العودة الى الصفحة السابقة
المؤمن والمجتمع

المؤمن والمجتمع

الدكتور ريتشارد توماس


Bibliography

المؤمن والمجتمع. الدكتور ريتشارد توماس. Copyright © 2005 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . 1975. SPB 4751 ARA. English title: The Believer and Society. German title: Der Gläubige und die Gesellschaft. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 70007 Stuttgart Germany http: //www.call-of-hope.com .

تمهيد

المؤمن مثل غيره من البشر يعيش في مجتمع معيّن، ولا يستطيع أن يتهرّب من مجتمعه بوسائل إصطناعية غير طبيعية مثل التنسُّك. وقال الرب يسوع: «لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ ٱلْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ» (أو الشر) (يوحنّا 17: 15). لقد أصاب أرسطو الهدف حين قال: «مَن لا يمكنه أن يعيش في مجتمع أولاً يحتاج أن يفعل ذلك، لأنه مكتفٍ بذاته، فهو إمّا وحش أو إله».

1 - ما هو المجتمع؟

علينا أن نحدّد معنى هذا اللفظ لأنّ التعريف المبهم يشوّش البحث ويشوّهه. فيجوز أن نتّخذ الكلمة بمعانٍ ثلاثة:

  1. المجتمع هو العالم الذي نعيش فيه.

  2. المجتمع هو النظام السياسي أو الدولة، التي ننتمي إليها.

  3. والمجتمع هو المشترك، أي الجماعة التي نحتكّ بها يوماً فيوماً - مثلاً الأرمنيّ يعيش في لبنان، وأيضاً في مجتمع منفصل نوعاً ما عن الدولة التي يواليها.

ثمّ علينا أن نفهم كلمة عالم لمعنيين حسب العهد الجديد:

  1. العالم الشرّير، أو دنيا الشرور، التي ينبغي أن نبتعد عنها. قال المسيح: «هَمُّ هٰذَا ٱلْعَالَمِ وَغُرُورُ ٱلْغِنَى يَخْنُقَانِ ٱلْكَلِمَةَ فَيَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ» (متى 13: 22). ويقول الرسول يعقوب «حِفْظُ ٱلإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ ٱلْعَالَمِ» (يعقوب 1: 27).

  2. وهناك عالم آخر - عالم البشر، والجماهير الكادحة - عالم المحتاجين والمساكين. «هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ...» (يوحنا 3: 16). واحتياجاتهم روحيّة نفسيّة ماديّة - هذا العالم لا يصحّ أن نتهرّب منه، بل يجب أن نفتقده وفقاً لقول الرسول يعقوب.

دعنا نتكلّم قليلاً عن المجتمع «العالم» وماذا يجب أن يكون موقف المؤمن منه؟ لأن الله أحبّ العالم، بينما يحثّنا الرسول يوحنا «ألاّ نحب العالم ولا الأشياء التي في العالم». هناك شيء من التوتّر والتأرجح بين موقفَين أو بالأحرى مواقف ثلاثة.

  1. الانغمار في العالم أو الانغماس فيه: ينغمس المرء في العالم ويقول: «فلنأكل ونشرب لأنّنا غداً نموت» هذا موقف وثنيّ، كمَن يقول: لنا رجاء في هذه الحياة فقط. وعادة يكون الذي يعتنق هذا الشعار ليس دنيوياً فحسب بل أنانياً أيضاً، يهتم بمصلحته الذاتيّة. وهناك قوم يبتغون هذا الموقف لكن بفطنة، فلا يتطرّفون في الإدمان على الملذّات، لكنهم يتجاهلون وجود عالمٍ آخر، هو عالم الروح. إن الحياة الدنيا مع كلّ أهمّيتها استعداد لحياة أخرى أخرويّة. وهناك آفاق وأبعاد وراء الأشياء التي تُرى.

