العودة الى الصفحة السابقة
الزواج في المسيحية

الزواج في المسيحية

القس. جون نور


Bibliography

الزواج في المسيحية. القس. جون نور. الطبعة الأولى. 1998. Order Number SPB 5405 ARA. German title: Die Ehe im christlichen Leben. English title: Marriage in Christian Life. Copyright © 1998 All Rights Reserved Call of Hope. P.O. Box 100827 D-70007 Stuttgart Germany Internet: http://www.call-of-hope.com - .

الفصل الأول: العائلة والله

الزواج أو البيت هو أهم مؤسسة على الأرض، فهو نواة المجتمع، وعليه تقوم الدولة. ومعنى هذا أنه كما يكون البيت هكذا يكون المجتمع، فالمجتمع الصالح هو برهان البيت الصالح، والمجتمع الفاسد هو برهان البيت الفاسد والمفكك.

أخذ الكثيرون مفاهيمهم عن الزواج والعائلة من مصادر مغلوطة ومبادئ وفلسفات ملتوية، فقد أخذها بعضهم من الأفلام السينمائية، وبعضهم الآخر من التلفزة، وبعضهم الثالث من المجلات والكتب والمطبوعات الرخيصة اللاأخلاقية! أما المصدر الصحيح فهو كلمة الله كما جاءت في الكتاب المقدس.

الزواج هو بترتيب من الله. هو الذي رسمه وسنَّه وقدَّمه للإنسان لخيره وسعادته. الله هو مهندس الزواج وواضعه ومصدره! فالزواج ليس صفقة تجارية، ولا اتفاقية تأجيرية، بل هو رباط مقدس أمام الله والناس يدوم مدى الحياة. لهذا نقرأ في الكتاب المقدس أن المرأة مرتبطة بالناموس ما دام رجلها حياً... ونقرأ أيضاً أن الرجل يترك أباه وأمه ويلتصق بامرأته. وهذا الالتصاق يدوم إلى أن يفرقهما الموت.

الزواج هو بين رجل واحد وامرأة واحدة، لا بين رجل واحد وعدة نساء، ولا بين رجل وآخر، أو بين إمرأة وأخرى. فهذه البدائل هي شر فظيع لأنها خروج على قاعدته. فالله خلق في البدء رجلاً واحداً هو آدم، ومن آدم صنع امرأة واحدة هي حواء. ولهذا تقول كلمة الله إن الرجل يترك أباه وأمه ويلتصق بامرأته، لا بصاحبته، ولا بزوجة جاره أو زميلته في العمل. ومن يخالف هذا الترتيب يخالف ترتيب الله، ويعرض نفسه لدينونة الله وغضبه، لأن العاهرين والزناة سيدينهم الله.

وهذا الانفصال عن الوالدين والأهل هو في الأساس في حيز العاطفة والفكر، وقد يكون أحياناً انفصالاً جغرافياً جسدياً. غير أن هذا الترك أو الانفصال لا يعني نسيان الأهل أو عدم إكرامهم ومساندتهم، بل هو تحرر واستقلال في المسؤولية والإدارة. فالعروسان وحدهما هما المسؤولان عن إدارة بيتهما الجديد، ومن الخطأ بمكان كبير أن يتدخل الأحماء والحموات في شؤونهما. فالانفصال ضروري ولو بدا صعباً ومصحوباً بالدموع في يوم العرس.

الفصل الثاني: دعوة إلى القداسة

كل يوم في حياتنا مشحون بالقرارات الصغيرة الغير المتكاملة التي لا تأثير لها على حياتنا. إلا أن هناك قرارات أكثر أهمية تؤثر على حياتنا لسنين قادمة، وقد تصل حتى إلى يوم وفاتنا. ومن هذه القرارات مثلاً: هل سألتحق بالجامعة أم هل سأحصل على وظيفة بعد الدراسة الثانوية؟ ماذا أنوي أن أعمل في ما تبقى من حياتي؟ هل سأنخرط في سلك الكهنوت أو الرهبنة أو القسوسية؟ هل أتزوج أم لا؟

ولا يمكن أن قرارات خطيرة مثل هذه أن تتم بين عشية وضحاها، لأنها تتطلب تفكيراً عميقاً من أجل الحصول على الإرشاد والتوجيه. ويبدو أن مثل هذه الخطوات التحضيرية لاتخاذ القرار غالباً تُهمل عند التفكير بالزواج، فيُقدم الناس على الزواج بدون هدف معين. فبدلاً من إظهار الالتزام الإيجابي والحقيقي للعيش بقدسية الزواج، يقرر الناس الزواج بدون إستعداد، فيصبح الزواج نوعاً من أنواع الإحباط بدلاً من أن يكون دعوةً مسيحية للقداسة الحقة...

يدعو الله الإنسان إلى الزواج المسيحي بنفس الطريقة التي يدعوه بها لخدمته في القداسة. ولقد شهد هذا القرن اعترافاً كبيراً واضحاً بالكرامة والقداسة المرتبطة بالحياة الزوجية، فهي حقاً دعوة مقدسة لها مكانتها الهامة في الكنيسة.

ويجب أن يكون واضحاً للجميع أن الزواج يتطلب اعتباراً واهتماماً وتقديراً من الذين يُقدمون عليه. ففي الزواج المسيحي يدعو المسيح رجلاً وامرأة إلى الاتحاد الوثيق مع بعضهما ومعه أيضاً، وبهذه الدلالة المقدسة يشهدان أمام العالم بمحبة الله الكامنة بين شخصين، ومحبة الله نحو الكنيسة. وبفضل قوة هذا السر يكافح الزوج والزوجة في حياتهما لتعميق اتحادهما واتحاد القداسة التي دعاهما الله إلى تحقيقها.

ويجب الاعتراف هنا أن هذا الأمر مثالي، ويتوجب على كل زوجين محاولة تحقيقه أثناء حياتهما، فإن الرب قد دعاهما إلى العيش سوياً، وسيبقى دائماً موجوداً بنعمته لمساعدتهما في تحقيق هذه الغاية.

المهم أن يعيش الزوجان حياتهما الزوجية كزوجين مسيحيين، لأن كلمات مراسيم الزواج تُتلى مرة واحدة، أما مفهوم الزواج فيبقى دائماً، وقدسيته واجبة وملزمة لبناء البيت المسيحي المؤسس على الإيمان والصلاة.

فنعمة الله هي التي تمكّن الزوج والزوجة لتجسيد المُثل التي تنص عليها تعاليم الإنجيل والكنيسة. ونعمة الزواج هي المرشد للشخص المتزوج الذي يكافح للوصول إلى عمل لإعالة عائلته، أو الذي يحاول الانتقال إلى نمط حياة جديدة. وفي الاوقات العصيبة والمنازعات تعمل قوة الزواج كنور للعقل الذي يوصي بإيجاد حلول للمصاعب. فهذه النعمة موجودة لتقوّي الإرادة لاتخاذ القرارات الصعبة في الحياة المسيحية، أو تنظيم الأسرة عند تعليم المبادئ الخلقية السليمة للأبناء.

وما لم يكن الزوج والزوجة قابلين لوجود الله في حياتهما اليومية فإن نعمة الزواج ستبقى موهبة غير مستغلة، وستبقى غير ذي فائدة، مثلها مثل حقول البترول الغير مستغلة. ومن ناحية أخرى فإن القوة الكامنة في هذه النعمة هي كبيرة، توازي القوة الكامنة في الأرباح التي تجنيها من هذه الحقول. فالزوج والزوجة اللذان يتعاونان مع الرب في الزواج سيجدان أن نعمته تكفي لمواجهة التجارب والمحن التي قد يصادفانها. وبهذه الطريقة يستطيع الزوجان أن يجسِّدا مهمة الزواج، وأن ينموا حقاً بالقداسة وسبل الكمال المسيحي، فيجدان الله ويُظهران عظمته لكافة البشر. وبعد حياتهما على الأرض يكونان مستعدَّين لدخول فرح الملكوت السماوي.

الزوج وزوجته هما جسد واحد، فكل ما يفعله الزوج لإسعاد زوجته سيعود إليه في صورة بركة، «مَنْ يُحِبُّ ٱمْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ» (أف 5: 28). فالحب الذي يمنحه الزوج لزوجته سيرجع إليه عن طريقها. وإذا ادَّعى إنسان أنه لا يحصد بركات روحية عن طريق زوجته فما هذا إلا لأنه لم يزرع لها شيئاً. وعلى مثل هذا الزوج أن يفحص نفسه، لأن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً.

كلمة «زوج» في اللغة الإنجليزية معناها رباط البيت. فالزوج هو الذي يربط البيت معاً. يقول أحد الكتّاب: «هل سمعتم يوماً تفسير كلمة زوج؟ إنها تعني حرفياً رباط البيت ودعامته، أي كمن يبقيه متماسكاً كما تحفظ الربطة المحيطة بحزمة الحنطة الحزمة من التفكك. لذلك فهناك رجال متزوجون، ولكنهم ليسوا أزواجاً بمعنى الكلمة، لأنهم ليسوا دعائم البيت. فالزوج يمسك البيت معاً بما يقدمه لزوجته من خدمة جسدية وروحية».

وقد يتحطم رباط الأسرة إذا فشل الزوج في القيام بواجبه، كما تتناثر باقة الورد إذا قطع الرباط الذي يمسك أجزاءها معاً.

لقد جعل الله لآدم زوجة كي تكون معينة له. والمعنى الأصلي لكلمة «معين» هو الإحاطة، فالزوجة هي التي تحيط زوجها بالمحبة والمشاركة واللطف. فإذا كانت دعامة الرجل قوية ارتبط الإثنان معاً في وحدة شركة مباركة، وفي هذه الحالة تستطيع الزوجة أن تحيط زوجها بصدى بركاته لها بكيل جيد ملبَّد ومهزوز وفائض، لأن أثرها الكامل كمعينة محيطة به يتوقَّف على مدى تأثيره كضابط ورابط لوحدتهما معاً.

وربما يكون من الملذ أن نعرف معنى كلمة زوجة في اللغة الإنجليزية: الناسجة أو الحائكة. فالزوج في خدمته الروحية يقدم لزوجته النعم الغنية والبركات التي تحيكها بدورها في نسيج الحياة الزوجية بما يؤدي إلى فرح الأسرة كلها وبركتها، وبذلك لا يأخذ الزوج ما يعطيه فقط، بل يأخذه مزيداً، كيلاً ملبداً ومهزوزاً. فكل حبة من حبات البركة الروحية يعطيها الزوج لزوجته تتزايد، وتعود إليه مضاعفة. حين أخذ الله حواء من جسد آدم أخذها ضلعاً صغيراً ثم أعادها إليه في صورة مضاعفة من الأيدي الخادمة، والعيون المتطلعة إليه بشغف، والأقدام التي تتبعه أينما ذهب، والعقل الذي يشاركه التفكير والتدبير، والآذان التي تصغى إلى كل كلمة يقولها ... جسم كامل حي، ونفس تحبه... وهكذا وما زال الله يُكثر للرجل ما يأخذه منه. وأيضاً كما تكون الأسرة يكون المجتمع. فالأسرة هي الوحدة الأساسية للحياة الإجتماعية.

الله نفسه هو الذي أسس شريعة الزواج منذ آدم وحواء.فعندما خلق الله العالم رأى كل شيء في الجنة حسناً ما عدا وجود آدم وحده: «لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِيناً نَظِيرَهُ» (تكوين 2: 18). فتمم هذا. وأُخذت حواء منه، وأُعطيت إليه لتكون له معينة ورفيقة. وأعتقد أنه لهذا السبب - كما يُردد كثيراً - خُلقت المرأة من أحد أضلاع آدم، لا من قدمه لئلا يطأها، ولا من رأسه لئلا ترأسه، ولا من يده لئلا يتحكم فيها، بل من جنبه لكي تكون بجانبه، ومن تحت ذراعه فيحميها، وبالقرب من قلبه فيحبها.

الزواج جميل. ومع أن حياة العزوبية أفضل في بعض الأحيان لكنها ليست مطلوبة في كل الأحوال. والله هو الذي تمم إجراءات أول زواج، فإنه بعد أن خلق حواء «أَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ» (تك 2: 22).

وللزوج وللزوجة أعطى الله البنين. فقد بارك الله البشر «وَقَالَ لَهُمْ: أَثْمِرُوا وَٱكْثُرُوا وَٱمْلأُوا ٱلأَرْضَ» (تك 1: 28). وتكرر هذا الأمر أكثر من مرة. ولقد قصد الله أن يكون الأولاد بركة للبيت، لا عبئاً أو نيراً على الوالدين. ليست الأبوة أو الأمومة استشهاداً، «هُوَذَا ٱلْبَنُونَ مِيرَاثٌ مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ، طُوبَى لِلَّذِي مَلأَ جُعْبَتَهُ مِنْهُمْ» (مز 127 : 3 و5).

وهكذا إذ نتبع آثار تاريخ الأسرة نجد أنها كلها نشأت من الله. فالشاب والشابة يتزوجان، والزوج والزوجة والبنون يكونون أسرة، والأسرة تبني بيتاً. والبيت يمكن أن يكون أجمل مكان على الأرض، كما قصد الله له أن يكون، دون أن يكون ثقلاً، أو عناءً لكل الساكنين فيه. ومما يؤسف له أن الكثير من البيوت ليست كما قصد الله لها. وفي الأيام المحزنة التي نعيش فيها الآن، التي كان يجب أن يكون البيت فيها حصناً للعطف والرقة والمحبة، حصناً حصيناً لا يخزى قط ، ويقدم لكل سكانه ملجأً وقت العواصف، قد أصبح، في كثير من الحالات مجرد مكان لتناول الطعام، وللنوم.

يقضي الكثيرون من الوالدين شهوراً وسنوات للتدقيق في اختيار ما يلزم لتأثيث منزل جميل، دون أن يقضوا أي وقت لجعل ذلك المنزل بيتاً. إنهم يحرصون على أن يكون لون غطاء الكراسي منسجماً مع لون السجاجيد، وألا يتنافر هذا مع لون الأثاث. ووسط كل هذه الجهود التي تبذل في اختيار أثاث البيت فإنه لا يبذل أي جهد لاختيار الألفاظ التي تعبِّر عن المحبة والعطف واللطف.

إنهم يحرصون على أن يكون كل شيء في موضعه، فهنالك موضع لكل شيء، لكن لا موضع لله. وبعد بضع سنوات من بناء المنزل نقف في وسطه ونجد أن محاولة ربط الأطراف المتنافرة في الأسرة كمحاولة صنع صديري من الصوف باستخدام يدي مكنسة بدلاً من الإبرتين المعتادتين. لقد بنينا منزلاً وأثَّثناه، لكننا فشلنا في بناء أسرة.

ولعلاج هذه الحالة الأليمة ظهر كثيرون من الخبراء في شؤون الحياة العائلية. لم تُبذل في الماضي جهود لتوفير السعادة العائلية بقدر ما تبذل اليوم. وأعتقد أن الشيء الوحيد الذي يمكن شراؤه اليوم بثمن زهيد جداً هو شراء كتاب تقدم فيه النصيحة نحو زواج سعيد، أو بناء أسرة، أو تربية الأطفال . فإنك بثمن جريدة يومية تستطيع شراء أحدث مؤلَّف عن العلاقات الزوجية. أو كتاباً عن أفضل الطرق لمعاملة زوجتك.

وما أكثر الخبراء والمشيرين في شؤون الأسرة والزواج وتربية الأطفال. والبعض ممن يكتبون هذه الكتب مخلصون، لكن الكثيرين يستغلون الموقف لمنفعتهم المادية.

ويخيَّل للمرء أنه مع توفر مثل هذه النصائح الكثيرة، للوالدين الكثيرين، بثمن زهيد جداً، كان يجب أن تكون عائلاتنا أسعد حالاً، والزواج أكثر استقراراً، وأبناؤنا أفضل وضعاً. لكن هذا لم يحدث. والواقع أنه مع توفر هيئات أكثر اليوم، ومعلمين أخصّاء وكتب متنوعة، ونظريات مخصصة للبحث عن سعادة الأسرة، فربما توجد تعاسة أكثر في الزيجات، وخطايا أسوأ، وأحزان أعمق في الأسرة، وحالات عهارة ونجاسة أكثر بين الوالدين، وضلالات مستشرية بين الجدران الأربعة لما نسميه أسرة أكثر من أي عصر في التاريخ.

ولعله قد حان الوقت لكي نقف ونسأل أنفسنا: إن كان الله هو الذي كوَّن الأسرة، أفلا يكون هو الخبير الحقيقي الوحيد؟ إن كان الله هو أول من جمع بين الرجل المرأة، فمن يكون أفضل منه لكي يحفظهما معاً؟ إن كان الله هو الذي أوجد الحياة العائلية، أفلا يكون هو المسؤول عن حفظها متماسكة؟ أيمكن أن يوجد طبيب نفسي لعلاج الأطفال نفسياً أفضل من خالق الأطفال؟ إن كان الله يريد أن يكون البيت مكاناً جميلاً مقدساً على الأرض أفليست نصيحته هي أفضل نصيحة؟ هل نحن في حاجة إلى نصائح جديدة بطرق ملتوية جديدة؟ أم لا تزال النصيحة القديمة هي الأفضل عند ممارستها؟

رغم وجود عشرات الألوف من الكتب والنصائح عن سر البيت السعيد فإننا نعتقد أن أفضل نصيحة هي التي دُوِّنت منذ مئات السنين على صفحات الكتاب المقدس: «إِنْ لَمْ يَبْنِ ٱلرَّبُّ ٱلْبَيْتَ فَبَاطِلاً يَتْعَبُ ٱلْبَنَّاؤُونَ» (مز 127: 1). إذاً فهنا نجد السر، وهو أن البيت يجب أن يبنيه الرب. إن الكتاب المقدس هو كتاب العائلات، وقد كُتب عن العائلات من أجل العائلات. فيه يحقق الله كل إعواز البيت والأسرة - بيتك أنت بالذات. فيه تجد الحل الذي يقدمه الله لكل مشاكل الأسرة - أسرتك أنت بالذات.

لن يوجد مشير للأسرة أفضل من الله نفسه، ولن توجد نصيحة أفضل من نصيحته، ولن يوجد مثل أعلى في كل العالم يمكن أن يقدم لك سعادة عائلية أفضل من المثل الأعلى الذي وضعه الله للأسرة.

لن يوجد كتاب أكثر سلطة ونفوذاً يقدر أن يشخِّص أعراض مرض البيت المريض، ويصف له الدواء المناسب، أفضل من كتاب الله، الكتاب المقدس.

لن توجد هيئة يمكنها أن تساعدك لجعل بيتك أقدس مكان على الأرض أفضل من كنيسة يسوع المسيح.

أيها الآباء والأمهات، لا يوجد شيء أعظم تفعلونه لبيوتكم ولبنيكم ولأنفسكم سوى أن تسلموا أنفسكم بدون تحفظ - ليسوع المسيح كمخلص نفوسكم، ورب حياتكم، ورجاء أسرتكم.

نعم أيها الآباء والأمهات، إن المكان الذي تعيشون فيه أنتم وعائلاتكم، يمكن أن يكون أفضل من منزل. إنه يمكن أن يكون بيتاً، والأفضل من هذا أن يكون بيتاً مسيحياً يكرم فيه الله، ويتشرَّف بحلول الرب يسوع فيه، وتحل فيه البركات التي لا يمكن أن يمنحها غيره. يمكن أن يكون بيتاً يُقرأ فيه الكتاب المقدس، وتُرفع فيه الصلوات العائلية، ويحل فيه السلام والوئام، ويعيش فيه الوالدون لبنيهم، والبنون لوالديهم، والكل لله.

لكن قد يقول قائل: أليس مثل هذا البيت مثلاً أعلى يستحيل تحقيقه؟ نعم إنه مثل أعلى. هو مثل أعلى لبيتك. هو مثل أعلى يستحيل بناؤه إلا إذا بناه الله. لأنه «إِنْ لَمْ يَبْنِ ٱلرَّبُّ ٱلْبَيْتَ فَبَاطِلاً يَتْعَبُ ٱلْبَنَّاؤُونَ» (مز127: 1). وعندما يبني هو البيت فإنه يحقق المثل الأعلى.

في كلمة الله، أي في الكتاب المقدس، نجد النموذج للبيوت التي يبنيها. وقد كُتب المُؤَلَّف الذي بين يديك الآن لشرح التفاصيل الرئيسية لهذا النموذج بالإيجاز. وإننا ندعوكم أيها الآباء والأمهات، والشبان والشابات، لتتبعوا بدقة وتتأملوا ملياً فيما جاء به.

الفصل الثالث: البيت المسيحي

هل خطر ببالك يوماً أن تسأل: ما هو البيت المسيحي؟ ما هو الفرق بين البيت المسيحي وأي بيت آخر، وما الذي يجعل البيت مسيحياً؟ واضح أن الإجابة هي: المسيح. فبدون المسيح لا توجد كلمة مسيحي. إذاً فبدون المسيح لا يمكن أن يُسمى أي شيء مسيحياً - سواء كان فرداً، أو كنيسة، أو بيتاً.

بديهي إنه لا يمكن صنع شراب الليمون بدون ليمون، ومع ذلك فما أكثر الوالدين المخلصين سليمي النية الذين يحاولون أن يبنوا بيوتاً مسيحية بدون المسيح. لقد أحضروا إلى بيوتهم كتباً مسيحية، وصوراً مسيحية، لكنهم نسوا أن هذه ليست هي المسيح. وما لم نأت بشخص المسيح إلى البيت، فلا يمكن أن نبني بيوتاً مسيحية.

إن الثقافة المسيحية، والأحاديث النقية، والسلوك المستقيم - هذه كلها ثمار الحياة المسيحية، «مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ» (مت 7: 16). لكن مهما كانت هذه الفضائل جوهرية فهي ليست إلا الثمار، وليست الشجرة نفسها. هي نتيجة الحياة المسيحية لا علتها. وإن قال أحد إن له صورة التقوى ومظاهرها فهذا يعني أنه لم يختبر قوتها.

