العودة الى الصفحة السابقة
مجيء المسيح ثانية وسوابقه التاريخية

مجيء المسيح ثانية وسوابقه التاريخية

الدكتور القس . منيس الكنيسة الإنجيلية في قصر الدوبارة عبد النور


Table of Contents

Bibliography
مقدمة
1 - ما هو تعليم الكتاب المقدس في مجيء المسيح ثانية؟
2 - ماذا يقول الكتاب المقدس بخصوص انتشار الإنجيل في العالم قبل مجيء المسيح ثانية؟
3 - ما هي نبوّات الكتاب المقدس بخصوص رجوع اليهود للمسيح قبل مجيء المسيح ثانية؟
4 - ما هي التفسيرات الرئيسية لهذه النبوّات؟
5 - ما هو الرأي الأصح في هذه التفاسير الثلاثة؟
6 - ما هي براهين أصحاب «التفسير الحرفي» للنبوّات عن مستقبل الأمة اليهودية؟
7 - ما هو الارتداد العظيم الذي يسبق مجيء المسيح ثانية؟
8 - ما المقصود بدخول الكنيسة في عصر سعيد هو الألف السنة؟
9 - ما هو المقصود بحل الشيطان مدة وجيزة؟
10 - ما هي الحوادث التي تصاحب مجيء المسيح ثانية؟
11 - ما هو الاعتقاد الذي تتفق عليه كل الكنائس في مجيء المسيح ثانية؟
12 - ما هو رأي من يقولون بمجيء المسيح ثانية قبل الألف السنة؟
13 - ما هي الردود على من يقولون بمجيء المسيح ثانية قبل الألف سنة؟
14 - كيف نبرهن أنّ المسيح لا يملك على الأرض؟
15 - ما هي الأمور التي تناقض من يقولون بمجيء المسيح ثانية قبل الألف السنة؟
16 - ما هي أخطاء من يقولون بمجيء المسيح ثانية قبل الألف السنة بخصوص رجوع اليهود إلى فلسطين، وإعادة النظام اليهودي؟
17 - يستند أصحاب رأي مجيء المسيح ثانية قبل الألف السنة على آيات من نبوة دانيال. اشرح رأيهم. وما هو الرد عليه؟
18 - ما هو التفسير الصحيح لأصحاحي 2 و7 من نبوّة دانيال؟
19 - قامت اعتراضات على أنّ الحيوان الرابع يشير إلى مملكة سوريا اليونانية. ما هي أشهرها، وما هو الرد عليها؟
20 - ما هي براهين أصحاب رأي أنّ الحيوان الرابع هو مملكة روما الوثنية، وما هي الردود على ذلك؟
21 - لماذا نرفض الرأي الروماني في تفسير كلام دانيال عن الحيوان الرابع وعن القرن الصغير؟
22 - كيف نبرهن خطأ رأي من يقولون إنّ اليوم مستعار (في بعض النبوات) لسنة؟
23 - نرجو المزيد من الإيضاح عن مدّة من الزمان في دانيال 7: 25 و12: 7.
24 - ما هو المقصود من قول المسيح في متّى 24: 14 ثم يأتي المنتهى؟
25 - ما معنى قول الرسول بطرس في أعمال الرسل 3: 21 أزمنة ردّ كل شيء؟
26 - اشرح معنى قول الرسول بولس في 2تسالونيكي 2: 1-8.
27 - ما هو التفسير الأصح لما جاء في سفر الرؤيا 20: 4-10؟
مسابقة الكتاب

Bibliography

مجيء المسيح ثانية وسوابقه التاريخية. الدكتور القس. منيس عبد النور. الطبعة الأولى . 2005. . Copyright © All rights reserved 2005 Call of Hope. SPB 4855 ARA. English title: What should happen before the Second Coming of Christ?. German title: Was muss vor der zweiten Wiederkunft Jesu noch geschehen?. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 70007 Stuttgart Germany http: //www.call-of-hope.com .

مقدمة

المسيح آتٍ ثانية. هذه حقيقة لا جدال فيها. لكن السؤال الكبير هو: كيف؟ وما هي العلامة؟

ونقدّم للقارئ العربي مجموعة أسئلة في هذا الموضوع والإجابة عليها، بحسب عقيدة الكنيسة الإنجيلية، وقد استقيناها من مرجعين أساسيين، هما كتاب «القواعد السنية في تفسير الأسفار الإلهية» للقس جيمس أنِس، الذي طُبع في بيروت سنة 1880 وكتاب «نظام التعليم في علم اللاهوت القويم» للمؤلف نفسه، والصادر في بيروت سنة 1890.

وواضح للقارئ أنّ ما جاء في هذين الكتابين سابق لأحداث سنة 1948 فليس فيه تأثُرٌ بالأحداث السياسية، بل هو دراسة لاهوتية مبنيَّة على نصوص الكتاب المقدس وحده، بعهديه القديم والجديد. وتقدم الفكر المشيخي الذي بدأ في القرن السادس عشر. إنها دراسة كتابية وكفى!

وقد قمنا بتنقيح ما جاء بالكتابين بما يُسمَّى «عَصرَنة» (أي بجعله حديثاً عصرياً). راجين أن يكون هذا الكتيب مصدر تعليم صحيح لعقيدة مجيء المسيح ثانية، التي نؤمن بها جميعاً في شرقنا العربي. كما نرجو أن ينبّه الغافلين عن هذه الحقيقة الأساسية ليستعدوا لهذا المجيء الثاني للمسيح.


الدكتور القس 
منيس 
عبد النور 

1 - ما هو تعليم الكتاب المقدس في مجيء المسيح ثانية؟

تعلّمنا الأسفار المقدسة أنّ المسيح سيجيء ثانية بالمجد، مجيئاً حقيقياً منظوراً. والحوادث التالية تسبق هذا المجيء:

  1. ينتشر الإنجيل في كل العالم، وتصل الدعوة للأمم فينضمّون إلى الكنيسة المسيحية.

  2. يرجع اليهود إلى المسيحية وينضمون إلى الكنيسة بعد شتاتهم وابتعادهم مدة طويلة.

  3. يحدث ارتداد عظيم في الكنيسة ويظهر «ضد المسيح» أي «إنسان الخطية» ويُباد.

  4. تدخل الكنيسة في عصر جديد (عُبّر عن طول مدته بألف سنة) فيه تمتد المسيحية إلى كل العالم وتتسلط على قلوب البشر، ويُقيّد إبليس فيستريح العالم من مكائده.

  5. يُحَلّ الشيطان مدة وجيزة عند نهاية الألف السنة، فيحارب الكنيسة، ثم يأتي المسيح.

2 - ماذا يقول الكتاب المقدس بخصوص انتشار الإنجيل في العالم قبل مجيء المسيح ثانية؟

الآيات في شأن ذلك كثيرة وواضحة، منها:

  • «يَمْلِكُ (المسيح) مِنَ ٱلْبَحْرِ إِلَى ٱلْبَحْرِ، وَمِنَ ٱلنَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي ٱلأَرْض. وَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ ٱلْمُلُوكِ. كُلُّ ٱلأُمَمِ تَتَعَبَّدُ لَهُ» (مزمور 72: 8 و11).

  • «يُبَارِكُنَا ٱللّٰهُ، وَتَخْشَاهُ كُلُّ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ» (مزمور 67: 7).

  • «وَيَكُونُ فِي آخِرِ ٱلأَيَّامِ أَنَّ جَبَلَ بَيْتِ ٱلرَّبِّ يَكُونُ ثَابِتاً فِي رَأْسِ ٱلْجِبَالِ وَيَرْتَفِعُ فَوْقَ ٱلتِّلاَلِ وَتَجْرِي إِلَيْهِ كُلُّ ٱلأُمَمِ. وَتَسِيرُ شُعُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَيَقُولُونَ: هَلُمَّ نَصْعَدْ إِلَى جَبَلِ ٱلرَّبِّ» (إشعياء 2: 2-3).

  • «جَعَلْتُكَ نُوراً لِلأُمَمِ لِتَكُونَ خَلاَصِي إِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ» (إشعياء 49: 6).

  • «لأَنَّ ٱلأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَجْدِ ٱلرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي ٱلْمِيَاهُ ٱلْبَحْرَ» (حبقوق 2: 14).

  • «فِي ذٰلِكَ ٱلزَّمَانِ يُسَمَّوْنَ أُورُشَلِيمَ كُرْسِيَّ ٱلرَّبِّ، وَيَجْتَمِعُ إِلَيْهَا كُلُّ ٱلأُمَمِ إِلَى ٱسْمِ ٱلرَّبِّ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَلاَ يَذْهَبُونَ بَعْدُ وَرَاءَ عِنَادِ قَلْبِهِمِ ٱلشِّرِّيرِ» (إرميا 3: 17).

وشبّه المسيح ملكوته بخميرة تمتد وتخمّر العجين كله، وبحبة خردل نمت نمواً عظيماً.

3 - ما هي نبوّات الكتاب المقدس بخصوص رجوع اليهود للمسيح قبل مجيء المسيح ثانية؟

أشهر النبوّات ما يأتي:

  1. نبوّات عن تشتُّتهم ورفضهم، مع بقائهم أمة متميّزة في كل العالم مدّة رفضهم، ومنها: (لاويين 26: 33-39 و26: 44 وتثنية 4: 27 و28: 25-68 وإشعياء 6: 9-13 و65: 11-15 وإرميا 9: 16 و24: 9 و29: 18 و30: 11 و46: 28 وحزقيال 12: 15 ودانيال 9: 27 وهوشع 3: 4 وعاموس 9: 9 ومتّى أصحاح 24 ولوقا 21: 24 ورومية 11: 25-26).

  2. نبوّات عن رجوعهم وقبولهم الديانة الحقيقية، ومنها: (تثنية 30: 2-6 وإشعياء 11: 11 و12 و49: 5 و6 و56: 8 وحزقيال 20: 32-44 و36: 24-37 و37: 1-14 وهوشع 3: 5 وعاموس 9: 8 و9 وميخا 2: 12 و13 و7: 15-20 وزكريا 10: 9 و10 و12: 10 ورومية 11: 25-26 و2كورنثوس 3: 12-18).

4 - ما هي التفسيرات الرئيسية لهذه النبوّات؟

هناك ثلاثة تفسيرات رئيسية:

  1. رأي اليهود وهو أنّ النبوّات عن أمتهم تفيد رجوعهم من شتاتهم إلى بلادهم وامتلاكهم لها، وذلك تحت حكم المسيح، فيجدّدون هيكلهم وديانتهم على صورتها السابقة، ويرتفع شأنها إلى أعلى درجة بين شعوب الأرض.

  2. رأي أصحاب التفسير الحرفي لتلك النبوّات، وهو لا يختلف بالجوهر عن رأي اليهود، على أنّهم يقولون إنّ الديانة اليهودية عند تجديدها تكون ديانة الكنيسة كلها، أي أنّ الكنيسة المسيحية تتحول إلى كنيسة يهودية. غير أنّ معظم المفسرين لا يصادقون على هذا التفسير تماماً، بل يقولون إنّه لا ينبغي أن ننتظر انقلاباً تاماً مثل هذا في الديانة المسيحية، وإنّ التفسير الحرفي يصح فقط من جهة رجوع اليهود إلى أرض فلسطين ورفع شأنهم بين المسيحيين على اختلاف أممهم وبلدانهم، وذلك عند اعتناقهم المسيحية. وهذا الرأي قريب من المذهب الروحي (تحت رقم 3). غير أنّه لا يمكن برهنة قولهم إنّ جزءاً من النبوّات عن اليهود يتفسّر حرفياً وجزءاً آخر روحياً. وإذا صحّ التفسير الحرفي لجزء ينبغي طبعاً التسليم به للكل. ولذلك استصوب معظم المفسرين التفسير الروحي للكل، كما سيأتي.

  3. رأي أصحاب التفسير الروحي للنبوّات عن اليهود، ويقولون إنّ كل تلك النبوّات تتم بانضمام اليهود إلى الكنيسة واشتراكهم في بركات الإنجيل وخيراته. وبعد رجوعهم إلى الكنيسة إذا اتفق أن بعضهم أو جانباً عظيماً منهم أرادوا أن يرجعوا إلى بلاد فلسطين ويستوطنوها فليس هناك نبوّة تمنع ذلك. وكذلك لا مانع إذا أرادوا أن يستوطنوا أمريكا أو الصين. ولكنهم والحالة هذه يرجعون وهم مسيحيون بحريتهم، لا ليجددوا الديانة اليهودية فيها تحت حماية الله، بل ليمارسوا المسيحية فيقيمون هناك كنائس ويعبدون المسيح بالحق. ولا شك أنّ ذلك يسر قلب كل مسيحي، ويتمجد الله به أكثر جداً من رجوعهم يهوداً لغاية سياسية. فمن اقتصر على فهم تلك النبوات على هذه الصورة فلا حرج عليه، ولكن يضل من يتطرف في تفسيرها حرفياً، بأنها تشير إلى رجوع اليهود إلى فلسطين لبناء أورشليم والهيكل ثانية، وتقسيم الأرض بين أسباط إسرائيل القديمة، وتجديد طقوسهم الدينية، وكل ذلك تحت حكم المسيح، الذي (على زعمهم) يأتي لهذه الغاية ويجلس على كرسيه في أورشليم، ويجمع حوله الأمة اليهودية ويقربها إليه دون سائر المؤمنين، وكل ذلك إتماماً لتلك النبوات. وهذا تفسير مستبعَد، ليس ما يؤيده في العهد الجديد، بل يخالف روحه، وقد نشأ عن سوء التصرف في تفسير مقاصد الله.

5 - ما هو الرأي الأصح في هذه التفاسير الثلاثة؟

نقول بصحة الرأي الثالث بدليل:

(1) تفسير تلك النبوّات على أنها تشير إلى رجوع اليهود للكنيسة، وهو وافٍ بالمقصود، ويطابق تعليم الكتاب في أماكن أخرى، فإن تجديد الديانة اليهودية ودوامها إلى غير نهاية تعبير عن معناها الجوهري الحقيقي فلا يُراد به ظاهره الحرفي. وهذا ينطبق على تعاليم العهد القديم عن العصر الإنجيلي، وعلى ما جاء في العهد الجديد عن مستقبل الكنيسة والأحوال السماوية. ومن أمثلة ذلك قول المسيح: «طُوبَى لأُولَئِكَ ٱلْعَبِيدِ ٱلَّذِينَ إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُمْ يَجِدُهُمْ سَاهِرِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدِمُهُمْ» (لوقا 12: 37). «أَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً» (لوقا 22: 29). «مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضاً وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ» (رؤيا يوحنّا 3: 21). فهذه الآيات وما شابهها مجازية، تعبّر عن حقائق روحية سامية باستعارة أمور أرضية زمنية. وتفسيرها حرفياً يفقدها معناها الصحيح، ويؤدّي إلى الضلال في تفسير كلام الله. وإذا صحّ هذا المبدأ على أقوال العهد الجديد النبويّة، فكم بالحري يصحّ على نبوّات العهد القديم، ونحن نعلم أنّ كل ما في العهد القديم من طقوس وفرائض رمزي استعدادي قُصد به تهذيب شعب الله القديم وتدريبهم في إدراك الأمور الروحية، لأنهم كانوا لا يزالون في حالة الطفولة، وفي غاية الاحتياج إلى ما يناسب ذلك الحال.

وتوضح استعارات وتشبيهات وكنايات العهد القديم مستقبل كنيسة الله الديني، وهي موافقة لأحوال الشعب في زمن استعمالها. مثال ذلك في عهد داود وسليمان شُبّه المسيح بملك ذي سلطان عام يمتد ملكه إلى كل أمم الأرض. ولما انقسمت المملكة وانحطت الأمة وساءت أحوال الشعب عُبّر عن المستقبل بذكر الاتحاد بين إسرائيل ويهوذا، وارتفاع مُلك داود، ودعوة الشعوب للتمتع بالراحة والسلام في الملكوت الثابت. وعبّر حزقيال عن أحوال المستقبل باستعارات مبنيّة على بناء أورشليم وإقامة الهيكل ثانية، ورجوع الشعب إلى أرضهم المقدسة، وإرجاع السلطان إليهم، لأنه تنبأ في وسط ظروف مخالفة لذلك تماماً.

ولو أننا فسّرنا تلك النبوّات حرفياً لظهر لنا وكأنّ نبوّات الأنبياء متناقضة، لأنّ أقوالهم أحياناً يُراد بها حرفياً إصلاح ما حدث من الخلل والتشويش في النظام اليهودي، وأحياناً يُراد بها إبادة النظام القديم على الإطلاق (إرميا 31: 31 وإشعياء 65: 17 و66: 1-4 وحجّي 2: 7). ومنها ما يُراد به صعود الأمم إلى أورشليم ليمارسوا الديانة اليهودية (إشعياء 66: 23 وزكريا 14) ومنها ما يُراد به امتداد اليهودية وكل طقوسها في كل الأرض (إشعياء 19: 19-25 وملاخي 1: 11). ومن نبوّات حزقيال ما يؤكد لنا بناء الهيكل والمدينة وسكنى الأرض المقدسة بمجد واحتفال عظيم. مع أن أقوال يوحنّا الرسول في سفر الرؤيا تعلّمنا أنه لا يكون هيكل، ولا احتياج إليه في المستقبل. فبموجب المبدأ الروحي لتفسير النبوّات لا خلاف في كل ذلك، لأن المعنى الجوهري هو واحد في الكل.

إنّ التفسير الحرفي لتلك النبوّات يخالف مبدأً جوهرياً في ديانة الله وتصرفاته في تهذيب البشر وتتميم مقاصده الإلهية. ولا سيما في بنيان ملكوته وإكمال عمل الفداء. وهو التقدم من الأدنى إلى الأعلى ومن الأبسط إلى الأبلغ. ففروض الديانة اليهودية أركان ضعيفة بالنسبة إلى المسيحية وروحها، كما أن فروض المسيحية على ما هي الآن دون ما ستكون في مستقبل الكنيسة المجيد. فالقول بلزوم التفسير الحرفي هو بمثابة الاعتقاد أن الله مقيّد بسَنّ رسوم واحدة خارجية لديانته وشعبه من بدء العالم إلى انقضائه.

(2) الديانة اليهودية ديانة رمزية، وكذلك أمور كثيرة في تاريخ شعب اليهود وخصوصياته، وقد تمّت كلها في نظام العهد الجديد.

أمّا وجود رموز في العهد القديم فمما لا خلاف فيه. وينتهي الرمز بالمرموز إليه، فمتى ظهر المرموز إليه فلا حاجة إلى الرمز. ولقد كان النظام الموسوي الديني رمزاً لنظام الإنجيل، فلما ظهر الإنجيل لم تعد هناك حاجة إلى نظام موسى، الذي مضى وزال. وقد أعلن الإنجيل ذلك بصريح الكلام. ولذلك يقوم التقدم والنمو في الديانة الإلهية بالنظام الإنجيلي لا بالرجوع إلى النظام اليهودي، وإلا فيكون المرموز إليه قد انتهى في الرمز، لا الرمز في المرموز إليه خلافاً لمبادئ النظام الرمزي ولنواميس الله السامية المقررة. كذلك الأمة الإسرائيلية، شعب الله المختار في العهد القديم، المفرز عن بقية شعوب الأرض، كانت حسب الجسد رمزاً للنسل المختار في عصر الإنجيل (الكنيسة) التي اختارها المسيح من العالم وافتداها بدمه ليضمّها إلى ملكه الأبدي، ولذلك لما ظهرت الكنيسة ونظمت على مبادئ الإنجيل زالت الديانة اليهودية وطقوسها، ولم تعُد الأمة اليهودية شعباً خاصاً لله، فانتهى الرمز في المرموز إليه وزال عند ظهوره. ولأجل بيان ذلك سُمي كل المؤمنين في العهد الجديد «نسل إبراهيم» (غلاطية 6: 16 وأفسس 2: 12 و19) «وآتين إلى جبل صهيون» (عبرانيين 12: 22) «وأولاد أورشليم العليا» (غلاطية 4: 26) «وأهل الختان» (فيلبّي 3: 3 وكولوسي 2: 11) وسُمّوا أيضاً في سفر الرؤيا «يهوداً» (رؤيا يوحنّا 2: 9).

وقيل أيضاً عن هذا النسل المقدس إنّـهم «حَسَب الموعد ورثة» (غلاطية 3: 29) وهو الموعد لإبراهيم. ولما كان المؤمنون في كل مكان هم نسل إبراهيم وورثة المواعيد الممنوحة له، كانت تلك المواعيد تشير ليس إلى مجرد امتلاك أرض كنعان بل إلى المرموز إليه بأرض كنعان، أي كنعان السماوية التي هي الميراث الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل. ولا شك أنّ هذا ما قصده الرسل في كل ما علّموه في هذا الشأن، لأنهم في كل كلامهم عن المستقبل لم يشيروا إلى الميراث اليهودي الرمزي، بل أشاروا دائماً إلى أنّ الرمز قد مضى، والمرموز إليه هو الموضوع الوحيد لرجاء الكنيسة. فنتعلّم من أنّ إسرائيل القديم رمز إلى إسرائيل الجديد اختفاء الرمز في المرموز إليه، وأنّ الأمة اليهودية تنضم للكنيسة المسيحية، وأنه ليس لليهود بعد حق بمواعيد الله لكنيسته ما لم ينضموا إليها، لأن مواعيد الله هي لهم ليس لأنهم من نسل إبراهيم الجسدي، بل باعتبارهم شعب الله حسب الاختيار. لذلك لا ينالون المواعيد إلا عندما يصيرون شعب الله بمعنى روحي.

ورُبَّ معترض يقول إنّ اليهود اليوم مثل شعب الله في العهد القديم، هم رمزٌ لأنفسهم، وهم شعب الله تحت نظام الإنجيل، وإنّ امتلاكهم أرض كنعان قديماً يرمز لامتلاكهم إياها مرة أخرى في ظروف أفضل. فنجيب: إنّ ذلك ليس من دأب الرمز بل يخالفه، لأن الرمز دائماً أقل من المرموز إليه في كل شيء، ولذلك لا يصح أن يكون أمرٌ رمزاً إلى نفسه. هل يصح أن نعتبر أكل المن في البرية رمزاً إلى أكله مرة أخرى، أو ذبح خروف الفصح رمزاً إلى نفسه في نظام آخر؟ كلا! وكذلك لا يصح أن يكون امتلاك أرض كنعان في العهد القديم رمزاً لامتلاكها ثانية في عصر الإنجيل، بل إلى امتلاك ما هو أفضل وأسمى منها، يكون مطابقاً لمقاصد الإنجيل.

لقد اعتبر الرسل الديانة اليهودية رمزية، وأنّها تمّت في المسيحية، وأن المسيحيين غير مكلفين بعدُ بحفظها. ووبّخ الرسول بولس كل ما جنح إلى الفرائض اليهودية، وحثّ المسيحيين على تركها لأنها زالت. وما أحسن قول المسيح للسامرية عن عبادة الله: «لاَ فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ، بل بِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ»، (يوحنّا 4: 21و23) أي في كل مكان. ويوافق قول المسيح هذا ما حدث عند موته، وهو انشقاق حجاب الهيكل إلى اثنين، دلالة على زوال فرائض النظام الموسوي ونسخها تماماً. ومن هذا القبيل قول الرسول: «لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً ٱلْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا» (1كورنثوس 5: 7).

وكل ما تقرر في شأن الديانة اليهودية من هذا القبيل يصحّ أيضاً على الشعب اليهودي، فإسرائيل الأمة اليهودية شعب الله في العهد القديم هم رمزٌ للكنيسة. فما دامت الرمزية قائمة يستمر التمييز بين اليهودي والأممي، ولما انتهت الرمزية بظهور المرموز إليه زال التمييز بين اليهود والأمم، وتألف شعب الله المختار من كل جنس وقبيلة. ولنا على ذلك نصوص إلهية كثيرة في كلام الرسل الأطهار (انظر رومية 5: 2 وغلاطية 3: 28 وكولوسي 3: 11 وأفسس 2: 14) وما يؤيده تسمية المؤمنين من أي جنس كان «نسل إبراهيم» و «إسرائيليين» (غلاطية 3: 29 و6: 16 وأفسس 2: 12 وعبرانيين 12: 22).

إنّ التفسير الحرفي ينافي روح العهدين القديم والجديد. نعم لليهود مواعيد خاصة بهم تتعلق برجوعهم أخيراً إلى حضن الكنيسة وانضمامهم إلى شعب الله. ولكن لا يوجد وعدٌ ولا برهان على ارتقائهم فوق غيرهم في ملكوت المسيح. غير أنّ رجوعهم يكون بركة للكنيسة لإحيائها وتنشيطها، كما قال الرسول إنّ اقتبالهم يكون حياةً من الأموات! (رومية 11: 15). ويا له من منظر بهيج للغاية عند المؤمنين متى رأوا اليهود راجعين برأي واحد ونفس واحدة إلى الكنيسة، يقبلون الإنجيل ويبشرون بحق المسيح.

وما قلناه عن رمز الديانة اليهودية والشعب اليهودي نقوله عن ميراثهم في أرض كنعان، التي هي رمزٌ أيضاً لميراث الكنيسة التي سترث حسب المواعيد ليس أرض كنعان فقط بل الأرض كلها، كما قيل عن إبراهيم إنه «وارثٌ للعالم» (رومية 4: 13) أي السماء الجديدة والأرض الجديدة، ميراث الكنيسة الأبدي حسب المواعيد (1بطرس 1: 4 و2بطرس 3: 13).

(3) لم يذكر المسيح والرسل رجوع اليهود إلى فلسطين وتجديد ديانتهم فيها، ولكنهم ذكروا رجوعهم إلى الله بقبولهم المسيح وتطعيمهم في الكنيسة بعد دخول ملء الأمم.

وليس في كل العهد الجديد نصّ على رجوع اليهود إلى بلادهم وأحوالهم القديمة وتجديد ديانتهم التي نُسخت، ولا إشارة لذلك ولا ما يؤيده مطلقاً. ولكن ما ورد كثيراً هو إجراء الدينونة عليهم وتدمير مدينتهم وتشتتهم في كل العالم. نعم اقتبس أصحاب الرأي الحرفي في رجوع اليهود وتجديد ديانتهم بعض آيات العهد الجديد على أن فيها إشارة لذلك، ومنها قول المسيح للرسل «أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي فِي ٱلتَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً عَلَى ٱثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيّاً تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ» (متّى 19: 28) وقوله «وَتَكُونُ أُورُشَلِيمُ مَدُوسَةً مِنَ ٱلأُمَمِ، حَتَّى تُكَمَّلَ أَزْمِنَةُ ٱلأُمَمِ»(لوقا 21: 24). وسؤال الرسل للمسيح «هَلْ فِي هٰذَا ٱلْوَقْتِ تَرُدُّ ٱلْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟» وجواب المسيح لهم: «لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا ٱلأَزْمِنَةَ وَٱلأَوْقَاتَ» (أعمال الرسل 1: 6و7). غير أنه ليس في كل ذلك ما يؤيد رأيهم. وإذا نظرنا إلى أمثال المسيح التي فيها يبيّن أحوال ملكوته نستفيد منها فوائد كثيرة ومختلفة عن مستقبل ذلك الملكوت، ولكن لا نرى فيها ما يدل على رجوع اليهود إلى فلسطين وتجديد نظامهم الديني ولا ما يشير لذلك، مع أن بعضها يتحدث عن علاقة اليهود بذلك الملكوت (متّى 21: 28-46 و22: 1-14 ولوقا 13: 6-9 و15: 11-32). وموضوع بعض النبوّات ما يطرأ على الكنيسة من الفساد وما يصيبها من الضيق أثناء تقدمها وامتدادها، ثم انتصارها أخيراً (متّى 13: 24-50 وص 25 ولوقا 16و18). ثمّ ليس في كلام بولس عن مستقبل اليهود ما يدل على امتيازهم وارتفاعهم وتجديد ديانتهم في المستقبل (رومية 9-11) بل بالعكس نراه يبيّن أن رجوعهم يكون رجوع المصالحة مع الكنيسة ودخولهم في عضويتها. وكذلك بطرس لم يذكر لا في مواعظه ولا في رسائله أن لإسرائيل حسب الجسد مستقبلاً. ومع أنه كان بين الرسل الذين سألوا المسيح عن ردّ المُلك لإسرائيل، نراه بعد سكب الروح القدس في يوم الخمسين ينادي تكراراً بالمسيح الجالس الآن على عرش داود (أعمال الرسل 2: 30 و4: 24-28). ولما تكلم عن مستقبل ملكوت المسيح (أعمال الرسل 3: 19-21) لم يذكر ردّ المُلك إلى إسرائيل بل ردّ كل شيء إلى حالة المجد والسعادة الأصلية. وإذا نظرنا إلى سفر الرؤيا لا نرى فيه كلاماً في هذا الموضوع. نعم قيل إنّ ختم الاثني عشر ألفاً من كل سبط (رؤيا 7) هو دليل على رجوع اليهود، لكن ذلك لا يشير إلى اليهود بل إلى مختاري الكنيسة، فقد أشار سفر الرؤيا للكنيسة باستعارات وتشبيهات يهودية. ويؤيد ذلك أن عدد المختومين (144 ألفاً) أشار (رؤيا يوحنّا 14) ليس إلى اليهود بل إلى مختاري الكنيسة دون تمييز. ولا يصحّ مطلقاً تفسير البعض أن المرأة المذكورة في رؤيا يوحنّا 12 هي الكنيسة اليهودية، وأن نسلها هم اليهود في حالة التشتت في البرية، لأنه بعيد وغير موافق لروح السفر ولا لمقصده. فينتج أن سكوت المسيح ورسله عن هذا الموضوع (حين يُنتظر أنهم يعلنونه له كان صحيحاً) هو دليل على عدم صحة رجوع اليهود وإعادة ديانتهم وامتيازهم.

(4) نسخ روح العهد الجديد وتعليمه الديانة اليهودية إلى الأبد، ورفض العهد الجديد اليهود أن يكونوا بعد شعب الله الخاص، وذلك كله يقتضي التفسير الروحي للنبوّات عن مستقبل الأمة اليهودية. أمّا نسخ الديانة اليهودية إلى الأبد فمن أوضح تعاليم العهد الجديد. وقد ذُكر فيه كثيراً (انظر أفسس 2: 14 و15 وكولوسي 2: 14 و3 : 1-3 وغلاطية 4: 9-11 و5: 2-4).

وأمّا روح العهد الجديد فيناقض الديانة اليهودية، وقد نادى الرسل بنسخها وزوالها، وإنشاء ديانة على صورة أخرى تختلف عنها، هي المسيحية التي لا يمكن جمعها مع الديانة اليهودية في نظام واحد. وأمّا رفض اليهود أن يكونوا شعب الله الخاص فمعروف. ولا شك أن الله قد قصد خلاصهم أخيراً بدعوتهم إلى المسيح وانضمامهم إلى كنيسته.

(5) تفسير العهد الجديد لبعض النبوّات المشابهة تماماً في ألفاظها وروحها التي نحن في صددها الآن يرجّح التفسير الروحي لها.

ومن أمثلة ذلك تفسير الرسول بولس أن نسل إبراهيم يشمل المؤمنين من اليهود و الأمم أيضاً، أي نسله الروحي لا الجسدي (رومية 4: 11-16). وتفسيره قول يوئيل: «وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَدْعُو بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَنْجُو» (يوئيل 2: 23). وأنه إعلان لخلاص الأمم بالمسيح (انظر غلاطية 3: 6-18 ورومية 10 : 13) مع أنّ يوئيل وجّه كلامه حسب الظاهر إلى اليهود، إذ قال لهم «بنوكم وبناتكم وشيوخكم» وقد فسّر العهد الجديد هذه النبوّة وأعلن المقصود منها. وهناك تفسير يعقوب الرسول لنبوّة عاموس عن بناء خيمة داود الساقطة أنّها تشير إلى رجوع الأمم وبنيان الكنيسة المسيحية (أعمال الرسل 15: 13-18).

(6) يستلزم التفسير الحرفي نتائج صعبة القبول ومستحيلة الحدوث عند كل مسيحي ذي عقل سليم. وذلك مما يثبت التفسير الروحي.

