العودة الى الصفحة السابقة
قيامة المسيح

قيامة المسيح

والأدلة على صدقها

عوض سمعَان

بقلم 

Bibliography

قيامة المسيح. والأدلة على صدقها . عوض سمعَان. الطبعة الثالثة. 1994. Order Number SPB4375ARA. German title: Die Auferstehung Christi. English title: The Resurrection of Christ. P.O. Box 100827 D-70007 Stuttgart Germany Internet: http://www.call-of-hope.com - .

مقدمة

نؤمن، نحن المسيحيين، أن المسيح قام من بين الأموات في اليوم الثالث لموته. لأنه لم يكن من الممكن أن يسود الموت عليه، وذلك بعد أن أكمل عمل الفداء الذي أتى من السماء للقيام به.

ونظراً لأن هذه القيامة حادث جلل لم يشهد العالم مثله، فقد بحثها في كل عصر كثير من رجال الدين والفلسفة، فانتهى بعضهم إلى تصديقها وانتهى البعض الآخر إلى إنكارها.

ولما كان موضوع قيامة المسيح من أهم الموضوعات لدينا، نحن المسيحيين، درست الأسباب التي بنى عليها كل من الفريقين رأيه، ثم لخصت ما درسته في هذا الكتاب، لكي يرجع إليه من يهمه هذا الموضوع - والله ولي التوفيق.

المؤلف

الباب الأول: المسيحيون وقيامة المسيح

1 - شهادة المسيح عن قيامته قبل حادثة الصلب والأدلة على صدقها

أولاً - شهادة المسيح عن قيامته، قبل حادثة الصلب

لم يظهر خبر قيامة المسيح من بين الأموات فجأة بين الناس حتى كان يجوز الظن أنه بدعة، بل أعلنه المسيح مرات متعددة، وهو لا يزال في أوائل علاقته مع تلاميذه، كما يتضح مما يلي:

  1. أراد المسيح مرة أن يعلن لتلاميذه شيئاً من المجد الذي سيكون له مع المؤمنين الحقيقيين به، حتى يزداد إيمانهم بشخصه. فأخذ ثلاثة منهم إلى جبل عال، وهناك تَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَٱلشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَٱلنُّورِ... وجاء َصَوْتٌ مِنَ ٱلسَّحَابَةِ قَائِلاً: «هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ ٱسْمَعُوا» (متى 17: 1-5). وكان لهذا التجلي تأثير عظيم على تلاميذه، ومن ثم فأشاروا إليه في رسائلهم (2 بطرس 1: 16-18 ، 1 يوحنا 1: 1-4)، لإعلان معرفتهم اليقينية بحقيقة المسيح.

    فبعد حادثة التجلي أوصى تلاميذه أن لا يخبروا أحداً بما أبصروا من مجد على الجبل، إلا بعد أن يقوم من الأموات (مرقس 9: 9).

    ويرجع السبب في نهي المسيح لتلاميذه عن إذاعة ما رأوه من مجد التجلي إلى أن اليهود كانوا يعتقدون أن المسيح لا يموت، بل يملك على العالم إلى الأبد. فلو كان التلاميذ أعلنوا لهم وقتئذ ما رأوه من مجده، لانحصرت أذهان اليهود في الملك الذي كانوا يحلمون به، مع أنه لا مجال للملك إلا بعد الفداء. فضلاً عن ذلك فإن هذا الملك سوف لا يكون لليهود بل للمسيح، كما أنه لن يتمتع به الأشرار منهم أو من غيرهم من الشعوب على الإطلاق (متى 13: 41-42).

  2. وعندما شهد بطرس أن المسيح هو «ابن الله الحي» وتملك تلاميذه الإعتقاد بأنه لا يموت، قال لهم عن نفسه إنه «يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومَ» (متى 16: 21).

    المراد بالاصطلاح «ابن الله»، ليس المعنى الحرفي بل المعنى الروحي، لأن الله لم يولد ولا يلد. والمعنى الروحي لهذا الاصطلاح هو: «المعلِن لله». ولا غرابة في ذلك، فنحن كثيراً ما نقول «الابن يشبه أباه»، أو بالحري يعلنه. ولما كان «ابن الله» هو المعلن للّه، لذلك دُعي أيضاً بالوحي «كلمة الله» (يوحنا 1: 1-4)، لأن الكلمة تعلن صاحبها. وبما أنه لا يعلن الله إلا الله، لأنه ليس هناك كائن نظيره يمكن أن يعلنه، لذلك يكون «ابن الله» أو «كلمة الله» ليس كائناً غير الله أو جزءاً من الله، إنما أقنوم من أقانيمه، لأن الله لا شريك له ولا تركيب فيه. وهذا «الابن» أو «الكلمة» كان يعلن الله أزلاً، لأنه ليس من المعقول أنه تعالى كان مبهماً أزلاً، ثم صار معلناً في عصر من العصور.

    وفي الوقت المعين من الله ظهر هذا الأقنوم في المسيح لكي يعلن الله لنا، ولذلك فكل من رأى المسيح يكون قد رأى الله في ذاته وصفاته (يوحنا 14: 9)، ومع ذلك فإن المسيح من الناحية الناسوتية كان يشبهنا في كل شيء ما عدا الخطيئة - ومما تجدر الإشارة إليه في هذه المناسبة أن الشيخ أبو الفضل القرشي قال إن الإعتقاد بظهور اللاهوت في المسيح، لا يستلزم الكفر، وأنه لا إله إلا الله (هامش الشيخ القرشي على تفسير الإمام البيضاوي ج 2 ص 142) - ولزيادة الإيضاح إقرأ كتابنا «الله - ثالوث وحدانيته ووحدانية ثالوثه».

  3. وبينما كان يسير معهم في بلاد الجليل قال لهم: «ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ» (متى 17: 22 و23).

    وقد مات المسيح بوصفه ابن الإنسان، لأن اللاهوت لا يتأثر بالصلب أو الموت. كما أن الموت الذي قاساه المسيح لم يكن موتاً عادياً اضطرارياً، بل كان موتاً كفارياً اختيارياً عوضاً عن البشر الذين يستحقون القصاص الأبدي بسبب خطاياهم. هذا العمل الذي لا يستطيع القيام به سواه.

    ويُسمَّى المسيح «ابن الإنسان» من الناحية الناسوتية. ولا يُراد بهذا الاصطلاح أن المسيح ابن رجل ما (لأنه له المجد وُلد من عذراء لم تعرف رجلاً على الإطلاق)، بل يُراد به «ابن الإنسانية» أو بالحري الإنسانية متجلية بالقداسة التي يريدها الله.

  4. وفي أثناء صعوده إلى أورشليم للمرة الأخيرة قال لهم «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِٱلْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى ٱلأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ» (متى 20: 18 و19).

  5. ولما طلب اليهود منه معجزة غير المعجزات التي عملها أمامهم، قال لهم: «ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ» (يوحنا 2: 19) قاصداً بالهيكل، هيكل نفسه، أو بالحري جسده.

  6. وعندما تحدث عن شخصه كالراعي الصالح الذي يبذل نفسه فدية عن البشر، قال عن نفسه هذه: «لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يوحنا 10: 18)، مشيراً بذلك إلى أنه يموت بإرادته ويقوم أيضاً بإرادته.

  7. وقبل إحيائه رجلاً ظل ميتاً في القبر أربعة أيام، قال عن نفسه إنه هو «ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ» (يوحنا 11: 25)، مشيراً بذلك إلى أنه هو الذي يقيم الموتى ويحييهم بسلطانه الذاتي. ومن يقوم بهذا العمل لا يكون للموت سلطان عليه، بل أنه إذا مات لأجل الفداء يكون ذلك بإرادته، ومن ثم لا بد أن يقوم بإرادته أيضاً.

  8. وأخيراً قال لتلاميذه، وهو في الطريق إلى الصليب: «وَلٰكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ» (متى 26: 32).

ثانياً - الأدلة على صدق هذه الشهادة

فضلاً عن أن الشهادة المذكورة مدونة بالوحي الإلهي، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في صدقها نقول:

  1. إن المسيح (كما نعلم) كان متواضعاً كل التواضع وبعيداً عن التفاخر كل البعد، وفي الوقت نفسه كان يعلم كل الأمور قبل أن تبدو أي بادرة تدل على جواز حدوثها (إقرأ مثلاً: متى 11: 28-29 ، يوحنا 13: 4-14)، لذلك لا بد أن شهادته قبل صلبه أنه سيقوم من الأموات، هي شهادة صادقة.

  2. فإذا أضفنا إلى ذلك، أن تنبؤ المسيح عن قيامته مقترن كل الإقتران بنبوته عن صلبه، وأن نبوّته عن صلبه قد تحققت بحذافيرها، اتضح لنا أن نبوّته عن قيامته لا بد أنها تحققت أيضاً.

2 - شهادة المسيح عن قيامته بعد حادثة الصلب، والأدلة على صدقها

أولاً - شهادة المسيح عن قيامته بعد حادثة الصلب

بعد صلب المسيح وموته بثلاثة أيام، أخذ يظهر لتلاميذه ولجمع غفير من أتباعه في ظروف متعددة، ويعطيهم الفرص الكافية للتحقق من أنه هو بعينه، كما يتضح مما يلي:

  1. فعندما كانت مريم المجدلية تبكي بجوار قبره في اليوم الثالث لصلبه، ظهر لها المسيح وخاطبها قائلاً: «يا امرأة! لماذا تبكين؟ من تطلبين؟» ولما رفعت هذه بصرها إليه، ظنت أنه البستاني، إذ لم يكن يخطر ببالها أن الشخص الذي دُفن أمامها منذ ثلاثة أيام، وقد أتت الآن لتضع الحنوط على جسده، هو بذاته الذي كان واقفاً قبالتها وقتئذ. ومن ثم قالت له: «يا سيد إن كنت قد حملته، فقل لي أين وضعته وأنا آخذه». فأجابها قائلاً: «يا مريم!» فأدركت للتو أنه المسيح بعينه، لأنها كانت قد ألفت سماع صوته من قبل كثيراً. ولذلك قالت له كما كانت تقول سابقاً «ربوني»، أي «يا معلم»، ثم أسرعت إلى قدميه لكي تمسك بهما.

    لكن نظراً لأن المسيح قصد أن يعلن لها ولتلاميذه أنه من ذلك الوقت فصاعداً، تكون علاقة المؤمنين به علاقة روحية محض، قال لها: «لا تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلٰكِنِ ٱذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي (أو بالحري إلى تلاميذي) وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلٰهِي وَإِلٰهِكُمْ. فَجَاءَتْ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ ٱلتَّلامِيذَ أَنَّهَا رَأَتِ ٱلرَّبَّ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا هٰذَا» (يوحنا 20: 17-18).

    كان المسيح، من الناحية الناسوتية يدعو الله إلهاً له. لكن مع ذلك لم يضم نفسه مع المؤمنين ويناديه بالقول: يا إلهنا أو يا أبانا (كما يفعلون). بل كان يناديه دائماً أبداً «أبتاه» و «إلهي». ويرجع السبب في ذلك إلى أنه بسبب كماله الفريد كانت له، حتى من ناحية كونه ابن الإنسان، نسبة مع الله لا يشاركه أحد فيها.

  2. وعندما كانت مريم أم يعقوب وسالومة اللتان ذهبتا مع المجدلية إلى القبر واقفتين هناك، قال لهما ملاكان إن المسيح قد قام. ولما مضتا في طريقهما إلى أورشليم، لاقاهما المسيح وقال لهما: «سلام لكما». وللتو عرفتاه. فتقدمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا له. فقال لهما: «لا تَخَافَا. اِذْهَبَا قُولا لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى ٱلْجَلِيلِ، وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي» (متى 28: 1-10).

  3. فقام بطرس ويوحنا في الحال وأتيا إلى القبر، فدخل بطرس فيه ورأى الأكفان موضوعة معاً، أما المنديل الذي كان على رأس المسيح فلم يره موضوعاً مع الأكفان، بل ملفوفاً في موضع وحده. وحينئذ دخل أيضاً يوحنا إلى القبر ورأى ما رآه بطرس، فآمن (يوحنا 20: 8 و9) أن المسيح قام من الأموات. وبعد ذلك ظهر المسيح بصفة خاصة لبطرس (لأن هذا قد أنكره قبل الصلب، ثم شعر بخطئه وبكى بكاء مراً)، حتى يرفع من نفسيته المحطمة ويمنح ضميره المعذب راحة وسلاماً (1 كورنثوس 15: 5).

  4. وبينما كان تلميذان من تلاميذ المسيح منطلقين وقتئذ إلى بلدتهما عمواس، وهما في حيرة من جهة الأخبار التي ترامت إليهما عن قيامته، وفي حديث متواصل بين أحدهما والآخر بشأنها، اقترب إليهما المسيح نفسه وأخذ يمشي معهما دون أن يعرفاه - وذلك بسبب حزنهما الشديد واعتقادهما أن السائر معهما شخص مسافر مثلهما. فأراد له المجد أن يثبت لهما صدق الأخبار التي سمعاها عنه، ولذلك قال لهما: «مَا هٰذَا ٱلْكَلامُ ٱلَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟» فَأَجَابَ أَحَدُهُمَا، ٱلَّذِي ٱسْمُهُ كَلْيُوبَاسُ: «هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ ٱلأُمُورَ ٱلَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ؟» فَقَالَ لَهُمَا: «وَمَا هِيَ؟» فَقَالا: «ٱلْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ، ٱلَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيّاً مُقْتَدِراً فِي ٱلْفِعْلِ وَٱلْقَوْلِ أَمَامَ ٱللّٰهِ وَجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ. كَيْفَ أَسْلَمَهُ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَحُكَّامُنَا لِقَضَاءِ ٱلْمَوْتِ وَصَلَبُوهُ. وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ (أو بالحري يخلصه من ربقة الرومان، لأن هذا هو الفداء الذي كانوا يتوقون إليه). وَلٰكِنْ، مَعَ هٰذَا كُلِّهِ، ٱلْيَوْمَ لَهُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ مُنْذُ حَدَثَ ذٰلِكَ. بَلْ بَعْضُ ٱلنِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِراً عِنْدَ ٱلْقَبْرِ، َلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلائِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ. وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ ٱلَّذِينَ مَعَنَا إِلَى ٱلْقَبْرِ، فَوَجَدُوا هٰكَذَا كَمَا قَالَتْ أَيْضاً ٱلنِّسَاءُ، وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْهُ».

    فقال لهما المسيح: «أَيُّهَا ٱلْغَبِيَّانِ وَٱلْبَطِيئَا ٱلْقُلُوبِ فِي ٱلإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ٱلأَنْبِيَاءُ، أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهٰذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟ ثُمَّ ٱبْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ ٱلأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا ٱلأُمُورَ ٱلْمُخْتَصَّةَ بِهِ». ومن صوته وأسلوب حديثه، وتأملهما بعد ذلك في يديه المثقوبتين ووجهه الذي عرفاه من قبل، أيقنا أنه هو بعينه. وإذ رأى المسيح أنهما عرفاه انطلق عنهما، لكي يعلن ذاته لغيرهما. أما هما ففرحا وعادا إلى أورشليم ليخبرا باقي التلاميذ بما رأيا وسمعا (لوقا 24: 13-37).

  5. وكان تلاميذه (ما عدا توما) مجتمعين معاً في ذلك الوقت، في غرفة اعتادوا الاجتماع فيها، وذلك بعد أن أحكموا غلقها بسبب الخوف من اليهود. فوقف المسيح في وسطهم وقال لهم: « «سَلامٌ لَكُمْ!» فَجَزِعُوا وَخَافُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ نَظَرُوا رُوحاً. فَقَالَ لَهُمْ: «مَا بَالُكُمْ مُضْطَرِبِينَ، وَلِمَاذَا تَخْطُرُ أَفْكَارٌ فِي قُلُوبِكُمْ؟ اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ. جُسُّونِي وَٱنْظُرُوا، فَإِنَّ ٱلرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي». وَحِينَ قَالَ هٰذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. وَبَيْنَمَا هُمْ غَيْرُ مُصَدِّقِين مِنَ ٱلْفَرَحِ، وَمُتَعَجِّبُونَ، قَالَ لَهُمْ: «أَعِنْدَكُمْ هٰهُنَا طَعَامٌ؟» فَنَاوَلُوهُ جُزْءاً مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيٍّ، وَشَيْئاً مِنْ شَهْدِ عَسَلٍ. فَأَخَذَ وَأَكَلَ قُدَّامَهُمْ. وَقَالَ لَهُمْ: «هٰكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ (في ناموس موسى والأنبياء والمزامير)، وَهٰكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ...» (لوقا 24: 36-46).

  6. وبعد ثمانية أيام من هذا الظهور، كانوا مجتمعين أيضاً معاً في غرفتهم المذكورة ومعهم في هذه المرة توما (الذي لم يكن موجوداً معهم عند ظهور المسيح لهم في المرة السابقة، ومن ثم كان في شك من جهة قيامته). فَجَاءَ يَسُوعُ وَٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ وَقَالَ: «سَلامٌ لَكُمْ». ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: «هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، (حيث أثر المسامير التي سُمّرِ بها له المجد على الصليب) وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، (حيث أثر الحربة التي طُعن بها وهو عليه) وَلا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً». أَجَابَ تُومَا: «رَبِّي وَإِلٰهِي». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يوحنا 20: 26-29).

  7. وبعد ذلك ظهر المسيح لأكثر من خمسمائة شخص كانوا قد آمنوا به من قبل، ليقوي إيمانهم ويحملوا الإنجيل عن يقين إلى كل العالم (1 كورنثوس 15: 6).

  8. وبينما كان بطرس ويوحنا وخمسة آخرون من تلاميذ المسيح يصيدون في بحيرة طبرية، وقد استولى عليهم اليأس بسبب عدم عثورهم على سمك، ظهر لهم المسيح على الشاطئ وهم لا يعلمون أنه هو. فقال لهم: «يَا غِلْمَانُ أَلَعَلَّ عِنْدَكُمْ إِدَاماً؟». أَجَابُوهُ: «لا!» فَقَالَ لَهُمْ: «أَلْقُوا ٱلشَّبَكَةَ إِلَى جَانِبِ ٱلسَّفِينَةِ ٱلأَيْمَنِ فَتَجِدُوا». فَأَلْقَوْا، وَلَمْ يَعُودُوا يَقْدِرُونَ أَنْ يَجْذِبُوهَا مِنْ كَثْرَةِ ٱلسَّمَكِ. فَقَالَ ذٰلِكَ ٱلتِّلْمِيذُ ٱلَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطْرُسَ: «هُوَ ٱلرَّبُّ». فَلَمَّا سَمِعَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنَّهُ ٱلرَّبُّ، ٱتَّزَرَ بِثَوْبِهِ، لأَنَّهُ كَانَ عُرْيَاناً، وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي ٱلْبَحْرِ. وَأَمَّا ٱلتَّلامِيذُ ٱلآخَرُونَ فَجَاءُوا بِٱلسَّفِينَةِ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعِيدِينَ عَنِ ٱلأَرْضِ إِلاَّ نَحْوَ مِئَتَيْ ذِرَاعٍ، وَهُمْ يَجُرُّونَ شَبَكَةَ ٱلسَّمَكِ. فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى ٱلأَرْضِ نَظَرُوا جَمْراً مَوْضُوعاً وَسَمَكاً مَوْضُوعاً عَلَيْهِ وَخُبْزاً. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «قَدِّمُوا مِنَ ٱلسَّمَكِ ٱلَّذِي أَمْسَكْتُمُ ٱلآنَ». فَصَعِدَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَجَذَبَ ٱلشَّبَكَةَ إِلَى ٱلأَرْضِ، مُمْتَلِئَةً سَمَكاً كَبِيراً، مِئَةً وَثَلاثاً وَخَمْسِينَ. وَمَعْ هٰذِهِ ٱلْكَثْرَةِ لَمْ تَتَخَرَّقِ ٱلشَّبَكَةُ. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «هَلُمُّوا تَغَدَّوْا». وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ مِنَ ٱلتَّلامِيذِ أَنْ يَسْأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ إِذْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلرَّبُّ. ثُمَّ جَاءَ يَسُوعُ وَأَخَذَ ٱلْخُبْزَ وَأَعْطَاهُمْ وَكَذٰلِكَ ٱلسَّمَكَ، كما كان يفعل من قبل. فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هٰؤُلاءِ؟» قَالَ لَهُ: «نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ: «ٱرْعَ خِرَافِي». قَالَ لَهُ أَيْضاً ثَانِيَةً: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟» قَالَ لَهُ: «نَعَمْ يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ: «ٱرْعَ غَنَمِي». قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟» فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأَنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: «يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ٱرْعَ غَنَمِي. اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لَمَّا كُنْتَ أَكْثَرَ حَدَاثَةً كُنْتَ تُمَنْطِقُ ذَاتَكَ وَتَمْشِي حَيْثُ تَشَاءُ. وَلٰكِنْ مَتَى شِخْتَ فَإِنَّكَ تَمُدُّ يَدَيْكَ وَآخَرُ يُمَنْطِقُكَ، وَيَحْمِلُكَ حَيْثُ لا تَشَاءُ». (مشيراً بذلك إلى نوع خاص من الموت كان بطرس عتيداً أن يتعرض له في سبيل خدمة الإنجيل). ثم قَالَ لَهُ: «ٱتْبَعْنِي». فَٱلْتَفَتَ بُطْرُسُ وَنَظَرَ ٱلتِّلْمِيذَ ٱلَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ يَتْبَعُهُ، وَهُوَ أَيْضاً ٱلَّذِي ٱتَّكَأَ عَلَى صَدْرِهِ وَقْتَ ٱلْعَشَاءِ، وَقَالَ: « يَا سَيِّدُ، مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يُسَلِّمُكَ؟» فَلَمَّا رَأَى بُطْرُسُ هٰذَا، قَالَ لِيَسُوعَ: «يَا رَبُّ، وَهٰذَا مَا لَهُ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ، فَمَاذَا لَكَ؟ ٱتْبَعْنِي أَنْتَ». فَذَاعَ هٰذَا ٱلْقَوْلُ بَيْنَ ٱلإِخْوَةِ: إِنَّ ذٰلِكَ ٱلتِّلْمِيذَ لا يَمُوتُ. وَلٰكِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ يَسُوعُ إِنَّهُ لا يَمُوتُ، بَلْ: «إِنْ كُنْتُ أَشَاءُ أَنَّهُ يَبْقَى حَتَّى أَجِيءَ، فَمَاذَا لَكَ؟» (يوحنا 21: 1-23).

    وقصد المسيح بقوله لبطرس «ارع خرافي» المؤمنين الحقيقيين، لأنهم يشبهون الخراف من جهة الطاعة والبراءة، فالخراف تطيع راعيها، والمؤمنون الحقيقيون يطيعون الله. كما وقد وجَّه المسيح الأسئلة الثلاثة إلى بطرس لأنه كان قد قال للمسيح قبل الصليب: «وَلَوِ ٱضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لا أُنْكِرُكَ» (متى 26: 35). ومع ذلك لما اقتيد المسيح إلى المحاكمة، أنكر بطرس ثلاث مرات أنه يعرف المسيح (متى 26: 69-75).

  9. ثم ظهر المسيح بصفة خاصة بعد ذلك لتلميذه يعقوب الذي كان يمت له بصلة القرابة من جهة الجسد، حتى يتيقن من قيامته ويثبت إيمان الذين كانوا معه (1كورنثوس 15: 7).

  10. وعندما ذهب تلاميذه إلى الجليل كما أوصاهم من قبل، تقدم المسيح وقال لهم: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ، فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ (لأن المسيح لم يصطف أمة دون أمة، أو شعباً دون شعب، فكل الناس لديه سواء). وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلابْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متى 28: 18-20).

    ويُراد ب «الآب والابن والروح القدس»، ذات «الله الواحد الأحد»، الذي لا شريك له ولا تركيب فيه. ولا يراد بالألفاظ المذكورة إلا المعنى الروحي. وإذا استعرنا لغة الفلاسفة يكون الآب هو الباطن، والابن هو الظاهر، وظاهر اللّه وباطنه واحد، لأنه عين ما ظهر وعين ما بطن، ويكون الروح هو العامل في الخليقة والبشر على السواء لإتمام مشيئته. ولإيضاح حقيقة كون اللّه هو «الآب والإبن والروح القدس» إلى حد ما نقوله: إن الله له صفات، وهذه الصفات لا بد أنها كانت بالفعل فيه أزلاً، قبل وجود أي كائن من الكائنات التي خلقها. لأنه لولا ذلك لكانت صفاته عاطلة أزلاً، ثم صارت عاملة عند وجود المخلوقات، وبذلك يكون قد تعرَّض للتطور والتغيُّر - مع أنه لا يتغير ولا يتطور. ووجود صفات اللّه بالفعل أزلاً تدل على أنه مع وحدانيته وعدم وجود أي تركيب فيه، لا بد أنه في ذاته جامع أو كل، لأن الكل أو الجامع هو وحده الذي تكون صفاته بالفعل، بغَضّ النظر عن وجود غيره فإن شئت فقُل إن «الآب والابن والروح القدس» هم خصائص الذات الإلهية التي بمقتضاها تكون صفاته عاملة منذ الأزل إلى الأبد، حتى إذا لم يكن هناك كائن معه أو تركيب في ذاته.

  11. وفي اليوم الأربعين من قيامته، اجتمع بتلاميذه وأوصاهم أن لا يبرحوا أورشليم، بل أن ينتظروا فيها حتى يحل الروح القدس عليهم، ويؤيدهم بما يحتاجون إليه من القوى والمواهب الروحية التي تعدهم للشهادة عنه، في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة، وإلى أقصى الأرض. وحينئذ سأله تلاميذه قائلين: «يَا رَبُّ، هَلْ فِي هٰذَا ٱلْوَقْتِ تَرُدُّ ٱلْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا ٱلأَزْمِنَةَ وَٱلأَوْقَاتَ ٱلَّتِي جَعَلَهَا ٱلآبُ فِي سُلْطَانِهِ» (أعمال 1: 4-8).

    وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجاً وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ ٱنْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ، إِذَا رَجُلانِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ وَقَالا: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هٰذَا ٱلَّذِي ٱرْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ سَيَأْتِي هٰكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى ٱلسَّمَاءِ» (لوقا 24: 50-51 ، أعمال 1: 10-11).

ثانياً - الأدلة على صدق الشهادة السابقة

فضلاً عن أن الشهادة المذكورة مدونة بالوحي الإلهي، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في صدقها كما ذكرنا، نقول:

  1. إن المسيح كان، بجانب تواضعه الجم، بعيداً عن الإدعاء كل البعد، ومن ثم فإن شهادته عن نفسه أنه قام من بين الأموات بعد صلبه، هي شهادة صادقة لا يجوز الطعن فيها بحال.

  2. إن تلاميذ المسيح وأتباعه العديدين كانوا لا يصدقون في أول الأمر أنه قام من الأموات، ومن ثم فحصوا بتدقيق في من هو الشخص الذي كان يظهر لهم من وقت لآخر، معلناً أنه المسيح، فأيقنوا تماماً أنه هو بعينه.

  3. إن الحديث الذي وجهه هذا الشخص إلى مريم المجدلية، وإلى النساء اللاتي ذهبن معها إلى القبر، وإلى تلميذي عمواس، وإلى توما، وإلى بطرس، وإلى التلاميذ معاً (عندما كانوا في أورشليم، وعلى جبل الزيتون، وفي الجليل)، ومعجزة اصطياد السمك الكثير التي قام بها لأجلهم، وما رافقها من حديث عام وخاص - كل ذلك يدل على أنه كان هو المسيح بعينه كما ذكرنا.

3 - شهادة كتبة سيرة المسيح عن حادثة قيامته، والأدلة على صدقها

أولاً - حادثة قيامة المسيح (متى 28، مرقس 16، لوقا 24 ، يوحنا 20)

لم يستخدم الوحي شخصاً واحداً للكتابة عن قيامة المسيح، بل استخدم أربعة أشخاص للكتابة عنها، وهم متى ومرقس ولوقا ويوحنا، وقد أجمع هؤلاء الأربعة على الخلاصة الآتية:

حدثت في فجر الأحد، وهو اليوم الثالث لصلب المسيح وموته، زلزلة عظيمة. كما نزل ملاك من السماء، ودحرج الحجر عن باب القبر (الذي كان المسيح مدفوناً فيه)، ثم جلس بعد ذلك على هذا الحجر. فارتعد الحراس الذين كانوا هناك وصاروا كأموات. وعندما انتبهوا إلى أنفسهم، انطلقوا إلى المدينة وأخبروا رؤساء كهنة اليهود بما حدث. فاجتمع هؤلاء مع الشيوخ وتشاوروا معاً في الأمر، فاستقر رأي الجميع على أن يعطوا الحراس فضة كثيرة، لكي يقولوا إنه في أثناء نومهم ليلاً أتى تلاميذ المسيح وسرقوا جسده. وتعهدوا للحراس بأنه إذا سُمع هذا القول عند الوالي الروماني، فإنهم يستعطفونه حتى لا يصيبهم بأذى. فأخذ الحراس الفضة وقالوا كما أوصاهم رؤساء الكهنة.

وفي فجر هذا اليوم أيضاً، خرجت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة إلى القبر (الذي كان يحوي جسد المسيح) ومعهن حنوط كثير ليضعنه على جسده. وكن يتساءلن في أثناء سيرهن إلى القبر عمن يدحرج لهن الحجر عن بابه، لأن هذا الحجر كان كبيراً. لكن عندما وصلن إلى القبر رأين الحجر مدحرجاً. فدخلن القبر ليقمن بالمهمة التي أتين لأجلها، غير أنهن لم يجدن جسد المسيح هناك. وفيما هن محتارات إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة، وقالا لهن: «لماذا تطلبن الحي بين الأموات!! ليس هو ههنا، لكنه قام. أذكرن كيف كلمكن وهو بعد في الجليل قائلاً: «إنه ينبغي أن يُسلَّم ابن الإنسان إلى أيدي الناس ويصلب، وفي اليوم الثالث يقوم». فتذكرن كلامه ورجعن من القبر وأخبرن تلاميذه بكل ما رأين وسمعن، فتراءى كلامهن لهم كالهذيان ولم يصدقوهن.

فقام بطرس ويوحنا وأتيا إلى القبر، وكان الاثنان يركضان معاً، فسبق يوحنا زميله بطرس وجاء أولاً إلى القبر وانحنى، فنظر الأكفان موضوعة، لكنه لم يدخل. ثم جاء بطرس ودخل القبر، فرأى الأكفان موضوعة كما هي (أي كما كانت من قبل حول جسد المسيح، وليست مبعثرة أو مطروحة في مكان ما). لكن المنديل الذي كان على رأس المسيح لم يكن موضوعاً معها بل كان ملفوفاً في موضع وحده. وكلمة «ملفوفاً» وردت في الأصل بمعنى «مستديراً» أو «مكوراً»، أي كما لو كان المنديل يحوي رأس المسيح داخله - ووجود المنديل بهذه الهيئة، عند الموضع الذي كانت تقع فيه رأس المسيح، بعيداً إلى حد ما عن الأكفان التي كانت تحيط بجسده، دليل على أن جسد المسيح لم يُسرق، بل أنه نفذ من الأكفان بطريقة معجزية، تاركاً إياها كما هي. وحينئذ دخل أيضاً يوحنا الذي جاء أولاً إلى القبر، ورأى فآمن، لأنهما لم يكونا يعرفان بعد ما قالته الكتب المقدسة أن المسيح ينبغي أن يقوم من بين الأموات.

أما عن ظهور المسيح لتلاميذه، وأتباعه، وحديثه معهم بعد قيامته، فقد ذكرنا شيئاً عنهما في الفصل السابق، ولا داعي لتكراره هنا.

ثانياً - الأدلة على صدق هذه الحادثة

فضلاً عن أن الحادثة المذكورة مدونة بالوحي الإلهي الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في صدقها كما ذكرنا، وفضلاً عن أنها خالية من كل استعارة أو مجاز، الأمر الذي لا يدع مجالاً لتأويل معناها الظاهري إلى معنى آخر، نقول:

  1. إن الذين كتبوا هذه الحادثة أشخاص على جانب عظيم من الأخلاق الكريمة، استطاعت نعمة الله أن تجعل من الوثنيين النجسين أبراراً قديسين. فضلاً عن ذلك كان يختلف أحدهم عن الآخر كل الاختلاف، من جهة السن والثقافة والنشأة والطباع والمركز الاجتماعي. لأن متى كان محاسباً حريصاً، ومرقس كان شاباً متحمساً، ولوقا كان طبيباً مدققاً، ويوحنا كان شيخاً رزيناً هادئاً. ومن ثم ليس هناك مجال للظن بأنهم اتفقوا على تأليف الحادثة المذكورة لأي غرض من الأغراض.

  2. ولو فرضنا جدلاً أنهم على الرغم من كل ذلك اتفقوا على تأليفها، لكتبوا لنا (أولاً) عن الطريقة التي قام بها المسيح من بين الأموات، والتي هي أول ما يتبادر إلى ذهن المؤلف الذي يحاول الكتابة عن هذا الموضوع. و(ثانياً) لصاغوا حادثة القيامة في الأساليب المثيرة التي نشاهدها في روايات الأبطال وقصصهم. و(ثالثاً) لأسندوا كذلك إلى المسيح عمل المعجزات الباهرة أمام اليهود والرومان الذين صلبوه، أو الظهور للفريقين بمظهر يرعبهم ويدعوهم إلى الخشوع والسجود عند قدميه. و(رابعاً) لذكروا أن العذراء مريم كانت مع النساء اللاتي خرجن في الفجر لوضع الحنوط على جسد المسيح، أو أن المسيح زارها بعد قيامته في بيتها لكي يبعث إليها بالطمأنينة والسلام.

    فضلاً عن ذلك لما سجَّلوا شيئاً عن (أولاً) ضعف إيمانهم، وشك بعضهم في قيامة المسيح، وخوفهم جميعاً من اليهود. (ثانياً) فضل النساء عليهم واهتمامهن بإكرام المسيح أكثر منهم. (ثالثاً) السؤال الخاص بوقت رد الملك إلى إسرائيل الذي أنكر المسيح عليهم التفكير فيه ورفض إجابتهم عنه - ومن ثم فإن حادثة قيامة المسيح بالوضع الواردة به في الكتاب المقدس، لا مجال للطعن في صدقها من أية ناحية من النواحي.