إذن فما هو الفرق الجوهري بين أي بيت وبين البيت المسيحي؟ ما الذي يجعل البيت بيتاً مسيحياً؟ هنالك عوامل كثيرة، لكنها كلها من عمل الرب يسوع المسيح. هو وحده الذي يجعل البيت بيتاً مسيحياً.

قد يكون الأب خبيراً ماهراً في الشؤون الزوجية وذلك بكثرة الدرس. وربما تكون الزوجة قد حصلت على درجة عالية في الاقتصاد المنزلي. وقد يكون الاثنان معاً مثقَّفين في العلوم النفسية للطفل. وقد يكون في بيتهما أحدث المخترعات لتوفير الرفاهية. ومع كل هذا، فينبغي القول بأنهما إن أرادا بناء بيت مسيحي بدون المسيح فإنهما يضيعان وقتهما سدى، لأن المسيح وحده هو الذي يجعل البيت مسيحياً. المنزل الجميل والأثاث الفاخر، ومستلزمات المطبخ الحديثة - حسن أن تتوفر هذه كلها، ومع ذلك فليس شيء منها جوهرياً لإيجاد بيت مسيحي. لكن الرب يسوع وحده هو الذي يستطيع. فالبيت المسيحي يمكنه أن يستغني عن أشياء كثيرة لكنه لن يستغني عن المسيح.

ولماذا نقول كل هذا؟ نقوله لأن البيت المسيحي يبدأ هنا. فإن كنت أنت مسيحياً حقاً استطعت أن تفعل أشياء كثيرة لتجعل بيتك أكثر مسيحية. وفي الفصول التالية سوف نرى بعضاً من هذه الأشياء الكثيرة. أما إن لم تكن مسيحياً حقاً فأمامك شيء واحد، هو أن تصبح مسيحياً بالروح والحق. قبل أن يصير بيتك بيتاً مسيحياً يجب أن تكون أنت مسيحياً. قبل أن يعرف بيتك البركات التي لا يمنحها أحد سوى المسيح يجب أن تعرف أنت المسيح مانح هذه البركات. قبل أن يحل المسيح في بيتك يجب أن يحل في قلبك. قبل أن تصالح بيتك مع الله يجب أن تصطلح أنت معه.

ألا يمكن أن يكون المخلِّص الآن واقفاً على باب الأب والأم كليهما قائلاً: «هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى ٱلْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ ٱلْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤ 3: 20)؟

إذن فلماذا لا تبدأ من البداية؟ افتح الآن باب قلبك وباب بيتك، ودع المسيح يدخل.

الفصل الرابع: رب البيت

من هو رأس البيت؟ هذا السؤال البريء في ظاهره طالما سأله الزوجان، سيما بعد زواجهما مباشرة. وهو سؤال يوجَّه عادة بلا ترو، ويقابل بلا ترو، وتُعطى عنه الإجابة بلا ترو.

قال مرة زوج شاب شارد الفكر: زوجتي تهيء الطرق، وأنا أهيء الوسائل. وقال زوج بحدة لزوجته: أنا هنا الرئيس، أليس كذلك؟ فقالت الزوجة: إن كان الرجل هو رأس البيت فالمرأة هي العنق التي تدير الرأس. ولعل هنالك بعض الحكمة في هذه الكلمة الأخيرة، فيقيناً إن وراء كل رجل فاضل إمرأة أفضل.

إن السؤال جوهري، ونتائجه خطيرة. لأنه كما يسير الرأس يسير البيت. إذا نام الراعي، أو أهمل، ضلت الخراف. إن كان أعمى يقود أعمى سقط الاثنان في حفرة. يتعذر على الكنيسة أن تتفوَّق على راعيها، ويتعذر على البيت أن يتفوق على رئيسه. فمن هو رأس بيتكم؟

لقد أوضح استفتاء أُجري بين ألف حالة زواج أن البيوت التي ترأسها الزوجة توفرت السعادة في 47٪ منها، والبيوت التي يرأسها الرجل توفرت السعادة في 61٪ منها، والبيوت التي اشترك الزوجان في قيادتها توفرت السعادة في 87٪ منها.

لعل هذه الأرقام تعطينا الإجابة. لكننا نود أن نقرر أن هنالك طريقة أفضل لم يتجه إليها الاستفتاء: هي البيوت التي يكون فيها المسيح هو الرأس. هذه لن تفشل أبداً. إن أقل عدد يتكوَّن منه البيت المسيحي ليس اثنين بل ثلاثة، وهم الرب يسوع المسيح والزوج والزوجة. والمثل الأعلى للبيت المسيحي هو هذا: «أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَأْسَ كُلِّ رَجُلٍ هُوَ ٱلْمَسِيحُ. وَأَمَّا رَأْسُ ٱلْمَرْأَةِ فَهُوَ ٱلرَّجُلُ» (1كو 11: 3). وهكذا ترون أن الأمر الجوهري ليس هو أن تكون المرأة خاضعة للرجل، ولا أن يكون الرجل خاضعاً للمرأة، بل أن يكون الاثنان خاضعين للمسيح. قبل أن يرتبطا بالزواج يجب أن يكونا مرتبطين بالمسيح، فإن الزوجة لا يمكنها الخضوع للزوج خضوعاً صحيحاً إلا إذ عرفت أن تخضع للمسيح أولاً. والزوج لا يمكنه أن يوجّه زوجته إلا إذا عرف كيف يوجّهه المسيح. إن نظام الله للبيت يجب أن يكون مؤسساً على طاعة الرجل للمسيح.

كثيراً ما شُبِّه البيت بسفينة تسير في بحر الحياة. في بعض الأحيان يكون البحر هادئاً، لكنه كثيراً ما تجتاحه العواصف. والعادة أننا نستطيع أن نواجه أعنف العواصف بهذه الطريقة أو غيرها. لكن العواصف في بعض الأحيان قد تكون عنيفة جداً تهدد السفينة بالغرق. والمشكلة هي: كيف نحفظ السفينة من الغرق؟

أتذكرون الوقت الذي كان التلاميذ فيه في البحر؟ لقد هبَّت عاصفة عاتية، وكانت الأمواج تخبط السفينة حتى كادت تغرق. وكان الليل مظلماً جداً. فماذا فعلوا؟ هل حاولوا أن يصدوا العاصفة بأيديهم؟ كلا؟ إنهم وإن لم يكونوا حكماء في معظم المناسبات، لكنهم كانوا في هذه المناسبة حكماء. فقد لجأوا إلى المسيح وألقوا عليه همهم. ولما فعلوا هذا صار هدوء عظيم (مر 4: 38 و39).

أيها الوالدان، ماذا تفعل سفينتكما الصغيرة في عواصف الحياة؟ هل ليلكما مظلم؟ هل الأمواج عالية؟ هل تجاهدان لإنقاذ السفينة؟ كُفا عن كل جهاد. سلِّما القيادة للمسيح. دعوه يستلم الزمام، ثم انتظرا الهدوء. تستطيعان الإستغناء عن أفضل الأثاث، وعن وسائل الراحة الحديثة، وعن أفضل سيارة، لكنكما لن تستطيعا الاستغناء عن المسيح. اجعلاه قائد سفينتكما وأنتما تعبران بحر هذه الحياة. اجعلاه رئيس بيتكما. صليا هكذا: يا يسوع يا مخلّصنا، استلم دفة حياتنا وسط البحر الهائج، فالأمواج تخبط السفينة، والصخور مختفية، لكن الإرشاد كله منك.

الفصل الخامس: الزواج والمذبح العائلي

كان يقال قديماً إن أعذب الأصوات هي أصوات أجراس الكنائس التي تُقرع عند إتمام خدمة مراسيم الزواج، معلنة حلول يوم عظيم. فأخيراً حل اليوم الذي ينتظره كل فتى وتنتظره كل فتاة ودقت أجراس الكنيسة. ويا له من يوم سعيد مبارك!

وبدأت خدمة عقد القران المهيبة الجميلة، وهي التي يتطلع إليها كل شاب وشابة، وبها يبدأ تكوين بيت جديد. وبعد انقضاء ألوف السنين على المدنية كان يُخيل للمرء أن يكون الزواج أكثر سعادة. لكن هذا الاستنتاج خاطئ مع الأسف الشديد والحزن المرير. فالرباط المقدس الذي تم في الكنيسة أمام مذبح الله صار في البيت غير مقدس. والاتحاد أصبح انقساماً والواحد صار كثيرين. وأصبح أمراً لا يؤبه له أبداً أن يفرق الإنسان ما جمعه الله، وانتشرت حالات الطلاق. وماذا تقول آخر الإحصائيات؟ هل تنتهي بالطلاق حالة أو اثنتان من كل ست زيجات؟ أم زادت النسبة كثيراً جداً؟

والمشكلة لا تنتهي بالطلاق، لكنها تبدأ به. فالطلاق لن يحل المشكلة قط، بل يترك وراءه قلوباً محطمة وبيوتاً مهدمة، ومهما مر الزمن فقد يستحيل الشفاء. وأين بدأ كل هذا؟ بدأ في البيت. فالكلمات الحلوة تحولت إلى مرة، والمحبة تحولت إلى نزاع، والوحدة تحولت إلى فُرقة، وسفينة الحياة الزوجية إذ غادرت ميناء المحبة تحطمت على صخور الخطية، وما بدأ في الكنيسة وصل إلى المحكمة، والزوجان اللذان بدأت محبتهما بجنون انتهت أخيراً بجنون، وصار كل منهما يطلب الإنصاف من الآخر.

كان الزواج قديماً مصدراً للسعادة. وكان الواحد إذا سأل: كيف أكون سعيداً؟ أتته الإجابة: تزوج. ونحن اليوم لا نحتاج إلى إجابة جديدة فقط، بل إلى سؤال جديد: كيف أكون سعيداً ولو كنت متزوجاً.

يجب ألا يتسرب اليأس لنفوسنا، لأن باب الرجاء لا يزال مفتوحاً للإجابة المطلوبة. وهي ليست جديدة، ولا معقدة. بل هي قديمة، وسهلة جداً. وهي آتية من الله، ومضمونة. ويمكن علاج المشاكل الزوجية، بما يتبعها من مآسي، هو في كلمات بسيطة: الصلاة العائلية.

نعم، هو نفس الحل القديم الذي سبق أن أشرنا إليه: الصلاة العائلية أو المذبح العائلي. هو الدواء الوحيد الذي لا غنى عنه للبيت المريض. الأدوية الأخرى تأتي وتذهب، تُجرب فترة قصيرة ثم تُهجر. أما مذبح العائلة فإنه قديم وأمين، ولن يصبح مبتذلاً قط. لكنه دواماً يقوم بمهمته خير قيام. وهذا - بعكس كل دواء آخر في البيت - لا يستخدم للعلاج فقط، بل للوقاية أيضاً. وهذا هو ما نحتاج إليه. لأن المشكلة الكبيرة ليست هي شفاء البيوت المتهدمة، بل وقايتها من أن تتهدم. فالزواج لا يبدأ بالطلاق، والطلاق لا يأتيهما فجأة، لكنه قد يبدأ بإساءة تافهة جداً، ثم يتطور الخلاف إلى أن ينتهي بالطلاق.

وأولى علامات الطلاق تظهر بفتور المحبة. وبعد ذلك تنشأ بين الزوجين المنازعات. وتدريجياً يتنافر القلبان اللذان كانا قلباً واحداً ارتبطا معاً بربط المحبة.

لكن هذه هي مجرد أعراض المرض المرعب - أي الطلاق. ونحن لا نبحث اليوم عن أعراض المرض، بل عن سبب هذه الأعراض. ما هو السبب الرئيسي للطلاق؟ ليس هو سراً غامضاً أنَّ السبب في كل حالة قد يُعزى لنقص الغذاء في البيت، فقد أهملت بعض العناصر الضرورية للحياة اليومية. لم يكن هنالك جوع إلى اللبن العقلي العديم الغش الذي هو كلمة الله (1 بط 2: 2)، ولا لعسل الصخرة (مز 81: 16)، ولا لخبز الحياة (يو 6: 35). ولأنه لم يتوفر الجوع لهذه الأطعمة الرئيسية فإنهم لم يأكلوها. كان ممكناً للمرضى أن يغذوا أجسادهم جيداً، لكنهم ماتوا جوعاً وأصبحوا بدون إله، لأن المذبح العائلي انعدم في بيوتهم. وهذا هو سبب أعراض مرض الطلاق الذي انتهى بانفصال القلبين اللذين ماتا جوعاً.

وما هو العلاج إذن؟ لا يوجد إلا علاج واحد. إن الطبيب الأعظم يدعو لاستعماله حالاً - وهو المذبح العائلي. إن كان لا يزال هنالك بصيص من المحبة فيجب أن يلجأ الزوجان للصلاة مراراً كثيرة كل يوم إن أرادا لبيتهما البقاء. يجب أن يبدأ كلاهما في الحال بتناول طعام كلمة الله؟ والعودة إلى الله لكي يرتبط قلباهما مرة أخرى برباط المحبة، ويصيرا قلباً واحداً.

هذا هو العلاج بصفة عامة. لكن هنالك علاج خاص يستخدم إذا ظهرت أعراض المرض مرة أخرى. حينما تظهر أية علامات للانتقاد، أو حينما تنشأ مشاجرات خفيفة فليكرس الزوجان وقتاً أطول للصلاة، وليرجعا إلى كتاب تشخيص المرض ليقرأا معاً ما ورد في أف 4: 32 : «وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً فِي ٱلْمَسِيحِ». هذه الوصفة، كما ترون، مزيج من اللطف والشفقة والتسامح. ليقرأها الزوج للزوجة، ولتقرأها الزوجة للزوج. وبعد ذلك يجب أن يجثو كل منهما حيث يطلبان من الطبيب الأعظم لتكون للدواء فاعليته.

«أَلَيْسَ بَلَسَانٌ فِي جِلْعَادَ» لشفاء البيت المريض؟ (إر 8: 22). نعم يوجد ليس فقط في بيوت جلعاد، بل في كل البيوت، حيث يعترف الزوجان بحاجتهما إلى رعاية الطبيب الأعظم الذي وحده يقدر أن يشفي القلوب المحطمة. وبَلَسانه لشفاء كل مرض في البيت هو الالتجاء كل يوم بانتظام إلى المذبح العائلي. هذا هو دواء الله لكل داء، لكل القلوب المحطمة التي كثيراً ما تنتهي بالطلاق. هذا الدواء هو وحده الذي يضمن توفر الصحة في البيت، فلا يكون فيه نقص المحبة، ولا مشاجرات مستمرة، ولا انتقادات قاسية ولا خصام ولا طلاق. إن الخطية وحدها هي علة المرض في البيت، والله وحده هو الذي يستطيع أن يحفظه من كل مرض.

وإن كان يوجد بَلَسَان كهذا لشفاء البيت المريض، فلماذا توجد بيوت كثيرة لا زالت سقيمة؟ يبدو أن الإجابة الوحيدة هي: لأن الزوجين في هذه البيوت لا يريدان استخدام الدواء.

أيها الزوجان، لا تنتظرا حتى يصبح المرض في البيت مزمناً. ليبدأ المذبح العائلي في البيت اليوم، ولتبدأ الآن التغذية بكلمة الله. أفسحا المجال لله في حياتكما العائلية. وزواجكما لن يدوم إلا إذا كانت العائلة مثلثة الأركان: الله والزوج، والزوجة. والمذبح العائلي ينبغي أن يكون في رأس المثلث حيث تجتمعان معاً. وكما هو الحال في كل مثلث: فبقدر ما يزداد الزوج والزوجة اقتراباً من الله يزدادان اقتراباً بعضهما لبعض. جربا هذا لتعرفا النتيجة.

الفصل السادس: العائلة والكنيسة

مع أننا نتكلم عن الكنيسة القائمة في هذا المكان أو ذاك، إلا أن الكنيسة ليست هي مجرد البناء، بل هي الشعب. إنها لا تُبنى من الحجارة ، بل من اللحم والدم. لا تبنى بوضع حجر فوق حجر، بل بضم شخص إلى شخص، على أن يتطلع كل واحد إلى الرب يسوع المسيح كمخلِّص شخصي له.

لهذا فإن قيمة الكنيسة وكيانها وفاعليتها لا تتوقف على جمال البناء الذي يجتمع فيه الشعب للعبادة، بل على الحياة الروحية للشعب الذي يعبد في البناء. والكنيسة لن تسمو فوق شعبها لسبب واحد، هو إن الكنيسة هي شعبها. أو بتعبير آخر قوي: كما يكون الشعب تكون كنيسته.

فالكنيسة إذاً هي شعبها، وشعبها هم عائلاتها، وعائلاتها هي بيوتها. وكل عضو في الكنيسة هو عضو في أسرة، ويعيش في بيت. ولذلك فإن لم تسم الكنيسة فوق أعضائها فصحيح أيضاً أن الأعضاء يندر أن يسموا فوق البيوت التي أتوا منها.

إن حالة بيوت أعضاء الكنيسة تحدد حالة الكنيسة، فالمسيحيون العالميون الذين أتوا من عائلات عالمية، والذين يعيشون في بيوت عالمية، يكونون كنيسة عالمية مهما كان بناء هذه الكنيسة فخماً، لأنك إن أضفت صفراً إلى صفر فالمجموع صفر. إن كان شخص لا يفعل شيئاً للمسيح في بيته فإنه عادة لا يفعل شيئاً للمسيح في الكنيسة. إن كان لا يصلي في بيته فإنه لا يصلي في الكنيسة. إن كان لا يبالي بالهالكين في أسرته فإنه قلما يبالي بالهالكين في الأقطار النائية.

وبالعكس، فإنَّ المسيحيين الروحيين، الذين أتوا من عائلات روحية، ويعيشون في بيوت روحية، يكوّنون دائماً كنيسة روحية، حتى وإن كان بناؤها متواضعاً جداً. إن المؤمن المكرس للمسيح والعضو في أسرة تخدم المسيح، ويعيش في بيت مكرس للمسيح، يساعد على أن تكون الكنيسة ممجدة للمسيح.

إن تأثير ونفوذ وفاعلية أية كنيسة لا تتوقف على عدد أعضائها، بل على عدد البيوت التي يتوفر فيها المذبح العائلي. وإن القدر الذي به تعضد أية كنيسة الإرساليات في الأقطار الخارجية يتوقف على ما يقوم به الآباء والأمهات في بيوتهم روحياً. إن الآباء والأمهات الذين يربحون نفوس أبنائهم للمسيح يكونون دواماً أعضاء أحياء في الكنيسة. والأعضاء الأحياء في الكنيسة يكونون دواماً كنيسة رابحة للنفوس.

إن كل مشكلة في الكنيسة ناشئة عملياً من مشاكل البيت. فإذا خلت بعض المقاعد في مدرسة الأحد فهذا يدل على أن الآباء والأمهات لا يكترثون بالمسيح في البيت. وذهاب الزوجات وحدهن إلى الكنيسة ينم عن انقسام أعضاء البيت بصدد موقفهم إزاء المسيح. وتذمر بعض أعضاء الكنيسة هو في معظم الأحيان نتيجة وجود تذمر في البيت. وإذا كفَّ عضو الكنيسة عن الصلاة في الكنيسة فهذا يدل على أنه هو وزوجته قد كفا عن الصلاة معاً في البيت.

إذا ارتكب أحد الشباب خطية، فهذا يسبب دهشة للجميع، باستثناء أهل البيت الذين يعرفون مصدر هذه الخطية. والأولاد المتمردون في الكنيسة يكونون دواماً متمردين في البيت. وإن كانت اجتماعات الصلاة في الكنيسة لا تلقى تعضيداً فإن هذا يعني دواماً أن البيوت خلت من المذبح العائلي، لأن الأسرة التي تنشغل عن المذبح العائلي لا تجد وقتاً لاجتماع الصلاة في الكنيسة وسط الأسبوع. وانعدام الشركة والاتحاد في الكنيسة كثيراً ما كان ناشئاً من انعدام المحبة في البيت. وإن كانت العطاءات والتبرعات في الكنيسة زهيدة فهذا معناه دواماً أن المسيح ليس له نصيب في ميزانية البيت.

أيها الآباء والأمهات، إن مشاكل الكنيسة ناشئة من مشاكل البيت، وليس خادم الكنيسة هو مصدرها على الدوام وفي بعض الأحيان يُلام الآباء والأمهات إن كانت لكنيستكم مشاكلها - وأية كنيسة ليست لها مشاكل؟ - فقد لا تعزى كل هذه المشاكل لعظات الخادم، بل لبيتكم. فالقذى هو دواماً جزء من الخشبة التي في عين الكنيسة.

وما هو الحل؟ إن أردتم معالجة مشاكل الكنيسة فليبدأ العلاج أولاً بحل مشاكل بيوتكم. إن أردتم حقاً مساعدة الكنيسة فابدأوا من بيوتكم. اخدموا المسيح بأمانة في بيوتكم، وعندئذ تجدون الطرق التي بها تخدمونه في الكنيسة المحلية التي أنتم أعضاء فيها.

واظبوا على العبادة في المذبح العائلي في بيوتكم، وعندئذ لا تجدون صعوبة في المواظبة على اجتماع الصلاة في الكنيسة. واظبوا على دراسة الكتاب المقدس في البيت، وعندئذ تواظبون على حضور الكنيسة. اشهدوا للمسيح في الخفاء في بيتكم وعندئذ لا تجدون صعوبة في الشهادة له علانية في الكنيسة. شجعوا أولادكم على حضور اجتماعات الكنيسة وعندئذ لا تجدون صعوبة في دعوة أي إنسان لحضورها.

اطلبوا من الله أن يبعث فيكم العطف على النفوس الهالكة في بيتكم، وعندئذ تقدمون رسالة الحياة للذين في الأقطار الخارجية. اقتصدوا في الكماليات في بيوتكم، وإن أمكن في الضروريات، وعندئذ يفيض الكثير جداً لتقدموه للمسيح ولكنيسته.

