Table of Contents
- Bibliography
- مقدمة
- المقدمة وفيها خمسة فصول
- الأصحاح الأول
- الأصحاح الثاني
- الأصحاح الثالث
- الأصحاح الرابع
- الأصحاح الخامس
- الأصحاح السادس
- الأصحاح السابع
- الأصحاح الثامن
- الأصحاح التاسع
- الأصحاح العاشر
- الأصحاح الحادي عشر
- الأصحاح الثاني عشر
- الأصحاح الثالث عشر
- الأصحاح الرابع عشر
- الأصحاح الخامس عشر
- الأصحاح السادس عشر
- الأصحاح السابع عشر
- الأصحاح الثامن عشر
- الأصحاح التاسع عشر
- الأصحاح العشرون
- الأصحاح الحادي والعشرون
الكنز الجليل في تفسير الإنجيل: إنجيل يوحنا. Copyright © 2007 All rights reserved Call of Hope. 2004 طبعة منقحة - القاهرة - مصر. صدر عن مجمع الكنائس في الشرق الأدنى بيروت 1973. . English title: . German title: . Call of Hope.
P.O.Box 10 08 27
D - 70007
Stuttgart
Germany
<e - mail: ainfo@call - of - hope.com>
http: //www.call - of - hope.com
.
تفتقر خزانة الأدب المسيحي إلى مجموعة كاملة من التفاسير لكتب العهدين القديم والجديد. ومن المؤسف حقاً أنه لا توجد في أية مكتبة مسيحية في شرقنا العربي مجموعة تفسير كاملة لأجزاء الكتاب المقدس. وبالرغم من أن دور النشر المسيحية المختلفة قد أضافت لخزانة الأدب المسيحي عدداً لا بأس به من المؤلفات الدينية التي تمتاز بعمق البحث والاستقصاء والدراسة، إلا أن أياً من هذه الدور لم تقدم مجموعة كاملة من التفاسير، الأمر الذي دفع مجمع الكنائس في الشرق الأدنى بالإسراع لإعادة طبع كتب المجموعة المعروفة باسم: «كتاب السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم» للقس وليم مارش، والمجموعة المعروفة باسم «الكنز الجليل في تفسير الإنجيل» وهي مجموعة تفاسير كتب العهد الجديد للعلامة الدكتور وليم إدي.
ورغم اقتناعنا بأن هاتين المجموعتين كتبتا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلا أن جودة المادة ودقة البحث واتساع الفكر والآراء السديدة المتضمنة فيهما كانت من أكبر الدوافع المقنعة لإعادة طبعهما.
هذا وقد تكرم سينودس سوريا ولبنان الإنجيلي مشكوراً - وهو صاحب حقوق الطبع - بالسماح لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى بإعادة طبع هاتين المجموعتين حتى يكون تفسير الكتاب في متناول يد كل باحث ودارس.
ورب الكنيسة نسأل أن يجعل من هاتين المجموعتين نوراً ونبراساً يهدي الطريق إلى معرفة ذاك الذي قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة».
القس ألبرت استيرو
الأمين العام
لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى
أجمعت الكنيسة المسيحية على أن كاتب هذه البشارة يوحنا الرسول. وهو ابن زبدي وسالومي (متّى 4: 21 و22 ومرقس 1: 19 و20 قابل ذلك بما يأتي متّى 20: 20 و27: 56 ومرقس 15: 40 و16: 1). وُلد في بيت صيدا (لوقا 5: 9 ويوحنا 1: 44). وكان صياداً يصيد في بحر الجليل كأبيه زبدي. وكان أبوه غير محتاج لأنه كان صاحب السفينة التي يصيد فيها وتحت يده أجراء (مرقس 1: 20). وكانت أمه من النساء اللواتي رافقن المسيح في أسفاره وخدمته وأنفقن عليه من أموالهن (متّى 27: 56 ولوقا 8: 3) وهي من اللواتي وقفن عند صليب يسوع (مرقس 15: 40) وأتت إلى القبر بأطياب لتحنيط جسد المسيح (مرقس 16: 1).