  3. فإذا أمعنا النظر في هذه الحادثة، مع شهادة المسيح التي ذكرناها في الفصل السابق، يتضح لنا أنها تشمل أخباراً لم يكن من الممكن أن تخطر ببال التلاميذ، لولا أنها حدثت فعلاً أمامهم. وذلك مثل الخبر (أولاً) الخاص بأن مريم المجدلية أمسكت بقدمي المسيح فنهاها عن هذا العمل (يوحنا 20: 17). (ثانياً) الخاص بأن يوحنا ركض مع بطرس إلى القبر فوصل إليه أولاً، لكنه لم يدخل فيه، ومن ثم لم ير في بادئ الأمر موضع المنديل بالنسبة إلى الأكفان، أما بطرس الذي أتى بعده، فدخل ورأى موضعه بالنسبة إليها (يوحنا 20: 3-7). (ثالثاً) الخاص بجهل التلاميذ لما جاء في الكتب المقدسة التي كانت بين أيديهم، عن ضرورة قيامة المسيح من الأموات (يوحنا 20: 9). (رابعاً) الخاص بأن المسيح دخل الغرفة وأبوابها مغلقة، مع أن جسده (كما يعلم التلاميذ) كان جسداً حقيقياً (يوحنا 20: 19-20). (خامساً) الخاص بأن التلاميذ بعدما عرفوا المسيح، لم يجسر أحدٌ منهم أن يسأله من هو (يوحنا 21: 12)، مع أنه لم يظهر لهم بمظهر مرعب يعقد ألسنتهم عن الكلام. (سادساً) الخاص بأنهم لم يجدوا سمكاً في البحر، لكن عندما أتوا إلى الشاطئ حيث كان المسيح واقفاً، وجدوا جمراً وسمكاً موضوعاً عليه وخبزاً (يوحنا 20: 6-13). (سابعاً) الخاص بأن المسيح أعلن لبطرس الطريقة التي سيموت بها، لكن لما سأله هذا عن مصير يوحنا، وبخه المسيح (يوحنا 21: 18-23). (ثامناً) الخاص بأن المسيح أوصى تلاميذه بالكرازة باسمه في جميع الأمم، مع أنهم كانوا يكرهون الأمم ويرفضون التحدث معهم عن نعمة الله، لئلا يتمتعوا بخلاصه مثلهم (أعمال 10: 38-42). (تاسعاً) والخاص بأنه أمر تلاميذه بعدم مغادرة أورشليم حتى يحل الروح القدس عليهم (لوقا 24: 47-49)، مع أنهم كانوا لا يعرفون كيفية حلوله أو النتائج التي تترتب على حلوله.

    وإذا كان الأمر كذلك، فإن حادثة قيامة المسيح الواردة في الكتاب المقدس، لا مجال للشك في صدقها على الإطلاق كما ذكرنا.

4 - شهادة رسل المسيح والأدلة على صدقها

أولاً - شهادة رسل المسيح

1 - شهادة بطرس الرسول

  1. قال هذا الرسول لزملائه الرسل بعد صعود المسيح إلى السماء: ينبغي أن الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج، منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنا، يصير واحد منهم شاهداً معنا بقيامته، عوضاً عن يهوذا الإسخريوطي الذي خنق نفسه (أعمال 1: 21 و22).

  2. وبعد حلول الروح القدس على بطرس وعلى الرسل جميعاً (إتماماً لوعد المسيح السابق لهم)، وتأييد هذا الروح له ولهم بقوة روحية وقدرة على التكلم بلغات متعددة، لم يكونوا يعرفون شيئاً منها، الأمر الذي لم يشهد العالم مثله، اعترت اليهود (الذين كانوا يعرفون هذه اللغات بسبب تشتتهم في البلاد التي كانت تتكلم بها) دهشة عظيمة. . فَوَقَفَ بُطْرُسُ مَعَ ٱلأَحَدَ عَشَرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْيَهُودُ وَٱلسَّاكِنُونَ فِي أُورُشَلِيمَ أَجْمَعُونَ، لِيَكُنْ هٰذَا مَعْلُوماً عِنْدَكُمْ وَأَصْغُوا إِلَى كَلامِي، لأَنَّ هٰؤُلاءِ لَيْسُوا سُكَارَى كَمَا أَنْتُمْ تَظُنُّونَ، لأَنَّهَا ٱلسَّاعَةُ ٱلثَّالِثَةُ مِنَ ٱلنَّهَارِ. بَلْ هٰذَا مَا قِيلَ بِيُوئِيلَ ٱلنَّبِيِّ (الذي عاش سنة 700 ق.م) : وَيَكُونُ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ أَنِّي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ، وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤىً وَيَحْلُمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاماً» (أعمال 2: 5-19).

  3. ولما رأى اليهود بعد ذلك مبهوتين عندما شفى إنساناً مصاباً بالعرج من بطن أمه، قال لهم: «لِمَاذَا تَشْخَصُونَ إِلَيْنَا كَأَنَّنَا بِقُوَّتِنَا أَوْ تَقْوَانَا قَدْ جَعَلْنَا هٰذَا يَمْشِي؟ إِنَّ إِلٰهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، إِلٰهَ آبَائِنَا، مَجَّدَ فَتَاهُ يَسُوعَ، ٱلَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ أَمَامَ وَجْهِ بِيلاطُسَ، وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلاقِهِ ...وَرَئِيسُ ٱلْحَيَاةِ قَتَلْتُمُوهُ ٱلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَنَحْنُ شُهُودٌ لِذٰلِكَ» (أعمال 3: 12-15).

  4. وعندما سأل رؤساء الكهنة بطرس ويوحنا عن مصدر القوة التي عملا بها هذه المعجزة، قالا لهم: «فَلْيَكُنْ مَعْلُوماً عِنْدَ جَمِيعِكُمْ... أَنَّهُ بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلنَّاصِرِيِّ، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمُ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، بِذَاكَ وَقَفَ هٰذَا (المريض) أَمَامَكُمْ صَحِيحاً» (أعمال 4: 10).

  5. وبينما كان هذان التلميذان يخاطبان الشعب عن قيامة المسيح، أقبل عليهما الكهنة وقائد جند الهيكل والصدوقيون متضجرين من تعليمهما للشعب، وندائهما في يسوع بالقيامة من الأموات، فألقوا عليهما الأيادي ووضعوهما في السجن (أعمال 4: 1-3). ولما أطلقوهما في اليوم التالي خرجا إلى باقي التلاميذ يؤديان معهم الشهادة بقيامة يسوع، بقوة عظيمة (أعمال 4: 33).

  6. وبعد ذلك قال بطرس لأهل قيصرية عن المسيح: «هٰذَا أَقَامَهُ ٱللّٰهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ، وَأَعْطَى أَنْ يَصِيرَ ظَاهِراً، لَيْسَ لِجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ، بَلْ لِشُهُودٍ سَبَقَ ٱللّٰهُ فَٱنْتَخَبَهُمْ. لَنَا نَحْنُ ٱلَّذِينَ أَكَلْنَا وَشَرِبْنَا مَعَهُ بَعْدَ قِيَامَتِهِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ. وَأَوْصَانَا أَنْ نَكْرِزَ لِلشَّعْبِ، وَنَشْهَدَ بِأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمُعَيَّنُ مِنَ ٱللّٰهِ دَيَّاناً لِلأَحْيَاءِ وَٱلأَمْوَاتِ. لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ ٱلأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِٱسْمِهِ غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا» (أعمال 10: 40-43).

    ومن شهادة الأنبياء نقرأ إشعياء 53: 11، إرميا 31: 34، دانيال 9: 24، ميخا 7: 6، زكريا 13: 1 ملاخي 4: 2.

  7. وأخيراً قال للمؤمنين في رسالته الأولى التي كتبها إليهم: (أولاً) «مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (ثانياً) وأنه يخلصنا نحن الآن «بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي هُوَ (الآن) فِي يَمِينِ ٱللّٰهِ» والمراد باليمين في هذا المجال مكان الرفعة والقوة، لأن الله بسبب عدم تحيزه بحيز ليس له يمين أو يسار. (ثالثاً) كما قال لهم عن المسيح: «أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ بِهِ تُؤْمِنُونَ بِٱللّٰهِ ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وَأَعْطَاهُ مَجْداً، حَتَّى إِنَّ إِيمَانَكُمْ وَرَجَاءَكُمْ هُمَا فِي ٱللّٰهِ» (1 بطرس 1: 3 و21 و22).

2 - شهادة بولس الرسول

  1. كان هذا الرسول يدعى شاول، ولم يكن من قبل واحداً من تلاميذ المسيح الإثني عشر، بل كان عدواً لدوداً له ولهم. لكن بينما كان في طريقه إلى دمشق مع بعض أتباعه، ليقبض على المسيحيين ويسيمهم العذاب (بعد صعود المسيح إلى السماء)، أبرق حوله نور عظيم. فسقط على الأرض وسمع صوتاً يقول له: «شَاوُلُ، شَاوُلُ، لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟» فَسَأَلَهُ: «مَنْ أَنْتَ يَا سَيِّدُ؟» فَقَالَ ٱلرَّبُّ: «أَنَا يَسُوعُ ٱلَّذِي أَنْتَ تَضْطَهِدُهُ. صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ». فَسَأَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّرٌ: «يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: «قُم وَٱدْخُلِ ٱلْمَدِينَةَ فَيُقَالَ لَكَ مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ». وأما الرجال المسافرون معه فوقفوا صامتين يسمعون الصوت، ولا ينظرون أحداً. فنهض شاول عن الأرض وكان وهو مفتوح العينين، لا يبصر أحداً. فاقتادوه بيده وأدخلوه إلى دمشق. وهناك أرسل المسيح إليه، بواسطة إعلان خاص، تلميذاً له يدعى حنانيا. فلما أتى هذا إلى شاول وأخبره عن غرض المسيح من الظهور له، وضع يده عليه، فانفتحت عيناه، وامتلأ من الروح القدس (أعمال 9: 1-22). وقد أشار شاول إلى هذه الحادثة الدالة على قيامة المسيح وصعوده إلى السماء مرات متعددة، وذلك في حديثه مع كهنة اليهود وولاة الرومان (أعمال 22: 6-16، 26: 12-18)، ليعلن لهم السبب الذي غير مجرى حياته وجعله من أخلص أتباع المسيح، بعد أن كان عدواً لدوداً له.

  2. ولما التقى بعد ذلك ببعض فلاسفة اليونان في أريوس باغوس قال لهم عن الله: «لأنه أقام يوماً هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل، برجل قد عينه مقدماً للجميع إيماناً، إذ أقامه من الأموات» (أعمال 17: 31).

    ويُدعى المسيح، «رجلاً» من حيث ناسوته.

  3. وعندما وقف أمام الملك أغريباس ليحاكم بتهمة نشر تعاليم غريبة ضد الديانة اليهودية، كان اليهود قد أسندوها إليه. قال للملك المذكور: «وَأَنَا لا أَقُولُ شَيْئاً غَيْرَ مَا تَكَلَّمَ ٱلأَنْبِيَاءُ وَمُوسَى أَنَّهُ عَتِيدٌ أَنْ يَكُونَ: إِنْ يُؤَلَّمِ ٱلْمَسِيحُ، يَكُنْ هُوَ أَوَّلَ قِيَامَةِ ٱلأَمْوَاتِ» (أعمال 26: 22 و23).

  4. وقال لأهل رومية عن المسيح: «وَتَعَيَّنَ (أو بالحري اتضح أنه، لأن الفعل «تعين» هنا لا يُراد به التعيين في مركز، بل إيضاح حقيقة خاصة. كما في قولنا «تعين الأمر»، أي اتضح، ولذلك يرد في معظم الترجمات الانكليزية (مثلاً) "Was declared"). ٱبْنَ ٱللّٰهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ، بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» . كما قال لهم عنه «ٱلَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا» (1: 4 ، 4: 25). وعندما تحدث إليهم عن كيفية السلوك في العالم قال لهم: «كَمَا أُقِيمَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ ٱلآبِ، هٰكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضاً فِي جِدَّةِ ٱلْحَيَاةِ. لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ عَالِمِينَ أَنَّ ٱلْمَسِيحَ بَعْدَمَا أُقِيمَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ لا يَمُوتُ أَيْضاً» (6: 4-9). (إن الموت الذي نفذ في المسيح فعلاً نيابة عن البشر بسبب خطاياهم يُحسب أنه نُفذ شرعاً في الذين يؤمنون به إيماناً حقيقياً، لأنهم بإيمانهم هذا اتّخذوا المسيح نائباً لهم وبديلاً عنهم. ومن ثم يعتبرون شرعاً أنهم اتحدوا معه في المعمودية بشبه موته، وهذا هو السبب في عدم تعرضهم للموت الأبدي أو بالحري العذاب الأبدي). كما قال لهم «وَإِنْ كَانَ رُوحُ ٱلَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ سَاكِناً فِيكُمْ، فَٱلَّذِي أَقَامَ ٱلْمَسِيحَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ ٱلْمَائِتَةَ أَيْضاً بِرُوحِهِ ٱلسَّاكِنِ فِيكُمْ» (8: 11). (فعند مجيء المسيح ثانية سيقوم المؤمنون الحقيقيون من قبورهم ويُخطفون إلى السماء مع الذين يكونون أحياء على الأرض (1 تسالونيكي 4: 13-14)، وذلك بأجساد ممجَّدة مثل جسد المسيح نفسه (فيلبي 3: 21)، حتى يكونوا في حالة التوافق الكلي معه إلى أبد الآباد). ثم قال لمن يريد الخلاص من الخطيئة ونتائجها «لأَنَّكَ إِنِ ٱعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ ٱللّٰهَ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، خَلَصْتَ» (10: 9) وعندما تحدث إليهم عن وجوب الطاعة للمسيح قال: «لأَنَّهُ لِهٰذَا مَاتَ ٱلْمَسِيحُ وَقَامَ وَعَاشَ، لِكَيْ يَسُودَ عَلَى ٱلأَحْيَاءِ وَٱلأَمْوَاتِ» (14: 9).

  5. وقال لأهل كورنثوس: «وَٱللّٰهُ قَدْ أَقَامَ ٱلرَّبَّ وَسَيُقِيمُنَا نَحْنُ أَيْضاً مَعَهُ» (1 كو6: 14). كما قال: «َإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي ٱلأَّوَلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضاً: أَنَّ ٱلْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ ٱلْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ حَسَبَ ٱلْكُتُبِ» (1كو 15: 3-4). وعندما تحدث إليهم عن قيامة الأموات قال: وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ ٱلْمَسِيحُ يُكْرَزُ بِهِ أَنَّهُ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، فَكَيْفَ يَقُولُ قَوْمٌ بَيْنَكُمْ إِنْ لَيْسَ قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ!! (1 كو 15: 12). وعندما تحدث عن سلوك المؤمنين في الوقت الحاضر، قال عن المسيح: «وَهُوَ مَاتَ لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ ٱلأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لا لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لأَجْلِهِمْ وَقَام» (2 كو5: 15).

  6. وقال لأهل غلاطية عن نفسه: إنه «رَسُولٌ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَٱللّٰهِ ٱلآبِ ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (1: 1).

  7. وقال لأهل أفسس عن الله: إنه «أَقَامَ (المسيح) مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ، فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُّوَةٍ وَسِيَادَةٍ» (1: 20 و21). كما قال عنه: «وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (2: 6).

    «الإقامة» هنا لا يُراد بها المعنى الحرفي بل المعنى الشرعي،لأن الذين آمنوا بالمسيح إيماناً حقيقياً قد ارتبطوا بشخصه، فتُعتبر قيامته قيامة لهم أيضاً، الأمر الذي يدعوهم إلى أن تكون سيرتهم في السموات في كل حين. و «الجلوس» هنا لا يُراد به المعنى الحرفي،بل المعنى الشرعي. فنظراً لأن المؤمنين الحقيقيين مرتبطون بالمسيح بواسطة الإيمان الحقيقي به، يُعتبر جلوسه في السماوات بعد قيامته، جلوساً أو استقراراً لهم أيضاً هناك، الأمر الذي يبعث إلى نفوسهم بالسلام والطمأنينة، ويدعوهم للشكر والحمد إلى أبد الآباد).

  8. وقال لأهل فيلبي عن المسيح: «وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ. لِذٰلِكَ رَفَّعَهُ ٱللّٰهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ ٱسْماً فَوْقَ كُلِّ ٱسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ» (فيلبي 2: 8-10). وقال لهم عن نفسه: إنه يريد أن يعرف المسيح، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلامِهِ، مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ (فيلبي 3: 10)، حتى يستطيع الإتيان بالناس في حالة الطاعة للّه والتوافق معه. وإن استلزم الأمر منه في هذا السبيل أن يضحي بالنفس والنفيس معاً.

    ولا يُراد بمعرفة المسيح، معرفة شيء من أعماله وصفاته بل المعرفة الشخصية به، وذلك بواسطة الارتقاء الروحي إليه والتوافق المستمر معه.

  9. وقال لأهل كولوسي عن المسيح: «مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي ٱلْمَعْمُودِيَّةِ، ٱلَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أَيْضاً مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (كو 2: 12). وأيضاً: «فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فَٱطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ ٱلْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ. ٱهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لا بِمَا عَلَى ٱلأَرْضِ» (3: 1-2).

    «والمعمودية» كلمة سريانية معناها «مغطس» ونزول المؤمنين في مائها إشارة إلىاعترافهم الرسمي بالموت مع المسيح والدفن معه شرعاً أمام الله، فيحسبون أنفسهم أمواتاً عن الخطية وأحياء لله. وتبعاً لذلك يقدّمون أعضاءهم آلات لأجل خدمة الله دون سواه (رومية 6: 3-13).

  10. وقال لأهل تسالونيكي: «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذٰلِكَ ٱلرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ سَيُحْضِرُهُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً مَعَهُ» (1 تسا4: 14). كما قال لهم: «رَجَعْتُمْ إِلَى ٱللّٰهِ مِنَ ٱلأَوْثَانِ لِتَعْبُدُوا ٱللّٰهَ ٱلْحَيَّ ٱلْحَقِيقِيَّ، وَتَنْتَظِرُوا ٱبْنَهُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، يَسُوعَ، ٱلَّذِي يُنْقِذُنَا مِنَ ٱلْغَضَبِ ٱلآتِي» (1 تسا1: 9-10).

  11. وقال لتلميذه تيموثاوس: «اُذْكُرْ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلْمُقَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ بِحَسَبِ إِنْجِيلِي» (2 تي 2: 8).

    كلمة «الإنجيل» معناها الخبر السار، وتُطلق في المسيحية على الخبر الخاص بمجيء المسيح إلى العالم وموته كفارة عن الساكنين فيه، لكي لا يهلك كل من يؤمن به إيماناً حقيقياً بل تكون له الحياة الأبدية (يوحنا 3: 16). فقول بولس الرسول «إنجيلي»، لا يُراد به أن له إنجيلاً خاصاً، بل يُراد به رسالة الخلاص التي تلقاها شخصياً من المسيح عندما رآه في مجده السماوي.

  12. وقال للعبرانيين: «وَإِلٰهُ ٱلسَّلامِ ٱلَّذِي أَقَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ رَاعِيَ ٱلْخِرَافِ ٱلْعَظِيمَ، رَبَّنَا يَسُوعَ، بِدَمِ ٱلْعَهْدِ ٱلأَبَدِيِّ، لِيُكَمِّلْكُمْ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ» (عبرانيين 13: 20 و21).

    قال المسيح بعد صعوده إلى السماء ليوحنا الرسول: إنه (أي المسيح) كان ميتاً فعاش (رؤيا 2: 8)، وإنه الشاهد الأمين، البكر من الأموات (رؤيا 1: 5)، وإنه الحي (في ذاته)، وكان ميتاً، وها هو حي إلى أبد الآبدين (رؤيا 1: 18).

ثانياً - الأدلة على صدق شهادة الرسل

فضلاً عن أن هذه الشهادة المسجلة بالوحي الإلهي، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في صدقها كما ذكرنا، نقول:

  1. إن رسل المسيح نادوا بقيامته من الأموات في أورشليم التي عرف أهلها كل شيء عنه، وأمام رؤساء الكهنة (الذين شاهدوا بأنفسهم موته على الصليب، ودفنه في القبر، ووضع الحراس عليه أيضاً)، وذلك دون أن يتعرض واحد من هؤلاء أو أولئك لتخطئة الرسل (أعمال 2: 22-41 ، 3: 13-26 ، 4: 1-22). كما أن معظم البلاد الأجنبية التي نادى الرسل فيها بقيامة المسيح (مثل رومية وكورنثوس وأفسس وغلاطية) وإن كان أهلها لم يعرفوا شخصياً من قبل شيئاً عن المسيح، لكنهم كانوا على درجة عظيمة من الثقافة جعلتهم لا يقبلون أمراً إلا بعد مناقشته وفحصه بكل دقة، ومن ثم لا يمكن أن يكونوا قد قبلوا موضوع قيامة المسيح إلا بعد أن تبين لهم صدقه.

  2. إذا تأملنا شهادة الرسل لا نرى فيها أية محاولة لإثبات قيامة المسيح، كما أن حديثهم عنها لا يرد بمعزل عن رسالة الإنجيل التي كانوا ينادون بها (والتي تتلخص في إعلان طريق الخلاص من قصاص الخطيئة وسلطانها، ووجوب سلوك المؤمنين بالتقوى والقداسة في العالم الحاضر، وضرورة قيامهم بعد موتهم بالأجساد الممجدة ليتمتعوا بالله إلى الأبد)، بل يرد مرتبطاً بهذه الموضوعات كل الارتباط، الأمر الذي يدل على أن قيامة المسيح لم تكن معروفة فقط كل المعرفة عند الناس، بل أنها أيضاً ليست دخيلة على المسيحية بل أصلية فيها، ومن ثم لا تكون كرقعة بثوب، بل كالنسيج الذي يتكون منه ذات الثوب.

  3. إن الرسل لم يكونوا من الأغنياء أو الأقوياء، الذين إذا ادعوا بغير الحقيقة صدقهم كثير من الناس، بل كانوا فقراء لا حول لهم ولا طول، بينما كان اليهود أعداؤهم أقوياء وذوي نفوذ عظيم. وبما أن هؤلاء على الرغم من مكانتهم لم يستطيعوا إسكات الرسل والقضاء على شهادتهم، لذلك لا بد أن قيامة المسيح التي كانوا ينادون بها، هي حادثة حقيقية عرفها اليهود وقتئذ حق المعرفة، وأنها أزعجتهم كل الإزعاج، حتى أنهم وجهوا كل جهودهم للقضاء على الخبر الخاص بها.

  4. ولو فرضنا أن رسل المسيح كانوا ينالون من وراء المناداة بقيامته من الأموات مقاماً أو مالاً، لكان هناك مجال للشك في صدق شهادتهم. لكن بالرجوع إلى التاريخ نرى أن اليونانيين كانوا يستهزئون بهم (أعمال 17: 18 و32)، وأن كهنة اليهود كانوا يتضجرون منهم، ولذلك قبضوا عليهم وساموهم العذاب ألواناً وأشكالاً (أعمال 4: 1-3، 5: 17-18). وبما أنه ليس من المعقول أن يختلق بعض الناس (لا سيما إذا كان يختلف بعضهم عن البعض الآخر كل الاختلاف كما ذكرنا فيما سلف)، موضوعاً لا نصيب له من الصواب. وعلى الرغم من تحملهم الاضطهاد في سبيله، يثابرون على المناداة به. إذن لا شك أن قيامة المسيح التي كانوا ينادون بها، ليست موضوعاً مختلقاً بل موضوعاً حقيقياً.

  5. فضلاً عن ذلك، فإن رسل المسيح كانوا بحكم يهوديتهم يعتقدون أن الله لا يمكن أن يظهر في جسد على الإطلاق، وأن من اعتقد بغير ذلك يكون مجدفاً ومستحقاً للإعدام. إنما باتصالهم بالمسيح، أدركوا في أول الأمر أنه المسيا (والمسيا في نظرهم وقتئذ لم يكن أكثر من إنسان عادي يسود على الأرض إلى الأبد، مؤيداً بقوة من الله). وباتصالهم به اتصالاً أوثق أدركوا أنه ابن الله (وابن الله) في نظرهم وقتئذ لم يكن أكثر من أقرب الكائنات السماوية إلى الله. لكن لما رأوا أنه قد صُلب ومات مثل البشر العاديين، اعتقدوا أنهم كانوا مخطئين في فهمهم. فتوارى بعضهم في حزن ويأس، وانصرف بعض آخر إلى بلاده الأصلية ليزاول فيها حرفته السابقة. غير أنه لم يمض على موقفهم هذا ثلاثة أيام، حتى استعادوا وحدتهم ونادوا بكل ابتهاج ونشاط بأن المسيح هو الرب والإله (يوحنا 20: 28)، والكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد (رومية 9: 5)، وأنه الله الظاهر في الجسد (1 تيموثاوس 3: 16) مخالفين في ذلك اعتقادهم من جهة استحالة ظهور الله في جسد إنسان، ومعرضين أنفسهم أيضاً لأشد الآلام والاضطهادات - وطبعاً ليس هناك من سبب لهذا التحول الفجائي الخطير، لولا أنهم تحققوا بأنفسهم أن المسيح قام فعلاً من بين الأموات، مناقضاً بذلك كل النواميس الطبيعية التي تخضع لها الكائنات جميعاً.

  6. أخيراً نقول: إن بطرس الرسول عندما تحدث عن قيامة المسيح مع اليهود الذين عاصروه وعرفوا كل شيء عنه، وطلب منهم أن يتوبوا عن خطاياهم ويؤمنوا بشخصه، نُخسوا في قلوبهم وآمن به منهم في الحال ثلاثة آلاف شخص (أعمال 2: 37-41)، الأمر الذي يدل على أن اليهود أنفسهم كانوا وقتئذ على يقين تام من قيامة المسيح من بين الأموات.

5 - شهادة أنبياء العهد القديم والأدلة على صدقها

أولاً: العهد القديم والقيامة

«العهد القديم» هو العهد الذي أقامه اللّه مع بني إسرائيل وحدهم في أيام موسى النبي، وبمقتضاه كان تمتعهم بالبركات الأرضية متوقفاً على حفظهم للناموس، ونظراً لأنهم لم يحفظوه، لم يتمتعوا بالبركات المذكورة (تثنية 28: 15-52).

أما العهد الجديد فهو العهد الذي أعطاه اللّه لكل من يؤمنون بالمسيح إيماناً حقيقياً، بغض النظر عن أجناسهم. وبناء على هذا العهد يباركهم اللّه بكل بركة روحية في السماويات (أفسس 1: 3) ليس على أساس أعمالهم بل على أساس كفارة المسيح التي وفَّت كل مطالب عدالة اللّه نيابة عنهم، كما يمنحهم حياة روحية جديدة يستطيعون بها السلوك في هذا العالم بالقداسة التي تتفق مع مشيئته.

وقيامة المسيح من بين الأموات لكونها حقيقة معروفة لدى الله أزلاً، كان تعالى يعلنها لأنبيائه منذ القديم، تارة برموز وأخرى بنبوات، حتى يعد أذهان البشر عموماً لقبولها، إذا سمعوا عنها في المستقبل، كما يتضح مما يلي:

(أ) شهادة رموز العهد القديم

استقرار الفلك على جبل أراراط:

إن الفلك الذي بناه نوح كان كما يتضح من (1 بطرس 3: 19-22) رمزاً إلى المسيح من حيث كونه الواسطة لنجاة المؤمنين الحقيقيين من الدينونة الأبدية، التي كان يرمز إليها قديماً بالطوفان. ومن ثم فإن ارتفاع هذا الفلك واستقراره على جبل أراراط بعد اجتيازه مياه الطوفان، إشارة واضحة إلى أن المسيح بعدما احتمل بالصلب دينونة الخطيئة الأبدية عن البشر، لم يكن ليبقى في قبره، بل أن يقوم من بين الأموات.

ومما يؤيد إشارة هذا الرمز إلى قيامة المسيح، أن الوحي يسجل لنا أن الفلك استقر على جبل أراراط في اليوم السابع عشر من الشهر السابع (تكوين 8: 4). وهذا الشهر هو الذي أصبح بعد تأسيس فريضة الفصح، أول شهور السنة (خروج 12: 2). ولما كان خروف الفصح، الذي يرمز إلى خلاص المسيح لكل من يؤمن به إيماناً حقيقياً (1كورنثوس 5: 7) يذبح في اليوم الرابع عشر من هذا الشهر وهو نفس اليوم الذي صُلب المسيح فيه، كما يتضح من (يوحنا 18: 28) يكون اليوم الثالث لذبحه يوافق اليوم السابع عشر من الشهر المذكور. وهذا هو اليوم الذي استقر فيه الفلك على جبل أراراط وهو أيضاً اليوم الذي قام فيه المسيح من بين الأموات.

قيام إسحق من على المذبح حياً:

كان الله قد أمر إبراهيم الخليل أن يقدم ابنه إسحق محرقة، وذلك ليمتحن مقدار طاعته وإخلاصه. فأسرع إبراهيم بالقيام بما أمره الله. وأعد الله له كبشاً لكي يذبحه عوضاً عن إسحق (تكوين 22: 13) وبذلك ذبح إبراهيم الكبش، وأقام إسحق من فوق المذبح حياً، والكبش وإسحق معاً رمز واضح إلى موت المسيح وقيامته، فالأول رمز للمسيح مماتاً فداء عن غيره، والثاني رمز للمسيح مقاماً بعد إتمام الفداء بموته - وقد أشار بولس الرسول إلى هذه الحقيقة فقال عن إبراهيم، إنه أخذ ابنه من الأموات في مثال (عبرانيين 11: 19) أي أن ابنه لم يمت فعلاً ثم قام، بل كان في رقاده على المذبح وفي قيامته من عليه، مجرد مثال للمسيح الذي مات فعلاً ثم قام. إذ أنه لو كان إسحق قد مات فعلاً، لما كان قد قام إلا في يوم القيامة، لأنه كان إنساناً مثلنا. أما المسيح فكان لا بد أن يقوم بعد موته لأنه أكمل عمل الفداء، ولأنه أيضاً أصلاً رئيس الحياة وباعثها (أعمال 3: 15).

وقال علماء المسلمين من جهة ابن إبراهيم الذي قُدِّم على المذبح رأيين: فعكرمة وعبد الله بن مسعود وكعب وابن سابط وابن هذيل قالوا إن الذبيح هو إسحق. أما ابن عباس وأبو طفيل والشعبي ومجاهد فقالوا إن الذبيح هو إسماعيل (الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزيري ج 1: 62 و63).

عصفور التطهير:

كان الله قد قال لموسى النبي إنه عند تطهير الأبرص، الذي كان يرمز به قديماً إلى الإنسان الذي تنجس بالخطيئة، يجب أن يؤخذ عصفوران، يُذبح الواحد ويُطلق الآخر حياً، وذلك بعد وضعه في دم العصفور المذبوح (لاويين 14: 1-8). فالعصفور المذبوح كان رمزاً إلى المسيح مماتاً كفارة عن الخطيئة، والعصفور المنطلق إلى السماء كان رمزاً إلى المسيح مقاماً من الأموات حاملاً معه دلائل كفارته.

ترديد حزمة الباكورة في هيكل الله:

كان الله قد أمر بني إسرائيل أن يرددوا في هيكله، أول حزمة من باكورات غلاتهم في غد السبت (لاويين 23: 11)، ليذكروا أنه صاحب الفضل عليهم - والحنطة كما نعلم كانت رمزاً إلى المسيح، فقد شبه نفسه بحبة الحنطة التي تقع في الأرض وتموت لكي تأتي بثمر كثير (يوحنا 12: 24). ومن ثم فترديد حزمة الباكورة أمام الله في غد السبت (أو بالحري في يوم الأحد)، رمز واضح إلى قيامة المسيح في هذا اليوم، منتصراً وظافراً بالله. ومما يؤيد إشارة هذا الرمز إلى قيامة المسيح أن السبت الذي كان يقع بعده هذا الأحد، كان سبت أسبوع الفصح (لاويين 23: 4-22). والمسيح كما يتضح من يوحنا (18: 28، 20: 1) مات في أثناء هذا الفصح، وقام من الأموات في أول الأسبوع التالي له، أو بالحري في غد السبت المذكور.

عصا هرون التي أفرخت:

لما حدث نزاع بين بني إسرائيل من جهة الشخص الذي يكون له حق القيام بالخدمة الكهنوتية أمام الله، أمر الله موسى أن يأخذ من كل سبط عصا، ويكتب عليها إسم السبط الذي أخذها منه. ثم يضع العصي جميعاً في خيمة الإجتماع. وأعلن تعالى له أن الرجل الذي يختاره تعالى للكهنوت، هو الذي تفرخ عصاه (عدد 17: 1-11). وفي الغد، إذا بعصا هرون قد أفرخت فروخاً وأزهرت زهراً وأنضجت لوزاً، للدلالة على أنه هو الشخص الذي اختاره الله وقتئذ لهذه الخدمة.

ومن ثم فإن هذه العصا التي دبت فيها الحياة بعد جفافها أو بالحري بعد موتها، كانت رمزاً إلى أن المسيح لم يكن ليبقى في القبر ميتاً بل أن يحيا ويقوم من الأموات ودليل أيضاً على أنه هو الشخص الذي اختاره الله للكهنوت الحقيقي (أو بالحري للوساطة بينه وبين كل الناس في كل العصور) لأن كهنوت هرون كان مجرد كهنوت رمزي وقتي لليهود فحسب، ومن ثم لم يستمر طويلاً. وقد أشار الوحي إلى هذه الحقيقة فقال للمؤمنين عن المسيح إنه قام بقوة حياة لا تزول صائراً رئيس كهنة (عبرانيين 7: 16).