أيها الأزواج، إن كنتم حقاً تحبون زوجاتكم، كما أحب المسيح كنيسته، فإنكم عندئذ تقدرون أن تحبوا أيضاً أعضاء الكنيسة الآخرين. إن كان كل أب رأساً للبيت فإنه يكون خادماً نافعاً في كنيسته.

أيتها الزوجات، كُنَّ خاضعات لرجالكن في البيت، وعندئذ لا تحتجن لإدارة كل البيت. أيها الأولاد أطيعوا والديكم في البيت وعندئذ تستقيم سيرتكم في الكنيسة فلا يعنفكم آباؤكم. اذكروا أنكم إن أخرجتم القذى من عين بيتكم ساعدتم كثيراً على إخراج الخشبة الكبيرة من عين كنيستكم. وتكريس بيتكم للمسيح يساعد كثيراً على تكريس كنيستكم.

إن رأيتم كنيستكم فاترة فأوقدوا النار في البيت أولاً، وعندئذ ترون الحرارة وقد دبَّت في كنيستكم لمجد الله. اذكروا أنه كما تكون بيوتكم تكون كنيستكم.

الفصل السابع: الزواج المسيحي

قال الحكيم: «ثَلاثَةٌ عَجِيبَةٌ فَوْقِي وَأَرْبَعَةٌ لا أَعْرِفُهَا: طَرِيقَ نَسْرٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، وَطَرِيقَ حَيَّةٍ عَلَى صَخْرٍ، وَطَرِيقَ سَفِينَةٍ فِي قَلْبِ ٱلْبَحْرِ، وَطَرِيقَ رَجُلٍ بِفَتَاة» (أم 30: 18 و19). وسواء كان قد أحب ثم فقد حبيبته، أو تودد إلى فتاة ثم كسب محبتها، فقد كان هو نفسه أيضاً واثقاً من هذا أن «مَنْ يَجِدُ زَوْجَةً يَجِدُ خَيْراً» (أم 18: 22).

يقول حكيم معاصر: «هنالك أربعة أحداث ضرورية جداً في حياة كل إنسان: الولادة، والموت، وتجديد الحياة، والزواج». والزواج يبدأ بلقاء، ويتوَّج في الكنيسة، ويستمر في بيت الزوجية، ويُختم في القبر.

وإذ يبدأ الزواج بلقاء فإن اللقاء يعقبه تودد الفتى بالفتاة، والفتاة بالفتى. وهذان إن لم يكن المسيح في قلبيهما وقت التودد فلا يمكن أن يبقى التودد في بيتهما بعد الزواج.

وفترة الخطوبة لازمة كمقدمة للزواج. ومتى كانت هذه الفترة طاهرة كانت الحياة الزوجية طاهرة ومضمونة البقاء. وإذا عرف الفتى والفتاة أن يصليا معاً في هذه الفترة أمكن أن يعيشا معاً بعد الزواج بلا تفرقة إلى نهاية الحياة.

إن الزواج مقدس. والرب يسوع المسيح وحده هو الذي يقدسه. إن فخامة مبنى الكنيسة، وجمال تنظيم حفلة مراسيم الزواج وروعة الزهور والموسيقى - هذه كلها لا تجعل الزواج مسيحياً بدون المسيح. وإن لم يتحد الزوجان في المسيح فإن زواجهما لا يمكن أن يُدعى زواجاً مسيحياً. وإن لم تتوفر المحبة بينهما فلا يمكن أن يتمتعا بحياة زوجية سعيدة. لكي تتوفر المحبة بينهما ينبغي أن تتوفر المحبة للمسيح في قلب كل منهما.

عندما يحب الزوجان أحدهما الآخر محبة مسيحية خالصة فإن محبتهما للمسيح تكون هي الرابطة التي تربط قلبيهما. عندما يحب الزوجان المسيح فإن تفكير الواحد الخفي نحو الآخر، وتعبيراتهما العملية من الواحد للآخر، وتصرفاتهما المتبادلة، تنبعث من الرب يسوع المسيح الذي يحبانه، ويريدان أن يرضياه.

إن كان كل من الزوجين قد سلم نفسه للمسيح فإن محبتهما المشتركة للمسيح تصبح ناموس محبة الواحد للآخر. ليس الطريق للحياة الزوجية السعيدة هو غض النظر عن الناموس، ولا هو فقط طاعة الناموس، لكنه هو فقط تسليم الحياة كلها للمسيح. ومعنى الاشتراك مع المسيح في صليبه هو الموت عن الخطية.

إن كان المسيح في قلبك يكون في بيتك. والحياة العائلية يمكن أن تستغني عن أشياء كثيرة، لكنها لن تستغني أبداً عن المسيح.

ويجب أن يبدأ الزواج بالمحبة. وقليلون هم الذين لا يؤمنون بأن «لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَقْتٌ» بما في ذلك وقت للمحبة (جا 3: 1). لكن سيء الأخلاق وحده هو الذي يدنس معنى المحبة التي قصدها الله أن تكون مقدسة.

يعتقد الكثيرون من الشبان أن الكتاب المقدس صادق حينما يقول: «مَنْ يَجِدُ زَوْجَةً يَجِدُ خَيْراً» (أم 18: 22). ولكنهم كثيراً ما يرفضون القول: «ٱلزَّوْجَةُ ٱلْمُتَعَقِّلَةُ فَمِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ» (أم 19: 14). هل هذه الكلمات التي قيلت في القرن العاشر قبل الميلاد تبدو غريبة في آذان من يعيشون في القرن العشرين بعد الميلاد ؟ هل نؤمن بأن: «كُلَّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلَّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي ٱلأَنْوَارِ» (يع 1: 17)؟ وهل نقف ونرنم قائلين: سبحوا الله الذي منه تتدفق كل البركات؟. إذن، ولماذا لا تأتي منه بركة الزوجة؟

كان سليمان وشمشون عظيمين في القوة والاقتدار، لكنهما كانا تعيسين في الزواج. كان سليمان يعطى المشورة الصالحة، لكنه لم يتبعها. وشمشون قهر الآلاف بالايمان، لكنه تزوج بالعيان (2 كو 5: 7). لقد نظر كل منهما إلى جمال الوجه، وأُعجب بالفتاة التي رآها. لكنهما لم يباليا إن كانت الفتاتان ترضيان الله. وبعد ذلك أدرك كل منهما أنه أخطأ الاختيار، وتمنى لو لم يكن قد تزوج بالفتاة التي أعجب بها.

خير للشاب أن يبقى بدون زواج إلى أن يجد الزوجة الفاضلة. لكن ليس المهم أن يجدها بل كيف وأين يجدها. أو ليس الكثيرون من الشبان الأبطال في الإيمان يستشيرون الله في كل شيء ما عدا فتاته التي يريد الاقتران بها؟ ولا شك في أن عند الله امرأة فاضلة لكل شاب فاضل، إن لم يتباعد عن الله.

صحيح إن ثمنها يفوق اللآلئ كثيراً جداً جداً. لكنكم أيها الشبان لستم مطالبين بدفع ثمنها. صحيح أن إجراءات الزواج تكلف، لكن الفتاة نفسها لا تكلف. فهي تأتي من الله مثل كل عطية صالحة وكل موهبة تامة. لقد أخذ آدم زوجته من الرب، ولم يتطلب الأمر أن يتجول هنا وهناك للبحث عنها، لكن الرب أحضرها إلى آدم (تك 2: 19). فلماذا لا تحصل على زوجتك من نفس المصدر؟

لا يمكن قط أن تنشأ المحبة المسيحية من النظرة الأولى. لكنها تأتي بعد صلوات كثيرة. والشاب المكرس لله يترك اختيار الزوجة لله. وطوبى للشاب الذي يدرك أن اختياره هو الاختيار الصحيح، لأنه ترك الاختيار لله.

أيها الشاب، عندما تبدأ تتعرف بالشابة فإنك لن تعرف إلى أين ينتهي بك المطاف. لكن تأكد أن الطريقة الوحيدة لكي تكون النهاية طيبة هي أن تكون البداية طيبة. فالأساس يجب أن يوضع قبل تشييد البيت. ثم اعلم أن أساس الله الراسخ هو الوحيد الذي يثبت (2 تي 2: 19)، سواء كان ذلك في الزواج أو في أي أمر آخر. إن أردت أن يكون لك بيت مسيحي فيما بعد فيجب أن تتخذ المسيح في رفقتك الآن وقت الخطبة. وبيتك العتيد يمكن أن يكون مؤسساً على المسيح إن كانت فرصة خطبتك الآن مؤسسة على المسيح. يجب أن تضع مُثلك العليا الآن.

أيها الشاب، قبل أن تتساءل عما إذا كانت فتاتك جميلة أم لا أسأل أولاً: هل هي ابنة الله؟ إن كانت الفتاة غير مسيحية الآن صار بيتك فيما بعد يعرج بين المسيح والعالم، ولا يمكن أن يتمجد المسيح فيه. وإن كانت أمينة للمسيح صارت أمينة لك فيما بعد. إن كانت تحب الرب من كل قلبها الآن فثق بأنها سوف تحبك من كل قلبها. إن كانت تحتفظ بالولاء للمسيح الآن فسوف تحتفظ بالولاء لك ولأولادك . إن كانت تعنى بكنيستها الآن فسوف تعنى ببيتها. إن كنت تقدر أن تصلي معها الآن فإنك تقدر أن تبني المذبح العائلي فيما بعد. وأنت تفعل خيراً إن تذكرت أيضاً أن الفتاة في بعض الأحيان يمكن أن تكون جذابة بسبب صفاتها الخفية كما بسبب صفاتها الظاهرة، بسبب ما تفعله كما بسبب ما لا تفعله، بسبب المكان الذي تذهب إليه كما بسبب المكان الذي تمتنع عن الذهاب إليه.

وبالإيجاز أيها الشاب، دع الله يختار لك الفتاة. انتظره أكثر مما تنتظر الفتاة ، وعندئذ ثق بأنك سوف تجدها في انتظارك. لا تكن عنيفاً في مناقشاتك معها، وإلا خسرت موقفك في معترك الحياة. دع المسيح يكن رفيقاً لك في مناقشاتك ومشاوراتك. كرس له فترة الخطوبة اليوم، وعندئذ لا تندم في زواجك غداً. هو وحده الذي يجعل طريق الرجل مع الفتاة أميناً ومقدساً. لقد خلقت المرأة لمجد الرجل، لكن الرجل - كما يقول البعض - يعيش من أجل مجد المرأة.

والواقع أن الله من البدء خلقهما ذكراً وأنثى (تك 1: 27 ، مت 19: 4). ومنذ ذلك الوقت تمر فترة في حياة الشاب أو الشابة حيث يقضي كل منهما وقتاً طويلاً في البحث عن شريكة أو شريك الحياة. أما الشبان المسيحيون والشابات المسيحيات فإن الأمر معهم يختلف كثيراً. لقد اتخذوا المسيح رباً ومخلّصاً، واعتمدوا عليه في كل شؤون حياتهم، وأصبح طريقهم هو طريقه، وإرادته أصبحت إرادتهم. ولذلك فإن الفترة التي قبل الزواج لا تُقضى في المداعبة أو المغازلة، بل في الصلاة. وأصبح خيال الشبان والشابات الذين يبحثون عن شريك الحياة منحصراً بالبحث عن إرادة الله وإرشاده بهذا الأمر.

فالفتاة المسيحية لا تبحث عن مجرد شاب، بل عن شاب مرسل من الله، عرف المخلّص وصار مستعداً أن يتبعه ويتَّخذه له رباً. لأنها لا تقدر أن تكون لها شركة مع شاب ليست له شركة مع ربها. وهي أيضاً لا تريد أن تخضع لشاب ليس خاضعاً للمسيح. هي تحبه، وهو يحبها، والاثنان يحبان المسيح.

والفتاة المسيحية لا تتطلع إلى المظهر الخارجي، بل إلى القلب لأنها تدرك «أَنَّهُ كَمَا شَعَرَ فِي نَفْسِهِ هٰكَذَا هُوَ» (أم 23: 7). مهما بدا في نظرها جميلاً فهي تريد أن تعرف نظرة الله إليه. هي لا تريد أن تنظر إلى صورة التقوى التي يبدو فيها، بل إلى قوة التقوى في داخله. لا يكفيها أن تراه يقول: يا رب! يا رب! بل أن يعرفه معرفة عملية. هي تريد أن يكون مسيحياً حقاً في أخلاقه وسلوكه لأن قلبه مسلَّم للمسيح. هي تحب الشاب الذي يحب زوجته «كَمَا أَحَبَّ ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً ٱلْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا» (أف 5: 25) هي تريده أن تكون محبته عملية نحو من يحبهم.

وتدرك الفتاة المسيحية أن بيتها العتيد لا يمكن أن يكرم الله إلا إذا كان زوجها في صلة كاملة مع الله؟ وهكذا يقدر أن يصلي، ويحب بيت الله. وهي تدرك أيضاً أن سعادة الحياة العائلية لا تأتي مصادفة بل بتكريس حياة الزوج والزوجة للرب يسوع المسيح تكريساً كاملاً. وهكذا يصبح طريقهما من البداية هو طريق الله، ويبدآن بناء بيتهما بالقرب من السماء بتوجيهه منذ البداية نحو بيت الله.

الفصل الثامن: النير غير المتجانس

«لا تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ» (2 كو 6: 14). هذه كلمات صادقة. ومع أنها تتضمن علاقات بشرية كثيرة، فإنه يقيناً يدخل ضمنها علاقة الزواج. وهل هناك التزام أقوى من العهد الذي يقطعه كل من الزوج والزوجة على نفسيهما بأن يقبل كل منهما الآخر شريكاً له في الحياة، في السراء والضراء، ويحبه، ويكرمه، ويلاطفه، ويطيعه، إلى آخر نسمة؟ وإن لم يتوافق الزوجان في كل شيء اعتُبِر هذا نيراً غير متجانس.

ومهما بدت هذه الكلمات قاسية فإنها مقتبسة من الكتاب المقدس (2 كو 6: 14). لم تضعها أية كنيسة بطريقة تعسفية، أو أي خادم من خدام الله، وليست هي من خيال أي متعصب، بل هي من صميم الكتاب المقدس الذي هو كلمة الله. ولذلك فهي تحمل نفس السلطان الذي يحمله الكتاب المقدس. فإن كنت مسيحياً تؤمن أن الكتاب المقدس هو كلمة الله فيجب أن تحترم هذه الوصية. لأن الله الذي قال: آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص، يقول أيضاً: لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين. ونفس الكتاب المقدس الذي يتحدث عن الله، والمسيح، والخلاص، والسماء، وجهنم، والكنيسة، هو الذي يرفض زواج المؤمن بغير مؤمنة، أو العكس.

ويجب أن يكون الكلام عن هذا الموضوع واضحاً وصريحاً أكثر من أي موضوع آخر. فالكتاب عامر بالآيات التي توصي المؤمن بأن لا يتزوج بغير مؤمنة، أو العكس، تحت أي ظرف.

ولعل فكرة النير غير المتجانس تكون غامضة لدى البعض. قد يحدد المؤمن موعداً مع غير مؤمنة أو العكس أو أكثر من موعد لكي يشهد لها عن المسيح، لكن المؤمن يجب أن لا يفكر في الزواج بغير المؤمنة لكي يشهد لها. ومع أن النتيجة لا يمكن تحديدها بسهولة فيما يتعلق بالعلاقات الأخرى الاجتماعية أو المدنية أو غيرها، فمما لا شك فيه أنه عندما يسير المؤمن مع غير المؤمنة ويتناقشان في إمكانية الزواج، ثم يخططان ويضعان الترتيبات اللازمة، فإن كلا منهما يرتبط بالآخر، ويصير كل منهما تحت نير غير متجانس، ويكون المؤمن قد نقض الوصية القائلة: لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين. والخطية لا ترتكب في الزواج فقط، بل في كل الترتيبات التي تؤدي إليه. ليست الجريمة في طعنة الخنجر، بل في نية القلب للقتل، وفي انحراف الإرادة لتخطئ. (راجع ما قاله الكتاب المقدس في مت 5: 28 و 15: 19، إلخ). ولذلك فإن خطية النير غير المتكافئ لا تُرتكب عند إتمام مراسيم الزواج، لكنها تؤيد وقتئذ. لقد بدأت فعلاً في أيام التودد، عندما فكر المؤمن في بداية الأمر في التزوج بغير المؤمنة.

إذاً يمكن القول بكل تأكيد - بناء على تعاليم الكتاب المقدس الكثيرة جداً - إن التزوج غير المتجانس، أو التودد غير المتجانس، ينشئ نيراً غير متجانس، وهو خاطئ بصفة دائمة، بالنسبة للشاب المسيحي الذي يرتضيه ويقبله أو الشابة التي ترتضيه وتقبل به أيضاً، وكذلك بالنسبة للوالدين اللذين يرتضيانه وبالنسبة لخادم الله الذي يشجعه أو يتممه.

اذكروا بأن النير غير المتجانس ليس خاطئاً فقط للأسباب غير الجوهرية التي تردد من وقت لآخر: لأنه يتطلب بعض التوافق الضروري في العادات، والتفكير، أو الجمع بين المتناقضات، أو الانضمام إلى كنيستين مختلفتين، أو التجنس بجنسيتين مختلفتين، أو الجمع بين مستويين مختلفين إلخ إلخ. هذه الافتراضات صادقة بطبيعة الحال، لكنها ثانوية بالنسبة لوجهة نظر الكتاب المقدس.

إن النير غير المتجانس خاطئ لأنه يجمع شخصين لا يتفقان في أي شيء. فالواحد ابن لله والآخر ليس كذلك. الواحد آمن بابن الله ونال الخلاص والآخر لم يؤمن ولذلك فهو هالك. الواحد يشتاق إلى أن يعيش للمسيح والآخر لا يقدر لأنه لا يعرف المسيح. الواحد سوف يقضي الأبدية في السماء والآخر سوف يقضيها في جهنم. الواحد يحب أن يكون بيته للمسيح والآخر لا يريد لأنه ببساطة ليس مسيحياً.

أنتم ترون أن السبب ليس فقط لأن الواحد ينتمي للكنيسة والآخر لا ينتمي. لكن الاختلاف الحقيقي والرئيسي هو أن الواحد وُلد في أسرة الله بخلاف الآخر.

والكتاب المقدس لا يخفف من حدة الكلام في هذا الموضوع، لكنه يعلن صراحة بأن المؤمن ليست له شركة - روحياً - مع غير المؤمن، كما أنه ليست هنالك خلطة للبر والإثم، وليست هنالك شركة للنور مع الظلمة، وليس هنالك أي إتفاق للمسيح مع بليعال أي الشيطان ( 2 كو 6: 14 و15).

ومع أن المؤمن وغير المؤمن يتفقان في أن لهما نفس الجسد، وربما نفس العواطف، لكنهما يختلفان اختلافاً شديداً، فكل منهما مواطن في مملكة تختلف عن مملكة الآخر، ويعبد بكيفية تختلف عن عبادة الآخر، ويسير نحو مصير أبدي يختلف عن مصير الآخر. وكما يقول المسيح: «اَلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَٱلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلرُّوحِ هُوَ رُوحٌ... إِنْ كَانَ أَحَدٌ لا يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لا يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ» (يو3: 3 و6).

أخيراً نقول إن النير غير المتجانس ليس خاطئاً فقط لأنه ليس عملياً، لكنه خاطئ حتى وإن كان عملياً. فهو خاطئ لأن الله نهى عنه. والواقع بطبيعة الحال أن النير غير المتجانس غير عملي مطلقاً. وعواقبه وخيمة في كل الأحوال. فالزواج غير المتجانس تنشأ عنه عائلات غير متجانسة. وكل خادم يستطيع أن يُخرج من جعبته أسماء عائلات محطمة لأن الزوج والزوجة اختلفت آراؤهما عن المسيح.

إن النير غير المتجانس هو اتحاد غير مقدس لا يمكن أبداً أن يكرم الله، ولا يمكن أبداً أن ينشئ بيتاً مسيحياً، لأن البيت المسيحي ينشئه زوجان مسيحيان. ويندر أن يصير غير المؤمن مؤمناً. أما المؤمن فإنه في كل الحالات تقريباً تفتر حياته وتضعف صلته بالمسيح. وكل خادم للمسيح يستطيع أن يذكر حالات كثيرة حدث هذا فيها. والأكيد هو أن مستوى البيت لا يرتفع لمستوى الكتاب المقدس، بل ينحط إلى مستوى العالم. ولقد سبَّب عصيان كلمة الله في هذه الناحية الخطرة تحطيم ألوف البيوت. وطبيعي أن الهدف من كل هذا ليس هو تعنيف الذين ارتكبوا الخطأ، بل هو إرشاد الشبان والشابات الذين لم يرتبطوا بعد بزواج لا يباركه الله. أيها الشبان والشابات، إن أفضل طريقة لتجنب أخطار النير غير المتجانس هي: لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين.

إن البداية إن لم تكن خاطئة فالنهاية لا يمكن أن تكون خاطئة. إن كنتم قد ذقتم خيرات الله، ووثقتم في الرب يسوع المسيح ليخلصكم من الخطية، وإن كنتم قد اختبرتم عملياً راحة النفس التي لا يأتي بها سواه، فلا تنبذوها بوضع أنفسكم تحت نير التزوج بغير المؤمن أو غير المؤمنة. إن أياماً قليلة تُقضى في التودد الآن، أو سنوات قليلة في الزواج لا توازي شيئاً بجانب الافتراق إلى الأبد. لهذا يجب - تحت أي ظرف من الظروف - أن لا يتزوج أحد إلا في الرب فقط.