  2. هناك موقف خاطئ أيضاً. الانعزال عن العالم، وهذا موقف النسّاك في الكنيسة القديمة وموقف بعض الرهبنات في أيّامنا. وحتّى موقف جماعة من الإنجيليّين المتطرّفين، الذين ينعزلون عن السياسة والخدمة الإجتماعيّة والثقافة والفنون. قرأنا عن ناسك كان يمكث على جبل سيناء، يرفض أن يرى أحداً، حتى الزوّار والحجّاج الذين أتوا ليزوروه، وأخيراً سجن نفسه في حجرة ديرٍ مدة 35 سنة. ولما سُئل: هل أنت حيّ؟ أجاب: «أعتقد أنّي متُّ للعالم». فمثل هؤلاء يعيشون وكأنّ لا وجود للعالم. وهذه الحياة أيضاً حياة أنانيّة، شعار صاحبها: أريد أن أخلّص نفسي، ولا أبالي بما سيحصل لقريبي. فأين محبّة القريب كالنفس؟ فهل عقليّتهم سماويّة لدرجة أن لا فائدة عمليّة لكيانهم؟ والإنجيليّون المتطرّفون صار شعارهم: «السياسة من الشيطان» أو «الثقافة من الشيطان». وهكذا يتهرّب الروحانيّ من الواجب السياسيّ ومسؤوليّة التثقيف. بينما يغفل عن أخطاء مثل حبّ المال وتكديس الثروة.

  3. الاحتكاك أو الاعتناء بالعالم. هذا كان موقف يسوع من عالم البشر. لقد خالط الناس على اختلاف طبقاتهم وظروفهم، يهوداً كانوا أو يونانيّين، رجالاً أو نساء، عشّارين زناة أو غيورين قوميّين، فقراء أو أغنياء. قال العميد الكنسيّ أنج: «الروحانيّة القائمة على معرفة ما في العالم أمر ممتاز ممدوح. أمّا الروحانيّة التي تتجاهل ما في العالم وتفتخر بجهلها، فهذه لا تستحقّ المديح». ومثل هذا الموقف يتطلّب دمج المسؤول نفسه في الجماعة دمجاً ينشأ عنه ارتباط عاطفيّ وثيق. أحياناً يستعمل البعض كلمة «العناية الإلهيّة» بديلاً لاسم الله، فحوّلها لاهوتيّ عصريّ لعبارة «العناية القصوى».

يجب أن يتناول هذا الاعتناء الجميع، بدون تمييز عنصري طبقي أو طائفي. ويجب أن يشمل جميع أنحاء الشخصيّة الإنسانية. البعض يبشّر بحماس ويهمل وصايا الرب الأخلاقية، فعلينا بقدر الإمكان أن نغذّي الروح والعقل والجسد.

2 - الدولة

فماذا يا ترى يجب أن يكون موقف المؤمن من الدولة؟ هناك ثلاثة مواقف أيضاً:

  • أولاً: الوطنيّة المتكافلة.

  • ثانياً: القوميّة، حيث يمجّد القوميّ أمّته، ويضع التوكيد على تعزيز ثقافتها ومصالحها.

  • ثالثاً: الشوفينيّة، أي الغلوّ في التعصّب القوميّ، وهذا موقف من يبغض العدوّ. ويعتبر كلّ دولة مجاورة عدوّة! يُحكى أن بنتاً مجريّة صغيرة أهداها والداها كرة جغرافيّة أرضيّة، فسألَتْ: أين المجر؟ وأشار أبوها إلى قطعة صغيرة حمراء. فانفجرت بالبكاء وصاحت: «أريد خارطة ليس عليها سوى المجر».

تباهى بولس بجنسيّته الرومانيّة، ولم يتردد في المطالبة بحقوقها (أعمال 21: 39 و22: 25). ولم ينتقد السلطة الرومانيّة في أيّة مناسبة، ولو أنّه آثر الجنسيّة السماويّة، فقال: «فَإِنَّ سِيرَتَنَا (جنسيّتنا) نَحْنُ هِيَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، ٱلَّتِي مِنْهَا أَيْضاً نَنْتَظِرُ مُخَلِّصاً هُوَ ٱلرَّبُّ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ» (فيلبي 3: 20). كانت دولة الرسول بولس دولة كبيرة إستعماريّة. ولكنه يؤكّد (في رومية 13):

  1. أنّ السلطة مفوّضة للحاكم، فمن الواجب الخضوع لها.

  2. للدولة الحق في معاقبة المجرمين.