خروج يونان من جوف الحوت:

لما قال الكتبة والفريسيون للمسيح «نريد أن نرى منك آية»، أجابهم قائلاً: «جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلا تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ ٱلنَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ ٱلْحُوتِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاثَ لَيَالٍ، هٰكَذَا يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي قَلْبِ ٱلأَرْضِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاثَ لَيَالٍ» (متى 12: 38-40)، مشيراً بذلك إلى أنه له المجد سوف لا يظل في القبر بعد موته، بل سيقوم منه حياً.

(ب) شهادة نبوات العهد القديم

  1. قال داود النبي عن لسان المسيح قبل مجيئه إلى الأرض بمدة 1000 سنة «لا تُطْبِقِ ٱلْهَاوِيَةُ (أو بالحري المكان الذي تنطلق إليه الأرواح بعد مغادرتها لأجسادها)عَلَيَّ فَاهَا» (مزمور 69: 15). كما قال عن لسانه للّه «لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي ٱلْهَاوِيَةِ (حتى يوم القيامة مثل الناس الذين يموتون). لَنْ تَدَعَ (جسد)تَقِيَّكَ يَرَى فَسَاداً » في القبر مثلهم (مزمور 16: 10) - الأمر الذي يدل على أن روح المسيح الإنسانية التي أسلمها على الصليب، كان لا بد أن تعود من الهاوية إلى جسده الذي كان مدفوناً في القبر، لكي يحيا ويقوم منه.

  2. وقال داود النبي أيضاً بعد أن تنبأ عن صلب المسيح، إنه سيخبر إخوته باسم الله (مزمور 22: 1-25) - وقيام المسيح بهذا العمل بعد صلبه، دليل على أنه لا يبقى في القبر بل يقوم منه.

    وإخوة المسيح هم المؤمنون الحقيقيون في العهد الجديد من جهة حصولهم على طبيعة روحه من الله بولادتهم منه ثانية (1 بطرس 1: 1، 2 بطرس 1: 4).

  3. وقال إشعياء النبي عن المسيح قبل مجيئه إلى الأرض بمدة 700 سنة، إنه أب أبدي (إشعياء 9: 6) - والأب الأبدي أو (أبو الأبدية) لا يمكن أن يسود عليه الموت كما يسود على الناس، بل أنه إذا مات كفارة عنهم، يموت بإرادته ومن ثم يقوم بعد ذلك بإرادته أيضاً.

  4. وبعدما تنبأ إشعياء عن موت المسيح قال عنه «يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ وَمَسَرَّةُ ٱلرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ» (إشعياء 53: 10 و11) - وإطالة أيامه، ونجاح خدمته التي سر الله بها، ثم شبعه هو بنتائج الخدمة المذكورة - كل هذه تدل بوضوح على وجوب قيامته من الأموات لتثبيت إيمان تابعيه.

  5. وقال الملاك جبرائيل لدانيال النبي قبل مجيء المسيح إلى الأرض بمدة 550 سنة «سَبْعُونَ أُسْبُوعاً (من السنين) قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَتِكَ ٱلْمُقَدَّسَةِ لِتَكْمِيلِ ٱلْمَعْصِيَةِ وَتَتْمِيمِ ٱلْخَطَايَا، وَلِكَفَّارَةِ ٱلإِثْمِ، (بواسطة المسيح) وَلِيُؤْتَى (على يده بعد موته) بِٱلْبِرِّ ٱلأَبَدِيِّ، وَلِخَتْمِ ٱلرُّؤْيَا وَٱلنُّبُوَّةِ، وَلِمَسْحِ قُدُّوسِ ٱلْقُدُّوسِينَ» (دانيال 9: 24) - ونظراً لأن هذه الأعمال (كما يعلن الوحي) سيقوم بها المسيح بعد موته الكفاري، لذلك لم يكن من الممكن أن يبقى ميتاً، بل كان لا بد أن يقوم من الأموات ظافراً منتصراً.

  6. وقال هوشع النبي حوالي سنة 500 ق.م. بلسان المسيح والمؤمنين الحقيقيين، حال كونهم متحدين بشخصه، عن الله: إنه «يُحْيِينَا بَعْدَ يَوْمَيْنِ. فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يُقِيمُنَا فَنَحْيَا أَمَامَهُ» (هوشع 6: 2) - فهذه الآية تدل بوضوح على قيامة المسيح من الأموات في اليوم الثالث، وقيامتنا شرعاً أيضاً معه. لأن حياتنا نحن المؤمنين مرتبطة بحياته كل الارتباط. إذ لو ظل ميتاً لما كانت لنا حياة أبدية على الإطلاق. ولذلك قال الرسول «اَللّٰهُ ٱلَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي ٱلرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ ٱلَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِٱلْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ ٱلْمَسِيحِ - بِٱلنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ - وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (أفسس 2: 4-6).

ثانياً: الأدلة على صدق شهادة أنبياء العهد القديم

فضلاً عن أن الشهادة المذكورة مدونة بالوحي الإلهي، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في صدقها كما ذكرنا مراراً، نقول:

  1. إن كتاب العهد القديم الذي يحوي هذه الرموز والنبوات، لا يزال موجوداً في أيدي اليهود، أعداء المسيح والمسيحية منذ القديم. ومن ثم لا مجال للظن بأنهم سمحوا لبعض المسيحيين بتسجيلها في الكتاب المذكور، لتأييد عقيدتهم بشأن قيامة المسيح من الأموات.

  2. إن الأنبياء الذين سجلوا الرموز والنبوات المذكورة عاشوا في بلاد متفرقة. فبعضهم عاش في بابل، والبعض الآخر في أورشليم. كما عاشوا في أزمنة متفاوتة أيضاً، فبعضهم عاش قبل الميلاد بألفي سنة، والبعض الآخر قبله بحوالي 500 سنة. وبالإضافة إلى ذلك كانوا يختلفون من جهة الثقافة والسن والنشأة والمركز الإجتماعي اختلافاً كبيراً. فكان من بينهم الملك الذي يعيش في القصر، والأسير الذي يعيش في السبي. ومن كان في ريعان الشباب، ومن بلغ من السن عتياً. ومن بلغ من الثقافة شأناً بعيداً، ومن عاش على الفطرة كل حياته. كما أن رموزهم ونبواتهم عن قيامة المسيح ليست على وتيرة واحدة بل خاصة بموضوعات متعددة، لا تربطها حسب الظاهر رابطة ما. ومن ثم لا يمكن أن تكون هذه الرموز والنبوات من باب توافق الخواطر، بل لا بد أنها من وحي الله، لأن الله هو الذي يعرف كل الأمور، قبل ظهور أي بادرة تدل عليها.

  3. إن النبوات الواردة في العهد القديم عن صلب المسيح قد تحققت تماماً، على الرغم من عدم إدراك اليهود أنها قيلت عنه، لذلك لا بد أن النبوات الخاصة بقيامته من الأموات، قد تحققت كذلك، لأن هذه النبوات مقترنة بتلك كل الاقتران.

  4. أخيراً نقول، إن بطرس الرسول اقتبس نبوة من هذه النبوات ليثبت لليهود الذين عاصروه أن المسيح كان لا بد أن يقوم من بين الأموات، فقال لهم «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ لَكُمْ جِهَاراً عَنْ رَئِيسِ ٱلآبَاءِ دَاوُدَ إِنَّهُ مَاتَ وَدُفِنَ، وَقَبْرُهُ عِنْدَنَا حَتَّى هٰذَا ٱلْيَوْمِ. فَإِذْ كَانَ نَبِيّاً، وَعَلِمَ أَنَّ ٱللّٰهَ حَلَفَ لَهُ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مِنْ ثَمَرَةِ صُلْبِهِ يُقِيمُ ٱلْمَسِيحَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ ٱلْمَسِيحِ أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَلا رَأَى جَسَدُهُ فَسَاداً. فَيَسُوعُ هٰذَا أَقَامَهُ ٱللّٰهُ، وَنَحْنُ جَمِيعاً شُهُودٌ لِذٰلِكَ. وَإِذِ ٱرْتَفَعَ بِيَمِينِ ٱللّٰهِ، وَأَخَذَ مَوْعِدَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ مِنَ ٱلآبِ، سَكَبَ هٰذَا ٱلَّذِي أَنْتُمُ ٱلآنَ تُبْصِرُونَهُ وَتَسْمَعُونَهُ. لأَنَّ دَاوُدَ لَمْ يَصْعَدْ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ. وَهُوَ نَفْسُهُ يَقُولُ: قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي (أو بالحري للمسيح من الناحية الجوهرية): ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ. فَلْيَعْلَمْ يَقِيناً جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ ٱللّٰهَ جَعَلَ يَسُوعَ هٰذَا، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبّاً وَمَسِيحاً». فَلَمَّا سَمِعُوا نُخِسُوا فِي قُلُوبِهِمْ» وآمن منهم بالمسيح جمع غفير (أعمال 2: 29-41) - الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على أن اليهود كانوا يعلمون أن المسيح بعدما مات، قام فعلاً من الأموات، كما أعلنت النبوات الواردة في التوراة التي يتمسكون بها.

وقد اقتبس الرسول بطرس قول النبي داود: «قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي» كما اقتبس المسيح هذه الآية في حديث له مع اليهود، لكي يثبت لهم أنه من جهة لاهوته، هو رب داود. فقال لهم: «مَاذَا تَظُنُّونَ فِي ٱلْمَسِيحِ؟ ٱبْنُ مَنْ هُوَ؟» قَالُوا لَهُ: «ٱبْنُ دَاوُدَ». قَالَ لَهُمْ: «فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِٱلرُّوحِ رَبّاً قَائِلاً: قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟ فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً، فَكَيْفَ يَكُونُ ٱبْنَهُ؟» (متى 22: 42-45). فلم يستطع واحد منهم أن يجيبه بكلمة. لكن الإجابة واضحة كل الوضوح، فالمسيح هو رب داود من حيث اللاهوت. وهو ابن داود من حيث الناسوت، لأن العذراء مريم التي ولد المسيح منها، كانت من نسل داود (لوقا 1: 27). ولكن عدم رغبة اليهود في الإعتراف بربوبية المسيح، هي التي منعتهم من الإجابة على سؤاله.

الباب الثاني: اليهود وقيامة المسيح

1 - آراء اليهود الذين عاصروا المسيح، والرد عليها

إن اليهود الذين لم يكن لديهم علم بحقائق الأمور، كانوا يعتقدون بناء على ما تلقوه من كهنتهم، أن تلاميذ المسيح سرقوا جسده ليلاً. ثم أشاعوا أنه قام من بين الأموات، كما ذكرنا في حادثة القيامة، وللرد على هذا الإعتقاد نقول:

  1. إن أورشليم كانت في عيد الفصح (الفترة التي صُلب المسيح فيها)، مكتظة باليهود الذين أتوا إليها من كل صوب وحدب، لكي يحضروا هذا العيد هناك، وكانوا كعادتهم يقضون ليالي العيد السبع في ترتيل أناشيدهم التقليدية على ضوء القمر الساطع، وهم سائرون في الشوارع أو جالسون في الخيام التي كانوا ينصبونها في الطرقات، لأن العيد المذكور كان يقع دائماً عند منتصف الشهر القمري (خروج 12: 6). ولذلك لا يعقل إطلاقاً أن يكون تلاميذ المسيح قد فكروا وقتئذ في سرقة جسده، إن كانت لديهم النية لسرقته.

  2. فضلاً عن ذلك فإن صلب المسيح كان قد بدد آمال تلاميذه من جهته، كما ملأ قلوبهم بالرعب والفزع من اليهود والرومان على السواء، ولذلك هرب بعضهم واختبأ البعض الآخر (مرقس 14: 50-52 ، يوحنا 20: 19) - وأشخاص مثل هؤلاء، لو كانوا قد فكروا في سرقة جسد المسيح، لا يمكن أن تكون قد اجتمعت كلمتهم في بحر ثلاثة أيام، وامتلأوا شجاعة وإقداماً، ففتحوا قبر المسيح وسرقوا جسده، ليس فقط لأن جموعاً كثيرة من الناس كانت تسير في كل مكان وقتئذ، بل لأنه كان هناك حول القبر أيضاً جنود مدججون بالسلاح من حرس الهيكل اليهودي (متى 27: 65 و66)، يبلغ عددهم كما يقول المؤرخون ستين جندياً، يشرف عليهم أحد ضباط الرومان - وهؤلاء الجنود كانوا ولا شك، في غاية اليقظة والإنتباه، إذ أن القانون كان يقضي بالإعدام على كل من ينام منهم في مدة الحراسة. كما كان الضابط الروماني الذي يشرف عليهم، يراقبهم أشد المراقبة، الأمر الذي كان يزيد من حرصهم على القيام بمهمتهم خير قيام. أضف إلى ما تقدم، أن الجنود المذكورين كانوا بسبب موالاتهم لرؤساء الكهنة يحقدون على تلاميذ المسيح، ويتأهبون للقبض عليهم، إذا حاولوا سرقة جسده، كما أدخل هؤلاء الرؤساء في روع الجنود من قبل.

  3. كما أنه ليس من المعقول أن يكون تلاميذ المسيح قد رشوا الجنود المذكورين حتى يسمحوا لهم بسرقة جسده. إذ فضلاً عن أن هؤلاء التلاميذ كانوا على جانب عظيم من الأخلاق الكريمة التي لا تسمح لهم بهذا التصرف، لم يكونوا من الأثرياء أو ذوي النفوذ والجاه، بل كان جلهم من صيادي السمك الفقراء الذين يملكون بالكاد قوت يومهم. فضلاً عن ذلك، فإن الحراس لم يكونوا جميعاً من البلاهة بمكان، حتى يعرضوا أنفسهم للإعدام مقابل الحصول على شيء من المال.

    ولو فرضنا أن تلاميذ المسيح لم يكونوا على شيء من الأخلاق الكريمة، وأنهم استطاعوا بوسيلة ما أن يرشوا الحراس والضابط الروماني معاً حتى يسمحوا لهم بسرقة جسد المسيح، لكانوا قد سرقوه بالأكفان، أو طرحوا الأكفان دون ترتيب، وسرقوه وحده كما يفعل اللصوص. ولكان رؤساء الكهنة من الناحية الأخرى، قد عملوا على إجراء تحقيق مع الحراس، وقدموهم إلى المحاكمة بتهمتي الرشوة والخيانة، وتحقيق آخر مع تلاميذ المسيح، ليس فقط لأن سرقة أجساد الموتى جريمة يعاقب عليها القانون، بل وأيضاً لأن خبر قيامة المسيح كان يزعج هؤلاء الرؤساء ويهدد سلطانهم بالانهيار والزوال. لكن بالرجوع إلى التاريخ لا نرى أن تحقيقاً مثل هذا أو ذاك قد حدث، بل بالعكس نرى كثيرين من الكهنة قد آمنوا بقيامة المسيح وصاروا مسيحيين (أعمال 6: 7)، الأمر الذي يدل على أن رؤساء الكهنة المذكورين كانوا يعلمون علم اليقين، بينهم وبين أنفسهم، أن المسيح قام حقاً من بين الأموات (متى 28: 11-15).

  4. ولو فرضنا جدلاً أن الحراس والضابط الروماني الذي كان يشرف عليهم، قد أخذتهم جميعاً سِنَةٌ من النوم (كما أوعز إليهم أن يقولوا)، فليس من المعقول أنه لم يستيقظ واحد منهم على صوت دحرجة الحجر عن فوهة القبر - لو كان تلاميذ المسيح أو غيرهم حاولوا سرقة جسده - لأن هذا الحجر كان كبيراً لا يمكن دحرجته إلا بواسطة بضعة رجال أشداء، ولأن الحراس (إن كانوا قد ناموا) لا بد أن يكون بعضهم قد نام على هذا الحجر، ونام البعض الآخر بجواره (خشية أن يسرق أحد جسد المسيح، كما أدخل الكهنة في روعهم من قبل)، ولذلك لا بد أن يكون قد استيقظ على الأقل نفر منهم عند دحرجة الحجر المذكور (إن كان قد دحرج وقتئذ)، وقبضوا للتو على الأشخاص الذين قاموا بسرقة جسد المسيح، إن كان هناك مثل هؤلاء الأشخاص.

  5. ولو فرضنا جدلاً أيضاً أن الحراس جميعاً قد استغرقوا في سبات عميق للغاية (كما يقال عن أهل الكهف)، وأنه لم يستيقظ واحد منهم على صوت دحرجة الحجر (إذا كان أحد من البشر قد دحرجه)، فكيف عرفوا أن تلاميذ المسيح هم الذين سرقوا جسده؟ أليس ادعاؤهم بأن هؤلاء التلاميذ هم الذين سرقوه، يتعارض كل التعارض مع القول إنهم جميعاً كانوا نياماً؟!

  6. أخيراً نقول: إن تلاميذ المسيح كانوا لا يصدقون في أول الأمر أن المسيح سيقوم من الأموات (يوحنا 16: 16-28)، أو يعرفون وقتئذ ما لهذه القيامة من ضرورة أو فائدة كما ذكرنا في حادثة القيامة، لذلك لا يعقل إطلاقاً أن يكونوا قد سرقوا جسد المسيح، لكي يعلنوا أنه قام من بين الأموات كما يدعي اليهود.

2 - آراء اليهود المعاصرين، والرد عليها

كتب يهودي يدعى هيوشنفيلد كتاباً عن المسيح جاء فيه «إنه هو الذي دبر عملية صلبه كجزء من مؤامرة خاصة، ولذلك قبل أن يطرحه الرومان على الصليب، تناول مخدراً حتى لا يشعر بآلام الصلب التي كانت ستحل به. وبعد ثلاث ساعات من صلبه، نقله تلاميذه وهو على قيد الحياة إلى القبر، وهناك وضعوا في أكفانه الكثير من العقاقير والعطور التي ساعدت على التئام جروحه وإنعاش نفسه. وقد انتهزوا فرصة عطلة يوم السبت وهو اليوم التالي لصلبه، وسرقوه في غفلة من الحراس، ثم ذهبوا به إلى بلاد بعيدة، فعاش في هذه البلاد حتى مات».

فالمسيح (كما يُستنتج من أقوال هيوشنفيلد) هو الذي أثار اليهود ضده ليصلبوه، ثم أوعز لأتباعه (كما يتضح من باقي الرواية) أن يدفنوه قبل أن يموت، وأن يساعدوه بعد ذلك على الخروج من القبر في اليوم الثالث، حتى يُقال إنه قام من بين الأموات - ودعوى مثل هذه لا يصدقها من لديه ذرة من التفكير السليم، لأن المسيح فضلاً عن كماله المطلق الذي يرفعه عن مثل هذا التصرف، كان في وسعه أن يتجنب الصلب من أول الأمر، وذلك بالكف عن توبيخ رجال الدين على شرورهم وآثامهم.

وللرد على هذه الدعوى نقول:

  1. إن المسيح، كما يتضح من حادثة صلبه، رفض أن يتناول مخدراً قبل توقيع الصلب عليه (مرقس 15: 23)، لأنه أراد أن يتحمل الآلام كما هي، حتى تكون كفارته عن البشرية كفارة قانونية. لكن لما أحس قبيل موته بالعطش الشديد بسبب الإجهاد الذي كان يعانيه على الصليب، والحر اللافح الذي كان يحيط به في رابعة النهار، طلب أن يشرب. فقدم له الجنود نوعاً من الخل (يوحنا 19: 28 و29)، لذلك ليس من الأمانة في شيء أن يُقال إنه تناول مخدراً حتى لا يشعر بآلام الصليب.

  2. إن تلاميذ المسيح كانوا قد هربوا عندما قبض اليهود عليه، ولم يبق منهم إلا يوحنا الرسول. ولو فرضنا جدلاً أن الشجاعة قد دبت في نفوس التلاميذ وقتئذ واندفعوا إلى الصليب لإنزال المسيح عنه، لما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، لأن المسيح كان محاطاً بجنود الرومان واليهود، الذين كانوا يبعثون الرعب وكل الرعب إلى نفوسهم. كما كان محاطاً برؤساء الكهنة الذين كانوا يريدون التأكد من موته قبل إنزاله عن الصليب، لأنه كان ألد أعدائهم في الوجود، ومن ثم لا مجال للقول إن تلاميذ المسيح أنزلوا جسده عن الصليب قبل أن يموت. فإذا أضفنا إلى ذلك، أن واحداً من الجنود طعن المسيح بحربة في جنبه حتى إذا كان به رمق من الحياة، يقضي عليها بهذه الطعنة (يوحنا 19: 34)، اتضح لنا بكل جلاء أن المسيح لا بد أنه كان قد مات قبل إنزاله عن الصليب.

  3. أخيراً نقول: إذا وضعنا أمامنا (أولاً) أن المسيح لم يُدفع للصلب رغماً عنه (لأنه كان في وسعه أن يتجنبه من أول الأمر، وذلك بالكف عن توبيخ رؤساء الكهنة بسبب شرورهم)، بل تقدم إليه بمحض اختياره. (ثانياً) أنه لم يكن جباناً أو رعديداً حتى يهرب كما يهرب اللصوص، بل كان طوال حياته شجاعاً جريئاً يواجه الأعداء في قلاعهم، ويوبخهم بكل شدة في وجوههم (متى 23: 13-39). (ثالثاً) ليس هناك أي كتاب تاريخي يدل على أن المسيح غادر اليهودية بعد حادثة الصلب.

الباب الثالث: الفلاسفة المحدثون وقيامة المسيح

أقرَّ الفلاسفة المحدثون، مثل ستروس وكرسوب وفنتوريني وهولتزمان وليك ورينان ولوزايه، الذين اشتغلوا بنقد الكتاب المقدس (حسب زعمهم)، حادثة صلب المسيح وكتبوا الشيء الكثير عنها، لأنهم كانوا يبنون آراءهم ليس على عقائد خيالية أو تصورات ذهنية كالغنوسطيين، بل على الحقائق التاريخية المدونة في السجلات الرسمية.

والغنوسطيون فلاسفة ظهروا في القرن الثاني للميلاد كانوا يعتقدون أن الجسم الذي ظهر فيه المسيح في العالم كان جسماً أثيرياً لا مادياً، وجسم مثل هذا لا يمكن القبض عليه، ولذلك كانوا ينكرون صلبه. ولكن صورة الحكم الذي أصدره بيلاطس عن صلب المسيح اكتُشفت وكذلك الرسالة التي رفعها إلى طيباريوس قيصر عن صلبه في القرن الثالث عشر: الأولى في دير رهبان الكارتوزيان بمدينة نابولي، والثانية في روما عاصمة إيطاليا. كما أن نُسخ الكتاب المقدس الأثرية التي يرجع تاريخها إلى القرن الرابع، ومؤلفات المؤرخين القدامى من اليونان واليهود والمسيحيين، تشهد جميعها بصلب المسيح.

لكن نظراً لأن قيامة المسيح من الأموات تسمو فوق العقل، وفي الوقت نفسه لم تدون في مثل هذه السجلات بسبب عدم دخولها في اختصاص المحاكم والحكومات، قاوموها جميعاً بكل قواهم. وفي سبيل مقاومتهم إياها ذهب كل منهم إلى ابتداع رأي، قال إنه السبب في اعتقاد تلاميذ المسيح بقيامته من الأموات، وفيما يلي هذه الآراء مصحوبة بالرد عليها.

1 - الآراء الخاصة بالأوهام، والرد عليها

  1. من المحتمل أن يكون تلاميذ المسيح رأوا بعد موته شخصاً يشبهه، فاعتقدوا أنه المسيح بعينه.

    الرد: ظل كثير من الناس يعتقدون زمناً طويلاً أن أرواح البشر الذين ماتوا، هي التي يُؤتى بها في العمليات التي تُدعى «استحضار الأرواح»، حتى اتضح للمخلصين منهم أخيراً أن الذي يؤتى بها في هذه العمليات هي أرواح شيطانية، وذلك للأسباب الآتية: (أ) أُصيب كثير من المشتغلين في العمليات المذكورة بالجنون - والجنون يحدث بسبب اضطراب في النفس بسبب تأثير الأرواح الشيطانية، كما يعلم المشتغلون في هذه العمليات، والعمليات التي على شاكلتها. (ب) تنطوي المعلومات التي تأتينا من الأرواح المذكورة على التضليل، فتُدخِل في روع الناس أنهم سيستأنفون في العالم الآخر حياتهم وأعمالهم التي بدأوا بها على الأرض، وأنهم سيتزوجون هناك ويزوجون ويأكلون ويشربون، كما تدخل في روعهم أنه لن يكون هناك بعث أو ثواب وعقاب، بل أن يوم وفاة البشر هو يوم بعث أرواحهم، وأن اللّه لن يدينهم بسبب خطاياهم، بل هم الذين سيدينون أنفسهم بأنفسهم (عن كتب سير أليفر لودج، وأرثر كونان دويل، عن الأرواح)، وبذلك تصرفهم عن اللّه والطاعة له. والذين يضلون الناس ويبعدونهم عن اللّه هم الشياطين لأنهم مطبوعون على الكذب (يوحنا 8: 44). (ج) قاوم كثيرون من الأساتذة والعلماء (مثل الدكتور ستانلي هول رئيس جامعة كلارك الأمريكية، والأستاذ مورسيللي المحامي بإيطاليا، والسير إدوار مارسال هول المحامي) علم استحضار الأرواح، وأعلنوا أن مادة الإكتوبلازم التي يقال إن الأرواح البشرية تتكون منها، هي مادة لا وجود لها على الإطلاق.

    أخيراً نقول إن أرواح البشر (كما أعلن الكتاب المقدس) تذهب بعد خروجها من أجسادها إما إلى الفردوس أو إلى الهاوية، وتظل في أحد هذين المكانين تحت سلطان اللّه المطلق، حتى يحين وقت ذهاب كل منها إلى مقره النهائي. واللّه ليس طبعاً تحت سلطان الناس مهما كان شأنهم، حتى يسمح للأرواح المذكورة بالخروج من مكانها للتحدث معهم، ثم يردها بعد ذلك إلى مكانها الذي خرجت منه. ولذلك لا شك أن الشياطين هم الذين يحضرون في العمليات المذكورة.

    أما الدعوى (بأن الأرواح المذكورة تظهر بأشكال الموتى وتنطق بما كانت تفعله في أجسادها، ومن ثم تكون هي أرواحهم بعينها)، فلا مجال لها على الإطلاق، لأن الشياطين تستطيع أن تتشكل حتى بأشكال الرسل والأنبياء والملائكة، وأن تتكلم أيضاً بأسمائهم (2 أخبار 18: 20-22 ، 2 كورنثوس 11: 4). فضلاً عن ذلك فبسبب انتشارها في بقاع الأرض المختلفة وعدم تعرضها للموت مثلنا، يمكنها أن تعرف أسماء الناس وما كانوا يفعلونه قبل موتهم، كما تعرف ما يفعله غيرهم في الجهات المتفرقة من العالم.

    أما الذين نادوا بأنهم رأوا المسيح بعد موته فلم يروه مرة واحدة أو مرات قليلة قبل موته، حتى كان يجوز الظن بأنهم لم يكونوا على بينة من الشخص الذي ظهر لهم بعد موت المسيح، بل هم تلاميذه الذين كانوا يعرفونه كل المعرفة، لأنهم كانوا يلازمونه ليلاً ونهاراً. فليس من المعقول إطلاقاً أن يكونوا قد ظنوا أن شخصاً ما هو المسيح، حتى إذا كان يشبهه. لأنه إذا تشابه بعض الناس إلى حد ما في وجوههم، فإنهم يختلفون من جهة أصواتهم ومعلوماتهم وعاداتهم وأخلاقهم وتجاربهم مع غيرهم.

  2. إن المسيح ظهر لتلاميذه بروحه في رؤيا، فانخدعوا واعتقدوا أنه قام من بين الأموات.

    الرد: فضلاً عن أن الأرواح بعد خروجها من أجسادها لا تظهر للبشر، وأن ما يقال عن ظهورها لهم، لا يتعدى مجال الحلم بها أو التوهم بحضورها، الأمر الذي لا يدع مجالاً لهذا الإعتراض نقول:

    (أ) إن المسيح لم يظهر لتلاميذه في هيئة روح بل في ذات جسده كما ذكرنا فيما سلف. وقد تأكد من هذه الحقيقة ليس تلميذ واحد بل تلاميذه جميعاً، فقد نظروه بعيونهم ولمسوه بأيديهم وسمعوا صوته بآذانهم. فضلاً عن ذلك قدموا له طعاماً فأكل قدامهم، كما أخذ يعلمهم ويجيبهم عن أسئلتهم مثلما كان يفعل من قبل تماماً.

    (ب) إن تلاميذ المسيح كانوا يفرقون تماماً بين الرؤيا والرؤية. فأطلقوا على الأولى إسم «الغيبة» أو «الغيبوبة». ومن أمثلتها الرؤيا التي ظهرت لحنانيا (أعمال 9: 10)، ولبطرس (أعمال 10: 10). ولكن عند حديثهم عن ظهور المسيح لهم كانوا يعلنون أنهم رأوه بذاته، كما ذكرنا.

    وهكذا الحال من جهة بولس الرسول الذي آمن بالمسيح بعدهم، فإنه كان يفرق بين الرؤيا والرؤية مثلهم، فيسجل لنا في (أعمال 16: 9، 22: 17 ، 2 كورنثوس 12: 1) ما شاهده من رؤى. ولكن عند حديثه عن ظهور المسيح له (أعمال 9) يقرر أنه كان في وقت اليقظة وليس في رؤيا أو غيبوبة.

  3. إن ظهور المسيح لتلاميذه بعد موته، تم بعملية استحضار الأرواح.

    الرد: بالرجوع إلى الظروف التي كان التلاميذ يرون المسيح فيها، لا نجد هناك شرطاً من الشروط التي يقال بوجوب توافرها لاستحضار الأرواح. فالتلاميذ (أولاً) لم يأتوا بوسيط يحضر روح المسيح (لو فرضنا جدلاً إمكانية حدوث ذلك) حتى يتحدثوا معه (ثانياً) إنهم لما رأوه، لم يكونوا في حجرة مظلمة أو في حجرة بها لون خاص من الإضاءة، كالحجرات التي تستخدم في استحضار الأرواح (كما يقولون)، بل كانوا إما في حجرة ضوءها معتاد، أو في بستان في الخلاء، أو في طريق عام، أو على شاطئ بحر، أو سفح جبل. (ثالثاً) إنهم لم يروا المسيح في أي مكان من هذه الأمكنة في هيئة روحية كالأرواح التي يقال باستحضارها، بل رأوه في ذات جسده الذي عرفوه من قبل. وقد تأكدوا بوسائط متعددة من وجود هذا الجسد له، إذ رأوا المسيح فيه بعيونهم ولمسوه بأيديهم، كما أعطوه طعاماً فأكل قدامهم كما ذكرنا.

    ولذلك ليس هناك مجال للظن بأن ظهوره لهم كان بواسطة عملية استحضار الأرواح، إن كان هناك مجال لاستحضارها.

  4. إن قول تلاميذ المسيح بظهوره لهم بعد موته، يرجع إلى اعتقادهم «بالرجعة» التي كان يؤمن بها فريق من اليهود من قبل.

    الرد: بالرجوع إلى تاريخ اليهود نرى أن الذين كانوا يتمسكون بالإعتقاد بالرجعة، أو بالحري برجوع يشوع بن نون (الذي كان يقود أجدادهم في حروبهم بعد موسى النبي) إلى الأرض بعد موته، لكي يقودهم مرة أخرى في الحرب ضد أعدائهم من الفرس وغيرهم. وبرجوع إيليا النبي بعد صعوده إلى السماء، إلى الأرض أيضاً لكي يرشدهم ويهديهم كما كان يفعل من قبل، كانوا قد عدلوا عن اعتقادهم المذكور قبل الميلاد بمدة طويلة، إذ طغى عليه الإعتقاد بمجيء المسيا الذي سيقوم (حسب ظنهم) بإعادة الملك إليهم إلى الأبد. ومن ثم ليس هناك مجال للظن بأن تلاميذ المسيح قالوا بقيامته من بين الأموات بسبب اعتقادهم بالرجعة المزعومة.

    ولم توجد «فكرة الرجعة» لدى بعض اليهود فحسب، بل وُجدت بعد ذلك لدى بعض المسلمين أيضاً. فجماعات السبائية والباقرية والرافضة والإسماعيلية والشيعة تعتقد أن علياً لم يمت، بل أنه في غيبة، وأنه سيجيء في السحاب وينزل إلى الأرض ليملأها عدلاً (الشهرستاني ج 1ص 163، 164، ج 2 ص 5: 22).

  5. كان تلاميذ المسيح يعتقدون أنه سيقوم بعد موته كما قال لهم من قبل، ومن ثم خيل لهم أنه قام، وأنه ظهر لهم وتحدث معهم أيضاً. ولذلك فأقوالهم عن قيامته كانت مجرد أوهام أو تهيؤات لا وجود لها في عالم الحقيقة، شأنها في ذلك شأن أوهام بعض الناس وتهيؤاتهم.

    الرد:

    1. إن المسيح وإن كان قد قال لتلاميذه إنه سيقوم بعد موته، لكن هذا القول لم يكن له وقع في نفوسهم، ومن ثم لم يفهموا منه شيئاً (مرقس 9: 30-32، لوقا 18: 31-34)، لأن فكرة بقاء المسيح (أو المسيا) على الأرض إلى الأبد، وعدم تعرضه للموت بحال، كانت متسلطة وقتئذ على أذهانهم جميعاً، إذ أنها من صميم اعتقاداتهم القومية (يوحنا 12: 34). ومن ثم عندما رأوه قد صلب ومات، تبددت ثقتهم فيه كالمسيا، وقطعوا الأمل نهائياً من جهته. والدليل على ذلك أن مريم المجدلية عندما وجدت القبر فارغاً، اعتقدت أن شخصاً ما أخذ جسد المسيح. وأن التلاميذ عندما سمعوا منها أنها رأت المسيح، لم يصدقوا في أول الأمر، كما بدا لهم حديثها وحديث غيرها من النساء كالهذيان. فضلاً عن ذلك فإن المسيح عندما ظهر فجأة لهم في الغرفة التي كانوا قد أحكموا غلقها، اعتقدوا في أول الأمر أنه روح من الأرواح. ولما أخبروا توما بعد ذلك أنهم رأوا المسيح لم يصدق، وقال لهم: «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ (مكان الحربة)لا أُومِنْ» (يوحنا 20: 25).