الفصل التاسع: الزواج المسيحي الناجح

ذكر جمال الدين القفطي في تاريخ الحكماء أن أبا جعفر المنصور قال لجورجيس بن بختيشوع الطبيب الشهير: من يخدمك هنا؟ أجاب: تلامذتي فقال المنصور: سمعت أنه ليس لك إمرأة. فقال: لي زوجة كبيرة ضعيفة لا تقدر على النهوض من مكانها. ولما انصرف جورجيس أمر الخليفة المنصور خادمه أن يختار من الجواري الروميات الحسان ثلاثاً ويحملهن إلى جورجيس مع ثلاثة آلاف دينار. ففعل ذلك. فلما وصل جورجيس إلى منزله عرَّفه تلميذه بما جرى وأراه الجواري. فانكر أمرهن وقال لخادمه: يا تلميذ الشيطان، لماذا أدخلت هؤلاء إلى منزلي؟ أأردت أن تنجِّسني؟ امض وردَّهن إلى صاحبهن. ثم ركب جورجيس ومعه تلميذه مع الجواري إلى دار الخليفة. وردهن إلى الخادم. فلما وصل الخبر إلى المنصور أحضره وسأله: لماذا رددت الجواري؟ أجاب جورجيس: لا يجوز أن يكون مثل هؤلاء في منزلي، لأننا نحن معشر النصارى لا نتزوج بأكثر من امرأة واحدة. وما دامت المرأة حية فلا نأخذ غيرها. نعطيها قلبنا وولاءنا وحبنا ولن نرضى عنها بديلاً. فأعجب الخليفة بهذه الروح الطيبة وازداد له إكراماً. ولما مرض أمر المنصور بحمله إلى دار الضيافة، وخرج إليه ماشياً ليسأل عن حاله، فطلب منه الطبيب أن يرجع إلى بلده ليُدفن مع آبائه، فأمر بتجهيزه ووصله بعشرة آلاف دينار!!

الزواج محبة وخضوع

إن واجب الزوجة الدائم هو الخضوع للرجل، لأن الرجل رأس المرأة، والرأس لا يتسلط بل يقود ويوجّه. وهذا الخضوع ينبغي أن يكون شاملاً في كل شيء، تمثُّلاً بخضوع الكنيسة للمسيح. ويتم هذا الخضوع عملياً بالاحترام والإجلال. أما المرأة فلتهب رجلها، وسر الأخطار والأضرار التي تصيب المجتمع تأتي من بُعد المرأة عن هذا الولاء والتقدير، وإلى تسلط الرجل.

أما الرجل فمن واجبه المحبة. على أن المحبة في ذاتها لا تحتاج إلى وصية، لكن الرسول بولس لا يقف عند مجرد المحبة، بل يرتقي بها إلى محبة المسيح الباذلة العجيبة. وعندما توجد المحبة يوجد معها كل شيء.

تتعهد الزوجة المسيحية في رابطة الزواج أن تطيع زوجها. والرجل في الزواج المسيحي هو الرأس. وهنا يثير بعضهم أو على الأصح بعضهن سؤالين:

  1. لماذا لا تكون مساواة؟

  2. : ولماذا يكون الرجل هو الرأس..؟ والجواب هو:

إنَّ الحاجة إلى رأس ناشئة عن الفكرة بأن الزواج علاقة مستديمة ثابتة. وما دام الوفاق قائماً بين الزوج والزوجة فلا مجال للتحدث والتفكير فيمن هو الرأس. وهذا هو الوضع الطبيعي الذي نرجوه في كل زواج مسيحي. ولكن إذا وقع شقاق، فما الذي يحدث؟ الشيء الطبيعي هو بذل الجهد لإزالته بالعتاب الودي والكلام العاقل. ولكن إذا فُرض أنهما فعلا كل هذا ولم يصلا إلى اتفاق، فما الذي يفعلانه بعد ذلك؟ لا يمكن تسوية النزاع بأغلبية الأصوات، لأن مجلساً مؤلفاً من اثنين فقط لا أغلبية فيه. لا شك أن الذي يحدث هو أحد أمرين:

  1. فإما أن ينفصلا ويذهب كل منهما لحال سبيله، وإما أن يكون لأحدهما القول الفصل. وما دام الزواج رابطة مستديمة، فلا بد أن يكون لأحد الطرفين في آخر الأمر حق تقرير سياسة الأسرة. ولن تعيش أية هيئة مستديمة بدون دستور يحكمها وسلطة ما تشرف عليها.

  2. وإن كانت هناك ضرورة للرأس فلماذا يكون الرجل؟ أعتقد أن المرأة ذاتها لن تسيطر على رجلها إذا كانت تحبه، فإن سلطة الزوجات على الأزواج شيء غير طبيعي. والمرأة العاقلة الحكيمة لا ترضاها، بل المرأة بصفة عامة تخجل من هذا الموقف، وتحتقر الرجل الذي تكون هي رأساً له.

ويقول القس بلي جراهام: إن كان الزوج والزوجة على قدم المساواة في كل الأمور، إلا أنه في أمور الترتيب والإدارة في العائلة يكون الرجل رأس المرأة. والكتاب صريح في هذه النقطة في كل أجزائه من التكوين للرؤيا.. ولكن كم من نساء في العائلات المسيحية يقلبن الأوضاع، إذ يقمن بدور الرجال. ما أكثر النساء اللواتي يخفن من موضوع سيادة الرجل، لأنهن يعتقدن أن السيادة استبداد أو طغيان وديكتاتورية، ولذلك يحاربن ويقاومن السلطة بكل قوتهن. ولكن في موقفهن هذا خطأ مزدوج.

أولاً: مفهومهن للسيادة خطأ، وثانياً: محاربتهن للسيادة خطأ، لأن من يقاوم ترتيب الله يقاوم الله نفسه. فالسيادة هي من الله وغرض السيادة هو القيادة لا الاستبداد والظلم. إذا استغل الرجل سلطته وتصرف بما يخالف منطوق الكتاب المقدس فهو على خطأ مبين. أما إذا قرن السيادة بالمحبة واللطف والحكمة فعندئذ تكون السيادة مصدراً للسعادة.

قلنا إن واجب المرأة هو الاعتراف بالسلطان. فما هو مضمون هذا القول؟ وما هي مسؤولية المرأة إزاء زوجها؟

أولاً: تقول كلمة الله: «أما المرأة فلتهب رجلها» أي يجب أن تخافه، لا خوف الرعب بل خوف الاحترام. يجب عليها أن تحترمه وتحترم كلامه وتحافظ على كرامته في وسط البيت وبين الناس، ولا تحاول أن تتصرف كما لو أنها هي القائدة.

ثانياً: تطلب كلمة الله من النساء أن يخضعن لرجالهن - ليس في بعض الأشياء بل في كل شيء، وأن يخضعن لهم كما للرب، وكما تخضع الكنيسة للمسيح. هذه مسؤولية كبيرة جداً ومفرحة جداً عند المرأة الراغبة في إرضاء الله وإرضاء زوجها. فما هو المقصود بالخضوع؟

إن الخضوع والطاعة مرتبطان، ولكنهما ليسا شيئاً واحداً. فالخضوع هو موقف قلبي داخلي. أما الطاعة فهي تعبير خارجي لذلك الموقف. الخضوع هو قبول المرأة بفرح أن تربط مصيرها بمصير رجلها وأمرها بأمره وإرادتها بإرادته. أما الطاعة فهي عمل تقوم به بدافع من خضوعها له. ولهذا يجب لفت النظر هنا إلى أن الخضوع من دون الطاعة مستحيل. أما الطاعة من دون الخضوع فممكنة. فما أكثر النساء اللواتي يطعن رجالهن - لا عن محبة وخضوع - بل دفعاً للشر. ولا شك أن هذه طاعة ناقصة خالية من البهجة والفرح. إذاً واجب المرأة هو الاعتراف بالسلطان.

وليست مسؤولية الرجل أقل من مسؤولية المرأة، ومن بعض النواحي هي أعظم من مسؤولية المرأة. فإن كان واجب المرأة الإعتراف بالسلطان، فإن واجب الرجل هو توفير الاطمئنان. ولهذا تقول كلمة الرب: «أيها الرجال أحبوا نساءكم». فالمحبة وحدها هي التي تطمئن المرأة وتريح قلبها وإلا عاشت خائفة مرتعبة من زوجها طيلة حياتها. أنا شخصياً - كخادم للمسيح - شاهدت نساء كثيرات يرتجفن خوفاً من رجالهن. وهذا محزن جداً. فليس من مصلحة الرجل أن يتصرف كما لو أنه شبح مخيف، وكما لو أن زوجته خادمة أو وسيلة لغاية. بل يجب أن يتصرف بمحبة ولطف معها كشريكة لحياته. ويجب على الرجل أن يحب إمرأته كنفسه، وإلا فهو لا يقوم بواجبه الأهم نحو شريكة حياته. يقول الرسول بولس: «يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم كأجسادهم. من يحب إمرأته يحب نفسه». وبالنسبة لمقدار المحبة التي يجب أن يوفرها للزوجة والحد الذي يجب أن يبلغه في محبته لها فالرسول يقول: «أيها الرجال، أحبوا نساءكم كما أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها». فمن واجب الرجل أن يحب إمرأته إلى حد التضحية بالذات كما ضحى المسيح بنفسه في سبيل كنيسته. إذاً مسؤولية الزوج هي أن يحب إمرأته كنفسه. وهذا وحده يوفر الأمان والاطمئنان للزوجة، فضلاً عن أنه يجعل المرأة تخضع وتطيع بفرح وتقف بجانبه مهما كانت الظروف.

الواجب الثالث هو واجب مشترك بين الزوج والزوجة. ويمكن أن نسميه وحدة الكيان. فبعد الاعتراف بالسلطان وتوفير الاطمئنان تأتي وحدة الكيان، لأن كلمة الله تقول: «ويكون الاثنان جسداً واحداً». وهذا طبعاً يشير إلى الاتحاد التام بين الزوجين جسدياً وروحياً وفكرياً ونفسياً. ومعنى هذا أن كلا منهما في نظر الآخر هو أهم من في الدنيا بعد الله. فالمرأة بالنسبة للرجل هي قبل الوالدين والأقرباء والأصدقاء، حتى وقبل الأولاد. والشيء نفسه يصح على الرجل في نظر المرأة. ولماذا نقول هذا؟ لأن الكتاب المقدس يقول إن الزوج والزوجة يصيران جسداً واحداً.

الفصل العاشر: الأساس الذي يبنى عليه الزواج

قال أحدهم: ليس الزواج أن تجد الشخص المناسب، بل أن تصير أنت الشخص المناسب. فالزواج ليس مجرد البحث عن زوجة تناسبني، بل التكيّف مع الزوجة لأصبح الزوج المناسب.

الزواج الناجح ليس مجرد تكيّف إجتماعي بين طرفين، إنه قائم على أسس ومقومات هامة يجب توافرها ففي سفر الأمثال 24: 3،4 نقرأ هذه الكلمات:

«بِٱلْحِكْمَةِ يُبْنَى ٱلْبَيْتُ

وَبِالْفَهْمِ يُثَبَّتُ،

وَبِالْمَعْرِفَةِ تَمْتَلِئُ ٱلْمَخَادِعُ

مِنْ كُلِّ ثَرْوَةٍ كَرِيمَةٍ وَنَفِيسَةٍ»

وليس المقصود بالثروة الماديات: كالسيارة - وغرفة النوم - والمطبخ... إلخ. بل الثروة الحقيقية التي في ذواتنا. لاحظ الأفعال التي وردت في هذه الآيات:

يبنى: أي يكون بطريقة غير آلية، كما بنى الله ضلع آدم ليصنع منه حواء.

يثبت: يُجعل في وضع رأسي سليم لا يهتز ولا يميل.

يمتلئ: أي يفيض شبعاً.

فإذا أعدنا كتابة هذه الآيات مرة أخرى مع شيء من التفسير تصبح هكذا:

بالحكمة، أي القدرة على التمييز نصل إلى نظرة واسعة ودقيقة لأمور الحياة، ونبني البيت، ونحافظ على من فيه، حتى تستقيم أنفسهم، وتتفجر طاقاتهم. وبالفهم، أي التبصر نصل إلى إدراك كلي للمواقف، مما يؤدي إلى تصرف سليم، بدلاً من الاستجابات المتعجلة السطحية.

وبالمعرفة، أي الرغبة في التعلم بالإدراك، نتعرف على الحقائق ونصل إلى معانيها، حتى نطرد الجهل ونداوم البحث عن الحق.

وهكذا، تمتلئ الحياة بل تفيض بثروة لا يمكن أن تتلف أو أن تنفد أبداً، هي ثروة من الذكريات الطيبة، والاتجاهات الإيجابية، والاحترام المتبادل. هذه الثروة تعمق الشخصية. قد تتساءل: وكيف أحصل على هذه المؤهلات؟ ومن يعطيني الحكمة والفهم والمعرفة؟ إنه الله وحده الذي قال في رسالة يعقوب 1: 5 «إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يُعْطِي ٱلْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلا يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ».

هذه هي هبات الله التي لا يمكن أن تصل إليها بمجهوداتك. فالله الذي رسم لنا نظام الزواج، هو الذي يعطينا الحكمة والفهم والمعرفة، لنبني البيت ونثبته ونملأه من الثروة الحقيقية. كل ثروة أخرى قد تضيع أو تحترق أو تسرق، لكن هذه الثروة تبقى ذخراً في البيت.

فلكي يثبت الزواج في وجه عواصف الحياة، يجب أن يعرف الزوجان أنه ارتباط دائم مستمر، لا يمكن أن يفصم. لذلك يترك الرجل... ويلتصق بامرأته....

والكلمة يلتصق في العبرية تشير إلى الغراء الذي يلصق جزءين معاً. فموسى يكتب عن الأمراض التي تلصق بالجسم، وأيوب يقول: التصق لحمى بعظامي، وكلا التعبيرين لهما نفس أصل الكلمة في الآية المعنية.

إن مشكلة الكثيرين هذه الأيام هي أنهم يبدأون حياتهم الزوجية على اعتبار أنها حياة يمكن إنهاؤها، أما الكلمات التي تعهدوا أن يعملوا بموجبها عند الزواج بأن لا شيء يفصلهما إلا الموت، أصبحت كلمات جوفاء لا معنى لها في حياتهم. وأوجد هؤلاء مبادئ بديلة مثل:

لن يفصلنا إلا الخلافات - لن يفصلنا إلا الاهتمامات المختلفة. لكن قصد الله هو الالتصاق مدى الحياة.

ويكونان جسداً واحداً. إنها عملية طويلة وليست مجرد تغيير لحظي. فلو تصورنا زوجاً وزوجة من عائلتين وبيئتين مختلفتين ولهما عادات ومشاعر مختلفة، وثقافات ومواهب مختلفة، فإنه لا يمكن أن يرجع هذان الشخصان من حفل الزواج وهما جسد واحد. الوحدة تبدأ من هذا الحفل وتستمر طول الحياة .وهذه العملية تستلزم حكمة وفهماً ومعرفة.

ليس الزواج سجناً أو أسراً، بل حياة شركة. فأنت تتزوج لا لتحصل على شيء بل لتعطي، «لا تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضا» (فيلبي 2: 4). فمن يحيا حياة الحرية - كما يسميها البعض - إنما يحيا حياة الأخذ والبحث عن شيء يحصل عليه. أما من يتزوج فهو يبحث عن شخص يعطيه ومستقبل. عن أطفال يهبهم حياته. فلا يمكن أن يعيش الإنسان سعيداً إن كان يعيش لذاته، لأن السعادة الحقيقية هي في العطاء للآخرين ومشاركتهم في كافة مشاعرهم.

ولعل الشباب يعرف أنه لا توجد حرية مطلقة، فمن يظن أنه حر فهو عبد للحياة التي اختارها، كما لا يوجد في الزواج أسر بل هو تضحية للآخرين، وهذا ما يسعد الحياة.

إن الزواج المسيحي ليس مقامرة نسبة النجاح فيها 50٪ بل إن من يتزوج بحسب الشروط الكتابية، ومن يسلم حياته وبيته للرب لا بد أن يسعد. إنْ فشل فلان في زواجه وفي اختياره زوجته، فالسبب أنه عاش حياة الأنانية يبحث عن لذاته وعما يأخذه دون أن يفكر في العطاء.

إن الحياة المسيحية والأسرة المسيحية مضمونتان في يد الرب. وإن لم يبن الرب البيت فباطلاً يتعب البناؤون.

الفصل الحادي عشر: السعادة الزوجية

الزواج اختبار غني بثماره، مُشبع للذين يحبون أن يضحوا بأفكارهم الشخصية وأساليب تصرفاتهم الخاصة لكي يعملوا في تعاون لإرضاء المسيح ولإرضاء شريك الحياة في الزواج. ولتحقيق التوافق الخلاق بين حياتين لا بُدّ من المرور بمراحل مختلفة من التجارب والدموع والألم والجهاد. الزواج المسيحي مليء بالسعادة، ولكنها السعادة التي يهبها الرب يسوع المسيح فقط للذين يرغبون بدفع الثمن الذي هو إنكار الذات.

الذي ملأ المحاكم بطالبي الطلاق هو الاستهانة برابطة الزواج والنظر إليه بسطحية على أنه مليء بالمسرات. إن الأولاد والبنات الذين يسمعون أقاصيص الزواج من الجانب المرح المشجع يظنون أنهم يستطيعون أن يدخلوا رابطة الزواج بقوالب من حلوى. وهذا خطأ وإساءة إلى مفهوم الزواج. فما يردده الناس من أن الزواج قصة يمكن سن قوانين وضعية لإنهائها حين يريد الناس، إنما هو أكبر غباوة وأخطر أكذوبة تفرض على الجنس البشري.

إنني أخاطب الأشخاص الذين توفرت لديهم الشجاعة والجرأة ليعيشوا الحياة الزوجية كما قُصد لها أن تكون، أخاطب الأشخاص الذين يصممون على أن يحتفظوا برباط الزوجية مدى الحياة، الذين يرضون بأن يضحوا بأسلوبهم الخاص في الحياة - وأن يتنازلوا عن مشاعرهم إزاء أمور الحياة التافهة والخوف الذي لا أساس له، ليخضعوا لإرادة الله وينحنوا متقبلين منه هذا السر العظيم.

ما هي فرص الزواج السعيد أمامك؟ الواقع أننا لا نجد زواجاً سعيداً ما لم يكن الإنسان راغباً في الوصول فعلاً إلى السعادة الزوجية كهدف في الحياة يسعى لتحقيقه ويحامي عنه ضد كل المفشلات. أما إذا حسبت الزواج عملاً قد ينجح أو يفشل، ولا بأس من إنهائه في أي وقت تشاء فهذا لا يعد أبداً زواجاً سعيداً.

إن السعادة والسرور اللذين يريد الشباب أن يتمتعوا بهما فقط في الزواج ويعيشوا في ظلهما كل أيام العمر إنما هما نسبيّان وفي أحيان كثيرة هما وهم باطل وخطأ يجعل من الإنسان متسولاً كسولاً على بابي السعادة والسرور. هل يمكن أن يكون الناس سعداء سعادة مطلقة هنا على الأرض؟ إن الله خلق الناس ليكونوا سعداء على الأرض ولكنه حكم عليهم بالخدمة بسبب السقوط في الخطية، والعمل والخدمة يعنيان استمرار التعب والعناء.

هل أنا أقلل من قيمة الزواج؟ كلا. بل أجله وأرفع من قدره، وأتسامى به عن السفاسف التي لصقت به من مثل مشاهد الحب الكاذب التي تعرض في دور السينما أو من الخيال الذي لا وجود له في واقع الحياة.

هل تسأل إن كنت أنصحك بالزواج؟ نعم أنا أفعل ذلك، شرط أن تكون مستعداً لبذل الجهد في سبيل تحقيق ما يطلبه منك الزواج. أما إذا كنت تريد لعبة تلهو بها، فإني أهيب بك أن تشتري لنفسك لعبة أخرى تتسلى بها.

أما إذا كنت فعلاً تريد الزواج وتحمّل كافة المسؤولية فعليك أن تستجمع كل ما عندك من حكمة وشجاعة ولطف وإخلاص وإيمان حي، فحينئذ وحينئذ فقط يحق لك أن تضع يدك في يد الله وتقول: أنا أيضاً سأعمل معك.

الفصل الثاني عشر: عاملان معاً: الزوج والزوجة

«كَٱلْوَارِثَاتِ أَيْضاً مَعَكُمْ نِعْمَةَ ٱلْحَيَاةِ» (1 بط 3: 7). إن سعادة وسلام البيت مؤسسان على العلاقة القائمة بين الزوج والزوجة.

يعود بنا الفكر إلى أيام الخطوبة. إن شخصاً ما قد أحاطك وحدك باهتمامه، لقد كان هناك معجبون آخرون، ولكنك في هذه المرة تقابلت مع الشخص الذي يحبك حقاً، ولقد استجاب له قلبك بحب متساوٍ مع حبه. كم كانت الأيام مليئة بالسعادة! كان يبدو لكما أنه لا يوجد اثنان في كل العالم غيركما، وأحياناً كنتما تتحدثان عن المستقبل، وفي مرات أُخر كان الصمت بينكما أبلغ من أي كلام.

ثم حان يوم الزفاف فعشتما بالعهود والوعود، وأصبح الواحد ملكاً للآخر إلى الأبد إذا ارتبطما في المسيح. ولا شك أن هذه المحبة وهذا البيت الجديد كان من ترتيب الله، ولذا وجب أن يكون البيت أسعد مكان في العالم للزوج والزوجة. إنه المرفأ للراحة والسلام والحصن في وجه الطمع والأنانية. إنه مكان تجديد القوة الجسدية لا بل هو أحسن مكان للراحة النفسية والسعادة الحقة.