  3. واجب دفع الضرائب. فلا يتوقف الأمر على فضيلة الحكّام أو جودهم، لأنّ الله عيّنهم. أو على الأقلّ سمح لهم أن يحكموا إلى أجل محدود. ويقول العالِم الألمانيّ ترولتش: «لم يعترف بولس بالدولة فحسب بأنّها مسموحٌ بها، بل قدّرها كمؤسّسة تهتمّ بالعدالة والنظام والأخلاق. وتشهد ضمائرنا المسيحية بأنّ خضوعنا للدولة يجب ألاّ يكون عن إجبار ولا عن خوف، بل عن سرور». هذا ما يعلِّمه لنا 1 بطرس 2: 13-17 أن نخضع من أجل الربّ لكلّ هيئة وسلطان بشريّ، فللملك على أنه السلطة العليا، وللولاة على أنهم مُرسَلون منه للانتقام من فاعلِي الشرّ، والثناء على فاعلِي الخير. فنتصرّف كأحرار، لا كمَن يتّخذ من الحرية ستاراً للخبث، بل كعبيد الله نكرم جميع الناس. «أحبّوا الإخوة. اكرموا الملك». وفضلاً عن ذلك يحثّ بولس المسيحيّين على الصلاة من أجل جميع السلاطين والسلطات، ويطالبنا في 1 تيموثاوس 2: 1 و2 بأن نستمرّ في الصلاة من أجل الرئيس حتّى أثناء الاضطهاد.

فهل نطبِّق هذه النصائح حتى لو كانت السلطة معادية للإيمان المسيحيّ؟ في أيام يوحنا، كاتب سفر الرؤيا، كانت الدولة معادية للمسيحية، فنلاحظ موقفاً جديداً: يشير يوحنّا إلى السلطات برموز وألقاب خفيّة، ولا يحترم السلطة بل يستنكرها.

ولكن الكلمة الجازمة جاءت على فم الربّ «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّٰهِ لِلّٰهِ» (متّى 22: 15-22). نحتاج إلى الحكمة والصلاة لنميّز ما لقيصر ممّا لله. وفي أيّامنا إذا لم تطلب السلطات في البلاد التي نعيش فيها ما يناقض طلب الله منّا، فلا داعي للتمرّد والثورة. ولو كانت هناك ضرورة للانتقاد البنّاء والاحتجاج فلتكن بطريقة مسالمة.

في تاريخ الكنيسة نعثر على أربعة اتجاهات في علاقة الكنيسة بالدولة:

  1. تبعيّة الكنيسة للدولة.

  2. حرية أو استقلال الكنيسة من الدولة.

  3. الاتكال المتبادل.

  4. العداوة اللامبالية.

ولم يعد الاتجاهان الأول والثالث شائعين، فظلّ الاتجاهان الثاني والرابع في البلاد الديمقراطيّة والشيوعيّة.

لقد فقدت الكنيسة مبادرتها في عدّة ميادين كانت تديرها قديماً، منها الفنون والمستشفيات والمدارس والنشاطات الخيريّة. مع هذا قد يمكن لكنيسة أو لأعضائها أن يبقوا ملحاً للأرض ونوراً للعالم رغم ضعف الكنيسة السياسيّ. ومهما كان الأمر، فلا يجوز للمؤمن أن يقاوم السلطة بعنف وإرهاب. فالمقاومة الوحيدة المأذونة له هي المقاومة بالاشتراك في آلام المسيح.

يقول بيان الحزب الشيوعيّ (المانيفستو Manifesto) الذي أعلنه كارل ماركس سنة 1848 لما كان في عمر الثلاثين إن أساس الشيوعيّة هو الملكيّة الجماعيّة لكل وسائل الإنتاج، فتنتفي بهذا ملكيّة الأفراد، ويمتنع قيام الطبقات، ويزول استغلال الإنسان للإنسان. وقد أعلن يسوع، وكان هو أيضاً في سنّ الثلاثين بيانه الشهير في مستهلّ خدمته،فقال: «رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِٱلْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ فِي ٱلْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ ٱلرَّبِّ ٱلْمَقْبُولَةِ» (لوقا 4: 18 و19). وتستمدّ الماركسيّة بعض عقائدها وأهدافها من الإنجيل. ولا غرابة، فإن ماركس كان من عائلة يهوديّة تنصّرت في أيام صباه. فالاهتمام بالمساكين والمحتاجين، والرجاء في عالم أفضل، والكفاح المستمر في سبيل ذلك، كلّها غايات مشتركة. إلاّ أن الأساليب تختلف، والرجاء يختلف، والكفاح المسيحيّ ليس كفاحاً مسلَّحاً. والفردوس الماركسيّ يقوم على نظريّات فيلسوف، بينما الحياة الأبديّة التي يهبها الربّ لنا مؤسّسة على كلمة الله التي لا تزول.