      وهكذا الحال من جهة تلميذي عمواس، فإنهما لم يفطنا في أول الأمر أن المسيح هو الذي كان يسير معهما، لأنه لم يكن يدور في خلدهما أن المسيح سيقوم من بين الأموات.

    2. ولكن الحقيقة الواقعة هي أن تلاميذ المسيح آمنوا بقيامته، ليس لأنه قال لهم من قبل إنه سوف يقوم من الأموات، بل لأنهم (كما ذكرنا فيما سلف) تأكدوا من قيامته بأدلة متعددة. وبالإضافة إلى ذلك فإن الذين أعلنوا أنهم رأوا المسيح بعد موته لم يكونوا فقط من رسله (حتى كان يظن أن تأثرهم الشخصي بقوله عن وجوب قيامته بعد موته، هو الذي جعلهم يعتقدون أنه قام)، بل إن الذين أعلنوا أنهم رأوه بعد موته كانوا أكثر من خمسمائة من أتباعه (1 كورنثوس 15: 6).

      وهؤلاء، فضلاً عن اختلاف أحدهم عن الآخر من جهة السن والطباع والثقافة والنشأة والمركز الإجتماعي، لا يمكن أنهم كانوا جميعاً على درجة واحدة من التأثر بقول المسيح السابق ذكره. ولذلك لا يعقل إطلاقاً أن يكونوا جميعاً قد انخدعوا، فاعتقدوا أنهم رأوا المسيح، والحال أنهم لم يروا إلا صورة ذهنية كانت تختلج في نفوسهم من جهته.

    3. كما أن الذين رأوا المسيح، لم يروه عن بعد، أو رأوه برؤية خاطفة (حتى كان يظن أنهم لم يتحققوا من شخصيته)، بل رأوه عن قرب، وفي فترات طويلة أيضاً. كما أنهم لم يروه فقط وهم مجتمعون معاً (حتى كان يظن أنهم انخدعوا تحت تأثير ما)، بل رأوه أيضاً كأفراد في أوقات متفرقة، وتجاذب كل منهم أطراف الحديث معه بصفة شخصية.

      أضف إلى ما تقدم أنهم لم يروه في مكان مهجور أو مظلم (حتى كان يظن أنهم رأوا شبحاً لا حقيقة له)، بل كانوا يرونه في بيت اعتادوا الإقامة فيه، وفي طريق ألفوا السير عليه، وعند شاطئ بحر كانوا يعرفون كل بقعة منه، وفي مكان من الجليل كانوا يترددون بكثرة عليه. كما أنهم لم يروه فقط في المساء (حتى كان يظن أن بصرهم قد خدعهم)، بل رأوه أيضاً في الصباح (يوحنا 21: 4-17 ، ومرقس 16: 2)، وفي العصر (لوقا 24: 13-21)، حيث تظهر الأمور على حقيقتها. ولم يكن تلاميذ المسيح من ضعاف الأعصاب الذين تبدو أمامهم الأشباح في بعض الأحيان حقائق، بل كان معظمهم من طبيعة خشنة اعتادت السير في البحار وركوب الأخطار، وكان الباقون بحكم نشأتهم وأعمالهم يتميزون (كما يتضح من تاريخ حياتهم والمهن التي كانوا يقومون بها)، إما بالتدقيق والتأني، أو الحيطة والحذر، أو الشك والتردد، الأمر الذي يجعلهم أبعد ما يكون عن التأثر بالأوهام والتخيلات.

    4. أخيراً نقول (أولاً) لو كانت رؤية التلاميذ للمسيح من باب التهيؤات، لكانوا قد قابلوها بفرح وابتهاج وليس بشك واضطراب كما رأينا فيما سبق، ولكانوا أيضاً قد سمعوا أمراً بالكرازة بالإنجيل ليس لكل الأمم، بل لليهود فحسب، لأنهم كانوا يريدون أن يحتفظوا بالمسيح لشعبهم اليهودي بسبب احتقارهم لهذه الأمم. (ثانياً) إن التهيؤات التي يمكن أن تجول في أذهان بعض الناس عن شخص ما، لا يمكن أن تكون بعينها عند البعض الآخر، بل لا بد أنها تختلف من إنسان إلى آخر تبعاً لحالته النفسية أو اختباراته الشخصية، بينما الحالة التي أعلن تلاميذ المسيح (على الرغم من الإختلافات الكثيرة التي كانت بين بعضهم والبعض الآخر) أنهم رأوه بها، في كل مرة من المرات التي كانوا يشاهدونه فيها، هي حالة واحدة، وهذه الحالة هي وجوده في ذات جسده الذي عرفوه من قبل. (ثالثاً) إن التلاميذ عندما أعلنوا عن رؤية المسيح، لم يكونوا في حالة التفكير فيه أو الشوق إليه، حتى كان يظن أن تفكيرهم وشوقهم هما اللذان جعلاهم يتوهمون أن المسيح ظهر لهم، بل كانوا منصرفين وقتئذ إنصرافاً تاماً إلى المحافظة على أرواحهم (يوحنا 20: 19)، أو الحصول على الطعام اللازم لهم (يوحنا 21: 3-13). كما أننا إذا نظرنا إليهم كأفراد نرى أن مريم كانت تجهش في البكاء، والنساء كن خائفات مرتعبات، وبطرس كان يقع تحت تأنيبات ضميره اللاذعة، وتلميذي عمواس كانا يتأسفان لعدم تحقيق أملهما في الخلاص من الرومان، وتوما كانت تساوره الشكوك وتستبد به. (رابعاً) إن التهيؤات والتخيلات تكون في أول الأمر واضحة، ثم تقل في الوضوح شيئاً فشيئاً حتى تتلاشى بمرور الزمن، بينما منظر المسيح بالنسبة إلى تلاميذه كان واضحاً كل الوضوح في كل مرة قالوا برؤيتهم له فيها، كما أنهم لم يسمعوا من المسيح حديثاً واحداً في كل مرة كان يظهر لهم فيها، بل كانوا يسمعون منه في كل مرة حديثاً يختلف عن الحديث الذي كانوا يسمعونه منه في المرة السابقة لها، وذلك تبعاً للأسئلة التي كانوا يتقدمون بها إليه، واستمر الأمر على هذا المنوال زهاء أربعين يوماً، انقطعت بعدها رؤيتهم له وأحاديثه معهم دفعة واحدة. (خامساً) إن حماس التلاميذ في نشر خبر قيامة المسيح لم ينته بانتهاء الأربعين يوماً، التي أعلنوا أنهم كانوا يرونه فيها، بل ظل طوال حياتهم على الأرض، على الرغم من الإضطهاد الذي كانوا يقابلون به من كهنة اليهود، والتهكم الذي كانوا يقابلون به من فلاسفة اليونان. ولذلك لا يمكن أن تكون رؤيتهم للمسيح ضرباً من التهيؤات أو التخيلات على الإطلاق.

2 - الآراء الخاصة بسرقة جسد المسيح أو تحلله أو عدم العثور على قبره

  1. سرق يوسف الرامي جسد المسيح من القبر وأخفاه في مكان لا تتجه إليه الأنظار. لأن هذا القبر كان ملكاً له، وكان قد أحاطه ببستان يعتز به، فخشي على هذا البستان من التلف بسبب كثرة الناس الذين كانوا عتيدين أن يزوروا القبر المذكور. ولذلك فالقول بقيامة المسيح من الأموات ليس له نصيب من الصواب.

    الرد

    1. كان يوسف الرامي رجلاً باراً كريماً، كما قيل عنه إنه كان مشيراً (أو مستشاراً) شريفاً (مرقس 15: 43). وهو الذي تجاسر وطلب من بيلاطس أن يأذن له بدفن جسد المسيح، كما أنه هو الذي كفن هذا الجسد باحترام عظيم ودفنه في قبره الخاص. فلو كان قد أراد نقل جسد المسيح للسبب المزعوم، لما التجأ إلى طرق التهريب التي لا يلجأ إليها إلا الرعاع، بل إلى الطرق القانونية التي تتبع في مثل هذه الحالة.

    2. ولو فرضنا جدلاً أنه فكر في السرقة، لما استطاع إليها سبيلاً، لأن القبر كان محروساً بثلة من الجنود كانوا في غاية اليقظة والإنتباه. كما أنه ليس من المعقول أن يكون قد قدم لهم رشوة ما، حتى يسمحوا له بأخذ جسد المسيح. لأنه بالإضافة إلى مكانته الأدبية السامية التي ترفعه عن هذا التصرف، فإن الجنود كانوا يهوداً (متى 27: 62-66) موالين لرؤساء الكهنة، وكانوا بطبيعة الحال يكرهون يوسف والتلاميذ لعلاقتهم بالمسيح. وفي الوقت نفسه، كانوا تحت إشراف ضابط روماني يهابونه ويعملون له حساباً كبيراً. فضلاً عن ذلك لم يكونوا بلهاء حتى يعرضوا أنفسهم للإعدام في سبيل الحصول على شيء من المال كما ذكرنا فيما سلف.

    3. ولو فرضنا أن يوسف سرق جسد المسيح قبل مجيء الحراس، مع أنه لا يمكن أن يكون قد جال بنفسه هذا الخاطر وقتئذ - لتأثره الشديد بصلب المسيح - لكان رؤساء الكهنة والحكام قد أجروا تحقيقاً مع جميع أتباع المسيح وفي مقدمتهم يوسف هذا، لأنه كان موالياً للمسيح ومن أتباعه المخلصين، ليس فقط لأن سرقة أجساد الموتى جريمة يعاقب عليها القانون، بل لكي يقضوا أيضاً على الشهادة بقيامة المسيح التي كانت تزعجهم، وتحول كثيرين من اليهود عن ديانتهم. لكن بالرجوع إلى التاريخ لا نرى أنه قد حدث تحقيق بهذا الشأن، الأمر الذي يدل على أن جسد المسيح لم يسرق على الإطلاق.

    4. ولو فرضنا أيضاً أن يوسف قد مات قبل إجراء أي تحقيق بشأن جسد المسيح، لكانت العذراء على الأقل قد عرفت بواسطة بعض الناس، المكان الذي يقول المعترضون إن يوسف دفن فيه جسد المسيح بعد سرقته إياه (لأنه لا يعقل أن يكون يوسف قد قام بمفرده بالسرقة إن كان قد قام بها)، إذ أنها تتطلب دحرجة حجر كبير لا يمكن لأقل من بضعة رجال أشداء دحرجته. ولكان قد عرفه أيضاً غيرها من المؤمنين والمؤمنات وحافظوا على رفات المسيح فيه بكل إجلال واحترام. لكن القبر المعروف لدى جميع المسيحيين وغير المسيحيين من فجر المسيحية إلى الآن، وهو القبر الفارغ، وهذا دليل واضح على أن المسيح قام من الأموات كما ذكرنا.

    5. أخيراً نقول إن المسيح لم يكن له أحباء كثيرون في ذلك الوقت، حتى كان يوسف يخشى على بستانه من كثرة زيارتهم لقبر المسيح، فتلاميذه كانوا وقتئذ قليلين. كما أنهم لضعفهم وخوفهم من اليهود لم يبدُ على أحدهم نية القيام بزيارته (يوحنا 20: 19). فإذا أضفنا إلى ذلك، أن المنديل الذي كان ملفوفاً حول رأس المسيح، والأكفان التي كانت محيطة بجسده، وملتصقة بعضها بالبعض الآخر بمزيج المر والعود كما ذكرنا فيما سلف، وجدهما التلاميذ واليهود داخل القبر في نفس الموضعين اللذين كانا فيهما بالنسبة إلى رأس المسيح وجسده عند دفنه، وبنفس الهيئة التي كانا ملفوفين بها عندئذ، دون أن تنحل عقدة من عقدهما أو طية من طياتهما، وكأنهما لا يزالان يحويان جسد المسيح بكامله، اتضح لنا بدليل ليس بعده دليل، أن جسد المسيح لا يمكن أن يكون قد سرق، بل لا بد أن يكون قد نفذ من بين الأكفان بطريقة معجزية، تاركاً هذه الأكفان كما هي، لأن السارق كان يسرق الجسد بالأكفان المحيطة به. ولو أراد أن يسرقه وحده (وإن كان هذا أمراً مستبعداً، لأن السارق يريد أن يقوم بمهمته بكل سرعة حتى لا يراه أحد)، لكان قد نزع الأكفان وألقى بها دون ترتيب أو نظام.

  2. سرق بيلاطس البنطي جسد المسيح من القبر، ليغيظ اليهود الذين أرغموه على صلب المسيح.

    الرد

    1. لم يكن بيلاطس بحكم مركزه في حاجة إلى من يذكره بأنه لو أقبل على سرقة جسد المسيح لافتضح أمره، لأن الحراس الذين كانوا حول قبر المسيح كانوا حراس الهيكل اليهودي الموالين للكهنة، ولذلك كانوا بحكم مركزهم وديانتهم يكرهون بيلاطس كل الكراهية. ولو فرضنا أنه أجزل العطاء لكل منهم، فليس من المعقول أن يحفظوا جميعاً سر السرقة (إن كانت قد حدثت) عن كهنتهم. كما أنه لو كان قد سرق جسد المسيح قبل مجيء الحراس، لما استطاع أن يقوم بذلك بمفرده، لأن الحجر الذي كان على فوهة القبر لم يكن من الممكن دحرجته إلا بواسطة بضعة رجال أشداء - وهؤلاء مهما كان شأنهم ليس من المعقول أن يحتفظوا بسر السرقة طوال حياتهم، لا سيما إذا كانت هناك مكافآت مغرية من كهنة اليهود، لكل من يرشدهم إلى جسد المسيح (إن كان قد سُرق)، ولتعرض بيلاطس تبعاً لذلك لهياج اليهود ضده وفصله من وظيفته، الأمر الذي كان يتحاشاه بكل قواه.

    2. أما لو كان بيلاطس يريد أن يغيظ اليهود، لكان قد أخفى المسيح عنهم قبل صلبه بوسيلة ما، أو أرسله إلى روما تحت حراسة جنود من الرومان، ليحاكم أمام قيصر سيد البلاد الأعلى لديهم، أو أتى بشهود تنفي دعوى اليهود ضد المسيح، أو بوسيلة غير هذه الوسائل. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن بيلاطس كان يسعى لإرضاء اليهود حتى يظل محتفظاً بوظيفته. وأنه كان من الجبن بمكان، حتى أنه رضخ أمام رغبتهم الأثيمة، فأمر بصلب المسيح على الرغم من اقتناعه ببراءته، اتضح لنا أنه لا يمكن أن يكون قد سرق جسد المسيح، أو فكر في سرقته على الإطلاق.

  3. لم تذهب مريم المجدلية ورفيقاتها إلى القبر الذي كان المسيح مدفوناً فيه (كما جاء في الإنجيل)، وذلك لسببين (الأول) إنهن كن يخشين مواجهة الحراس، (الثاني) لو فرضنا إنهن ذهبن إلى منطقة المقابر، لما استطعن الإهتداء إلى قبر المسيح، لأن الوقت الذي يقال إنهن ذهبن فيه وهو الفجر، لم يكن ليساعدهن على الإهتداء إلى هذا القبر-ولذلك فالمعقول أنهن ذهبن إلى قبر كان بالمصادفة مفتوحاً، وأن البستاني قال لهن عنه إنه قبر المسيح، ومن ثم لا يكون هناك دليل على أن المسيح قام من بين الأموات.

الرد

فضلاً عن أن الذي أذاع خبر قيامة المسيح ليس فقط النساء المذكورات، بل أيضاً تلاميذه الذين تأكدوا من حقيقة قيامته (أولاً) بدخولهم إلى قبر المسيح وعثورهم على الأكفان وحدها بحالة تنبئ عن قيامة المسيح بقوة معجزية، من خلال هذه الأكفان (ثانياً) برؤيتهم للمسيح نفسه بعد ذلك مرات متعددة كما ذكرنا فيما سلف، الأمر الذي لا يدع مجالاً للدعوى التي نحن بصددها، نقول:

  1. عيَّن اليهود الجنود لحراسة قبر المسيح في اليوم التالي لصلبه، وذلك عندما تذكروا أنه كان قد قال لهم من قبل، إنه سيقوم من الأموات في اليوم الثالث. فاجتمعوا ببيلاطس على انفراد في هذا اليوم، واتفقوا معه على وضع الحراس على القبر، لئلا (حسب زعمهم) يسرق التلاميذ جسد المسيح ويدَّعوا أنه قام من بين الأموات (متى 27: 62-66). فالنساء المذكورات لم يكنّ على علم بوجود هؤلاء الحراس هناك. ومما يثبت هذه الحقيقة أنهن كن يتساءلن وهن في الطريق إلى القبر، ليس عمن يتوسط لهن لدى الحراس حتى يسمحوا لهن بوضع الأطياب على جسد المسيح، بل عمن يدحرج لهن الحجر عن باب القبر حتى يستطعن القيام بهذه المهمة (مرقس 16: 3).

  2. أما من جهة الشطر الثاني من الدعوى فنقول (أولاً) إن النساء المذكورات كن حاضرات عند دفن المسيح، ولذلك لا بد أنهن قد تأكدن من موضع قبره تماماً، إذ كانت لديهن النية من قبل أن يقمن بتعطير جسد المسيح في اليوم الثالث (لوقا 23: 55-56). (ثانياً) إنهن وإن كن قد خرجن من بيوتهن في الفجر، غير أنهن وصلن إلى القبر في الصباح (مرقس 16: 2)، الأمر الذي كان يساعدهن على الإهتداء إلى قبر المسيح بسهولة، (ثالثاً) ولو فرضنا جدلاً أنهن عجزن عن الإهتداء إليه، لكنّ قد ذهبن إلى صاحب القبر، فقد كان رجلاً مشهوراً في المدينة يعرفنه حق المعرفة، وكان من الممكن أن يهتدين بواسطته إلى القبر (رابعاً) فضلاً عن كل ما تقدم، فإن القبر الذي دفن المسيح فيه لم يكن في وسط المقابر، بل كان قبراً منفصلاً عنها، كما كان محاطاً ببستان خاص، ولذلك لم يكن من العسير الإهتداء إليه. وبما أن النساء المذكورات وتلاميذ المسيح معاً وجدوا هذا القبر فارغاً إلا من الأكفان كما ذكرنا، إذن يكون المسيح قد قام فعلاً من بين الأموات.

  3. وبالإضافة إلى ذلك، فإن رؤساء الكهنة الذين راقبوا دفن المسيح بأنفسهم، وختموا قبره بخاتمهم (متى 27: 66)، ووضعوا عليه الحراس بعد ذلك، لا بد أنهم كانوا يعرفون موضعه حق المعرفة، ولا بد أنهم ذهبوا إليه على أثر سماعهم بخبر قيامة المسيح للتحقق من صدقه، لأن هذا الخبر كان يزعجهم كثيراً كما ذكرنا - ولو كانوا قد عثروا على جسد المسيح، لكانوا قد أظهروه للوالي وللتلاميذ ولليهود جميعاً، ولكان خبر قيامة المسيح من بين الأموات قد اندثر تماماً. وإذا كان الأمر كذلك، فلا مجال للدعوى التي أمامنا أو غيرها من الدعاوى.

4 - لم يُدفن جسد المسيح في قبر يوسف الرامي كما جاء في الكتاب المقدس، بل دُفن في المقبرة العامة التي كان يُدفن فيها الفقراء والمجرمون الذين يحكم عليهم بالصلب. ونظراً لأن تلاميذ المسيح لم يذيعوا خبر قيامته من بين الأموات أمام كهنة اليهود إلا بعد خمسين يوماً من دفنه، لم يكن من الممكن وقتئذ الإستدلال على جسده، لأن هيئته تكون قد تغيَّرت، فلا يكون هناك دليل على أن المسيح قام من الأموات.

الرد

  1. إن تلاميذ المسيح وإن كانوا لم ينادوا بقيامته جهرا أمام كهنة اليهود إلا ابتداء من اليوم الخمسين لصلبه تقريباً، أو بالحري ابتداء من اليوم الذي حل فيه الروح القدس عليهم وأيدهم بالقوة الروحية التي كانت تنقصهم (أعمال 2: 1-24)، غير أن خبر قيامته كان قد بلغ هؤلاء الكهنة بواسطة الحراس في اليوم الثالث لصلب المسيح، لأنه لو لم يكن قد قام من بين الأموات في هذا اليوم كما قال تلاميذه، لكذَّبهم هؤلاء الحراس وقضوا على شهادتهم في الحال. فضلاً عما تقدم، فإن الألسنة كانت تتناقل خبر قيامة المسيح في كل المجتمعات (إذ أن الذي أذاعه لم يكن نفراً قليلاً، بل كان أكثر من خمسمائة شخص)، فلا بد أن يكون هذا الخبر قد بلغ مسامع الكهنة بوسيلة ما. ولو كان إشاعة لا نصيب لها من الصواب، لكانوا قد قضوا عليه في الحال، بواسطة التحقيق القانوني مع التلاميذ كما سبقت الإشارة.

  2. ولو فرضنا جدلاً أن المسيح دُفن في المقبرة العامة، وأنه لم يقم من بين الأموات، وأن رؤساء الكهنة لم يبلغهم خبر قيامته إلا بعد خمسين يوماً من صلبه، لما كان يتعذر عليهم الحصول على بقايا جسده، لأنه دُفن تحت إشرافهم وعلى مرأى منهم. ولو فرضنا جدلاً أنه لم يبق له أثر، لكانوا قد استطاعوا إسكات التلاميذ عن المناداة بقيامة المسيح، وذلك بتقديم أي جسد بالٍ لهم، من المقبرة العامة (التي يقول المعترضون إن المسيح دُفن فيها)، بدعوى أنه جسد المسيح. وما كان التلاميذ يعترضون على الإطلاق، لو كانوا غير متأكدين من قيامته كل التأكد. وإذا كان الأمر كذلك، يكون استمرار تلاميذ المسيح في شهادتهم بقيامة المسيح، وعدم قدرة رؤساء الكهنة على إخماد هذه الشهادة بأي وسيلة من الوسائل، دليلين لا يمكن دحضهما على أن المسيح قام من بين الأموات، كما ذكرنا مراراً وتكراراً.

3 - الآراء الخاصة بهروب المسيح دون صلبه، أو بهروبه بعد صلبه

  1. هرب المسيح عندما حاول اليهود القبض عليه، ولذلك صلبوا شخصاً آخر عوضاً عنه ظنوا أنه المسيح، وفي اليوم الثالث وقف المسيح على قبر الشخص المذكور، وأعلن لتلاميذه أنه قام من بين الأموات، فصدقوه.

    الرد

    1. لم يكن المسيح جباناً أو رعديداً، بل كان شجاعاً وجريئاً، فقد واجه الأعداء الجبابرة قبل أن يواجهوه، فسقطوا جميعاً صرعى عند قدميه (يوحنا 18: 6). كما كان في وسعه (لو أراد) أن يتجنب تألب اليهود عليه من أول الأمر، وذلك بالكف عن توبيخ رجال الدين على شرورهم ونقائصهم (متى 23: 13-36)، لذلك فالقول بأن المسيح هرب عندما حاول اليهود القبض عليه لا نصيب له من الصواب.

    2. كما أن اليهود لا يمكن أن يكونوا قد صلبوا شخصاً عوضاً عن المسيح ظنوا أنه هو، لأنه كان معروفاً لديهم كل المعرفة، فقد كانوا يلتفّون حوله من وقت لآخر ليجادلوه في أمور الدنيا والدين، وكان يفحمهم ويوقعهم في الشراك التي كانوا ينصبونها له (متى 22: 15-46)، كما أنه كثيراً ما كان يوبخهم بسبب نقائصهم وشرورهم، كما ذكرنا. فضلاً عن ذلك فإن المعجزات الباهرة التي كان يقوم بها بين الفينة والفينة، وتعاليمه السماوية الرائعة التي كانت تنطلق من شفتيه في كل مكان يحل فيه (يوحنا 7: 45 و46)، لا بد أن هذه جعلته معروفاً لديهم كل المعرفة أيضاً.

      فإذا أضفنا إلى ما تقدم (أولاً) أن الشخص الذي قبض اليهود عليه ليصلبوه، حوكم أمام رجال الدين ثلاث مرات، آخرها أمام السنهدريم في الصباح الباكر، وبعد ذلك حوكم أمام كل من هيرودس الملك وبيلاطس الوالي من الساعة السادسة إلى التاسعة صباحاً، وذلك بحضور جماهير كثيرة من الناس (ثانياً) أنه ظل مصلوباً من الساعة التاسعة صباحاً إلى الساعة الثالثة بعد الظهر على مرأى من الخاص والعام، الأمر الذي ينفي وقوع أي اشتباه بشأن شخصيته (ثالثاً) أنه كان قد قال لليهود قبيل القبض عليه «كَأَنَّهُ عَلَى لِصٍّ خَرَجْتُمْ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ! إِذْ كُنْتُ مَعَكُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي ٱلْهَيْكَلِ لَمْ تَمُدُّوا عَلَيَّ ٱلأَيَادِيَ. وَلٰكِنَّ هٰذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ ٱلظُّلْمَةِ» (لوقا 22: 52-53)، وقال للنساء اللاتي كن يبكين عليه «لا تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ٱبْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلادِكُنَّ، لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَٱلْبُطُونِ ٱلَّتِي لَمْ تَلِدْ وَٱلثُّدِيِّ ٱلَّتِي لَمْ تُرْضِعْ» (لوقا 23: 28 و29). وقال لبيلاطس عندما كان يحاكمه «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هٰذَا ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 18: 36) و «ٱلَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ» (يوحنا 19: 11). وقال للّه عن صالبيه «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا 23: 34). وقال بعد ذلك للعذراء مريم عن يوحنا الرسول «يَا ٱمْرَأَةُ، هُوَذَا ٱبْنُكِ»، وقال ليوحنا عنها «هُوَذَا أُمُّكَ» ليعتني بها ويرعاها (يوحنا 19: 26-27) اتضح لنا أنه كان هو المسيح بعينه.

    3. أخيراً نقول إن المسيح كان كاملاً كل الكمال في كل تصرفاته، لذلك لا يمكن أن يكون قد خدع تلاميذه، فقال لهم إنه قام بعد موته، والحال أنه قد هرب من الموت. فإذا أضفنا إلى ذلك أنه لو كان شخص غير المسيح قد صُلب عوضاً عنه، لكان قد ظل في قبره إلى الأبد. اتضح لنا أن القبر الفارغ دليل لا يقهر على أن المسيح هو الذي صلب. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الدعوى التي أمامنا لا نصيب لها من الصواب مثل غيرها من الدعاوى.

  2. طلب التلاميذ، وفي مقدمتهم يوسف الرامي من بيلاطس الوالي أن يأمر بوضع مساند تحت قدمي المسيح عندما كان معلقاً على الصليب، حتى لا يقع ثقل جسده على ذراعيه ويسبب له الإرهاق المميت. كما طلبوا منه أن يأمر بعدم كسر ساقيه حتى لا يسيل منه دم غزير ويموت في الحال. ومن ثم فالمسيح عندما أنزل عن الصليب لم يكن ميتاً بل مغمى عليه فحسب، والدليل على ذلك أنه لما طُعن بالحربة خرج منه دم وماء. وعندما وُضع في القبر البارد بعد ذلك، استعاد نشاطه وهرب إلى بلاد فارس، متنكراً في زي بستاني كما رأته مريم المجدلية. وفي هذه البلاد أخذ يعلم الناس ويرشدهم حتى وافته المنية. ومما يثبت ذلك أن الفرس كانوا يعتقدون أن ماني فيلسوفهم هو رسول المسيح.

    الرد

    1. كان تلاميذ المسيح من الفقراء الذين لا حول لهم ولا طول، ومن ثم لم يستطيعوا أن يصمدوا أمام اليهود عندما قبضوا على المسيح، بل هربوا وتواروا عن الأنظار، مما يدل على أنه لم يكن لهم المركز الذي يؤهلهم للتوسط لدى الوالي لكي يظهر شيئاً من العطف على المسيح. كما أن يوسف الرامي لم يكن ليقوى على التوسط لديه من جهة هذا الأمر، لأن بيلاطس نفسه لم يستطع التوسط لدى اليهود من جهته من قبل، حرصاً على وظيفته التي كان يعتز بها. ولذلك كان الإلتماس الذي قدمه يوسف الرامي لبيلاطس مقصوراً على السماح له بدفن جسد المسيح بعد موته. وحتى هذا الإلتماس البسيط لم يكن من السهل على يوسف القيام به، لأن الوحي يسجل عنه أنه تجاسر وطلب جسد يسوع من بيلاطس. وقد أجابه بيلاطس إلى التماسه هذا، لأن دفن المسيح في قبر يوسف لا يغضب اليهود أو يثيرهم، إذ أن غرضهم الأول والأخير كان ينحصر في القضاء على المسيح. وما دام المسيح قد مات، فإن الحقد الذي كان في قلوبهم من نحوه لم يعد له أثر. أما لو كان بيلاطس قد وضع مساند تحت قدمي المسيح، لكان اليهود قد قاوموه، بل وهددوه أيضاً برفع أمره إلى قيصر، ولكان بيلاطس قد أذعن لهم كما فعل من قبل، حرصاً على وظيفته كما ذكرنا.

    2. أما السبب في عدم كسر ساقي المسيح، فلا يرجع إلى الرغبة في الإبقاء على حياته كما يقول المعترضون، بل يرجع إلى أنه كان قد مات فعلاً على الصليب، لأن الغرض من كسر ساقي المصلوب هو التعجيل بموته. وما دام المسيح كان قد مات من تلقاء نفسه كما يتضح لنا من الكتاب المقدس، لم يكن هناك ما يدعو إلى كسر ساقيه - وطبعاً ما كان اليهود والرومان الذين كان هدفهم الوحيد أن يقضوا على المسيح قضاء تاماً، ليتركوا ساقيه دون كسر، لولا أنهم كانوا على يقين تام من أنه مات. فضلاً عن ذلك، فإن واحداً من الرومان وجَّه إلى جنب المسيح بعد موته، طعنة قوية بالحربة، خشية أن يكون فيه بعد (حسب ظنه) رمق من الحياة، فيقضي بالطعنة المذكورة على هذا الرمق. وذلك لكي لا يبقى هناك مجال للشك لدى أحد ما، في أن المسيح مات فعلاً، ولكي يجنب أيضاً نفسه وزملاءه مسئولية المحاكمة القانونية التي كان يتعرض لها كل من يسمح بنزول مصلوب قبل موته.

    3. كما أن خروج الماء والدم من جنب المسيح بعد طعنه بالحربة، لا يدل على أنه كان على قيد الحياة وقتئذ، لأن الدم (كما يقول الأطباء) يتحلل في بعض حالات الوفاة الفجائية إلى خثارة حمراء ومصل مائي، ويظل على هذا الحال بضع ساعات. وبما أن المسيح مات على الصليب قبل المدة التي يموت فيها أضعف شخص يعلق عليه بأكثر من 18 ساعة، كان من البديهي أن يخرج منه دم وماء عندما طُعن بالحربة. فإذا أضفنا إلى ذلك أن موت المسيح كان قد تأيد على لسان الذين فحصوه (يوحنا 12: 33)، كما أن رؤساء الكهنة كانوا حريصين على التحقق من موته قبل دفنه، لأنهم كانوا ينظرون إليه كألد عدو يهدد كيانهم (يوحنا 12: 19)، لا يبقى أي مجال للظن بأنه كان حياً قبل دفنه.

      ويقول الأطباء، وفي مقدمتهم السير جيمس سيمسون (أول من استعمل البنج في العمليات الجراحية) إن المسيح مات بما يسميه العلماء «ارتشاح الدم من القلب»، وتسمّيه العامة «كسر القلب» - وفي هذه الحالة يتمزّق شغاف القلب ويتدفق الدم إلى الغشاء المحيط به، فيمتنع القلب عن الخفقان في الحال. كما يقول الأطباء إن المصلوبين يموتون موتاً بطيئاً في مدة تتراوح بين 24 و28 ساعة، متأثرين إما بالإجهاد العصبي، أو التهاب الجروح، أو نزف الدم، أو اضطراب القلب، أو تعطل الدورة الدموية لكن المسيح مات بعد 6 ساعات فقط من صلبه، الأمر الذي يدل على أن موته كان سريعاً وفجائياً، والسبب في ذلك (كما يتضح من الكتاب المقدس) يرجع إلى أن المسيح كان وقتئذ متأثراً كل التأثر بخطايا البشر وآثامهم الشنيعة.

    4. ولو فرضنا جدلاً أن المسيح دُفن قبل أن يموت، فليس من المعقول أن يكون قد خرج من القبر، لأن شخصاً جُلد 40 جلدة، واجتازت المسامير في يديه ورجليه وقطعت بعض عروقه وأعصابه، ثم اخترقت الحربة بعد ذلك جنبه ومزقت بعض أحشائه، لا يستطيع (إن كان لم يمت) أن يستعيد قواه ويسحب نفسه من تحت 50 كيلو جراماً من المر والعود (ألصقت طيات أكفانه بعضها ببعض من جهة، وألصقتها بجسده من جهة أخرى) تاركاً إياها كلها كما كانت حول جسده. ثم يرفع بمفرده من الداخل حجراً عن القبر لا يستطيع أقل من بضعة رجال أشداء وهم في الخارج أن يرفعوه، وبعد ذلك يفلت من أيدي حراس مدججين بالسلاح في غاية اليقظة والإنتباه، ويقطع على قدميه رحلة شاقة طويلة إلى بلاد نائية ليس له فيها أقرباء أو أصدقاء، ولا يعرف شيئاً عن لغة أهلها أو عاداتهم.

      كما أنه ليس من المعقول أن يكون المسيح بعد خروجه من القبر (إن كان لم يمت كما يُقال)، قد هرب إلى البلاد المذكورة، تاركاً تلاميذه (أحب الناس إليه) معرَّضين لبطش اليهود وعدوانهم، وتاركاً أيضاً الرسالة التي سلمها لهم تحت رحمة الظروف والأقدار، لكي يموت في هذه البلاد موت الضعيف الجبان. لأنه كان في وسعه (لو كان قد أراد) أن يتجنب الصلب من أول الأمر، ومن ثم كان يستطيع أن يعيش دون ألم أو عناء.