أيها الأزواج، أحبوا زوجاتكم ولا تكونوا قساة عليهن. لا تسمحوا لهذه القساوة أن تزحف إلى البيت السعيد في وسط المشغوليات الكثيرة. صلوا كي يحميكم الرب من هذا الشر. تتعب الزوجة في عمل البيت طيلة اليوم ويحزّ في قلبها أن يقابلها زوجها في المساء بجبين مقطب ووجه عابس. إنه يحبها ولا شك في ذلك، ولكنه يبدو قاسياً دون أن يقصد.

تمر السنوات سريعة، وينعم الله على الأسرة بالأطفال الصغار الأصحاء أو الأعلاء الذين هم عطية الله لنا.

أما العلاقة بين الزوج والزوجة فينبغي أن تكون مؤسسة على المحبة والاحترام المتبادل. على الزوجة أن توقر زوجها وتحترمه. أن تثق في أحكامه، وأن تظهره أمام أطفاله وأمام المجتمع كشخص جدير بالإحترام. هناك من تسخر من زوجها أمام أطفاله، لا بل تستخف بنصائحه وتهزأ بمشروعاته!

إن الزوجة هي الشريك الصامت في نجاح مشروعات زوجها. فنجاح الرجل يرجع إلى ثقة زوجته فيه. وهناك من الرجال من يُرجعون الفضل في نجاحهم إلى زوجاتهم، ويعترفون فعلاً بحكمتهن في الحكم على الأمور. يقول الكتاب المقدس: «زَوْجُهَا مَعْرُوفٌ فِي ٱلأَبْوَابِ حِينَ يَجْلِسُ بَيْنَ مَشَايِخِ ٱلأَرْضِ» (أم 31: 23). لقد أخذ مكان الكرامة في المجتمع، وكان لزوجته النصيب الأكبر في الفوز بهذا المكان.

أيتها الزوجة: تذكري مرة أخرى تلك الأيام الأولى من الزواج، حاولي أن تجددي على الدوام محبتك واحترامك لزوجك. إن اعتمادك عليه وثقتك به سوف يدفعه إلى الأمام وهو مزود بثقة الانتصار.

لقد رتب الرب أن يكون الرجل رأس المرأة في البيت، كثير من النساء لا يعجبهن هذا الوضع ويعترضن على هذا الحق للرجل، ولكن الواقع يؤكّد أن هذا الوضع الإلهي هو أحسن الأمور لراحة المرأة. فلماذا تأخذين على كاهلك حمل مسؤولية البيت؟ اتركيه لصاحبه. ضعي هذه المسؤولية على زوجك. إن هذه الثقة فيه والاعتماد عليه هما مصدر الراحة المستمرة لك، كما أنهما سيزيدانك اقتناعاً بأنك قد أحسنت الاختيار حينما تزوجت مثل هذا الرجل الكفء.

إن الأطفال لا بد وأن يلمسوا هذه التصرفات من الأم، وحينئذ يحبون ويحترمون والدهم. وإحساسهم المرهف هذا سوف ينعكس أيضاً في إيمانهم وثقتهم في «بابا». إن احترامك لزوجك هو المحبة العملية له.

اجعلي من بيتك الحصن المنيع في وجه زوابع الحياة. وخذي لنفسك عبرة من بعض النساء اللواتي يجعلن منه مركزاً للزوابع بدلاً من التصدّي لها.

إن معارضة الواحد للآخر أمام الأطفال يربكهم ويزعزع ثقتهم ويجعلهم لا يعرفون من يطيعون.

أما المشاحنات الكلامية بين الزوجين فأمر يُؤسف له. إن كان هناك اختلاف في الرأي، فيجب مناقشته وتسويته على انفرادٍ. إن النزاع يقسم البيت ويؤثر على مشاعر الأطفال وأمنهم. عيشا حياة مسيحية حقيقية معاً. اشكرا الرب على توجيهاته لكما لحياة زوجية سعيدة. إن اتفاقكما يساعد على نجاح البيت، واختلافكما المستمر في وجهات النظر معناه الفشل. لتكن لكما فرصة اللقاء مع الرب في المذبح العائلي. وليكن شعاركما دائماً هذا القول المأثور:

المسيح هو رأس هذا البيت،

والضيف غير المنظور على المائدة،

والمستمع الصامت لكل حديث.

الفصل الثالث عشر: قداسة الارتباط العائلي

لمّا كانت القداسة تعني استئصال طبيعتنا الخاطئة، فإنّ كلمة الله تتحدث أيضاً عن قداسة الارتباط العائلي بين المؤمنين وأفراد عائلاتهم والتي في أحيان كثيرة تقود غير المقدسين منهم إلى القداسة. وإذ كنّا قد وضحنا الوجهتين العمليتين للقداسة، يصح الآن أن نتأمل فيما يقوله الله عن هذه القداسة الخارجية أو قداسة القرابة.

ذكرنا فيما سبق في فصل القداسة بالدم أنه قد يتقدس شخص بمعنى معيّن، بسبب ارتباطه مع آخر، ومع ذلك يظل غير متجدد ويهلك. ولكن قد يقال أيضا عن أناس أنهم تقدسوا عن طريق ارتباطهم بمؤمنين وكانوا موضوع صلواتهم القلبية الحارة، فصاروا بعدها مخلصين حقاً بعد إيمانهم.

إن الأصحاح السابع من كورنثوس الأولى يحوي أكمل تعليم خاص بالزواج. جاء في كلمة الله، وبدءاً من ع 10... «وَأَمَّا ٱلْمُتَزَوِّجُونَ فَأُوصِيهِمْ، لا أَنَا بَلِ ٱلرَّبُّ، أَنْ لا تُفَارِقَ ٱلْمَرْأَةُ رَجُلَهَا. وَإِنْ فَارَقَتْهُ فَلْتَلْبَثْ غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ، أَوْ لِتُصَالِحْ رَجُلَهَا. وَلا يَتْرُكِ ٱلرَّجُلُ ٱمْرَأَتَهُ» وقد سبق الرب أن أعطى تعليماً واضحاً بهذا الأمر (مت 19: 1 - 12). وبسبب إنتشار الإنجيل بين الوثنيين من الأمم فقد نشأت حالات في كثير من الأماكن كانت في حاجة إلى توضيح. فمثلاً لنفرض أن زوجة وثنية وجدت الخلاص في الرب، ولكن زوجها بقي نجساً عابد وثن، فهل يبقى الشريك المسيحي في علاقة الزواج مع الشخص غير المتجدد، دون أن يتدنس؟ في أيام عزرا ونحميا كان بعض الراجعين قد اتخذوا لأنفسهم زوجات من الأمم الذين حولهم، والنتيجة كانت التشويش. «وَنِصْفُ كَلامِ بَنِيهِمْ بِٱللِّسَانِ ٱلأَشْدُودِيِّ، وَلَمْ يَكُونُوا يُحْسِنُونَ ٱلتَّكَلُّمَ بِٱللِّسَانِ ٱلْيَهُودِيِّ، بَلْ بِلِسَانِ شَعْبٍ وَشَعْبٍ» (نح 13: 24) وهذه الحالة كانت مزعجة للقادة الأتقياء الذين لم يستريحوا حتى فصلوا الزوجات الغريبات ومعهن أولادهن الذين اعتبروا نجسين وجب عزلهم من شعب الرب. لقد سطرت الأعداد التي تلي ذلك بوحي إله كل نعمة لعلاج هذه الحالة الشاقة يكتب الرسول بولس «وَأَمَّا ٱلْبَاقُونَ، فَأَقُولُ لَهُمْ أَنَا لا ٱلرَّبُّ: إِنْ كَانَ أَخٌ لَهُ ٱمْرَأَةٌ غَيْرُ مُؤْمِنَةٍ، وَهِيَ تَرْتَضِي أَنْ تَسْكُنَ مَعَهُ، فَلا يَتْرُكْهَا. وَٱلْمَرْأَةُ ٱلَّتِي لَهَا رَجُلٌ غَيْرُ مُؤْمِنٍ، وَهُوَ يَرْتَضِي أَنْ يَسْكُنَ مَعَهَا، فَلا تَتْرُكْهُ. لأَنَّ ٱلرَّجُلَ غَيْرَ ٱلْمُؤْمِنِ مُقَدَّسٌ فِي ٱلْمَرْأَةِ، وَٱلْمَرْأَةُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنَةِ مُقَدَّسَةٌ فِي ٱلرَّجُلِ - وَإِلا فَأَوْلادُكُمْ نَجِسُونَ. وَأَمَّا ٱلآنَ فَهُمْ مُقَدَّسُونَ. وَلٰكِنْ إِنْ فَارَقَ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِ فَلْيُفَارِقْ. لَيْسَ ٱلأَخُ أَوِ ٱلأُخْتُ مُسْتَعْبَداً فِي مِثْلِ هٰذِهِ ٱلأَحْوَالِ. وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ قَدْ دَعَانَا فِي ٱلسَّلامِ. لأَنَّهُ كَيْفَ تَعْلَمِينَ أَيَّتُهَا ٱلْمَرْأَةُ، هَلْ تُخَلِّصِينَ ٱلرَّجُلَ؟ أَوْ كَيْفَ تَعْلَمُ أَيُّهَا ٱلرَّجُلُ، هَلْ تُخَلِّصُ ٱلْمَرْأَةَ» (1 كو 7: 12 - 16).

يا له من تعليم تتجلى فيه قوة النعمة الفائقة. تحت الناموس فالشريك النجس ينجس الشريك المقدس. أما تحت النعمة فالشخص الذي خلصه الله يقدس النجس. إن الأسرة نظام إلهي قديم جداً، وفي كل أجزاء الكتاب المقدس يتضح أن الله يريد أن يخلص شعبه كعائلات. هو لا يريد استخدام العنف في الروابط الطبيعية التي أوجدها، فإذا خلص الرب رأس عائلة فهو يعلن بذلك أنه يختزن البركة لكل العائلة. وهذا طبعاً لا يمس المسؤولية الشخصية. الخلاص ليس بصلة دم القرابة ولكن بوجه عام نقول إن فكر الله أن يخلص عائلات شعبه مع أرباب هذه العائلات. ولذلك يعلن أن خلاص شريك يقدس الشريك الآخر كما يقدس الأولاد أيضاً. وهل معنى ذلك أنه قد حدث أي تغيير في هؤلاء الأشخاص. كلا على الإطلاق. قد يبقون كما هم بدون ولادة جديدة، محبين لطرقهم الشريرة. محتقرين النعمة، وغير خائفين من دينونة الله، ورغم كل ذلك فهم مقدسون في القريب المؤمن. كيف يتفق هذا مع فكرة الكماليين عن القداسة؟ لأنه من الواضح أن الكلمة هنا لا تعني أي تطهير وهكذا تنهار فكرتهم انهياراً تاماً. والسبب في ذلك هو أنهم ألصقوا بكلمة القداسة معنى غير صحيح لغوياً، وباطل كتابياً ولا ينسجم مع الواقع العملي. واضح أن القداسة في الحالة التي أمامنا مختصة بعلاقة القرابة إذ يتغير مركز بقية العائلة بتجديد أحد الأبوين. فلا يكون البيت في نظر الله بيتاً وثنياً بعد بل بيتاً مسيحياً.

الكل ظلمة في البيت الوثني، لا يوجد نور يضيء أبداً، ولكن دع أحد الوالدين في العائلة يتجدد، فماذا يحدث إذاً؟ تظهر منارة في ذلك البيت تنير على الآخرين سواء أرادوا أو لم يريدوا. لقد وُضعوا في مكان الإمتياز والمسؤولية اللذين كانوا بعيدين عنهما كل البعد. كل هذا دون أن يعمل الله بعد في نفوسهم رغم أنه فتح الباب أمامهم لقبولهم المخلص،إنّ اهتداء أحد الوالدين هو طريق الله الذي يعلن أشواقه بالنعمة لكل هذه العائلة، كما في حالة سجان فيلبي إذ كلف الله خادميه بأن يعلنا الحق الثمين «آمِنْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ» (أعمال 16: 31). إن هذه الكلمات القليلة لم تمنح الخلاص لأهل البيت، ولكنها ثبتت في قلب السجان حقيقة أنه كما فتح أمامه طريق الخلاص قد فتحه أيضاً أمام أهل بيته، وأن الله يريد منه أن يتكل عليه في هذا الأمر. فهم مقدسون من اللحظة التي آمن فيها، وسريعاً ما ملأ الابتهاج كل البيت، عندما استجاب الجميع لنعمة الله المقدسة.

هذا هو بالاختصار تعليم الكتاب المقدس عن القداسة بواسطة القرابة التي يهملها أو يتجاهلها الكثيرون رغم كونها على جانب عظيم من الخطورة والأهمية للأفراد المؤمنين في العائلات التي لم يخلص كافة أفرادها بعد. أيّها الزوج والزوجة! استمرا في العمل والصلاة وعيشا للمسيح أمام الباقين، وأنتما عالمان أنه فيكما قد تقدس الجميع، وأنّ الله منتظر أن يخلصهم عندما يشعرون بحاجتهم للنعمة وثقتهم فيها.

الفصل الرابع عشر: الجنس في الزواج المسيحي

تعليم السيد المسيح عن الزواج مرتبط بالنظرة المسيحية إلى الجنس. ويجب تلبية رغبة الدافع الجنسي الصحيح في إطار الحياة الزوجية فقط، وعلى هذا الأساس فإن الأخلاق المسيحية تدين العلاقات الجنسية السابقة للزواج، كما تدين الخيانة الزوجية.

والزواج المسيحي هو اقتران رجل واحد بامرأة واحدة اقتراناً شرعياً مدى حياة الزوجين - وعليه فإنه يتصف بصفتين أساسيتين هما: استمرارية العلاقة، وانفراد العلاقة مع شريك واحد. وكتعبير عن هاتين الصفتين تُؤخذ عهود الإخلاص والأمانة الزوجية على الزوجين عند إجراء عقد الزواج. وهذه العهود تتضمن المحبة والإخلاص والوفاء في الصحة والمرض، في السراء والضراء، وحفظ الإنسان نفسه للآخر دون سواه ما دام الطرفان على قيد الحياة.

وقد يتساءل البعض عن ضرورة هذه العهود ما دام الطرفان يحب أحدهما الآخر. والجواب على هذا التساؤل يقودنا إلى صميم طبيعة الزواج المسيحي. فمع أن الحب شرط لا غنى عنه في الزواج السعيد، لكن الزواج يتطلب ما هو أكثر من الحب - إنه يتطلب مع المحبة الالتزام الأخلاقي والشرعي. يقول إميل برونر اللاهوتي الشهير: إن الزواج ليس اتفاقاً طبيعياً فحسب، ولكنه قرار أخلاقي مؤسس على الاتفاق الطبيعي. إن الزواج ليس مجرد إحساس شخصين أنهما مرتبطان معاً بالحب ولذلك يعطي أحدهما نفسه للآخر في علاقة جنسية، لكن الزواج يتم عندما يعترف الطرفان بالترتيب الإلهي لشريعة الزواج كرباط مقدس، وإقرار الطرفين بأنهما مرتبطان بهذا الرباط.

وعلى هذا يكون للزواج أساس ذاتي هو عاطفة الزوج والزوجة أحدهما نحو الآخر، وله أيضاً أساس موضوعي أي خارج عن الذات. هو إقرار الزوجين بطبيعة الزواج كاتحاد فريد، يخلقه فيهما اختيارهما الحر للدخول فيه، وتترتب عليه مطاليب والتزامات. لهذا السبب يُعتبر الإخلاص أساسياً في الزواج لأنه العامل الأخلاقي الذي يُثري ويعمق الحب الطبيعي ويزيده قيمة وجمالاً. فعن طريق الإخلاص، تصير المشاعر الطبيعية في الإنسان أمراً شخصياً يتجه نحو شخص محدد، وعن طريق العهود تندمج العواطف مع الإرادة الشخصية في رباط مقدس يكون مبرراً لأن يتقبل كل من الشخصين لمخاطرة حياة العشرة الدائمة مع الشخص الآخر، هذه العشرة التي يهب فيها كل شخص نفسه للآخر.

ومن المؤسف أن كثيرين في عصرنا الحاضر قد ابتعدوا قليلاً أو كثيراً عن هذه الصورة المثالية؛ وابتدأ البعض يشك في قدرتها على الصمود أمام تجارب الحياة المعاصرة. وقد ساهمت بعض النظريات الحديثة في زعزعة ثقة الناس في هذه الصورة. فقد قال بعض علماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان): إن المثل العليا للحياة الزوجية وليدة بعض الحضارات القديمة وهي بذلك نسبية وليست مطلقة، ومتغيرة وليست ثابتة. وقال بعض علماء علم الاجتماع إن الحياة الاقتصادية والتغيرات الاجتماعية في الحقبات الأخيرة تركت بصماتها على قيم الحياة الزوجية وأدخلت فيها بعض التعديلات. وحذر بعض أطباء النفس من الكبت الجنسي قائلين إنه يؤدي إلى الأمراض النفسية، في الوقت الذي نادى فيه أصحاب النظرة المادية الطبيعية بما سبق أن ذكرناه عن إمكانية ممارسة الجنس قبل الزواج؛ وأضاف آخرون أنه من العسير أن يلتزم الإنسان بدوام الزواج، وتساءلوا: أليس من الممكن أن نترك الباب مفتوحاً للتنصل من عهود الزواج إذا لم يستمر الحب قائماً بين الزوجين؟ ولماذا لا ننظر إلى الزواج كتجربة يمكن أن تنجح أو تفشل، وفي حالة الفشل لماذا لا نتيح الفرصة لتجربة ثانية قد يكون حظها من النجاح أوفر من الأولى؟!!

أمام هذه الأسئلة ونظائرها، كان من الضروري أن ندرس بعناية وعمق عما إذا كان نظام الزواج المسيحي قد أصبح غير ملائم للإنسان المعاصر، أم أنه مؤسس على حقائق متأصلة في الطبيعة الإنسانية لا تتغير، وبذلك فهو يستطيع أن يثبت أمام كل الظروف المتغيرة في الحياة المعاصرة.

إننا بعد الدراسة المستفيضة الموضوعية، وبعد تقليب جميع وجهات النظر، واستعراض كافة النظريات السائدة في المجتمع المعاصر، وبالاستعانة بأحدث مما وصلت إليه العلوم الحديثة من أبحاث، وفي نور كلمة الله، نريد أن نؤكد أن الزواج المسيحي بصورته المثالية التي ذكرناها وهي الاقتران الشرعي المقدس بين رجل واحد وامرأة واحدة مدى حياتهما معاً، مؤسس على أسس أصيلة في نظام الحياة والطبيعة البشرية، وبذلك لا يمكن أن نتركه نهباً لتقلبات وتغيرات الأمزجة والظروف في مختلف العصور.

الفروق الجنسية بين الرجل والمرأة جزء من نظام الخليقة. هذه الفروق السيكلوجية والبيولوجية تشير إلى أن كلا من الرجل والمرأة ليس كاملاً بمفرده، وإن الجنسين يحتاج أحدهما إلى الآخر، ليس لإرضاء الرغبات والدوافع الجنسية فحسب، بل ليكمل أحدهما الآخر. هذا هو الأساس الوجودي الأنثروبولوجي للزواج. فبعد أن خلق الله آدم قال الله: «لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِيناً نَظِيرَهُ» (تك 2: 18). وبعد أن خلق الله حواء، قال الكتاب: «لِذٰلِكَ يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً» (تك 2: 24). إن القول: «ليس جيداً أن يكون آدم وحده» لا تشير إلى حالة الوحدة أو العزلة النفسية فحسب، بل إلى حالة الوجود نفسه أو الكينونة ... إن آدم يحتاج إلى شخص ليكمله. والمعين الذي يحتاجه الرجل ليس مجرد فرد يقتسم معه العمل حتى يستطيع هو أن يصطاد أو يزرع، بينما تقوم هي بطهي الطعام وترتيب المنزل. ولكن المعين شخص يقدر جهوده، ويشاركه ميوله واهتماماته، ويمنحه العاطفة التي ينالها بدوره منه أيضاً، ويثري حياته بأن ينتزعه خارج ذاته إلى دائرة أوسع في الحياة. وهكذا يكون الزواج رفقة وعشرة دائمة فيها يحفز كل طرف الطرف الآخر ويحثه على أن يكون كاملاً، فهو ضرورة للتحقيق المتبادل للشخصية. وعلم النفس الحديث يؤكد لنا أن الشخصية لا تنمو إلا من خلال تفاعلها مع أشخاص آخرين؛ وأن مشاركة شخص آخر في الحياة أمر لا غنى عنه لتحقيق النضج والحصول على السعادة، في الوقت الذي تكون فيه الحياة المنفردة المنعزلة مصدراً للتعاسة، ودليلاً على أن هناك إمكانيات في الذات لم تتحقق. ولا يمكن التغلب على هذا الشعور بالعزلة والانفراد والانفصال إنما بالاتحاد الحميم مع شخص آخر.

فبدون الحب، الذي هو عطاءٌ متبادلٌ، لن يكون هذا الاتحاد كاملاً، ويفشل في تحقيق هدفه - إن عشرة رجل مع امرأة بدون حب تصير أمراً يبعث على الملل، وأقصى ما يمكن أن تحققه هو تحقيق بعض المصالح المشتركة للطرفين، لكنها لا تجمعهما معاً كفردين. الحب يوفر للطرفين مدلولاً روحياً يستطيع به كل طرف أن يتخطى اهتمامه بذاته ويشترك بعمق في اهتمامات الشخص الآخر. هذا هو أساس السعادة الحقيقية في الزواج. وكما أن العشرة الكاملة مستحيلة بدون الحب، كذلك فإن الحب الذي لا يقود إلى العشرة والمشاركة الكاملة لا يمكن أن يكون أساساً صحيحاً للزواج. وإهمال هذه الحقيقة هو السبب في تحطيم كثير من العلاقات الزوجية التي بنيت على الحب الرومانسي وحده أو الهيام المشبوب العاطفة. إن العبارة الشاعرية التي يرددها الناس أحياناً والتي تقول: «الحب وحده يكفي» تبالغ في تقدير الناحية العاطفية للزواج، وتعمي عيون المحبين عن رؤية الحقيقة الواقعية وهي أن الحياة الزوجية ليست كلها ترديد قصائد الشعر والحب والإغراق في الأحلام الوردية، ولكنها جهاد وصراع وكفاح، وإذا كان الحب هشاً ولا يستطيع أن يواجه صعوبات الحياة ومشكلاتها التي لا بد أن تحدث، فلن يدوم هذا الحب طويلاً، وسوف يتبخر أمام أقل خلاف أو سوء فهم أو عند أية محنة تصيب العائلة.

