3. موسى المؤمن:

    هو رجل الإيمان. يقول الإنجيل المقدس عنه: «بالإيمان موسى لما كبر رفض أن يُدعى ابناً لابنة فرعون، بل اختار أن يتحمل المذلَّة مع شعب الله بدلاً من التمتع باللذات الأثيمة. فلقد اعتبر أن تلقي الإهانة من أجل المسيح الآتي، ثروة أعظم من كنوز مصر، لأنه كان يتطلع إلى المكافأة. بالإيمان ترك أرض مصر وهو غير خائف من غضب الملك، فلقد مضى في تنفيذ قراره كأنه يرى بجانبه الله غير المنظور» - لو أن موسى استمر ابناً لابنة فرعون لكان مكان إقامته الآن تابوتاً في المتحف المصري بالقاهرة، لكنه فضل أن يُذلَّ مع شعب الله خضوعاً لمشيئة الله وطاعةً لدعوته، وهكذا أكرمه الله ودفنه بنفسه، وضمَّ روحه إلى الأمجاد السماوية. كان إيمان موسى بالله مطلقاً وكانت ثقته في الله كاملة وعظيمة وقوية، ولا نظير لها. فإن كان إبراهيم أب المؤمنين، فإن موسى نموذج المؤمنين. كان الرب يكلم موسى وجهاً لوجه، كما يكلم الرجل صاحبه لأن موسى صاحب الإيمان الكبير الكامل بالله.

  4. موسى خادم الآخرين:

    وهناك صفة رابعة عظيمة في موسى كليم الله، نرجو أن تكون فينا كلنا هي أن موسى لم يكن يفكر في نفسه، لكن في غيره دائماً. كانت دوافعه كلها لا لعظمته الشخصية ولا لشهرته، لكن لخدمة الله وخدمة الآخرين. ألا تستطيع أن ترى هذا الأمير المصري العظيم المثقف يصبح فجأة راعياً للأغنام في مديان؟ وبعد أربعين سنة من عيشته في قصر فرعون يعيش أربعين سنة في الصحراء، يرعى أغنامه. وتستطيع أن تلاحظ محبة موسى لغيره وهو يدفع أخاه هارون ليكون قائداً، بل إنه يصلي لله طالباً أن يمحو الله اسمه من كتابه الذي كتب في سبيل الغفران لإخوته، فكان أن أكرمه الله بأن أبقى اسمه خالداً. لم يطلب موسى لنفسه اسماً مشهوراً، ولا مكانة لأولاده، ولم يعيِّن خليفته من أفراد أسرته، لكنه تحت الإرشاد الإلهي اختار يشوع ليخلفه، فاستحق اللقب الذي أطلقته التوراة عليه «موسى رجل الله.. موسى عبد الرب». وأن يلقبه صاحب المزامير بقوله: «موسى مختار الرب» (مزمور 106: 23).

    إننا نصلي أن تكون حياة موسى كليم الله مصدر بركة وإلهام لنا كلنا.

مسابقة الكتاب

إن جاوبت على عشرين سؤالاً من هذه الأسئلة الخمسة والعشرين، نرسل لك كتاباً جائزة. اكتب اسمك وعنوانك كاملين وبوضوح داخل الرسالة وليس على المظروف فقط.

  1. كيف تشبه حياة العبرانيين في مصر حياة الخطاة؟

  2. اذكر أسماء والد موسى ووالدته وأخته وأخيه

  3. لماذا هرب موسى إلى مديان؟

  4. لماذا لم تحترق العليقة مع أنها كانت مشتعلة؟

  5. ما هو الدرس الذي نتعلمه من العليقة في موضوع تجسد المسيح؟

  6. اذكر ثلاثة اعتذارات من الخمسة التي قدمها موسى لعدم قبول دعوة الله.

  7. ما معنى قول الله لموسى «جعلتُك إلهاً لفرعون» )خروج 7: 1)؟

  8. ما هو الهدف من توجيه الضربات العشر، لفرعون، وآلهته؟

  9. لماذا نجا أبكار بني إسرائيل من الهلاك؟

  10. لماذا أعطى الله بني إسرائيل عمودي السحاب والنار؟

  11. كيف انشقَّ البحر الأحمر؟

  12. كيف صار ماء «مارة» عذباً؟ وماذا نتعلم من ذلك؟

  13. اشرح جهالة خطية التذمر.

  14. من هو المنّ الحقيقي الذي نزل من السماء، وكيف نأكله؟

  15. كيف انتصر بنو إسرائيل على عماليق؟ وماذا نتعلم من ذلك؟

  16. عمل يثرون أشياء حكيمة في زيارته لموسى - اذكر شيئين منها.

  17. اذكر الوصايا العشر.

  18. لماذا كسر موسى لوحي الشريعة؟

  19. لماذا طلب الله إقامة خيمة الاجتماع؟

  20. اذكر ثلاث متاعب واجهها موسى.

  21. ماذا نتعلم من حكاية الحية النحاسية؟

  22. اقتبس الإنجيل نبوة موسى عن مجيء السيد المسيح - اكتب النبوة وتحقيقها كما ورد في تثنية 18: 15-22 وأعمال الرسل 3: 22.

  23. اذكر تشبيهين قدَّمهما موسى عن الرب في ترنيمته الأخيرة العظيمة.

  24. موسى «عبد الرب» - كيف ظهر هذا في حياة موسى؟

  25. موسى «رجل الإيمان» - كيف ظهر هذا في حياة موسى؟

 
Call of Hope 
P.O.Box 100 827 
D-70007 
Stuttgart 
Germany