    5. أما من جهة القول (بتنكر المسيح في زي بستاني)، ففضلاً عن أن المسيح لم يكن جباناً، الأمر الذي لا يدع مجالاً للقول المذكور، فالمسيح لم يلبس مطلقاً هذا الزي، بل أن مريم المجدلية هي التي ظنت أنه البستاني، لأنه لم يكن يخطر ببالها أن الشخص الذي أتت لتضع الحنوط على جسده في القبر، هو الذي كان يقف على مقربة منها. ومما يثبت أن عدم توقع حدوث أمر، يكون مدعاة للشك فيه إذا حدث، أنه عندما سُجن بطرس الرسول وأُعدَّت العُدة لقتله، أخذ المؤمنون يصلون لأجله، فأنقذه الله من السجن بمعجزة عظمى، ومن ثم ذهب في الحال إلى هؤلاء المؤمنين لكي يبشرهم بالإحسان الذي صنعه الله معه، وأخذ يقرع على بابهم لكي يفتحوا له، لكنهم لم يصدقوا في أول الأمر أنه هو بعينه (أعمال 12).

      أخيراً نقول إن المعترضين لا يعتمدون على الحقائق التاريخية الثابتة، بل على الشائعات التي لا سند لها، إذ فضلاً عن أنه ليس كل من قال عن نفسه إنه رسول للمسيح، أو قال غيره إنه كذلك، يكون في الواقع رسولاً له، فليس هناك كتاب تاريخي يثبت أن «ماني» كان رسولاً من رسل المسيح. إذ أن كل الكتب التاريخية تثبت أن رسله جميعاً كانوا من سكان فلسطين ومن ثم لا يجوز الأخذ بالرأي الذي نحن بصدده أيضاً.

4 - الآراء الخاصة بتأليف خبر قيامة المسيح أو نقله من الأساطير الوثنية، والرد عليها

  1. لم يقم المسيح بعد موته، بل إن تلاميذه هم الذين ابتدعوا خبر قيامته من بين الأموات، لكي يخلدوا ذكراه وينشروا المبادئ التي نادى بها في حياته.

    الرد

    فضلا عن البراهين التي ذكرناها فيما سلف، عن صدق شهادة تلاميذ المسيح، الأمر الذي لا يدع مجالا لهذا الإعتراض نقول:

    1. لم يكن التلاميذ من رجال الفلسفة أو الأدب أو الإجتماع الذين يهمهم تخليد ذكرى شخص ما أو نشر مبادئه في العالم، بل كان معظمهم من صيادي السمك الذين لم ينالوا قسطاً من التعليم سوى الكتابة والقراءة، والذين لم يكن يهمهم في الحياة سوى الحصول على قوتهم وقوت أولادهم (يوحنا 21: 3). وبالإضافة إلى ذلك، فإنهم لم يكونوا في أول الأمر يدركون شيئاً عن أهمية قيامة المسيح وما يترتب عليها من فوائد ونتائج، حتى يدَّعوا أنه قام من بين الأموات، ويتحملوا في سبيل هذا الإدعاء الكثير من الإضطهاد والآلام. لذلك لا بد أنهم نادوا بقيامته لتأكدهم منها بأنفسهم كل التأكد.

    2. إن الذين يعمدون إلى تزوير حادثة ما، يبذلون كل ما في وسعهم لتجنب وقوع أي اختلاف بينهم بشأنها، فلا يذكر أحدهم (مثلاً) خبراً لم يذكره غيره. وذلك على النقيض مما فعله تلاميذ المسيح. فإذا أضفنا إلى ذلك (أولاً) أن هؤلاء التلاميذ لم يحاولوا مطلقاً تفسير أي تصرف من التصرفات التي سجلوها عن المسيح، بل رووها جميعاً كما هي (ثانياً) أنهم لم يتستروا على أخطائهم ونقائصهم وتوبيخ المسيح لهم، بل سجلوا كل ذلك بالتفصيل، اتضح لنا أنهم كانوا صادقين كل الصدق في ما كتبوه عنه.

    3. فإذا أضفنا إلى ما تقدم (أولاً) أن تلاميذ المسيح كانوا (كما يشهد التاريخ)، على مستوى عال من الأخلاق الكريمة التي تأبى عليهم المناداة بغير الحقيقة. (ثانياً) أن خبر قيامة المسيح من الأموات كان بعيداً في أول الأمر عن أذهانهم كل البعد، لأن آمالهم كانت تدور حول مسيا أرضي يطيح بسلطة الرومان ويوليهم رؤساء في مملكته التي يؤسسها لهم. (ثالثاً) وأنهم لو حاولوا تأليف قصة عن قيامة المسيح لاحتاجوا إلى وقت طويل، حتى يحبكوا تفاصيلها ويظهروها بمظهر معقول أو قريب من المعقول، وليس إلى ثلاثة أيام فقط كانوا في أثنائها في حالة الحزن والاضطراب التي لا تسمح لهم بالقيام بمثل هذا العمل. (رابعاً) أنهم نشروا خبر قيامة المسيح بين الناس الذين عاصروه وعرفوا كل شيء عنه، وبين أعداء ألداء كانوا يتربصون بهم ويحاولون إلصاق أي تهمة بهم ليقضوا عليهم قضاء تاماً، ومع ذلك لم يتعرض واحد منهم لتكذيبهم أو تخطئتهم - اتضح لنا أنه لا يمكن أن يكونوا قد ابتدعوا خبر قيامة المسيح، بل لا بد أنه خبر صادق كما ذكرنا.

    4. هذا وقد شهد الأستاذ العقاد بصدق رسل المسيح فقال «ومن بدع (أهل) القرن العشرين سهولة الإتهام، كلما نظروا في تواريخ الأقدمين، فوجدوا في كلامهم أنباء لا يسيغونها وصفات لا يشاهدونها ويعقلونها. ومن ذلك اتهام الرسل بالكذب فيما كانوا يثبتونه من أعاجيب العيان وأعاجيب النقل. ولكننا نعتقد أن التاريخ الصحيح يأبى هذا الإتهام، لأنه أصعب تصديقاً من القول بأن أولئك الدعاة أبرياء من تعمد الكذب والاختلاق. فشتان ما بين عمل المؤمن الذي لا يبالي الموت تصديقاً لعقيدته، وعمل المحتال الذي يكذب، ويعلم أنه يكذب، وأنه يدعو الناس إلى الأكاذيب. مثل هذا لا يقدم على الموت في سبيل عقيدة مدخولة، وهو أول من يعلم زيفها وخداعها. وهيهات أن يوجد بين الكذبة العامدين من يستبسل في نشر دينه، كما استبسل الرسل المسيحيون. فإذا كان المؤلف الصادق من يأخذ بأقرب القولين إلى التصديق، فأقرب القولين إلى التصديق أن الرسل لم يكذبوا فيما رووه، وفيما قالوا إنهم رأوه، أو سمعوا ممن رآه» (عبقرية المسيح ص 118-189).

  2. نقل تلاميذ المسيح خبر قيامته من بين الأموات من الأساطير الوثنية.

    الرد:

    إن معظم تلاميذ المسيح كانوا كما ذكرنا فيما سلف من صيادي السمك البسطاء، ومهنة مثل هذه ليست كمهنة التجارة التي تفسح المجال أمام المشتغلين بها لمعرفة أخبار العالم وعقائد الساكنين فيه، بل أنها مهنة تفرض على أصحابها ملازمة البيئة التي يعملون فيها، وتحصر أفكارهم في الأخبار والعقائد الموجودة في بلادهم. فضلاً عن ذلك كانوا من اليهود المتدينين الذين يحطون من شأن الوثنيين ويعتبرونهم نجسين، ومن ثم كانوا لا يتحدثون معهم أو يخالطونهم.

    وبالرجوع إلى عقائد الوثنيين وأساطيرهم، لا نرى فيها أسطورة عن إنسان قال الوثنيون إنه قام بعد موته، كما نادى التلاميذ عن المسيح. والدليل على ذلك أن اليونانيين كانوا يستهزئون عندما سمعوا التلاميذ ينادون بقيامة المسيح من الأموات (أعمال 17: 32)، الأمر الذي لا يدع مجالاً للرأي الذي نحن بصدده. ومع ذلك نذكر فيما يلي أساطير الوثنيين التي يقال إنه ورد فيها شيء عن القيامة من الأموات أو العودة إلى الحياة، لكي يتضح بطلان هذه الدعوى من أساسها.

    1. فالبابليون بسبب رغبتهم في أن تظل نساؤهم في حوزتهم، زعموا أن «الإله تاموز» أحب «إشترا» أو «عشتاروت» إلاهة الحب وتزوج منها. لكن لم يمض على هذا الزواج وقت طويل حتى أبغضته وقتلته، ثم أخذت بعد ذلك تبحث عن زوج آخر عوضاً عنه، ولكنها لم تجد. وأخيراً ذهبت إلى عالم الموتى لكي تخرج تاموز منه، فقبض عليها ملك هذا العالم، وبعد أن سامها العذاب لقتلها تاموز، سمح لها أن تأخذه، وبذلك عاد تاموز إلى الأرض.

    2. وقدماء المصريين، بسبب رغبتهم في إعلان قوة الخير، زعموا أن إله الشر «ست» كان يبغض أخاه إله الخير «أوزيريس». لذلك قتله ومزق جثته إلى 72 قطعة، رمى كل قطعة منها في مكان خاص. ومع ذلك استطاعت «إيزيس» زوجة «أوزيريس» أن تجمع القطع المذكورة، وأن تعيد زوجها إلى الحياة، ومن ثم أصبح خالداً، في نظرهم.

    3. وقدماء اليونان بسبب رغبتهم في تعليل اختفاء القمح من الحقول ستة شهور، زعموا أن ملك الهاوية أحب «بروسفوني» «إلاهة القمح»، واختطفها إلى مملكته، فشكت أمها (إلاهة الزراعة) إلى جوبيتر (رب الآلهة عندهم) ما أصاب ابنتها. فأمر ملك الهاوية بإطلاق سراح «بروسفوني» وإعادتها إلى الأرض. لكن لأن هذا الملك كان قد أحب بروسفوني حباً جماً، لم يطلق سراحها إلا بعد أن أعطاها من طعام الهاوية. ونظراً لأن من خصائص هذا الطعام أنه يجذب كل من يأكل منه إلى الهاوية بعد مفارقته لها، لذلك كانت بروسفوني تعود إلى الهاوية مرة كل عام وتبقى فيها ستة شهور متتالية (وهي المدة التي تختفي فيها الحبوب من الأرض)، وبعد ذلك تظهر على الأرض مرة ثانية، وهكذا دواليك.

    4. وبسبب رغبة اليونانيين أيضاً في تعظيم الديمقراطية وتحريض الناس على الدفاع عنها، زعموا أن «بروميتيه» بعد أن ساعد «جوبيتر» في القضاء على أعدائه والإرتقاء إلى مركز رب الآلهة عندهم، حقد جوبيتر عليه وعزم على إهلاكه وإهلاك البشر معه. لأن بروميتيه كان يحبهم ويساعدهم في كل شؤونهم، لذلك صلبه على جبل القوقاز وأمر «فلكان» أن يعذبه. فأخذ هذا يغرس حديداً محمياً بالنار في جسم بروميتيه، كما أهاج النسور عليه لتمزق جسده. وبينما كان بروميتيه على هذه الحال، أتته عرائس البحر وعرضن عليه أن يتوسطن له لدى جوبيتر، فرفض. وأخيراً أتاه هرقل فأنقذه ورفع مكانته.

      مما تقدم يتضح لنا أن قيامة المسيح من الأموات لا يمكن أن تكون قد نقلت عن الأساطير الوثنية، بل لا بد أنها حادثة حقيقية كما اتضح لنا في الأبواب السالفة. وقد أدرك هذه الحقيقة الأستاذ عباس محمود العقاد فقال «كانت الدعوة المسيحية كما روتها الأناجيل دون أن يتعمد كتّابها تطبيق أحوال التطور، أو تلتفت أذهانهم إلى معنى تلك الأحوال» ثم قال «إن أصحاب هذه الملاحظات (الفلاسفة العصريين) اتخذوا تشابه المراسيم والأخبار دليلاً على تلفيق تاريخ السيد المسيح. ويبدو لي أن نشوء علم المقابلة بين الأديان هو الذي دفع أصحابه في القرن الثامن عشر إلى تحميل المشابهات والمقارنات فوق طاقتها». كما قال «ليس من الصواب أن يقال إن الأناجيل جميعاً عمدة لا يُعوَّل عليها في تاريخ السيد المسيح، وإنما الصواب أنها العمدة الوحيدة في كتابة تاريخه. وسواء رجعت هذه الأناجيل إلى أصل واحد أم إلى أكثر من مصدر، فمن الواجب أن يدخل في الحسبان أنها هي العمدة التي اعتمد عليها قوم هم أقرب الناس إلى عصر المسيح، وليس لدينا نحن بعد قرابة ألفي عام عمدة أحق منها بالإعتماد» (عبقرية المسيح ص 126 وكتاب «الله» ص 149-153).

الباب الرابع: المسلمون وقيامة المسيح

1 - آراء القائلين برفع المسيح دون صلبه، والرد عليها

يقول المسلمون الذين يعتقدون أن المسيح لم يصلب أو يمت، إنه رُفع إلى السماء قبل حادثة الصلب، وإن كهنة اليهود أخفوا جسد الإنسان الذي صلبوه، والذي كانوا يعتقدون أنه جسد المسيح، لئلا يكرمه أتباعه ويخلدوا ذكراه على ممر الأيام. ولكي يؤيد هؤلاء المسلمون آراءهم، قالوا إن هناك اختلافاً بين كتبة الإنجيل بشأن قيامة المسيح، وإن هذا الإختلاف دليل على أن حادثة القيامة الواردة في الكتاب المقدس حادثة ملفقة. لذلك نرى من الواجب أن نفحص آراءهم فيما يلي لنرى مكانتها من الصواب.

أولاً - فحص الرأي بإخفاء كهنة اليهود لجسد المصلوب

أزعج خبر قيامة المسيح من بين الأموات، رؤساء الكهنة، كما هدد سلطانهم بالإنهيار والزوال، كما ذكرنا فيما سلف فلو كانوا قد أخفوا جسد الشخص الذي صلبوه (والذي كانوا يعتقدون أنه جسد المسيح)، لكانوا قد أظهروه لتلاميذه لكي يقضوا على شهادتهم بقيامته. ولو فرضنا أنهم لم يعثروا على هذا الجسد، أو أن هذا الجسد كان قد تحلل لكانوا قد أظهروا للتلاميذ أية جثة بالية، وما كان هؤلاء ليعترضوا بأي اعتراض، إن كانوا غير متأكدين من أن المسيح بذاته قد قام من الأموات. وبما أن الكهنة لم يستطيعوا إسكات التلاميذ بأية وسيلة من الوسائل، إذن لا بد أن اليهود كانوا على يقين تام بأن المسيح قام من الأموات، كما أعلن تلاميذه أمامهم وأمام غيرهم من الناس.

ثانياً - فحص الرأي بوجود اختلافات بين كتبة الإنجيل

نرى من الواجب قبل أن نستعرض الإختلافات التي يُقال بوجودها بين كتبة الإنجيل، أن نشير هنا إلى أنه لا يمكن أن يكتب أربعة أشخاص عن حادثة عرفوها أو شاهدوها، وتكون أقوالهم واحدة في كل لفظ خاص بها (لا سيما إذا كان أحدهم يختلف عن الآخر من جهة الثقافة والسن والنشأة، والطباع والمركز الإجتماعي) وفي الوقت نفسه كان كل منهم يكتب بالإستقلال عن غيره، كما كانت الحال مع كتبة الإنجيل، إذ من الطبيعي أنه على الرغم من اتفاقهم جميعاً على النقاط الرئيسية في الحادثة المذكورة، يستعمل أحدهم ألفاظاً غير التي يستعملها الآخر، ويذكر أيضاً أموراً لا يذكرها غيره. فإذا وُجد اختلاف بين كتبة الإنجيل، يكون اختلافاً لفظياً أو سطحياً لا يمس الجوهر في شيء. والدليل على ذلك أنهم أجمعوا معاً على خمس نقاط جوهرية:

Table 1. فحص الرأي بوجود اختلافات بين كتبة الإنجيل

(الأولى) أن المسيح صلب في عيد الفصح، وأن يوسف الرامي طلب من بيلاطس أن يأذن له بدفن جسد المسيح، فوافق على طلبه. ولذلك أخذه يوسف ووضعه في قبر جديد كان قد نحته لنفسه من قبل.      
(الثانية) أن بعض النساء ذهبن إلى القبر في فجر الأحد، أو بالحري في اليوم الثالث لصلب المسيح، فرأين الحجر مدحرجاً عن فوهة القبر، ولما دخلن في القبر لم يجدن جسد المسيح فيه.      
(الثالثة) أن بعض الملائكة قالوا للنساء إن المسيح ليس في القبر بل قام من بين الأموات.      
(الرابعة) أن المسيح نفسه ظهر للنساء المذكورات وطلب منهن أن يخبرن التلاميذ أنه قام.      
(الخامسة) أن التلاميذ أنفسهم رأوا المسيح بعد ذلك وتحدثوا معه أفراداً وجماعات مرات كثيرة.      

أما الإختلافات التي يقولون عنها، ففيما يلي نصها والرد عليها:

  1. ينكر الكتاب المقدس، في بعض آياته، القيامة من الأموات. فقد جاء في سفر أيوب أن من ينزل إلى الهاوية لا يصعد (7: 9)، ومن ثم يكون القول بقيامة المسيح بعد موته، يتعارض مع ما جاء في هذا الكتاب، وبالتبعية يكون إدعاء باطلاً.

    الرد: ليس غرض أيوب من هذه العبارة نفي البعث، بل نفي رجوع الإنسان بعد موته إلى بيته وأصدقائه. والدليل على ذلك أنه قال في موضع آخر عن نفسه «وَبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هٰذَا وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى ٱللّٰهَ» (أيوب 19: 26). كما أن بولس الرسول قال لمن ينكر البعث ويتساءل عن كيفيته: «يَا غَبِيُّ! ٱلَّذِي تَزْرَعُهُ (من نبات)لا يُحْيَا إِنْ لَمْ يَمُتْ. وَٱلَّذِي تَزْرَعُهُ، لَسْتَ تَزْرَعُ ٱلْجِسْمَ ٱلَّذِي سَوْفَ يَصِيرُ، بَلْ حَبَّةً مُجَرَّدَةً... وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ يُعْطِيهَا جِسْماً كَمَا أَرَادَ... هٰكَذَا أَيْضاً قِيَامَةُ ٱلأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضُعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ. يُزْرَعُ جِسْماً حَيَوَانِيّاً وَيُقَامُ جِسْماً رُوحَانِيّاً» (1 كورنثوس 15: 36-44) - ولذلك ليس هناك مجال للإعتراض على شهادة الكتاب المقدس عن قيامة المسيح من بين الأموات.

  2. جاء في الإنجيل أن المسيح أقام ثلاثة أشخاص بعد موتهم، وهم لعازر وإبن أرملة نايين وابنة يايروس ( يوحنا 11، لوقا 7، مرقس 5)، بينما جاء في (أعمال الرسل 26: 23) أن المسيح هو أول قيامة الأموات، وفي (رؤيا 1: 5) أنه البكر من الأموات - وهذا التناقض دليل على أن الغرض من إسناد القيامة إلى المسيح، مجرد رفعه عن مستوى البشر.

    الرد: إن الأشخاص الذين أقامهم المسيح بعد موتهم، قاموا بالأجساد الطبيعية التي كانوا فيها من قبل، ثم عاشوا في هذا العالم بهذه الأجساد فترة من الزمن، ماتوا بعدها ثانية، ولن تعود أرواحهم بعد ذلك إلى أجسادهم إلا في يوم البعث. لكن المسيح عندما قام من الأموات، قام بجسد القيامة الذي لا يتعرض للموت مرة ثانية، ولذلك يكون هو بحق البكر من الأموات، مثالاً للمؤمنين الحقيقيين الذين سيقومون من قبورهم فيما بعد، على صورة جسد مجده (فيلبي 3: 21).

  3. جاء في (متى 27: 64) أن المسيح قام، بينما جاء في (أعمال 5: 30) أن الله أقامه.

    الرد: ليس هناك أي تناقض بين القولين، فالإقامة المسندة إلى المسيح، مسندة إليه بوصفه «ابن الله». وبهذا الوصف قال المسيح لليهود عن جسده قبل صلبه «ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ» (يوحنا 2: 19). أما الإقامة المسندة إلى الله، فمسندة إليه باعتبار أن جوهر الآب هو بعينه جوهر الإبن، وهذا الجوهر هو اللاهوت، ولذلك فكل عمل ينسب إلى الإبن، ينسب في الوقت نفسه إلى الآب. وقد أشار المسيح إلى هذه الحقيقة من قبل فقال: «لَكِنَّ ٱلآبَ ٱلْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ ٱلأَعْمَالَ» (يوحنا 14: 10).

  4. جاء في (متى 16: 4) أن المسيح قال إنه سيمكث في القبر ثلاثة أيام وثلاث ليال، أو بالحري 72 ساعة. لكن إذا حسبنا المدة التي قضاها في القبر (على فرض أنه هو الذي صلب ودفن)، نرى أنها حوالي 48 ساعة فحسب.

    الرد:

    1. لم يقصد المسيح بالثلاثة أيام والثلاث ليال المعنى الحرفي، بل المعنى الشرعي عند اليهود، والدليل على ذلك أنه قال قبل صلبه إنه سيقوم في اليوم الثالث. أو بالحري في بحر هذا اليوم (متى 16: 21). بينما لو قصد المعنى الحرفي، لقال إنه سيقوم في آخر اليوم الثالث، أو قبل ابتداء اليوم الرابع. وبناء على المعنى الشرعي لليوم، يحسب الجزء من اليوم يوماً كاملاً، كما هو معلوم لدينا.

      وبما أن المسيح دفن في عصر الجمعة، وقام من الأموات في فجر الأحد، واليوم لدى اليهود كان يبدأ من غروب اليوم السابق له (لوقا 23: 54)، يكون المسيح قد ظل في القبر ثلاثة أيام شرعية. لأن المدة من عصر الجمعة الذي دفن فيه إلى غروب الجمعة، تحسب يوماً. والمدة من غروب الجمعة إلى غروب السبت، تحسب يوماً ثانياً. والمدة من غروب السبت إلى فجر الأحد، تحسب يوماً ثالثاً.

    2. فضلاً عن ذلك فإننا إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نرى أن الجزء من اليوم كان يحسب عند الناس عامة يوماً كاملاً. فمثلاً جاء في (سفر التكوين 42: 17) أن يوسف (الصديق) أمر بحبس إخوته ثلاثة أيام، بينما جاء في (تكوين 42: 19) من هذا الأصحاح، أنه قال لهم في اليوم الثالث (أو بالحري في بحر هذا اليوم): «إِنْ كُنْتُمْ أُمَنَاءَ فَلْيُحْبَسْ أَخٌ وَاحِدٌ مِنْكُمْ ». وهذا دليل على أن يوسف كان يعتبر الجزء من اليوم، يوماً كاملاً. وجاء في (صموئيل الأول 30: 12) أن رجلاً قال إنه لم يأكل خبزاً ولا شرب ماء ثلاثة أيام وثلاث ليال، بينما جاء في (صموئيل الأول 30: 13) من هذا الأصحاح أن هذا الرجل قال في اليوم الثالث إنه مرض منذ ثلاثة أيام - أي أنه كان يعتبر الجزء من اليوم يوماً كاملاً. وجاء في (أخبار الأيام الثاني 10: 5) أن رحبعام قال لجماعة من الناس أن يرجعوا إليه بعد ثلاثة أيام، بينما جاء في (أخبار الأيام الثاني 10: 12) من هذا الأصحاح، أن هؤلاء الناس رجعوا إليه في اليوم الثالث - أي أنهم كانوا يعتبرون الجزء من اليوم يوماً كاملاً. وجاء في (أستير 4: 16) أن أستير قالت لليهود أن يصوموا ثلاثة أيام ليلاً ونهاراً حتى تستطيع أن تعرض قضيتهم على الملك. بينما جاء في (أستير 5: 1) من هذا السفر أنها دخلت إلى الملك في اليوم الثالث، وليس في اليوم الرابع. وهذا دليل على أن العرف قد جرى على اعتبار الجزء من اليوم يوماً كاملاً.

      مما تقدم يتجلى لنا أن التعبير «ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ» هو اصطلاح عام، كان يراد به ثلاثة أيام كاملة من الناحية اليهودية الشرعية.

  5. جاء في (يوحنا 16: 10) أن المسيح قال لتلاميذه قبل حادثة الصلب لأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً، أي أن الله سيرفعه إليه دون أن يموت. بينما جاء في (يوحنا 20: 20) أنهم رأوه بعد قيامته.

    الرد: من المعلوم لدينا أنه من الخطأ تفسير آية بالاستقلال عن الآيات المقترنة بها، بل يجب تفسيرها بالاقتران مع هذه الآيات. فبعد الآية الأولى قال المسيح لتلاميذه «بَعْدَ قَلِيلٍ لا تُبْصِرُونَنِي، ثُمَّ بَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً تَرَوْنَنِي، لأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى ٱلآبِ». ولما سألوه عن معنى هذه العبارة، قال لهم «إِنَّكُمْ سَتَبْكُونَ وَتَنُوحُونَ وَٱلْعَالَمُ يَفْرَحُ... وَلٰكِنِّي سَأَرَاكُمْ أَيْضاً فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ» (يوحنا 16: 16-22) - فمن هذه الآيات يتضح لنا أن المسيح كان عتيداً أن يموت أولاً، وأن تلاميذه كانوا عتيدين أن يبكوا وينوحوا. وبعد ذلك كان لا بد أن يقوم من الأموات، فيفرحون برؤيته. وأخيراً كان لا بد أن يصعد إلى السماء من حيث أتى في أول الأمر. ومن ثم لا يكون من الميسور لهم أن يروه بالجسد بعد ذلك على الإطلاق.

  6. جاء في (أعمال الرسل 2: 32) أن المسيح ظهر بعد قيامته ليس لكل اليهود، بل لتلاميذه الذين سبق أن اختارهم. وهذا ما يبعث الشك في خبر قيامته من الأموات. لأنه لو كان قد قام فعلاً، لأظهر نفسه لكل اليهود حتى يؤمنوا جميعاً أنه قام.

    الرد:

    1. إن اليهود برفضهم للمسيح (يوحنا 1: 11) وصلبهم إياه، قد رفضهم الله. كما حكموا على أنفسهم أنهم لا يستحقون أن يروا المسيح بعد، إلا وهو ملك يقضي على الأشرار منهم ومن غيرهم من الشعوب، كما أعلن لهم من قبل (متى 23: 39). فضلاً عن ذلك فإن المسيح لم يكن من شأنه أن يرغم البشر على الإيمان به بواسطة معجزة يبهر بها عقولهم ويقهرها لسلطانه، لأن هذا العمل بالإضافة إلى أنه لا يتفق مع كماله، أو مع حرية الفكر التي جبل البشر عليها، فإنه لم يكن ليغير شيئاً من نفوس اليهود، لأنهم كانوا، على الرغم من المعجزات الباهرة التي عملها المسيح أمامهم، قد أصروا على رفضه بكل وسيلة من الوسائل.

      كما أنه لو كان قد ظهر لهم بعد قيامته، لكانوا بسبب كراهيتهم الشديدة له، قد قالوا إن به شيطاناً كما كانوا يقولون من قبل، عندما كان يأتي المعجزات السابق ذكرها أمامهم (متى 12: 24)، وتبعاً لذلك ما كانوا يستقبلونه بالحب والإكرام، بل بالغيظ والحنق المنبعثين من الارتعاب أمام قدرته. ولو فرضنا جدلاً أنهم لم يقابلوه بهذه المقابلة، لما استطاعوا أن يؤمنوا به إيماناً حقيقياً، لأن العامل الأساسي في هذا الإيمان ليس رؤية المسيح قائماً من بين الأموات، بل هو الإخلاص للحق. وهذا الإخلاص لم يكن له أثر في نفوسهم، والدليل على ذلك أنهم رفضوا الإيمان بالمسيح على الرغم من المعجزات الكثيرة التي تثبت شخصيته، كما ذكرنا. وقد أشار المسيح من قبل إلى هذه الحقيقة بإشارة عامة، فقال عنهم إنهم أحبوا الظلمة أكثر من النور (أو بالحري أكثر من شخصه) لأن أعمالهم كانت شريرة (يوحنا 3: 19)، كما قال عنهم أيضاً إنهم إن كانوا لا يسمعون من وحي موسى والأنبياء، فإنهم لا يصدقون حتى إذا قام واحد من الأموات (لوقا 16: 31).

    2. من البديهي أن يظهر المسيح بعد قيامته لتلاميذه وللمؤمنين به فحسب، إذ فضلاً عن أن هذين الفريقين كانا أعرف الناس بشخصيته وأقدرهم على التحقق منها، فإن عدد كل فريق منهما كان كافياً جداً لإثبات حقيقة قيامته، فالتلاميذ كانوا أحد عشر، والمؤمنون كانوا خمسمائة. فإذا أضفنا إلى ما تقدم، أن الذين آمنوا بالمسيح بعد ذلك بواسطة رسله، لم يروا بأنفسهم شخصه مقاماً من الأموات - لأنه كان يكفيهم أن يتلقوا خبر قيامته من شهود عيان تؤيد شهادتهم نبوات العهد القديم من جهة، والمعجزات التي أجراها الرسل باسم المسيح المقام إثباتاً لحقيقة قيامته من جهة أخرى (أعمال 3: 15-16 ، 14: 9-10) - اتضح لنا أن الدعوى التي نبحثها لا مجال لها على الإطلاق.

  7. جاء في (يوحنا 20: 17) أن المسيح قال لمريم المجدلية بعد قيامته «لا تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي». بينما جاء في (متى 28: 9) أن بعض النساء أمسكن بقدمي المسيح بعد قيامته.

    الرد:

    1. لو أن أحد كتبة الإنجيل قال إن المسيح نهى المجدلية عن أن تلمس قدميه، وقال آخر إنها أمسكت بقدميه دون أن ينهاها المسيح عن لمسهما، لكان هناك تناقض. لكن قول الواحد إن المسيح نهى مريم عن لمس قدميه، وقول الآخر إنه ترك اثنتين غيرها تمسكان بقدميه، لا يدل على وجود تناقض ما.

    2. فضلاً عن ذلك فإنه بالرجوع إلى الكتاب المقدس، يتضح لنا أن مريم المجدلية كانت أكثر الناس محبة للمسيح وإخلاصاً له (والدليل على ذلك أنها عندما وجدت قبره خالياً رفضت أن تعود إلى المدينة مع باقي النساء، بل ظلت بجواره تبكي حتى رأت المسيح). ومن ثم لا شك أنها عندما أبصرته حياً بعد موته، اندفعت نحوه لتمسك به بكل قواها، غير عالمة أن علاقة المؤمنين به في العهد الجديد الذي تأسس على موته وقيامته، ستكون علاقة روحية محض فقد قال الرسول «إِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا ٱلْمَسِيحَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، لٰكِنِ ٱلآنَ لا نَعْرِفُهُ بَعْدُ» «حسب الجسد» (2 كورنثوس 5: 16)، لذلك كان من البديهي أن ينهى المسيح مريم المجدلية عن الإمساك المادي به، باعتبارها أول من لقيته، وذلك لكي تحمل لنفسها ولتلاميذه هذا الفكر الجديد.

    3. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن المسيح كان قد أعد لمريم هذه خدمة هامة عاجلة، وهي إذاعة بشرى قيامته بين تلاميذه، حتى ينتعش إيمانهم وتطمئن قلوبهم (يوحنا 20: 17)، اتضح لنا أنه كان من البديهي أيضاً أن لا يسمح لها وقتئذ أن تصرف وقتاً معه، بعد أن أيقنت أنه قام من بين الأموات.

  8. جاء في (متى 28: 1) أن مريم المجدلية ومريم الأخرى ذهبتا لتنظرا القبر، وجاء في (مرقس 16: 1) أن مريم أم يعقوب وسالومة ذهبتا إلى القبر. وجاء في (لوقا 24: 1) أن النساء اللاتي شاهدن دفن المسيح، ذهبن إلى القبر في أول الأسبوع ومعهن أناس - بينما جاء في (يوحنا 20: 1) أن مريم المجدلية ذهبت إلى القبر، أي أنها ذهبت وحدها إليه.

    الرد: يكون التناقض بين الأقوال بنفي بعضها للبعض الآخر، فلو أن أحد كتبة الإنجيل قال إنه ذهب إلى القبر كثير من النساء، بينما قال آخر إنه لم يذهب إليه إلا مريم المجدلية، لكان هناك تناقض. لكن قول أحدهم إن مريم المجدلية ذهبت إلى القبر، وقول الآخر إنه ذهب معها بعض النساء، دليل ليس على التناقض، بل على أن الأول اكتفى بذكر أشهر النساء، أما الآخر فذكر أسماء النساء اللاتي ذهبن معها، لكي يسجل كل ما حدث بالتفصيل - والدليل على ذلك أن يوحنا الذي لم يسجل أسماء النساء اللاتي ذهبن مع مريم المجدلية إلى القبر، ذكر أن مريم المجدلية قالت له ولبطرس «أَخَذُوا ٱلسَّيِّدَ مِنَ ٱلْقَبْرِ وَلَسْنَا نَعْلَمُ (بصيغة الجمع) أَيْنَ وَضَعُوهُ» (يوحنا 20: 2)، الأمر الذي يدل على معرفته بأن مريم لم تذهب إلى القبر وحدها، بل ذهب معها غيرها.

  9. جاء في (مرقس 16: 6) أن النساء عندما رأين الملاك اندهشن، بينما جاء في (متى 28: 9) أنهن أمسكن بقدمي المسيح دون دهشة. وجاء في (لوقا 24: 37) أن التلاميذ اضطربوا لما رأوا المسيح، بينما جاء في (يوحنا 20: 20) أنهم فرحوا عندما رأوه. وجاء في (متى 28: 10) ان المسيح أوصى النساء أن يقلن لتلاميذه أن يذهبوا إلى الجليل لكي يروه، بينما جاء في (لوقا 24: 33-36) أن تلاميذه رأوه في أورشليم.