هناك مقارنة أخرى في بعض الأهداف تظهر أفضليّة الإيمان المسيحيّ على المبادئ الشيوعيّة:

  1. قد حانت الساعة للحركة الانقلابية.

    قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله.

  2. هذه قضيّة النضال تجعلكم تفهمون كلّ نشاطاتكم وتتّجهون بها وجهة جديدة.

    إذا قبلتم المسيح تستطيعون أن تفهموا معنى الحياة وتغيِّروا اتجاهكم الداخلي والخارجي.

  3. هناك رفقاء يعملون معاً في سبيل هذه الرسالة المجيدة.

    هناك شركة رسوليّة تكافح في سبيل الحقّ.

  4. هذه دعوة للتسليم الكلّي لقضيّة الحزب.

    هذه دعوة للتسليم الكلّي لرسالة المخلِّص.

أريد أن أنقل لكم شهادة مؤمن إنجيلي شهير عاش حديثاً في بلاد شيوعيّة، هي «المجر» هو الدكتور كيس، أستاذ الأناتوميّة في جامعة بودابست - قدّم له ركوسي، الطاغية الشيوعيّ، جائزة كوسوث للبحث العلمي، وقال له: «آمل أنك لا تكفّ عن خدمة الديمقراطيّة الشعبيّة في الأيّام المقبلة». فأجابه كيس: «بسرور إن سمح الله ووافق الحزب» وبهذا جعل مقام الله فوق الحزب.

ثمّ سأل الرئيس: «هل أنت متأكّد أن أحد أعضاء حزبك لا يغدر بك ولا يغتالك يوماً ما؟» فأجاب الطاغية: «لست متأكّداً». فعاد يسأله: « وهل تعتقد أن مؤمناً إنجيلياً لن يفعل ذلك قط؟» فأجاب الطاغية: «أعتقد ذلك». وهذه شهادة رائعة لتفوُّق الإيمان المسيحيّ على العقيدة الشيوعيّة.

وقد سقطت الشيوعية، وبقيت تعاليم المسيح.

3 - الجماعة

وصف رئيس الأساقفة «تامبل» الديانة المسيحية بأنها مادية أكثر من أية ديانة أخرى. وقصد بذلك أنها تهتمّ بالاحتياجات الماديّة والأغراض العلميّة أكثر من البوذيّة والهندوسيّة. فاهتمامها يحوي التطبيب والتعليم والخدمة الاجتماعيّة وحتى السياسيّة. وكان هذا الأسقف ينتمي إلى حزب العمّال. فاهتمّ كثيرون من المؤمنين الإنجيليّين، لا سيّما في القرن التاسع عشر بالإصلاحات الاجتماعيّة، ومن بينهم ولبرفورس ولنكلن اللذين اهتما بتحرير العبيد، ولورد شفتسبري الذي اهتم بإغاثة العمّال، وأليزابيت فراي التي اهتمت بإصلاح السجون. وفي ألمانيا اهتم أيفافان ونكلير بالمعاقين. فعلينا أن نحاول في مجتمعنا أن نتمثّل بهم رغم أننا أقلية عددية، ونكون ملحاً للأرض، ونوراً للعالم، وبلسماً في المجتمع.

ويمكن أن نمثّل علاقة المؤمن بالمجتمع الصغير، أي بالجماعة، أهل الحيّ، بخطٍّ أفقيّ. وعلاقته مع الله بخطّ عموديّ، وإن كان الاثنان مستقيمَين فسنجد نقطة تقاطع تمثّل المسيح، فيتمثّل لنا شكل صليب. وعلينا حسب تعاليم العهد الجديد أن نصلح صلتنا مع الله أولاً، ثم نحاول بنعمة الله وقوة روحه أن نصلح صلتنا بالناس. هناك علاقات متوتّرة بين أفراد العائلات، وبين الزملاء في المؤسَّسة، وبين الجيران في القرية، ومحبّتنا للقريب برهان علنيّ لمحبّتنا لله «لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ ٱلَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ ٱللّٰهَ ٱلَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ» (1 يوحنا 4: 20).