وكان أولاً من تلاميذ يوحنا المعمدان (يوحنا 1: 37 - 40) وهو الذي عرّفه بالمسيح وذهب مع يسوع حينئذ لكنه لم يتبعه تلميذاً إلا بعد حين وذلك يوم دعاه المسيح وأخاه يعقوب دعوة خاصة (متّى 4: 21 ومرقس 1: 19 ولوقا 5: 10).
وسُمي «ٱلتِّلْمِيذِ ٱلَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ» (يوحنا 13: 23 و19: 36 و20: 2 و21: 9). وهو الذي وكّل المسيح إليه أمه وهو على الصليب (يوحنا 19: 27). سكن في أورشليم مدة بعد صلب المسيح وأشار بولس إلى أنه كان من أحد أعمدة الكنيسة (أعمال 1: 14 و3: 1 و4: 13 وغلاطية 2: 9).
ذكر المؤرخون المسيحيون أنه في أواخر أيامه ذهب إلى آسيا الصغرى وسكن مدينة أفسس والأرجح أنه سافر إلى هناك قرب خراب أورشليم وكتابته ما في رؤياه إلى كنائس آسيا السبع تؤيد هذا القول (رؤيا 1: 11). ونُفي إلى جزيرة بطمس بسبب دينه وهنالك كتب سفر الرؤيا (رؤيا 1: 9) والمظنون أنه رجع عند ما أُطلق من بطمس إلى مدينة أفسس ومات هنالك شيخاً طاعناً في السن في نهاية القرن الأول للميلاد أو في نحو السنة الثامنة والستين بعد الصلب.
صرّح يوحنا أنه كتب أنباء ما رآه وسمعه (يوحنا 1: 14 و13: 2 و18: 15 و19: 26 و35 و20: 2 و21: 24) وهذا لا ينافي أنه كتب بإلهام الروح القدس.
الأرجح أن يوحنا كتب بشارته في مدينة أفسس في المدة الأخيرة من حياته أي بين سنة 80 و90 ب. م. أو ليس بأقل من عشرين سنة بعد كتابة سائر البشائر ولعله كتب بعدهم بثلاثين سنة.
والدليل على أنه كتب بشارته بعد خراب أورشليم أنه لم يذكر شيئاً من أنباء المسيح بذلك الخراب كما ذكر غيره من البشيرين.
لم يكتب يوحنا هذه البشارة لمخصوصين من اليهود أو الرومانيين أو اليونانيين بل للمؤمنين بالمسيح من كل أمة لكي يثبتهم بيسوع ابن الله نور العالم وحياته كما يظهر من قوله «وَأَمَّا هٰذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِٱسْمِهِ» (يوحنا 20: 31) ويقرب من هذا ما في ص 19: 35. ولم يذكر في هذه البشارة الضلالات التي كانت قد دخلت في الكنيسة يومئذ لكنه وجه كلامه إلى إبطالها.
تمتاز بشارة يوحنا بسبعة أشياء:
الأول: بساطة العبارة وسمو المعنى وروحانيته.
الثاني: أن سائر البشيرين ذكروا حوادث حياة المسيح وأعماله إثباتاً لتعاليمه وأما هو فذكر لاهوت المسيح وصفاته وتعاليمه عينها وكثيراً ما ذكر خُطب المسيح ومحاوراته والغالب أنه ذكر من أعمال يسوع ما لم يذكره سواه من كاتبي البشائر.
الثالث: أن سائر الإنجيليين كتبوا معظم أناجيلهم في خدمة المسيح في الجليل أما هو فمعظم بشارته في خدمة يسوع في اليهودية.
الرابع: أنه ذكر حوادث مهمة لم يذكرها سواه منها شهادة يوحنا المعمدان للمسيح (يوحنا 1: 14 - 40). والمعجزة الأولى (ص 2: 2 - 11). والفصح الأول وما جرى فيه (ص 2: 13 - 22). وزيارة نيقوديموس ليسوع ص 3: 1-21. ومحادثته المرأة السامرية (ص 4: 4 - 54). وقيامة لعازر (ص 11). وبعض خطب يسوع العامة (ص 5 إلى ص 10) وخطابه الأخير لرسله (ص 13 إلى ص 16) وصلاته قبل صلبه (ص 17) وثلاثة أقوال من أقوال المسيح وهو على الصليب الأول قوله لأمه «يا امرأة هذا ابنك الخ» والثاني قوله «أنا عطشان» والثالث قوله «قد أكمل».