    الرد: ليس هناك تناقض بين هذه العبارات، إذ كان من البديهي أن تأخذ النساء الدهشة عندما رأين القبر خالياً وملاكاً موجوداً فيه. إذ كن قد رأين بعيونهن من قبل أن المسيح قد دفن في هذا القبر، وأن حجراً قد وضع عليه. لكن عندما رأين المسيح وتحققن من شخصيته، زالت الدهشة وأمسكن بقدميه.

    وكان من البديهي أن يضطرب التلاميذ عندما رأوا المسيح لأول وهلة، لأنهم كانوا يعلمون علم اليقين أنه مات ودفن. لكن لما اقتربوا منه وتحققوا من شخصيته زال عنهم الإضطراب وحل محله السلام والإبتهاج. وكان من الواجب عليهم أن يذهبوا إلى الجليل طاعة لأمر المسيح، لكن عدم تصديقهم الخبر الخاص بقيامته في أول الأمر، جعلهم ينتظرون في أورشليم. فقدَّر المسيح حالتهم النفسية وأخذ يعلن ذاته لهم في هذه البلدة المرة بعد الأخرى، حتى آمنوا جميعاً بقيامته. وبعد ذلك استطاعوا أن يذهبوا مع خمسمائة من المؤمنين به إلى الجليل (1 كورنثوس 15: 6) لرؤيته هناك، كما قال لهم من قبل.

  10. جاء في (مرقس 16: 8) أن النساء لم يقلن لأحد شيئاً مما رأينه داخل القبر، بينما جاء في (متى 28: 8) أن اثنتين منهن أخبرتا التلاميذ بكل ما رأينه.

    الرد: ليس هناك تناقض بين القولين، إذ المعقول أن النساء المذكورات رجعن إلى أورشليم بسرعة، ولذلك لم يقلن لأحد من المارة شيئاً مما رأينه داخل القبر، لكن لما قابلن التلاميذ أخبرنهم بكل ما رأين، لأن هؤلاء كان يهمهم معرفته أكثر من أي شخص آخر في الوجود.

  11. جاء في (متى 28: 9 و10) أن الملاك عندما أخبر امرأتين أن المسيح قام من الأموات، انطلقتا إلى المدينة. وعندما كانتا في الطريق إليها، قابلهما المسيح وقال لهما: اذهبا وقولا لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل. بينما جاء في (لوقا 24: 8-11) أن بعض النساء عندما علمن (أو سمعن) بقيامة المسيح، رجعن وأخبرن الأحد عشر تلميذاً، فلم يصدقوهن.

    الرد: ليس هناك أي تناقض بين القولين، فالنساء بمجرد أن علمن بقيامة المسيح انطلقن إلى التلاميذ لكي يخبرنهم بما حدث. ولما لم يصدقوهن، لأن الخبر كان جديداً وغريباً بالنسبة إليهم، رجعت اثنتان منهن إلى القبر، عسى أن تعرفا شيئاً أكثر عن حقيقة قيامة المسيح. فظهر لهما الملاك المذكور وأخبرهما عن قيامته له المجد بأكثر وضوح. وفي أثناء عودتهما هذه المرة ظهر لهما المسيح أيضاً، وطلب منهما أن يقولا لتلاميذه أن يذهبوا إلى الجليل.

  12. جاء في (متى 28: 2) أن زلزلة عظيمة قد حدثت لأن ملاك الرب نزل من السماء، وجاء ودحرج الحجر عن باب القبر، وجلس عليه. بينما جاء في (مرقس 16: 4، 5) أن النساء عندما ذهبن إلى القبر، رأين الحجر مدحرجاً. ولما دخلن رأين شاباً جالساً على اليمين لابساً حلة بيضاء. وجاء في (لوقا 24: 2-4) أن النساء وجدن الحجر مدحرجاً عن القبر، وفيما هن محتارات، إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة. بينما جاء في (يوحنا 20: 1 و12 و13) أن المجدلية رأت الحجر مرفوعاً، فانحنت إلى القبر فرأت ملاكين.

الرد:

  1. إن التناقض بين الأقوال يكون كما ذكرنا فيما سلف بنفي بعضها للبعض الآخر، فلو أن أحد كتبة الإنجيل قال إنه حدثت زلزلة، وقال الآخر إنه لم تحدث زلزلة، لكان هناك تناقض، لكن إذا لم يتعرض الثاني لذكر شيء عن الزلزلة، فليس هذا دليلاً على عدم حدوثها، بل دليلاً على أنه اختصر في تسجيل تفصيلات القيامة، فاكتفى بالإشارة إلى دحرجة الحجر عن القبر وعدم وجود جسد المسيح فيه، الذي هو أهم أمر في القيامة.

  2. كما أن قول الواحد إن ملاكاً جلس على الحجر، وقول الآخر إن النساء رأين شاباً لابساً حلة بيضاء داخل القبر، لا تناقض بينهما، إذ من المحتمل أن الملاك بعدما دحرج الحجر، جلس عليه لكي يرعب الحراس. لكن لما رأى النساء مقبلات إلى القبر، انتقل إلى داخله (لئلا يهربن كما هرب الحراس من قبل)، فتراءى لهن أنه شاب لابس حلة بيضاء.

    وهكذا الحال من جهة قول الواحد إن النساء رأين ملاكين، وقول الآخر إنهن رأين رجلين. لأنه من المسلم به أنه إذا أرسل الله لنا ملاكاً، لا يرسله في هيئته الخاصة كروح، لأننا لا نستطيع في هذه الحالة إدراكه، بل يرسله لنا في الهيئة المألوفة لنا وهي الهيئة البشرية. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإنجيل الذي سجل أن النساء رأين منظر ملائكة، هو الذي سجل أنهن رأين رجلين بثياب براقة (لوقا 24: 4-23)، لا يبقى هناك مجال للإعتراض.

  3. كما أن قول أحد كتبة الإنجيل «إن النساء رأين في القبر ملاكاً»، وقول الآخر «إن مريم المجدلية رأت فيه ملاكين» لا يوجد تناقض بينهما، لأن الفاعل ووقت الفعل ليسا واحداً في العبارتين - إذ أن الذي رأى في العبارة الأولى، هن النساء اللاتي أتين مع مريم المجدلية، وذلك على أثر ذهابهن إلى القبر. أما الذي رأى في العبارة الثانية فهي مريم المجدلية وحدها، وذلك بعد انطلاق النساء المذكورات إلى المدينة - لأن المجدلية عندما رأت الحجر مدحرجاً، لم تدخل القبر مع النساء المذكورات (إذ خانتها قواها بسبب محبتها الشديدة للمسيح وحزنها العميق لموته)، بل ظلت خارجاً تبكي لظنها أن جسد المسيح قد سُرق (يوحنا 20: 11-13)، ولما انطلقت النساء المذكورات إلى المدينة استجمعت قواها واتجهت بمفردها إلى القبر للتأكد من حقيقة الأمر - وإذا اختلف الفاعل وزمن الفعل، فليس من الضروري أن يكون المفعول واحداً. لأنه من المحتمل أن يكون أحد الملاكين قد استدعي حينئذ من الله، للقيام بمهمة خاصة.

    وظهور ملاك أو ملاكين أو جماعة من الملائكة عند قيامة المسيح، يشبه ما حدث عند ولادته من ظهورات سماوية. فقد ظهر جند من الملائكة يسبحون الله (لوقا 2: 13)، بينما الذي بشر الرعاة بمولد المسيح كان ملاكاً واحداً (لوقا 2: 9). كما أننا إذا وضعنا أمامنا أن الغرض الوحيد من ذهاب النساء إلى قبر المسيح هو تعطير جسده، وليس مشاهدة ملائكة أو خلائق أياً كان نوعها، اتضح لنا أن القول برؤيتهن لملائكة أو لملاك، لا مجال للتلفيق أو التخيل فيه على الإطلاق.

وهناك أدلة متعددة تقضي قضاء تاماً على فكرة وجود تناقض بين كتبة الإنجيل، نذكر منها ما يأتي:

  1. إن الكاتب الذي لم يذكر حادثة في قيامة المسيح ذكرها غيره، سجل عبارة تدل على حدوثها. فمثلاً (أ) مرقس لم يذكر أن بطرس الرسول ذهب إلى قبر المسيح كما قال لوقا (24: 12)، غير أنه ذكر أن الملاك قال للنسوة أن يخبرن بطرس أن المسيح قد قام (مرقس 16: 7)، الأمر الذي يدل على معرفة مرقس أن بطرس ذهب إلى القبر، وأنه كان في حيرة من جهة قيامة المسيح. (ب) ولوقا لم يذكر أن التلاميذ ذهبوا إلى القبر كما قال يوحنا (20: 3)، غير أنه قال «وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ ٱلَّذِينَ مَعَنَا إِلَى ٱلْقَبْرِ» (لوقا 24: 24)، الأمر الذي يدل على معرفة لوقا أن بعض تلاميذ المسيح ذهبوا إلى القبر. (ج) ويوحنا لم يذكر أن بطرس خرج من القبر متعجباً كما ذكر لوقا (24: 12)، ولكن جاءت في أقواله عبارة تدل على سبب هذا التعجب، فقد قال إن بطرس رأى الأكفان موضوعة، والمنديل الذي كان على رأس المسيح ليس موضوعاً مع الأكفان، بل ملفوفاً في موضع وحده (يوحنا 20: 7). (د) ويوحنا لم يذكر أن التلاميذ خافوا عندما رأوا المسيح كما ذكر لوقا (24: 37)، لكن وردت في أقواله عبارة تدل على سبب الخوف المذكور، فقال إن المسيح دخل إليهم والأبواب مغلقة (يوحنا 20: 19). (هـ) ويوحنا لم يذكر أن التلاميذ ظنوا أن المسيح روح من الأرواح، كما قال لوقا، ولكنه ذكر أن المسيح أراهم يديه وجنبه (يوحنا 20: 20)، الأمر الذي يدل على أنهم ظنوا في البداءة أنه روح لا جسد له. (و) ومرقس لم يذكر أن المسيح طلب من تلاميذه طعاماً، ليثبت لهم أنه هو بعينه وليس روحاً كما ذكر لوقا (24: 41)، ولكنه ذكر أن التلاميذ كانوا متكئين وقتئذ لتناول الطعام (مرقس 16: 14)، الأمر الذي يدل على أنه طلب طعاماً للغرض المذكور. (ز) ومتى ذكر أن التلاميذ انطلقوا إلى الجليل بعد قيامة المسيح، دون أن يذكر الغرض من ذلك (متى 28: 16)، أما بولس فذكر أن هناك ظهر المسيح لخمسمائة من المؤمنين به (1كورنثوس 15: 16) - وقس على ذلك الشيء الكثير.

    لذلك فإن الإختلافات التي يقال بوجودها بين أقوال كتبة الإنجيل، إن دلت على شيء فإنها تدل (أولاً) على أن يد التحريف لم تمتد إلى هذه الأقوال، لأن أول ما يفعله الذين يحرفون شيئاً من كتاب، هو حذف العبارات التي تبدو أنها متناقضة. (ثانياً) على أنه لم يحدث بين كتبة الإنجيل أي تواطؤ، لأن أول ما يفعله الذين يتواطئون على كتابة خبر ما، هو حبك التفاصيل الواردة به حتى لا يبدو بينها اختلاف ما - لكن ما يسترعي الإنتباه أنه على الرغم من عدم حدوث أي تواطؤ بينهم أو تحريف في أقوالهم، اتفقت الأقوال المذكورة في معناها كل الإتفاق، الأمر الذي يدل على أن كلاً منهم قد توخى الصدق والأمانة في كل ما سجله منها.

  2. إن الأستاذ العقاد الذي درس الإختلافات المزعومة بين كتبة الإنجيل، انتهى إلى القول «لأنه إذا اختلطت الروايات في أخبار السيد المسيح، فليس في هذا الإختلاط بدع، ولا دليل قاطع على الإنكار، لأن الأناجيل تضمنت أقوالاً في مناسباتها لا يسهل القول باختلافها، إذ أن مواطن الإختلاف بينها معقولة مع استقصاء أسبابها والمقارنة بينها وبين آثارها. ورفضها بالجملة أصعب من قبولها، عند الرجوع إلى أسباب هذا أو ذاك. كما أن مواضع الإتفاق بينها تدل على أنها رسالة واحدة من وحي واحد» (عبقرية المسيح ص 126 ، والله ص 149-154).

  3. أخيراً نقول: إن كلاً من كتبة الإنجيل كتب عن المسيح إلى شعب يختلف عن الشعب الذي كتب إليه الآخر، من جهة الجنسية والثقافة والعادات، كما كتب عن المسيح من ناحية تختلف عن تلك التي كتب عنها غيره، ومن ثم استعمل كل منهم الأسلوب الذي يفهم به الشعب الذي كتب إليه الناحية التي قصدها من شخصية المسيح، ولذلك فإن ما يقال عنه اختلاف بين كتبة الإنجيل، هو في الواقع تنوع اقتضته الظروف الخاصة بكتابته. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن كتابة الإنجيل بالوضع الذي هو عليه بواسطة أربعة من أتباع المسيح يختلف أحدهم عن الآخر كل الإختلاف، أدعى إلى تصديقه مما لو كان قد كتبه شخص واحد، لا يبقى لدينا مجال للشك في صدق هذا الإنجيل، أو الإعتراض عليه.

لقد كتب متى لليهود، ومرقس للرومانيين، ولوقا لليونانيين، ويوحنا كتب للجميع، وعلى الأخص للفلاسفة الذين كانوا يبحثون في سر اللوغوس (أو بالحري العقل المدبر للكون)، الذي كانوا يقولون بوجوده مع الله أزلاً.

كتب متى عن المسيح بوصفه الملك الذي تنبأت عنه التوراة من قبل، ومرقس كتب عنه بوصفه الشخص الذي كرس نفسه وكل دقيقة من وقته لتنفيذ مشيئة الله، ولوقا كتب عنه بوصفه ابن الإنسان الذي تجلت فيه الإنسانية بكمالها الذي يريده الله، ويوحنا كتب عنه بوصفه «الكلمة» أو «اللوغوس» الذي يعلن الله من الأزل إلى الأبد.

2 - آراء القائلين بدفن المسيح قبل موته، والرد عليها

وهؤلاء هم القاديانيون أتباع مرزا غلام أحمد في بلاد الهند، وكان مرزا (كما يقول الدكتور محمد إسماعيل الندوى، في كتابه: القاديانية) يعرف كل الديانات العالمية، كما كان يجادل أصحابها لكي يثبت لهم صدق العقائد الإسلامية - غير أنه كان يقول بصلب المسيح دون موته، لكي يتجنب القول بقيامته، وذلك لئلا تكون للمسيح (حسب زعم مرزا) الزعامة الروحية التي كان يريدها هو لنفسه بعد رسول الإسلام. وفيما يلي ما ذهب إليه مرزا في سبيل إنكار قيامة المسيح:

إن تلاميذ المسيح أنزلوه عن الصليب وهو حي، ولما وضعوه في القبر دهنوه بمرهم خاص، ولذلك لم يأت اليوم الثالث حتى كان قد أفاق. فخرج من القبر وانطلق شرقاً حتى وصل إلى الهند، وهناك عاش حتى بلغ العاشرة بعد المائة، وعند موته دُفن في بلدة كشمير. والدليل على أنه لم يمت (كما يقولون) إنه كان قد شَبَّه وجوده في القبر بوجود يونان في بطن الحوت. وبما أن يونان لم يمت بل دخل بطن الحوت حياً وخرج منه حياً، يكون المسيح قد دخل القبر حياً وخرج منه حياً أيضاً.

الرد:

  1. إن الأدلة التي ذكرناها فيما سلف، لا تدع مجالاً للشك في أن المسيح ظل على الصليب حتى مات. فالقول بأنه على أثر دهن جسمه بمرهم خاص، أفاق واتجه إلى الشرق، هو محض افتراء. كما أن القبر الموجود في الهند الذي يقال إن المسيح دفن فيه، ثبت بالدليل القاطع أنه بُني بعد المسيح بمئات السنين لشخص يهودي يدعى آساف. وقد أشار الأستاذ العقاد إلى هذه الحقيقة في كتابه «عبقرية المسيح».

  2. أما من جهة تشبيه وجود المسيح في القبر، بوجود يونان في بطن الحوت، فنقول: إن الرمز لا يكون مثل المرموز إليه من كل الوجوه. فالذي آوى يونان كان حوتاً، بينما الذي آوى المسيح كان قبراً. ويونان دخل إلى بطن الحوت وهو بكامل صحته، أما المسيح فدخل إلى القبر بعد صلبه. والغرض من إلقاء يونان في البحر هو نجاة الملاحين من الرياح التي كانت تعصف بسفينتهم، أما الغرض الظاهري من صلب المسيح فهو إسكات صوته الذي كان يوبخ به رجال الدين ويظهر عيوبهم - فلا يجوز المقارنة بين الرمز وبين المرموز إليه من كل النواحي، بل من الناحية الرئيسية وحدها. والناحية الرئيسية المشتركة بين يونان وبين المسيح، هي أن كليهما اختفى اختفاء تاماً عن العالم ثلاثة أيام. لكن الأول كان موجوداً حياً في بطن الحوت، أما الثاني فكان ميتاً في بطن الأرض كإنسان. لكن من جهة أنه أقنوم الابن، فقد كان حياً في قبره وقتئذ، كما هو الحال معه في كل مكان وزمان. (لأن جميع الأدلة الكتابية والعقلية تثبت أنه كان قد مات على الصليب) - ولو كان يونان مات مثل المسيح، لما كان قد قام، إذ أنه كان إنساناً عادياً. أما المسيح فكان من الضروري أن يقوم كإنسان بعد موته، لأنه لم يكن إنساناً عادياً، بل كان في جوهره هو كلمة الله، رئيس الحياة (أعمال 3: 15).

    ولزيادة الإيضاح من جهة اختلاف الرمز عن المرموز إليه من نواح متعددة نقول: إن رفع المسيح على الصليب كان يُرمَز إليه برفع الحية النحاسية، ودفنه كان يرمز إليه بدفن حبة الحنطة. فقد قال المسيح «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 14 و15). وقال «إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ ٱلْحِنْطَةِ فِي ٱلأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلٰكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» (يوحنا 12: 24) - ومع ذلك فشتان الفرق بين الحية النحاسية والمسيح، وبين حبة الحنطة وبينه. إذ أن الحية النحاسية لا ترمز إليه إلا من حيث أنها رُفعت عن الأرض، وكان كل من لُدغ بالحية المحرقة ونظر إلى الحية المذكورة بالإيمان، يُشفى - وكان ذلك مثالاً للخطاة الذين عندما يتجهون إلى المسيح بكل قلوبهم، يتمتعون بالحياة الأبدية. وحبة الحنطة لا ترمز إلى المسيح إلا من حيث أنها تختفي عن الأنظار في باطن الأرض لكي تأتي بثمر كثير - وكان ذلك مثالاً للمسيح الذي على أساس موته الكفاري، صار الخلاص الأبدي لكل من يؤمنون به إيماناً حقيقياً.

3 - آراء القائلين بإحياء المسيح ورفعه بعد موته والتعليق عليها

  1. قال محمد بن إسحق إن المسيح توفي سبع ساعات، ثم أحياه الله ورفعه (تفسير الإمام الرازي ج 2 ص 457-458).

  2. وقال إدريس إن الله أمات المسيح ثلاثة أيام ثم بعثه ثم رفعه (إبن كثير ج 1 ص 366).

  3. وقال إبن حزم وأبو علي الجبائي المعتزلي إن المسيح مات ثم أحياه الله ورفعه (نظرة عابرة على من ينكر نزول عيسى ص 3 ، 32).

  4. وقال إخوان الصفا عن المسيح «إنه ظهر للناس وجعل يدعوهم ويعظهم حتى أُخذ وحُمل إلى ملك إسرائيل، فأمر بصلبه. فصُلب وسمرت يداه على خشبتي الصليب، وبقي مصلوباً من ضحوة النهار إلى العصر، وطلب الماء فسُقي الخل، وطُعن بالحربة في جنبه. ثم دُفن مكان الخشبة، ووكل بالقبر أربعون رجلاً. وهذا كله بحضرة أصحابه وحوارييه. وبعد ذلك بثلاثة أيام اجتمعوا في الموضع الذي وعدهم أن يتراءى لهم فيه، فرأوا تلك العلامة التي كانت بينه وبينهم» (إخوان الصفا ج 4 ص 30).

  5. وأخيراً قال الدكتور فؤاد حسانين، في مقالته «إلهي إلهي لماذا تركتني» التي نُشرت في (أخبار اليوم في 25-4-1970) إن موت المسيح على الصليب ليس معجزة المسيحية، والعكس هو الصحيح، أعني قيام المسيح من بين الموتى. كما قال إن المراد بالآية «إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا...» (سورة آل عمران 3: 55)، إقامة الله للمسيح بعد موته.

إن هؤلاء الأشخاص لا يعبرون عن الرأي العام في الإسلام، لأن الأغلبية الساحقة من المسلمين يعتقدون أن المسيح لم يصلب بل رفع إلى السماء حياً. ومع ذلك فبدراسة ظروف الأشخاص المذكورين وآرائهم، يتضح لنا:

  1. إن محمد بن إسحق وإدريس كانا من أوائل المسلمين، الذين كانوا يتمسكون بالإسلام كل التمسك. فإن جاز القول إن إدريس قد نقل رأيه من جهة المدة التي ظل المسيح فيها ميتاً عن المسيحيين، لكن لا يمكن أن يكون ابن اسحق قد نقل رأيه عنهم من جهتها، لأنه قال إن المسيح توفي سبع ساعات، وليس ثلاثة أيام. ومع كل هذا فإنهما معاً لم يذكرا أن المسيح مات مصلوباً، لكي يكون كفارة عن الخطاة، أو أنه لكفاية كفارته من جهة وكماله الذاتي من جهة أخرى قد قام من بين الأموات، كما يؤمن المسيحيون، الأمر الذي يدل على أنهما لم يعتمدا في آرائهما على ما جاء في الإنجيل.

  2. كانت لابن حزم وأبي علي الجبائي المعتزلي دراية واسعة بالأديان جميعاً. والإعتقاد بأن أولهما انخدع بما جاء في العتيبة لابن مالك، وإن الثاني كان شاذاً، موجه إلى ما خفي من طبائع في نفسيهما. وليست لنا القدرة للحكم على ما في نفوس البشر من طبائع، فقد علمتنا الأيام أنه ليس كل من نرميهم بالشذوذ يكونون شاذين، وليس كل من نرميهم بالانخداع يكونون منخدعين.

  3. كان إخوان الصفا (كما قال الدكتور محمد غلاب في كتابه عنهم): «من كبار العلماء وفطاحل المفكرين في القرن الرابع للهجرة، كما كانوا أشد أهل زمانهم محافظة على مكارم الأخلاق وتمسكاً بالفضائل العالمية من إخلاص ووفاء. وكانوا مقتنعين برسالة الإسلام وينظرون إليه على أنه جماع النبوة العالمية، وأن النبي محمد هو خاتم النبيين». فلا يمكن أن يكونوا قد نقلوا خبري صلب المسيح وقيامته من الإنجيل، لا سيما وقد ذكروا أن الحراس الذين كلفوا بحراسة قبره كانوا أربعين، وأن أصحابه وحوارييه (جميعاً) كانوا حاضرين عند دفنه ووضع الحراس على قبره، الأمر الذي ليس له أساس في الإنجيل. وإذا كان الأمر كذلك، فمن المحتمل أن يكونوا قد اقتبسوا آرائهم من مصادر تاريخية كانت موجودة في أيامهم.

  4. أما من جهة الرأي المذكور في البند الخامس، فإن صاحبه بالإضافة إلى أنه معروف بتمسكه بالإسلام، فهو شخص نال من الثقافة قدراً عظيماً، ومن ثم لا بد أنه درس الكثير مما قيل عن قيامة المسيح من الموت وما قيل أيضاً عن عدم قيامته من بين الأموات، ولذلك فمن المحتمل أن يكون قد انتهى إلى رأيه بعد دراسة عقلية اقتنع بصدقها.

  5. أخيراً نقول إن المسيحية كانت قد دخلت بلاد العرب قبل الإسلام بمئات السنين، واعتنقها عدد ليس بالقليل من سكانها الوثنيين مثل قبائل حمد وربيعة وغسان ونجران. ولما ظهر الإسلام في هذه البلاد اعتنقه كثير من الوثنيين، كما اعتنقه أيضاً كثير من المسيحيين. وحينئذ حدثت مجادلات متعددة بين الذين ظلوا على مسيحيتهم وبين الذين اعتنقوا الإسلام. فجاءت الآية «وَلاَ تَجَادِلُوا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» (سورة العنكبوت 29: 46). فنشأ الفريقان وكل منهما على عقيدته، وظل الأمر على هذه الحال ردحاً من الزمن. ولذلك ليس من الجائز أن يقال إن نفراً من أوائل المسلمين اقتبسوا بعض عقائدهم من الإنجيل، لأنه لو كان الأمر كذلك، لكانوا قد ظلوا على مسيحيتهم إن كانوا مسيحيين، أو لكانوا قد اعتنقوا المسيحية إن كانوا وثنيين، من قبل.

الباب الخامس: أدلة متنوعة على قيامة المسيح

اتضح لنا في الباب الأول صدق شهادة الكتاب المقدس عن قيامة المسيح من بين الأموات، وفندنا في الأبواب الثلاثة التالية له كل الدعاوى التي أقيمت ضد قيامته له المجد. ومن ثم نكتفي هنا بالقول إن قيامة المسيح من الأموات ليست حقيقة دينية فحسب، بل إنها أيضاً من أهم الحقائق الثابتة التي يشهد عنها التاريخ، ويؤيدها العقل السليم، وتستريح لها الضمائر التي لا زيغ فيها، كما يتضح من الفصول التالية.

1 - أدلة تاريخية عن قيامة المسيح

وجود الإعتقاد بقيامة المسيح منذ القرون الأولى:

  1. حمل التاريخ إلينا الكثير من الكتب التي صدرت في القرون الثلاثة الأولى. وبالإطلاع عليها يتضح لنا أن حادثة قيامة المسيح من الأموات، كانت معروفة كل المعرفة لدى جميع المسيحيين الذين عاشوا في هذه القرون. فقد قال أغناطيوس «إن المسيح تألم لأجل خطايانا، وقام في اليوم الثالث لأجل تبريرنا». وقال بوليكاربوس «من ينكر قيامة المسيح، فهو من أتباع الشيطان». لأن من ينكر المسيح ينكر كفاية كفارته، ومن ينكر كفاية كفارته لا يكون له خلاص أو قبول أمام الله، ومن ثم يكون مثله مثل الشيطان الذي لا خلاص له على الإطلاق. وقال بلسيطون «المسيح قام من بين الأموات، لأنه لم يكن مجرد إنسان». وقال يوستينوس «المسيح يسوع مخلصنا قام من الأموات في أول الأسبوع». وقال إيريناوس «إننا نحتفل بسر قيامة المسيح في اليوم الأول من الأسبوع».

  2. وفي سنة 325 م عقد في نيقية عاصمة بيثينية في آسيا الصغرى مجمع بأمر قسطنطين الأكبر، حضره 318 أسقفاً من جميع أنحاء العالم وكثير من القسوس وعلماء الدين، لكي يضعوا قانوناً للإيمان المسيحي (بمناسبة انتشار بدع الغنوسطيين وغيرهم من الهراطقة)، فتم وضعه في هذه السنة. وأوله «بالحقيقة نؤمن بإله واحد».

    وجاء فيه «يسوع المسيح تأنس وصلب عنا في عهد بيلاطس البنطي وتألم وقبر، وقام من بين الأموات في اليوم الثالث، كما في الكتب المقدسة». ولا يزال هذا القانون معروفاً لدى جميع المسيحيين على اختلاف طوائفهم، يحفظه عن ظهر قلب كثيرون منهم.

تخصيص يوم الأحد للعبادة بدلاً من يوم السبت:

كان اليهود يقدسون يوم السبت بكل تدقيق (أو بالحري لا يشتغلون فيه على الإطلاق)، طاعة للوصية الرابعة من الناموس الذي أعطاه الله لموسى النبي (خروج 20: 8-11)، كما لا يزال يفعل كثيرون منهم إلى الوقت الحاضر. وقد سبق الله وأعلن عن أهمية هذه الوصية لديه في العهد القديم، فأمر برجم إنسان كان يجمع حطباً يوم السبت (العدد 15: 32-36). كما نبه إلى وجوب حفظ اليوم المذكور بكل تدقيق كعهد بينه وبين اليهود (لاويين 19: 3 و30، حزقيال 22: 26)، لأنه كان رمزاً إلى الراحة الحقيقية التي قصد الله أن يعطيها للبشر عامة، بإعتاقها من الخطيئة التي تردت فيها أحقاباً طويلة. لكن بالرجوع إلى التاريخ، نرى أن الذين اعتنقوا المسيحية من اليهود في القرن الأول، تحولوا عن تقديس السبت (على الرغم من التحذيرات التي تهدد بالعقاب الشديد لكل من يعمل عملاً في هذا اليوم)، وأخذوا في تقديس الأحد وتخصيصه للعبادة، مع الذين اعتنقوا المسيحية من الوثنيين، الأمر الذي يدل على أنهم كانوا يعلمون علم اليقين أن المسيح قام في هذا اليوم، وأنه بقيامته فيه قد أسس عهداً جديداً أفضل بكثير من العهد القديم، الذي كانوا يعيشون فيه من قبل.

وقد أشار الرسول إلى أفضلية العهد الجديد، فقال عن المسيح: «لٰكِنَّهُ ٱلآنَ قَدْ حَصَلَ عَلَى خِدْمَةٍ أَفْضَلَ (من خدمة موسى) بِمِقْدَارِ مَا هُوَ وَسِيطٌ أَيْضاً لِعَهْدٍ أَعْظَمَ، قَدْ تَثَبَّتَ عَلَى مَوَاعِيدَ أَفْضَل» (عبرانيين 8: 6) - ذلك لأن ناموس العهد القديم لم يكمل أحداً من الذين كانوا يخضعون له. أما المسيح فبواسطة كفارته التي وفَّت كل مطالب عدالة اللّه وقداسته، قد أكمل إلى الأبد المقدسين (عبرانيين 7: 19 ، 10: 14).

فإذا رجعنا إلى القرون الثلاثة الأولى، نرى شهادات متعددة عن تقديس يوم الأحد. فقال برنابا إننا على العكس من اليهود، نقدس اليوم الثامن أو بالحري «يوم الأحد». وقال أغناطيوس «يوم الرب (يوم الأحد) هو الذي نهضت فيه حياتنا بواسطة قيامة المسيح من بين الأموات». وقال يوستينوس «في يوم الأحد يجتمع الذين يعيشون في المدن والمقاطعات سوياً في مكان واحد، لقراءة مذكرات الرسل وكتابات الأنبياء، لأنه اليوم الأول من الأسبوع الذي قام فيه مخلصنا من الأموات». وقال إيريناوس «إن سر قيامة المسيح لا يمكن أن نحتفل به في أي يوم غير يوم الرب، الذي هو يوم الأحد». وقال بابياس «إننا نحفظ الأحد بدلاً من السبت، لأنه يوم القيامة». وفلافيوس جوستينوس (الذي كان فيما سلف من أعظم فلاسفة الوثنيين الذين قاوموا المسيحية، ولكن عندما اعتنقها، نادى بها بكل شجاعة في القرن الثاني) قال «إننا نحن المسيحيين نجتمع معاً في يوم الأحد للعبادة ودراسة كلمة الله، لأن الله في مثل هذا اليوم خلق النور، وفيه أيضاً أقام من الأموات مخلصنا يسوع المسيح، الذي هو نور العالم».

عيد القيامة

  1. إن الذين اعتنقوا المسيحية من اليهود أهملوا أعيادهم التي أمرهم الله بالإحتفال بها في العهد القديم، وأخذوا يحتفلون بدلاً منها بعيد القيامة. وكانوا يطلقون عليه عيد الفصح، لأن الفصح اليهودي لم يكن إلا رمزاً إلى المسيح من جهة كونه فدية عن الذين يؤمنون به إيماناً حقيقياً (1 كورنثوس 5: 7)، ولأن المسيح أيضاً قام من بين الأموات في أثناء العيد المذكور. وكانوا يفرحون في عيد القيامة فرحاً روحياً عظيماً، ويصرفونه في تقديم الشكر والتسبيح للّه. ثم أخذوا مع الذين اعتنقوا المسيحية من الوثنيين، يمثلون في هذا العيد قيامة المسيح، فيطفئون الشموع في اجتماعاتهم الدينية مثالاً للظلام الذي حدث عند موت المسيح، ثم يشعلونها رمزاً إلى قيامته وظهوره. كما أن التحية التي كان يحيي بها كل واحد منهم صاحبه في هذا اليوم هي «أخرستوس آنستي»، فيرد عليه صاحبه بالقول، «اليثوس آنستي». ومعنى العبارة الأولى «المسيح قام»، ومعنى الثانية «حقاً قام».

  2. ومما يسجله لنا التاريخ بهذا الصدد أن أوسابيوس المؤرخ الشهير في القرن الرابع ذكر، في كتابه (تاريخ الكنيسة المسيحية) أن أسقف أزمير زار أسقف روما سنة 160 م، للتحدث معه بشأن تحديد موعد عام لعيد القيامة. وأن بطليموس الفرماوي الفلكي الذي عاش في القرن الثالث، وضع تقويماً يحدد موعد هذا العيد، وأن أساقفة روما وأنطاكية وأورشليم في ذلك الوقت، وافقوا على التقويم المذكور سنة 322 م، الأمر الذي يدل على أن خبر قيامة المسيح كان موضوعاً موثوقاً بصحته منذ القرون الأولى للمسيحية.

2 - أدلة أثرية على قيامة المسيح

القبر الفارغ:

إن القبر الفارغ الذي دُفن فيه المسيح لا يزال موجوداً إلى الآن، ويزوره كثير من المسيحيين منذ القرون الأولى في كل عام. وخلو القبر المذكور من جسد المسيح منذ اليوم الثالث لموته، وعدم العثور على أثر لهذا الجسد في أي مكان، على الرغم من الجهود الجبارة التي بذلها كهنة اليهود ورؤساء الرومان في هذا السبيل، للقضاء على اسم المسيح، دليل واضح على أن المسيح قام من الأموات، وصعد بعد ذلك إلى السماء، كما أعلن الكتاب المقدس.