ما هي الديانة الطاهرة عند الله، وما هو بندها الأوّل؟ إنه افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم (يعقوب 1: 27). وهناك قولٌ موازٍ لبولس الرسول: «اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ وَهٰكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ ٱلْمَسِيحِ» (غلاطية 6: 2) أي أنّ نواميس العهد القديم الاجتماعية تُلخَّص في حمل أثقال الآخرين. فالأرامل واليتامى من أعجز أعضاء المجتمع، وهم عادة مُهمَلون، يرمزون إلى الجماهير الضائعة التي ليس لها رجاء، ويرجون الافتقاد. وعندما أقام يسوعُ اليتيمَ ابنَ الأرملة من بين الأموات في مدينة نايين، هتفت الجماعة: «افتقد الله شعبه» (لوقا 7: 16).

لم يأتِ يسوع مخلِّصاً للنفوس وحسب، بل جاء أيضاً ليشفي المرضى ويردّ البصر ويصحّح المجنون ويغذّي الجائع. وأضاف على كلّ ذلك بتقديم الخمر لأهل العرس (يوحنا 2: 1-11) كما بكى مع الباكين (يوحنا 11: 35) كأنّه يقول لحاجة الإنسان: نعم أنا أسدّها. وفوق ذلك سدّد كلّ الاحتياجات بما يفرح أصحابها ويعزّيهم أيضاً.

هناك حركات اجتماعيّة تستهدف إسعاف الفقراء والمساكين. ويجب على المؤمنين أن يكونوا من روّاد هذه الحركات في بلادهم. استمعتُ إلى أسقف إنجيليّ شاب، كان رياضياً مشهوراً، وقضى السنين الأولى من خدمته في حيٍّ حقير في لندن، يخدم الفتيان والفتيات المشرَّدين، وبرز مؤخّراً في كفاحه ضدّ التمييز العنصريّ. ولما سألوه: «هل من المفروض على المؤمن أن يساهم في إصلاح المجتمع؟» فأجاب: «نعم، ولكنّ كلّ مؤمن في ناحية معيّنة محدودة، لكي لا نبدّد جهودنا ونركض هنا وهناك بلا جدوى. فلنذهب واحدٌ هنا وآخر هناك بين الأولاد والشباب والعجزة والمعاقين والفقراء والمدمنين. فإن الفقراء دائماً معنا، وما أمسّ الحاجة لأن يكون المجتمع مستعداً لسدّها».

4 - المساواة

كان شعار الثورة الفرنسيّة ثلاثياً: الحريّة والمساواة والأُخُوّة. وإن كنّا نعترف بهذه الحقوق على الصعيد السياسيّ، نتذكّر أنّ لها محتوياتها الروحيّة أيضاً. فالرسول يعقوب يقاوم التمييز الطبقيّ بعنف. كان في المجتمع آنذاك إفراط إقتصاديّ، وكان هناك أغنياء وفقراء، سادة وعبيد. فهل كان السيّد يجلس مع العبد ويدعوه إلى بيته؟ كلاّ! بل كان يهينه حتّى في الكنيسة. وإن كان السيّد إقطاعياً كان يحرم الفعَلة أجرتهم. لقد بلغ صياحهم أذني ربّ الجنود، وهو أيضاً ربّ الجماهير (يعقوب 5: 4).

الاهتمام بالفقير وإسعاف المحتاجين أمر واجب على كلّ مؤمن. فيعقوب ينبّر عليه سلبياً، إذ ينهى عن الاستغلال والاغتصاب والاحتكار، بينما يلمّح بولس إلى ذلك إيجابياً، فيقول «نَذْكُرَ ٱلْفُقَرَاءَ. وَهٰذَا عَيْنُهُ كُنْتُ ٱعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ» (غلاطية 2: 10). وفي كورنثوس الثانية تفاصيل هذه المجهودات العظيمة التي قام بها هذا الرسول، فكانت كنائس فلسطين فقيرة بالنسبة إلى كنائس الغرب. ألا يتكرّر الوضع اليوم؟ فيجب على الكنائس أن تتعاون بدون الإحساس بالضعة من جهة، ولا بروح الكبرياء من جهة أخرى.