الخامس: أنه ترك ذكر حوادث ميلاد يسوع ومعموديته وتجربته والوعظ على الجبل والتجلي وكل الأمثال التي ذكرها سائر الإنجيليين ومعجزاته سوى سبع منها ورسم العشاء الرباني وآلامه في جثسيماني. وصعوده إلا على سبيل التلميح.
السادس: أنه لو لم يذكر يوحنا عدد أعياد الفصح التي حدثت في مدة خدمة المسيح لم نستطع معرفة مدتها وهي نحو ثلاث سنين ونصف سنة.
السابع: إن سائر الإنجيليين اكتفوا بذكر أعمال المسيح وخطبه أما هو فزاد على ذلك شروحاً وتفاصيل من نفسه.
1 «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ».
أمثال 8: 22 الخ وكولوسي 1: 17 و1يوحنا 1: 1 ورؤيا 1: 2 و19: 13، أمثال 8: 30 وص 17: 5 و1يوحنا 1: 2، فيلبي 2: 6 و1يوحنا 5: 7
فِي ٱلْبَدْءِ لم يستفتح بشارته كما استفتح متّى بشارته ببيان أن يسوع من سلالة إبراهيم وداود متتبعاً سلسلة النسب إلى اثنتين وأربعين حلقة ليثبت من ذلك أن يسوع هو المسيح ابن آدم من جهة ناسوته كما فعل لوقا بياناً لمشاركته الجنس البشري. ولا بشروع سابقه في الخدمة كما فعل مرقس بل ابتدأ بذكر الأزلية التي لله والتي ليسوع باعتبار كونه ابن الله. والروح القدس ألهم كل بشير بما كتبه ونحن في حاجة إلى تعليم الجميع.
والبدء المذكور هنا هو بدء العالم واقتتاح الكلام هنا مثل افتتاح كلام موسى في أول كتبه (تكوين 1: 1). وشهادة يوحنا هنا مبنية على ما سمعه من المسيح وتعلمه من الروح القدس ع 14.
كَانَ ٱلْكَلِمَةُ يُظهر قوله في الآية الرابعة عشرة أنه أراد بالكلمة المسيح. وكأن يوحنا وقف في بدء الخليقة يشاهد الأزلية فرأى المسيح فيها قبل إنشاء الخلق فإذن هو غير مخلوق ولا بداءة له واجب الوجود أزلي. وبمثل هذا أُشير إلى أزلية الله وهو قول صاحب المزامير «مِنْ قَبْلِ أَنْ تُولَدَ ٱلْجِبَالُ أَوْ أَبْدَأْتَ ٱلأَرْضَ وَٱلْمَسْكُونَةَ، مُنْذُ ٱلأَزَلِ إِلَى ٱلأَبَدِ أَنْتَ ٱللّٰهُ» (مزمور 90: 2). ولم يقل ذلك على يسوع المسيح بعد تجسده بل على الكلمة قبل ذلك ع 14. ويوافق هذا ما قيل في (يوحنا 8: 58 و17: 5 و24 وفيلبي 2: 5 و6 و1يوحنا 1: 1 ورؤيا 3: 4).
ولفظة «الكلمة» لا يراد بها صفة كالحكمة أو قوة كالنطق أو كتاب الله لأنه لا يصح أن يقال أن الكتاب المقدس صار جسداً ع 14 بل المراد بها أقنوم. واعتاد اليهود تسمية المسيح المنتظر «بالكلمة» ولا سيما المتشتتون بين الأمم الذين عرفوا الفلسفة اليونانية. والذين كتب يوحنا إنجيله إليهم يفهمون بالكلمة الأقنوم الثاني من الثالوث. ولم ترد تسميته بالكلمة في غير هذا الموضع في العهد الجديد إلا في (عبرانيين 4: 12 و13 ورؤيا 19: 13).