فإن صحّ التفسير الحرفي للنبوّات عن الأمة اليهودية يلزم فهم ما قيل عن الأمم القديمة المعاصرة لليهود حرفياً أيضاً. ومما قيل عنها إنّها تكون موجودة عند رجوع اليهود الذين يغلبونها ويبيدونها، وذلك بعيد التصديق. وكذلك إن صح التفسير الحرفي لما جاء في زكريا 12 مثلاً يلزم وجود الأسباط والعشائر والعائلات قائمة متميّزة بعضها عن بعض، حتى أن بيت داود يتميّز عن غيره. قال: «وَتَنُوحُ ٱلأَرْضُ عَشَائِرَ عَشَائِرَ عَلَى حِدَتِهَا: عَشِيرَةُ بَيْتِ دَاوُدَ عَلَى حِدَتِهَا وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى حِدَتِهِنَّ. عَشِيرَةُ بَيْتِ نَاثَانَ عَلَى حِدَتِهَا وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى حِدَتِهِنَّ. عَشِيرَةُ بَيْتِ لاَوِي عَلَى حِدَتِهَا وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى حِدَتِهِنَّ. كُلُّ ٱلْعَشَائِرِ ٱلْبَاقِيَةِ عَشِيرَةٌ عَشِيرَةٌ عَلَى حِدَتِهَا وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى حِدَتِهِنّ» (زكريا 12: 12-14). وفي نبوّات أخرى ميّز الكهنة عن اللاويين وأولاد صادوق عن عائلات أخرى من الكهنة، كل سبط في رتبته (إشعياء 66: 21 وملاخي 3: 3 وحزقيال 44: 15 وص 48). وكل ذلك بعيد التصديق لأن تلك المميزات العائلية الخاصة قد زالت عند اليهود. ولولا ذلك لأبقاها الله بعنايته كما حفظ معرفة بيت داود وعشيرته إلى أن أتى المسيح. ثم نهى الرسل عن حفظ أنساب لا حدّ لها (1تيموثاوس 1: 4).

وإذا صحّ التفسير الحرفي يلزم الاعتقاد أن كل الأمم يصعدون كل سنة إلى أورشليم ليعبدوا الرب ويعيّدوا الأعياد المفروضة (زكريا 14: 16 وإشعياء 66: 23) وذلك بعيد أيضاً. وكذلك إن صحّ التفسير الحرفي يتعذر علينا تفسير كلام حزقيال في بناء الهيكل والمدينة وتقسيم الأرض بين الأسباط (حزقيال 40 : 48) لأنّ إتمامه حرفياً مستحيل. ولكن إذا فسرناه روحياً، بمعنى أنه يشير إلى نجاح الكنيسة وامتدادها وتسلطها، وجدناه يوافق روح الإنجيل.

6 - ما هي براهين أصحاب «التفسير الحرفي» للنبوّات عن مستقبل الأمة اليهودية؟

تشير النبوّات بموجب هذا التفسير إلى قيام الأمة اليهودية (أي نسل إبراهيم الجسدي) وامتلاكهم أرض الموعد ثانية باعتبارها ميراثاً خاصاً من الله لهم، وتجديد ديانتهم وارتقائهم في ملكوت المسيح فوق سائر المسيحيين. وتقترن هذه الأمور عند أصحاب هذا التفسير بمجيء المسيح في الجسد لإقامة ملكوت أرضي عاصمته أورشليم، أي أن عرش ملكه يكون في تلك المدينة، وشعب اليهود يكون أهل بلاطه والرؤساء والمشيرين في ملكوته.

ولا يخفى أنّ في العهد القديم نبوّات كثيرة عن رجوع اليهود من سبي بابل، الأمر الذي قد تمّ حرفياً وانتهى، كما أن فيه نبوّات أخرى عن حالتهم السيئة في عصر الإنجيل، ثم عن نجاتهم من تلك الحال المعبّر عنها غالباً برجوعهم إلى أرضهم ومدينتهم وبناء هيكلهم وممارسة فرائضهم الدينية بسلام ونجاح، وذلك ليس بالمعنى الحرفي بل بالمعنى الروحي أي رجوعهم إلى الكنيسة. ومن النبوّات ما يشير إلى الكنيسة باستخدام تشبيهات وكنايات مأخوذة من عادات اليهود الدينية وأحوالهم الشعبية.

وقد استخفّ أصحاب الرأي الحرفي في «تفسير النبوّات عن اليهود» بالرأي الروحي، وقالوا إنّ إتمامها روحياً غير حقيقي، وإنه لا بد من إتمامها حرفياً، وإلا فلا صحة للنبوات ولا لما تتضمنه من مواعيد الله! وزعموا أن كل نبوات الكتاب تقريباً عن أحوال الكنيسة وامتدادها وآخرتها المجيدة بتشبيهات وكنايات يهودية لا تختص بالكنيسة المسيحية، بل تختص باليهود نسل إبراهيم الجسدي. وفاتهم أنّ موضوع النبوات عن العصر الإنجيلي هو كنيسة المسيح لا أمة اليهود، وأنّ النبوات كما أنبأت عن المسيح بأسماء وألقاب مختلفة كنسل المرأة و «شيلون» و «نسل داود» و «داود» و «الغصن» و «عبد الرب» و «عمانوئيل» و «الراعي» و «الرجل رفقة يهوه» و «الرب بِرّنا» و «ملاك العهد» و «عبدي البار» و «رجل الأوجاع» و «راعي يهوه» و «أصل يسّى» و «نور الأمم» و «حجر الزاوية» و «الأساس المؤسس» و «الكوكب من يعقوب» و «القضيب من إسرائيل». كذلك أنبأت عن شعب المسيح بأسماء وألقاب مختلفة أكثرها يهودي مثل «بيت إسرائيل» و «بيت يهوذا» (قارن إرميا 31: 31 مع عبرانيين 8: 8 و10: 14-17) و «نسل يعقوب» و «نسل إسرائيل» (قارن مزمور 22: 22 و23 مع عبرانيين 2: 11 و12) و «خيمة داود» (قارن عاموس 9: 11 و12 مع أعمال الرسل 15: 14-17) و «صهيون» (قارن مزمور 2: 6 و7 مع أعمال الرسل 13: 33 و34).

ولمسألة التفسير الحقيقي للنبوات عن مستقبل اليهود علاقة بمسألة أخرى، وهي أن النبوات تتضمن كلاماً مجازياً واستعارات وتشبيهات وكنايات، نفسرها تفسيراً روحياً بغير معناها الحرفي المطلق، وهذا يبطل أهم براهين أصحاب التفسير الحرفي، لأنهم يزعمون أن النبوات لا بد أن تتم حرفياً. وقد أنكر بعضهم وجود المجاز والكناية في الكتاب، وفسروا كل عبارة فيه على معناها الحرفي.

ولا يقصد أصحاب التفسير الحرفي أن يقتصروا على إثبات لزوم الإتمام الحقيقي لكل نبوّة (الأمر الذي لا خلاف فيه) بل يقصدون أن يثبتوا لزوم إتمام كل نبوة على معناها الحرفي. وعندنا أن كل نبوّة لا بد أن تتم، وإتمامها إمّا أن يكون حرفياً أو روحياً، وذلك حسب قصد الله بها.

ولا يدل التفسير الروحي لمستقبل اليهود على أدنى بغضة لهم أو ازدراء بهم، ولا يسلب شيئاً من حقهم في المواعيد الإلهية. ولكنه يدل على بركات لهم أعظم مما يدل عليه التفسير الحرفي. فما هي وراثة أرض فلسطين بالنسبة إلى وراثة بركات الإنجيل. وما هي امتيازاتهم القديمة وطقوسهم بالنسبة إلى حرية الإنجيل وفوائده. إنّ اقترابهم إلى أورشليم السماوية أسمى من حلولهم في أورشليم الأرضية، وسجودهم في الكنيسة أفضل من سجودهم في هيكلهم القديم.

ويظهر ضلال أصحاب التفسير الحرفي بأمرين: (أ) ينكرون استخدام الأنبياء للمجاز في نبواتهم للتعبير عن أمور روحية، و(ب) يزعمون أن الإتمام الحقيقي للنبوات عن الأمة اليهودية يكون حرفياً، فنشأ عن الأول أنهم حسبوا اليهود (حسب الجسد) موضوع نبوات كثيرة، مع أن موضوعها الصحيح هو الكنيسة. ونشأ عن الثاني الزعم أن صدق الله وأمانته في إتمام نبواته يتوقفان على تحقيقها حرفياً. فنادوا أولاً بصدق الله وأمانته وضرورة تحقيق النبوات، ثم اجتهدوا في إيضاح أن التحقيق الحرفي هو فقط التحقيق الحقيقي. ثم أتوا بالنبوات التي تتكلم حسب الظاهر عن عظمة إسرائيل وديانة اليهود ورجوعهم إلى بلادهم وبناء أورشليم والهيكل، ثم استنتجوا صدق كل ما أدّعوا به من جهة تلك الأمة بموجب معنى تلك النبوات الحرفي.

أمّا المفسرون الروحيون فيسلّمون بأن الله صادق، ولا بد من إتمام نبواته، ولكنهم ينكرون تحقيق النبوات حرفياً فقط. وبهذا يفسرون تلك النبوات ولا يخشون الضلال في تفسيرهم، لأن التفسير الحرفي هو يهودي في روحه وغايته، وبعيد عن روح الإنجيل ومقاصده، ولم يثبت من التاريخ واختبار الكنيسة، ويخالف تعليم الرسل. وتمسكنا به الآن يقودنا لأن نستخف بالإنجيل، ويُرجعنا إلى الأركان الضعيفة التي زالت إلى الأبد عند مجيء المسيح. وقولهم إنه ليس للنبوات سوى الإتمام الحرفي يخالف ما نراه من جملة وجوه:

(1) يخالف ما نراه في النظام الرمزي في العهد القديم، والرموز فيه كثيرة، وقد تمت في العهد الجديد. ولكن هل تمت حرفياً؟ لا! فإن الرمز بحَمَل الفصح لم يتم في حمل حقيقي، ولا الذبائح الحيوانية تمت في أمثالها، ولا ملكوت داود تمّ في ملكوت مثله من كل وجه. ولا جلس المسيح على عرش داود بالمعنى الحرفي، ولا دخل الهيكل ليشفع في المؤمنين على صورة دخول رئيس الكهنة قديماً إلى قدس الأقداس. وإذا صحّ أن الله عبّر بالرموز عن حقائق إنجيلية، وأن تلك الرموز قد تمت في أمور روحية على صورة توافق النظام الإنجيلي فلا يُحتمل أن النبوات التي تشير إلى أمور إنجيلية لا تتم على صورة موافقة لما يُنتظر طبعاً.

(2) ورأي أصحاب التفسير الحرفي يناقض نفسه، فممّا يستندون عليه «العظام اليابسة» التي رآها حزقيال (حزقيال 37: 1-14). فقالوا إنّ هذه النبوة تفيد رجوع اليهود إلى أرض فلسطين، واستخدموا كل مبادئهم وقواهم لإيضاح ذلك ولكن في ما يوافق غرضهم فقط، وأمّا ما لا يوافق غرضهم فسكتوا عن تفسيره حرفياً. مثال ذلك قوله: «هَئَنَذَا أَفْتَحُ قُبُورَكُمْ وأُصْعِدُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ يَا شَعْبِي وَآتِي بِكُمْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ» (حزقيال 37: 12). فسروا الإتيان بهم إلى أرض إسرائيل حرفياً، أما فتح قبورهم وإطلاقهم منها فلم يفيدونا: هل معناها حرفي أم مجازي؟ وعندنا أن رؤيا العظام اليابسة تشير إلى الرجوع من السبي، أو بالحري الرجوع إلى الكنيسة.

وفي تفسير ما جاء حرفياً في زكريا 14 صعوبات تبيّن فساد مبدأ الحَرْفيّين الذي بموجبه يفسرّون كل هذا الأصحاح على أنه إعادة الأمة اليهودية إلى مركزها في أورشليم. وذلك يستلزم حدوث محاربة عنيفة (حرفياً) من الأمم ضد أورشليم، فيها تؤخذ المدينة وتُنهب البيوت وتُفضح النساء. ثم يخرج الرب ويحارب تلك الأمم (حرفياً) كما في يوم حربه يوم القتال. وتقف قدماه (حرفياً) في ذلك اليوم على جبل الزيتون الذي يواجه أورشليم من الشرق، فينشق جبل الزيتون من وسطه (حرفيا) نحو الشرق ونحو الغرب وادياً عظيماً، وينتقل نصف الجبل نحو الشمال ونصفه نحو الجنوب. وتهربون في جواء جبالي لأن جواء الجبال يصل إلى «آصل» (حرفياً) وتهربون كما هربتهم من الزلزلة في أيام عزيا ملك يهوذا، ويأتي الرب إلهي وجميع القديسين معك (حرفياً). ويكون في ذلك اليوم أنه لا يكون نور. الدراري تنقبض. ويكون في يوم واحد معروف للرب. لا نهار ولا ليل (حرفياً) بل يحدث أنه في وقت المساء يكون نور. ويكون في ذلك اليوم أن مياهاً حية تخرج من أورشليم نصفها إلى البحر الشرقي ونصفها إلى البحر الغربي (حرفياً) في الصيف وفي الخريف تكون. وقيل أيضاً: وتتحول الأرض كلها كالعربة من جبع إلى رمون جنوب أورشليم. وترتفع وتُعمر في مكانها من باب بنيامين إلى مكان الباب الأول إلى باب الزوايا، ومن برج حننئيل إلى معاصر الملك (حرفياً). فيسكنون فيها ولا يكون بعد لعن، فتُعمر أورشليم بالأمن. وقيل أيضاً: وهذه تكون الضربة التي يضرب بها الرب كل الشعوب الذين تجندوا على أورشليم: لحمهم يذوب وهم واقفون على أقدامهم، وعيونهم تذوب في أوقابها (الوقبة هي النقرة، نقرها)، ولسانهم يذوب في فمهم (حرفياً). وقيل أيضاً إن كل الباقي من جميع الأمم الذين جاءوا على أورشليم يصعدون من سنة إلى سنة ليسجدوا للملك رب الجنود وليعيّدوا عيد المظال (حرفياً). ويكون أن كل من لا يصعد من قبائل الأرض إلى أورشليم ليسجد للملك رب الجنود لا يكون عليهم مطر (حرفياً). وأن لا تصعد ولا تأت قبيلة مصر، ولا مطر عليها. تكن عليها الضربة التي يضرب بها الرب الأمم الذين لا يصعدون ليعيّدوا عيد المظال. وقيل أيضاً: في ذلك اليوم يكون على أجراس الخيل «قدس للرب» والقدور في بيت الرب تكون كالمناضح أمام المذبح (حرفياً). وكل قدر في أورشليم وفي يهوذا تكون قدساً لرب الجنود، وكل الذابحين يأتون ويأخذون منها ويطبخون فيها (حرفياً). وفي ذلك اليوم لا يكون بعد كنعاني في بيت رب الجنود.

وزكريا 14 هو من أهم وأشهر النبوات عند أصحاب التفسير الحرفي! ألا يتضح لكل عاقل أن مبدأهم في تفسيره باطل، لأنه يستلزم شق جبل الزيتون، وهروب الشعب في جوف الوادي بين الشطرين، وحدوث يوم يختلف عن كل الأيام بأنه ليس نهاراً ولا ليلاً، إذ في مسائه يكون نور، خلافاً للنظام الطبيعي، وأيضاً يخرج نهران من أورشليم نحو الغرب والشرق، أحدهما يجري إلى البحر المتوسط والثاني إلى بحر لوط. وأيضاً تنخفض كل الجبال ما عدا الجبل الذي عليه أورشليم والهيكل، وتصير سهلاً واحداً فسيحاً. وتصعد كل الأمم بدون استنثاء سنوياً إلى أورشليم ليعيّدوا عيد المظال ويقدموا الذبائح الدموية اليهودية، ومن لا يحضر منهم يعاقبه الله بالقحط. وأيضاً تتزين بأجراس مكتوب عليها «قدس للرب». كما تكتب العبارة نفسها على جميع قدور الهيكل وقدور أورشليم ويهوذا التي يستعملونها لطبخ طعامهم. ولا يكون كنعاني بعد في بيت الرب. فما أغرب كل تلك الأمور.

ومن شاء أن يبحث عن تناقض التفسير الحرفي مع المقصود بأقوال الأنبياء، وتناقضه مع نفسه فليراجع نبوة حزقيال 40: 48 حيث يرى أن تفسير تلك الأصحاحات على المبدأ الحرفي يؤدّي إلى بحر من الصعوبات. وكذلك نبوة يوئيل 3 فإنّ تفسيرها حرفياً يستلزم أن الله يجمع كل الأمم ويُنزلهم إلى وادي يهوشافاط ويحاكمهم هناك، وأن الشمس والقمر يظلمان، والنجوم تحجز لمعانها، والرب من صهيون يزمجر ومن أورشليم يعطي صوته، فترجف السماء والأرض. وأيضاً الجبال تقطر عصيراً والتلال تفيض لبناً، ومن بيت الرب يخرج ينبوع يسقي وادي السنط، ويهوذا وأورشليم تُسكنان إلى الأبد. ومن هذا القبيل ما جاء في ميخا: «وَيَكُونُ فِي آخِرِ ٱلأَيَّامِ أَنَّ جَبَلَ بَيْتِ ٱلرَّبِّ يَكُونُ ثَابِتاً فِي رَأْسِ ٱلْجِبَالِ، وَيَرْتَفِعُ فَوْقَ ٱلتِّلاَلِ، وَتَجْرِي إِلَيْهِ شُعُوبٌ» (ميخا 4: 1). وفي سفر ملاخي: «فَهُوَذَا يَأْتِي ٱلْيَوْمُ ٱلْمُتَّقِدُ كَٱلتَّنُّورِ، وَكُلُّ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ وَكُلُّ فَاعِلِي ٱلشَّرِّ يَكُونُونَ قَشّاً، وَيُحْرِقُهُمُ ٱلْيَوْمُ ٱلآتِي قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ، فَلاَ يُبْقِي لَهُمْ أَصْلاً وَلاَ فَرْعاً. وَلَكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُتَّقُونَ ٱسْمِي تُشْرِقُ شَمْسُ ٱلْبِرِّ وَٱلشِّفَاءُ فِي أَجْنِحَتِهَا، فَتَخْرُجُونَ وَتَنْشَأُونَ كَعُجُولِ ٱلصِّيرَةِ» (ملاخي 4: 1 و2).

(3) يخالف قول أصحاب التفسير الحرفي ما نراه في إتمام نبوات كثيرة في الكتاب، مثلاً: كيف تمت النبوات عن المسيح؟ هل مَلك على عرش داود حرفياً وجلس في أورشليم ملكاً منظوراً، وكان ملكاً لليهود فقط. هل مارس المسيح وظيفة رئيس الكهنة على صورتها القديمة الحرفية؟ وكيف جاء إيليا في شخص يوحنّا المعمدان؟ وبأي معنى تمّت النبوّات عن إقامة خيمة داود الساقطة؟ وعن نسل إبراهيم، وعمّن قيل في العهد الجديد إنهم ورثة بحسب الموعد؟ (غلاطية 3: 29). قال هوشع عن رفض إسرائيل: «لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ شَعْبِي وَأَنَا لاَ أَكُونُ لَكُمْ. لٰكِنْ يَكُونُ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَرَمْلِ ٱلْبَحْرِ ٱلَّذِي لاَ يُكَالُ وَلاَ يُعَدُّ، وَيَكُونُ عِوَضاً عَنْ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: لَسْتُمْ شَعْبِي يُقَالُ لَهُمْ: أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ. وَيُجْمَعُ بَنُو يَهُوذَا وَبَنُو إِسْرَائِيلَ مَعاً وَيَجْعَلُونَ لأَنْفُسِهِمْ رَأْساً وَاحِداً، وَيَصْعَدُونَ مِنَ ٱلأَرْضِ، لأَنَّ يَوْمَ يَزْرَعِيلَ عَظِيمٌ» (هوشع 1: 9-11). فنسأل أصحاب مذهب التفسير الحرفي عن هذه النبوة: على أي صورة تمّت أم ستتم؟ وإذا نظرنا إلى ما جاء عن هذه النبوة في رومية 9: 24-26 نرى أن إتمامها هو في تكثير عدد المؤمنين بالمسيح، من اليهود ومن الأمم، وهذا كاف لدحض التفسير الحرفي. وهكذا نقول في ما جاء عن صهيون وأورشليم، وبناء الهيكل، ورجوع اليهود إلى بلادهم: أن الأَوْلى هو تفسيره بمعناه الروحي لا الحرفي.

(4) كل من خاض في هذا البحث يرى أن جانباً عظيماً من النبوات قد تمّ روحياً. ألا ترى أن أرض كنعان لم تفض لبناً وعسلاً وأن نسل إبراهيم لم يكن كرمل البحر، وأن عدد الأمم الذين يجتمعون أخيراً لمحاربة أورشليم لا يكون مثل رمل البحر بمعنى حرفي (رؤيا 20: 8)؟ قيل عن داود إنه يكون ملكاً إلى الأبد، فهل تمّ ذلك حرفياً؟ ألم تنقسم المملكة في عهد حفيده رحبعام، ثم سقطت مملكة يهوذا؟ فهل تحتمل تلك النبوة غير المعنى الروحي؟ كذلك قيل عن المسيح إن اسمه يدوم كالشمس، ولكن الشمس تغيب وستزول! إذاً ليس المقصود بذلك المعنى الحرفي. وجاءت نبوة عن شق البحر الأحمر ثانية (إشعياء 11: 15) والتيهان أيضاً في البرية (حزقيال 20: 34-38) وعن إخراج الماء من الصخرة (إشعياء 48: 21) وعن ظهور عمود السحاب والنار (إشعياء 4: 5) وعن إمطار النار والكبريت على سدوم (حزقيال 38: 22) وعن رجوع الحالة الأصلية في الفردوس (إشعياء 11: 6-8 و65: 25). فهل تم أو سيتم كل ذلك حرفياً؟ قال يوحنّا في الرؤيا عن أورشليم الجديدة إن علوها يكون 12 ألف غلوة، وكذلك طولها وعرضها (رؤيا يوحنّا 21: 16). فهل المقصود بهذا المعنى الحرفي؟

وقال حزقيال إن شعب الله سيشتغلون سبعة أشهر في دفن موت أعدائهم أهل جوج ليطهّروا الأرض، ثم قال «وَأَنْتَ يَا ٱبْنَ آدَمَ، فَهٰكَذَا قَالَ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ: قُلْ لِطَائِرِ كُلِّ جَنَاحٍ، وَلِكُلِّ وُحُوشِ ٱلْبَرِّ: ٱجْتَمِعُوا، وَتَعَالَوْا ٱحْتَشِدُوا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، إِلَى ذَبِيحَتِي ٱلَّتِي أَنَا ذَابِحُهَا لَكُمْ، ذَبِيحَةً عَظِيمَةً عَلَى جِبَالِ إِسْرَائِيلَ لِتَأْكُلُوا لَحْماً وَتَشْرَبُوا دَماً. تَأْكُلُونَ لَحْمَ ٱلْجَبَابِرَةِ وَتَشْرَبُونَ دَمَ رُؤَسَاءِ ٱلأَرْضِ، كِبَاشٌ وَحُمْلاَنٌ وَأَعْتِدَةٌ وَثِيرَانٌ كُلُّهَا مِنْ مُسَمَّنَاتِ بَاشَانَ. وَتَأْكُلُونَ ٱلشَّحْمَ إِلَى ٱلشَّبَعِ، وَتَشْرَبُونَ ٱلدَّمَ إِلَى ٱلسُّكْرِ مِنْ ذَبِيحَتِي ٱلَّتِي ذَبَحْتُهَا لَكُمْ. فَتَشْبَعُونَ عَلَى مَائِدَتِي مِنَ ٱلْخَيْلِ وَٱلْمَرْكَبَاتِ وَٱلْجَبَابِرَةِ وَكُلِّ رِجَالِ ٱلْحَرْبِ، يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ» (حزقيال 39: 12 و17-20). فهل المقصود هو المعنى الحرفي؟ هل يقيم الله وليمة للطيور ووحوش البر، ويدعوها دعوة خصوصية لتأكل وتشرب على جبال إسرائيل لحم الجبابرة ودم رؤساء الأرض حتى تشبع من اللحم وتسكر من الدم، وأن تلك الوليمة تشتمل على لحم البشر ودمهم، وأيضاً على لحم ودم كباش وحملان وأعتدة وثيران، جميعها من مسمنات باشان. وليس في ذلك فقط بل أيضاً على الخيل والمركبات. وما قولهم في ما جاء في سفر الرؤيا عن دعوة الطيور لعشاء الإله العظيم (رؤيا 19: 17 و18). هل يقف ملاك حرفياً في الشمس ويصرخ لجميع الطيور لتجتمع إلى عشاء الإله العظيم لتأكل لحوم ملوك وقواد وأقوياء وخيل، ولحوم الكل حراً وعبداً صغيراً وكبيراً؟ ألا ترى أن هذه النبوة مثل نبوة حزقيال لا تتفسر حرفياً على الإطلاق! فمن يقدر أن يتصور الجبال تقطر عصيراً والتلال تفيض لبناً! إن هذه النبوات وأمثالها لا تفسير معقول لها إلا التفسير الروحي!

وفي أقوال المسيح نبوات لا تُفهم إلا بمعناها الروحي، ومنها قوله لليهود «ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ» (يوحنّا 2: 19) أراد بذلك هيكل جسده. وقوله لتلاميذه حين أكل الفصح معهم « لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ ٱلْكَرْمَةِ هٰذَا إِلَى ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ أَبِي» (متّى 26: 29) فهل المعنى حرفي يُقصد به أن يسوع يشرب من ذلك النوع من الخمر في السماء! وقوله «خُذُوا كُلُوا، هٰذَا هُوَ جَسَدِي. اشربوا هٰذَا هُوَ دَمِي» (مرقس 14: 22-23). فهل تحوّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه حرفياً؟ وقوله لبطرس: «وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متّى 16: 19) فهل أعطاه المفاتيح بمعنى حرفي؟ وقوله لنيقوديموس: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ» (يوحنّا 3: 3). أليس المقصود بها الولادة الروحية؟ وقول بولس إن القديسين سيدينون الملائكة. وأيضاً سيدينون العالم، ألا يضاد معناه الحرفي أن المسيح هو الديان الوحيد؟ وجاء في الكتاب المقدس ذكر كتاب اسمه «سفر الحياة» وذكر دانيال وملاخي وسفر الرؤيا أسفاراً أخرى. فمن يعتقد أن تلك الأسفار مجلدات ذات صفحات مادية كُتبت أسماؤنا عليها؟ إن معناها روحي مجازي لا حرفي. ومن يظن أن كلام المسيح عن وجوب المغفرة للأخ المذنب إلينا سبعين مرة سبع مرات مقصود به هذا العدد فقط. وما هو التفسير المرجّح لما جاء في الكلام عن تقييد الشيطان ألف سنة، فهل للهاوية مفتاح؟ وهل يأخذ الملاك سلسلة مادية في يده ليقيد بها الشيطان ثم يطرحه في الهاوية ويغلق بابها ثم يختم عليه؟ (رؤيا يوحنّا 20: 3). وبالاختصار، ألا يوجد صهيون إلا صهيون الأرضية، ولا أورشليم إلا المدينة المعروفة بهذا الاسم في فلسطين، ولا نسل لإبراهيم سوى اليهود، ولا ختان إلا الختان الذي في الظاهر في اللحم، ولا عبودية إلا عبودية مصر، ولا برية إلا برية سيناء، ولا خبز إلا ما نتج عن الحقول، ولا ماء إلا ماء الينابيع الأرضية، ولا كنعان إلا أرض فلسطين!

(5) ورُبّ معترض يحامي عن التفسير الحرفي للنبوات عن اليهود بقوله إن كل نبوات الويل والتهديدات على تلك الأمة قد تم حرفياً. نجيب:

(أ) لا شك في تحقيق صحيح كامل لكل مواعيد الله، ولا بد أن يُظهر الله لطفه ورحمته ورضاه لإسرائيل الجسدي إتماماً لمواعيده. غير أن كيفية تحقيق هذا تكون حسب استحسانه ومقاصده في بنيان ملكوته وإكمال عمل الفداء. فالأمر الجوهري في النبوات عن اليهود هو رجوعهم إلى رضا الله، وانضمامهم إلى عضوية ملكوته، واشتراكهم في فوائد الكنيسة وبركاتها، وذلك يمكن إتمامه بدون الرجوع إلى الديانة اليهودية وتجديدها، فيتم ذلك بكيفية مسيحية لا يهودية.

(ب) يميّز العهد القديم بين شعب الله الحقيقي أي نسل إبراهيم المقدس من اليهود المؤمنين الحقيقيين وبين الأمة اليهودية، أي نسل إبراهيم الجسدي. وتشمل الأمة اليهودية الروحية الحقيقية نسل إبراهيم وإسحاق ويعقوب المعروفين بإسرائيل، ومن بينهم مؤمنون من غير أبناء إبراهيم بالجسد، ولكنهم من الختان وقد سلكوا في خطوات أبيهم إبراهيم في إيمانه لما كان في الغرلة (رومية 4: 12) وهم جماعة المؤمنين الحقيقيين أي الكنيسة الإلهية غير المنظورة المعروفة أيضاً باسم «إسرائيل». وقد بيّن الرسول بولس الفرق بين شعب اليهود والكنيسة الإلهية (رومية 9-11) وقال فيه «أَلَعَلَّ ٱللّٰهَ رَفَضَ شَعْبَهُ؟ حَاشَا! لأَنِّي أَنَا أَيْضاً إِسْرَائِيلِيٌّ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ. لَمْ يَرْفُضِ ٱللّٰهُ شَعْبَهُ ٱلَّذِي سَبَقَ فَعَرَفَهُ». ثم ذكر كلام إيليا ضد إسرائيل وجواب الله له «أَبْقَيْتُ لِنَفْسِي سَبْعَةَ آلاَفِ رَجُلٍ لَمْ يُحْنَوْا رُكْبَةً لِبَعْلٍ». ثم قال «فَكَذٰلِكَ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ أَيْضاً قَدْ حَصَلَتْ بَقِيَّةٌ حَسَبَ ٱخْتِيَارِ ٱلنِّعْمَةِ» (رومية 11: 1-5). ويظهر من العهد القديم أن جانباً عظيماً من اليهود ارتدوا عن الإيمان ورفضوا الله وديانته، فرفضهم الله. غير أن البعض حسب اختيار النعمة ندموا على ذلك فميّزهم الله بسمة على جباههم (حزقيال 9: 4). وقد حاقت بهم كل الويلات والبلايا التي هددهم الله بها، كما تحقق كلام التعزية والإنعاش والمواعيد الكثيرة لإسرائيل الحقيقي، أي الكنيسة المؤمنة بين اليهود. فوعدهم الله في النبوة بالرجوع من بابل وأعلن لهم مجيء المسيح وصفاته وعمله المجيد ليخلّص الشعب المختار، وكشف لهم أيضاً مجد مستقبل الكنيسة في عصر الإنجيل وارتفاعها وامتدادها وازديادها ثم نصرتها الأخيرة. واستخدم الله في ذلك تشبيهات وكنايات سامية جداً، بُني معظمها على ما يختص بديانة اليهود وأحوالهم الجسدية (انظر إشعياء 40-66 والجزء الأخير من حزقيال ونبوة زكريا). وقد أعطاهم الله عربوناً على إتمام كل تلك المواعيد هو إرجاع شعبه من بابل في الوقت المعين.

فما هي النبوّات التي تمّت حرفياً؟ أليست هي النبوات التي تحتوي على تهديد المرتدين من اليهود التي يُنتظر إتمامها حرفياً؟ وما هي النبوات التي تمّت روحياً، أو ستتم بالتدريج؟ أليست هي النبوات الموجهة ليس إلى الأمة اليهودية حسب الجسد، بل إلى الكنيسة الحقيقية التي ستتألف من المؤمنين الأمناء بين اليهود، والتي توسعت عند مجيء المسيح وانضمت إليها الأمم، فأخذت تتقدم وتتسع، ولا تزال كذلك إلى أن تعم أخيراً كل قبائل الأرض؟ نعم إن تلك الكنيسة الإلهية (سواء في العهد القديم أم الجديد) هي وارثة المواعيد الإلهية، والتي تنال البركات الخاصة لشعب الله الخاص، أي المؤمنين بالمسيح في كل زمان ومكان. نعم إن توجيه النبوات عن تقدم الديانة وارتفاع الكنيسة إلى اليهود فقط ضلال مبين، وإن دلت ألفاظها حسب الظاهر على نجاح الديانة اليهودية ورفع شأن تلك الأمة.