نُسخ الكتاب المقدس الأثرية:

هناك نُسخ كثيرة من الكتاب المقدس يرجع تاريخها إلى القرون الأولى، وأهم هذه النسخ:

  1. النسخة الأخميمية، ويرجع تاريخها إلى القرن الثالث. وقد اكتشفت في أخميم (مصر) سنة 1945 م، بواسطة العلامة شستر بيتي، وهي محفوظة الآن بلندن.

  2. نسخة سانت كاترين، ويرجع تاريخها إلى ما قبل القرن الرابع، وقد اكتشفتها بعثة أمريكية بمساعدة أساتذة مصريين من جامعة الإسكندرية (فاروق سابقاً) سنة 1950 م.

  3. النسخة السينائية، ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع. وقد اكتشفها تشندروف سنة 1884 م، وأودعت في مكتبة بطرسبرج. ثم بيعت إلى المتحف البريطاني سنة 1935.

  4. النسخة الفاتيكانية، ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع. وكانت محفوظة بمكتبة الفاتيكان. لكن عندما اقتحم نابليون إيطاليا، نقل هذه النسخة إلى باريس ليدرسها علماؤه هناك.

  5. النسخة الإسكندرانية، ويرجع تاريخها إلى القرن الخامس، ومودعة الآن بالمتحف البريطاني.

  6. النسخة الإفرائمية، ويرجع تاريخها إلى القرن الخامس، ومودعة بمتحف باريس.

وقد قارن كثير من العلماء هذه النسخ بالكتاب المقدس الموجود بين أيدينا، فلم يجدوا اختلافاً في موضوع ما، الأمر الذي يدل على أن حادثة قيامة المسيح من الأموات الواردة بهذا الكتاب حادثة حقيقية.

الصور والنقوش القديمة:

هناك آثار متعددة من صور زيتية ونقوش، على قطع من الخشب والحجر، يرجع تاريخها إلى القرنين الأول والثاني، تدل على أن المسيح قام من بين الأموات، وصعد بجسده حياً إلى السماء. وقد نشر كثير من العلماء الصور الفوتوغرافية لهذه الصور والنقوش، مثل السير وليم رمزي، وذلك في كتابه «الإكتشافات الحديثة وصحة وقائع العهد الجديد».

المعموديات الأثرية:

إن كل كنيسة من الكنائس القديمة التي يرجع تاريخها إلى القرون الأولى وصاعداً، بها معموديات. كان يغطس في مائها كل من يريد اعتناق المسيحية (كما يحدث لغاية الآن)، عند الصلاة لأجله، وذلك للدلالة على موته مع المسيح عن أهواء العالم، ثم يصعد بعد ذلك من مائها للدلالة على أنه بالإيمان الحقيقي بالمسيح، قد قام معه بحياة روحية جديدة (كولوسي 2: 12-13)، يستطيع بها التوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية، الأمر الذي يدل على أن المسيحيين كانوا منذ نشأتهم يؤمنون ليس بموت المسيح فحسب، بل وبقيامته أيضاً من الأموات.

3 - أدلة عقلية على قيامة المسيح

بالإضافة إلى الأدلة العقلية التي ذكرناها في الباب الأول عن صدق شهادة الكتاب المقدس الخاصة بقيامة المسيح، نأتي فيما يلي بأدلة متنوعة غيرها تؤيد هذه الحادثة.

شجاعة التلاميذ وسرورهم:

لو أن المسيح لم يقم من الأموات، لبدت على تلاميذه علامات اليأس والفشل، بل ولتشتت شملهم وانقطعت أواصر الصلة بينهم، بعد أن بدد موت المسيح الآمال الدنيوية التي كانوا يرجون الحصول عليها من وراء تتلمذهم له، ولعاد كل منهم إلى قريته وإلى حرفته كما تشهد بذلك تصرفاتهم في أول الأمر (يوحنا 21: 3).

ولكن بالرجوع إلى التاريخ نرى أنه في اليوم الثالث لموت المسيح، ظهرت عليهم علامات الفرح ولازمهم هذا الفرح كل حياتهم، على الرغم من الإضطهاد الذي كان ينزل بهم من وقت لآخر (أعمال 5: 38-41) كما استعادوا وحدتهم وأخذوا ينادون بقيامة المسيح بكل جرأة أمام اليهود والرومان وغيرهم من الناس، حتى أن التلميذ الذي بسبب خوفه وجبنه كان قد أنكره أمام جارية (يوحنا 18: 17)، أصبح ينادي بأعلى صوته أمام رؤساء الكهنة بأنهم أجرموا بصلبهم المسيح، ومع ذلك فقد أقامه الله من الأموات (أعمال 2: 22-24)، الأمر الذي يدل على أن المسيح لا بد أنه قام فعلاً بعد موته، وأن كهنة اليهود أنفسهم كانوا يعرفون هذه الحقيقة كل المعرفة.

إصرارهم على الشهادة بقيامة المسيح:

لو كانت قيامة المسيح أمراً مختلقاً كما يقول المعترضون، لكانت عبارات الشك والتلعثم قد ظهرت في حديث التلاميذ عنها، شأن الذين يعرفون الحقيقة لكن يخفونها لغرض في نفوسهم. أو كانوا قد لجأوا في مناداتهم بقيامته إلى الأدلة التي يرونها كافية لإقناع الناس بها، لكن بالرجوع إلى أقوالهم نراها في غاية اليقين والصراحة، وخالية خلواً تاماً من أية محاولة لإثبات صدق قيامة المسيح، الأمر الذي يدل على أن قيامته حقيقة واقعة عرفها كل الناس وقتئذ، حتى أنه لم يكن هناك داع لإثبات صدقها بأي دليل أو برهان.

وضعهم قيامة المسيح أساساً للإيمان المسيحي:

وقف الرسل إزاء قيامة المسيح موقفاً حاسماً قاطعاً. فقال أحدهم لبعض المؤمنين: «وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ ٱلْمَسِيحُ يُكْرَزُ بِهِ أَنَّهُ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، فَكَيْفَ يَقُولُ قَوْمٌ بَيْنَكُمْ إِنْ لَيْسَ قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ؟ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ فَلا يَكُونُ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ! وَإِنْ لَمْ يَكُنِ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ، وَنُوجَدُ نَحْنُ أَيْضاً شُهُودَ زُورٍ لِلّٰهِ، لأَنَّنَا شَهِدْنَا مِنْ جِهَةِ ٱللّٰهِ أَنَّهُ أَقَامَ ٱلْمَسِيحَ وَهُوَ لَمْ يُقِمْهُ - إِنْ كَانَ ٱلْمَوْتٰى لا يَقُومُونَ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ ٱلْمَوْتٰى لا يَقُومُونَ فَلا يَكُونُ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ. أَنْتُمْ بَعْدُ فِي خَطَايَاكُمْ! إِذاً ٱلَّذِينَ رَقَدُوا فِي ٱلْمَسِيحِ أَيْضاً هَلَكُوا!... فَإِنَّهُ إِذِ ٱلْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ، (وهو آدم)، بِإِنْسَانٍ أَيْضاً (الذي هو المسيح من الناحية الناسوتية) قِيَامَةُ ٱلأَمْوَاتِ. لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ ٱلْجَمِيعُ هٰكَذَا فِي ٱلْمَسِيحِ سَيُحْيَا ٱلْجَمِيعُ» (1كورنثوس 15: 12-22)، إذا آمنوا به إيماناً حقيقياً، الأمر الذي يدل على أن الرسل كانوا متأكدين تماماً من قيامة المسيح من الأموات.

شهادة بولس الرسول:

صار بولس الرسول الذي كان من أشهر علماء الفلسفة والدين عند اليهود من أكبر أنصار المسيحية والمجاهدين في سبيلها. وبما أن شخصاً مثله لا يمكن أن يكون قد تحول عن عقيدته الأولى دون فحص أو تدقيق، (لأنه كان مثقفاً ثقافة عالية، كما كانت له مكانة مرموقة في أمته.) فشهادته عن قيامة المسيح بناء على ظهوره له بمجده السماوي في رابعة النهار، هي شهادة يوثق بها ويعوَّل عليها. ولو فرضنا جدلاً أن بصره قد خدعه كما يدعي بعض النقاد، فهل من المعقول أن يكون بصر رفاقه الذين كانوا معه وقتئذ، قد خدعهم هم أيضاً؟ طبعاً كلا، لأن هؤلاء قد شهدوا جميعاً أنهم أبصروا نوراً وهاجاً، وسمعوا صوت صاحب هذا النور (وإن كانوا لم يتبينوا حقيقته أو يفهموا معنى أقواله)، فسقطوا على وجوههم خوفاً وارتعاباً. وعندما نهضوا رأوا بولس أعمى لا يبصر، كدليل ملموس على تأثره بالنور الباهر الذي سطع من الشخص الذي ظهر له. فاقتادوا بولس بأيديهم ودخلوا به إلى دمشق (أعمال 9: 3-9). فإذا أضفنا إلى ذلك، أنه لم يستطع واحد من اليهود أو الرومان أن يخطّئ بولس الرسول في شهادته، مع أن ذلك كان ميسوراً لهؤلاء وأولئك لو كان مخدوعاً (إذ كان من الممكن أن يستدعوا رفاقه المذكورين ويستجوبوهم أمامه، عن سبب العمى الذي قال إنه أصابه عند ظهور المسيح له في نوره الباهر)، اتضح لنا أن شهادته عن قيامة المسيح وصعوده إلى السماء، وظهوره له بمجده من هناك، لا بد أنها شهادة صادقة.

كمال المسيح وتقوى تلاميذه ونزاهتهم:

كان المسيح كاملاً كل الكمال، فليس من المعقول أن يكون قد أدخل في روع تلاميذه أنه قام من الأموات بجسده الذي صلب، لو لم يكن قد قام فعلاً به. كما أن تلاميذه كانوا على درجة عظيمة من التقوى حتى استطاعوا بكرازتهم بالمسيح مماتاً ومقاماً، أن يجعلوا الوثنيين الفجار، أشخاصاً قديسين أمناء. فليس من المعقول أيضاً أن يكونوا قد لفقوا حادثة قيامة المسيح، بل لا بد أنها حادثة حقيقية.

انتشار المسيحية:

لو لم يكن المسيح قد قام من بين الأموات، لما قامت للمسيحية قائمة (إذ ليس من المعقول أن تقوم على آراء شخص قال إنه سيقوم بعد موته لكنه لم يقم) بل ولما فكر في اعتناقها إنسان على الإطلاق (وذلك لعدم توافقها مع ميول البشر وغرائزهم الجسدية، وتعرض أتباعها للإضطهاد والآلام في الحياة الدنيا)، لذلك فانتشار المسيحية دليل واضح على أن المسيح قام من الأموات، ودليل أيضاً على أنه يبعث في أتباعه حياة جديدة تسمو بهم فوق الأهواء والشهوات، وتقدرهم على احتمال الإضطهاد والآلام بكل فرح وسرور.

شهادة بعض علماء اليهود وغيرهم عن قيامة المسيح:

درس عدد كبير من العلماء والفلاسفة والمؤرخين الذين كانوا ينكرون فيما سلف قيامة المسيح الوقائع الخاصة بها دراسة دقيقة، فانتهى بهم الأمر (مع اختلاف مبادئهم وعقائدهم) إلى الاعتراف بصدقها. ويعوزنا الوقت إذا حاولنا الإتيان بأقوالهم جميعاً، لذلك نكتفي بما يأتي:

قال الحبر اليهودي كاوزنر في كتابه «يسوع الناصري»: «من المحال أن نفترض وجود خدعة في أمر قيامة المسيح، لأنه لا يعقل أن تظل خدعة 19 قرناً» - هذا لأن كاوزنر عاش في القرن التاسع عشر.

وقال وستكوت: «لا توجد حادثة تاريخية واحدة دعمتها أدلة أقوى من تلك التي تدعم قيامة المسيح».

وقال دكتور ديني: «لا مجال للشك في قيامة المسيح، بعد أن غيرت يوم الراحة الذي كان اليهود يتمسكون به بكل شدة».

وقال تيودور: «لو كان حماس تلاميذ المسيح هو الذي ولَّد الإعتقاد بقيامته لديهم، لكان هذا الحماس قد برد شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى درجة الخمول والجمود. لكن إن كان ظهور المسيح لهم بعد موته، هو الذي بعث فيهم النشاط المتواصل في ميدان خدمة الإنجيل، فلا ندحة من التسليم بأن ظهوره كان أمراً حقيقياً وليس خيالياً».

وقال ستروس أحد أرباب النقد، ما ملخصه: «لو كان المسيح قد أنزل عن الصليب قبل أن يموت (كما يدعي بعض الناس)، ثم استطاع بعد دفنه أن يخرج من القبر بوسيلة ما، لاحتاج إلى مدة طويلة من الزمن للعلاج. ولعجز أيضاً عن بعث الإيمان في تلاميذه بأنه انتصر على الموت، وعن توليد القدرة فيهم على المناداة بالإنجيل في كل مكان، على الرغم من الإضطهاد الذي كان يحيط بهم من جراء هذا العمل».

وقال الدكتور توماس الذي كان أستاذاً للتاريخ في جامعة أكسفورد: «لما طُلب مني أن أقوم بتدريس التاريخ القديم، وأفحص أدلة المؤرخين على صدق ما جاء به من أخبار، لم أجد خبراً، أجمع على صدقه كل الأشخاص المحايدين مثل خبر قيامة المسيح».

وقال السير إدوار كلارك أحد كبار رجال القانون: «إذا كان الشاهد الصادق هو الذي يتجلى في بساطته وثباته، وترفعه عن التأثر بالحوادث المحيطة. فإن شهادة الإنجيل عن القيامة تبلغ هذه المرتبة من الصدق. وإني كمحام أقبلها دون قيد كشهادة رجال صادقين، على حوادث أمكنهم إثباتها بحجج لا سبيل إلى التشكك فيها».

أخيراً نقول: حقاً إن قيامة المسيح من الأموات تتعارض مع ما ألفه البشر من أحداث، لكنها لا تتعارض مع العقل بل تسمو فوق إدراكه. وهناك فرق عظيم بين الأمور الأولى والأمور الثانية. فالأولى لا تتفق مع العقل إطلاقاً، أما الثانية فتتفق معه في أسبابها، لكن لسموها يعجز عن الإحاطة بها، ومن ثم فإنه لا يعترض عليها بل يرضخ أمامها. وقيامة المسيح من الأموات هي من هذه الأمور كما اتضح لنا مما سلف، وكما يتضح بأكثر تفصيل فيما يلي من فصول.

4 - أدلة روحية على قيامة المسيح من الأموات

ولادة المسيح من عذراء:

ولادة المسيح من عذراء دليل قاطع على أنه وإن كان قد ظهر في جسد مادي، غير أنه لم يكن من جهة جوهره واحداً من سكان الأرض، بل كان هو الرب من السماء. وقد شهد الوحي بهذه الحقيقة بكل جلاء فقال «الإنسان الأول (أي آدم) من الأرض ترابي (أي أن جسده مكون من التراب). الإنسان الثاني (وهو المسيح يسوع) الرب من السماء» (1 كورنثوس 15: 47 و48). وشخص مكون جسده بفعل سماوي، كان لا بد أن يقوم بجسده هذا من القبر ويعود إلى السماء، كما أن الشخص المكون جسده من تراب الأرض، لا بد أن يعود إلى ترابها (تكوين 3: 19).

ويُعتبر المسيح الإنسان الثاني (بالمقابلة مع آدم، الإنسان الأول) من جهة نيابته عن البشر. فآدم بوصفه رأس البشر الجسدي كان نائباً عنهم، ولذلك فإنه بسقوطه سقطوا جميعاً، كما ورثوا منه الطبيعة التي تميل إلى الخطيئة والعصيان. والمسيح بوصفه الرأس الروحي للبشر، هو النائب الجديد لهم. فكل الذين يؤمنون به بقلوبهم يتمتعون ببره إلى الأبد، كما يحصلون منه على حياة روحية تسمو بهم فوق ناموس الخطيئة الذي يسيطر عليهم.

عصمته المطلقة:

كانت حياة المسيح على الأرض حياة الكمال المطلق، وقد شهد أعداؤه وأصدقاؤه معاً بهذه الحقيقة. فقال أعداؤه عنه إنه ليست فيه علة ما (يوحنا 18: 38)، كما قالوا عنه إنه بار (متى 27: 24)، فضلاً عن ذلك لما سأل جمعاً غفيراً منهم: «من منكم يبكتني على خطيئة؟» لم يستطع أحدٌ منهم أن يذكر له خطيئة واحدة، اقترفها في أي دور من أدوار حياته (يوحنا 8: 46). أما أصدقاؤه فقالوا عنه إنه «لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلا وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ، ٱلَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ» (1 بطرس 2: 22-23)، وأنه قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السماوات (عبرانيين 7: 26)، وإنه أظهر لكي يرفع خطايانا، وليس فيه خطيئة (1 يوحنا 3: 5).

وقد شهد الإسلام عن عصمة المسيح، فجاء في تفسير الزمخشري «ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه، إلا مريم وابنها» (الكشاف ج 2 ص 142). وجاء في تفسير الإمام البيضاوي «إن المسيح كان غلاماً طاهراً من الذنوب» (تفسيره ج 2 ص 175).

ولما كان الموت هو أجرة الخطيئة (رومية 6: 23)، (تكوين 2: 17)، لذلك كان من البديهي أن لا يموت المسيح بأي حال من الأحوال، بل أن يعود إلى السماء في أي وقت أراد. ولكن إذ قصد أن يتمم بنفسه فداء الله للبشر، قبل على نفسه الخطيئة الأصلية (2 كورنثوس 5: 21 ، رومية 8: 3) والخطايا الفعلية أيضاً (1 بطرس 2: 24)، واحتمل دينونة الأولى وقصاص الثانية، حتى الموت - ومن ثم فإنه لكماله الذاتي وكمال فدائه معاً، لم يكن لهذا الموت أن يسود عليه، كما ساد ويسود على البشر الذين بسبب خطاياهم، لهم في ذواتهم قضاء الموت. فيموتون ويظلون في قبورهم حتى يوم الدينونة.

هذا مع ملاحظة أن الموت الجسدي بالنسبة إلى المؤمنين الحقيقيين لا يُسمى موتاً بل رقاداً، لأنهم سيقومون بعده إلى سعادة أبدية. ولذلك قال الرسول عنهم «لا أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ ٱلرَّاقِدِينَ، لِكَيْ لا تَحْزَنُوا كَٱلْبَاقِينَ ٱلَّذِينَ لا رَجَاءَ لَهُمْ. لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذٰلِكَ ٱلرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ سَيُحْضِرُهُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً مَعَهُ» إلى المجد (1 تسالونيكي 4: 13-14).

قدرته الفائقة:

إذا رجعنا إلى تاريخ المسيح، نرى أنه كان يكيّف النواميس الطبيعية حسب مشيئته. (فأولاً) لما وجد تلاميذه مرة على وشك الغرق، ذهب إليهم ماشياً على الماء (متى 14: 25). (ثانياً) ولما وجد بعد قيامته أنهم قد تجمعوا معاً في حجرة أحكموا غلقها بسبب خوفهم من اليهود، دخل إليهم والأبواب مغلقة (يوحنا 20: 19). ومن ثم كان أمراً طبيعياً أن لا يقوم فقط من الأموات، بل وأن يخرج أيضاً من القبر، والحجر لا يزال موضوعاً على فوهته. إذ أن الملاك لم يدحرج الحجر عن القبر لكي يخرج المسيح (لأنه لم يكن ثمة داع لذلك، كما يتضح من الحادثة الثانية التي ذكرناها)، بل لكي يدخل أتباعه إلى القبر ويؤمنوا أنه قام من بين الأموات. ومن ثم لم يقل الوحي إن المسيح خرج من القبر عندما دحرج الملاك الحجر عنه، أو إن الحراس رأوا المسيح يصعد من القبر في هذا الوقت، بل قال فقط: إن الحراس ارتعبوا لما رأوا ملاك الرب. الأمر الذي يدل على أن المسيح لا بد أنه نفذ من القبر قبلما دحرج الملاك الحجر عنه. كما نفذ من الأكفان دون أن تنحل عقدة من عقدها، أو تتغير طية من طياتها، أو تتزحزح هي قيد شعرة عن مكانها، كما ذكرنا فيما سلف.

كونه هو الحياة ورئيس الحياة:

شهد المسيح عن نفسه أنه هو الطريق والحق والحياة (يوحنا 14: 6). وشهد بطرس الرسول عنه أنه رئيس الحياة أو بالحري أصلها ومصدرها (أعمال 3: 15). وشهد يوحنا الرسول عنه أنه الحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا (1يوحنا 1: 2). ولما كان الشيء لا يقبل ضده (فالنور لا يقبل الظلمة. والحق لا يقبل الباطل، والحياة لا تقبل الموت)، كان من البديهي أن يدفع المسيح الموت عن جسده الممات، ويستعيد إليه الحياة في عزة وكرامة منتصراً على القبر والهاوية معاً. وقد أشار له المجد إلى هذه الحقيقة من قبل، فقال عن نفسه إن له سلطاناً أن يسلمها، وسلطاناً أن يستردها أيضاً (يوحنا 10: 17-18).

إحياؤه لموتى الجسد وموتى الروح:

لم يكن المسيح فقط يقيم الموتى من قبورهم، ويدعهم يعيشون كما كانوا يعيشون من قبل، كما فعل مع إبنة يايرس وابن أرملة نايين ولعازر (مرقس 5 ، لوقا 7 ، يوحنا 11)، بل كان أيضاً يحيي نفوس الذين سيطرت عليهم الخطيئة ويجعلها أهلاً للتوافق مع الله في صفاته الأدبية السامية، كما لا يزال يفعل لغاية الآن مع كل الذين يؤمنون به إيماناً حقيقياً. والرسول الذي اختبر هذه الحياة الروحية قال «لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ ٱلْحَيَاةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ وَٱلْمَوْتِ» (رومية 8: 2). كما قال للمؤمنين إنهم بعدما كانوا أمواتاً بالذنوب والخطايا أحياهم الله مع المسيح (أفسس 2: 1-5). وكل ذلك مصداقا لقوله له المجد «أَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ (أي البشر)حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ (حياة)أَفْضَلُ» (يوحنا 10: 10)، وقوله «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱلٱٰبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ... وَلا يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ ٱنْتَقَلَ مِنَ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا 3: 36، 5: 24).

وقد أشار الإمام الرازي إلى أن المسيح هو مصدر الحياة، فقال عنه «إنه كان السبب لحياة الخلق في أديانهم» (تفسيره ج 3 ص 364)، كما أشار الإمام البيضاوي إلى هذه الحقيقة فقال عنه «إنه كان يحيي الأموات والقلوب» (تفسيره ج 2 ص 130).

وشخص يحطم قيود الموت ويخرج النفوس من الهاوية لكي تعود إلى أجسادها، ويبعث في الخطاة أيضاً حياة روحية تحررهم من قوة الخطيئة وتسمو بهم فوقها، لا يمكن أن يظل جسده في القبر بعيداً عن روحه، بل لا بد أن تعود روحه إلى جسده المائت، ثم تقوم به ظافرة منتصرة، متحدية القبر وما وراء القبر.

عدالة الله:

لو لم يقم المسيح من الأموات، لتسرب إلينا الشك من جهة وجود الله وعدالة ناموسه لأنه قد سمح بموت شخص لا يجوز أن يدنو منه الموت على الإطلاق. أما الآن فلا يمكن أن يتسرب إلينا شك ما.

قد يتساءل البعض قائلاً: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم ينقذ الله القديسين الشهداء من القتل قديماً!! (الجواب) إن هؤلاء القديسين تكمن فيهم الطبيعة الخاطئة مثل غيرهم من الناس، كما أنهم ليسوا معصومين من تنفيذ رغباتهم، ومن ثم فإنهم يحملون في ذواتهم قضاء الموت. وفوق هذا كله لو كان الله قد أنقذهم من القتل بيد الأشرار، لكانوا سيموتون يوماً من الأيام. ولذلك كان من الأشرف لهم أن يموتوا شهداء الحق عوضاً أن يموتوا موتاً عادياً.

أما المسيح فهو غير قابل للموت بغير إرادته لأجل التكفير عن الخطيئة، وذلك بسبب كماله الذاتي، ومن ثم كان لا بد أن يقوم من الأموات، حتى تكون لناموس الله الأخلاقي سيادته وقدسيته. وإذا كان الأمر كذلك، لا تكون الغرابة في أن المسيح قام بعد موته، بل تكون الغرابة إذا لم يكن قد قام بعده. لأنه في هذه الحالة يكون هناك شخص توافرت فيه كل مقومات الحياة إلى الأبد، ومع ذلك يكون قد مات، الأمر الذي لا يمكن حدوثه بناء على هذا الناموس.

فقيامة المسيح من الأموات لم تكن بسبب قوة خارجة عنه، بل بسبب قوة كامنة في ذاته. وقد أشار له المجد إلى هذه الحقيقة فقال عن نفسه: «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ» (يوحنا 11: 25). ولذلك لم يكن يتحدث عن موته إلا بالإقتران مع قيامته، كما شاهدنا في الباب الأول. وكل ما في الأمر أن جسده ظل في القبر، وظلت روحه في الفردوس، حتى انتهت المدة المعينة حسب مشيئة الله، هذه المشيئة التي كان المسيح حريصاً على تنفيذها بالتمام، بوصفه الإنسان الكامل. ومن ثم فبمجرد قبوله من الله مشيئة القيامة، قام في الحال بقوة القيامة الكامنة في ذاته.

وإذا كان الأمر كذلك، فليست قيامة المسيح هي التي توجته بتاج البقاء والخلود كما يقول بعض الناس، كلا، فقد كان يلبس هذا التاج منذ بداءة حياته على الأرض، وذلك بسبب قداسته المطلقة وسماوية أصله، وكونه هو الحياة والقادر على كل شيء - بل أن قيامته كانت فقط مصادقة السماء العلنية على عدم جواز سيادة الموت عليه. وقد أشار الرسول إلى هذه الحقيقة الثمينة فقال عن المسيح إنه قام «نَاقِضاً أَوْجَاعَ ٱلْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِناً أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ» (أعمال 2: 24)، بأي حال من الأحوال.

الباب السادس: نتائج قيامة المسيح

1 - نتائج قيامة المسيح بالنسبة إلى شخصه المبارك

إعلان بنوَّته الفريدة للّه:

  1. قال بولس الرسول عن المسيح «وَتَعَيَّنَ (أو بالحري اتضح أنه) ٱبْنَ ٱللّٰهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ، بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (رومية 1: 4)، لأن قيامته من بينهم دليل قاطع على أن شهادته عن نفسه أنه ابن الله، هي شهادة حقيقية وليست تجديفاً، كما قال اليهود.

    وعلى هذا النسق فإن المسيح هو «ابن الله» ليس لأنه وُلد من العذراء، بل لأنه «ابن الله» وُلد منها، إذ أنه في ذاته هو الحياة(يوحنا 11: 25) والحياة لا تحتاج في تجسُّدها إلى بذرة حياة من رجل ما. ومما تجدر الإشارة إليه أن المسيح هو «ابن الله» ليس لأنه قام من الأموات، بل لأنه في ذاته «إبن الله» قام من بينهم، إذ أن بنوته الفريدة للّه كامنة في شخصيته وليس في قيامته، وما قيامته إلا نتيجة ملازمة لشخصيته. ولذلك إن جاز لبعض الذين عاصروه في أوائل خدمته أن يشكّوا في بنوته الفريدة للّه (مع أنه لا عذر لهم في شكهم هذا، فحياة المسيح التي لا مثيل لها، وأعماله ومعجزاته التي تفوق العقل والإدراك، كل هذه كانت تنطق بأنه ليس من الأرض بل من السماء)، فإن قيامته من الأموات لا تترك مجالاً للشك في صدق هذه البنوَّة على الإطلاق.

  2. وقد أشار بولس الرسول في موضع آخر إلى استعلان بنوة المسيح الفريدة لله بواسطة قيامته من الأموات. فقال لليهود «ونحن نبشركم بالموعد الذي صار لآبائنا (إبراهيم وإسحق ويعقوب وغيرهم) أن الله أكمل هذا (الموعد) لنا نحن أولادهم إذ أقام يسوع. كما هو مكتوب في المزمور الثاني: «أَنْتَ ٱبْنِي. أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ» لأنه أقامه من الأموات، غير عتيد أن يعود أيضاً إلى فساد.

    ولا يُراد بكلمة «ولدتك» هنا المعنى الحرفي (لأن الله لا يلد كما أنه لم يولد) بل يُراد بها المعنى الروحي. والمعنى الروحي للولادة هو إظهار غير الظاهر. فهذه الآية تشير إلى إظهار المسيح للناس بعد أن كان غير ظاهر لهم، وذلك بالولادة من العذراء. كما تشير إلى قيامته من بين الأموات لأنها أظهرت لهم حقيقة ذاته كابن الله، هذه الحقيقة التي كان يتعذّر عليهم إدراكها من قبل، بسبب قصور إدراكهم. لذلك قال أيضاً في مزمور آخر: «لَنْ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَاداً. لأَنَّ دَاوُدَ بَعْدَ مَا خَدَمَ جِيلَهُ بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ رَقَدَ وَٱنْضَمَّ إِلَى آبَائِهِ، وَرَأَى فَسَاداً. وَأَمَّا ٱلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ (وهو المسيح)فَلَمْ يَرَ فَسَاداً» (أعمال 13: 32-37)، ليس فقط لأنه قام من بين الأموات، بل لأنه أيضاً كان غير قابل للفساد وهو مائت، وذلك لتنزهه عن الخطيئة تنزيهاً تاماً.

  3. وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن المسيح لم يقم من الأموات بفضل صلاة أحد القديسين كما كانت الحال مع ابن الشونمية، أو قام مربوطاً بأكفانه واحتاج إلى من يحله منها كما كانت الحال مع لعازر، أو قام خائر القوى واحتاج إلى من يمده بطعام كما كانت الحال مع ابنة يايرس. بل قام بعزة واقتدار معلناً لتلاميذه سلطانه الإلهي، وموبخاً إياهم لعدم إيمانهم في أول الأمر بقيامته، كما أجرى أمامهم معجزات باهرة، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في أنه ابن الله، كما أعلن عن نفسه مراراً وتكراراً.

إعلان كفاية كفارته عن البشر جميعاً:

  1. إن قيامة المسيح من بين الأموات، كما أعلنت أنه ابن الله، أعلنت أيضاً كفاية كفارته عن البشر جميعاً، وذلك بسبب إيفائها لكل مطالب عدالة الله وقداسته نيابة عنهم، لأنه لولا ذلك لكان المسيح قد ظل في قبره إلى الآن.

    وقد أشار الوحي إلى كفاية كفارة المسيح، فقال «ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَاإ» (أفسس 1: 7). كما قال عنه «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (1 يوحنا 2: 2).

  2. ولذلك قال المسيح من قبل «هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ... اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لا يُدَانُ، وَٱلَّذِي لا يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ» (يوحنا 3: 16-18). كما قال «مَنْ يَسْمَعُ كَلامِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلا يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ ٱنْتَقَلَ مِنَ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا 5: 24). وقد أعلن الرسول هذه الحقيقة بعينها، فقال لجميع الناس عن المسيح: إن كل من يؤمن به، ينال باسمه «غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (أعمال 26: 18).

ولإيضاح أهمية كفارة المسيح نقول: إن الخطيئة التي نأتيها هي إساءة إلى حق اللّه، وحق اللّه لا حد لقدره، بينما الأعمال الصالحة التي نقوم بها، مهما كثرت، هي محدودة في قدرها والأمور المحدودة في قدرها لا تستطيع أن تفي مطالب أمر لا حد لقدره، ولذلك فإن هذه الأعمال لا يمكن أن تكفر عن خطيئة واحدة من خطايانا - هذا من جهة، ومن جهة أخرى: بما أن اللّه وحده هو الذي يستطيع أن يفي لذاته مطالب حقه التي لا حد لها، لذلك يكون هو وحده القادر أن يكفر عن خطايانا. وبما أن التكفير عنها يتطلب تحمُّل نتائجها عوضاً عنا حتى يكون تكفيراً قانونياً، لذلك كان من البديهي أن يقوم اللّه بهذه المهمة. لأنه لو غفر لنا خطايانا دون التكفير عنها، يكون قد انحاز إلى رحمته دون عدالته أو إلى محبته دون قداسته. وهذا ما لا يجوز حدوثه معه تعالى، لأن صفاته كلها متعادلة بسبب كماله المطلق. وقيام اللّه بهذا التكفير، يتطلب اتخاذه ناسوتاً مقدساً لائقاً به، يتحمل فيه نتائج خطايانا. وهذا هو عين ما فعله في المسيح، عندما سمح بصلبه وموته.

إعلان أهليته للوساطة لأجل الخطاة:

إن الخطاة الذين يشعرون بعدم إمكانية قبولهم لدى الله بسبب إساءتهم إليه، يتخذون لأنفسهم وسطاء من الأنبياء والصالحين، لكي يجلبوا إليهم (حسب اعتقادهم) غفران الله ورضاه. لكن الوسيط الذي يمكن أن يكون ليس فقط خالياً من الخطيئة وكاملاً في ذاته كل الكمال، بل يجب أن يكون أيضاً قادراً على إيفاء مطالب عدالة الله وقداسته من جهة الذين يتوسط لأجلهم. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الشخص الوحيد الذي له حق الوساطة لأجل الخطاة هو المسيح دون سواه، لأنه هو الذي بموته النيابي على الصليب وفَّى كل مطالب عدالة الله وقداسته من نحوهم. لذلك قال الوحي: «لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ» (1 تيموثاوس 2: 5 و6).

ويضع الوحي المسيح أمامنا في هذه الآية كالإنسان، لكي يعلن لنا أننا إذا أردنا إنساناً يشفق علينا ويرثي لنا، وفي الوقت نفسه يكون له، بسبب كماله المطلق، القبول التام أمام اللّه، حتى يستطيع أن يكون وسيطاً بينه وبيننا (كما يشتاق البشر جميعاً)، فهذا الإنسان هو المسيح من الناحية الإنسانية. فمن ثم كان من البديهي أن يقوم المسيح من بين الأموات بعدما وفّى مطالب عدالة الله وقداسته، لكي يتولى كالفادي مهمة الوساطة المذكورة.