ويحق للمسيح أن يُسمى كلمة لأن الله كلمنا به (عبرانيين 1: 1) ولأنه أعلن لنا أفكار الله ومشيئته (ع 18) كما أن كلمة الإنسان تعلن أفكار الإنسان وإرادته. فالمسيح أعلن الله لنا بتعليمه وبسيرته وبأعماله.
وتسمية ابن الله بكلمة الله تنفي كل نسبة جسدية بينهما كنسبة الابن للأب البشريين.
وكون المسيح كلمة الله يوجب كونه إلهاً لأنه لا يعرف أفكار الله ليعلنها إلا الله كما قيل «مَنْ عَرَفَ فِكْرَ ٱلرَّبِّ، أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً» (رومية 11: 34) و «مَنْ مِنَ ٱلنَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ ٱلإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي فِيهِ؟ هٰكَذَا أَيْضاً أُمُورُ ٱللّٰهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ ٱللّٰهِ» ( 1كورنثوس 2: 11). «وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلاَّ ٱلاَبْنُ الخ» (متّى 11: 27 ولوقا 10: 22).
وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ أي الآب كما في ع 18 حيث يقول «ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ» وهذا قول ثان من جهة ابن الله وخلاصته أمران. الأول أن الابن كان أقنوماً مميزاً عن أقنوم الآب. والثاني أنه مع ذلك بينهما اتحاد كامل واتفاق تام في كل رأي وقضاء وعمل. فما كان لأحدهما من المجد والعظمة والكرامة كان للآخر وهذا وفق قول المسيح «وَٱلآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ» (ص 17: 5) وقوله «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (ص 10: 30) وقوله في (ص 14: 9 - 11 و1يوحنا 1: 2 و2: 1).
وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ وهذا قول ثالث في شأن المسيح ومعناه أنه ليس ملاكاً أو مخلوقاً آخر دون الآب لكنه مساوٍ للآب في الجوهر أي أن له صفات الآب نفسها وقوته واستحقاقه الإكرام والطاعة والعبادة التي يستحقها الآب. ولفظة «الله» هنا تختلف عنها في الجملة التي قبلها ومعناها هنا جوهر اللاهوت. وهذه الآية مما يثبت صحة تعليم التثليث لتمييزها أقنومين وتبيينها أنهما متساويان. وفي هذه العبارات الثلاث بيان ثلاثة أمور. الأول أزلية الكلمة. والثاني أقنوميته واتحاده بالآب. والثالث لاهوته أي كونه والآب واحداً في الجوهر. وفيها جواب لثلاث مسائل:
الأولى: متى كان الكلمة. جوابه أنه كان منذ الأزل لأنه عند بدء الكون كان.
الثانية: أين كان. جوابها عند الآب.
الثالثة: من هو الكلمة. جوابها الله.
وهي تنفي ثلاث ضلالات:
الأولى: ضلالة آريوس وهي قوله أن المسيح مخلوق دون الخالق.
الثانية: ضلالة سوسينيوس وهي قوله أن المسيح ليس سوى رجل كامل في صفاته.
الثالثة: ضلالة سابا ليوس الذي نفى التثليث وقال بأن اللاهوت أقنوم واحد ظهر مرة آباً وتارة ابناً وطوراً روح قدس.
2 «هٰذَا كَانَ فِي ٱلْبَدْءِ عِنْدَ ٱللّٰهِ».
تكوين 1: 1
هذا تكرير العبارة الثانية من الآية الأولى مع زيادة أبانت أزلية النسبة بين الآب والابن لئلا يظن أحد أن الاتحاد بين الأقنومين حادث بدليل كون تلك النسبة وُجدت قبل بدء الكون. وهذا وفق مخاطبة الآب للابن قائلاً «نَعْمَلُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا» (تكوين 1: 26). وما في سفر الأمثال إذ عبّر عن المسيح بالحكمة وهو قوله «اَلرَّبُّ قَنَانِي أَوَّلَ طَرِيقِهِ، مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ، مُنْذُ ٱلْقِدَمِ. مُنْذُ ٱلأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ ٱلْبَدْءِ، مُنْذُ أَوَائِلِ ٱلأَرْضِ الخ» (أمثال 8: 22-31). لم يستطع أن يكون الابن كلمة الله ليعلن للناس أفكار الله إلا بأن كان في البدء عند الله يعرف افكاره منذ الأزل.