قسم الأنبياءُ اليهودَ إلى قسمين: أحدهما كلّموه بالتوبيخ والتهديد والإنذار والوعيد، وقد تمّ كل ما أعلنوه عليهم من ويل. والآخر أنبأوه بالبركات والمواعيد الروحية والزمنية، وتلك قد تمّت أيضاً.

فعند تفسير أقوال الأنبياء يجب الانتباه إلى هذا التمييز، فلا ننسب التوبيخ والإنذار بالويل للأتقياء، ولا نوجّه المواعيد بالبركات للعصاة والمرتدين. ولأن النوعين على الغالب واردان معاً، وكلام التهديد والإنذار بالويل يسبق كلام الوعد والتعزية، يجب تدقيق النظر في ذلك. إن مواعيد الله ليست لليهود دون المسيحيين، ولا للمسيحيين دون اليهود، بل هي للكنيسة كلها، مكوّنة من اليهود والوثنيين الذين قبلوا المسيح. وكنيسة الله هي واحدة، وهي وارثة المواعيد سواء كانت مؤلفة من اليهود أم من الأمم. والسؤال المهم هو: ما هي الكنيسة؟ قال اليهود إنها الأمة اليهودية لأنها نسل إبراهيم حسب الجسد، غير أن الكتاب بيّن لنا أن علاقة الأمة اليهودية بالكنيسة انتهت عند مجيء المسيح، وصارت الكنيسة الحقيقية هي صاحبة المواعيد والمكوّنة من ورثة إيمان إبراهيم، لا ورثة دمه الجسدي.

(6) وإذا سُئلنا: هل للأمة اليهودية نصيب في مواعيد الكتاب؟ نجيب: نعم لها نصيب. (أ) في النبوات عن مجد الكنيسة تحت نظام الإنجيل، وذلك متى انضمت إلى الكنيسة المسيحية، فتشترك في ذلك المجد العظيم الخاص بكنيسة المسيح. و(ب) في النبوات التي تعد برجوع اليهود إلى الله واجتماع شتاتهم وقبولهم بعد رفضهم، وذلك سيتم متى رُفع البرقع أخيراً عن عيون إسرائيل وقبلوا المسيح. حينئذ يشتركون في ميراث الكنيسة.

وإذا قيل إنّ الوعد لإبراهيم بإعطاء أرض كنعان له ولنسله هو إلى الأبد (تكوين 13: 15 و17: 8 و26: 3 و28: 13) ولم يتم كما ينبغي فيُنتظر إتمامه في المستقبل حرفياً، نجيب: إن الإتمام الحرفي الصحيح يستلزم قيام إبراهيم من الأموات ليرث الأرض مع نسله، وإن الآباء أنفسهم لم ينتظروا إتمام ذلك الوعد حرفياً. قال الرسول عن إبراهيم: «بِٱلإِيمَانِ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ ٱلْمَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ، سَاكِناً فِي خِيَامٍ مَعَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ٱلْوَارِثَيْنِ مَعَهُ لِهٰذَا ٱلْمَوْعِدِ عَيْنِهِ. لأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ ٱلْمَدِينَةَ ٱلَّتِي لَهَا ٱلأَسَاسَاتُ، ٱلَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا ٱللّٰهُ» (عبرانيين 11: 9 و10). فنرى أنّ الآباء سلموا وأقروا بأنهم غرباء ونزلاء على هذه الأرض. ولكن الوعود تحققت لهم، فورثوا الأرض بعد التيه في البرية، وامتدّ سلطانهم فيها حسب وعد الله لإبراهيم. فقيل عن سليمان: «وَكَانَ مُتَسَلِّطاً عَلَى جَمِيعِ ٱلْمُلُوكِ مِنَ ٱلنَّهْرِ إِلَى أَرْضِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ وَإِلَى تُخُومِ مِصْرَ» (2أخبار الأيام 9: 26). وجاء في نحميا «أَنْتَ هُوَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ ٱلَّذِي ٱخْتَرْتَ أَبْرَامَ وَأَخْرَجْتَهُ مِنْ أُورِ ٱلْكِلْدَانِيِّينَ وَجَعَلْتَ ٱسْمَهُ إِبْرَاهِيمَ. وَوَجَدْتَ قَلْبَهُ أَمِيناً أَمَامَكَ، وَقَطَعْتَ مَعَهُ ٱلْعَهْدَ أَنْ تُعْطِيَهُ أَرْضَ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ... وَتُعْطِيَهَا لِنَسْلِهِ. وَقَدْ أَنْجَزْتَ وَعْدَكَ لأَنَّكَ صَادِقٌ» (نحميا 9: 7 و8). فبشهادة الوحي أخذت أمة اليهود (حسب الجسد) نصيبها حرفياً في الوعد لإبراهيم.

(7) وإذا لم يسلّم المعترض بما قلناه، وقال إن الوعد هو لإبراهيم ولنسله إلى الأبد، أي أن نسله يكون كنجوم السماء وكرمل البحر، وأن كل أرض كنعان تكون له ولهم ملكاً أبدياً، وأن جميع قبائل الأرض تتبارك فيه وفيهم، وذلك لم يتم تماماً بامتلاك الإسرائيليين أرض كنعان قبل مجيء المسيح. فنجيب: إن الإشارة في كلمة «نسل» في ذلك الوعد غير محصورة في نسل إبراهيم الجسدي، بل تشمل المسيح وكل المؤمنين به في عصر الإنجيل. فلا بد أن أرض كنعان تشير إلى ميراث أوسع وأفضل للكنيسة «فَإِنَّهُ لَيْسَ بِٱلنَّامُوسِ كَانَ ٱلْوَعْدُ لإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ أَنْ يَكُونَ وَارِثاً لِلْعَالَمِ، بَلْ بِبِرِّ ٱلإِيمَانِ» (رومية 4: 13) وهذا يعني أن العالم أجمع هو الميراث الحقيقي لإبراهيم ونسله. ثم نقول إن أرض كنعان هي من جملة الأمور الرمزية في العهد القديم، وإنها كانت رمزاً إلى ما هو أسمى وأفضل وأوسع وأمجد في نظام الإنجيل، وإن تميُّز اليهود كشعب الله الخاص وبين الأمم قد زال، وإن الديانة اليهودية وكل ما يختص بها قد تمّت في ظهور المرموز إليه بها وزالت. أفلا يلزم عن ذلك أن الأرض المقدسة قد زالت مع جملة رموز العهد القديم باعتبارها ميراثاً خاصاً باليهود؟ وكما توسع نسل إبراهيم توسع أيضاً ميراثهم، وصارت الكنيسة تتوقع ليس كنعان الأرضية بل الأرض كلها، لأن المسيح سيتسلط على جميع الأمم والشعوب. وإذ ذاك ترث الكل لا الجزء، وتتمتع بالمرموز إليه لا بالرمز الذي قد زال ولا يتم تقدمها نحو الكمال برجوعها إلى الجزئيات بل بسعيها نحو الكليات، وليس باجتماعها في بلاد واحدة وهيكل واحد ومركز واحد للعبادة وتقديم ذبائح مادية وممارسة فرائض زمنية، بل برجوع كل البشر إلى الله وتكريس الأرض كلها لعبادته الروحية وخدمته القلبية الطاهرة.

(8) وإذا قال أحدٌ إن الأمة اليهودية لا تزال متميّزة عن سائر الشعوب في كل العالم، وإن ذلك دليل على أن الله سيردّهم أخيراً إلى أرض فلسطين ويعيد ديانتهم هناك. فنجيب: كلا، بل إن بقاء اليهود على هذا الحال هو إتمام للنبوات التي قالت إنهم سيكونون كذلك، ولا يوجد ما يدل على رجوعهم حرفياً إلى أرض فلسطين. بل يصح أن نحسب حال اليهود هذا دليلاً على أن النبوات عنهم تتم برجوعهم كأمة إلى الكنيسة المسيحية ليقبلوا ديانة الإنجيل.

(9) وربما اعترض آخر بأن النبوات تذكر رجوع اليهود إلى أرض فلسطين بصريح اللفظ، فلماذا لا نفهمها عنهم وعن رجوعهم حرفياً؟ فنجيب: أنبأ الله في العهد الجديد عن أزمنة الإنجيل وأحوال الكنيسة باستخدام ألفاظ وعبارات وكنايات وتشبيهات ومجازات واستعارات مألوفة عند اليهود في زمن العهد القديم، ومبنية غالباً على عاداتهم الدينية وبلادهم وما فيها من الحيوان والنبات والمعادن وما جرى فيها من حوادث، ليجعل تلك النبوات مفهومة عندهم. ومن أمثلة ذلك دعوة إبراهيم والخروج من مصر والتيهان في البرية ومدينة أورشليم وجبل صهيون وهيكل سليمان واحتشاد الشعب للأعياد وتقديمهم الذبائح والقرابين وإيقادهم البخور وتبويقهم بالأبواق وترنيمهم ترنيمات الفرح واحتفالهم بالأعياد ورجوعهم من السبي وبناؤهم المدينة والهيكل ثانية وامتلاكهم أرض كنعان، إلى غير ذلك مما استُخدم للتعبير عن أحوال الكنيسة وكل ما يختص بها من الأمور الروحية في عصر الإنجيل. ولذلك يجب على المستنيرين بنور الإنجيل أن يفسّروا تلك العبارات المجازية وأمثالها بالنظر إلى معناها الجوهري الإنجيلي، لا الخارجي الحرفي اليهودي، وأن يتوقّعوا انضمام اليهود إلى الكنيسة واشتراكهم في بركات شعب الله، وإفرازهم أمة ممتازة في كنيسة المسيح، ويجب أن نبشرهم بالإنجيل ونطلب من الله أن يتمم مواعيده فيهم، ويتوقّعوا برجاء وشوق رجوعهم إلى حضن الكنيسة وانضمامهم إلى شعب الله تحت رياسة المسيح، حسبما وُعدوا منذ القديم.

7 - ما هو الارتداد العظيم الذي يسبق مجيء المسيح ثانية؟

يحدث ارتداد عظيم في الكنيسة ويظهر «ضد المسيح» أي «إنسان الخطية» وإبادته: والكلام النبوي في هذا الموضوع واضح، ومنه كلام بولس في الارتداد عن الإيمان وظهور إنسان الخطية قبل مجيء الرب، وإبادته (2تسالونيكي 2: 1-10). وفي سفر الرؤيا عبارات كثيرة تدل على هذه الحادثة المريعة باستعمال تشبيهات وكنايات واستعارات متنوعة.

وجاءت نبوات الرسل عن أعداء الكنيسة في صورتين: (أ) صورة تصف عداوتهم ومقاومتهم لها دينياً بواسطة تعاليم فاسدة وأنظمة بشرية وعجائب كذابة وخرافات وأباطيل، بالإشارة إليهم بأسماء مختلفة منها: «الارتداد» و «إنسان الخطية» و «ابن الهلاك» و «ضد المسيح» و «وحش طالع من الأرض له قرنان شبه خروف» (رؤيا يوحنّا 13: 11) و «النبي الكذاب» و «الزانية» و «بابل». و(ب) صورة تصف عداوتهم للكنيسة على صورة المقاومة السياسية والطمع والافتخار العالمي، باستخدام كلمة تصف الممالك السياسية المضادة لملكوت المسيح وهي «وحش» موصوف أنه طالع من البحر له سبعة رؤوس وعشرة قرون جلست عليه الزانية، وكانت قرونه واسطة إبادتها أخيراً (رؤيا يوحنّا 13: 1-10 و17: 16).

وقد اختلف المفسرون في مدلول «ضد المسيح» فقال بعضهم إنه يشير إلى قوة دينية تقاوم المسيح، وقال آخرون إنه يشير إلى قوة سياسية عالمية تقاومه، وقال غيرهم إنه يشير إلى شخص أثيم. واختار الأول جمهور المدققين، وعلى ذلك يراد به ارتداد ديني، ويرادفه «إنسان الخطية» و «ابن الهلاك» و «الزانية» و «بابل» و «النبي الكذاب» وكلها تشير إلى أمر واحد هو الارتداد عن الحق أو الزنا الروحي أو مقاومة المسيح بواسطة تعاليم كاذبة وأضاليل مهلكة. ومما يؤيد ذلك استعمال «ضد المسيح» في رسائل يوحنّا للتعبير عن معلّمين كذبة ومضلّين.

وليس في غير رؤيا يوحنّا من أسفار الرسل إلا نبوات قليلة، غير أنها ثمينة وسامية وأكثرها تتحدث عن ارتداد عظيم في الكنيسة وظهور مقاومة شديدة للإنجيل من أعداء أقوياء عبّروا عنهم بأسماء مختلفة أشهرها «ضد المسيح» و «إنسان الخطية» و «ابن الهلاك» و «سر الإثم» و «التنين» و «الوحش» الأول والثاني (رؤيا يوحنّا 13) و «النبي الكذاب» و «الزانية» و «بابل». وبعضها تشير إلى مقاومة دينية وغيرها إلى مقاومة عالمية والتنين كناية عن إبليس رئيس الجميع.

ومن الأمور التي ستصاحب ذلك الارتداد ومن خصائصه المتنوعة إفساد الحق، واغتصاب حقوق الله والمسيح، وإصدار قوانين دينية وفرائض مختلفة تخالف روح الإنجيل، والادعاء بسلطان سامٍ على عالم الأرواح، والنجاح باستعمال العجائب الكاذبة وكل خداع. وينشأ ذلك الارتداد من داخل الكنيسة لا من خارجها، ولا بد أن يهلك كل المرتدين ما عدا التائبين منهم.

وفي رسائل بولس نبوّتان تستحقان الذكر، إحداهما عن إنسان الخطية، والأخرى عن الارتداد في الأزمنة الأخيرة، أولهما وردت في 2تسالونيكي، والثانية في 1تيموثاوس. وبما أنّ النبوة عن إنسان الخطية جاءت أولاً نبدأ الكلام بها، فنبحث أولاً عن معنى الآية التي وردت فيها.

افتتح الرسول كلامه في هذا الموضوع بقوله: «ثُمَّ نَسْأَلُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَٱجْتِمَاعِنَا إِلَيْهِ، أَنْ لاَ تَتَزَعْزَعُوا سَرِيعاً عَنْ ذِهْنِكُمْ، وَلاَ تَرْتَاعُوا، لاَ بِرُوحٍ وَلاَ بِكَلِمَةٍ وَلاَ بِرِسَالَةٍ كَأَنَّهَا مِنَّا: أَيْ أَنَّ يَوْمَ ٱلْمَسِيحِ قَدْ حَضَرَ» (2تسالونيكي 2: 1 و2). ويمكن فهم «مجيء المسيح» و «يوم المسيح» إمّا مجازاً، أي مجيئه في دينونته لليهود، أو حرفياً أي مجيئه في المجد ليدين العالم. نعم إنها جاءت أحياناً بالمعنى الأول، ولكنها وردت غالباً في العهد الجديد بالمعنى الثاني، وهو المعنى الموافق لها في هذا المكان، كما يتضح من القرينة.

والتعبيران «مجيء المسيح» و «يوم المسيح» لا يشيران في هذا المكان إلى خراب أورشليم، بل إلى مجيئه أخيراً ليدين العالم، وهو الأرجح والمقبول. وجاءت دائماً بهذا المعنى في 1تسالونيكي 2: 19 «لأَنْ مَنْ هُوَ رَجَاؤُنَا وَفَرَحُنَا وَإِكْلِيلُ ٱفْتِخَارِنَا؟ أَمْ لَسْتُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً أَمَامَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ». وطلب لهم أن «تثبت قُلُوبَهُمْ بِلاَ لَوْمٍ فِي ٱلْقَدَاسَةِ، أَمَامَ ٱللّٰهِ أَبِينَا فِي مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَعَ جَمِيعِ قِدِّيسِيهِ» (1تسالونيكي 3: 13). وصلى أنّ: «إِلٰهُ ٱلسَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسهمْ بِٱلتَّمَامِ. وَلْتُحْفَظْ رُوحهُمْ وَنَفْسهُمْ وَجَسَدهُمْ كَامِلَةً بِلاَ لَوْمٍ عِنْدَ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (1تسالونيكي 5: 23).

كل هذه الأقوال تشير إلى الدينونة العامة. وإذا كانت هذه الألفاظ قد جاءت دائماً في هذا المعنى في تسالونيكي الأولى، فلماذا لا تُفسر بهذا المعنى في تسالونيكي الثانية؟ إن مجيء المسيح المقصود هنا هو مجيئه الثاني في المجد ليدين العالم. وقد تكلم الرسول عن هذا المجيء نفسه في الرسالة الثانية (انظر 2تسالونيكي 1: 6-10).

كان مهماً جداً ألا يضل التسالونيكيون في هذا الأمر، بعد أن عرفوا أن مجيء المسيح قريب، وآمنوا بذلك. فإن لم يأتِ حسب انتظارهم، يتزعزع إيمانهم في عقيدة المجيء الثاني، وبعد ذلك يتزعزع إيمانهم في باقي العقائد المسيحية! ولذلك حذرهم الرسول من السقوط، وأكد لهم أنه لا بد من حدوث أمور مهمة قبل المجيء الثاني، فقال «لاَ يَخْدَعَنَّكُمْ أَحَدٌ عَلَى طَرِيقَةٍ مَا، لأَنَّهُ لاَ يَأْتِي (يوم المسيح) إِنْ لَمْ يَأْتِ ٱلٱرْتِدَادُ أَوَّلاً، وَيُسْتَعْلَنَ إِنْسَانُ ٱلْخَطِيَّةِ، ٱبْنُ ٱلْهَلاَكِ، ٱلْمُقَاوِمُ وَٱلْمُرْتَفِعُ عَلَى كُلِّ مَا يُدْعَى إِلٰهاً أَوْ مَعْبُوداً، حَتَّى إِنَّهُ يَجْلِسُ فِي هَيْكَلِ ٱللّٰهِ كَإِلٰهٍ مُظْهِراً نَفْسَهُ أَنَّهُ إِلٰهٌ» (2تسالونيكي 2: 3 و4). وليس هذا الارتداد سياسياً كثورة ضد حكومة، بل هو ديني، وأي سقوط من الديانة والعبادة الصحيحة، كما قال الرسول: «ارتداد عن الإيمان» (1تيموثاوس 4: 1) و «ارتداد عن الله الحي» (عبرانيين 3: 12). قال إيراسموس إن أداة التعريف في الارتداد هنا هي للعهد، فهو ارتداد شهير جاءت عنه نبوة سابقاً. وذلك قوله «إنسان الخطية» هو إشارة إلى ما هو معلوم عندهم من كلامه سابقاً.

لقد ذكر الرسول هذه الأمور لأهل تسالونيكي ليحذّر حديثي الإيمان منهم من الارتداد العظيم الذي سيطرأ على الكنيسة، فقال لهم «أَمَا تَذْكُرُونَ أَنِّي وَأَنَا بَعْدُ عِنْدَكُمْ كُنْتُ أَقُولُ لَكُمْ هٰذَا؟ وَٱلآنَ تَعْلَمُونَ مَا يَحْجِزُ حَتَّى يُسْتَعْلَنَ فِي وَقْتِهِ. لأَنَّ سِرَّ ٱلإِثْمِ ٱلآنَ يَعْمَلُ فَقَطْ، إِلَى أَنْ يُرْفَعَ مِنَ ٱلْوَسَطِ ٱلَّذِي يَحْجِزُ ٱلآنَ» (2تسالونيكي 2: 5-7). وهذا يعني أن «إنسان الخطية» لم يكن قد استُعلن بعد حينئذ، لأن زمن ظهوره لم يكن قد أتى بعد. غير أن سر الإثم كان يعمل حينئذ، لأن يوجد «سر للإثم» كما يوجد «سر للتقوى» (1تيموثاوس 3: 16) والواحد ضد الآخر. فزرع الفساد كان قد زُرع، ولكنه لم يبلغ أشده بعد، والخميرة كانت متحركة في بعض الأجزاء ولكن كان لا بد من مرور وقت قبل أن تخمّر كل العجين، وإنسان الخطية كان قد حُبل به في الرحم ولو أن ذلك كان في بدايته، ولا بد من مرور وقت قبل أن يولد - فقد كان هناك ما يمنع ظهوره، غير أن الرسول لم يصرّح به: هل هو شخص أو شيء آخر؟ ولكنه يبقى غير واضح إلى أن يُرفع ما يحجزه من الوسط. وليس في طاقتنا الآن تعيينه باليقين، غير أن المفسرين الأولين أجمعوا على أنه هو المملكة الرومانية. والأرجح أن الرسول احترس من التصريح به كتابة لأنه يختص بالسياسة العليا للدولة، ولذلك قال «وَحِينَئِذٍ سَيُسْتَعْلَنُ ٱلأَثِيمُ، ٱلَّذِي ٱلرَّبُّ يُبِيدُهُ بِنَفْخَةِ فَمِهِ، وَيُبْطِلُهُ بِظُهُورِ مَجِيئِهِ» (2تسالونيكي 2: 8). ولا بد أن الرسول أخبر أهل تسالونيكي به شفاهاً، وإن لم يكتب إليهم عنه في الرسالة إلا تلك العبارات المبهمة.

فالأمر واضح جداً أنّ الاثيم المذكور هنا وإنسان الخطية هما شخص واحد، وهو الذي الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه. فإذا كانت هاتان العبارتان تشيران إلى حادثتين متميزتين، يكون المعنى أن الرب يسوع يبيده بالتدريج بالتبشير ونشر كلمته، ويبطله عند مجيئه الثاني بمجد أبيه مع ملائكته القديسين. وإذا كانتا تشيران إلى حادثة واحدة فذلك إطناب ورد مثله كثير في الأسفار الإلهية، المقصود منه أن الرب يسوع يبطله بغاية السهولة بنفخة فمه وبظهور مجيئه.

ولما رغب الرسول في أن ينبئ عن إبادة إنسان الخطية، أدرج ذلك في الخبر عنه، ثم عاد وذكر الأحوال الأخرى التي بواسطتها يتقدم هذا الشرير ويثبت نفسه في العالم. وهي أنه ينال الثقة والسلطان بالحيل الشيطانية، ويدّعي أنه يمتلك قوات فائقة، ويفتخر بالإعلانات والرؤى والمعجزات الكاذبة التي يستخدمها لينشر تعاليمه، فقال «ٱلَّذِي مَجِيئُهُ بِعَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ، بِكُلِّ قُوَّةٍ، وَبِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ كَاذِبَةٍ» (2تسالونيكي 2: 9). وهو يستعمل كل الحيل الشريرة وأنواع الخداع والأهواء والتصرفات الرديئة مع بني البشر، ولكنه ينجح فقط مع أصحاب القلوب الفارغة من الحق الذي لو قبلوه لنالوا الخلاص الأبدي، ولذلك قال الرسول «وَبِكُلِّ خَدِيعَةِ ٱلإِثْمِ، فِي ٱلْهَالِكِينَ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا مَحَبَّةَ ٱلْحَقِّ حَتَّى يَخْلُصُوا» (2تسالونيكي 2: 10). ولما كان من العدل أن الله يسلّم الذين يسرون بالبطل والكذب للأباطيل والأكاذيب في هذا العالم، للدينونة في العالم الآتي، قال الرسول «وَلأَجْلِ هٰذَا سَيُرْسِلُ إِلَيْهِمُ ٱللّٰهُ عَمَلَ ٱلضَّلاَلِ، حَتَّى يُصَدِّقُوا ٱلْكَذِبَ، لِكَيْ يُدَانَ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ لَمْ يُصَدِّقُوا ٱلْحَقَّ، بَلْ سُرُّوا بِٱلإِثْمِ» (2تسالونيكي 2: 11و12).

لقد ارتعب التسالونيكيون من بعض العبارات في الرسالة الأولى، إذ ظنوا أن نهاية العالم قد اقتربت والمسيح آتٍ للدينونة. وأراد الرسول أن يصلح أخطاءهم ويطمئن قلوبهم فأكد لهم أن مجيء المسيح لا يزال بعيداً، وأنه مسبوقٌ بارتداد عظيم أو سقوط بعض المسيحيين من الإيمان الحقيقي والعبادة الصحيحة.

8 - ما المقصود بدخول الكنيسة في عصر سعيد هو الألف السنة؟

المقصود به دخول الكنيسة في عصر جديد، كُني عن طول مدته بألف سنة، فيه تمتد المسيحية إلى كل العالم وتتسلط على قلوب البشر، ويُقيّد إبليس فيستريح العالم من مكايده. وكل هذه أمور مقررة في النبوات الإلهية، وفيها تلميحات كثيرة تدل على أن المسيحية تكون حينئذ ذات تأثير كلي في البشر، والديانة الوحيدة في العالم، وأن الحجر المقطوع من جبلٍ بغير يدين يصير حينئذ جبلاً عظيماً ويملأ الأرض (دانيال 2: 34 و45). وتبطل عداوة ومقاومة السياسيين ورجال الديانة الكاذبة للإنجيل. ويحدث تقدم عظيم ومجيد في الأمور الزمنية والمدنية والاجتماعية والعلوم والفنون والصناعة والاختراعات ووسائل المعيشة، لأن العالم يستريح نوعاً من الخطية والحروب والخصومات الناتجة عنها.

وقد توهّم البعض أن مجد الألف سنة لا يكون بارتفاع شأن المسيحية وبلوغها أسمى درجة في فعلها في قلوب البشر، بل تكون بتجديد الديانة اليهودية، ورجوع الكنيسة إلى الأركان اليهودية القديمة، وإقامة ملكوت المسيح بصورة زمنية أرضية (إذ يأتي هو في الجسد) ويُعاد بناء أورشليم وتصير عاصمة ذلك الملكوت، ويتم تعيين وزراء ورؤساء له من اليهود نسل إبراهيم الجسدي.

ويجب الانتباه لصفات الأتقياء وأحوال القلب البشري أثناء الألف السنة لئلا ننتظر الكمال التام على هذه الأرض. نعم يقول الكتاب إن الشيطان يُقيّد، وإن المسيحية تمتد، وإن اعداءها يبيدون، وإن السلام التام يسود بين كل الأمم. لكنه لا يبشرنا بأن كل مسيحي يبلغ الكمال الروحي، فإن العيوب الشخصية لا تزول بالتمام من قلوب البشر ولا من تصرفاتهم، لذلك ربما يحتاجون إلى علاج إلهي مرّ كالحزن والضيق والتأديب. لكن المنتظر أن التقوى تزيد جداً في العالم في تلك المدة، حتى تصير أرضنا مكان راحة وسعادة روحية وجسدية لا نظير لها إلا في العالم السماوي وحول العرش الإلهي.

أمّا كيفية دخول مدّة الألف سنة في العالم، والوسائل التي تسهّل مجيئها فتتم بتبشير كل الأمم بالإنجيل، ويحوّل الله جميع الأمور العالمية وسائل ليتمم هذه الغاية، ويسكب الروح القدس في كل مكان وبين جميع القبائل والشعوب. وفي الكتاب مواعيد وأوامر كثيرة في هذا الشأن، منها أمر المسيح لكنيسته أن تبشر بالإنجيل وتتلمذ الشعوب، ووعده أن يرافقها، ويرسل لها الروح القدس. والمسيح الآن ملك مطلق في الكون يعتني بكنيسته، ويوجّه أعمال عنايته وكل ما يحدث في العالم من اضطراب وانقلاب في الأمور السياسية والحروب والاختراعات ليبني هذا الملكوت ويتمم هذه الغاية السامية. ومن وسائل إتيان عصر السلام والراحة إبادة أعداء الله المعاندين الذين لا رجاء في إصلاحهم. ومن النصوص على ذلك كلام الرسول عن إبادة إنسان الخطية وابن الهلاك (2تسالونيكي 2: 8) وقول الملاك في سفر الرؤيا لجميع الطيور: هَلُمَّ ٱجْتَمِعِي إِلَى عَشَاءِ ٱلإِلٰهِ ٱلْعَظِيمِ، لِكَيْ تَأْكُلِي لُحُومَ الأشرار ومقاومي المقاصد الإلهية (رؤيا يوحنّا 19: 17-18). ولا بد أن الأرض تمتلئ في ذلك اليوم من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر، وكذلك لا يسيؤون ولا يُفسدون في كل جبل قدس الرب. ولا شك أننا قد اقتربنا جداً من ذلك اليوم المبارك، لأن الكنيسة تجتهد الآن في أن تتمم وصية ربها في تبشير جميع الشعوب بالإنجيل بغيرة شديدة، ويتكلل اجتهادها بالنجاح في كل مكان، وتزيد آمالها يومياً بإتمام ذلك العمل ببركة الله عليها، وبإرسال الروح القدس لها بقوة، وبالوسائل التي ذكرناها وبأعمال العناية الإلهية. ولا بد من الصبر والأمانة والاجتهاد في العمل والصلاة.

9 - ما هو المقصود بحل الشيطان مدة وجيزة؟

يُحَل الشيطان مدة وجيزة عند نهاية الألف سنة ويحارب الكنيسة، ثم يأتي المسيح. ولعل القارئ ينذهل من حدوث ارتداد كهذا بعد أن تنتشر المسيحية وتسود في العالم طول تلك المدة.

وحلّ الشيطان ومحاربته للبشر في هياج شديد لمعرفة أن وقته قصير، يفسر لنا إمكانية حدوث ذلك الارتداد المخيف. وربما كان بقاء الكنيسة مدة طويلة بدون تجربة، ودوام راحتها في العالم تؤدي أخيراً إلى الغفلة وإهمال الأمور الروحية، مما يجعل كثيرين من البشر عُرضة لمكائد إبليس. وسواء أدركنا أسباب حل الشيطان وفهمنا المقاصد الإلهية فيها أم لا، فلا بد من حدوثها، لأن ما جاء في سفر الرؤيا في هذا الشأن صريح جداً (رؤيا يوحنّا 20: 7-9). غير أن ما يريحنا هو تأكيد الله لنا أن النهاية تكون في يده، وأنه هو يحفظ شعبه ويحدد مدة وجود تلك الحوادث بموجب حكمته السامية (رؤيا يوحنّا 20: 10).

10 - ما هي الحوادث التي تصاحب مجيء المسيح ثانية؟

الحوادث التي تصاحب مجيء المسيح ثانية هي: (1) القيامة (2) الدينونة الأخيرة (3) نهاية العالم (4) ظهور ملكوت المسيح في كماله، أي دخول الكنيسة في أمجادها السماوية.

والآن نشرح هذه الأفكار الأربعة:

(1) القيامة:

في النبوات أدلة كثيرة على حدوث قيامة عامة عند مجيء المسيح (يوحنّا 5: 28 ومتّى 25: 31 و32 وأعمال الرسل 24: 15 ورؤيا يوحنّا 20: 12 و13). ونستنتج ذلك لأن تلك النبوات تتكلم غالباً عن القيامة والمجيء معاً. ومن ذلك القول «وَمَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ يَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ ٱلشُّعُوبِ» (متّى 25: 31و32). نتعلم أيضاً أن قيامة الأبرار والأشرار تحدث في وقت واحد عند مجيء المسيح للدينونة خلافاً لزعم البعض أن قيامة الأبرار تحدث قبل الألف سنة، وقيامة الأشرار بعدها. ولكن المسيح قال «تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ ٱلَّذِينَ فَعَلُوا ٱلصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلْحَيَاةِ وَٱلَّذِينَ عَمِلُوا ٱلسَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلدَّيْنُونَةِ» (يوحنّا 5: 28 و29). قال بولس إنّ الرب يسوع متى استُعلن من السماء ينتقم من الذين لم يطيعوا الإنجيل، ويُتعجب منه في جميع المؤمنين (2تسالونيكي 1 : 7-10). ومن النصوص على قيامة الأبرار عند مجيء المسيح قوله: «وَهٰذِهِ مَشِيئَةُ ٱلآبِ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً، بَلْ أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَخِيرِ» (يوحنّا 6: 39-54 و12: 48). والمقصود باليوم الأخير هنا هو يوم الدينونة، لأنّ النبوّة تتحدث عن القيامة. وقيل عنه في مكان آخر إنه يحدث متى ظهر المسيح في مجده. وليس في الكتاب نصٌ على غير قيامة واحدة للأموات، الأبرار والأشرار معاً. نعم ذُكر في سفر الرؤيا قيامة أولى (رؤيا يوحنّا 20: 4-6) غير أنه لا دليل على أن تلك القيامة تختص بالأجساد، بل هي إقامة روح الأمانة والشجاعة والتقوى أثناء مدة الألف السنة، كما بينّا في كلامنا في هذه الآية في البحث عن رأي القائلين بمجيء المسيح قبل الألف السنة.