إن التكامل المتبادل لشخصين عن طريق الرفقة والمعاشرة لا يمكن أن يتم إلا إذا توفرت النية المخلصة بأنّ هذه المعاشرة والعلاقة ستكون دائمة مدى الحياة. والعلاقة التي يدخل إليها شخص ما وهو يحتفظ في أعماق نفسه ببعض التحفظات أو يتصور أنه من الممكن أن يفصم هذه العلاقة إذا لم تحقق له السعادة، هي علاقة محكوم عليها بالفشل قبل أن تبدأ.

إن الفرد الذي يتصور أنه يستطيع أن يتزوج دون أن يعطي حياته كلها لشريكه في الحياة، يجد نفسه وقد حجب جزءاً من ذاته من هذا الاتحاد، وهذا في حد ذاته يُعتبر زعزعة لأساس الزواج. فما لم يعط كل طرف ذاته كلها للآخر بلا تحفظ مدى الحياة، فلن يثق كل طرف في الآخر، وبدون هذه الثقة وهذا الشعور بالأمان والاطمئنان، لن يجد أي من الطرفين شجاعة المخاطرة، ولن يكون هناك سلام حقيقي يقود إلى الاستقرار والتقدم في بناء الأسرة الجديدة.

هذا فضلاً عن أن دوام العلاقة الزوجية أمر ضروري لإعطاء فرصة للنمو التدريجي للفهم والتعاطف والانسجام المتبادل بين الزوجين. وبدون هذا الفهم وهذا التعاطف لن تتحقق السعادة. إن كثيرين من أصحاب النظرة الرومانسية الخيالية يتصورون أنه عندما يقع شخصان في الحب، فسرعان ما تتحطم الحواجز بينهما كما ولو بقوة سحرية، وحالاً يتم الانسجام بلا معوقات. وقد يبدو الأمر كذلك في نزوة الانفعال الطارئ والحماس الوقتي؛ لكن الواقع يؤكد عكس ذلك بإن عملية التفهم المتبادل والانسجام معاً عادة ما تتم ببطء شديد... ولعل عدم استعداد الشريكين لتقبل وتحمّل معاناة هذا التكيّف البطيء هو السبب في كثير من حالات الطلاق التي تتم بعد حب جارف... معظم الناس إن لم يكن كلهم يريدون حلولاً سريعة لمشكلاتهم، وهذا ضرب من الخيال. التكيّف السليم في العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة قد يحتاج إلى شهور وسنين أحياناً، كذلك تكيفهما معاً وانسجامهما في أمور أخرى مثل الذوق، والنظرة إلى الحياة، والطباع، قد يحتاج إلى وقت أطول. وهذا ليس شيئاً غريباً إذ أنّ أنانية الإنسان واهتمامه الزائد بنفسه، وغير ذلك من المكونات المركبة في شخصيته تعوق قدرته على عطاء النفس للطرف الآخر بلا حدود، وتحتاج إلى وقت وصبر لكي تجد طريقها إلى الاستقرار.

لذلك فقد صدق من قال: إن أطيب الثمار في الزواج، نجنيها بعد وقت طويل؛ وإن أجمل اختبارات السعادة في الحياة الزوجية نختبرها في السنوات المتأخرة بعد الزواج وليس في السنوات المبكرة؛ على خلاف ما يظن الكثيرون.

الفصل الخامس عشر: الزواج المسيحي والمرأة الواحدة

الزواج بامرأة واحدة مدى الحياة هو الطريق السليم لاستقرار الدافع الجنسي عند الإنسان وتحويله إلى طاقة خلاقة تسمو بحياة الإنسان الفكرية والأدبية. أما أنواع العلاقات الجنسية الأخرى بين الرجل والمرأة فهي قوة هدامة للجانب الأدبي والروحي السامي عند الإنسان. قد يظن البعض أن التجاء الفرد إلى علاقات جنسية قبل الزواج وخارج الزواج قد يكون وسيلة لتخفيف التوتر عند الإنسان، ليتفرغ بعد ذلك إلى حياته العادية. لكن الواقع غير ذلك لأنّ الدوافع الجنسية إذا أشبعت بدون ضوابط وفي غير إطار الزواج، تصبح طاقة جامحة تستحوذ على فكر الإنسان وتمتص جزءاً كبيراً من طاقاته ووقته وتسخر كل قوى الذات لخدمتها؛ وتكون النتيجة أنها تعوق نمو الاهتمامات الفكرية والروحية عند الإنسان. أما في إطار الحب والإخلاص بين الزوجين، فإن العلاقات الجنسية تصير تعبيراً رمزياً عن الحب، وتكون واحدة من عدة اهتمامات أخرى مرتبطة بحياة الشخصين معاً وعلاقتهما بالمجتمع.

إن طبيعة الطاقة الجنسية إذا مورست بمعزل عن ارتباطها بشخصية شريك دائم، لا تستريح أو تهدأ، لكنها تتصاعد حتى تستحوذ الرغبة الجنسية على كل اهتمامات الإنسان وتحتكرها لذاتها وتضحي في سبيلها بكل شيء آخر - والزواج المسيحي يلائم الرغبة الجنسية في حياة الإنسان ويضعها في مكانها الطبيعي ويعطيها أهميتها لكنه يروضها وينظمها في داخل إطار الوجود الإنساني الشامل.

ولقد أشرنا سابقاً إلى جماعة الزاهدين القائلين بأن الدافع الجنسي أمر حيواني جسدي، وهؤلاء يتقبلون الزواج على أنه علاج للشر أو لمنع شراً أسوأ منه - الجنس في ذاته ليس شراً لكن الإنسان الشرير يسيء استعماله بسبب أنانيته. لأنه ما لم يتغلب الإنسان على أنانيته واهتمامه الزائد بذاته، فإنه لن يستطيع أن يحب المرأة كشخص لذاتها، ويظل يعتبرها أداة رخيصة لإرضاء دوافعه الجنسية - والزواج بامرأة واحدة وإن كان لا يضمن التغلب على الأنانية، لكنه على الأقل يهيء المناخ المناسب للتغلب عليها، وذلك لأنه يتيح للرجل والمرأة بعشرتهما معاً أن يتعاملا باعتبارهما بشراً لا أشياء وأن يشارك أحدهما الآخر في اهتماماته، وأن يتحملا مسؤولية بعضهما البعض، وكلما تقدما في هذا المجال فإنهما سوف يتدربان على تخطي محبة الذات.

وإذا سمح الله وبارك علاقة الزواج بإنجاب أطفال، فإن تنمية مشاعر الأبوة والأمومة، والمشاركة في المسؤوليات الجديدة المتعلقة بالأطفال، تساعد على تنمية الزوجين أخلاقياً لأن دوافع جديدة تظهر في حياة الأسرة وأهداف جديدة تبرز أمامها - وهنا ينبغي أن نشير إلى خطر محاولة الهروب من المسؤوليات والالتزامات تجاه الأطفال، بامتناع الزوجين الاختياري عن الإنجاب. فإن هذا الإتجاه يزيد من أنانية الزوجين إذ أن حبهما يتحول إلى حب أناني غير مثمر، والحب إذا توقف عن العطاء المستمر فإنه يتعرض للخطر. إن وجود أطفال في الأسرة يوسع اهتمامات العائلة، ويدرب الزوجين على التضحية في سبيل الأطفال، ويزيد من شعور الزوجين بارتباطهما معاً في مسؤولية التربية، مقوياً شعورهما بالمسؤولية الاجتماعية. وكل هذه أمور ضرورية لتنمية شخصية الإنسان أخلاقياً.

لذا فالزواج المسيحي بامرأة واحدة مدى الحياة هو الشكل الملائم بين أشكال العلاقات بين الجنسين لتحقيق القيمة الحقيقية للمرأة: لقد كان العالم القديم يعتبر المرأة وسيلة لتحقيق غاية الرجل ومتعته؛ وكانت معاملة المرأة على هذا الأساس لا تسمح لها بحرية تقرير مصيرها. كان الرجل هو السيد وله الحق أن يستمتع بالعلاقة الجنسية مع عدد من النساء حسب أهوائه ولإشباع لذته سواء في وقت واحد، أو أوقات متتالية.

لكن مثالية الزواج المسيحي تعطي للمرأة كرامتها وتحقق المساواة بين الجنسين. نحن لا ندعي أبداً أن نظام الزواج وحده يستطيع أن يغير اتجاه الإنسان وفكره. كثيرون يعيشون في ظل شكل الزواج المسيحي، إنما بقيم ومبادئ لا تقرها المسيحية. نحن لا ننكر أن هنالك من يعامل زوجته الواحدة كأنها شيء وليس كشخص؛ ومن يتخذ خليلة بالإضافة إلى زوجته. وهناك أزواج لا يزالون يمارسون السيادة الطاغية في البيت. ذلك لأنه ليس من الضروري أن يكون الزواج بامرأة واحدة دليلاً على أنه زواج مسيحي. غير إنّ القيم المسيحية في الزواج تنير الطريق وتضع الإطار الملائم للحياة الصحيحة، وتتيح الفرصة للإنسان إذا تمسك بمبادئ المحبة والإخلاص والمساواة، أن يحقق السعادة الحقة التي يريدها الله للإنسان في الزواج المسيحي.

لذا فإن الزواج المسيحي هو أفضل من كل مفاهيم الزواج الأخرى في توطيد استقرار الأسرة ورعاية الأطفال. فالعلاقة الواضحة بين المعاشرة الجنسية وإنجاب الأطفال دعت الكثيرين أن يعتبروا الإنجاب أهم أهداف الزواج إن لم يكن الهدف الوحيد.

إن مرحلة الطفولة في حياة الإنسان هي الأطول زمناً، من طفولة سائر الكائنات الأخرى وبالتالي بحاجة أكثر إلى رعاية الوالدين، لذلك كان إخلاص الزوجين بعضهما لبعض، وارتباطهما معاً مدى الحياة، أمراً ضرورياً لسعادة أطفالهما واستقرار العائلة. فالطفل من وقت ولادته إلى وقت نضوجه يحتاج إلى عواطف الوالدين أكثر من أي شيء آخر، وطبيعي أنه لن يجد مثل هذه العواطف بالصورة المطلوبة إذا كان أحد الوالدين منفصلاً عن الآخر، أو متورطاً في علاقة جنسية خارج الزواج - كما أن الأطفال يحتاجون إلى الشعور بالأمان، وهذه الحاجة تعتمد على استمرار المحبة والتعاطف والتشجيع من كل من الوالدين - ولقد أثبتت الإحصائيات التي أجرتها هيئات علمية موثوق بها أن مشكلات التشرد والانحراف عند الأحداث والشباب ترجع في المقام الأول إلى سوء العلاقات بين الأبوين أو انفصال أحدهما عن الآخر، وما يترتب على ذلك من خلافات في الأسرة بين الأبناء ووالديهم، أو بين الأخوة غير الأشقاء بعضهم مع بعض. وليست حاجة الأبناء إلى والديهم قاصرة على مرحلة الطفولة والصبا فحسب، بل أنه بعد أن يكبر الأبناء والبنات ويستقلون عن والديهم، فإنهم يحتاجون إلى دفء محبة الوالدين والشعور بالانتماء إلى أسرة متحدة.

حياة الزوجين معاً لفترة طويلة من الزمن، مقرونة بالرقة والرفقة والمشاركة في مباهج الحياة وأحزانها لذات الهدف، سوف تعمل على تآلف روحيهما بصورة أعمق، حتى تصير العلاقة بينهما روحية أكثر منها جسدية. ومن غير المتوقع أن ينفصلا عن بعضهما البعض بعد هذه المدة الطويلة من المعاشرة، ولو حدث انفصال في هذه المرحلة، فإنه يكون مفجعاً أكثر مما لو حدث في سنوات الزواج الأولى. إن الشعور بالفراغ والوحدة في السن المتأخرة من أشق الأشياء على النفس؛ ولو أن طرفاً منهما وجد نفسه مدفوعاً إلى زواج آخر ليملأ فراغ وحدته وحياته، ففي الغالب ستكون سعادته ناقصة ولا يمكن مقارنتها بسعادته فيما لو عاش مع شريك عمره في هذه السن المتأخرة، كما أنه لن يجد ذكريات جميلة غالية يعيشها في حياته الزوجية الجديدة. وحتى علاقة الأب أو الأم بالأولاد لن تكون حارة ودودة عندما يزور الأولاد والأحفاد بيت الأسرة الكبيرة طلباً لحنان ودفء الآباء والأجداد.

وهكذا يتضح لنا أن العلاقة الزوجية في نظام الزواج المسيحي هي العلاقة المثلى بين الرجل والمرأة؛ وبينهما وبين الأولاد، لأن هذه العلاقة هي التي أعلنها الكتاب المقدس باعتبارها مشيئة الله الأصلية في خلق الرجل والمرأة؛ وهي العلاقة التي تتطلبها ضرورة الوجدان الإنساني أيضاً.

الفصل السادس عشر: المسيحية والطلاق

في ضوء ما ورد عن الزواج المسيحي باعتباره اقتران رجل واحد بامرأة واحدة مدى حياتهما في إطار المحبة والإخلاص والشركة الكاملة، وأن شريعة الزواج بهذه الصورة تتفق مع مشيئة الله الكاملة من البدء، وأن هذا النظام ضروري لتنمية الإنسان أخلاقياً ولمنح المرأة قيمتها كشخصية لها اعتبارها، ولاستقرار الأسرة... من هنا نستطيع أن ندرك سر معارضة المسيحية للطلاق. ويتأيد هذا الفكر عندما ندرس أقوال السيد المسيح التي تعتبر الطلاق أمراً لا ينسجم مع إرادة الله الكاملة للإنسان.

  1. أحاديث المسيح عن الطلاق:

    وما دمنا قد أشرنا إلى كلام السيد المسيح عن الطلاق، فمن الضروري أن ندرس الظروف التي تحدث فيها المسيح عن هذا الموضوع لأنها تلقي ضوءاً على هذه القضية، وتساعدنا على فهم الأبعاد المختلفة لفكر السيد المسيح فيها.

    يروي متّى البشير في إنجيله ص 19 أن الفريسيين جاءوا إلى يسوع ليجربوه قائلين له: «هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ ٱمْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ؟» (مت 19: 3) - وأبعاد هذا السؤال يمكن فهمها عندما نعلم أنه كان عند اليهود مذهبان في إباحة الطلاق، أحدهما ضيق والآخر متحرر. كانت الشريعة اليهودية تبيح الطلاق في ظروف معينة، وقد ورد في ناموس موسى: «إِذَا أَخَذَ رَجُلٌ ٱمْرَأَةً وَتَزَوَّجَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْهِ لأَنَّهُ وَجَدَ فِيهَا عَيْبَ شَيْءٍ، وَكَتَبَ لَهَا كِتَابَ طَلاقٍ وَدَفَعَهُ إِلَى يَدِهَا وَأَطْلَقَهَا مِنْ بَيْتِهِ...الخ» (تث 24: 1) - وقد اختلف علماء اليهود في تفسير العبارة: إن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء... قد كان هناك مذهب المعلم شمعي وهو مذهب ضيق يقول: إن العيب هو الزنا فقط، ولا يجوز الطلاق لغير هذا العيب وكان هناك مذهب المعلم هليل وهو مذهب واسع توسع في تفسير العيب لدرجة أن بعضهم قال: إن إفساد طعام الزوج عيب يبيح الطلاق، وذكر بعضهم عيوباً أخرى تبيح الطلاق مثل السير بشعر غير مضفور؛ أو الحديث مع الرجال في الطريق، أو عدم احترام والدي الزوج في حضوره، أو الحديث بصوت عال يمكن أن يصل إلى سمع الجيران وهكذا... بل إن بعضهم مثل المعلم عقبة توسع في شرح العبارة: إن لم تجد نعمة في عينيه ففسرها بأنه إذا وجد الرجل امرأة أجمل منها وأحبها أكثر منها، يجوز له أن يطلقها.

    كان سؤال الفريسيين للرب يسوع استفهاماً منهم عما إذا كان يؤيد مذهب شمعي الضيق أو مذهب هليل المتحرر، وبذلك يدخلونه في خلافاتهم. وهذا هو السبب في أن متّى كتب يقول إن الفريسيين جاءوا إليه ليجربوه..

    أما جواب يسوع فكان أن أعاد الأمور إلى بدايتها الطبيعية، ولم يدخل معهم في تفسير العبارة التي وردت في الناموس بل رجع بأفكار الناس إلى الحالة المثالية عند الخليقة، فقال إن الله خلق آدم وحواء، رجلاً واحداً، وامرأة واحدة. وواضح أن ظروف قصة الخليقة تبين أن آدم وحواء قد خُلق الواحد منهما للآخر، وليس لأي كائن آخر، وقد كان اتحادهما كاملاً وضرورياً غير منفصمٍ. ويقول الرب يسوع إن هذه الصورة التي نراها في آدم وحواء هي النموذج لما ينبغي أن يكون عليه كل زواج يأتي بعدهما. فكل زواج هو إعادة لارتباط آدم وحواء. ومن الواضح أنه في حالة آدم وحواء لم يكن الطلاق مجرد أمر مكروه أو غير جائز بل كان مستحيلاً لأنه لم يكن في العالم إلا رجل واحد وامرأة واحدة.

    وهنا يضع الرب يسوع أمامنا القاعدة العامة وهي أن كل طلاق يُعتبر أمراً غير طبيعي وخطأ. ومن هذه النقطة وجد الفريسيون فرصة ليهاجموا يسوع باعتباره يناقض في نظرهم تشريع موسى الذي يجيز الطلاق، إذا لم تجد المرأة نعمة في عين زوجها لأنه وجد فيها عيباً، وكأنهم يسألون يسوع عما إذا كان موسى مخطئاً في شريعته التي قدمها لليهود بوحي من الله. وهذا معنى قولهم: «فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلاقٍ فَتُطَلَّقُ؟» (متّى 19: 7) وكان جواب يسوع «إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلٰكِنْ مِنَ ٱلْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هٰكَذَا» (متّى 19: 8) بمعنى أن موسى لم يضع لهم قانوناً يأمرهم بالطلاق، لكنه سمح به فقط حتى ينظم الوضع الذي كانوا هم يفسدونه بسبب طبيعتهم الشريرة الضعيفة الساقطة.

    وقد استرسل الرب يسوع بعد ذلك فذكر القاعدة التي تتفق مع الفكرة المثالية عن الزواج فقال:

    «وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ ٱمْرَأَتَهُ إِلا بِسَبَبِ ٱلزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي، وَٱلَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي» (متّى 19: 9). وعندما نقارن هذا القول برواية كل من مرقس ولوقا لهذه القاعدة نلاحظ أن رواية متّى هي وحدها التي تشير إلى السماح بالطلاق لعلة الزنا. فقد ورد في مرقس «مَنْ طَلَّقَ ٱمْرَأَتَهُ وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي عَلَيْهَا. وَإِنْ طَلَّقَتِ ٱمْرَأَةٌ زَوْجَهَا وَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ تَزْنِي» (مر 10: 11 ،12). وجاء في لوقا: «كُلُّ مَنْ يُطَلِّقُ ٱمْرَأَتَهُ وَيَتَزَوَّجُ بِأُخْرَى يَزْنِي، وَكُلُّ مَنْ يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ مِنْ رَجُلٍ يَزْنِي» (لو 16: 18).

    ويفسر بعض الشراح عدم الإشارة إلى إباحة الطلاق لعلة الزنا عند مرقس ولوقا أنهما افترضا هذا الأمر افتراضاً لأنه كان أمراً طبيعياً عند اليهود. ويقول آخرون إن السيد المسيح قصد فعلاً ألا يسمح بالطلاق لأي سبب، بينما يقول رأي ثالث أنه لم يكن في قصد المسيح أن يضع تشريعاً خاصاً للطلاق، وأن حديثه كان شرحاً للصورة المثالية للزواج وهي ارتباط الزوجين مدى حياتهما.

    ولعله من المناسب أن نشير إلى أثر هذا الحديث عند التلاميذ. فعندما سمع التلاميذ الفكرة المثالية عن الزواج المسيحي فزعوا وقالوا: «إِنْ كَانَ هٰكَذَا أَمْرُ ٱلرَّجُلِ مَعَ ٱلْمَرْأَةِ فَلا يُوافِقُ أَنْ يَتَزَوَّجَ!» (مت 19: 10) - وربما ذكر التلاميذ الأمثال الشائعة التي كان الربيون يذكرونها عن شقاء الحياة الزوجية والتي كانوا يقترحون الطلاق كعلاج لها، لذلك كان منع الطلاق يبدو في نظرهم أمراً مخيفاً مفزعاً، فقالوا للمسيح إنه إذا كان الزواج هكذا طريقاً لا عودة منه، فيحسن عدم الدخول فيه بالمرة لتجنب مآسيه. ولقد كان جواب يسوع على ملاحظة التلاميذ هذه قوله: «لَيْسَ ٱلْجَمِيعُ يَقْبَلُونَ هٰذَا ٱلْكَلامَ بَلِ ٱلَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُم» (مت 19: 11). ولا نستطيع أن نجزم عما إذا كان المسيح يقصد بهذا الكلام فكرته المثالية عن الزواج، أو يقصد بنفس العبارة اقتراح التلاميذ بالامتناع عن الزواج. ومن المرجح أن الرب يسوع كان يقصد المبدأ العام وهو أن المسيحي الذي نال نعمة من الله هو الذي يقبل مبدأ الأخلاق المسيحية، وأن الصورة المثالية للزواج تتضمن شرطاً أساسياً يسبق وجودها وذلك بأن يكون كلٌ من طرفي الزواج مسيحياً حقيقياً؛ وأن تطبيق تعليم السيد المسيح مستحيل دون معونة المسيح المستمرة وبسبب قوة التغيير التي يعملها الرب يسوع في القلب.