إعلان دوام اتصاله بالمؤمنين:

  1. لو كان المسيح قد ظل في قبره، لانقطعت علاقته بالمؤمنين أثناء وجودهم على الأرض. لكن بقيامته من بين الأموات أثبت صدق شهادته عن نفسه أنه حي (يوحنا 14: 19)، عبرانيين 7: 8، رؤيا 1: 18)، وأنه يكون فعلاً مع هؤلاء المؤمنين كل الأيام إلى انقضاء الدهر (متى 28: 20)، وأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة منهم باسمه فهناك يكون في وسطهم بلاهوته (متى 18: 20)، وأنه أيضاً يعطيهم كل ما يطلبونه باسمه من الله في الصلاة (يوحنا 14: 13 و 14).

  2. والرسول الذي اختبر حقيقة وجود المسيح المستمر مع المؤمنين الحقيقيين طوال وجودهم على الأرض، قال لهم عنه إنه يكملهم ويثبتهم ويقويهم ويمكّنهم، بل وأيضاً ينجيهم من الضيقات ويحفظهم من الشر (1 بطرس 5: 10 ، فيلبي 4: 13 ، 2 كورنثوس 1: 1 ، 2 تسالونيكي 3: 3) كما يحل بالإيمان في قلوبهم (أفسس 3: 17) ويكون بمثابة الرأس لهم، ويكونون هم بمثابة الجسد له (أفسس 5: 23 و29-31). فلهم أن يفرحوا في كل حين (فيلبي 4: 4)، الأمر الذي يدل على أن علاقتهم به، ليست العلاقة الوهمية أو الشكلية بل العلاقة العملية الحقيقية، التي تشبع نفوسهم وتسمو بها فوق العالم كثيراً.

إعلان أحقيته في الملك الأبدي على العالم:

  1. إن صاحب الحق في الملك الأبدي هو من يغلب الموت الذي يحول بين البشر وبين البقاء. ولما كان المسيح هو الذي غلب الموت، فمن ثم له وحده هذا الملك، ولذلك قال الملاك للعذراء مريم عنه «وَلا يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ» (لوقا 1: 33). وقال هو لليهود «وَأَيْضاً أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ ٱلآنَ تُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ ٱلْقُّوَةِ، وَآتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ» (متى 26: 64) وقد عرف معاصروه شيئاً عن هذا الملكوت. فقد قالت له سيدة «قُلْ أَنْ يَجْلِسَ ٱبْنَايَ هٰذَانِ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَٱلآخَرُ عَنِ ٱلْيَسَارِ فِي مَلَكُوتِكَ» (متى 20: 21). كما أشار تلاميذه إلى الملك المذكور فقال بولس عن المسيح «يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ حَتَّى يَضَعَ جَمِيعَ ٱلأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ» (1كورنثوس 15: 25)، وقال يوحنا الرسول عن القديسين الذين سيجتازون الضيقة العظيمة إنهم سيعيشون ويملكون مع المسيح ألف سنة (رؤيا 20: 4).

وعلماء المسلمين، مع اختلافهم عن المسيحيين من جهة هذا الملك وأهدافه، أشاروا إليه بعبارات واضحة. فقال ابن الأثير «في أثناء ملك المسيح على الأرض يرتع الأسد مع الإيل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الصبيان مع الحيات». وقال أيضاً إن المسيح سينشر في أثناء ملكه على الأرض السلام في جميع أرجائها (التاريخ الكامل ص 155 ، 161) - وهذا يتفق مع ما قاله إشعياء النبي سنة 700 قبل الميلاد «فَيَسْكُنُ ٱلذِّئْبُ مَعَ ٱلْخَرُوفِ، وَيَرْبُضُ ٱلنَّمِرُ مَعَ ٱلْجَدْيِ، وَٱلْعِجْلُ وَٱلشِّبْلُ وَٱلْمُسَمَّنُ مَعاً، وَصَبِيٌّ صَغِيرٌ يَسُوقُهَا. وَٱلْبَقَرَةُ وَٱلدُّبَّةُ تَرْعَيَانِ. تَرْبُضُ أَوْلادُهُمَا مَعاً، وَٱلأَسَدُ كَٱلْبَقَرِ يَأْكُلُ تِبْناً. وَيَلْعَبُ ٱلرَّضِيعُ عَلَى سَرَبِ ٱلصِّلِّ، وَيَمُدُّ ٱلْفَطِيمُ يَدَهُ عَلَى جُحْرِ ٱلأُفْعُوانِ.(والناس)لا يَسُوؤُونَ وَلا يُفْسِدُونَ فِي كُلِّ جَبَلِ قُدْسِي، لأَنَّ ٱلأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ ٱلرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي ٱلْمِيَاهُ ٱلْبَحْرَ» (إشعياء 11: 6-9).

أحقية قيامته بدينونة الأشرار:

  1. قال بولس الرسول لفلاسفة اليونان «فَٱللّٰهُ ٱلآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِياً عَنْ أَزْمِنَةِ ٱلْجَهْلِ. لأَنَّهُ أَقَامَ يَوْماً هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ ٱلْمَسْكُونَةَ بِٱلْعَدْلِ، بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ، مُقَدِّماً لِلْجَمِيعِ إِيمَاناً إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (أعمال 17: 30-31). ولا يدين الله البشر بذاته أو بواسطة ملاك من لدنه، لئلا يحتجوا بأنهما لم يختبرا تجارب العالم التي يتعرضون لها. ومن ثم لا يستطيعان أن يحكما حكماً عادلاً. لكن يدينهم بواسطة المسيح يسوع (من الناحية الناسوتية) لكي لا يعتذر واحد منهم، من جهة التجارب المذكورة، لأن المسيح اختبرها مثلهم. هذا بالإضافة إلى أنه قد أعد في نعمته الغنية العلاج الكافي لخطاياهم. فقدم نفسه كفارة لكي لا يهلك كل من يؤمن به إيماناً حقيقياً بل تكون له الحياة الأبدية (يوحنا 3: 16)، كما تعهد بأن يعمل الروح القدس في نفوس الذين يؤمنون به حتى يسمو بهم فوق نقائصهم جميعاً.

    ومن البديهي أن يكون المسيح هو الشخص الذي يدين الخطاة، إذ فضلاً عن أنه هو وحده البار، والبار هو الذي له الحق في القيام بهذه المهمة، فإنه هو الذي قدم نفسه كفارة عنهم، فله وحده أن يدينهم بسبب عدم تقديرهم لكفارته ورفضهم الإفادة منها. وقد سبق المسيح وأشار إلى هذه الحقيقة، فقال «لأَنَّ ٱلآبَ لا يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ٱلدَّيْنُونَةِ لِلٱٰبْنِ» (يوحنا 5: 22)، «وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً، لأَنَّهُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ» (يوحنا 5: 27)، الذي قام بالفداء. كما قال «وَمَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ ٱلْمَلائِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ ٱلشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ... ثُمَّ يَقُولُ ٱلْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا ٱلْمَلَكُوتَ ٱلْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ. «ثُمَّ يَقُولُ أَيْضاً لِلَّذِينَ عَنِ ٱلْيَسَارِ: ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاعِينُ إِلَى ٱلنَّارِ ٱلأَبَدِيَّةِ ٱلْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلائِكَتِهِ» (متى 25: 31-46).

    وقال بطرس الرسول إن المسيح «هُوَ ٱلْمُعَيَّنُ مِنَ ٱللّٰهِ دَيَّاناً لِلأَحْيَاءِ وَٱلأَمْوَاتِ. لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ ٱلأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِٱسْمِهِ غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا (أعمال 10: 42 و43). وقال بولس الرسول «مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَدِينُ؟» ثم أجاب على هذا السؤال فقال اَلْمَسِيحُ هُوَ ٱلَّذِي مَاتَ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً» (رومية 8: 34)، كما قال عنه إنه هو الذي «يَدِينَ ٱلأَحْيَاءَ وَٱلأَمْوَاتَ، عِنْدَ ظُهُورِهِ وَمَلَكُوتِهِ» (2 تيموثاوس 4: 1).

  2. ويشهد الإسلام أيضاً أن المسيح هو الذي يحكم بالعدل ويدين الخطاة، فقد جاء في (البخاري ج 2 ص 458) أن نبي الإسلام قال «والذي نفسي بيده لا يوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً». وقال أحمد ابن حائط «المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة» (الملل والأهواء والنحل ج 1 ص 77). وقال الإمام الرازي «سيأتي المسيح إلى الأرض عند نهاية العالم ويقتل الدجال» (تفسيره ج 2 ص 458). وقال الإمام مسلم «إن الشيطان عندما يرى عيسى ابن مريم، يذوب كما يذوب الملح في الماء» (مختار الإمام مسلم وشرح النووي ص 571). وقد سبق الكتاب المقدس ونادى بهذه الحقيقة، فقال عن الشيطان إنه يسقط كالبرق أمام المسيح (لوقا 10: 18)، وإن المسيح سيطرحه في بحيرة النار (رؤيا 20: 10).

2 - نتائج قيامة المسيح بالنسبة إلينا نحن البشر

إعلان التبرير للمؤمنين الحقيقيين:

  1. قال الرسول بولس عن المسيح إنه «أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا» (رومية 4: 25). أي أن موته هو للتكفير عن خطايانا، وأن قيامته هي لتبريرنا. والسبب في ارتباط تبريرنا أمام الله بقيامة المسيح من الأموات، هو أنها الدليل على إيفائه لكل مطالب عدالة الله وقداسته نيابة عنا.

    ومما تجدر الإشارة إليه أن التبرير ليس هو ا لغفران، لأن الغفران يُراد به مجرد الصفح عن الخطاة بعدم توقيع القصاص الأبدي عليهم. أما التبرير فيُراد به جعلهم أبراراً أمام الله، أو بالحري جعلهم ليس فقط كأنهم لم يخطئوا، بل وأيضاً كأنهم عملوا كل البر الذي يتطلبه تعالى منهم. ولذلك فإنهم لا ينجون فقط من قصاص خطاياهم، بل ويكونون أيضاً أهلاً للقبول أمام الله والتمتع برضاه.

    فالبر الذي يتمتع به المؤمنون الحقيقيون أمام الله، ليس براً ذاتياً قاموا به بأنفسهم، لأنهم مهما عملوا من صلاح لا يستطيعون أن يستروا خطية واحدة من خطاياهم، بل إنه مقدَّم لهم من ا لله هبة مجانية بفضل كفارة المسيح وللإيضاح نقول. كما أن الخطايا التي قبل المسيح آلام دينونتها على الصليب ليست خطايا شخصية له، بل هي خطايانا نحن محسوبة عليه، كذلك البر الذي نتمتع به الآن على حساب كفارته ليس براً ذاتياً لنا، بل إنه بر المسيح محسوباً لنا، وهذا البر لا يدانيه أي بر في الوجود.

  2. والرسول الذي عرف سمو بر الله الذي يمنحه للمؤمنين الحقيقيين، على أساس كفارة المسيح قال: «وَلَيْسَ لِي بِرِّي ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّامُوسِ (أي الذي له على أساس حفظ وصايا الناموس)، بَلِ ٱلَّذِي بِإِيمَانِ ٱلْمَسِيحِ (أو بالحري الإيمان بشخصه)ٱلْبِرُّ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ» (فيلبي 3: 9). وقال للمؤمنين «وَأَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ ٱللّٰهِ... بِٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ» (رومية 3: 21-22). وقال لهم أيضاً «فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِٱلإِيمَانِ لَنَا سَلامٌ مَعَ ٱللّٰهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية 5: 1). وأيضا «لٰكِنِ ٱغْتَسَلْتُمْ، بَلْ تَقَدَّسْتُمْ، بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلٰهِنَا» (1 كورنثوس 6: 11). وأيضاً «مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية 3: 24). وأيضاً «وَنَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ ٱلآنَ بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ ٱلْغَضَبِ» (رومية 5: 9).

ولادة المؤمنين الحقيقيين من الله ثانية:

  1. قال الرسول بطرس «مُبَارَكٌ ٱللّٰهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (1 بطرس 1: 3) - وولادة النفوس من الله (أو بالحري حصولها على طبيعته الأدبية بواسطة الإيمان الحقيقي بالمسيح)، هي الوسيلة الوحيدة التي تؤهلها للتوافق معه في صفاته الأدبية السامية. لأن الطبيعة البشرية التي ولدنا بها، وإن اختفت نقائصها أحياناً تحت المؤثرات الإجتماعية أو الدينية، لكنها تظل كما هي الطبيعة الملوثة في الباطن بالشرور والآثام، الأمر الذي يجعلها غير صالحة للتوافق مع الله.

  2. والحق إن الولادة من اللّه هي الإحسان الذي لا يستطيع أحد في الوجود أن يجود بمثله، لأننا نرى أنه إذا أراد إنسان نبيل أن يتبنى لنفسه غلاماً مطبوعاً على الشر والإجرام (مثلاً)، فإنه يرسله إلى أرقى المعاهد ويقدم له أفخر الأطعمة والملابس، أو يوفر له كل أسباب الراحة والهناء. لكن مهما أوتي هذا الإنسان من حكمة وكرم لا يستطيع أن يلد الغلام المذكور مرة ثانية (أو بالحري لا يستطيع أن يولد فيه النفسية النبيلة التي يتمتع هو بها)، ولذلك فإن هذا الغلام وإن كان يتثقف ذهنياً وظاهرياً، غير أنه يظل كما هو بنفسيته الشريرة التي طُبع عليها. لكن ما لا يستطيع البشر قاطبة أن يعملوه، يعمله اللّه في نفوسنا بولادتنا منه عند الإيمان الحقيقي بالمسيح، إذ يغرس طبيعته الأخلاقية فينا ويمتعنا بثمارها الطيبة. فقد قال الرسول عن اللّه «كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ ٱلإِلٰهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَٱلتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ ٱلَّذِي دَعَانَا بِٱلْمَجْدِ وَٱلْفَضِيلَةِ، ٱللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا ٱلْمَوَاعِيدَ ٱلْعُظْمَى وَٱلثَّمِينَةَ لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ ٱلطَّبِيعَةِ ٱلإِلٰهِيَّةِ (الأدبية)، هَارِبِينَ مِنَ ٱلْفَسَادِ ٱلَّذِي فِي ٱلْعَالَمِ بِٱلشَّهْوَةِ» (2 بطرس 1: 3 و4) - وهذه الولادة هي ما يهفو إليها كل الذين ارتقت نفوسهم وسمت أحاسيسهم. فمن المأثور (مثلاً) عن العلامة هكسلي أنه قال «لو كانت هناك قوة تستطيع أن تجعلني أفكر في كل ما هو طاهر، وأعمل كل ما هو حق، لما ترددت في تسليم نفسي لها». ولو كان هكسلي قد درس الكتاب المقدس كما درس الفلسفة والعلوم، لكان قد عثر على القوة التي كان يهفو إليها.

    والولادة من اللّه ليست وهماً أو بعض وهم، فقد درسها كثيرون من علماء النفس، وذلك في الأشخاص الذين كانوا فيما سلف يرتكبون الجرائم ويدمنون المخدرات، فهالهم أمرها واعترفوا بحدوثها وأهميتها، فقال الدكتور دراموند عنها إنها حياة جديدة، وقال العلامة ستاربوك إنها تحدث تغييراً عظيماً في النفس. وقال الأستاذ بروننج إنها تربط النفس باللّه. وقال الأستاذ جويت إنه لا يمكن تكوين مثلها بواسطة العلاج النفساني. وقال الأستاذ سافينا رولا إنها تخلق البشر خلقاً جديداً.

  3. مما تقدم يتضح لنا أن الولادة من الله ليست هي إصلاح الطبيعة البشرية العتيقة بواسطة الصوم والصلاة والتهذيب (على فرض أنها تصلح بهذه الوسائل)، كما يقول بعض الناس. أو بدء صفحة جديدة في الحياة بواسطة التوبة عن الخطيئة أو الإنضمام إلى طائفة دينية أياً كان نوعها، بل هي خلق روحي جديد يحدث في نفوس المؤمنين الحقيقيين بالمسيح، فيستطيعون الإرتقاء فوق أهواء الجسد والتوافق مع الله في صفاته السامية كما ذكرنا.

  4. (د) وطبعاً لولا قيامة المسيح من الأموات، لما كان هناك مجال لهذه الولادة في نفوسهم، لأن قوة الحياة التي لا تزول التي قام المسيح بها من الأموات (عبرانيين 7: 16)، هي وحدها التي تستطيع أن تحيي الذين يؤمنون إيماناً حقيقياً، ممن كانوا أمواتاً بالذنوب والخطايا من قبل. ولذلك قال الرسول «اَللّٰهُ ٱلَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي ٱلرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ ٱلْكَثِيرَةِ ٱلَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِٱلْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس 2: 4 و5).

إعلان شرعية وجود المؤمنين الحقيقيين في السماء منذ إيمانهم:

  1. قال الرسول للمؤمنين عن الله «وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِيُظْهِرَ فِي ٱلدُّهُورِ ٱلآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ ٱلْفَائِقَ بِٱللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (أفسس 2: 6-7). كما قال لهم «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ» (رومية 6: 5). ولا غرابة في ذلك لأنه بما أن المسيح رضي أن يكون نائباً وبديلاً عنا، وبما أن ما يحل بالنائب من ضيق واضطهاد بسبب نيابته عن آخرين يعتبر أنه حل بهم، وأن ما يلاقيه من ربح أو نجاح، يكون من امتيازهم أن يتمتعوا به أيضاً. لذلك فإن آلام الصليب التي وقعت فعلاً على المسيح، وبها وفَّى مطالب عدالة الله وقداسته إلى الأبد، نعتبر أنها وقعت شرعاً على المؤمنين الحقيقيين به، ومن ثم لا يدانون بعد بسبب خطاياهم. وهكذا الحال من جهة قيامته من بين الأموات وجلوسه في السماء، فإنهم يعتبرون منذ إيمانهم به إيماناً حقيقياً، أنهم قاموا شرعاً من الأموات وجلسوا في السماويات، وذلك في شخصه المبارك.

    إن المفروض في المؤمنين الحقيقيين أن لا يخطئوا، فقد قال الرسول يوحنا لهم «أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هٰذَا لِكَيْ لا تُخْطِئُوا» (1 يوحنا 2: 1-2) لكن لعدم توافر العصمة فيهم كبشر، يتعرضون أحياناً للسقوط في الخطيئة. غير أن موقفهم إزاءها يختلف كل الاختلاف عن موقف غيرهم، لأنهم يندمون للسقوط فيها ويسرعون بالعودة إلى الرب، والسلوك في طريقه بأكثر إخلاص وتدقيق. كما أن عدم تعرضهم للدينونة الأبدية بسببها (1 كورنثوس 11: 31) لا يعفيهم من التعرض لتأديب الله لهم في الزمن الحاضر إذا سقطوا فيها، وذلك لكي يبغضوها من كل قلوبهم، ويشتركوا مع الله في قداسته (عبرانيين 12: 10).

  2. ولذلك قال المسيح لنا: «مَنْ يَسْمَعُ كَلامِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ (أي له الآن، وليس سوف يكون له في المستقبل)حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلا يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ ٱنْتَقَلَ (وليس سوف ينتقل)مِنَ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا 5: 24). وقال بولس الرسول للمؤمنين «شَاكِرِينَ ٱلآبَ ٱلَّذِي أَهَّلَنَا (وليس سوف يؤهلنا)لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ ٱلْقِدِّيسِينَ فِي ٱلنُّورِ، ٱلَّذِي أَنْقَذَنَا (وليس سوف ينقذنا)مِنْ سُلْطَانِ ٱلظُّلْمَةِ وَنَقَلَنَا (وليس سوف ينقلنا)إِلَى مَلَكُوتِ ٱبْنِ مَحَبَّتِهِ» (كولوسي 1: 12-13). وقال يوحنا الرسول «نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّنَا قَدِ ٱنْتَقَلْنَا (وليس سوف ننتقل)مِنَ ٱلْمَوْتِ إِلَى ٱلْحَيَاةِ» (1 يوحنا 3: 14).

إعلان كيفية سلوكهم في العالم الحاضر:

قال الرسول بولس للمؤمنين: «كَمَا أُقِيمَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ ٱلآبِ، هٰكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضاً فِي جِدَّةِ ٱلْحَيَاةِ» (رومية 6: 4)، أو بالحري في الحياة السماوية الجديدة التي حصلنا عليها من الله بالولادة الروحية منه. وقال لهم أيضاً «فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فَٱطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ ٱلْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ (شرعاً)وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فِي ٱللّٰهِ» (كولوسي 3: 1-3). واعتبار المؤمنين جالسين في السماويات في المسيح منذ إيمانهم بالمسيح إيماناً حقيقياً، يلزمهم بأن يعيشوا بقلوبهم من الآن هناك. ولذلك قال الرسول بولس عن نفسه وعنهم معاً «فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (فيلبي 3: 20).

إعلان قوة المسيح في حياتهم:

  1. إن المؤمنين الحقيقيين، وإن كانوا مثل غيرهم من الناس، لا يستطيعون الإنتصار من تلقاء أنفسهم على الميول الشريرة الكامنة في طبيعتهم العتيقة، أو على التجارب المتعددة التي تحيط بهم في العالم الحاضر، لكن من الميسور لهم الإنتصار على هذه وتلك بقوة الله - هذه القوة التي ظهرت بكمالها في قيامة المسيح من الأموات. ولذلك قال الوحي للمؤمنين «مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا... مَا هِيَ عَظَمَةُ قُدْرَتِهِ ٱلْفَائِقَةُ نَحْوَنَا نَحْنُ ٱلْمُؤْمِنِينَ، حَسَبَ عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ ٱلَّذِي عَمِلَهُ فِي ٱلْمَسِيحِ، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (أفسس 1: 18-20).

  2. وقد اشتاق بولس الرسول مرة للتمتع بهذه القوَّة فقال عن المسيح «لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ...» (فيلبي 3: 10). فأعطاه الله إياها في نفسه. ولذلك قال عن المسيح «ٱلَّذِي يَعْمَلُ فِيَّ بِقُوَّة» (كولوسي 1: 29). وقال أيضاً «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي يُقَوِّينِي» (فيلبي 4: 13). وأيضاً «يَعْظُمُ ٱنْتِصَارُنَا بِٱلَّذِي أَحَبَّنَا» (رومية 8: 37). كما حرَّض المؤمنين قائلاً «مُتَقَوِّينَ بِكُلِّ قُوَّةٍ بِحَسَبِ قُدْرَةِ مَجْدِهِ، لِكُلِّ صَبْرٍ وَطُولِ أَنَاةٍ بِفَرَحٍ» (كولوسي 1: 11). وقائلاً «تَقَوُّوا فِي ٱلرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ» (أفسس 6: 10). كما كان يصلي لله، لكي يتأيدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن ليحل المسيح بالإيمان في قلوبهم... ويمتلئوا إلى كل ملء الله (من الناحية الأدبية)، وذلك بحسب قوته الروحية التي تعمل فيهم (أفسس 3: 16-20).

وقد شهد يوحنا الرسول أيضاً عن أثر قوة الله العاملة في المؤمنين، فقال عنهم إنهم أقوياء وقد غلبوا الشرير (1 يوحنا 2: 13)، لأن المسيح الذي فيهم أقوى من الشر الذي في العالم (1 يوحنا 4: 4).

ولكي يتسنى لهم التمتع بقوة المسيح فيهم يجب طبعاً أن يحيوا حياة الطاعة للّه والتكريس الكلي له.

نعم قد تحل التجارب والآلام بالمؤمنين الحقيقيين، كما تحل بغيرهم من الناس، لكنهم يستطيعون بقوة الله العاملة في نفوسهم أن يرتقوا فوقها جميعاً، ومن ثم لا يمكن للفشل أو الخوف أن يجدا مجالاً إليهم، لأنهم يعلمون في قرارة نفوسهم أنه بفضل هذه القوة يكون النصر حليفهم في كل حين.

إعلان حقيقة قيامة الموتى، وتمتع المؤمنين الحقيقيين منهم بالله إلى الأبد:

  1. يشك كثير من الناس في أنه سيكون هناك بعث بعد الموت، لكن قيامة المسيح من الأموات، لم تدع مجالاً للشك في البعث على الإطلاق، بل وأعطت المؤمنين الحقيقيين رجاءً وطيداً في الحياة الروحية السعيدة مع الله إلى الأبد، ليس على أساس أعمالهم (لأنه هذه مهما كان شأنها لا تستطيع أن تكفر عن خطيئة واحدة من خطاياهم، أو تهبهم طبيعة روحية تجعلهم أهلاً للتوافق مع الله في صفاته السامية كما ذكرنا)، بل على أساس كفاية كفارة المسيح لأجلهم التي تجلت في قيامته من بين الأموات، وعمله الروحي المتواصل في نفوسهم.

  2. ولذلك قال الرسول بولس «لٰكِنِ ٱلآنَ قَدْ قَامَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ ٱلرَّاقِدِينَ. فَإِنَّهُ إِذِ ٱلْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ (الذي هو آدم)بِإِنْسَانٍ أَيْضاً (الذي هو المسيح من الناحية الناسوتية) قِيَامَةُ ٱلأَمْوَاتِ. لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ ٱلْجَمِيعُ هٰكَذَا فِي ٱلْمَسِيحِ سَيُحْيَا ٱلْجَمِيعُ» (1 كورنثوس 15: 20-22)، إن كانوا يؤمنون به إيماناً حقيقياً، وقال عن المؤمنين الحقيقيين إنه كما أقام الله المسيح يسوع، سيقيمهم هم أيضاً بقوته ويحضرهم معه (2 كورنثوس 4: 14). لذلك خاطبهم بالقول «لا أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ ٱلرَّاقِدِينَ (أو بالحري الذين ماتوا في الإيمان) لِكَيْ لا تَحْزَنُوا كَٱلْبَاقِينَ ٱلَّذِينَ لا رَجَاءَ لَهُمْ. لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذٰلِكَ ٱلرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ سَيُحْضِرُهُمُ ٱللّٰهُ أَيْضاً مَعَهُ» (1 تسالونيكي 4: 13-14).

    وبناءً عليه، كما أن الخطيئة قد دخلت إلى العالم دون ذنب جنيناه، هكذا اقتضت حكمة الله أن يكون خلاصنا منها دون أي ثمن من جانبنا. وعلى من يريد التمتع بهذا الخلاص، أن يكره الخطيئة ويتنصَّل من علاقته بآدم الاول وبالطبيعة العتيقة التي ورثها منه، ثم يرتبط بآدم الأخير الذي هو المسيح، وذلك عن طريق الإيمان الحقيقي به، فينال طبيعة روحية جديدة، يستطيع بها التوافق مع الله في صفاته السامية.

  3. فضلاً عن ذلك فقد أعلن لنا أن المؤمنين الحقيقيين الذين سيكونون أحياء على الأرض عند مجيء المسيح ثانية، سوف لا يتعرضون للموت الجسدي، بل ينتقلون أحياء إلى السماء. فقال «فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هٰذَا بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ ٱلْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ ٱلرَّبِّ لا نَسْبِقُ ٱلرَّاقِدِينَ لأَنَّ ٱلرَّبَّ نَفْسَهُ سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلائِكَةٍ وَبُوقِ ٱللّٰهِ، وَٱلأَمْوَاتُ فِي ٱلْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلاً. ثُمَّ نَحْنُ ٱلأَحْيَاءَ ٱلْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعاً مَعَهُمْ فِي ٱلسُّحُبِ لِمُلاقَاةِ ٱلرَّبِّ فِي ٱلْهَوَاءِ، وَهٰكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ ٱلرَّبِّ. لِذٰلِكَ عَزُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِهٰذَا ٱلْكَلامِ» (1 تسالونيكي 4: 15-18). كما قال لهم «هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لا نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلٰكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ ٱلْبُوقِ ٱلأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ ٱلأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ. لأَنَّ هٰذَا ٱلْفَاسِدَ (أو بالحري الجسد الذي فسد بالموت)لا بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ، وَهٰذَا ٱلْمَائِتَ (أو بالحري الجسد الحي القابل للموت)يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ. وَمَتَى لَبِسَ هٰذَا ٱلْفَاسِدُ عَدَمَ فَسَادٍ، وَلَبِسَ هٰذَا ٱلْمَائِتُ عَدَمَ مَوْتٍ، فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ ٱلْكَلِمَةُ ٱلْمَكْتُوبَةُ: «ٱبْتُلِعَ ٱلْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ». أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟» (1 كورنثوس 15: 51-55). فالمسيح بقيامته من الأموات قضى على رهبة الموت وسلطانه علينا. كما حقق آمالنا جميعاً في السعادة الأبدية بعد أن كانت الأبواب موصدة في وجوهنا من جهتها. وقد أشار الرسول بولس إلى هذه الحقيقة فقال عن المسيح إنه «أَبْطَلَ ٱلْمَوْتَ وَأَنَارَ ٱلْحَيَاةَ وَٱلْخُلُودَ» (2 تيموثاوس 1: 10). إذ أعلن أن الموت بالنسبة إلى المؤمنين لا يكون إلا رقاداً أو نوماً (يوحنا 11: 11)، يقومون بعده بكل نشاط للتمتع بالله في المجد الأبدي.

  4. ألقى المسيح نوراً ساطعاً على الأبدية، فعرَّفنا أنها ليست مجالاً للشهوات الجسدية، لأن المؤمنين سيكونون هناك كملائكة الله، لا يتزوجون ولا يزوجون (متى 22: 30)، ولا يأكلون ولا يشربون (رومية 14: 17)، بل هي المجال الروحي الرفيع الذي نستطيع فيه التوافق الكلي مع الله في صفاته الأدبية السامية. ولذلك قال الرسول بولس «لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً لأَنَّ لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ وَٱلْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ» (فيلبي 1: 21 و23) - وطبعاً لولا قيامة المسيح من بين الأموات، لما كان لهذا الرسول أو لغيره من المؤمنين تلك الأمنية أو هذه الثقة.

    إذن، فما أسعد المؤمنين بقيامة المسيح في حياتهم، وما أسعدهم بها في موتهم، وما أسعدهم أيضاً بها بعد موتهم - ليت الكثيرين يعرفون قوة قيامته ويختبرونها عملياً في حياتهم لأجل خير نفوسهم العزيزة، وفوق كل شيء لأجل مجد الله الذي يليق به كل المجد إلى أبد الآباد، آمين.

مسابقة كتاب «قيامة المسيح، والأدلة على صدقها»

أيها القارئ العزيز،

إن تعمقت في قراءة هذا الكتاب تستطيع أن تجاوب على الأسئلة بسهولة. ونحن مستعدون أن نرسل لك أحد كتبنا الروحية جائزة على اجتهادك. لا تنسَ أن تكتب اسمك وعنوانك كاملاً عند إرسال إجابتك إلينا.

  1. اذكر شهادتين من أقوال المسيح تبرهنان أنه يقوم من الموت.

  2. اذكر ظهورين من ظهورات المسيح العشرة للمؤمنين به، بعد قيامته.

  3. اذكر شهادتين من شهادات الرسول بطرس لقيامة المسيح.

  4. اذكر شهادتين من شهادات الرسول بولس لقيامة المسيح.

  5. اذكر خمسة أدلة على صدق شهادة الرسل لقيامة المسيح.

  6. اذكر ثلاث شهادات من العهد القديم تنبأت بقيامة المسيح.

  7. ما معنى قول مزمور 110 «قال الرب لربي: اجلس عن يميني»؟

  8. كيف تنفي فكرة أن تلاميذ المسيح رشوا حراس القبر وسرقوا جسده؟

  9. اذكر سبباً ينفي فكرة نوم الحراس عند قيامة المسيح.

  10. ما هي دعوى اليهودي هيوشنفيلد، وكيف تردّ عليها؟

  11. ما هو الرد على أن المسيح ظهر لتلاميذه بعد قيامته في رؤيا؟

  12. لماذا يستحيل أن يوسف الرامي يسرق جسد المسيح من القبر؟

  13. لماذا يستحيل أن تكون النسوة قد ضللن طريقهن إلى قبر المسيح؟

  14. كيف تردّ على من يقولون إن المسيح هرب عندما حاول اليهود أن يقبضوا عليه؟

  15. اشرح خروج الدم والماء من جنب المسيح بعد طعنه بالحربة؟

  16. كيف تردّ على من يقول إن تلاميذ المسيح نقلوا خبر قيامته من الأساطير الوثنية؟

  17. جاء في متى 16: 4 أن المسيح سيمكث في القبر ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. كيف حسب اليهود هذه المدة شرعياً؟

  18. كيف تردّ على من يقول إن المسيح دُفن قبل أن يموت؟

  19. قال ابن اسحق وإدريس وابن حزم وإخوان الصفا إن المسيح مات. اكتب رأي كل واحد منهم.

  20. هات برهاناً من التاريخ على قيامة المسيح.

  21. هات دليلاً أثرياً على قيامة المسيح.

  22. هات دليلاً عقلياً على قيامة المسيح.

  23. هات دليلاً روحياً على قيامة المسيح.

  24. أعلنت القيامة بنوَّة المسيح الفريدة لله. اشرح.

  25. أعلنت القيامة كفارة المسيح عن كل البشر. كيف؟

  26. أعلنت القيامة دوام اتصال المسيح بالمؤمنين. كيف؟

  27. كيف أعلنت قيامة المسيح التبرير لكل من يؤمن بفداء المسيح؟

  28. كيف أعلنت قيامة المسيح شرعية وجود المؤمنين الحقيقيين في السماء منذ إيمانهم؟

  29. كيف أعلنت قيامة المسيح قوة المسيح في حياة كل من يؤمن به؟

  30. كيف أعلنت قيامة المسيح تمتُّع المؤمنين الحقيقيين منهم بالله إلى الأبد؟


Call of Hope
 P.O.Box 100 827
D-70007
Stuttgart
Germany