(2) الدينونة الأخيرة:

أمّا الإشارات النبوية إلى دينونة عامة أخيرة فكثيرة وواضحة، وخلاصتها أن تلك الدينونة تحدث عند مجيء المسيح ثانية، وبعد القيامة العامة حالاً، وأنها تجري على الناس والملائكة، وأن الديّان هو المسيح، وأنه في ذلك اليوم يُعيّن نصيب الأبرار والأشرار إلى الأبد.

(3) نهاية العالم:

تتعلق نهاية العالم بمجيء المسيح ثانية، ومنها قول بطرس: «وَأَمَّا ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ ٱلْكَائِنَةُ ٱلآنَ فَهِيَ مَخْزُونَةٌ بِتِلْكَ ٱلْكَلِمَةِ عَيْنِهَا، مَحْفُوظَةً لِلنَّارِ إِلَى يَوْمِ ٱلدِّينِ وَهَلاَكِ ٱلنَّاسِ ٱلْفُجَّارِ» (2بطرس 3: 7-13). وقول صاحب الرؤيا: «ٱلَّذِي مِنْ وَجْهِهِ هَرَبَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلسَّمَاءُ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُمَا مَوْضِعٌ» (رؤيا يوحنّا 20: 11). والأرجح أن ذلك التغيير العظيم في حالة السماوات والأرض الذي يحدث في اليوم الأخير لا يعمُّ جميع الكون المادي ولا جميع النظام الشمسي، بل يقتصر على أرضنا هذه وما يتعلق بها. أمّا بقاء الكون إلى الأبد فليس عليه نصٌّ في الكتاب. والأرجح أنه غير أبدي لأنه غير أزلي، ولأن لكل الخلائق نهاية ما عدا الإنسان، وذلك بموجب القصد الإلهي، وأن الله في الأبدية يبدع خلائق كثيرة مشابهة للخليقة المعروفة لنا، ليظهر مجده وقدرته وحكمته وكمال صفاته للخلائق العاقلة، ولأجل تشغيلها في خدمته. غير أن كل ذلك من باب الظن فقط، فليس في الكتاب نصٌّ ولا تلميح إليه. ومتى انتهت السماوات والأرض ننتظر سماوات جديدة وأرضاً جديدة، منزلاً جديداً أبدياً للمسيح وكنيسته. ولكن لا نعلم المواد التي تتكونان منه، فمن المحتمل أن تكون هذه الأرض نفسها ولكن على حالة جديدة أو أن الله يستبدلها بغيرها. غير أنه يكفينا أن نعرف أن المسيح يعدُّ لنا مكاناً يسكن معنا فيه.

(4) ظهور ملكوت المسيح في كماله، ودخول الكنيسة في أمجادها السماوية:

تأسس ملكوت المسيح عند مجيئه في الجسد وصعوده بعد القيامة وجلوسه عن يمين الله، ومنذ ذلك الوقت أخذ يتقدم بالتدريج نحو الكمال. والمقصود بالكمال هنا انضمام جميع شعب الله إليه، وانتصاره على جميع أعدائه، وإتمام ذلك عند مجيء المسيح وإدخال الكنيسة في حالتها المجيدة السماوية. ومن النصوص على ذلك أن الحجر المقطوع بغير يدين يصير جبلاً عظيماً ويملأ الأرض كلها، وتشبيه المسيح تقدُّم ملكوته بفعل الخميرة ونموّ حبة الخردل (إشعياء 49: 6 وحبقوق 2: 4 ودانيال 2: 34 و45 و7: 14 ومزمور 2: 8 و72: 11و17 و86: 9 وملاخي 1: 11). وقد شُبِّه هذا الملكوت بين مجيئي المسيح الأول والثاني بحقل تنمو فيه الحنطة مع الزوان إلى الحصاد، الذي هو انقضاء العالم، وحينئذ يرسل ابن الإنسان ملائكته، فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر وفاعلي الإثم ويطرحونهم في أتون النار. أي أن الملكوت يكون في أثناء تلك المدة عُرضة للمتاعب، فأوقاتاً ينحط وأخرى يرتفع، وتارة يتأخر وطوراً ينجح، وذلك كله تحققناه في تاريخ الملكوت. وهناك نبوات تقول إنه وإن نجح هذا الملكوت، فلا بد أن يطرأ عليه الانحطاط والضيق قبل مجيء المسيح ثانية، حتى يكاد الإيمان لا يوجد حينئذ على الأرض. لكن أقوال الأنبياء تؤكد أن الكنيسة تتلاشى، وتبقى بقيّة أمينة على الأرض تتمسّك بالديانة الحقيقية، وفيما تكون الكنيسة في هذا الضيق يظهر ملكوت المسيح بمجد سماوي، ويجتمع إليه عند نهاية الدينونة الأخيرة جميع المؤمنين من كل زمان ومكان وأمة، وتنتهي أحوال الكنيسة الأرضية في أحوال سماوية مجيدة. أمّا الأشرار وغير التائبين فيمضون إلى النار المُعدّة لإبليس وملائكته.

11 - ما هو الاعتقاد الذي تتفق عليه كل الكنائس في مجيء المسيح ثانية؟

اعتقدت الكنيسة في كل أجيالها أنّ المسيح يأتي ثانية بهيئةٍ منظورة، لغايات معروفة. وفي هذا الاعتقاد عدة قضايا صادق عليها كل المؤمنين وهي:

(1) إلغاء التمييز بين اليهود والأمم، باعتبار اليهود شعب الله الخاص. قال المسيح: «ٱذْهَبُوا إِلَى ٱلْعَالَمِ أَجْمَعَ وَٱكْرِزُوا بِٱلإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مرقس 16: 15). وهذا يعني أن جميع الأمم مدعوّون للدخول في ملكوته ليكونوا شعبه. ورأى بطرس رؤيا أقنعت الكنيسة بالكرازة للجميع (أعمال الرسل 10) فلم يُسمع بعد ذلك بالكنيسة الأولى عن أحدٍ قال إن اليهود أفضل من الأمم. وقد شرع الرسل يبشرون العالم كله، ودعوا الجميع لقبول الإنجيل، وكذلك فعل خلفاؤهم الذين كرزوا وبشروا في كل القرون المتوالية. ولا تزال الكنيسة تواظب على ذلك إلى هذا الوقت. نعم إنّ المسيح جاء لليهود أولاً، وكان التبشير الأول لهم، غير أن كل ذلك كان قبل رفضهم كأمّة، وإزالة التميُّز بينهم وبين الأمم، ودعوة الجميع لقبول الإنجيل.

(2) ابتدأ مُلك المسيح منذ صعوده ولا يزال ثابتاً ويمتدُّ في العالم: ومن نبوات العهد القديم على ذلك قول زكريا إن ملك أورشليم يأتي راكباً على أتان وجحش ابن أتان (زكريا 9: 9). وقد أتى كذلك. وأشار العهد الجديد كثيراً إلى أن للمسيح سلطاناً ملكياً، ووصفوه أنه ملك جالس على عرشه السماوي. ومن ذلك قول مرقس: «ٱلرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ٱرْتَفَعَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ» (مرقس 16: 19). وقوله «جلس عن يمين الله» يوافق ما جاء في مزمور 2 أن الله أقام ابنه ملكاً على جميع الشعوب. وكذلك قول بطرس في يوم الخمسين عن المسيح: «وَإِذِ ٱرْتَفَعَ بِيَمِينِ ٱللّٰهِ، وَأَخَذَ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مِنَ ٱلآبِ، سَكَبَ هٰذَا» (أعمال الرسل 2: 33). وما جاء عن استفانوس قبل موته أنه رأى مجد الله ويسوع قائماً عن يمين الله (أعمال الرسل 7: 55). وفي الرسائل شواهد كثيرة تؤيد هذا، ومنها قول بولس عن المسيح: «بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ ٱلْعَظَمَةِ فِي ٱلأَعَالِي» (عبرانيين 1: 3). و «أَمَّا هٰذَا فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ ٱلْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إِلَى ٱلأَبَدِ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ» (عبرانيين 10: 12 انظر أيضاً 8: 10 و12: 2). وقول بطرس عن المسيح: «ٱلَّذِي هُوَ فِي يَمِينِ ٱللّٰهِ، إِذْ قَدْ مَضَى إِلَى ٱلسَّمَاءِ، وَمَلاَئِكَةٌ وَسَلاَطِينُ وَقُوَّاتٌ مُخْضَعَةٌ لَهُ»(1بطرس 3: 22). وقول بولس: «رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ ٱسْماً فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ» (فيلبّي 2: 9-11). و «إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ، فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ ٱسْمٍ يُسَمَّى لَيْسَ فِي هٰذَا ٱلدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي ٱلْمُسْتَقْبَلِ أَيْضاً، وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، ٱلَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ ٱلَّذِي يَمْلَأُ ٱلْكُلَّ فِي ٱلْكُلِّ» (أفسس 1: 20-23). وفي الكتاب آيات كثيرة تؤيد ذلك (انظر تكوين 49: 10 وعدد 24: 17 و2صموئيل 7: 16 وإشعياء 9: 6 و7 وص 11 و52 و53 وميخا ص 4 ومزمور 2 و45 و72 و110 ومتّى 13: 41 وأعمال الرسل 2: 33-36 و5: 31 و10: 36 وأفسس 1: 20-22 و1بطرس 3: 22 ويوحنّا 3: 35 ورومية 14: 9 وفيلبّي 2: 9 و10 وعبرانيين 2: 9 و12: 2 ورؤيا يوحنّا 3: 21 و17: 14).

وهذه أدلة قاطعة على مُلك المسيح عند صعوده من هذه الأرض، وهو لا يزال جالساً على عرش الكون. فما الداعي بعد إلى أن يتّخذ مُلكاً؟ نعم ننتظر امتداد ملكه بزيادة عدد الخاضعين له، وظهور مجده أكثر فأكثر، وتغيير أحوال ملكوته الخارجية، وارتقاءه من درجة إلى أخرى، غير أن كل ذلك ليس اتخاذ مُلك جديد بل تغيير الأحوال الخارجية لملكوت هذا الملك الواحد. وقد رأينا أيضاً أن مركز عرش المسيح هو السماء، فلا نصدّق أن ينتقل مركز مُلكه إلى أرضنا، لأن ذلك يكون انحطاطاً للعرش الإلهي من السماويات إلى الأرضيات، الأمر الذي لا يصادق عليه الكتاب المقدس ولا يقبله العقل السليم.

(3) جلس المسيح على عرش داود باعتباره ملكاً: قال الرسول بطرس: «... يُقَالَ لَكُمْ جِهَاراً عَنْ رَئِيسِ ٱلآبَاءِ دَاوُدَ إِنَّهُ مَاتَ وَدُفِنَ، وَقَبْرُهُ عِنْدَنَا حَتَّى هٰذَا ٱلْيَوْمِ. فَإِذْ كَانَ نَبِيّاً، وَعَلِمَ أَنَّ ٱللّٰهَ حَلَفَ لَهُ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مِنْ ثَمَرَةِ صُلْبِهِ يُقِيمُ ٱلْمَسِيحَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ لِيَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَلاَ رَأَى جَسَدُهُ فَسَاداً. فَيَسُوعُ هٰذَا أَقَامَهُ ٱللّٰهُ، وَنَحْنُ جَمِيعاً شُهُودٌ لِذٰلِكَ. وَإِذِ ٱرْتَفَعَ بِيَمِينِ ٱللّٰهِ، وَأَخَذَ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مِنَ ٱلآبِ، سَكَبَ هٰذَا ٱلَّذِي أَنْتُمُ ٱلآنَ تُبْصِرُونَهُ وَتَسْمَعُونَهُ. لأَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَصْعَدْ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ. وَهُوَ نَفْسُهُ يَقُولُ: قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي، ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ. فَلْيَعْلَمْ يَقِيناً جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ ٱللّٰهَ جَعَلَ يَسُوعَ هٰذَا، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبّاً وَمَسِيحاً» (أعمال الرسل 2: 29-36). أليس في قوله فيسوع هذا أقامه الله تعليم صريح في إتمام الوعد بإقامة المسيح ملكاً على عرش داود؟ لا شك أنه أقامه من الأموات لهذه الغاية. وجاء أيضاً هٰذَا يَقُولُهُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلْحَقُّ (أي المسيح) ٱلَّذِي لَهُ مِفْتَاحُ دَاوُدَ، ٱلَّذِي يَفْتَحُ وَلاَ أَحَدٌ يُغْلِقُ، وَيُغْلِقُ وَلاَ أَحَدٌ يَفْتَحُ (رؤيا يوحنّا 3: 7). فقد أخذ المسيح مفتاح داود، أي سلطانه الملكي. وكل ذلك عكس رأي سابقي الألف السنة، الذين ينكرون جلوس المسيح الآن على عرش داود، ويقولون إنه سيجلس عليه عند مجيئه إلى أورشليم قبل الألف السنة!

(4) ملكوت المسيح روحي لا جسدي. وفي الكتاب شواهد كثيرة على ذلك. ومنها قوله: «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هٰذَا ٱلْعَالَمِ» (يوحنّا 18: 36). «وَلاَ يَقُولُونَ: هُوَذَا هٰهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ، لأَنْ هَا مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ دَاخِلَكُمْ (لوقا 17: 12). وقول الرسول: «لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ أَكْلاً وَشُرْباً، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (رومية 14: 17). ولما سأل إنسان المسيح أن يطلب من أخيه أن يقاسمه الميراث، فيقضي المسيح في الأمور الدنيوية، أجابه: «يَا إِنْسَانُ، مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِياً أَوْ مُقَسِّماً؟» (لوقا 12: 14)، بمعنى أنّ تلك الأمور خارجة عن دائرة ملكوته. وقد بيّن روحانية ملكوته بإلغائه الفرائض الزمنية والشرائع المدنية اليهودية، واكتفى بأن يعبد تابعوه الآب بالروح والحق «لأن اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يوحنّا 4: 24). ويظهر ذلك أيضاً من شروط الدخول في ملكوته، وكلها روحية فقط، وكذلك الواجبات المطلوبة من أهل ملكوته والوسائط المعيّنة لبنيانه وامتداده. ولذلك يمكن إقامة ملكوت المسيح بدون تغيير في ظروف الإنسان الخارجية والمدنية إذا كانت لا تخالف أصول المسيحية وآدابها. ألا يتضح جيداً من الإنجيل أن ملكوت المسيح ليس جسدياً ولا أرضياً ولا زمنياً مثل ممالك الأرض، بل هو ملكوت روحي يتعلق بأحوال الإنسان الروحية؟ (انظر يوحنّا 3: 3-5). وكل ما تقدم يخالف رأي سابقي الألف السنة، الذين ينادون بملكوت منظور جسدي يقوم في هذا العالم وتكون عاصمته أورشليم!

(5) ملكوت المسيح هو كنيسته فأعضاء الكنيسة المنظورة هم أعضاء ملكوته. قال الرسول: «ٱلَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ ٱلظُّلْمَةِ وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ٱبْنِ مَحَبَّتِهِ» (كولوسي 1: 13). وما ذلك الملكوت إلا الكنيسة التي رأسها المسيح، خلافاً لاعتقاد سابقي الألف السنة الذين يظنون أن الكنيسة هي ترتيب استعدادي لإظهار الملكوت أخيراً.

(6) وسائط حفظ ذلك الملكوت وامتداده روحية، وهي التبشير بالحق، وممارسة الأسرار، وتعليم الناس مبادئ الإنجيل، وبيان صدق جميع الأسفار المقدسة، وإقناع العالم بصدق المسيحية. قال الرسول: «وَهُوَ أَعْطَى ٱلْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً، وَٱلْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَٱلْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَٱلْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ، لأَجْلِ تَكْمِيلِ ٱلْقِدِّيسِينَ، لِعَمَلِ ٱلْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس 4: 11 و12) وقال أيضاً: «إِذْ أَسْلِحَةُ مُحَارَبَتِنَا لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً، بَلْ قَادِرَةٌ بِٱللّٰهِ عَلَى هَدْمِ حُصُونٍ» (2كورنثوس 10: 4). وكل هذا يدل على أن الوسائط المعيّنة هي روحية، وكذلك ما يعمله الله في بنيان ملكوته يعمله بواسطة الروح القدس الذي يقنع الإنسان بأنه خاطئ، وينير القلب ويجدده ويحركه للتوبة والإيمان، ويقدسه، وينمّي فينا الفضائل المسيحية. ولا يمكن إتمام كل ذلك إلا بواسطة الروح القدس. فالحق هو السيف والروح القدس هو الفاعل الذي يتمم مقاصده. وعصر الإنجيل هو عصر الروح القدس الذي فُوِّض له وحده إتمام عمل الفداء، وذلك عكس قول سابقي الألف السنة الذين يؤمنون أنّ الوسائط المستعملة الآن لرجوع العالم إلى الله ضعيفة، وأنه لا بدّ من مجيء المسيح بالجسد، ولذلك ينبغي أن ننتظره بكل صبر، وأنّ اجتهاد الكنيسة في التبشير بالإنجيل لأجل رجوع العالم إلى الله هو عبث، لأنّ هذه الغاية لا تتم إلا بمجيء المسيح بالجسد ليقيم ملكوتاً على الأرض.

(7) عصرنا الحاضر (عصر الإنجيل) هو من مجيء المسيح الأول إلى مجيئه ثانية، وهو على نوع خاص عصر الروح القدس. والكنيسة تبشّر بالإنجيل بمؤازرة الروح لإنارة الناس ورجوعهم إلى الله وقبولهم الخلاص بواسطة المسيح. وقد وعد المسيح قبل صعوده للسماء أن يرسل الروح القدس، كما وعد الله به أيضاً بلسان أنبيائه في العهد القديم، وأنه قد أكمل ذلك الوعد في يوم الخمسين وحتى عصرنا الحاضر، وسيستمر ذلك إلى النهاية. إن الروح القدس قادر على كل شيء، وهو ينير قلب الإنسان ويقنعه بالحق ويجدده ويقدسه ويثبته إلى النهاية. فهل نحتاج إلى غير معونته لنُرجع العالم إلى الحق؟ وهل هناك لزوم للبرهان على بُطل قول بعض سابقي الألف السنة إن العالم يحتاج إلى مجيء المسيح بالجسد ليرجع العالم إلى الله، وعلى أنه يحط من شأن الروح القدس الذي فوض الآب والابن إليه أن يتمم هذا العمل؟

(8) لا بد من انتصار الإنجيل وامتداد ملكوت المسيح إلى كل العالم، بواسطة بشارة الإنجيل، وتسلط المسيحية في قلوب الناس، وسكب الروح القدس على كل البشر. وهذا هو روح مواعيد العهد القديم ومعناها، ومما جاء منها في هذا الشأن ما معناه أن المسيح سيرث الأمم، وأن كل قبائل الأرض يأتون إليه، وأن ديانته تمتد إلى أقاصي الأرض، وأنه يملك على كل الشعوب (هوشع 2: 23 وإشعياء 45: 22 و23 ودانيال 7: 14 ومزمور 2: 8 وإشعياء 49: 6 وملاخي 1: 11). ولما كان المسيح على الأرض فوّض الكنيسة لتتمم هذا العمل، وأمرها أن تعلّم الأمم وتتلمذهم، ووعدها أن يكون معها إلى انقضاء الدهر (متّى 28: 19 و20 و مرقس 16: 15). وكل ما يقوله الكتاب عن رجوع العالم إلى الله يشير إلى حدوثه بوسائط روحية، كما أن ما يقوله الكتاب عن التقدم والذهاب إلى أورشليم، لا يتم البتة بوسائط ملكية إجبارية كاستخدام قوة السيف ونحوها.

(9) تشبه أحوال ملكوت المسيح بين مجيئه الأول ومجيئه الثاني أحوال حقلٍ ينمو فيه الزوان مع الحنطة إلى وقت الحصاد. والمقصود بالحصاد في ملكوت المسيح هو انقضاء العالم (متّى 13: 38-43). ولا بد أن يطرأ عليه التغيير في مدة تقدمه نحو الكمال، فأوقاتاً ينحط وأخرى يرتفع. وفي النبوات كلام عن الحاليْن، فإنها أنبأت عن تقدمه ونجاحه إلى درجة عظيمة مدة طويلة، غير أنه في أثناء ذلك التقدم يُنتظر الارتداد العظيم، وظهور ضد المسيح ووقوع الكنيسة في ضيق شديد تحت مقاومة عنيفة. ولكن تقدّمها يكون بالرغم من تلك الموانع، ومن الضيق والانحطاط مدة وجيزة قبل مجيء المسيح. وكُني في الكتاب المقدس عن مدة النجاح بألف سنة، والأرجح أنه يُراد بها مدة طويلة جداً.

ويقول المؤمنون بمجيء المسيح في الجسد ليملك على الأرض مدة ألف سنة إن مُلكه يبدأ فجأةً، أي أنه يُستعلن من السماء في وقتٍ لا ينتظره العالم، ويبيد الأشرار، ويقيم ملكوته على هيئة منظورة في أورشليم. وقد تيقّن بعضهم (بحساباتهم الكثيرة التي بنوها على المُدَد المذكورة في دانيال والرؤيا) أنه قد اقترب وقت ذلك جداً. غير أنّ الأزمنة والأيام المذكورة في دانيال والرؤيا لا تحدد وقت مجيء المسيح مطلقاً (ما عدا الإشارة إلى مجيئه الأول في دانيال 9: 25-27). ولا يوجد في الكتاب المقدس ما يساعد على تحديد الموعد.

وتؤمن الكنيسة كلها أن ملكوت المسيح ينمو ويتقدم بالتدريج باستخدام الوسائط المعيّنة من الله لذلك، فينبغي عليها أن تمارس تلك الوسائط بكل أمانة، وأن تبشّر بالإنجيل في كل العالم وتطلب سكب الروح القدس وبركاته الثمينة على عملها إلى أن تمتد المسيحية إلى أقاصي الأرض ويبدأ عصر السلام والمجد. وقد بيّن المسيح في أمثاله أن ملكوته ينمو بالتقدم التدريجي كالنبات (مرقس 4: 26-32 ومتّى 13: 33). وهذا ما حدث في كل تاريخ هذا الملكوت، فإذا استمرت الكنيسة مجتهدة في هذا العمل المبارك بكل أمانة وغيرة، طالبة بركة الروح القدس على أتعابها، سترى هذا الملكوت يتقدم بسرعة إلى أن ينضم إليه جميع الشعوب. والأرجح أن قوانين التقدم في ملكوت المسيح الروحي لا تختلف عن قوانين التقدم الطبيعية فالتقدم يسرع كلما اقتربنا إلى النهاية. غير أن ذلك لا بد أن يكون حسب ترتيب معيّن وبوسائط مختارة من الله. فكما صرف الخالق مدة طويلة في إعداد الأرض للبشر، بالتدريج وبترتيب منظم، هكذا سيصرف مدة معلومة في إنشاء ملكوته إلى أن يبلغ درجة الكمال والمجد.

(10) يأتى المسيح ثانية بالجسد ليدين العالم ويُدخل كنيسته في حالتها السماوية المجيدة: قد وردت ألفاظ مجيء وإتيان وظهور واستعلان في العهد الجديد نحو 80 مرة إشارة إلى مجيء المسيح، بعضها إلى مجيئه الأول، وبعضها إلى مجيئه لدينونة أورشليم، وبعضها إلى مجيئه روحياً ليرافق شعبه كما قال «لاَ أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ وٱلَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي وإِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً »(يوحنّا 14: 18 و21 و23).

وأكثر العبارات عن مجيئه تشير إلى مجيئه الثاني في انقضاء العالم. وكل ما جاء في الكتاب في هذا الشأن يدل على أنه يأتي مرة واحدة في حالة المجد، وتجتمع أمامه كل الأمم، الأحياء والأموات. أمّا المؤمنون الأحياء فيتغيّرون ويصعدون مع الأموات المقامين من قبورهم لملاقاة الرب في الهواء. ثم يميّز الأبرار عن الأثمة، ويعطي الأبرار الملكوت المُعدّ لهم منذ تأسيس العالم، ويرسل الأشرار إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته. وكل ذلك يحدث في انقضاء العالم، حين يرسل ابن الإنسان ملائكته ويجمع من ملكوته جميع المعاثر والشكوك (متّى 25: 31 و32 و34 و41 و2تيموثاوس 4: 1 و1كورنثوس 15: 25 وفيلبّي 3: 21 و1تسالونيكي 4: 17 ومتّى 13: 40 و41).

ويتضح أنّ مجيء المسيح هذا هو للدينونة من نصوص كثيرة في الكتاب (انظر يوحنّا 5: 22 و23 و27 و1كورنثوس 4: 5 وأعمال 17: 31 و2كورنثوس 5: 10 ومتّى 13: 27-43 و16: 27 و25: 31-46 و2تيموثاوس 4: 1). وجميع العبارات التي تنبئ عن هذا المجيء تدل على أن فيه تنتهي المدة المعيّنة لامتداد ملكوته على الأرض، وليس فيها أدنى إشارة إلى أنه يكون الواسطة لتوبة العالم أو لامتداد الملكوت.

أمّا الادلة على أن المسيح يأتي ثانية بالجسد، منظوراً كما أتى أولاً، فهي:

  • التشابه بين الكلام عن المجيء الأول والثاني (عبرانيين 9: 28 وأعمال الرسل 3: 20 و21).

  • النص الصريح على ذلك (أعمال الرسل 1: 11 ولوقا 21: 27).

  • نتيجة ذلك المجيء، وهي أن جميع قبائل الأرض تنوح، والأموات يقومون والأشرار يصرخون للجبال والصخور أن تقع عليهم وتغطيهم من وجه الرب.

  • كلام الرسل الذي يدل على أنهم فهموا أنه يأتي هكذا (2تيموثاوس 2: 11-12 وعبرانيين 9: 28 وكولوسي 3: 4 وفيلبّي 3: 20 و1تسالونيكي 2: 19 و4: 15-17 و1تيموثاوس 6: 14 و1بطرس 1: 5-7 و5: 4).

وفي الكتاب عبارات كثيرة عن مجيء المسيح تشير ليس إلى مجيئه الثاني بالجسد منظوراً، بل إلى مجيئه لإجراء الدينونة، كمجيئه لإخراب أورشليم، لبدء نظام الكنيسة يوم الخمسين وغير ذلك، وهو مجيء غير منظور بالجسد.

(11) عند مجيء المسيح ثانية يتم القصد في إعطاء وسائط النعمة للبشر وتنتهي، لأنّ الكنيسة تُكمَل حينئذ فلا يبقى لزوم لبشارة الإنجيل ولا لممارسة الأسرار ولا لمؤازرة الروح القدس للبشارة. وفي الكتاب نبوات كثيرة عن مجيء المسيح تحوي إنذاراً وتنبيهاً للكنيسة لتَثبت وتستمر أمينة ومطيعة لأوامر سيدها إلى أن يأتي (انظر لوقا 19: 13 و2بطرس 1: 19 ويعقوب 5: 7 و1بطرس 1: 13 و2تيموثاوس 4: 8 وفيلبّي 3: 20). وفيها أيضاً إشارة لأن ذلك المجيء يكون نهاية مدة امتحان الكنيسة وجهادها وأتعابها في هذه الدنيا، وتنبيهٌ وتوبيخ للخطاة المستخفّين بنعمة الإنجيل يتبيّن منها أنه عند مجيء المسيح ينتهي عملهم ويأخذون نصيبهم (2تسالونيكي 1: 7-10 و2بطرس 3: 10 ولوقا 12: 39و40 و17: 26و27و30). وكل ذلك يدل على أنّ الكتاب المقدس يوجّه أفكار المؤمنين بالإنجيل والمستخفين به إلى مجيء المسيح كنهاية لوسائط التعليم ولزومها.

وعند مجيء المسيح ثانية تنتهي أسرار الكنيسة. فمن النص على إلغاء المعمودية قول المسيح لتلاميذه: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ، فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ »(متّى 28: 18-20). وهذا يبيّن أنّ المعمودية تنتهي بنهاية العالم، أي بانقضاء الدهر الذي هو وقت مجيء المسيح ثانية. ومن النص على إلغاء العشاء الرباني قول الرسول: «فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هٰذَا ٱلْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هٰذِهِ ٱلْكَأْسَ، تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ ٱلرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ» (1كورنثوس 11: 26). فبعد مجيء المسيح ثانية لا نمارس العشاء الرباني.

أمّا بلوغ الكنيسة حال الكمال عند مجيء المسيح ثانية فواضح من أنها هي عروس المسيح، وعند مجيئه ثانية يتخذها لنفسه كنيسة كاملة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك (أفسس 5: 25-27 وكولوسي 1: 22 و1تسالونيكي 3: 13 و1كورنثوس 15: 23).

(12) متى أتى المسيح تحدث القيامة العامة، أي قيامة الأبرار والأشرار معاً (متّى 25: 31 و32 ويوحنّا 5: 28 و29 وأعمال الرسل 24: 15). ومن النصوص على قيامة الأبرار القول: «وَلٰكِنِ ٱلآنَ قَدْ قَامَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ ٱلرَّاقِدِينَ. فَإِنَّهُ إِذِ ٱلْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ، بِإِنْسَانٍ أَيْضاً قِيَامَةُ ٱلأَمْوَاتِ. لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ ٱلْجَمِيعُ هٰكَذَا فِي ٱلْمَسِيحِ سَيُحْيَا ٱلْجَمِيعُ. وَلٰكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ. ٱلْمَسِيحُ بَاكُورَةٌ، ثُمَّ ٱلَّذِينَ لِلْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ» (1كورنثوس 15: 20-23). وقول المسيح: «وَهٰذِهِ مَشِيئَةُ ٱلآبِ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً، بَلْ أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَخِيرِ. لأَنَّ هٰذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى ٱلٱبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَخِيرِ »(يوحنّا 6: 39 و40). من النصوص على قيامة الأشرار قول المسيح «فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ ٱلَّذِينَ فَعَلُوا ٱلصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلْحَيَاةِ وَٱلَّذِينَ عَمِلُوا ٱلسَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلدَّيْنُونَةِ» (يوحنّا 5: 28و29). وقول الرسول: «إِذْ هُوَ عَادِلٌ عِنْدَ ٱللّٰهِ أَنَّ ٱلَّذِينَ يُضَايِقُونَكُمْ يُجَازِيهِمْ ضِيقاً، وَإِيَّاكُمُ ٱلَّذِينَ تَتَضَايَقُونَ رَاحَةً مَعَنَا عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ، فِي نَارِ لَهِيبٍ، مُعْطِياً نَقْمَةً لِلَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ ٱللّٰهَ وَٱلَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِينَ سَيُعَاقَبُونَ بِهَلاَكٍ أَبَدِيٍّ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ وَمِنْ مَجْدِ قُوَّتِهِ، مَتَى جَاءَ لِيَتَمَجَّدَ فِي قِدِّيسِيهِ وَيُتَعَجَّبَ مِنْهُ فِي جَمِيعِ ٱلْمُؤْمِنِينَ» (2تسالونيكي 1: 6-10). وقول صاحب الرؤيا: «ثُمَّ رَأَيْتُ عَرْشاً عَظِيماً أَبْيَضَ، وَٱلْجَالِسَ عَلَيْهِ ٱلَّذِي مِنْ وَجْهِهِ هَرَبَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلسَّمَاءُ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُمَا مَوْضِعٌ! وَرَأَيْتُ ٱلأَمْوَاتَ صِغَاراً وَكِبَاراً وَاقِفِينَ أَمَامَ ٱللّٰهِ، وَٱنْفَتَحَتْ أَسْفَارٌ. وَٱنْفَتَحَ سِفْرٌ آخَرُ هُوَ سِفْرُ ٱلْحَيَاةِ، وَدِينَ ٱلأَمْوَاتُ مِمَّا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلأَسْفَارِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ. وَسَلَّمَ ٱلْبَحْرُ ٱلأَمْوَاتَ ٱلَّذِينَ فِيهِ، وَسَلَّمَ ٱلْمَوْتُ وَٱلْهَاوِيَةُ ٱلأَمْوَاتَ ٱلَّذِينَ فِيهِمَا. وَدِينُوا كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ. وَطُرِحَ ٱلْمَوْتُ وَٱلْهَاوِيَةُ فِي بُحَيْرَةِ ٱلنَّارِ. هٰذَا هُوَ ٱلْمَوْتُ ٱلثَّانِي. وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مَكْتُوباً فِي سِفْرِ ٱلْحَيَاةِ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ ٱلنَّارِ» (رؤيا يوحنّا 20: 11-15). وليس في الكتاب ما يثبت حدوث قيامتين، واحدة للأبرار عند مجيء المسيح قبل الألف السنة، وأخرى للأشرار بعد الألف السنة (حسب زعم سابقي الألف السنة المسند إلى قول صاحب الرؤيا): «وَرَأَيْتُ عُرُوشاً فَجَلَسُوا عَلَيْهَا، وَأُعْطُوا حُكْماً. وَرَأَيْتُ نُفُوسَ ٱلَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ أَجْلِ شَهَادَةِ يَسُوعَ وَمِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ ٱللّٰهِ. وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْجُدُوا لِلْوَحْشِ وَلاَ لِصُورَتِهِ، وَلَمْ يَقْبَلُوا ٱلسِّمَةَ عَلَى جِبَاهِهِمْ وَعَلَى أَيْدِيهِمْ، فَعَاشُوا وَمَلَكُوا مَعَ ٱلْمَسِيحِ أَلْفَ سَنَةٍ...» (رؤيا يوحنّا 20: 4-6) قالوا إنّ فيه دليلاً على ذلك، غير أنّ تفسيرهم هذا لا يمكن إثباته كما سيأتي.