    وقد عبّر أحد المفسرين عن هذه الحقيقة بهذا التعبير الحاد: إن تعاليم المسيح بدون وجود المسيح الدائم تصير أمراً مستحيلاً، لا بل تصبح صورة مثالية تبعث على العذاب لأنها تصير غير ممكنة. إن قول المسيح عن الزواج ينبغي أن يُفهم جيداً وهو غير ممكن إلا للمسيحي الحقيقي فقط.

  2. هل تعليم المسيح مبدأ أخلاقي أم تشريع قانوني؟

    نجد هذا السؤال يطرح نفسه بشكل لا يمكن تجنبه. لأنه يواجهنا في مجالات كثيرة، لكنه في هذا الموضوع يفرض نفسه علينا فرضاً لأن الزواج مع كونه علاقة إنسانية روحية وجسدية، لكنه أيضاً علاقة شرعية مدنية.

    هناك من يأخذون كلمات السيد المسيح على أنها قانون حرفي ويمنعون الطلاق لأي علة. فمتى كان الزواج صحيحاً فلا يحق لأيّ إنسان أن يفرق ما جمعه الله. وهؤلاء يواجهون موضوع استحكام الخلاف بين الزوجين بما يسمى الانفصال الجسماني بمعنى التفريق بين حياة الزوجين معاً دون انحلال الزواج الذي يرون أنه لا ينحل إلا بموت أحد الطرفين.

    وهناك من يتمسكون أيضاً بالنص حرفياً، ولكنهم يسمحون بالطلاق لعلة الزنا مستندين إلى ما جاء في إنجيل متّى من أقوال المسيح. على أن الطلاق في هذه الحالة لا يكون واجباً بسبب هذه العلة، فلا ينحل الزواج بمجرد الزنا، ولكنه ينحل إذا طلب الطرف البريء ذلك، لكن هناك من يتملكهم روح الغفران المسيحي فيسامحون ولا يطلقون رغم سقوط الطرف الآخر في هذه الزلة.

    والذين يدعون لمنع الطلاق يستندون في ذلك إلى أقوال السيد المسيح باعتبارها تشريعاً للحياة الزوجية، ويضيفون إلى ذلك أن إباحة الطلاق في حد ذاتها تشجع الناس على سوء التصرف للتحرر من الحياة الزوجية، ويرون أنه من العار أن تتنازل الكنيسة عن صفة دوام الزواج التي تميز العلاقة الزوجية في المسيحية وتضمن استقرار الأسرة المسيحية.

    وفي ذات الوقت يتجه كثيرون من المفكرين إلى اعتبار تعليم السيد المسيح اتجاهاً روحياً أخلاقياً يدعو الناس إليه في إطار مبادئ ملكوت الله، إنما لا يقصد به وضع تشريع أو قانون وضعي للمعاملات الشرعية والمدنية. إن تعليم المسيح يصف مشيئة الله الكاملة التي يجب أن يهدف إليها كل مسيحي، ويطلب نعمة الله لتحقيقها؛ لكن السيد المسيح نفسه اعترف بالضعف الإنساني عند البشر لأجل هذا كان يطلب من الناس الاتضاع والندم والتوبة إلى الرب إذا عجزوا بسبب ضعفهم البشري عن تحقيق مشيئة الله الكاملة في حياتهم. ويستند هؤلاء في تفكيرهم إلى الحقيقة التي يقرها اللاهوتيون وهي أن الفلسفة الأخلاقية المسيحية ليست أخلاقيات ناموسية، لكنها أخلاقيات المحبة، وعلى المسيحي أن يطبقها على موقفه الخاص بروح الحرية المسؤولة، أي بالالتزام والجدية في إطار ما تمليه عليه المحبة الواعية والضمير المستنير بروح الله.

    ويقول هؤلاء إن النظرة الناموسية الحرفية قد تبدو لأول وهلة على أنها التزام وتمسك بالنصوص، ولكن ما أكثر الناس الذين يجدون ويبتكرون وسائل خبيثة للتملص من حرفية القانون، ما داموا غير ملتزمين بروحه.

    وإذا كانت حياة الزوجين تفتقر إلى المبادئ المسيحية الجوهرية فإن حرفية القانون لن تكون عائقاً أمامهما، وكم من زوج أو زوجة اعترفا إن صدقاً أو كذباً بارتكابهما خطية الزنا لكي يتخلصا طبقاً للنص الحرفي من ارتباط الزواج، غير عابئين بأثر هذا الاعتراف على حياتهما أو حياة أولادهما في المستقبل.

    إن النظرة الناموسية الحرفية لا يمكن أن تحل مشكلات الزواج، ذلك لأن الحياة الزوجية ليست مجرد تعاقد قانوني، لكنها اتحاد شخصي وشركة محبة وعطاء؛ ولا يمكن علاج المشكلات الإنسانية الشخصية بمجرد التشريع الجامد، بل إن العلاج يستلزم نظرة شخصية وتغييراً في الحياة.

    وقد يسقط إنسان ما مرة واحدة نتيجة اندفاعه أو بغواية التجربة، ومع ذلك فإن تكوين شخصيته يجعله على استعداد أن يندم ويبقى طيلة حياته الباقية في عفة ووفاء وشعور بالخجل نتيجة خطيته. إن مثل هذا الشخص الذي تسمح الناموسية بتطليقه قد يكون أقدر على الحياة الزوجية السعيدة بعد توبته من شخص آخر لا يرتكب عملاً تعتبره الناموسية مجيزاً للطلاق، لكن حياته كلها تكون في كل لحظة مليئة بالأنانية والكبرياء والتعقيد والهزء والقسوة فيجعل حياة الطرف الآخر أكثر تعاسة من الجحيم... إن النظرة الأخلاقية الروحية في موضوع الزواج والطلاق إلى شريعة ناموسية أدبية، لا يعالج مشكلات الزواج والطلاق.

    وإذا كان من الخطأ أن نحول مبدأ منع الطلاق إلى شريعة ناموسية، فإنه من غير المعقول أيضاً أن نجعل مثل هذه المبادئ الروحية أساساً لنصوص مواد قانون مدني وضعي تفرضه الدولة على الجميع سواء كانوا مسيحيين حقيقيين أو مسيحيين إسميين.

    ولقد ذكر بعض الباحثين في القانون أن أي قانون لا يكون فعالاً وملائماً إذا كان يتطلب مستوى أدبياً أو أخلاقياً أسمى بكثير من مستوى غالبية أفراد المجتمع الذي يطبق فيه. وعلى هذا الأساس لا يمكن وضع تشريع يحاسب الإنسان جنائياً على النظرة الشريرة، لكن القانون يحاسب على الكلمات أو الإشارات أو الأفعال النابية التي قد تصاحب النظرة الشريرة - وفي نفس الوقت فإن القانون الوضعي يعتبر مثل هذه الأفعال في درجة أخف وزراً من الزنا أو هتك العرض - بينما نجد في نظر مشيئة الله الكاملة أن النظرة الشريرة مساوية للزنا لأنها تخالف المبدأ الأساسي وهو النظر إلى الجنس الآخر كشخص متكامل القوى والإمكانيات وليس كمجرد أداة للمتعة واللذة الحسية.

    هذا فضلاً عن حقيقة هامة أخرى وهي أنَّ أية محاولة لصياغة المثل الأخلاقية المسيحية في قوانين وضعية تخضع لسلطان الدولة وجزاءاتها، يجعل هذه المثل تفقد طابعها الديني والأخلاقي. إن الباعث الأساسي للطاعة في الأخلاق المسيحية هو روح الشكر والامتنان والعرفان بجميل الله تعالى الذي أحبنا، وشعورنا بواجب الاتجاه نحوه بالحب والطاعة، لا خوفاً من عقاب، أو رغبة في ثواب - ولو أن هذا الباعث إستبدل بباعث آخر، أو أضيف إليه باعث آخر يختلف عنه، وهو محاولة تطبيق القانون والخضوع له خشية الوقوع تحت طائلة عقاب الدولة؛ فإن الطاعة هنا تفقد صفتها الروحية وصلتها بالدين، وتتحول إلى سلوك اجتماعي فحسب. والسلوك الاجتماعي السليم ضروري، لكنه لا يرقى إلى درجة السلوك الروحي، النابع من صفاء النفس في علاقتها بالله، وحساسية الضمير المستنير بروح الله.

الفصل السابع عشر: الزواج والخضوع

السيدات أولاً: هذا تعبير مألوف يقضي به النظام الاجتماعي ويأخذ به الكتاب المقدس عندما يتحدث عن نظام الله للعائلة. فالكتاب المقدس عندما يتحدث عن النظام الإلهي في العائلة يوجه الكلام إلى الزوجة أولاً «أَيُّهَا ٱلنِّسَاءُ ٱخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ، لأَنَّ ٱلرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ ٱلْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً رَأْسُ ٱلْكَنِيسَةِ، وَهُوَ مُخَلِّصُ ٱلْجَسَدِ. وَلٰكِنْ كَمَا تَخْضَعُ ٱلْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ، كَذٰلِكَ ٱلنِّسَاءُ لِرِجَالِهِنَّ فِي كُلِّ شَيْ» (أف 5: 22 - 24).

ومجرد التفكير في أن تكون المرأة خاضعة لزوجها، أو مطيعة له، يثير شعوراً سلبياً في نفوس الكثيرات من النساء اللواتي يعتبرن ذلك حطاً من قدرهن إذ تصورهن هذه الفكرة كالخادمات الخاملات اللواتي لا شأن لهن. غير أن الخضوع في نظر الله يعني شيئاً آخر، فالخضوع هو الطاعة المتواضعة الذكية لسلطة معينة - على مثال خضوع الكنيسة لسلطان المسيح، الذي هو مجد الكنيسة، وهو أبعد من أن يحط من قدرها. ولم يسن الله هذه الشريعة القاضية بخضوع النساء لأزواجهن حقداً عليهن، إنما من أجل حماية النساء وتحقيق الانسجام في البيت وهو يقصد أن يحمي المرأة من الكثير من مصاعب الحياة. لقد أتاح الله للزوجات أن يخترن بحرية دور الخضوع تماماً كما اختار المسيح الخضوع للآب (في 2: 5 - 9).

نرى في سفر الأمثال 31: 10 - 31 أكمل صورة للزوجة الفاضلة في الكتاب المقدس: إنها مقتدرة، طموحة، عاملة بملء إرادتها. شفوقة، حكيمة، جديرة بالثقة، مبتهجة، تهتم بشؤون أهل بيتها وشؤون الآخرين. تعي فضلها وتستعمل في سبيل الخير ذكاءها وقوتها الجسدية وخلقها المنطوي على مخافة الله. إنها تجعل الحياة وفيرة الخيرات والمسرات لزوجها وأولادها، ولمن هم خارج دائرة عائلتها. فيا لها من امرأة رائعة!

ما الذي يقدح زناد هذا الجهاد الخلاق لله؟ هل زوج يهيمن عليها ويبقيها خاضعة له بقوة السياط؟ أم زوج يعبر عن تقديره الفائق لها «زَوْجُهَا أَيْضاً فَيَمْدَحُهَا. بَنَاتٌ كَثِيرَاتٌ عَمِلْنَ فَضْلاً، أَمَّا أَنْتِ فَفُقْتِ عَلَيْهِنَّ جَمِيعاً» (أم 31: 28 و29). فعندما يفرض الزوج على زوجته خضوعاً صارماً يكون قد نبذ نظام الله ولم يبق إلا على السلطة البشرية، ولكن حينما يؤدي دوره وفقاً لنظام الله فيحب زوجته ولا يقسو عليها «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ، وَلا تَكُونُوا قُسَاةً عَلَيْهِنَّ» (كو 3: 19) عندئذ يصير خضوع الزوجة له ينبوعاً للحب والإخلاص المتبادلين.

أولاً: الخضوع وسيلة للحماية:

تتعرض المرأة في العالم لمخاطر جسدية أو عاطفية أو نفسية أو روحية، وفي هذه جميعها تحتاج إلى حماية زوجها. هذه حقيقة أساسية عامة راسخة عند الشعوب في تفكيرها وسلوكها. في كل عصر وحضارة.

فالمرأة تحتاج أن تكون محررة إلى حد كبير من عبء التأثير العاطفي الناجم عن تمثيل العائلة تجاه المجتمع ولذلك يقوم الزوج بهذا الدور.

وتحتاج المرأة إلى الحماية من ثورات أولادها العاطفية، إذ ينبغي للأم ألا تلتمس احترام أولادها التماساً أو تنتزعه انتزاعاً، لأن هذا الموقف يسلبها التوازن الضروري للحفاظ على الكرامة وروح الهدوء في العائلة كلها. فعلى عاتق الزوج هنا مسؤولية حماية زوجته من كل تجاوز من قبل أولادها. فإزاء أدنى مظهر من مظاهر الإزدراء بالأم أو أدنى عصيان لكلمتها، عليه أن يحزم أمره ويضع حداً لمثل هذه التصرفات كي يتبين للأولاد بأنّ سلطة الأب وراء الأم. فالأب الذي يحمي زوجته من غلاظة الأولاد وتجاوزاتهم يغرس في نفوسهم الشعور باحترام المرأة بصورة عامة، بالإضافة إلى أن المثل الذي يعطيه، بإظهاره الاحترام والتقدير لزوجته، إنما هو جزء مما يتركه لبنيه من تراث.

والأهم هو أنه عندما تتعرض المرأة لمخاطر على المستوى الروحي. فيكون لها بمثابة درع واقية ضد أجناد الشر الروحية (أف 6: 12).

كم من شرور حلت في العائلة والكنيسة لأن النساء فقدن الدرع الواقية المتمثلة في سلطة الزوج. لقد تركن إبليس يخدعهن واعتقدن أنه من العار على الزوجة أن تخضع لسلطة زوجها وتطيعه. وهكذا نبذ الكثيرون من الآباء والأمهات هذا التعليم لأنهم اعتبروه تبجحاً أحمق مصدره أنانية الرجل وشيئاً قديماً يعود إلى العصور الغابرة الذي لا مكان له في عصرنا الحالي. إلا أن الكتاب المقدس لا يمتدح أي أنانية. فنظام العائلة الإلهي يؤيد القصد الأول من الحماية وبالأخص الحماية الروحية. ففي سلطة الزوج وخضوع الزوجة له الدرع الواقية من مكايد إبليس. وعندما تعيش المرأة تحت سلطة زوجها تستطيع أن تتحرك بحرية كبيرة في الشؤون الروحية وبالحماية من الخدع الشيطانية الكثيرة، يمكنها أن تتحرك بقوة وفاعلية في شأن الصلاة وممارسة المواهب الروحية. إن رغبة الله هي وقوف الزوج بين زوجته وسائر الناس، عاملاً على تلافي الكثير من الضغوط الجسدية والعاطفية والروحية التي تجابهها. فالزوج، لا الزوجة هو المسؤول الأول عما يجري في البيت والمجتمع والكنيسة وعندما يتخلى الزوج عن دوره هذا أو عندما تغتصب الزوجة هذا الدور يعود هذا بالضرر على كل من في البيت.

ثانياً : الخضوع وسيلة للتوازن الإجتماعي:

«لأَنَّ كُلَّكُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَمَدْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ ٱلْمَسِيحَ. لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلا يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلا حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (غل 3: 27 - 28).

لا يتحدث الرسول بولس هنا عن مساواة اجتماعية أو سياسية بل يؤكد أن النساء والرجال بعلاقتهم بالله كأبناء له، وبالمشاركة الروحية مع المسيح، وبقبولهم الروح القدس متساوون.

إن الزوجة بحسب مفهوم الشعوب الشرقية، استعبدت لنير زوجها، أما الرومانيون فقد رفعوا من شأنها إلى حد أنها سادت عليه. وكلا التصورين خاطئ وما زال هذان التصوران المتطرفان في صراع وتصادم في الحياة العادية؛ غير أن المثال المسيحي يتميز عنهما. فالكتاب المقدس يعلم خضوع الزوجة لزوجها. وهذا أمر يجمع عليه العهدان القديم والجديد. وهذا الخضوع باد منذ بدء الخليقة. «لأَنَّ آدَمَ جُبِلَ أَوَّلاً ثُمَّ حَوَّاءُ، وَآدَمُ لَمْ يُغْوَ لٰكِنَّ ٱلْمَرْأَةَ أُغْوِيَتْ فَحَصَلَتْ فِي ٱلتَّعَدِّي» (1 تى 2: 13 - 14). وبعد السقوط قال الله لحواء: «إِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ ٱشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ» (تك 3: 16) قد نسعى جاهدين لمخالفة هذا الأمر ما استطعنا. لكنه سيبقى أبداً الشريعة الأولى التي لا يبطل مفعولها يوماً.

على كاهل الرجل أُلقيت السلطة، وهذه السلطة يرافقها هم ثقيل وجهاد قاس على أرض ملعونة. وعلى الرجل، كلما أتى عملاً دنيوياً أن يذوق شيئاً من مرارة تلك اللعنة. وعليه فإن الرجل قد يبتهج بالتخلي عن هذه السلطة إذا حرره هذا التخلي من الهم والمسؤولية، وكثير من الرجال تخلوا عن مقامهم في رئاسة العائلة وعصرنا يشهد بذلك. والمرأة من جهتها لا تخاف الجهد بل ترغب في الحكم. وهذا التنكر المستمر من قبلها لإرادتها الشخصية هو محنتها الكبرى.

كثيرون يحاولون أن يعطوا الزواج دوراً مخالفاً لطبيعته، كالشخص الذي يريد أن يقود سيارة من علو شاهق، متوقعاً الطيران، فيكون مشهده مضحكاً إن لم يكن مأساوياً. فالطيران مناقض لطبيعة السيارة. لقد حدد الله في الزواج دوراً معيناً لكل من الزوجين وهذان الدوران هما جزء من الطبيعة الأساسية للزواج، وتجاهلهما أو ابتداع بديلين عنها، انزلاق إلى الإنهيار الروحي.

ملاحظات حول الخضوع:

ولكن ما العمل إذا اتخذ الزوج قراراً يؤدي بالعائلة إلى التهلكة؟ أفلا ينبغي للزوجة أن تقوم بعمل ما في مثل هذه الحالة المنذرة بالويل؟ أليست هناك حدود لهذا الخضوع؟ يقول الكتاب المقدس: «أَيَّتُهَا ٱلنِّسَاءُ، ٱخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا يَلِيقُ فِي ٱلرَّبِّ» (كو 3: 18). من الواضح أن الرسول يعني أنه من المناسب للزوجة بل واجب عليها أن تخضع لزوجها. غير أن قوله ينطوي على أن طاعتها يجب أن تكون في الرب أي ألا يقودها خضوعها إلى أي شكل من أشكال الخطيئة. وهذا لا يعني أنه في إمكان الزوجة أن تخرج على سلطة زوجها لمجرد خلاف حول قضية من القضايا التي تختص بالحياة الروحية.

كان لإحدى كنائس البرازيل، وقد شهدت يقظة عظيمة، أن تجابه مشكلة النساء اللواتي اعتنقن الدين المسيحي بينما بقي أزواجهن بعيدين عنه، وقد منع بعض الأزواج الزوجات من الذهاب إلى الكنيسة أو من المشاركة في الأنشطة الرعوية، فنصح الراعي الزوجات بأن يتقبلن ذلك وأن يتكلن على الله في تغيير قلوب أزواجهن. وهكذا فإن رجالاً كثيرين منهم اهتدوا إلى الإيمان.

يجب أن نميز بين الخضوع والعبودية، فالزوجة التي ترى أن حكم زوجها مخطئ أو طائش ينبغي لها أن تلفت انتباهه إلى ذلك بمنتهى الاحترام ولكن بحرية وصدق، وعندما تبدي حكمها على الأمور بحكمة ومحبة وتواضع فإنها تصلح الخطأ ورأيها المستقيم ينفع الزوج وتنقذه من أخطاء كثيرة حمقاء. فيكون من مصلحته المميزة ومسؤوليته كزوج أن يتقبل النصيحة الحكيمة من زوجته. إن الزوجة التي تقول بهدوء: افعل ما تراه الأنسب. من دون أن تبدي رأياً حتى عندما تعتقد أن زوجها يقود العائلة إلى مصاعب، ليست زوجة مطيعة إنما ساذجة. فعليها أن تعبر له عن أفكارها كاملة، وأن تبدي حجتها بكل ما في وسعها، من دون أن تنسى احترامها لزوجها. لكن لا يجوز لها مطلقاً أن تكتم شكوكها المخلصة حول قرار ما. عليها إبداء الرأي وترك القرار لزوجها، مع الثقة بأن الله يمنحه الحكم السديد.

ليس الخضوع شكلاً خارجياً فحسب، بل هو موقف داخلي، ففي وسع أي زوجة أن تبدي آراء سديدة وتعلنها بصراحة وتبقى مع ذلك خاضعة لسلطة زوجها. ومن جهة أخرى فإن الزوجة التي نادراً ما تعبّر عن رأيها ولا تسأل زوجها عن قرارات وتجاري جميع مشروعاته مهما كانت حمقاء قد تغذي ببطء عصياناً عميقاً ربما ينفجر يوماً ما.