ويخطر ببالي أنّ راعي كنيستي، والذي نشأ في عائلة غنية، وهو غنيٌّ بالمواهب قال في إحدى المناسبات: «يجب على المؤمنين أن يقبلوا طوعاً مستوى معيشة أدنى ممّا تعوّدوا عليه، لكي تتوفّر الوسائل لإسعاف المحتاجين، في جميع أنحاء العالم - لا العشور فقط بل «الخموس» أيضاً، كما يرشد الربّ».

كتب أحد فلاسفة الأخلاق منتقداً المسيحيّة يقول: «قد بقيت وصيّة المحبة التي تركها المسيح لتلاميذه حلاً نظرياً، كلامياً أو حلاً فردياً... فكم مرّة يردّد فيها المسيحي كلمة المحبّة مدّعياً أنه يرى فيها معنى لا يكتشفه الفلاسفة؟ وكم مرة يردّ أعداء المسيحيّة على أصحابها بالتهكّم متسائلِين عن مدى ما بلغوه من تقدّم أخلاقيّ بفضل ترديد كلمة محبّة؟». وفي هذا الانتقاد نداءٌ صادقٌ للمسيحيّين ليتركوا المباهاة وألوان الدعاية على اختلافها، ولينصرفوا إلى العمل. قال المسيح: «أَنَا هُوَ ٱلْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى» (يوحنا 10: 9). وعلّق أحدهم على هذه الآية بقوله: «إذا دخلنا نخلص ونتمتّع ببركات الروح، ولكن ينبغي أن نخرج إلى خارج، إلى خدمة المجتمع البائس ليجد مرعى ويتقوّى بغذاء المرعى».

أريد أن أختم ببعض الملاحظات التي تدور حول الأخلاق:

  1. كثيراً ما ننتقد الأغنياء، ولربّما يقول كلٌّ منا: أنا لستُ غنيّاً. ثمّ نترك تطبيق الرسالة لغيرنا. لكن المواطن السماوي يجب أن يختلف عن سواه من البشر، مقتدياً بملكه، ليفرح بنا ملكنا. ولنتجنّب العادات الاجتماعية السيئة، ونتفرّغ لخدمة الرب والمجتمع.

  2. عندما نستعمل كلمة «لا أخلاقيّ» ننسبها إلى خطايا جنسيّة، ونتصوّر أفلاماً بعناوين كهذه «ابن الحرام» و «بنت الشارع». ولكنّ اللاأخلاقيّة تشمل أعمالاً وعمليّات كثيرة يقترفها المؤمن بتأثير المجتمع. ويذكر الرسول بولس في كورنثوس الأولى 5 و6 شروراً يعتبرها معادية لروح المسيحيّة، مثل التقاضي لدى المحاكم المدنيَّة، وظلم الآخرين رغم معرفتهم أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله، والسرقة والطمع والشتيمة والخطف. ويدين الرسول يوحنا الكذّابين (سفر الرؤيا 21: 27). هذه كلها مظاهر اللاأخلاقيّة.

  3. يتساءل الفيلسوف الشهير رَسِل: «لماذا يدين المسيحيّون الزاني بدينونةٍ أشدّ ممّن يأخذ الرشوة، مع أنّ الثاني يضرّ مجتمعه أكثر من الزاني». هذا تساؤل رجل طلّق زوجتين. ومع أني لا أوافق على قوله كلياً، إلا أني أريد أن أشدّد على أهمية علاج الخطايا غير الجنسيّة في حياتنا، ومنها الكبرياء والحسد والطمع والخداع، وانتقاد الآخرين انتقاداً لاذعاً لا فائدة فيه، فهذه تجرح المؤمنين وتُبعد الهالكين عن ملكوت الله.

  4. في أوائل القرن العشرين كان الشعار الرائج في الغرب: «لا تهتمّ بالعقيدة. تمسّك بالأخلاق فقط». لا تكلّمونا عن الثالوث الأقدس وطبيعتي المسيح، بل شدّدوا على الموعظة على الجبل. فقبل ستّين سنة لم يشكّ أحد بصحّة القيم الأخلاقيّة ولو أنّ الكثيرين نقضوا النواميس الأخلاقيّة عمداً: كان الطلاق يُعتَبَر عاراً والنغولة (الولادة من الحرام) تُحسَب كارثة. أمّا اليوم فالقيم الأخلاقيّة نفسها تتعرّض إلى هجمات من قِبَلِ علماء النفس والاجتماع ومؤلّفِي الروايات ومخرجِي الأفلام. وعلى قول أحد اللاهوتيين: كان الأجداد يقرّون «الأخلاق والإيمان» معاً، فجاء الآباء يقولون «الأخلاق بلا إيمان». والآن يقول الأحفاد: «لا أخلاق ولا إيمان» ويطالبون بالحرية الإباحيّة المطلقة. وها نحن نرى على كلّ جانب نتائج هذا الموقف الفاسد.