(13) عند مجيء المسيح ثانية تحترق الأرض والسماوات الموجودة الآن، ثم تصير سماوات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر. قال بطرس: «وَلٰكِنْ سَيَأْتِي كَلِصٍّ فِي ٱللَّيْلِ، يَوْمُ ٱلرَّبِّ، ٱلَّذِي فِيهِ تَزُولُ ٱلسَّمَاوَاتُ بِضَجِيجٍ، وَتَنْحَلُّ ٱلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً، وَتَحْتَرِقُ ٱلأَرْضُ وَٱلْمَصْنُوعَاتُ ٱلَّتِي فِيهَا. فَبِمَا أَنَّ هٰذِهِ كُلَّهَا تَنْحَلُّ، أَيَّ أُنَاسٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ فِي سِيرَةٍ مُقَدَّسَةٍ وَتَقْوَى؟ مُنْتَظِرِينَ وَطَالِبِينَ سُرْعَةَ مَجِيءِ يَوْمِ ٱلرَّبِّ، ٱلَّذِي بِهِ تَنْحَلُّ ٱلسَّمَاوَاتُ مُلْتَهِبَةً، وَٱلْعَنَاصِرُ مُحْتَرِقَةً تَذُوبُ. وَلٰكِنَّنَا بِحَسَبِ وَعْدِهِ نَنْتَظِرُ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضاً جَدِيدَةً، يَسْكُنُ فِيهَا ٱلْبِرُّ» (2بطرس 3: 10-13) (ومزمور 102: 25 و26 ولوقا 21: 33 ورؤيا يوحنّا 21: 1).

(14) موعد مجيء المسيح ثانية غير معروف، ولا يمكن معرفته. وكل اجتهاد في هذا السبيل وجميع الحسابات التي عُملت لذلك لا تجدي نفعاً. غير أنه قام في كل القرون قومٌ ادّعوا معرفة ذلك بواسطة حسابات مستندين فيها على الغالب على أن كلمة يوم في النبوات يُراد بها سنة جاعلين ذلك مفتاحاً لأسرار المقاصد الإلهية.

وهناك من قالوا إنّ مجيء المسيح قريب، بعد سنوات أو أشهر أو أيام، لأنّ الكتاب يقول إنه قريب. والصواب أنّ أقوال الكتاب هذه تصف حياتنا أنها لحظة، وأنّ هيئة هذا العالم تزول، وأنّ نهاية كل شيء قريبة، كما قال يعقوب: «هُوَذَا ٱلدَّيَّانُ وَاقِفٌ قُدَّامَ ٱلْبَابِ» (يعقوب 5: 9). هي تشير إلى سرعة زوال العالم الحاضر، بمقارنة الزمن بالأبدية. وهذا هو المقصود بقول الكتاب: «اَلرَّبُّ قَرِيبٌ» (فيلبّي 4: 5). «... يَوْمَ ٱلْمَسِيحِ قَدْ حَضَرَ» (2تسالونيكي 2: 2). «لأَنَّ مَجِيءَ ٱلرَّبِّ قَدِ ٱقْتَرَبَ» (يعقوب 5 : 8). و «إِنَّمَا نِهَايَةُ كُلِّ شَيْءٍ قَدِ ٱقْتَرَبَتْ» (1بطرس 4: 7). أي أنه ليس بعيداً حسب نظر الله، الذي في عيْنيْه ألف سنة كيوم واحد ويوم واحد كألف سنة، أو بالنظر إلى قصر الدهر الحاضر بالنسبة إلى الأبدية. ولا شك أن الروح القدس قصد بهذه العبارات أن يشير إلى المدة التي قبل مجيء المسيح، ولكنه لم يشر إلى طولها كما أشار في الكلام عن خراب أورشليم، فإنه بعد أن قال إنه قريب على الأبواب قال أيضاً: «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَمْضِي هٰذَا ٱلْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هٰذَا كُلُّهُ» (متّى 24: 34). ومع ذلك بقي اليوم نفسه غير معيّن.

وجميع القضايا التي أوردناها هي سلسلة من الأدلة كاملة ومرتبطة معاً، يؤيد كل منها الآخر. وجميعها تثبت أن مجيء المسيح يكون في نهاية العالم للدينونة، وأنه هو الآن ملك جالس على عرش داود، وملكوته روحي، فلا معنى للقول إنه يأتي للجلوس على كرسي داود في أورشليم وإقامة ملكوت أرضي جسدي، وإن وسائط بنيان ملكوته روحية وكافية لغايتها، فلا حاجة إلى وسائط جسدية لا توافق حقيقته، وإنه سيمتد ويعم العالم ببشارة الإنجيل وسكب الروح القدس، وإن مجيء المسيح هو للدينونة وإدخال الكنيسة في حالتها السماوية، ولذلك لا ينتظر مجيئه بالجسد ليملك على كنيسته في حالتها الأرضية. وإن وسائط النعمة وأسرار الكنيسة تنتهي عند مجيئه، فلا يمكن أن يكون مجيئه قبل الألف السنة، لأن الكنيسة تبقى تمارس تلك الوسائط في هذه المدة. وإنه عند مجيئه تحدث القيامة وهي الوحيدة، وتكون في نهاية العالم لأنه عند حدوثها تحترق أرضنا هذه. ومع أن وقت حدوث كل ذلك مكتوم لا يعرفه أحد سوى الله، غير أنه يجب علينا أن نتوقع دائماً مجيء المسيح وتلك الحوادث بصبر وإيمان، فنستفيد من هذا الموضوع أكثر جداً مما نستفيد منه إذا حددنا الوقت، وحوّلنا الروحيات إلى جسديات وملكوت المسيح الروحي إلى ملكوت جسدي، مخالفين أوضح عبارات الكتاب التي تبيّن إتمام النبوات عنه أنه الآن ملك جالس على عرش داود، ومستخفّين بالوسائط المعيّنة لرجوع العالم إليه، وبمجيء الزمان المجيد الذي فيه تمتلئ الأرض من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر.

12 - ما هو رأي من يقولون بمجيء المسيح ثانية قبل الألف السنة؟

تنتظر الكنيسة كلها مجيء مدة الألف السنة في المستقبل، معتقدة أنها لم تأت بعد. وقد قال بعض المفسرين (وهم قليلو العدد جداً) إنّ تلك المدة بدأت بعد المسيح بنحو 800 سنة ودامت ألف سنة، والآن قد انقضت. وبنوا رأيهم على أنّ تلك القرون كانت مظلمة ولم يكن لها حظّ من أمجاد الألف السنة. نعم قد حدث فيها الإصلاح العظيم في الكنيسة، غير أن ما قيل عن الألف السنة يدل على أنها تكون زمن راحة وسلام وامتداد لملكوت المسيح وانتصار كامل للدين، وذلك خلاف ما حدث مع الكنيسة في تلك القرون المظلمة حين تلطخت بخطايا جسيمة وتوغل أغلب رؤسائها في الآثام والمعاصي والحروب. نعم امتدت المسيحية في تلك القرون ولكن على صورة ميتة خالية من الروحانية والأعمال الصالحة والسلوك الحبّي، حتى انحط المسيحيون حينئذ إلى أدنى درجة في الاعتقاد والسيرة، ولزم الإصلاح لإرجاعهم إلى التعليم الصحيح والحياة الطاهرة. وهذا يُظهر أنّ هذا القول سخيف وباطل.

وقال آخرون إنّ مدة الألف السنة (وإن كانت لا تزال مستقبلة) لا تختص بتاريخ الكنيسة تحت النظام الحاضر الذي سينتهي بدمار فظيع وخراب عام، ثم يتلوه مجيء المسيح بالجسد إلى أرضنا فتبدأ الألف السنة، وتدخل الكنيسة في نظام آخر تحت رياسة المسيح الأرضية وهو في الجسد.

13 - ما هي الردود على من يقولون بمجيء المسيح ثانية قبل الألف سنة؟

يقولون: (1) في مدة الألف السنة يملك المسيح على الأرض منظوراً بجسده الممجد. (2) تبدأ الألف السنة فوراً بعد مجيئه ثانية. (3) عند مجيئه ثانية يقوم كل القديسين الذين ماتوا بأجسادهم الروحانية الممجدة ويعيشون ويملكون معه على الأرض ألف سنة. (4) يُباد كل الأشرار الأحياء عند مجيئه ثانية بالأحكام الرهيبة التي تصحب ظهوره. (5) صار العالم مستعداً لهذا المجيء فيجب انتظاره في كل لحظة. (6) لا يمكن أن يصلح العالم قبل مجيء المسيح ثانية. (7) لم يشر الله في النبوات إلى إصلاح العالم قبل مجيءالمسيح، ولا قصد ذلك.

ومع أن جميع الذين اعتقدوا بمجيء المسيح قبل الألف السنة سلّموا بهذه القضايا، إلا أنهم اختلفوا في أمور كثيرة متعلقة بها، وقد درسنا كتب أشهر المؤلفين في هذا الموضوع فكانت كما يأتي:

(1) المراد بملكوت الله وملكوت السماوات في كلام دانيال والسيد المسيح والرسل (دانيال 2: 44 و7: 13و14 ومتّى 4: 17 ومرقس 1: 14 و15 وأعمال الرسل 20: 25 ورومية 14: 17) ليس عصر الإنجيل ونظامه الذي أسسه المسيح وابتدأ بعد صعوده بقيام الكنيسة وبشارة كل العالم بالإنجيل وسكب الروح القدس على التلاميذ، بل مُلك المسيح ألف سنة مع قديسيه بعد مجيئه ثانية.

(2) عمل المسيح الروحي العظيم وعمل خدامه من ذلك الوقت إلى الآن هو (بناءً على ما تقدم) عمل استعدادي لينبّه الناس إلى مجيء المسيح ثانية، ويجعلهم ينتظرونه بإيمان ورجاء.

(3) لم يقصد المسيح قط رجوع العالم إليه بالتبشير بالإنجيل وإرسال الروح، ولا أعتبر جماهير البشر حصاداً ولا تلاميذه فعلةً، ولا قصد جمع هذا الحصاد بواسطة الكرازة بالإنجيل وقوة الروح القدس. بل أعدّ هذه الوسائط (حسب زعمهم) لغايتين: (أ) إظهار عدم كفايتها بذاتها، وإعداد الطريق لما هو أفضل. (ب) جعلها مبشرة بمجيئه ثانية.

(4) يلزم مما تقدّم أن الذين اعتقدوا برجوع العالم لله في النظام الحاضر وصلوا وتعبوا لإتمام هذه الغاية متكلين على الوسائط والقوات التي أعدّها الله، لا يعرفون حقيقة خدمة أولاد الله ولا الترتيب الإلهي، بل أفسدوا بذلك عمل الله.

(5) عند مجيء المسيح يُباد الأشرار عن وجه الأرض وربما يبقى بعضهم.

(6) القديسون الذين يقومون بأجسادهم الروحانية، ويعيشون ويملكون مع المسيح على الباقين في الأرض وفي مدة الألف السنة، يكملون التبشير لرجوع كل الأمم لله.

(7) عند مجيء المسيح ثانية يرجع اليهود حرفياً إلى بلادهم ويؤمنون بالمسيح، وتتجدد الديانة اليهودية. غير أنه يطرأ عليها تغييرات طفيفة، كما تحدث تغييرات جيولوجية في أرض فلسطين، وتصير أورشليم عاصمة مملكة المسيح ومكان عرشه، حيث يظهر من حينٍ إلى آخر لشعبه المحبوب.

(8) للدينونة الأخيرة يومان: الأول لكل الأبرار الذين عاشوا إلى مجيءالمسيح في بداية ملكه. والثاني لدينونة كل الأشرار، وهو في نهاية الألف السنة. وتكون دينونة جمهورية لا شخصية، وتقوم بإبادتهم عن وجه الأرض لا بإشهار ذنوبهم أمام العالم، وتعيين نصيبهم الأبدي حسب أعمالهم.

ولأجل زيادة الإيضاح وبيان ما بين هذه التعاليم وتعاليم الكتاب المقدس نضع تعليمهم ثم الآيات الكتابية المناقضة له:

(1) عند مجيء المسيح ثانية لا يقوم من الأموات إلا الأبرار.

ولكن المسيح يقول «تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ ٱلَّذِينَ فَعَلُوا ٱلصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلْحَيَاةِ وَٱلَّذِينَ عَمِلُوا ٱلسَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ ٱلدَّيْنُونَةِ» (يوحنّا 5: 28 و29).

(2) للدينونة الأخيرة يومان، واحد للأبرار والآخر للأشرار وبينهما مدة ألف سنة.

ولكن الكتاب يقول: «لأَنَّهُ أَقَامَ يَوْماً (واحداً) هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ ٱلْمَسْكُونَةَ بِٱلْعَدْلِ» (أعمال الرسل 17: 31) (ومتّى 25: 31 و32 ورؤيا يوحنّا 20: 11 و12).

(3) ليس ملكوت السماوات في اصطلاح العهد الجديد هو مُلك المسيح مدة العصر الإنجيلي، ولا بدأ عند صعوده، بل إنه لم يبدأ بعد.

ولكن الكتاب يقول إن ملكوت السماوات في الإنجيل هو مُلك المسيح الإنجيلي، وقد بدأ عند صعوده ولم يزل يمتد من ذلك الحين، وسيكمل في هذا العالم في الوقت الذي فيه الناس لا يسيؤون ولا يفسدون لأن معرفة الرب تملأ الأرض.

(4) ليس العصر الحاضر (بين مجيء المسيح الأول والثاني) نظام عملٍ بل نظام انتظار، قصد الله فيه لشعبه في كل هذه المدة أن يبشروا (مثل يوحنّا المعمدان) ويعلنوا أن مجيئه قد اقترب، ويتوقعوا ذلك بإيمان وانتظار ليفتحوا عصر القوة الروحية الفعالة لرجوع العالم للمسيح.

ولكن الكتاب يقول إن العصر الحاضر معيّن من الله ليكون زمن عمل لا زمن انتظار لكل شعبه (حسب اعتقاد سابقي الألف السنة). والعمل المعيّن فيه هو التبشير بالمخلّص الذي صُلب وقام، وبالخلاص المعدّ، ودعوة كل الأمم بواسطة شعبه لقبوله، وذلك ما زلنا ننتظره.

(5) لم يكن خيراً للمسيحيين أن يذهب المسيح بالجسد ويرسل الروح القدس فقط ليكمل عمله، ولذلك يجب على شعبه ألاّ يكتفوا بالوسائط الحاضرة غير الكافية لأجل الحياة المسيحية ولأجل تجديد العالم، بل يجب أن ينتظروا ظهوره بالجسد لإقامة نظام ذي قوة كافية لإخضاع العالم لسلطانه.

ولكن الكتاب يقول إنه كان خيراً لحياة المسيحيين ولتجديد العالم أن المسيح ينطلق بالجسد (يوحنّا 16: 7) وأن يأتي المعزّي روح الحق. ولذلك يجب على المسيحيين أن يكتفوا بترتيب المسيح وأن يعتمدوا على الوسائط التي أعطاها لهم لأجل حياتهم المسيحية على الأرض ولأجل رجوع العالم إليه بالتبشير.

(6) لم يقصد الله رجوع العالم إليه بواسطة الحق المعلَن، ولا بمناداة البشر بهذا الحق، ولا بمصاحبة الروح القدس،، بل بحضور المسيح بمجده مع قديسيه، وبالأحكام المهلكة التي ستحل على الأشرار عند مجيئه، وبتبشير القديسين (الذين يقومون بأجسادهم الروحية وحالتهم المجيدة) بالإنجيل.

ولكن الكتاب يقول إن الله سُرِّ أن يخلّص الناس بجهالة الكرازة (1كورنثوس 1: 21). ويفتح قلوب البشر بروحه وعنايته وبتعليم الروح القدس وقوة إنجيل الحق، وهكذا يجدّد قلوب البشر ويرجعهم من الخطية إلى القداسة.

(7) لم تُعطَ الوسائط الفعالة لرجوع العالم لله عند مجيء المسيح الأول، ولن تعطى حتى مجيئه الثاني، ولم يقصد الله رجوع أكثر البشر إليه في العصر الحاضر، ولا نرى من تعليم المسيح لتلاميذه إشارةً إلى أن العالم لن يتجدد بواسطة حق الإنجيل وتبشير الناس وفعل الروح القدس، ولا قصد الله ذلك على الإطلاق.

ولكن الكتاب يقول إن المسيح أمر تلاميذه صريحاً أن يذهبوا إلى العالم أجمع ويكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها، وأكد لهم حضوره معهم (متّى 28: 19-20) ومساعدة قوته الكافية لهم (آية 18) ووعدهم أن يرسل الروح القدس ليبكّت العالم ويغيّره بواسطة تبشيرهم (يوحنّا 16: 7-11 ولوقا 24: 49 وأعمال الرسل 2: 33). وهذه الوسائط معيّنة من الله لتُرجع العالم إليه، وهي مناسبة لذلك، وقد أنبأ الله بنجاحها. ورأى أنبياء اليهود سابقاً حقيقة نتائج عصر الإنجيل وأوضحوها بإشارات غامضة، وتحدثوا عن قوتها الفاعلة، وأعلنوا وعد الله أن تلك القوات ستنجح في إرجاع العالم للمسيح.

(8) الذين يعتقدون برجوع العالم لله قبل مجيء المسيح ثانية، ويجتهدون في ذلك هم مخطئون.

ولكن جميع المؤمنين برجوع العالم وخلاصه والمجتهدين في ذلك ينالون تعزية لأنهم يعلمون أنهم يطيعون وصية المسيح ويتبعون خطوات الرسل، ويتممون العمل الذي أعلنته النبوات ودلّت عليه عناية الله، وهم يتعلمونه يوماً فيوماً من الروح الساكن في قلوبهم.

(9) ستعود ممارسة النظام اليهودي في أورشليم، ما عدا بعض أمور طفيفة منه، بعد رجوع اليهود إلى فلسطين.

لكن النظام اليهودي بطقوسه وذبائحه قد كملت وظائفه ولا يمكن رجوعه، ولا دليل على رجوع اليهود إلى أرض آبائهم كما كانوا قديماً، ولا تلميح إلى ذلك.

14 - كيف نبرهن أنّ المسيح لا يملك على الأرض؟

يقول الكتاب إنّ المسيح يجيء في أربعة أحوال: (1) عند موت أحد المؤمنين به لينقله إليه (يوحنّا 14: 2و3). (2) يجيء إلى قلوب المؤمنين بواسطة الروح القدس المعزّي والمرشد (يوحنّا 14: 16-18 و23 و28 ورؤيا 3: 20). (3) يجيء في القوة أو كما قيل أحياناً في ملكوته، وذلك لخراب أورشليم ودمار اليهود (متّى 16: 27 و28 و24: 29-34 ومرقس 8: 38 و9: 1 و13: 24-30 ولوقا 9: 26 و27 و21: 31 و32). (4) يجيء في انقضاء العالم ليقيم الأموات ويدين البشر (متّى 25: 31-46). ومجيئه لإجراء الدينونة على أورشليم يشير إلى مجيئه الأخير.

(1) ليس في هذه الأقسام ما يشير إلى مجيئه بالجسد منظوراً إلا في الرابع منها. فالأول منها يتم بإرسال الملائكة لينقلوا النفس عند مفارقتها الجسد إلى المسيح. والثاني يتم بإرسال الروح القدس إلى قلوب المؤمنين لتعزيتهم وإرشادهم ونموّهم في التقوى. والثالث يتم بالعناية الإلهية التي تُجري الدينونة على المقضي عليهم. والرابع يتم بمجيء المسيح بالجسد منظوراً أمام الكون أجمع.

وكل من يراجع أقوال المسيح عن مجيئه الأخير بالجسد لا يرى فيها ما يدل على مجيئه ليملك بالجسد على الأرض. ومن أشهر ما جاء في هذا الشأن قوله: «وَمَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ ٱلْمَلاَئِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ ٱلشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ ٱلرَّاعِي ٱلْخِرَافَ مِنَ ٱلْجِدَاءِ...» (متّى 25: 31-46) وهو يدل على الدينونة، وليس فيه إشارة إلى ملكه جسدياً على هذه الأرض. وقوله: «مِنَ ٱلآنَ تُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ ٱلْقُوَّةِ، وَآتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ» (متّى 26: 64). والأرجح أنّ هذا يشير إلى مجيئه لإجراء الدينونة على أورشليم وأمّة اليهود. وإذا فرضنا أنه يشير إلى مجيئه الأخير بالجسد فليس فيه ما يدل على أنه يأتي ليملك على الأرض. وإذا تأملنا جميع أقوال المسيح عن مجيئه لا نرى فيها أدنى دليل أو تلويح إلى ما تقدم، بل ما يرجّح عدم مجيئه لتلك الغاية. فإنه قال لتلاميذه: « خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ ٱلْمُعَزِّي، وَلٰكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ. وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ ٱلْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ» (يوحنّا 16: 7 و8). المعنى أن إتمام عمله الروحي في ملكوت الله لا يتم بحضوره في الجسد وحضور الروح القدس معاً، وأن حضور الروح القدس هو أفضل للكنيسة من حضور المسيح بالجسد، ولذلك ينبغي أن يذهب ليرسل الروح. وقال أيضاً: «مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَٱلأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي» (يوحنا 14: 12). وهو بهذا يعلن أن الفائدة من حضور الروح القدس أعظم من الفائدة من حضوره. ثم قال: «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ ٱلآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّياً آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى ٱلأَبَدِ» (يوحنّا 14: 16) أي الروح القدس الذي يمكث مع الكنيسة إلى نهاية العالم. وقال أيضاً: «وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْر»ِ (متّى 28: 20) أي هو معهم بروحه الذي يسكبه عليهم كما فعل في يوم الخمسين وما بعده إلى يومنا الحاضر، وكما سيفعل إلى الانقضاء.

وإذا اعتُرض أن قول الرسل إن مجيء المسيح قريب يدل على أنه مزمع أن يملك على الأرض بالجسد، نجيب أن مرادهم بذلك أنه قريب في نظر الله، بدليل عدم مجيئه بعد، مع أنه قد مضى أكثر من ألفي سنة منذ أعلنوا هذا إلى الآن، وأيضاً عدم انتظارهم مجيئه في ذلك العصر، مع أنهم قالوا إنه قريب. قال بولس للتسالونيكيين عن مجيء المسيح إنه لا يأتي إن لم يأت الارتداد أولاً، وواضح أن الرسل لم يبقوا إلى ما بعد قيامة المسيح وقبيل سكب الروح القدس عليهم تحت الريب في أمر مجيئه وإقامة ملكوته ومتمسكين بآراء يهودية في هذا الشأن، ولذلك سألوه «يَا رَبُّ، هَلْ فِي هٰذَا ٱلْوَقْتِ تَرُدُّ ٱلْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟» فَأجابهم: «لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا ٱلأَزْمِنَةَ وَٱلأَوْقَاتَ ٱلَّتِي جَعَلَهَا ٱلآبُ فِي سُلْطَانِهِ» (أعمال الرسل 1: 6 و7). وهو جواب كافٍ. أمّا بعد حلول الروح القدس عليهم فتكلموا في هذا الموضوع بغير ما تكلموا به قبلاً، فقالوا ما معناه إنّ ملك المسيح قد بدأ، وإنه قد اعتلى عرش داود، وإن الكنيسة قد دخلت في عصر حلول الروح القدس لإتمام عمل الفداء، وإنّ المسيح يأتي أخيراً في انقضاء العالم للدينونة، لا ليملك على الأرض في الجسد. ولذلك يجب الانتباه إلى كلامهم في هذا الموضوع بعد حلول الروح القدس عليهم لا قبل ذلك.

(2) العصر الحاضر هو نظام الروح القدس بمعنى خاص.

كان الروح القدس في العالم قبل يوم الخمسين، غير أنه في ذلك اليوم ظهر على نوع عظيم، ولا يزال كذلك إلى العصر الحاضر. وهذا ما تنبأ به الكتاب المقدّس (يوئيل 2: 28 و29 وأعمال الرسل 2: 14-21 وحزقيال 36: 25-27 و39: 29 وإشعياء 44: 3-5 و48: 16 و59: 19-21 وإرميا 31: 31-34 وعبرانيين 8: 8-12). ومن تعليم المسيح لتلاميذه ولا سيما قوله: «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ. مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ ٱلْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ. قَالَ هٰذَا عَنِ ٱلرُّوحِ ٱلَّذِي كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ، لأَنَّ ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ» (يوحنّا 7: 37-39). فبعد أن مُجّد يسوع بالقيامة من الأموات وارتفع إلى يمين الله في السّماوات أرسل الروح القدس بقوة مجيدة. وفي خطابه لتلاميذه في الليلة التي أُسلم فيها تكلم عن عمل الروح القدس، وجدد وعده بأنه يرسل لهم معزّياً آخر يمكث معهم ويعلّمهم (يوحنّا 14: 15-17 و26 و15: 26 و16: 7-15). ثم راجع ملخص تلك المواعيد يوم صعوده (لوقا 24: 29 وأعمال الرسل 1: 2 و4 و5 و8). وفي يوم الخمسين بدأ تحقيق تلك المواعيد بقوة. فكان ذلك اليوم بداية عصر الإنجيل. وسفر أعمال الرسل من أوله إلى آخره شهادة جليلة وجلية بإتمام الوعد العظيم بإرسال الروح القدس، فيستحق أن يُدعى أعمال الروح القدس أو أعمال الرسل المملوئين من الروح القدس. وتظهر الرسائل أيضاً فعل الروح في الحاضر والمستقبل، وقوته لتجديد الخطاة وتقديس الصالحين، فإن فعل روح الله علامة خصوصية تميّز عصر العهد الجديد، وتبيّن قوة الإنجيل الفعال في خلاص البشر.

(3) أرسل المسيح تلاميذه ليكرزوا بالإنجيل لكل العالم.

أرسلهم ووعدهم بكل القوات الإلهية اللازمة لنجاحهم، فشرعوا في هذا العمل الذي اعتبروه واجباً. وإذ امتلأوا من الروح عرفوا ما عليهم من المسئولية والواجبات، وما لهم من المساعدة الإلهية، وكرّسوا قلوبهم وحياتهم لهذه الخدمة العظيمة. قال بولس: «لأَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ ٱلْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ ٱللّٰهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ: لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلاً ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ» (رومية 1: 16). وذكر عظمة قدرة الله الفائقة نحو المؤمنين، مقارناً ذلك بعمل قدرته العظيمة الذي فعله في المسيح إذ أقامه من الأموات (أفسس 1: 19 و20). وليس في كل تبشير الرسل ولا في أسفارهم إشارة إلى أنهم حسبوا أن الحق الإنجيلي والروح القدس غير كافييْن لرجوع العالم، ولا تلميح إلى أنهم توقعوا في المستقبل البعيد نظاماً آخر فعالاً في خلاص الناس أكثر من نظامهم الحاضر بألف مرة، كما يقول سابقو الألف السنة. وإذا قرأنا ما كرز به بولس في أنطاكية وأفسس وبيرية وتسالونيكي وكورنثوس، وطالعنا رسائله إلى تلك الكنائس، لا نرى كلمة تدل على اليأس أو الشك في نجاح التبشير بالإنجيل الذي تعلمه إذا اتكل على مساعدة الروح القدس الذي منحه إياه.

(4) رأى الرسل في نبوات العهد القديم تثبيتاً لإرساليتهم، وتأكيداً لنجاحهم، وعرفوا منها حقيقة النظام الإنجيلي وروحه والنتائج الجليلة التي تصدر عنه.

وهذا ما نقرأه في (أعمال الرسل 13: 46 و47 و15: 14-18 ورومية 11: 25-27 و15: 8-12 و21) وهي نبوات تؤكد رسالتهم العظيمة من المسيح الذي قال لهم: «ٱذْهَبُوا إِلَى ٱلْعَالَمِ أَجْمَعَ» (مرقس 16: 15) «وٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ» (متّى 28: 19). وعرف الرسل من هذه النبوات أنّ العالم كله سيأتي للمسيح لا جزء منه فقط. قال بولس الرسول: «إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلءُ ٱلأُمَمِ، أي جمهورهم، و إنه حينئذ سَيَخْلُصُ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: سَيَخْرُجُ مِنْ صِهْيَوْنَ ٱلْمُنْقِذُ وَيَرُدُّ ٱلْفُجُورَ عَنْ يَعْقُوبَ. وَهٰذَا هُوَ ٱلْعَهْدُ مِنْ قِبَلِي لَـهُمْ مَتَى نَزَعْتُ خَطَايَاهُمْ» (رومية 11: 25-27 وإشعياء 59: 20-21 وإرميا 31: 31-34).

ولم يترك الله الرسل في شك من جهة العمل المفروض عليهم والوسائط التي يستعملونها ويعتمدون عليها، ولا من جهة قصده في نجاح عملهم بمساعدة تلك الوسائط والقوات. فكان عملهم أن يكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها (مرقس 16: 15) ووسائطهم وقوتهم هي تعليم الإنجيل الصالح للتعليم، ولإذابة قلوب البشر مصحوباً بفعل روح الله، لأن الوعد هو ويكون الجميع متعلمين من الله. ووعد الرب بعمل عظيم في العصر الإنجيلي قائلاً: «أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي أَذْهَانِهِمْ، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلٰهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً. وَلاَ يُعَلِّمُونَ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ قَائِلاً: ٱعْرِفِ ٱلرَّبَّ، لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ» (عبرانيين 8: 10 و11). ولكيلا يفهم أحد أن هذا الوعد العظيم لا يخص العصر الإنجيلي الحاضر، بل حالة مستقبلة بعيدة، قال كاتب العبرانيين إن العهد القديم أي النظام الموسوي، كان حينئذ قريباً من الاضمحلال، ليحل مكانه العهد الجديد المذكور.

وقد ذكرت نبوات العهد القديم نتائج العهد الجديد، و هي إقبال الناس إلى إنجيل المسيح وإصلاحهم، وعلى الخصوص في إشعياء الذي رأى قبائل الأرض صاعدة إلى صهيون لتتعلم شريعة الرب (إشعياء 2: 2-4 و42: 1و3و4 و49: 6-12 و18: 23 وص 60 وغير ذلك) ورأى أيضاً أنّ الناس لا يسوؤون بعد ولا يفسدون، لأنّ الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر (إشعياء 11: 9) ورأى أيضاً أنّ المسيح إذ يحل عليه روح الرب يُخرج الحق إلى الأمم، وأنه لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض، وأنّ الجزائر تنتظر شريعته (إشعياء 42: 1-8).