الخضوع لا يعني أن تبقى الزوجة صامتة تاركة كل شيء بين يدي الزوج بل الخضوع للسلطة معناه أن تضع ذاتك كلياً في تصرف من له السلطة عليك. هذا هو المعنى الذي يحدده الرسول بولس للمسيحي في خضوعه لله: قدموا ذواتكم لله وأعضاءكم آلات بر لله. هذا هو الخضوع الذي على منواله نُسجت العلاقة بين الزوج والزوجة. فإذا كتمت الزوجة إدراكها وكبتت مشاعرها في قضية ما، تكون بعيدة عن الخضوع كل البعد. وإذا جاهرت تماماً بأفكارها، فلربما تركت بذلك القرار لله ولزوجها وعليه فإنه ينبغي لها ألا تحاول فرض إدراكها ورأيها فرضاً مهما كلفها ذلك.

لهذا فإن دور الخضوع بالنسبة إلى الزوجة لا يطمس شخصيتها بل يوفر لها أفضل الظروف للإبداع وتحقيق الذات كي تعبر عما في نفسها بطريقة مفيدة وسليمة. هذه الطريقة هي طريقة الله في جعل مواهبها من ذكاء وتبصر وحِكَم مفيدة من غير أن يثقل كاهلها في الوقت نفسه بالسلطة ومسؤولية القرار. فدور الزوجة في الخضوع ضروري، ليس لمنفعتها الشخصية فحسب، بل في تحقيق التوازن داخل العائلة نفسها وفي المجتمع بصورة عامة.

ثالثاً: الخضوع وسيلة للسلطة الروحية:

لم يشأ الله لنا أن نجد الرضى والارتياح بعيداً عنه، والزوجة التي تكرس ذاتها للمسيح أولا تكون مصدر سرور لسيدها الأرضي، ولربها السماوي معاً (1 بط 3: 6) وهي محكوم عليها بالشقاء إذا كان مصدر سعادتها الوحيد زوجها أو أولادها. إن سر سعادة الزوجة هي أن تعمل ما يريده المسيح منها. قد تكون الزوجة متفوقة على زوجها بالوعي والاهتمام الروحيين ولكن هنا بالذات يكمن تعرض الزوجة للخطر. إنها تتوسل ذلك العذر الديني عن سلطة زوجها إذ تشعر بأنها باتخاذها «القيادة الروحية» الفعالة في العائلة فقط تستطيع أن تضمن التربية اللائقة لأولادها وهداية زوجها في نهاية المطاف، وهذه تخفي الروح الدينية تخفي ثورة عظيمة (إر 17: 9). إن موقفاً استقلالياً كهذا لا يحقق الغاية المنشودة بل يفسدها حقاً. إذ أن الزوج يبتعد أكثر فأكثر عن الاهتمام بالشؤون الروحية.

تحض الحكمة البشرية المرأة على أن تنهض وتتولى القضايا عندما ترى أن العائلة تتعثر، بينما لا يبدي زوجها أي قيادة روحية. وكلمة الله هنا هي النصيحة الفضلى وأن تبقى خاضعة لرأسها وأن تثق بأن رأس زوجها الذي هو المسيح سيهتم هو بالأمر ويتصرف فيه بالشكل المناسب.

نشاط المرأة، وحذقها وتدينها صفات ممتازة، لكن المرأة النشيطة التي تعطل نشاط زوجها، والمرأة الحاذقة التي تسكته وتظهر سخافته ببراعة حديثها، وأخيراً المرأة المتدينة التي تتيح للآخرين أن يلاحظوا أن زوجها أقل منها هداية وإدراكاً إنما هن نساء تثير مزاياهن الثلاث الاشمئزاز.

على الزوجة أن تثابر على إظهار التواضع والاحترام لزوجها، وأن تبدي لطفاً وسكوتاً وخضوعاً في جميع الأمور التي لا تشكل خطيئه بالمعنى الصحيح، فهذه الفضائل تنطوي على الاعتراف الحقيقي بالمسيح والخروج عليها يؤدي إلى نكرانه.

على المرأة أن ترى المسيح في زوجها. وعليها أن تتشبث بذلك بفعل إيمان مستمر إذ أنها باحترامها إياه تحترم المسيح الذي عينه رأساً لها. فللحاكم والقاضي والأب بعض من كرامة الرب الذي هو الحاكم والقاضي والأب. وهذا أيضاً للزوج بصفته رأس العائلة. فهل إذاً المرأة تؤمن بالله وبالهدى الإلهي؟ إذن فلتعترف بهذا الهدى حتى في الآلام التي قد يسببها لها زوجها، ولتذعن لهذه الآلام متأكدة أنها مدرسة ينبغي لها أن تتعلم فيها الصبر الذي هو أصعب الفضائل المسيحية. وسوف تتعلم في مدرسة الطاعة هذه أن المسيحية لا تقوم على الكلام بل على السلطة.

فلتعلق آمالها على الله، ولتعلم أن زوجها جُعل بقربها ليكون بركة لها، وأنها لن تحظى بأي بركة ما لم ترتبط به بتواضع ارتباطاً وثيقاً. وإذا كان هذا منافياً لرأسها لتفاهة زوجها ورفعة شأنها، إذ يبدو لها زوجها بعيداً عن المنطق، فلتحذر احتقار زوجها لأنه يعني احتقار الله، ويعني بالتالي انفصالها عن مصدر البركة الذي حباها الله به.

أيتها النساء، ابتهجن بسلطة الأزواج عليكن، واخضعن لهم في كل شيء فذلك امتياز خاص بكن إذ تعملن في حماية سلطتهم. والرب في نطاق هذا الخط من النظام الإلهي يبارككن ويجعلكن بركة لأزواجكن وأولادكن وكنيستكن ومجتمعكن.

الفصل الثامن عشر: دعوة الى الحب

اسأل زوجاً:

هل تحب زوجتك؟

فيبادرك:

بلا شك أحبها.

إنه بقوله هذا يعني ما يشعر به نحوها أو ربما ما يقوم به من أجلها من اهتمام ومراعاة لمشاعرها. لكن الحب الذي يتحدث عنه الرسول بولس هنا إنما هو أبعد مما يشعر به المرء، لا بل هو أبعد مما يفعله مباشرة. فمقياس المحبة هو تضحية بالذات.

أيها الزوج، أحبب امرأتك.

  1. ضحِّ بنفسك من أجلها.

  2. اهتم بخيرها الروحي.

  3. اسلك طريق الصليب أمامها.

  4. اتضع في ممارسة سلطتك.

ضحِّ بنفسك من أجلها:

إن كلمة «أحبوا» المستعملة في أف 5: 25 هي «أغابي» في اليونانية وهي تعني المحبة المضحية كما أحب المسيح الكنيسة وضحى بنفسه من أجلها.

ندرك في هذا التعليم الجوهر الروحي لنظام الله الخاص بالعائلة وللوهلة الأولى يستنتج المرء أن الزوج قد أُولي السلطة على زوجته وأولاده. فيبدو الرجل في المقام السامي وكأن به يقول: «أنا هو السيد». لكن لا بد للمرء من نظرة أعمق، لأن السلطة الإلهية المنوطة بالزوج والأب هي على مثال سلطة المسيح. فسلطة المسيح مبنية على التضحية بنفسه. إن سلطة الزوج ليست سلطة جسدية، أو سيادة إنسان على آخر. إنها سلطة إلهية وروحية مبنية على التضحية بالذات.

هذا المبدأ الأساسي تعبر عنه بوضوح إعالة الزوج لعائلته. فليحرص الزوج على تأمين الحاجات الضرورية لعائلته. فإذا مال إلى عمل جدير به وكسب دخلاً متواضعاً، فليس من العار في نظر الله أن يعيش ببساطة كما يسمح ذلك الدخل، بل العار في أن يهمل نظام الله لخير العائلة رغبة في كسب المال. وكما يجب على الكنيسة أن تتكل على المسيح وحده في كل ما تحتاج إليه، كذلك على الزوجة والأولاد أن يتكلوا على الزوج والأب لتأمين حاجاتهم. فإذا اضطر الزوج إلى أن يحرم نفسه من الراحة وأن يتخلى عن شيء من الحظوة عند أصدقائه ليجعل مستوى معيشته على قدر ما يستطيع، فهذا أقل ما يطلب الله منه. وهذا تجسيد لدور الزوج الذي عليه أن ينكر ذاته - أي أن يعبر عن حبه بتخليه عن أنانيته، ورفاهيته، بغية أن يخدم عائلته.

يقول الله إن الزوج يجب أن يحب زوجته، وهذا الحب يقاس بالتضحية. إنه الزهرة الإلهية النادرة التي لا تنمو إلا حيث نكران الذات والتضحية بها، وبذلها حتى الموت.

اهتم بخيرها الروحي:

الزوج الذي يحب زوجته طبقاً للكتاب المقدس، إنما يهتم أولاً بحاجاتها الروحية، فيجعلها متصلة بالرب اتصالاً وثيقاً، مدركاً أن سعادتها الحقيقية، كامرأة وزوجة وأم، يجب أن تبنى على أساس من العلاقة بيسوع. وهذا لا يكون انصياعاً ورعاً لحاجة دينية، أو تطلعاً روحياً. بل هو اعتراف عملي تام بالمكانة الأولى ليسوع المسيح في حياتها وسلطانه المطلق.

وإذا كان الرب يشترط أن يوطد الزوج علاقة زوجته بالمسيح، أفليس ذلك من دواعي ابتهاج كليهما؟ وكيف يمكن لزوج أن يظهر حبه لزوجته بطريقة أفضل من عمله هذا؟ الواجب الأسمى المُلقى على الزوج المسيحي هو أن يعنى بقداسة زوجته، ومثاله المسيح الذي ضحى بنفسه من أجل كنيسته لكي يقدسها.

لا يكفي الزوج أن يقود الزوجة إلى الحياة المسيحية فتنتهي بذلك مهمته، بل عليه أيضاً أن يبذل كل ما في وسعه ليجعلها أهلاً للحصول على بركة الله الكاملة في الكنيسة. أما في البيت فبالصلاة والكلام البناء، يقويها في الروح، ويعزز شعورها بكل ما هو سام وسماوي، ويعمق معرفتها المسيحية. وليعلم أن لا أحد يمكنه أن يقف حجر عثرة أمام المرأة في شؤونها الروحية مثله. وأن لا أحد مثله قادر على أن يدفعها إلى التقدم نحو الصلاح. فلعلها تكون مقصرة عنه في المعرفة المسيحية، أو أنها لم تختبر بالكنيسة بعد مثله طريق الخلاص. على الزوج ألا تهن عزيمته وألا يتسرب اليأس إلى قلبه وألا تخالجه ريبة بزوجته، بل عليه أن يتمسك بالصلاح بمنتهى الحزم واللطف، لأن الله بواسطته ينير قلب زوجته ويغير رأيها ويرشدها إلى الطريق القويم. وليقل في نفسه: إني منتدب لأباركها، لا لأسعدها في هذه الدنيا فحسب، بل لأضحي بذاتي من أجل خيرها الدائم. وعلي أن أحبها كما أحب المسيح كنيسته.

إن زوجاً يمارس بجد دوره في نظام الله للعائلة لا يكتفي بأن يوكل أمره معها إلى يسوع، فيتملص من مسؤوليته قائلاً بورع: تلك علاقة بينها وبين الله. بل عليه أن يدرك ما دعاه الله إليه ليكون رأساً روحياً لزوجته. فكما أن المسيح مسؤول عن العناية بالكنيسة ونموها، كذلك الزوج مسؤول عن العناية الروحية بزوجته والعائلة وبنموها.

اسلك طريق الصليب أمامها:

كيف يمارس الزوج هذه المسؤولية؟

هل يفرضها على زوجته فرضاً؟

هل يُلقي عليها محاضرات حول الحياة الروحية ومبادئها؟

كلا، بل يمارس مسؤوليته بالتضحية بذاته من أجل زوجته. وهذا يعني أنه يمشي أمامها في طريق الصليب. فيعطي المثل لمعنى التضحية بذاته. وهو يفعل ذلك لا لتقديس ذاته فحسب، بل لمصلحة زوجته.

كان موسى من أعظم القادة قاطبة. وقد أولاه الله سلطة كبيرة ومع ذلك كان في نظر الكتاب المقدس «حَلِيماً جِدّاً أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ ٱلنَّاسِ ٱلَّذِينَ عَلَى وَجْهِ ٱلأَرْضِ» (عدد 12: 3). ولما ثار عليه شعب إسرائيل، هرب إلى الخباء والتمس العون من الله. فعاقب الله عندئذ الثائرين (عدد 12: 10، 16: 33). ولكن لما حاول موسى أن يتعامل مع الشعب بقوته، صاباً جام غضبه عليهم، عاقبه الله بأقصى الصرامة، حتى أنه حرمه امتيازه الخاص بقيادة إسرائيل إلى أرض الموعد (عدد 20: 2 - 12).

إن السلطة التي يمارسها الزوج على زوجته وأولاده ليست سلطته الخاصة، بل هي سلطة أولاه الله إياها، وعليه أن يمارسها بحزم وحكمة معاً، لكن الله هو الذي يوطدها ويصونها «وَلٰكِنْ أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَأْسَ كُلِّ رَجُلٍ هُوَ ٱلْمَسِيحُ. وَأَمَّا رَأْسُ ٱلْمَرْأَةِ فَهُوَ ٱلرَّجُلُ» (1كو 11: 3). فإذا كانت الزوجة لا تحضع لزوجها، فربما كان مرد ذلك إلى أن الزوج متمرد سراً أو علناً على المسيح. فعلى من يمارس السلطة أن يكون أول الخاضعين. وعلى الرجل المتمردة عائلته عليه، أن يمعن النظر في علاقته بالمسيح، صاحب السلطة عليه.

لذا عندما يقول الكتاب المقدس: «أيها الرجال، أحبوا نساءكم»، فمعنى قوله هذا أبعد بكثير مما ينبغي للزوج أن يضمر لزوجته من شغف وود. إنه يعني أن من واجبه أن يموت من أجلها، كما مات المسيح من أجل الكنيسة.

اتضع في ممارسة سلطتك:

إن السلطة المعطاة للزوج يجب أن تُصان، ولكن ينبغي ألا يشعر الزوج بأنها حق له بل واجب عليه. وألا يخطر بباله السلطان الموكل إليه، من دون أن يتذكر ما يلقيه عليه من مسؤولية. ويجب أن يفهم أن هذا الدور عبئاً على كاهله ويرضى أن يحمله. وكل ما يحدث في بيته يجب أن يكون موافقاً لإرادته، لأن المسؤولية في ذلك تقع عليه. ويجب ألا يتغاضى عن هذه المسؤولية أو أن يضعف فيحاول الإعراض عنها، لأن ذلك مستحيل.

كتبت إحدى الزوجات تقول: «لا تتخلوا عن دوركم القيادي، فهذا هو الأهم. ولا تسلمونا الزمام لأننا نعتبر ذلك تنازلاً منكم. إنه يربكنا ويهولنا ويحملنا على التخاذل. إنه، وبأسرع من لمح البصر، يعطل الدافع الذي حملنا أولاً على حبكم. لكن، للأسف، سوف نحاول التغلب عليكم لكي ننتزع منكم المرتبة الأولى في البيت. ذلك هو التناقض الرهيب في ذواتنا. سنتظاهر بأننا نحاربكم بلا هوادة لانتزاع هذه السلطة، ولكننا في أعماق قلوبنا نود أن تحوزوا النصر. بل يجب أن تنتصروا لأننا لم نخلق لتولي القيادة، فموقفنا هذا موقف مفتعل».

ينبغي للزوجة أن تنظر باحترام إلى مجال عمل زوجها وسلطته. وعلى الزوج ألا يحتقر جهد زوجته المتواضع. ومن الإجحاف الشديد أن يتوهم أن ما يجب عليها عمله هو من توافه الأمور. وليتذكر أنه ليس ملزماً بأن يعول زوجته فحسب، بل هو ملزم أيضاً بأن يعزيها ويراعي مشاعرها برقة. فإذا حط من قدر عملها ومسؤوليتها سبب لها أذى شديداً ليس من السهل تداركه.

في سفر الأمثال وصف للزوجة الفاضلة: «إنَّ ثَمَنَهَا يَفُوقُ ٱللآلِئَ... زَوْجُهَا أَيْضاً فَيَمْدَحُهَا. بَنَاتٌ كَثِيرَاتٌ عَمِلْنَ فَضْلاً، أَمَّا أَنْتِ فَفُقْتِ عَلَيْهِنَّ جَمِيعاً» (أم 31: 10 و28 و29).

أيها الزوج:

اعتبر زوجتك كنزاً وهبك إياه الله. أحبِّها، أكرمها، اعترف بمواهبها، قدّر جهودها، احترم مشاعرها.

عبر بحنو وإخلاص عن حبك لها كل يوم بأي شكل من الأشكال.

إن هذا الفيتامين اليومي المشجع سوف يجعل من حياتك الزوجية مكافأة أكبر لزوجتك ولك.

«أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ، وَلا تَكُونُوا قُسَاةً عَلَيْهِنَّ» (كو3: 19). في هذه الكلمات يذكر الرسول بولس شائبة واحدة في الأزواج تفوق سائر الشوائب وهي: القسوة. فالقسوة تقوض أركان أفضل زواج يبدو راسخاً كالصخر. فالزوج يعتمد كثيراً على ما يكنه من إخلاص وهو غير مبال بأسلوبه في التعبير عن الشؤون الصغيرة ويسمح لنفسه بأن يكون عديم المبالاة حيث يجب أن يبدي أعظم الرقة والاحترام. إنه يتصرف مع جميع الغرباء مظهراً الاحترام، ويرتدي من أجلهم أحسن ملابسه، أما في البيت، فهو رجل آخر تماماً. على أنه من الأفضل أن يسيء إلى أي كائن في العالم من أن يسيء إلى المرأة التي منحته ذاتها بكليتها. بل من واجبه أن يبهج قلبها كل يوم، وأن يستمر في شدها إليه باهتمامه الحنون وتصرفه النبيل. فإذا كانت لديه أسباب لعدم الرضى، فليفصح عنها في خلوة بينهما بعيداً عن مس مشاعرها. فكل لوم في حضور الأولاد، وكل تذمر أمام الغرباء، هو ألم مرير لزوجته. زد على ذلك أن عمله هذا يقلّ من كرامته.

عندما يطلب الكتاب المقدس أن تُعامل الزوجة بلطف واحترام لكونها شريكة في ميراث نعمة الحياة، يضيف هذا الإنذار لكي لا تُعاق صلواتكم (1بط 3: 7).

إن مشاعر الزوجة وكرامتها قد تُصاب بجرح خفي يسببه الزوج بتصرفه الفظّ أحياناً ولعدم الاهتمام بأحزان زوجته وبالدفاع عنها، فعندما يصلي الزوج لا ترتفع صلاته إلى السماء.

لقد حال شيء بينه وبين الله، يمنعه من الاقتراب إلى عرش النعمة. هذا الشيء هو حزن زوجته الذي كان هو سببه. والله يغلق قلبه دونه لأنه أغلق قلبه دونها. فكما عامل تلك التي وُضعت تحت سلطته، كذلك يعامله الله. إنه لا يستطيع أن يتصالح مع الله إلا بعد أن يكون قد تصالح مع زوجته التي أساء إليها.

إن سلطة الزوج على زوجته، سلطة فرضها الله، سلطة روحية، ولذا فمبدأها العملي المتأصل في المثل الذي ضربه يسوع بغسل أقدام تلاميذه، ثم في آخر المطاف بموته على الصليب، فمن شاء أن يمارس السلطة الروحية، يجب أن يكون خادماً للجميع.

أيها الأزواج، أحبوا زوجاتكم... فيزهر الحب في بيتكم.

مسابقة الكتاب

أيها القارئ العزيز،

يسرّنا أن نقدم لك جائزة من منشوراتنا بعد استلام أجوبتك على أسئلة هذا الكتاب. الرجاء كتابة اسمك وعنوانك كاملين على المسابقة في الداخل وعلى المظروف من الخارج.

  1. من رتّب الزواج ورسمه وسنّه للإنسان ولماذا؟

  2. لماذا يُعتبر اتخاذ قرار الزواج من أهم القرارات التي يتّخذها الإنسان في حياته؟

  3. ما هو البيت المسيحي في رأيك؟ ادعم رأيك بثلاثة شواهد من الكتاب المقدس.

  4. يقول الكتاب المقدس: «أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَأْسَ كُلِّ رَجُلٍ هُوَ ٱلْمَسِيحُ. وَأَمَّا رَأْسُ ٱلْمَرْأَةِ فَهُوَ ٱلرَّجُلُ». اشرح هذا القول.

  5. من أهم مقوِّمات الزواج هو المذبح العائلي. ما هو المقصود بالمذبح العائلي؟

  6. ما هو الدور الذي تقوم به العائلة المسيحية في الكنيسة؟

  7. الرب يسوع المسيح وحده هو الذي يقدّس الزواج. كيف؟

  8. ما هو الزواج المتجانس؟

  9. اذكر بعض أركان الزواج المسيحي الناجح.

  10. بماذا يُبنى ويُثبَّت ويمتلئ البيت الناجح؟

  11. ما هي السعادة الزوجية؟

  12. كيف تعاون الزوجة زوجها؟

  13. هل الارتباط في الزواج هو ارتباط مقدّس دائم أم دنيويٌّ مؤقّتٌ؟ اشرح بالتفصيل.

  14. كيف يضع الزواج المسيحي المقدس العلاقات الجنسية في إطارها الصحيح؟

  15. يشدّد الزواج المسيحي على أهمية وضرورة المرأة الواحدة فقط وليس على تعدّد الزوجات. لماذا؟

  16. ما هي نظرة المسيحية في أمر الطلاق؟

  17. خضوع المرأة لزوجها في المسيحية لا يعني أبداً العبودية، إنما يعني مفهوماً آخر. اشرح هذا المفهوم للخضوع؟

  18. قدّم المؤلّف في نهاية كتابه هذا أربع نصائح لكل رجلٍ متزوّجٍ. اذكرها شارحاً إياها باختصار.

عنواننا:


Call of Hope
P.O.Box 100827 
D-70007 
Stuttgart 
Germany