  5. فهل للمسيح رسالة أخلاقيّة تملأ الفراغ المعنويّ الذي نشاهده حولنا؟ فُلان يقول: «الكتاب المقدّس كتاب قديم يعود إلى ما قبل 2000 و3000 سنة. لقد نبذنا الكتب الطبية والهندسيّة والزراعيّة التي ترجع إلى تلك العصور. والحياة في فلسطين في أيّام يشوع ويسوع كانت تختلف جذريّاً عن الحياة في عصرنا. وكان شعب العهد القديم منطوياً على نفسه دون اتّصال مع الشعوب المجاورة. بينما اليوم تقدر بواسطة التلفزيون أن تشاهد الألعاب الأولمبيّة في ألمانيا وإطلاق سفينة الفضاء في أمريكا».

    وللرد نقول: أجل! قد تتغيّر الظواهر الخارجيّة، إلاّ أن المبادئ الجوهريّة هي هي ولن تتغيّر. إن قوانين المعمار التي نُفّذت في بناء الأهرام وتاج محلّ تتوافق مع قوانين المعمار في برج إيفل وناطحة السحاب في نيويورك. وأصول العلاقات البشريّة لن تتغيّر: صلة الرجل بزميله والزوج بزوجته والوالد بولده والإنسان بخالقه. فإمّا أن تكون صلة صحيحة صالحة أو تكون صلة متوتّرة مشوَّهة. الحبّ والبغض، الكرامة والولاء، الثقة المتبادلة والخداع المتبادل، هذه كلّها مظاهر إجتماعيّة أمس واليوم وغداً. جاءت رفقة لتتزوّج من إسحاق راكبةً على ناقة برداء شرقيّ مغطّاة بحجاب، بينما تأتي العروس المعاصرة بالمرسيدس لابسة الميني جوب - إلاّ أنّ المشاكل الزوجيّة بقيت على ما كانت، وحلّها موجود في ناموس المسيح (غلاطية 6: 2).

  6. إن أساس الأخلاقيّات المسيحيّة هو الاعتناء بالآخَرين. وينبغي أن يكون هذا الاعتناء بحماسٍ ورضى، ويعالج الحاجات الجسديّة والروحيّة. هذه مبادئ لا تحتمل الانتقاد والاعتراض. إلاّ أن قوّة الإنجاز وسرّ النجاح موجود في المسيح الذي علَّمنا أن نحبّ القريب كأنفسنا، محبّة هي من ثمر الروح.

المسابقة

أيها القارئ العزيز، إن تعمقت في قراءة هذا الكتاب تستطيع أن تجاوب على الأسئلة بسهولة. ونحن مستعدون أن نرسل لك أحد كتبنا الروحية جائزة على اجتهادك. لا تنس أن تكتب اسمك وعنوانك كاملاً عند إرسال إجابتك إلينا.

  1. ما هو قول المسيح الذي يعلمنا عدم الهروب من مجتمعنا؟ اكتب الآية والشاهد.

  2. «العالم» في الإنجيل له معنيان - ما هما؟ أورد آية عن كل معنى، واذكر شاهدها.

  3. ماذا كان موقف المسيح من عالم البشر؟

  4. ما هو موقف الرسول بولس من الدولة؟ أعط الشاهد الكتابي.

  5. ما هو موقف الرسول يوحنا من الدولة؟

  6. ماذا كان «مانيفستو» المسيح في إنجيل لوقا 4: 18 و19؟

  7. ما هي علامة محبتنا لله الذي لا نبصره؟

  8. كيف نوجد المساواة في مجتمعنا؟

  9. ما معنى قول المسيح «أنا هو الباب» في يوحنا 10: 9؟

  10. ما هي رسالة المسيح الأخلاقية لمجتمعنا؟


Call of Hope 
P.O.Box 10 08 27 
D-70007
Stuttgart
Germany