وتذكر تلك النبوات نجاح النظام الإنجيلي الحاضر، صريحاً أو تلخيصاً، كما تذكر كفاية القوات الفاعلة في هذا النظام. فإشعياء 55 ختم بذكر فردوس مثل عدن بقوله: «عِوَضاً عَنِ ٱلشَّوْكِ يَنْبُتُ سَرْوٌ، وَعِوَضاً عَنِ ٱلْقَرِيسِ يَطْلَعُ آسٌ. وَيَكُونُ لِلرَّبِّ ٱسْماً، عَلاَمَةً أَبَدِيَّةً لاَ تَنْقَطِعُ» (إشعياء 55: 13) أي يكون ذلك للرب مجداً مخلداً. وفي تلك النبوات ذُكرت القوات الفعالة المنتجة هذه النتائج: «لأَنَّهُ كَمَا يَنْزِلُ ٱلْمَطَرُ وَٱلثَّلْجُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَلاَ يَرْجِعَانِ إِلَى هُنَاكَ، بَلْ يُرْوِيَانِ ٱلأَرْضَ وَيَجْعَلاَنِهَا تَلِدُ وَتُنْبِتُ وَتُعْطِي زَرْعاً لِلزَّارِعِ وَخُبْزاً لِلآكِلِ، هٰكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي (كلمة حق الإنجيل) ٱلَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لاَ تَرْجِعُ إِلَيَّ فَارِغَةً (أي بدون أن ينتج عنها بركات) بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ. لأَنَّكُمْ (أي الكارزين بكلامي) بِفَرَحٍ تَخْرُجُونَ وَبِسَلاَمٍ تُحْضَرُونَ» (إشعياء 55: 10-12). وذكر أنّ الخليقة تشترك مع الناس في الفرح بهذه النتائج المباركة بقوله: «ٱلْجِبَالُ وَٱلآكَامُ تُشِيدُ أَمَامَكُمْ تَرَنُّماً، وَكُلُّ شَجَرِ ٱلْحَقْلِ تُصَفِّقُ بِٱلأَيَادِي» (إشعياء 55: 12). فهذه الأقوال تعظم كلمة الإنجيل وتؤكد فاعليتها.

وفي الأنبياء أقوال أخرى أيضاً تعظّم فعل روح الله (إشعياء 59: 19-21 و61: 1 وحزقيال 36) وأنّ ربوات البشر من المغرب ومن المشرق يخافون اسم الرب عندما يجري حقّه كنهر عظيم منحصراً في شواطئه حيث يرفع روح الرب راية الظفر، لأنّ الرب وعد: «رُوحِي ٱلَّذِي عَلَيْكَ، وَكَلاَمِي ٱلَّذِي وَضَعْتُهُ فِي فَمِكَ لاَ يَزُولُ مِنْ فَمِكَ وَلاَ مِنْ فَمِ نَسْلِكَ وَلاَ مِنْ فَمِ نَسْلِ نَسْلِكَ قَالَ ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلآنَ وَإِلَى ٱلأَبَدِ» (إشعياء 59: 21). فإذا رأى القارئ الآن نتائج حق الإنجيل في عالمنا بقوة روح الله في قلوب شعبه ضمن العهد الحاضر، فليقرأ ما قاله إشعياء 60 بهذا المعنى، ثم يسأل نفسه: أليست هذه غلبة مجيدة؟ ألا يُراد بذلك نجاح الإنجيل الظافر بعظمة الحق من فم الله، الفعال بواسطة روح الرب الحال في شعبه؟ ونقرأ في إشعياء 61 أنّ ذلك الروح حلّ أولاً على المسيح الوديع الذي خرج ليجبر القلوب المكسورة، ويعتق البشر من عبودية إبليس والخطية، ويكرز بسنة الرب المقبولة ويعزّي النائحين. وقد نفى المسيح وهو في كفر ناحوم إمكان تحويل هذا الوعد عن عصر الإنجيل الحاضر إلى نظام ما مستقبل (بعد يوم الدينونة) بقوله: «قَدْ تَمَّ هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ» (لوقا 4: 18-22).

ونبوّات العهد القديم، فضلاً عن أنها لا تصرّح ولا تلمح أن إتمامها يكون بعد المجيء الثاني والقيامة في نظام آخر يخالف النظام الحاضر، تتضمّن ما يمنع إمكانية فهم ذلك، لأنّها تبدأ بالكلام عن مجيء المسيح الأول، ثم تذكر أهم حوادث العصر المسيحي (الحاضر) وإعماله وغايته وعظمته، مثل توبة الأمم وإرسال الروح القدس وعمله. ثم إنّ المسيح يباشر هذا العمل إلى أن ينير الأمم ويثبت الحق والبر في كل الأرض (إشعياء 42: 1-6). ولا مكان للقيامة من الأموات والدينونة الأخيرة قبل انتهاء هذا العمل. ولا إشارة إلى إدخال نظام جديد فيه من الوسائط والقوات ما ليس معروفاً في عصر الإنجيل. ولا كلمة تعضد آراء سابقي الألف السنة، وقولهم إن الوسائط الحاضرة ليست كافية ولم تفعل كثيراً ولا يُرجى نجاحها، ولم يقصد الله بها كل هذه النتائج. وليس في إشعياء كلام عن وقت يناسب أفكارهم، ولا تلميح ولا إشارة إلى ذلك في كل أنبياء العهد القديم.

15 - ما هي الأمور التي تناقض من يقولون بمجيء المسيح ثانية قبل الألف السنة؟

(1) تهيأت الوسائط بمجيء المسيح الأول لا الثاني، وأُعدت الطريق بواسطة تعاليم المسيح وحياته وموته لترجيع العالم.

(2) علّم يسوع كل الحق اللازم لهذه الغاية والذي يناسب طبيعة الإنسان، وأوضحه بحياته وموته وأقوال رسله، ولم يترك حاجة لأمر آخر أفضل.

(3) أُعطيت القوة الروحية اللازمة لجعل حق الإنجيل فعالاً في خلاص الخطاة بإرسال الروح القدس الموعود به، والذي منح القوة الخاصة بالعصر المسيحي.

(4) لم يأذن المسيح فقط لتلاميذه وأعطاهم سلطاناً، بل أمرهم أيضاً أن يحملوا الإنجيل للخليقة كلها، إلى أن يرجع العالم للرب. واختارهم لهذا العمل المهم الذي أعد له كل ما يلزم لإتمامه. وهكذا فهموا أوامره وكرّسوا حياتهم له.

(5) وجد الرسل في نبوّات العهد القديم ما يدل على حقيقة عملهم، وأن المسيح أرسلهم بنور الإنجيل إلى الأمم ليرجعوا إلى الله.

(6) تُظهر النبوات حقيقة عصر الإنجيل ونتائجه. وأمّا حقيقته فهي إعلان مجيء المسيح الأول، وأعظم الحوادث في تاريخ حياته وذبيحته الفدائية وموته وأعمال شعبه وإرساله الروح القدس ليعمل فيهم وبهم ومعهم. وأمّا نتائجه في ذلك فهي إنارة الأمم وانتصار الحق وامتداد صهيون حتى تحتوي العالم كله.

(7) تذكر الأسفار المقدسة عجز البشر عن إتمام هذا العمل العظيم، ولكنها لا تخاف من عدم النجاح، لأن قوة الله تعمل في الضعف البشري. قال بولس الرسول: «لَنَا هٰذَا ٱلْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ ٱلْقُوَّةِ لِلّٰهِ لاَ مِنَّا» (2كورنثوس 4: 7) وقال أيضاً: «حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ» (2كورنثوس 12: 10).

(8) عصرنا الحاضر هو الوقت الوحيد للرحمة والخلاص. وليس في كل الكتاب المقدس شعاعة رجاء بتوبة الخطاة في حالة بعد الحالة الحاضرة. وكل الدعوات والمواعيد وإرسال الروح القدس محصورة في الحياة الحاضرة وفي العصر الحاضر لأنّ بعد الموت الدينونة (عبرانيين 9: 27) والحصول على النصيب الأبدي (متّى 25 : 46).

(9) لم يعد المسيح الكنيسة بمجيئه ليملك بالجسد على الأرض بل قال ما يرجح عكس ذلك.

16 - ما هي أخطاء من يقولون بمجيء المسيح ثانية قبل الألف السنة بخصوص رجوع اليهود إلى فلسطين، وإعادة النظام اليهودي؟

(1) ينادي أصحاب هذا الرأي بأنّ الديانة اليهودية (ما عدا تغييرات قليلة) ستنتظم ثانية في أورشليم، ويعتمدون في ذلك على تفسيرهم لحزقيال 40-48. فنقول إنّ التفسير المجازي أو الروحي لهذه النبوة وما جرى مجراها في هذا الموضوع أقرب من التفسير الحرفي، ولنا على ذلك أدلة: (أ) من العهد الجديد. (ب) من العهد القديم، ولا سيما من هذه النبوات نفسها بالنظر إلى ظروف كاتبيها والذين توجَّهت إليهم أولاً. (ج) ومن الظروف، لا سيما سهولة قبول تفسيرها الروحي وصعوبة قبول تفسيرها الحرفي.

(أ) الأدلة من العهد الجديد:

التفسير الحرفي في هذا المقام مرفوض لأنه يناقض العهد الجديد، ويختلف مع روح نظام الإنجيل بجملته، كما يتضح من أقوال المسيح وتلاميذه. فحسب النظام الحرفي يلزم أن رؤيا حزقيال تتضمّن رجوع الديانة اليهودية أعظم وأوسع مما كانت في القديم. وحسب العهد الجديد يلزم أن الديانة اليهودية ميتة، لأنها أكملت وظيفتها عند موت المسيح، فلم يعد لها سلطان إلهي. ولما كُتبت رسالة العبرانيين كانت اليهودية قد عتقت وشاخت وصارت قريبة من الاضمحلال. وقد أوضح بولس الرسول في مواضع كثيرة من رسائله أن المسيح نقض حائط السياج المتوسط بين اليهود والأمم بنزعه ما كان خاصاً باليهود، وأبطل بجسده ناموس الوصايا في فرائض (أفسس 2: 14 و15) ومحا الصك الذي على الأمم في الفرائض، الذي كان ضداً لنا وقد رفعه من الوسط مسمراً إياه بالصليب (كولوسي 2: 14). هذه هي نهاية النظام الموسوي. وملخص رسالة غلاطية هو أنّ الرجوع من المسيحية إلى اليهودية ليس غباوة فقط، بل خطية وارتداد عن المسيح (غلاطية 3: 1 و3). وقال إنه ليس يهودي ولا يوناني (إذ كانت الديانة اليهودية قد زالت) لأن الجميع واحد في المسيح يسوع. «وَأَمَّا ٱلآنَ إِذْ عَرَفْتُمُ ٱللّٰهَ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ عُرِفْتُمْ مِنَ ٱللّٰهِ، فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضاً إِلَى ٱلأَرْكَانِ ٱلضَّعِيفَةِ ٱلْفَقِيرَةِ ٱلَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ؟ أَتَحْفَظُونَ أَيَّاماً وَشُهُوراً وَأَوْقَاتاً وَسِنِينَ (يهودية) أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثاً» (غلاطية 4: 9-11). «إِنِ ٱخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ ٱلْمَسِيحُ شَيْئاً! لٰكِنْ أَشْهَدُ أَيْضاً لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُخْتَتِنٍ أَنَّهُ مُلْتَزِمٌ أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ ٱلنَّامُوسِ. قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ ٱلْمَسِيحِ أَيُّهَا ٱلَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِٱلنَّامُوسِ. سَقَطْتُمْ مِنَ ٱلنِّعْمَةِ» (غلاطية 5: 2-4). ومعنى هذا كله أنه ليس بعد للختان وظيفة ولا سلطان، ولا لكل الناموس الطقسي، لأنه كان مؤدّباً إلى المسيح قبل مجيئه. وأمّا بعد فصار الناموس الطقسي بدون فائدة ومضراً لمن يستند عليه.

لقد تساهل الرب بصبره وحكمته مع اليهود المتنصرين في ذلك التغيير العظيم من الديانة اليهودية إلى المسيحية، ولكنه أعطى أوامر واضحة برفض الديانة اليهودية لأن وظيفتها كملت، ولا يناسب استعمالها بعد في ملكوت الله. فهل يصدق أنه سيُرجع أيضاً حائط السياج المتوسط والفرائض والذبائح الدموية وكل ما كان في النظام الموسوي؟ وإذا قيل: سترجع حسب معنى كلام حزقيال الحرفي في ص 40-48 نجيب: إذا كان العهد الجديد من الله، فالرجوع إلى الديانة اليهودية ممنوع على الإطلاق! لأن كلام المسيح وتلاميذه في هذا الموضوع جليٌّ جداً. قال المسيح للسامرية (وهو قبالة جبل جرزيم، إذ طُرحت أمامه مسألة كانت منذ زمان طويل موضوع الخلاف وهي: أفي ذلك الجبل يقبل الله السجود أم في أورشليم؟): «صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ لأَنَّ ٱلْخَلاَصَ هُوَ مِنَ ٱلْيَهُودِ. وَلٰكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ ٱلسَّاجِدُونَ ٱلْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ» (يوحنّا 4: 21-24). أي أن هذه المسألة قد زالت أهميتها، وأن كل نظام يقصر العبادة على مكان واحد يبطل، وأنه من الآن فصاعداً لم يعد شيء من مثل ذلك يُلزم العابد لأن يكون عند الله. فإن كانت نبوة حزقيال حرفية يلزم أن يكون هناك مكان محدد للعبادة، وتصير كلمات المسيح للسامرية بلا معنى. وإذا تتبعّنا أقوال حزقيال حرفياً نقول إنه ستأتي ساعة حين يسجد الناس لله كما في القديم في المكان المعين، لا بمجرد الروح والحق، بل بكل طقوس الديانة اليهودية القديمة. فهل يمكن أن يتنبأ بذلك؟ كلا وذلك واضح لا يحتاج إلى برهان. فلا يمكن الرجوع إلى تعيين محلٍ واحد للعبادة في صورة الديانة اليهودية الميتة. وفي عهد الإنجيل قلب كل تقي هو هيكل الله، وكل مكان يليق لأن تُقدّم فيه الابتهالات والتضرعات القلبية بالإيمان، ولا يمكن أن يزول نظام الإنجيل ويقوم مكانه النظام الموسوي.

لقد نصّ رسل المسيح على أن المسيحيين في عصر الإنجيل هم هيكل الله، وأن الله يسكن فيهم ويسير معهم (1كورنثوس 3: 16 و6: 19 و2كورنثوس 6: 16). وهذا تحقيق لنبوات العهد القديم كما يُفهم من نبوة عاموس عن بناء خيمة داود الساقطة أنها تشير إلى رجوع الأمم واجتماعهم إلى الكنيسة، لا إلى بناء الهيكل ثانية حرفياً (عاموس 9: 11 و12 وأعمال 15: 13-18). ولم يقرن الرسول بولس رجوع اليهود إلى المسيح برجوعهم إلى أرضهم، ولا اعتقد أن هاتين الحادثتين تكونان معاً، ولا أن رجوعهم إلى أرضهم من الأمور اللازمة لرجوعهم إلى المسيح، بل لم يذكر شيئاً عن الرجوع إلى الأرض. نعم إنه اعتقد برجوعهم إلى المسيح، وسرّه ذلك كثيراً، ولكنه لم يلمح البتة إلى رجوعهم إلى أرضهم، ولا إلى إعادة بناء الهيكل من الخشب والحجارة (رومية 11: 11-36).

وأخيراً نقول إن بين نظام العهد القديم ونظام الجديد تناقض، حتى لا يمكن جمعهما معاً، لأن القديم كان محصوراً محدوداً خاصاً بأمة، وأما الجديد فيمتد إلى كل العالم. الأول كان محجوزاً ضمن أسوار ليمنع العبادة الوثنية ويُبقي رجاسات العالم خارجاً، وأما الثاني فهو مناضل ومكافح للعبادة الوثنية وخطايا العالم في كل مكان حسب أمر واضعه العظيم: «ٱذْهَبُوا إِلَى ٱلْعَالَمِ أَجْمَعَ وَٱكْرِزُوا بِٱلإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مرقس 16: 15). فكيف يمكن مزج هذين النظامين حتى يرجع العالم إلى الرب بواسطة الرجوع إلى الديانة اليهودية التي من شأنها الانحصار؟

(ب) الأدلة من العهد القديم: ولا سيما من النبوات نفسها، بالنظر إلى ظروف كاتبيها والذين توجهت إليهم أولاً:

كان الأنبياء يهوداً تربوا في النظام اليهودي، وأفكارهم عن ملكوت الله يهودية، وألفاظهم وعباراتهم واستعاراتهم وإشاراتهم للتعبير عن تلك الأفكار يهودية أيضاً، وكذلك كان الذين قرأوا نبواتهم أولاً من اليهود. والرب نفسه كلم اليهود بلغة واستعارات يهودية، فأعلن ملكوت المسيح المستقبل للأنبياء وللشعب بكلمات وإشارات مأخوذة من النظام اليهودي. وكان ذلك لازماً لإعلان كل أمرٍ ديني لليهود. وقد وضعنا هذا المبدأ هنا لنوضح سبب استخدام اصطلاحات النبوات وإشارتها الخاصة، لا لنبرهن على أن النبوات أعلنت بركات إنجيلية. وأمّا معرفة الأنبياء بأن قوة الإنجيل المجيدة ستُرجع العالم للرب، وأن روح الله هو العامل في الأيام الأخيرة فواضحة أولاً من إشارتهم إلى عصر الإنجيل، وهذا يوجب تفسير نبوّاتهم عن بركات الإنجيل لا عن النظام والطقوس الموسوية. وثانياً من اقتضاء نبواتهم إتماماً عظيماً جداً لا يمكن أن يكون دون الأمور الإنجيلية.

(ج) الأدلة من الظروف: ولا سيما سهولة قبول تفسير تلك النبوات الروحي وصعوبة قبول تفسيرها الحرفي:

بقي علينا أن نبيّن أن النظام الحرفي لتفسير النبوات عن اليهود فاسد بالنظر إلى الظروف. فمن المستبعَد جداً أن الأسباط العشرة الذين ضاع ذكرهم من التاريخ منذ السبي يظهرون أيضاً ويبيّنون جداول أنسابهم المتصلة إلى أجدادهم، ويبرهنون ذلك للعالم، ويسكنون في أماكنهم المعيّنة في حزقيال 48. وأن حدود أرض فلسطين تتغير على كيفية غريبة وتصير قائمة الزوايا، وأن النهر الكبير يجري من المقدس بفيضان غريب إلى البحر الميت وتُشفَى مياهه فيمتلئ سمكاً. ومن المحال أن أوقات الإنجيل المجيدة ومدته الجليلة تنتهي وتكمل بالرجوع من نظام العهد الجديد إلى نظام الدين اليهودي. ومن المستبعد أن الله يرجع كنائس الأمم إلى الحروب الدائمة مع اليهود التي سبّبت في القرنين الأول والثاني سفك دماء شهداء كثيرين. وأن يرجع اليهود إلى التعصب والتعالي والعِرقية والانفصال عن الأجناس الأخرى وروح عدم محبة الآخرين كما ظهر منهم في بدء المسيحية، وإلى الاستناد على الطقوس والفرائض الخارجية. وغير معقول أن المسيح يعطي كنيسته نظاماً من شأنه الميل إلى تعظيم الطقوس والفرائض على روح المحبة والطهارة والسلام، وأن يبدل ما في النظام المسيحي من مجد الروح القدس وقوته الفائقة بنهر جميل وسمك كثير وأشجار مثمرة وما يسرّ الناظر، أي يرجع الكنيسة والعالم من دين روحي إلى فردوس أرضي حرفي بحسب التفسير الحرفي لما جاء في حزقيال 47: 1-12. فلنفرح لأن كل ذلك بعيد، ولنسر بأنّ غرائز طبيعتنا المسيحية تضاد هذا التفسير للنبوات، وأن لا دليل يسند التفسير الحرفي خلافاً للتفسير المؤيَّد بالأدلة الشافية والذي يُظهر الحق المجيد وفق روح نبوات العهد القديم وتفسير العهد الجديد إياها، ويكشف عن مستقبل عظيم مجيد في ملكوت فادينا.

(2) في مذهب سابقي الألف السنة أمور مستحيلة:

  1. في نظام سابقي الألف أمور كثيرة مستحيلة في نفسها وفي تحقيقها، منها أن المسيح لما قال اقترب ملكوت الله قصد أن ذلك الملكوت يكون بعد نحو ألفي سنة أو أكثر، وأن يوحنّا المعمدان الذي أتى ليُعدّ الطريق للمسيح أراد بقوله اقترب ملكوت الله مجيء المسيح ثانية لا مجيئه الأول، وأن حضور المسيح في الجسد مع المسيحيين أفضل لهم لأجل مساعدتهم وتعزيتهم من حضوره معهم بواسطة الروح المعزّي، مع أن المسيح قال خلاف ذلك (يوحنّا 16: 7). وأن سكان العالم في مدة الألف السنة يكونون من أمم جميعها في الجسد والخطية، ومن ربوات من القديسين قاموا من الأموات بأجسادهم الروحانية، وجميعهم يسكنون معاً ويعاشرون بعضهم بعضاً في عالمٍ واحدٍ وفي وقتٍ واحد.

  2. وبموجب هذا الرأي لا توجد واسطة لترجيع العالم إلى الله غير مجيء المسيح بالجسد، وهذا يحط من شأن عمل البشارة واجتهاد الكنيسة في تعليم الإنجيل ونشره في العالم، وبنيان ملكوت المسيح، كما يحط من شأن الروح القدس وقوته ومجده، لأنه (على زعمهم) غير كافٍ لإتمام هذه الغاية. وعندنا أن ظهور المسيح بالجسد في مجده ليس من الوسائط الفعالة في إقناع العالم بخطاياه وإرجاعه إلى الحق، لأن القلب البشري لا يتجدد ولا يتغير من مجرد منظر مجيد، فكم من الناس رأوا المسيح وهو على الأرض ولم يستفيدوا منه مطلقاً! ومتى جلس على عرش مجده للدينونة يراه الجميع ولكن بدون فائدة روحية لأحد منهم. وعلى فرض أن المسيح أتى بالجسد وملك على الأرض، ألا يبقى البشر محتاجين بعد إلى البشارة؟ أو هل تنفع البشارة أحداً بدون مرافقة الروح القدس وفعله الخاص في إنارة قلبه وإرجاعه إلى الله؟ فإذا كان تقدُّم الإنجيل يتوقف على الروح القدس إلى هذا المقدار، والمسيح على الأرض، فما المانع من تقدُّمه والمسيح على عرشه السماوي، إذا رافق الروح كلمة البشارة؟ وما الداعي لمجيئه بالجسد لإرجاع العالم إلى الله، بينما الروح القدس قادر على إرجاعه في الوقت المناسب، وقد أعطانا عربوناً لذلك ما فعله يوم الخمسين من تغيير قلوب ثلاثة آلاف شخص في يوم واحد وإرجاعهم إلى الحق؟ أليست السماوات أليق وأمجد من هذه الأرض الحقيرة لتكون عرشاً للمسيح؟ وإذا نزل ابن الله إلى هذا العالم ومعه أهل السماء وتبوّأ عرشاً أرضياً، ألا يُفرغ السماء مما يتعلق بملكه المجيد؟ وهل من المعقول أن ذلك العرش الكائن عن يمين الله الذي جلس عليه المسيح يبقى فارغاً من مجد حضوره مدة ألف سنة، وأن الملائكة يغيبون عنه طول هذه المدة ولا تُسمع هناك ترنيمات الفرح والسرور والتسبيح وتنتقل أمجاد السماء إلى أورشليم الأرضية؟

  3. ومما يدل على بطل هذا النظام هو أنه لو كان من تعليم المسيح وتلاميذه لأبطل استعمال الحق الإنجيلي الفعّال بواسطة الروح القدس، ولاشى الرجاء بالنجاح العظيم، وحمل الكنيسة على أن تترك العمل وتنتظر مجيء المسيح ثانية. ولما حدث شيء من نتائج تبشير الرسل والكنيسة الأولى الفائقة الوصف. فنستنتج أن ذلك ليس من تعليم المسيح ورسله، وبالتالي فهو غير صحيح. ومن المحال أن الرب يسوع نظر بعين الاحتقار إلى خدمة الذين قدموا أموالهم وصلواتهم وضحوا بسعادتهم الأرضية وحياتهم في سبيل الكرازة بالإنجيل للخليقة كلها طاعة لأمره. فالنظام الذي يؤدّي إلى مثل هذه العقائد المضادة لتعليم الكتاب وللعقل ولروح التقوى، يهدم رجاء شعب الله في الحق الإنجيلي الفعال بواسطة الروح القدس، وينفي الثقة بالله في نجاح خدمة الإنجيل، ويناقض روح الرسل والكنيسة الأولى، ويقاوم الإرسالية العظيمة التي وجهها المسيح لشعبه في العصر الحاضر بواسطة عنايته وروحه.

(3) بعض الحقائق المهمة التي تغاضى عنها هذا النظام.

فات سابقي الألف السنة إدراك بعض الحقائق المهمة جداً، منها مناسبة حقائق الإنجيل العظيمة للعقل البشري، وسلطانها على القلب والسيرة إذا علّمها الروح القدس وقُبلت بالبساطة. وأن للمحبة قوة في إخضاع قلوب الناس للتوبة أكثر من الخوف، لأنهم يقولون إن نزول الأحكام المخيفة عند مجيء المسيح ثانية له قوة في ترجيع الخطاة وجعلهم يحزنون على خطاياهم أكثر من دموع المسيح ودمه. وفاتهم اعتبار عظمة عمل الروح القدس في عصر الإنجيل. ولذلك أغفلوا حضور المسيح في قلب المؤمن بواسطة المعزّي (يوحنّا 14: 16-18 و16: 13-15) وعن قوة الروح القدس في إظهار الحق للخاطئ وجعله مؤثراً في ضميره وقلبه. وفاتهم أيضاً فهم روح الرسل وعملهم لما امتلأوا من الروح القدس وبشّروا بالإنجيل، وبالتالي فهم جوهر النظام المسيحي وغايته.

فمن هذه الأغلاط يتبيّن فساد مذهب سابقي الألف السنة، واعتقادهم أن الحق ضعيف، لا يغلب في الحرب المستعرة في هذا العالم مدة العصر الحاضر بين الحق والضلال والقداسة والخطية والمسيح والشيطان. ومن العجب أنهم قالوا إن النصرة تكون أخيراً للضلال والخطية لا محالة، وذلك في الحرب الحاضرة والترتيب الحاضر. وأمّا في النظام التالي فيأتي المسيح بقوات جديدة من أحكامه الرهيبة ويغلب. وإذ ذاك تكون نصرته بواسطة النار والرعود والزلازل وانقلابات الطبيعة. فما لم يمكن إتمامه بواسطة المحبّة والدموع والحق وبرهان الروح القدس يتم بواسطة المخاوف الرهيبة التي تصحب مجيئه ثانية وجامات غضبه المهلك، وأنه لا يمكن بواسطة الإنجيل والروح القدس الحصول على نصرة روحية في الحرب العظيمة في ميدان القلوب البشرية. فلا يليق أن نخفض شأن الإنجيل بمثل هذا الكلام، ولا أن نحط اعتبار الروح القدس بمثل هذه التشدُّقات، ولا أن نُضعف رجاءنا بسبب تأخر النصرة، مع أن قوات الحق تزداد قوة وإن كان بطريقة خفية، ولنا نبوات أكيدة عن النصرة نطق بها الأنبياء في القديم، وأنشدوها بأصوات الفرح والابتهاج.

17 - يستند أصحاب رأي مجيء المسيح ثانية قبل الألف السنة على آيات من نبوة دانيال. اشرح رأيهم. وما هو الرد عليه؟

استندوا على سفر دانيال في أمرين:

  1. حوّلوا ما فيه من الإشارات إلى نبوات عن عصر الإنجيل، فحسبوا المملكة الرابعة في أصحاحي 2 و7 مملكة روما الوثنية، وملوكها العشرة ممالك أوروبية تقوم في القرون المتوسطة لعصر الإنجيل، والقرن الصغير الكنيسة الكاثوليكية، والمملكة الخامسة أي مملكة المسيح تقوم بعد إبادة القرن الصغير. ولذلك قالوا إن ملكوت المسيح لا يقوم إلا بعد إبادة الكنيسة الكاثوليكية، أي لم يقم بعد.

  2. حرّفوا معنى كل المُدد المذكورة في هذا السفر على مبدأ وهمي، وهو أنّ كل يوم يعني سنة، وقالوا إنها تشير إلى زمن خراب الكنيسة الكاثوليكية ومجيء المسيح. وقد بيّنا في ما تقدم أن هذا التفسير مشكوك فيه. أمّا مبدأهم أن يوم النبوة هو سنة فسيأتي البرهان على فساده في إجابة سؤال 22. فإذا فسّرنا سفر دانيال بالصواب، لا نرى فيه دليلاً على وقت مجيء المسيح ثانية، ولا على مُلكه بالجسد على الأرض.

18 - ما هو التفسير الصحيح لأصحاحي 2 و7 من نبوّة دانيال؟

علاقة سفر دانيال بالعهد القديم، ولا سيما بالنبوات، كعلاقة رؤيا يوحنّا بالعهد الجديد ولا سيما بأقوال المسيح ورسله النبوية، فسفر دانيال هو رؤيا العهد القديم. وهو نور لتعزية الحكماء الأتقياء، وإنارة الظلمة من وقت السبي إلى وقت المجيء الأول للمسيح، كما كانت رؤيا يوحنّا سبب تعزية وإنارة لقدّيسي العهد الجديد ترشدهم في سياحتهم في العالم المظلم من وقت خراب أورشليم وحتى مجيئه ثانية عندما ينتهي النظام الحاضر (قارن تيطس 2: 11-13 مع رؤيا يوحنّا 1: 7 و22: 17 و20). والفرق بينهما أن دانيال وجّه كلامه لليهود في العهد القديم، ويوحنّا للمسيحيين في العهد الجديد.

ويتضمن دانيال 2 أقوالاً عن الممالك التي هي الموضوع الأهم في السفر، فالصنم الذي رآه يمثل المملكة البابلية والمملكة المادية الفارسية والمملكة اليونانية والمملكة السورية (المسماة أحياناً الدولة السلوقية) وبعدها ملكوت المسيح المعبّر عنه بحجر قُطع بغير يدين وصار جبلاً كبيراً ملأ الأرض كلها.

وفي الأصحاحات التالية يرد ذكر تلك الممالك بأكثر تفصيل، ففي دانيال 7 عبّر عن الأربع الأولى من تلك الممالك بحيوانات، للرابع منها عشرة قرون، ورأى أن قرناً صغيراً (آية 8) أخضع ثلاثة من القرون العشرة، وأن ذلك القرن الصغير القوي حارب القديسين وغلبهم حتى جاء القديم الأيام وأُعطي الدين لقديسي العلي، وجاء الوقت فامتلك القديسون المملكة. وتشير القرون العشرة إلى عشرة ملوك من المملكة الرابعة، ويشير القرن الصغير إلى ملك منهم، هو أنطيوخس أبيفانيس الذي ضايق اليهود جداً.

ويتضمن الأصحاحان 8 و11 نبوات عن تلك الممالك الأربع التي انقسمت إليها مملكة الإسكندر الكبير. وأعمال أنطيوخس أبيفانس أحد ملوكها (وهو القرن الصغير المذكور في ص 8: 9-11 و23-25) هو موضوع الكلام في (ص 11: 21-45).

فنبوة دانيال تُلقي نوراً نبوياً على المدة المتوسطة بين سبي بابل ومجيء المسيح، وترينا زوال قوات العالم القديم العظيمة، وقيام ملكوت المسيح الأبدي بعدها.

والمسألة المهمة في تفسير نبوة دانيال هي: إلى من يشير الحيوان الرابع المذكور في ص 7؟ وقرونه العشرة؟ والقرون الثلاثة التي قُلعت منها. والقرن الصغير الذي طلع بينها؟ قال جمهور المفسرين إن الحيوان الرابع يشير إلى المملكة الرومانية، فتكون القرون العشرة عشر ممالك انقسمت إليها تلك المملكة بعد سقوطها. والقرون الثلاثة التي قُلعت منها هي ثلاث من تلك الممالك العشر، والقرن الصغير هو الكنيسة الكاثوليكية. غير أن في هذا الرأي صعوبات وتناقضات كثيرة، ولم تقم أدلة كافية لإثباته، ولذلك رأى جمهور من أشهر المفسرين رأياً آخر، وهو أن الحيوان الرابع يشير إلى مملكة سوريا اليونانية التي أسسها سلوقس أحد قواد الإسكندر الكبير بعد موته وانقسام مملكته، وكانت عاصمتها أنطاكية سوريا. والقرون العشرة تشير إلى عشرة ملوك من تلك المملكة. والقرون الثلاثة التي قُلعت منها هي ثلاثة أشخاص حاولوا أخذ الملك، والقرن الصغير هو أنطيوخس أبيفانس الذي عارضهم في ذلك وأخذ الملك منهم. ولأن هذه المسألة شغلت المفسرين كثيراً وكثُرت فيها أبحاثهم، آثرنا ان نتحدث فيها لنبيّن صحة الرأي الثاني من الرأيين المذكورين آنفاً (أي الحيوان الرابع يشير إلى مملكة سوريا اليونانية):

(1) مملكة سوريا هي التي أعقبت الممالك الثلاث السابقة والتي أعقبتها المملكة الخامسة. وموقعها في التاريخ يوافق موقع الحيوان الرابع في جملة أوجه: (أ) في الزمان. لأنها أعقبت مملكة الإسكندر (المشار إليها بالحيوان الثالث) وتأسّست بعد حروب وخصومات شديدة مدة 11 سنة، وسرعان ما أقامت علاقة شديدة باليهود، خلافاً لمملكة روما التي لم تكن لها علاقة بهم إلا باقتراب مجيء المسيح، ولا أضرّت بهم ضرراً عظيماً إلا وقت خراب أورشليم بعد المسيح بنحو سبعين سنة. (ب) في المكان. لأنها تسلطت على ذات الأراضي التي تسلطت عليها الممالك الثلاث السابقة خلافاً للمملكة الرومانية. (ج) في شعوبها. لأنها تألفت من الشعوب التي تألفت منها ممالك بابل ومادي وفارس واليونان. (د) في علاقتها باليهود لانحصارهم فيها، بخلاف مملكة روما التي كان سلطانها وقتئذ محصوراً في أوروبا، ولم تتداخل في أمور اليهود حتى زمن هيرودس الذي ملك على اليهود بمساعدة روما، وبعد موته استولت روما عليهم.

(2) هذا الرأي يجعل علاقة المملكة الرابعة باليهود مطابقة تماماً لما نرى في أحوال الممالك الثلاث السابقة من كثرة تداخلها في أمور اليهود، فإن أهمية تلك الممالك وسبب ذكرها في النبوة هي عظمتها وشدة علاقتها بشعب الله. وكلام الله لدانيال في شأنها هو أن تلك الممالك الأربع العظيمة التي تحيط باليهود وتتسلط عليهم وتهددهم بالدمار والملاشاة وإبادة ديانتهم سوف تتلاشى، ويقوم مكانها ملكوت المسيح ويملأ كل الارض. وقد خلفت مملكة مادي وفارس مملكة بابل سياسياً وجغرافياً في علاقتها باليهود. وخلفت مملكة الإسكندر في آسيا مملكة مادي وفارس على هذا المنوال، ولذلك نستنتج أنّ المملكة الرابعة تخلف مملكة الإسكندر في ذلك أيضاً (أي سياسياً وجغرافياً وفي علاقتها باليهود). أما مملكة سوريا فاجتمع فيها كل ذلك، وكانت علاقتها بالممالك السابقة علاقة طبيعية.

(3) قيل عن المملكة الرابعة (وهي القرن الصغير) إنه يحاول أن يغيّر الأوقات والسنة، أي الأوقات والسنة اليهودية المعهودة عند دانيال. ونسبت أسفار المكابيين تغيير السنة اليهودية إلى أنطيوخس أبيفانس، وقيل عنه إنه يحارب القدّيسين ويغلبهم (أي شعب الله، لأنّ كلمة قدّيسين تُطلق في الكتاب عليهم) وأعمال أنطيوخس في محاربة اليهود ومضايقتهم مشهورة جداً.

(4) إذا كانت مملكة المسيح هي الخامسة، لا بد من وجود المملكة الرابعة قبلها. أمّا مملكة المسيح فتأسست عند صعوده إلى يمين الله ليأخذ الملك بدليل: كرازة يوحنّا المعمدان والمسيح أن زمان ملكوت السماوات أو ملكوت الله قد اقترب. ويخبرنا العهد الجديد عن اقتراب ذلك الملكوت وتأسيسه. وقبل موت المسيح بقليل تكلم عن قوة مَلكية أُعطيت له (يوحنّا 17 : 1 و2 ومتّى 28: 18) وبعد صعوده شهد كل الرسل أن المسيح صار ملكاً على ملكوته وأُعطي له السلطان رسمياً (أعمال 2: 33 و36 و10: 36 وأفسس 1: 20-22 و1بطرس 3: 22 ويوحنّا 3: 35 ومتّى 11: 27 وفيلبّي 2: 9 و10 وعبرانيين 1: 3 و12: 2 ورؤيا 3: 21 و17: 14 ولعل هذه الشواهد تكفي لتبيّن أن المسيح استلم الملك عند صعوده إلى السماء). والخبر الأخير عنه في الإنجيل هو اختفاؤه في سحاب السماء. أمّا دانيال فرأى بعيْن النبوّة ما كان بعد صعود المسيح فقال: «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى ٱللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ ٱلسَّمَاءِ مِثْلُ ٱبْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى ٱلْقَدِيمِ ٱلأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ ٱلشُّعُوبِ وَٱلأُمَمِ وَٱلأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ» (دانيال 7: 13 و14). والخلاصة أن ملكوت المسيح تأسس بمجيئه الأول إلى الأرض وتجهيزه ما يلزم لذلك، وجلوسه عن يمين الله في الأعالي. ومن ذلك الوقت أخذ السلطان ولا يزال في يده، وسيدوم متسلطاً في الكون تسلطاً مطلقاً إلى نهاية العالم. وبما أن ملكوت المسيح هو المملكة الخامسة في سلسلة الممالك المذكورة آنفاً، وتأسيسه كان عند صعوده فلا بد أن المملكة الرابعة قد سبقت مجيئه الأول. ومما يؤيد ذلك أيضاً ما قيل عن إجراء الدينونة على الحيوان الرابع، أو بالحري القرن الصغير (دانيال 7: 9-12). فإن تلك الدينونة ليست الدينونة الأخيرة العامة، بل دينونة خاصة على القرن الصغير للحيوان الرابع بسبب تجديفه، أجراها الله قبل مجيء المسيح استعداداً لقيام ملكوته. وذلك واضح من القرينة، لأنه لا توجد إشارة إلى الدينونة العامة مطلقاً، لأن تلك تحدث عند نهاية العالم، وهي تختص بأفراد البشر لا بمملكة واحدة ولا بممالك، ولا يكون بعدها زمان خلافاً لهذه التي كان بعدها زمان (دانيال 7: 12). تلك يعقبها قصاص الأشرار وإدخال الأبرار إلى الراحة السماوية، أمّا هذه فيعقبها قتل الحيوان وهلاك جسمه ودفعه لوقيد النار (دانيال 7: 11) أو كما قيل في (أية 26) نُزع عنه سلطانه. وهذا يدل على أن عاقبتها هي إبادة أمّة ودمار مملكة أرضية. والديّان في الدينونة العامة الأخيرة هو المسيح، بدليل شواهد عديدة في الكتاب. وأمّا في هذه فهو القديم الأيام (آية 9) أي الله الآب. وخلاصة ما تقدم أن المملكة الرابعة يجب أن تسبق مجيء المسيح الذي ابتدأت فيه المملكة الخامسة، وكان قد جرى قبل مجيئه دينونة مهلكة على الحيوان الرابع الأمر الذي لم يتم على مملكة روما مطلقاً.

(5) تشير النبوّتان في ص 8 و11 إلى نفس موضوع النبوة في ص 7 أي أحوال تلك الممالك العظيمة، وأعمال أنطيوخس أبيفانس الملقّب بالقرن الصغير (في ص 7 و8) وبمحتقر (في 11: 21) وهما على الأرجح تشيران إلى نفس الممالك المشار إليها بنبوة التمثال في ص 2 ونبوة الحيوانات في ص 7. وتتشابه أقوالهما عن أنطيوخس أبيفانيس المكنّى عنه بالقرن الصغير في ص 8 وما قيل عن القرن الصغير في ص 7. وهذا يثبت أن القرن الصغير في ص 7 و8 هو شخص واحد، هو أنطيوخس أبيفانيس.

وإذا ثبت أن الحيوان الرابع يشير إلى مملكة سورية اليونانية (المسماة غالباً المملكة السلوقية) ينبغي بيان المراد بالقرون العشرة للحيوان الرابع، فإنّها تشير إلى عشرة ملوك قاموا في تاريخ المملكة الرابعة كما قيل: «وَٱلْقُرُونُ ٱلْعَشَرَةُ مِنْ هٰذِهِ ٱلْمَمْلَكَةِ هِيَ عَشَرَةُ مُلُوكٍ يَقُومُونَ، وَيَقُومُ بَعْدَهُمْ آخَرُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ ٱلأَوَّلِينَ، وَيُذِلُّ ثَلاَثَةَ مُلُوكٍ» (دانيال 7: 24). والقرن الصغير طلع بين القرون العشرة. فليس هو أحدها، بل هو قرن آخر، وهو الحادي عشر (دانيال 7: 8 و20 و24). والشخص المشار إليه بالقرن الصغير في ص 7 و8 هو نفس الشخص المذكور في 11: 21-45 كما يظهر من اتفاق التعبيرات عنه، ومن مشابهة الأوصاف والأعمال المنسوبة إليه في كل تلك الأصحاحات. فبناء على هذه الملاحظات نقول إن القرون العشرة هي عشرة من ملوك المملكة الرابعة (أي مملكة سورية) ونبغوا فيها بالتتابع، والملك الصغير هو الملك الحادي عشر.

19 - قامت اعتراضات على أنّ الحيوان الرابع يشير إلى مملكة سوريا اليونانية. ما هي أشهرها، وما هو الرد عليها؟

(1) يقتبسون قول المسيح: «مَتَى نَظَرْتُمْ رِجْسَةَ ٱلْخَرَابِ ٱلَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ ٱلنَّبِيُّ قَائِمَةً فِي ٱلْمَكَانِ ٱلْمُقَدَّسِ لِيَفْهَمِ ٱلْقَارِئُ» (متّى 24: 15 ومرقس 13: 14 ولوقا 21: 20) يدل على أنّ كلام دانيال في المملكة الرابعة نبوّة عن إخراب الرومان لأورشليم. فكل ما قيل عن الحيوان الرابع والقرن الصغير هو عن مملكة روما والكنيسة البابوية.

فنجيب: صحيحٌ إن تلك العبارات في الأناجيل الثلاثة مقتبسة من دانيال لكنها غير مأخوذة من كلامه عن الحيوان الرابع، بل من كلام آخر في سفره يشير إلى الرومان وأعمالهم، حيث قيل: «وَيُثَبِّتُ عَهْداً مَعَ كَثِيرِينَ فِي أُسْبُوعٍ وَاحِدٍ، وَفِي وَسَطِ ٱلأُسْبُوعِ يُبَطِّلُ ٱلذَّبِيحَةَ وَٱلتَّقْدِمَةَ، وَعَلَى جَنَاحِ ٱلأَرْجَاسِ مُخَرَّبٌ حَتَّى يَتِمَّ وَيُصَبَّ ٱلْمَقْضِيُّ عَلَى ٱلْمُخَرِّبِ» (دانيال 9: 27). وفي هذا المكان في النسخة السبعينية (التي كانوا يقتبسون منها كثيراً في زمن المسيح) عوضاً عن العبارة الأخيرة وفي الهيكل جاءت رجسة الخراب وهي نفس العبارة الموجودة في الإنجيل (انظر دانيال 9: 27 حاشية التوراة بالشواهد). فنرى أن ذلك الاقتباس في الإنجيل في محله تماماً، لأنه مأخوذ من كلام دانيال في أعمال روما، لا في الحيوان الرابع والقرن الصغير. ولا غيره للألفاظ المتشابهة في ذلك (كما في دانيال 11: 31 و12: 11).

(2) يقولون: نحن لا نرى في الإنجيل ما يثبت هذا الرأي، بل نرى في سفر الرؤيا ألفاظاً تشبه ألفاظ دانيال في كلامه عن القرن الصغير تشير إلى المملكة الرومانية، لا سيما إلى الكنيسة البابوية.

فنجيب: لم يرد في الإنجيل ما يشير إلى أن الحيوان الرابع هو مملكة سوريا، والقرن الصغير هو أنطيوخس، لأن تلك النبوة كانت قد تمّت ومضت، ولا حاجة إلى ذكرها بعد ولا إلى الإشارة إليها في الإنجيل، خلافاً للمملكة الخامسة التي تمّت النبوات عنها في عصر المسيح. فإن الإنجيل مليء بالإشارات إليها كما رأينا. أمّا ما بين ألفاظ سفر الرؤيا وألفاظ دانيال من المشابهة فنشأ عمّا بين مواضيع نبواتهما من المشابهة، لا عن أن النبوتين تشيران إلى شيء واحد. فإن دانيال تنبأ عن عدوّ للكنيسة اليهودية، وتمّت نبوته في أوانها، أي قبل زوال الكنيسة اليهودية. أمّا يوحنّا فتنبأ في الرؤيا عن عدوّ للكنيسة، ويحتمل أنه استعمل عبارات تشبه عبارات دانيال لما بين صفات العدوّيْن وأعمالهما وطرق مقاومتهما للديانة الحقيقية من المشابهة. والأرجح أنه استعار ألفاظ دانيال نفسها للتعبير عن موضوعه. وهكذا نقول أيضاً في ما بين أقوال بولس في ذكر إنسان الخطية (2تسالونيكي 2: 3-10) وصفات القرن الصغير في دانيال من المشابهة، فإنها لم تنشأ عن أن أقوالهما تشير بالضرورة إلى شخص واحد، بل عن مشابهة صفات عدوّ الكنيسة اليهودية أنطيوخس لعدوّ للكنيسة إنسان الخطية وضد المسيح. والقرن الصغير في العهد القديم، وإن اختص بالكنيسة اليهودية قبل مجيء المسيح، كان في صفاته وأعماله ذا صفة رمزية تشير إلى ضد المسيح وإنسان الخطية في زمان العهد الجديد، ولذلك نعتبره رمزاً لضد المسيح في أزمنة الإنجيل.

(3) يقولون إن وصف قوة الحيوان الرابع وعظمته وتسلطه على الآخرين لا يصح إلا على مملكة روما التي كانت قوية وممتدة وشديدة البأس.

فنجيب: نبوة دانيال موجهة إلى الأمة اليهودية وما جاء بها خاص بتاريخ اليهود في المستقبل القريب، أي في مدة نحو 500 سنة منذ نطق بها إلى أن أتى المسيح وأسس ملكوته. وكان المقصود منها تنشيط شعب الله في وسط الممالك الوثنية القوية، وإيضاح سلسلة تلك الممالك لهم، وعلاقتهم بهم كأمة. ولذلك وُصف الحيوان الرابع بأنه هائل وقوي، والقرن الصغير بأنه عامل أعمالاً عظيمة لليهود لا للعالم أجمع. وبهذا الاعتبار يصح وصف الحيوان الرابع على مملكة سوريا ويوصف القرن الصغير على أنطيوخس أبيفانيس، لأنهما ألد عداءً لليهود وأشدّهم ضرراً. أمّا القول إن مملكة سوريا اليونانية (اي الدولة السلوقية) كانت صغيرة وقليلة الاعتبار فغير صحيح، لأنها كانت متسعة وقوية وقاسية وظالمة، حاربت حروباً وسفكت دماءً.

20 - ما هي براهين أصحاب رأي أنّ الحيوان الرابع هو مملكة روما الوثنية، وما هي الردود على ذلك؟

(1) يقولون إن المملكة الرومانية كانت مملكة عظيمة وواسعة، تدخّلت في أمور اليهود لأنها كانت آلة في يد الله لإبادة اليهود، ولذلك يصح أن نحسبها الحيوان الرابع.

فنجيب ليس في سفر دانيال دليل على أنه يتنبأ عن الممالك السياسية القائمة في عصر الإنجيل. وإذا اعتبرنا الحيوان الرابع أنه مملكة روما نؤخر النبوة إلى ما بعد تأسيس ملكوت المسيح بمئات السنين، ويصعب علينا تفسير العشرة القرون والقرن الصغير، إذ لا يوجد عشرة ملوك يمكن أن نحسبهم القرون العشرة، ولا ملك آخر يصح عليه ما قيل عن القرن الصغير. ولذلك التزم أصحاب الرأي الروماني أن يغضّوا النظر عن التفسير الإلهي الذي بموجبه تعتبر القرون العشرة رمزاً لعشرة ملوك، وكذلك القرن الصغير رمزاً لملك آخر، وجعلوا الإشارة إلى عشر ممالك لا إلى عشرة ملوك. والقرن الحادي عشر حوّلوه إلى سلسلة رؤساء كنيسة، وذلك بالرغم من وضوح قول الله أنهم ملوك لا ممالك. قال دانيال: «وَٱلْقُرُونُ ٱلْعَشَرَةُ مِنْ هٰذِهِ ٱلْمَمْلَكَةِ هِيَ عَشَرَةُ مُلُوكٍ يَقُومُونَ، وَيَقُومُ بَعْدَهُمْ آخَرُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ ٱلأَوَّلِينَ، وَيُذِلُّ ثَلاَثَةَ مُلُوكٍ» (دانيال 7: 24) وكذلك اعتبار مملكة روما الحيوان الرابع يؤخر المملكة الخامسة عن وقتها حتى يلزم عن ذلك أنها لم تؤسس بعد، لأنها تقوم بعد انقراض الرابعة (دانيال 7: 21-28) وبما أن الكنيسة البابوية لا تزال قائمة، يلزم عن رأيهم أن مملكة المسيح لم تقم بعد (انظر دانيال 7: 11 و12 و26 و27).

(2) يقولون إن وصف القرن الصغير يصح على الكنيسة البابوية تماماً، ولذلك لا بدّ من الإشارة إليها.

فنجيب: يرمز القرن الصغير إلى قوة تقاوم الكنيسة في عصر الإنجيل. ولا صحة للظن أن القرن الصغير يشير إلى الكنيسة البابوية، لأنه برز في تاريخ اليهود من تمّ فيه كل ذلك الوصف، فلا لزوم أن ننتظر بعد مجيء المسيح من يتمّ فيه ذلك. وقد كان للكنيسة اليهودية مضطهد ومقاوم كما للكنيسة. والنبوات عن الأول في دانيال وعن الثاني في الرؤيا، ولا لزوم أن نوجه نبوات دانيال إلى الكنيسة البابوية، فإن القرن الصغير ملك كسائر القرون العشرة وقد طلع وراءها.

(3) يقولون إن تأسيس ملكوت المسيح وإعطاءه لقديسي العلي يجب أن يشير إلى الألف السنة، لأننا لا ننتظر إتمام هذا إلا بعد انقراض كنيسة روما.

فنجيب: يعلّمنا الكتاب المقدس أن ملكوت المسيح تأسس عند صعوده، وأخذ يمتدّ منذ ذلك الوقت، ولا يزال يمتد إلى الآن. وعلى ذلك لا تعتبر الألف السنة زمان تأسيس الملكوت، بل وقت امتداده وغلبته العامة. وقبل ذلك الوقت ننتظر حسب نبوات سفر الرؤيا سقوط ضد المسيح.

(4) يقولون إن تأسيس ملكوت المسيح يكون في أيام الملوك المشار إليهم في (دانيال 2: 44) بقوله: «وَفِي أَيَّامِ هٰؤُلاَءِ ٱلْمُلُوكِ» وإن هٰؤُلاَء ٱلْمُلُوك تشير إلى الممالك العشر المشار إليها بالقرون العشرة في (ص 7).

فنجيب: الإشارة في قوله: «هٰؤُلاَءِ ٱلْمُلُوكِ» هي إلى الملوك الأربعة المشار إليهم في دانيال 2 وهم ملك بابل وملك مادي وفارس وملك اليونان وملك سوريا. فإن الله بدأ في زمن هؤلاء الملوك بالاستعداد لإقامة ملكوته. ويتضح من دانيال 7 أن ملكوت المسيح يقوم بعد إبادة الحيوان الرابع أو بالحري بعد إجراء الدينونة على القرن الصغير. فالمقصود بإقامة ملكوت المسيح في أيام هؤلاء الملوك هو إتمام الاستعداد وتجهيز العالم لمجيء المسيح.

21 - لماذا نرفض الرأي الروماني في تفسير كلام دانيال عن الحيوان الرابع وعن القرن الصغير؟

(1) وصف الحيوان الرابع لا يصدق على المملكة الرومانية، لا باعتبار زمانها ولا مكانها ولا علاقتها بالثلاث الأخرى، لأنها لم تعقب الثالثة منها، ولا سبقت الخامسة لأنها خربت قبل تأسيسها. ولا تألفّت من الشعوب التي تألفت منها تلك الثلاث، ولا اضطهدت اليهود إلا بعد مجيء المسيح وتأسيس ملكوته. والكنيسة البابوية لم تضطهد الكنيسة.

(2) وصف الحيوان الرابع أو المملكة المشار إليها به أنها مؤلفة من قطع متنوعة، بعضها من حديد وبعضها من خزف، وبعضها قوي وبعضها قصِم، وأنها منقسمة، لا يصح على المملكة الرومانية التي كانت قوية ثابتة ممتدة ولم تكن مقسومة قبل مجيء المسيح. وقيل أيضاً عن الحيوان الرابع إنه كان مخالفاً لكل الحيوانات التي قبله وهذا يصح على مملكة سوريا تماماً، ولا يمكن تطبيقه على مملكة روما.

(3) القول إن القرن الصغير يغيّر الأوقات والسنة يفيد أن المحاربة بينه بين قدّيسي العلي جرت فيما كان اليهود شعب الله، وقبل زوال النظام الموسوي.

(4) طلع القرن الصغير بين قرون الحيوان الرابع. وعلى ما نستنتج كان ملكاً سياسياً مثل الملوك العشرة، لأنه لا دليل مطلقاً على أنه رئيس روحي كنائسي لطائفة دينية.

(5) ضُرب الحيوان الرابع بسبب خطايا القرن الصغير. قال دانيال: «كُنْتُ أَنْظُرُ حِينَئِذٍ مِنْ أَجْلِ صَوْتِ ٱلْكَلِمَاتِ ٱلْعَظِيمَةِ ٱلَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا ٱلْقَرْنُ. كُنْتُ أَرَى إِلَى أَنْ قُتِلَ ٱلْحَيَوَانُ وَهَلَكَ جِسْمُهُ وَدُفِعَ لِوَقِيدِ ٱلنَّارِ» (دانيال 7: 11). وحسب الرأي الروماني يلزم أن مملكة روما الوثنية هلكت بسبب خطايا الكنيسة البابوية.

(6) المملكة الخامسة أو مملكة المسيح هي الحلقة الأخيرة في سلسلة نبوات دانيال عن الممالك الخمس، فإن حسبنا المملكة الرابعة مملكة روما جعلنا قيامها وسقوطها قبل تأسيس ملكوت المسيح لا بعده، وذلك يخالف الواقع.

(7) نبوات دانيال الأربع في ص 2 و7 و8 و11 هي على الأرجح مرادفة بعضها لبعض، أي تشير إلى مواضيع واحدة، بدليل ما في كلامها عن كل جزء بمفرده من المشابهة الكلية. أمّا الرأي الروماني فيحوّل ما قيل في ص 7 عن الحيوان الرابع والقرن الصغير إلى موضوع آخر، أي الكنيسة البابوية، مع أنه مكرر في المعنى في ما قيل عن القرن الصغير في ص 8 المسلّم حتى عند أصحاب الرأي الروماني أنه يشير إلى أنطيوخس أبيفانيس.

(8) التفسير الإلهي للقرون العشرة هي أنها عشرة ملوك، والقرن الصغير أنه ملك آخر طلع بينهم. وحسب الرأي الروماني القرون العشرة هي ممالك، والقرن الصغير كنيسة، وهذا تناقض!

(9) يستلزم تفسير النبوات حسب الرأي الروماني أن نسلّم بمبدأ غير مثبت من الكتاب المقدس، وهو أن يوم في النبوات يشير إلى سنة، وعليه فالعبارة زمن وزمنين ونصف زمان تشير إلى 1260 سنة، وذلك مستحيل كما سنرى في إجابة السؤال التالي.

22 - كيف نبرهن خطأ رأي من يقولون إنّ اليوم مستعار (في بعض النبوات) لسنة؟

(1) حقيقة هذا الرأي:

تسلّط هذا الرأي على عقول البعض، واتخذوه مبدأً لتفسير المُدد المذكورة في سفريْ دانيال والرؤيا، فاعتبروا ال 1260 يوماً بمعنى 1260 سنة. غير أن هذا المبدأ ليس من الأمور المبرهنة، لا من نصوص الكتاب المقدس، ولا من إتمام النبوات التي تمّت. ولأنه شائع عند البعض يجب النظر فيه بالتدقيق.

سُمّي هذا الرأي رأي اليوم السنوي وبموجبه يجب ضرب الأزمنة أو السنين والشهور في بعض النبوات في عدد أيامها، ويكون الحاصل هو عدد السنين الحقيقي. وهذا خطأ كما سيأتي.

(2) الأدلة على بطلانه:

  1. لأنه يخالف العقل، فقد أعطى الله النبوات للبشر في لغتهم، ولولا ذلك لما أمكنهم أن يستفيدوا منها بدون إعلان خاص لتفسير اللغة النبوية. ولا نستثني ما في النبوات من التشبيه والمجاز والكناية من هذا الحكم، لأن الألفاظ المستعملة لذلك مستعملة بمعناها المتعارف، فكلمة أسد مستعملة بمعنى أسد وخروف بمعنى خروف ولفظة أسد مثلاً مستعملة للدلالة على ما في المستعار له من صفات الحيوان الموضوعة له، وهذا لا يختص بالنبوات بل عامٌّ في الكلام. وفي اللغة العبرانية كلمة يوم وكلمة سنة. فلو أراد الله سنة لاستعمل الكلمة الموضوعة لذلك دون كلمة يوم.

  2. ليس في النبوات ما يسند هذا الرأي. فقال أهله إن الله قصد بذلك أن يجعل كلامه عن الوقت غير مفهوم إلى أن يتم، أي أن يغلق على هذا الجزء من الحق ويخفي مفتاحه. ورداً على ذلك نقول: (1) لا دليل على أن الله قصد أن يخفي ما يظهر أنه قصد أن يعلنه. فلو قصد هذا الأمر لاكتفى بعدم ذكر الوقت كما فعل كثيراً. فما الغاية من إعلانه الزمان على صورة اللغز أو المعمّى؟ (2) لو جعل الله اليوم كناية عن سنة لكشفت لنا حوادث قليلة محققة مفتاح السر، وبطل قصد الله في إخفاء الوقت، لأننا بعد أن نجد المفتاح يسهل جداً استعماله، وجدول الضرب بسيط وسهل الاستعمال.

  3. لا يمكن إثباته من إتمام نبوة ما، قال البعض إن ذلك سيتبيّن من حوادث لم تحدث بعد. فنجيب: الأمر بالعكس، فالنبوات التي تمّت تبرهن أن المراد باليوم في النبوات معناه يوم.

  4. تُناقض جميع النبوات التي تمّت هذا الرأي، فكل ما ذكر في الكتاب من إتمام نبواته يبين أن الألفاظ الدالة على الوقت في النبوات مستعملة بمعناها الحقيقي المشهور لا على سبيل اللغز. ومن ذلك إنباء الله بواسطة نوح أن الطوفان يكون بعد 120 سنة (تكوين 6: 3) وتلك المدة كانت 120 سنة حقيقية لا 43200 سنة. وقوله لنوح: «لأَنِّي بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ أَيْضاً أُمْطِرُ عَلَى ٱلأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْماً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (تكوين 7: 4). فلو بقي نوح محبوساً في الفلك سبع سنين قبل مجيء الطوفان لكانت تلك بليّة شديدة عليه. وقول الله لإبراهيم: «نَسْلَكَ سَيَكُونُ غَرِيباً فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ لَهُمْ، وَيُسْتَعْبَدُونَ لَهُمْ فَيُذِلُّونَهُمْ أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ» (تكوين 15: 13). فهل يصدّق أحد أن تلك المدة كانت 400×360 أي 144 ألف سنة. وقوله: «وَبَنُوكُمْ يَكُونُونَ رُعَاةً فِي ٱلْقَفْرِ أَرْبَعِينَ سَنَةً» (عدد 14: 33). فهل تاهوا في البرية أربعين سنة أو 14400 سنة؟ قال إشعياء: «وَفِي مُدَّةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً يَنْكَسِرُ أَفْرَايِمُ حَتَّى لاَ يَكُونَ شَعْباً» (إشعياء 7: 8) ونرى من التاريخ أن تلك المدة كانت 65 سنة حقيقة لا 23400 سنة، عند نهايتها خربت مملكة إسرائيل على يد شلمناصر سنة 722 ق.م، وأنّ النبي حسب نهايتها عندما أرسل آسرحدون إلى البلاد قوماً ليسكنوها. وقال أيضاً: «فِي ثَلاَثِ سِنِينَ كَسِنِي ٱلأَجِيرِ يُهَانُ مَجْدُ مُوآبَ» (إشعياء 16: 14) ولكن ليس من يحسب هذه المدة 180 سنة. وإذا كانت هذه المدة ثلاث سنوات فقط، لماذا لا تكون الثلاث سنوات ونصف في دانيال 7: 25 و12: 7). وأيضاً «عِنْدَ تَمَامِ سَبْعِينَ سَنَةً لِبَابِلَ أَتَعَهَّدُكُمْ وَأُقِيمُ لَكُمْ كَلاَمِي ٱلصَّالِحَ بِرَدِّكُمْ إِلَى هٰذَا ٱلْمَوْضِعِ» (إرميا 29: 10). وفهم دانيال أن المراد بالسنة هنا معناها الحقيقي المشهور، فلو اعتقد برأي اليوم السنوي لحسب أن الرجوع يكون 25200 سنة بعد السبي، وقطع الأمل من بقائه على قيد الحياة إلى ذلك الوقت. ومن هذا القبيل نبوة حزقيال عن سبيٍ وقتيٍّ إلى مصر، وهو 40 سنة لا 14400 سنة. ونبوة دانيال عن جنون نبوخذ نصر سبعة أزمنة (دانيال 4: 16 و23 و25 و32).

    قال أصحاب هذا الرأي إن الزمان والزمانين والنصف الزمان في دانيال 7: 25 و12: 7 أي ثلاث سنوات ونصف هي بالحقيقة 1260 سنة. فما قولهم في هذه السبعة الأزمنة التي على رأيهم يجب أن تكون 2520 سنة؟ فكما أن السبعة الأزمنة التي هي مدة جنون نبوخذ نصر هي سبع سنين اعتيادية، كذلك الثلاثة الأزمنة والنصف التي هي مدة تغيير أنطيوخس الطقوس الموسوية والذبائح التي عبّر عنها الأوقات والسُنّة (دانيال 7: 25).

  5. يقول أصحاب هذا الرأي إنه يصدق على أزمنة ضيق صهيون واضطهادها، لا على عصر نجاحها وسعادتها، فاعتبروه في النبوات عن تسلط ضد المسيح دون النبوات عن مُلك المسيح الحقيقي. وهو باطل لأن هذا التمييز يجعلنا نحسب اليوم في بعض النبوات يوماً والسنة سنة، وفي غيرها اليوم سنة والسنة 360 سنة. والحساب الأخير للضيق والعار، والأول للنجاح والمجد! وذلك لما يأتي: (1) لأنه يلزم عنه أن الله قصد أن يكتم عن شعبه مدة ضيقهم الحقيقية بواسطة التلاعب في الكلام، أو بالحري أعلن لهم جزءاً من 360 من الوقت الحقيقي، وهو مما لا يقبله العقل. (2) لأن مُلك ضد المسيح بموجبه يكون أطول من ملك المسيح، فمدة ملك عدو ّالمسيح 1260 سنة ومدة ملك المسيح ألف سنة فقط، فيزيد زمن الاضطهاد والضيق والمصائب على زمن السلام والحق والبر والخلاص، وهذا لا يصدق! إن رحمة الله لهذا العالم لا تسمح بذلك، وكلام النبوات ينقاضه. قال الرب: «لُحَيْظَةً تَرَكْتُكِ، وَبِمَرَاحِمَ عَظِيمَةٍ سَأَجْمَعُكِ. بِفَيَضَانِ ٱلْغَضَبِ حَجَبْتُ وَجْهِي عَنْكِ لَحْظَةً، وَبِإِحْسَانٍ أَبَدِيٍّ أَرْحَمُكِ، قَالَ وَلِيُّكِ ٱلرَّبُّ» (إشعياء 54: 7و8). فهل نسبة اللحظة إلى الأبد كنسبة 1260 إلى ألف؟

(3) أدلّة أصحاب هذا الرأي على ما يأتي:

  1. قول الله لبني إسرائيل: «بَنُوكُمْ يَكُونُونَ رُعَاةً فِي ٱلْقَفْر َأرْبَعِينَ سَنَةً... كَعَدَدِ ٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي تَجَسَّسْتُمْ فِيهَا ٱلأَرْضَ، أَرْبَعِينَ يَوْماً، لِلسَّنَةِ يَوْمٌ. تَحْمِلُونَ ذُنُوبَكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً» (عدد 14: 33و34). فنجيب: إنه لم يستعمل اليوم هنا بمعنى سنة بل بمعناه الحقيقي. فلو قال إنهم يتيهون 40 يوماً ورأينا من التاريخ أنهم تاهوا 49 سنة لأمكنهم إثبات رأيهم من ذلك. ولكن القول هو أن سني تيهانهم تكون بقدر أيام تجسّسهم في الأرض، لقصاصهم مذكّراً لهم على الدوام بخطيتهم. نعم في هذه الآية نبوة حقيقية، وهي قوله يَكُونُونَ رُعَاةً فِي ٱلْقَفْرِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وأيضاً تَحْمِلُونَ فُجُورَكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً وبموجب رأيهم كان ينبغي أن مدة تيهانهم تكون 14400 أي 40×360 وذلك خلاف الواقع.

  2. قول الله لحزقيال: «ٱتَّكِئْ أَنْتَ عَلَى جَنْبِكَ ٱلْيَسَارِ وَضَعْ عَلَيْهِ إِثْمَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ. عَلَى عَدَدِ ٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي فِيهَا تَتَّكِئُ عَلَيْهِ تَحْمِلُ إِثْمَهُمْ. وَأَنَا قَدْ جَعَلْتُ لَكَ سِنِي إِثْمِهِمْ حَسَبَ عَدَدِ ٱلأَيَّامِ، ثَلاَثَ مِئَةِ يَوْمٍ وَتِسْعِينَ يَوْماً، فَتَحْمِلُ إِثْمَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ. فَإِذَا أَتْمَمْتَهَا فَٱتَّكِئْ عَلَى جَنْبِكَ ٱلْيَمِينِ أَيْضاً، فَتَحْمِلَ إِثْمَ بَيْتِ يَهُوذَا أَرْبَعِينَ يَوْماً. فَقَدْ جَعَلْتُ لَكَ كُلَّ يَوْمٍ عِوَضاً عَنْ سَنَةٍ» (حزقيال 4: 4-6). ولكن كلمة يوم في هذا القول مستعملة بمعناها الحقيقي لا بمعنى سنة، وكلمة سنة مستعملة بمعنى سنة لا بمعنى 360 سنة. صحيح أنّ اتّكاءه على الجنب الواحد 40 يوماً عبّر عن حمله خطاياهم 40 سنة ولكن اليوم في ذلك ليس سنة بل يشير إلى سنة. فلو قال الله أربعين يوماً وقصد أربعين سنة لكان ذلك برهاناً على صدق الرأي.

  3. قول بطرس: «إِنَّ يَوْماً وَاحِداً عِنْدَ ٱلرَّبِّ كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَأَلْفَ سَنَةٍ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ» (2بطرس 3: 8). فإذا كان في هذه الآية دليل فلسوء الحظ هو أكثر من المطلوب، وعليه فالألف السنة التي تنبّأ عنها يوحنّا في سفر الرؤيا ليست إلا يوماً واحداً فقط. فلا نعلم كيف نتصرّف في هذا الأمر. هل نضرب الوقت الظاهر في ألف أو نقسمه على ألف لنحصل على الوقت الحقيقي! لأنّه من يعلم المقصود بنبوّة ما، هل هو أن اليوم بمعنى ألف سنة، أو أن الألف السنة بمعنى يوم واحد. ولكن الحمد لله أنّ «الكاف» في هذه الآية تخلّصنا من هذه الصعوبة، لأنها ترينا أن ليس فيها أي دليل على أنّ الله يقول (يوماً) ويريد به (سنةً).

  4. قوله: «سَبْعُونَ أُسْبُوعاً قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَتِكَ...» (دانيال 9: 24-27). وهو أقوى ما يوردونه لإثبات هذا الرأي. فنجيب: إنّ الكلمة الأصلية المترجمة أسبوعاً في صيغة المفرد، معناها سبعة، ويصح أن تكون 7 أيام أو 7 سنين. فالجمع المؤنث يُستعمل لسبعات أيام، والجمع المذكر المستعمل هنا لا يدل مطلقاً وحده على أسبوع أيام، بل إذا قُصد به ذلك زيدت بعده كلمة أيام كما في (دانيال 10: 2 و3). ولا بد بعد ذكر كلمة سبعة أن نسأل عن المعدود ما هو؟ فيجب أن ننظر إلى القرينة أو إلى ما كان في بال الكاتب. ففي هذه المسألة هو 70 سنة السبي، وعليه يكون المعنى سبعون سبعة سنين، وذلك ليس من قبيل استعمال يوم بمعنى سنة.

قال جبرائيل الملاك لدانيال: «مِنْ خُرُوجِ ٱلأَمْرِ لِتَجْدِيدِ أُورُشَلِيمَ وَبِنَائِهَا إِلَى ٱلْمَسِيحِ ٱلرَّئِيسِ سَبْعَةُ أَسَابِيعَ وَٱثْنَانِ وَسِتُّونَ أُسْبُوعاً» (دانيال 9: 25). فمن إصدار ذلك الأمر إلى مجيء المسيح 69 أسبوعاً. ثم يتلو ذلك الأسبوع الأخير تمام السبعين الذي فيه يثبت العهد مع كثيرين (آية 27) وفي وسطه يبطل الذبيحة والتقدمة (بتقديم نفسها الذبيحة الكاملة النهائية) وإذا ضربنا ال 69 أسبوعاً من السنين في سبعة يحصل 483 سنة، وإذا أضفنا إلى ذلك سبعة أي الأسبوع الأخير كان المجموع 490 سنة.

ولأجل البحث عن المراد هنا بالأمر الذي منه تبدأ ال 69 أسبوعاً، أو 483 سنة، نقول ذكر الكتاب المقدس الأوامر الآتية:

  1. أمر كورش عزرا 1: 1-4 536 ق.م.

  2. أمر داريوس عزرا 6: 8 519 ق.م.

  3. أمر أرتحششتا لعزرا (في السنة السابعة من مُلكه) عزرا 7: 7 و11-26 457 ق.م.

  4. أمر أرتحششتا لنحميا (في السنة العشرين من مُلكه) نحميا ص 2 444 ق.م.

والمرجّح أن الأمر الثالث من هذه الأربعة هو المشار إليه في دانيال 9: 25. وإذا أضفنا 457 إلى 26 وهي المدة من التاريخ المسيحي (الذي يبدأ بعد ميلاد المسيح بأربع سنوات) إلى السنة التي فيها بدأ المسيح خدمته الجهارية وهو ابن 30 سنة، فكان المجموع 483 وهو عدد السنين المشار إليها بال 69 أسبوعاً. وفي وسط الأسبوع الأخير أي بعد شروع المسيح في خدمته الجهارية بنحو ثلاث سنوات، صُلب وأبطل كل ذبيحة وتقدمة.

23 - نرجو المزيد من الإيضاح عن مدّة من الزمان في دانيال 7: 25 و12: 7.

الإشارة في الشاهدين هي لمدة واحدة عُبّر عنها في أولهما بزمانٍ وأزمنة ونصف زمان، وفي الثاني بزمان وزمانين ونصف وهو الصواب. وسبب الفرق بينهما أن دانيال 7 مكتوب باللغة الكلدانية التي ليس فيها صيغة المثنّى كالعبرانية، ولذلك قيل أزمنة عوضاً عن زمانين. ودانيال 12 مكتوب باللغة العبرانية، فاستعمل فيه المثنى فقيل زمان وزمانين ونصف وفي دانيال 12: 11 مدة أخرى قدرها 1290 يوماً. وفي عدد 12 من الأصحاح 12 مدة أخرى قدرها 1335 يوماً. وفي دانيال 8: 14 مدة قدرها 2300 صباح ومساء. وفي دانيال 9: 24 مدة معبّر عنها بسبعين أسبوعاً. وفي كل تلك المُدد المقصود على الأرجح ذكر الزمان بمعناه الحقيقي البسيط، أي ليس مجازياً.

والمدة الأولى (المذكورة في دانيال 7: 25 و12: 7) هي ثلاثة أزمنة ونصف زمان. واللفظة المترجمة هنا بزمان تشير إلى مدة معلومة، أو إلى حصة معيّنة من الزمان. وبما أن السنة هي المدة التي يصح بالأكثر ذكرها على هذه الصورة، أجمع رأي أغلبية المفسرين على أن العبارة زمان وزمانين ونصف تشير إلى ثلاث سنوات ونصف سنة. ومما يؤيد ذلك قرينة الكلام التي جاء فيها ذكر مدة قدرها 1290 يوماً، أي ثلاث سنوات ونصف سنة (انظر دانيال 12: 11). وهي تشير إلى زمان تسلط أنطيوخس أبيفانس على الهيكل اليهودي وتعطيله الذبيحة اليومية، الذي بلغ كما نتعلم من التاريخ ثلاث سنوات ونصف سنة (1مكابيين 1). فإن هذه المدة ذُكرت بالضبط، لأن بين إزالة المحرقة الدائمة على يد أنطيوخس وتطهير الهيكل على يد المكابيين مدة تزيد عن ثلاث سنوات ونصف مقدار ثلاثين يوماً، فيكون زمان وزمانين ونصف زمان عبارة تقريبية لذلك، و1290 يوماً هي عدد أيام تلك المدة تماماً.

والمدة المذكورة في دانيال 12: 12 وقدرها 1335 يوماً، أي أكثر من المدة المذكورة في دانيال 12: 11 بخمسة وأربعين يوماً تشير إلى وقت موت أنطيوخس أبيفانيس الذي حدث بعد تطهير الهيكل على يد المكابيين بنحو شهر ونصف.

والمدة المذكورة في دانيال 8: 14 هي كما يظهر من القرينة مدة اضطهاد أنطيوخس أبيفانيس لليهود من وقت قتل أونياس رئيس الكهنة سنة 171 ق م إلى وقت تطهير الهيكل في شهر ديسمبر (كانون الثاني) سنة 165 ق م.

وما قلناه في هذا الموضوع يطابق التفسير الأصح لسفر دانيال الذي بموجبه يشير الحيوان الرابع إلى مملكة سوريا اليونانية، والقرن الصغير إلى أنطيوخس أبيفانيس الذي اضطهد اليهود اضطهاداً عنيفاً جداً وشرع في إبطال ديانتهم وإلغاء سنتهم، وعظّم نفسه ضد العلي.

بقي علينا الآن أن ننظر في المدة المذكورة في دانيال 9: 24 وهي 70 أسبوعاً فنقول: المراد بالأسابيع سنين لا أسابيع أيام، لأن عقل دانيال كان مشغولاً وقتها بمدة السبي التي هي سبعون سنة، فاستجاب الله لطلبته لأجل رجوع اليهود، وكشف له أمراً أعظم من ذلك وهو مقدار المدة قبل مجيء المسيح، وقال: «سَبْعُونَ أُسْبُوعاً قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ» (دانيال 9: 24). فلو أراد أسابيع أيام لصرّح بذلك كما في ص 10: 2 و3 حيث قال في هذين العددين ثلاثة أسابيع أيام تمييزاً عن السبعين أسبوعاً من السنين المذكورة قبل ذلك بخمسة آيات. فتبيّن أن المُدَد المذكورة في سفر دانيال جميعها تتفسّر بمعنًى حقيقيٍّ، ولا لزوم لاعتبارها خلاف ذلك.

24 - ما هو المقصود من قول المسيح في متّى 24: 14 ثم يأتي المنتهى؟

قال المسيح: «وَيُكْرَزُ بِبِشَارَةِ ٱلْمَلَكُوتِ هٰذِهِ فِي كُلِّ ٱلْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي ٱلْمُنْتَهَى» (متّى 24: 14). فقال أصحاب رأي مجيء المسيح قبل الألف السنة إنّ القصد ببشارة الإنجيل مجرّد الشهادة للحق أمام كل الأمم. والآن إذ قد بُشّر بالإنجيل في أماكن كثيرة في العالم اقترب مجيء المنتهى (وهو على زعمهم مجيء المسيح بالجسد ليملك على الأرض).

وعلى ذلك نجيب: (أ) التفسير الصحيح لهذا القول هو أنّ «منتهى» هنا تشير إلى نهاية النظام اليهودي، أي إخراب الرومان أورشليم والهيكل، لا إلى نهاية العالم، وذلك واضح من قول المسيح (بعد كلامه السابق): «لاَ يَمْضِي هٰذَا ٱلْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هٰذَا كُلُّهُ» (متّى 24: 34). والمراد بكلمة جيل في هذا العدد أهل زمانه، وقد جاءت بهذا المعنى في العهد الجديد 32 مرة. أمّا سابقو الألف السنة فوسّعوا معناها، وقالوا إنّ المراد بها الأمّة اليهودية، وإنّ معنى العبارة هو أنّ الأمّة اليهودية لا تزول من الأرض حتى يتمّ كل ما قيل في هذا الأصحاح، وهو غير صحيح. (ب) تشير كلمتا يكرز وشهادة إلى أكثر من مجرد ذكر اسم المسيح قدام البشر، فإنهما تشيران إلى التبشير بالإنجيل وتعليمه للناس وتفهيمهم إياه وحملهم على قبوله، لأنّ الكرازة والشهادة مستعملتان في الكتاب لإيضاح الحقائق الدينية التي تبيّن لنا محبة الله وكيفيّة الخلاص بالمسيح، كما يتّضح من قوله لتلاميذه حين أرسلهم ليكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها: «تَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ» (أعمال الرسل 1: 8). وقوله أمام بيلاطس: «لِهٰذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهٰذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ» (يوحنّا 18: 37).

25 - ما معنى قول الرسول بطرس في أعمال الرسل 3: 21 أزمنة ردّ كل شيء؟

قال الرسول بطرس: «تُوبُوا وَٱرْجِعُوا لِتُمْحَى خَطَايَاكُمْ، لِكَيْ تَأْتِيَ أَوْقَاتُ ٱلْفَرَجِ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ. وَيُرْسِلَ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلْمُبَشَّرَ بِهِ لَكُمْ قَبْلُ. ٱلَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ ٱلسَّمَاءَ تَقْبَلُهُ، إِلَى أَزْمِنَةِ رَدِّ كُلِّ شَيْءٍ، ٱلَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا ٱللّٰهُ بِفَمِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ ٱلْقِدِّيسِينَ مُنْذُ ٱلدَّهْرِ» (أعمال الرسل 3: 19-21). فقال أصحاب مذهب سابقي الألف السنة إنّ قوله: «أزمنة رد كل شيء» يشير إلى وقت مجيء المسيح بالجسد ليملك على الأرض. وهو غير صحيح بدليل أن ردّ تشير إلى إرجاع الأشياء إلى ما كانت عليه. وهذا يشير إمّا إلى أحوال مملكة داود المجيدة، وهي التي ترمز إلى ملكوت المسيح، أو إلى أحوال جنّة عدن الطاهرة المقدسة، والثاني هو الأرجح. لقد تكلم الله بفم جميع أنبيائه القدّيسين منذ الدهر عن ردّ كل شيء وهو موضوع أعظم نبوات العهد القديم، أي انتصار الإنجيل وفعله العظيم في رد العالم إلى حالة السلام والراحة والقداسة. ولكن هل تقبل السماء يسوع إلى أن تبدأ أزمنة ردّ كل شيء، أو بالحري إلى أن تنتهي؟ أو هل يأتي المسيح قبل إتمام هذه النبوات أو بعد إتمامها؟ فسابقو الألف السنة اعتقدوا بالأول، وقالوا لا يُرَدّ شيء مطلقاً إلى أن يأتي المسيح ويشرع في ذلك بنفسه. غير أن نبوات العهد القديم تبشّرنا بإقامة ملكوت المسيح وتقدّم الإنجيل ونجاحه وامتداده وإنارة البشر بواسطته وإرجاعهم إلى الله ومُلك المسيحية على قلوب البشر، وما ينشأ لهم عن ذلك من الفرح والسلام والراحة. وعليه فقد بدأ تحقيق الأمور التي تكلم عنها الأنبياء، وأشار إليها بطرس بقوله: «ردّ كل شيء» منذ صعود المسيح، ولا تزال تتقدّم في ذلك وستستمر تتقدم إلى أن تبلغ الإتمام الكامل. وسيبقى المسيح في السماء إلى أن تتم أزمنة ردّ كل شيء، وحينئذ يأتي المسيح. ولا يوجد برهان على أنه يأتي ليتمّم ذلك الرد.

26 - اشرح معنى قول الرسول بولس في 2تسالونيكي 2: 1-8.

قال الرسول بولس: «ثُمَّ نَسْأَلُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَٱجْتِمَاعِنَا إِلَيْهِ، أَنْ لاَ تَتَزَعْزَعُوا سَرِيعاً عَنْ ذِهْنِكُمْ، وَلاَ تَرْتَاعُوا، لاَ بِرُوحٍ وَلاَ بِكَلِمَةٍ وَلاَ بِرِسَالَةٍ كَأَنَّهَا مِنَّا: أَيْ أَنَّ يَوْمَ ٱلْمَسِيحِ قَدْ حَضَرَ. لاَ يَخْدَعَنَّكُمْ أَحَدٌ عَلَى طَرِيقَةٍ مَا، لأَنَّهُ لاَ يَأْتِي إِنْ لَمْ يَأْتِ ٱلٱرْتِدَادُ أَوَّلاً، وَيُسْتَعْلَنَ إِنْسَانُ ٱلْخَطِيَّةِ، ٱبْنُ ٱلْهَلاَكِ، ٱلْمُقَاوِمُ وَٱلْمُرْتَفِعُ عَلَى كُلِّ مَا يُدْعَى إِلٰهاً أَوْ مَعْبُوداً، حَتَّى إِنَّهُ يَجْلِسُ فِي هَيْكَلِ ٱللّٰهِ كَإِلٰهٍ مُظْهِراً نَفْسَهُ أَنَّهُ إِلٰهٌ. أَمَا تَذْكُرُونَ أَنِّي وَأَنَا بَعْدُ عِنْدَكُمْ كُنْتُ أَقُولُ لَكُمْ هٰذَا؟ وَٱلآنَ تَعْلَمُونَ مَا يَحْجِزُ حَتَّى يُسْتَعْلَنَ فِي وَقْتِهِ. لأَنَّ سِرَّ ٱلإِثْمِ ٱلآنَ يَعْمَلُ فَقَطْ، إِلَى أَنْ يُرْفَعَ مِنَ ٱلْوَسَطِ ٱلَّذِي يَحْجِزُ ٱلآنَ، وَحِينَئِذٍ سَيُسْتَعْلَنُ ٱلأَثِيمُ، ٱلَّذِي ٱلرَّبُّ يُبِيدُهُ بِنَفْخَةِ فَمِهِ، وَيُبْطِلُهُ بِظُهُورِ مَجِيئِهِ» (2تسالونيكي 2: 1-8). ومعنى ذلك على رأي أشهر المفسّرين أنّه لا بد من حدوث أمريْن عظيميْن قبل مجيءالمسيح، وهما الارتداد العظيم، وظهور إنسان الخطية أي ضد المسيح الذي وصفه الرسول بالتدقيق، وأنّ أصول الشر كانت حينئذ تعمل فقط، وأنها تكمل متى أتى إنسان الخطية وابن الهلاك الذي كان حيئنذ يمنع ظهوره، وهم قد عرفوه. وأنّ إنسان الخطية متى وصل إلى معظم قوّته وأشدّ ضرره، يبطله الرب بظهور مجيئه ويبيده بنفخة فمه. وعلى ذلك قال سابقو الألف السنة إنّ مجيء المسيح بالجسد ضروري ليبيد ضد المسيح.

فنجيب: أن مجيء المسيح المذكور هنا ليبيد إنسان الخطية ليس هو بالضرورة مجيئه الثاني للدينونة، بل يُحتمل أنه يشير إلى مجيئه في إجراء الوسائط اللازمة لإتمام إبادة ضد المسيح كما جاء في قول المسيح عن مجيئه لخراب أورشليم: «فَإِنِّي ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لاَ تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ» (متّى 10: 23 وإشعياء 13: 6 و9 و19: 1 و30: 27-33 وميخا 1: 3-5 ورؤيا 3: 3).

ويظنّ بعض المفسرين أن إنسان الخطية شخصٌ شرير جداً يظهر بعد الألف السنة قبيل مجيء المسيح، وأن مجيء المسيح المشار إليه هنا (عندهم) هو مجيئه الأخير ليبيد إنسان الخطية، وذلك بعد الألف السنة عند مجيئه الثاني للدينونة، إذ يكون إنسان الخطية موجوداً فيبيده المسيح بنفخة فمه وبظهور مجيئه. وليس في الكتاب ما يثبت هذا الرأي، فهو مجرّد ظن.

27 - ما هو التفسير الأصح لما جاء في سفر الرؤيا 20: 4-10؟

الأرجح أنّ هذه الآيات تشير إلى انتصار الإنجيل الكامل في مدّة الألف السنة، وحصار الشيطان في تلك المدّة المجيدة، وأنّ المقصود بالقيامة الأولى قيام المسيحية في العالم.

وقد استند أصحاب رأي مجيء المسيح قبل الألف السنة على قول صاحب الرؤيا: «وَرَأَيْتُ مَلاَكاً نَازِلاً مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَعَهُ مِفْتَاحُ ٱلْهَاوِيَةِ، وَسِلْسِلَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى يَدِهِ. فَقَبَضَ عَلَى ٱلتِّنِّينِ، ٱلْحَيَّةِ ٱلْقَدِيمَةِ، ٱلَّذِي هُوَ إِبْلِيسُ وَٱلشَّيْطَانُ، وَقَيَّدَهُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَطَرَحَهُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ لِكَيْ لاَ يُضِلَّ ٱلأُمَمَ فِي مَا بَعْدُ حَتَّى تَتِمَّ ٱلأَلْفُ ٱلسَّنَةِ. وَبَعْدَ ذٰلِكَ لاَ بُدَّ أَنْ يُحَلَّ زَمَاناً يَسِيراً. وَرَأَيْتُ عُرُوشاً فَجَلَسُوا عَلَيْهَا، وَأُعْطُوا حُكْماً. وَرَأَيْتُ نُفُوسَ ٱلَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ أَجْلِ شَهَادَةِ يَسُوعَ وَمِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ ٱللّٰهِ. وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْجُدُوا لِلْوَحْشِ وَلاَ لِصُورَتِهِ، وَلَمْ يَقْبَلُوا ٱلسِّمَةَ عَلَى جِبَاهِهِمْ وَعَلَى أَيْدِيهِمْ، فَعَاشُوا وَمَلَكُوا مَعَ ٱلْمَسِيحِ أَلْفَ سَنَةٍ. وَأَمَّا بَقِيَّةُ ٱلأَمْوَاتِ فَلَمْ تَعِشْ حَتَّى تَتِمَّ ٱلأَلْفُ ٱلسَّنَةِ. هٰذِهِ هِيَ ٱلْقِيَامَةُ ٱلأُولَى. مُبَارَكٌ وَمُقَدَّسٌ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ فِي ٱلْقِيَامَةِ ٱلأُولَى. هٰؤُلاَءِ لَيْسَ لِلْمَوْتِ ٱلثَّانِي سُلْطَانٌ عَلَيْهِمْ، بَلْ سَيَكُونُونَ كَهَنَةً لِلّٰهِ وَٱلْمَسِيحِ، وَسَيَمْلِكُونَ مَعَهُ أَلْفَ سَنَةٍ» (رؤيا يوحنّا 20: 1-6).

زعم سابقو الألف السنة أنّ القيامة المذكورة هنا هي قيامة جسدية، وأن الملك هو ملك منظور على الأرض مع المسيح، إذ يأتي بالجسد لهذه الغاية والحق هو:

  1. لا يُثبت هذا القول مجيء المسيح قبل الألف السنة إلا إذا فسّرناه تفسيراً حرفياً. على أن تفسيره الحرفي مردود بأنّ يوحنّا لم يقل إنه رأى أجساد القدّيسين، ولا إنه رآهم قاموا من قبورهم، بل إنه رأى نفوسهم وذلك لا يثبت قيامة أجسادهم، بل بالعكس ينفيها.

  2. هذه الرؤيا توافق تماماً رؤيا فتح الختم الخامس (رؤيا 6: 9-11) ففيهما رأى يوحنّا نفوساً بشرية هي نفوس شهداء قُتلوا لأجل كلمة الله ولأجل شهادة يسوع. في الأول رآهم تحت المذبح يقدّمون صلواتهم إلى الله لينتقم لدمائهم من مضطهديهم، وأمّا في الثانية فرأى أن ذلك قد جرى، وانتقم الله لدمائهم. رأى يوحنّا أن حق المسيح الذي كان قبلاً في خطر الفشل قد انتصر، وهم غلبوه. وهذا من أشهر الأمور في السفر، أي تعزية القدّيسين المضطهَدين وتقوية إيمانهم وصبرهم بواسطة رؤى عن المستقبل السعيد الذي أمامهم، لا براحتهم الشخصية في السماء بل بانتصار ملكوت المسيح الذي لأجله احتملوا العذاب والموت، على رجاء أنهم يشاهدونه ظافراً بعد الجهاد العظيم. وقد أُشير إلى هذا التغيير بذكر نفوس شوهدت أولاً في تنهدات التضرع إلى الله تحت المذبح، ثم على عروش وهي حيّة مالكة مع المسيح وظافرة بفرح بسبب تقييد الشيطان وسقوط الأعداء وتمتع العالم بالسلام والطهارة في مُلك عمانوئيل. فهذا التغيير هو لهم حياة من الموت. ومن المناسب الإشارة إليه بالقيامة.

  3. استعمال القيامة بهذا المعنى ورد في إشعياء 26: 14 و19 وحزقيال 37: 10 والرائي يعرف سفريْ إشعياء وحزقيال جيداً وأخذ منهما كثيراً من إشاراته واستعاراته.

  4. التفسير الحرفي يناقض شهادة الكتاب الذي يقول إنه تكون قيامة واحدة فقط عامة شاملة.

  5. قيل في آية 6 مُبَارَكٌ وَمُقَدَّسٌ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ فِي ٱلْقِيَامَةِ ٱلأُولَى. هٰؤُلاَءِ لَيْسَ لِلْمَوْتِ ٱلثَّانِي سُلْطَانٌ عَلَيْهِمْ. إذاً القيامة الأولى نجاة من الموت الثاني. وبما أن الموت الثاني مجازي لا يدل على موت الجسد، فنتج طبعاً أنّ القيامة الأولى مجازية.

  6. مما يعضد التفسير المجازي أن الآية واردة في سفر مملوء من الاستعارات، لا تصح فيه التفسيرات الحرفية. بل في نفس هذا الأصحاح نرى السلسلة العظيمة، والحية القديمة، والختم عليها، والعروش والموت الثاني، ومعسكر القدّيسين، والمدينة المحبوبة. فتفسير القيامة الأولى بمعنًى روحيٍّ لا يناقض روح السفر بل يوافقه.

وإذا قيل لا يصح تفسير قيامة في هذه العبارة بمعنى روحي، لأن في نفس هذا الأصحاح ذكر قيامة جسدية يجب فهمها حرفياً (آيات 11-15) وإنه لا يحتمل تفسير لفظة واحدة في أصحاح واحد مرّة بمعنى روحي وأخرى بمعنى حرفي فنجيب: جاء كثيراً في الكتاب المقدس الكلام المجازي والحرفي معاً، ليس فقط في أصحاح واحد بل في جملة واحدة. فقد جاء فيه كلمة ولادة للدلالة على الولادة الروحية وعلى الولادة الجسدية، ولفظة موت للموت الروحي وللموت الجسدي، والألفاظ خبز وماء وزرع وحصاد إلخ بمعنى روحي ومعنى جسدي، وغير ذلك كثير. فلماذا لا يصح أن يُشار بكلمة قيامة أحياناً إلى قيامة روحية وأحياناً إلى قيامة جسدية؟

فتبيّن مما تقدم أن أشهر الآيات المعوّل عليها في البرهان على مجيء المسيح قبل الألف السنة لا تفيد هذا المعنى ولا تثبت هذا الرأي البتة.

ونختم هذا الفصل بالصلاة: «يا يسوع المبارك، كثيراً ما بحث الناس عن مجيئك لتملك على الأرض، فعسى أن لا ينسوا لزوم مُلكك الروحي على قلوبهم. كثيرون يتعبون في الجدل عن مُلكك الأرضي هنا في هذا العالم مدة ألف سنة، فأطلب إليك أن تجعل جُلّ قصدي والغاية العظمى في اجتهادي أن أملك أنا شخصياً معك في السماويات إلى أبد الآبدين».

مسابقة الكتاب

أيّها القارئ العزيز،

إن درست هذا الكتاب بعمق وفهم، تستطيع الإجابة على الأسئلة التالية. أرسل إجابتك الصحيحة لنا، فنرسل إليك أحد كتبنا جائزة، تقديراً لاجتهادك. لا تنسَ أن تكتب اسمك وعنوانك كاملين وبوضوح، داخل الخطاب، وليس فقط على المظروف الخارجي. وفي انتظار إجابتك.

  1. ما هو تعليم الكتاب المقدس في مجيء المسيح ثانية؟

  2. ماذا يقول الكتاب المقدس بخصوص انتشار الإنجيل في العالم قبل مجيء المسيح ثانية؟

  3. ما هي نبوّات الكتاب المقدس بخصوص رجوع اليهود للمسيح قبل مجيء المسيح ثانية؟

  4. ما هي التفسيرات الرئيسية لهذه النبوات؟

  5. ما هو الرأي الأصح في هذه التفاسير الثلاثة؟

  6. ما هي براهين أصحاب «التفسير الحرفي» للنبوات عن مستقبل الأمة اليهودية؟

  7. ما هو الارتداد العظيم الذي يسبق مجيء المسيح ثانية؟

  8. ما المقصود بدخول الكنيسة في عصر سعيد هو الألف السنة؟

  9. ما هو المقصود بحل الشيطان مدة وجيزة؟

  10. ما هي الحوادث التي تصاحب مجيء المسيح ثانية؟

  11. ما هو الاعتقاد الذي تتفق عليه كل الكنائس في مجيء المسيح ثانية؟

  12. ما هو رأي من يقولون بمجيء المسيح ثانية قبل الألف السنة؟

  13. ما هي الردود على من يقولون بمجيء المسيح ثانية قبل الألف سنة؟

  14. كيف نبرهن أنّ المسيح لا يملك على الأرض؟

  15. ما هي الأمور التي تناقض من يقولون بمجيء المسيح ثانية قبل الألف السنة؟

  16. ما هي أخطاء من يقولون بمجيء المسيح ثانية قبل الألف السنة بخصوص رجوع اليهود إلى فلسطين، وإعادة النظام اليهودي؟

  17. يستند أصحاب رأي مجيء المسيح ثانية قبل الألف السنة على آيات من نبوة دانيال. اشرح رأيهم. وما هو الرد عليه؟

  18. ما هو التفسير الصحيح لأصحاحي 2 و7 من نبوة دانيال؟

  19. قامت اعتراضات على أنّ الحيوان الرابع يشير إلى مملكة سوريا اليونانية. ما هي أشهرها، وما هو الرد عليها؟

  20. ما هي براهين أصحاب رأي أن الحيوان الرابع هو مملكة روما الوثنية، وما هي الردود على ذلك؟

  21. لماذا نرفض الرأي الروماني في تفسير كلام دانيال عن الحيوان الرابع وعن القرن الصغير؟

  22. كيف نبرهن خطأ رأي من يقولون إن اليوم مستعار (في بعض النبوات) لسنة؟

  23. نرجو المزيد من الإيضاح عن مدة من الزمان في دانيال 7: 25 و12: 7.

  24. ما هو المقصود من قول المسيح في متّى 24: 14 ثم يأتي المنتهى؟

  25. ما معنى قول الرسول بطرس في أعمال الرسل 3: 21 أزمنة ردّ كل شيء؟

  26. اشرح معنى قول الرسول بولس في 2تسالونيكي 2: 1-8.

  27. ما هو التفسير الأصح لما جاء في سفر الرؤيا 20: 4-10؟


Call of Hope P.O.Box 10 08 27
70007 
Stuttgart
Germany