فينتج مما ذُكر أننا لا نقدر أن نعبد المسيح كما يحق له إلا بأن نعتقد أقنوميته ولاهوته حسب ما قيل «لِكَيْ يُكْرِمَ ٱلْجَمِيعُ ٱلاَبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ ٱلآبَ» (ص 5: 23). ولنا منه أيضاً أعظم التأكيد لأمر خلاصنا لأن الذي أخذ على نفسه أمر الفداء ليس سوى الله القدير.
3 «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ».
مزمور 33: 6 وع 10 وأفسس 3: 9 وكولوسي 1: 16 وعبرانيين 1: 2 ورؤيا 4: 11
كُلُّ شَيْءٍ أي العالم كله بمادته وأرواحه وحيواناته وكل ما فيه.
بِهِ كَانَ أي بالكلمة وهذا القول يبين لاهوت الابن لأن الخلق مما يختص بالله وحده بدليل أنه «فِي ٱلْبَدْءِ خَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ» (تكوين 1: 1). والمسيح خلق كالآب فتبين من أعماله أنه الله. ويوافق ما قيل هنا ما جاء في (كولوسي 1: 16 و17 وعبرانيين 1: 2 و10 و2: 10 ورؤيا 4: 11). فكما أظهر الابن أنه كلمة الله بتعليمه أظهر أنه كذلك بالخلق لأنه أعلن بذلك كونه إله القدرة والحكمة والجودة.
وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ الخ معنى هذه العبارة عين معنى العبارة الأولى إلا أن ما جاء في الأولى في صورة الإيجاب جاء في الثانية في صورة السلب. وكُرر للتوكيد ولدفع كل ريب في أنه لا استثناء في كل خلق الله في السماء والأرض وتحت الأرض لشيء من أنه عمل المسيح. ولم يعمل المسيح كآلة بيد الله بل كان عاملاً معه كما يبين من ( 1كورنثوس 8: 6) وما قيل هنا ينفي قول أفلاطون بأزلية المادة وقول الغنوسيين بأن خالق المادة روح شرير دون الله.
4 «فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ، وَٱلْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ ٱلنَّاسِ».
ص 5: 26 و6: 23 و1يوحنا 5: 11، ص 8: 12 و9: 5 و12: 35 و46
فِيهِ كَانَتِ ٱلْحَيَاةُ لأنه الله (ع 1) وهذا دليل آخر على لاهوت المسيح. والإحياء عمل أعظم من خلق المادة وهو مما يختص بالله وحده (تكوين 2: 7) فالمسيح حياة في ذاته وهو مصدر حياة سائر الأحياء المحدثة عقلية وغير عقلية جسدية وروحية زمنية وأبدية (ص 5: 26 و6: 33 و14: 6 و11: 25 و1يوحنا 5: 11 و20). ومفاد هذه العبارة أنه قبل أن ظهرت حياة الخليقة كانت للمسيح حياة في ذاته وابتدأ في ذلك الوقت يهبها لبعض ما خلق. فهو لم يزل يفعل ذلك منذ بدء الخليقة إلى أن جاء هذه الأرض.
وَٱلْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ ٱلنَّاسِ أي الجزء الناطق من المخلوقات. وأُستعير هنا النور للعلم. فقد نُسب إلى المسيح ثلاثة أعمال وهي الخلق والإحياء والإنارة. فالكلمة الأزلي الخالق الحي الواهب الحياة هو أيضاً نور العالم بالذات أي هو معلم البشر يرشدنا إلى طريق الحق والسلام ويحمينا من مسالك الضلال والإثم. ويتبين من كونه نوراً لاهوته لأن «الله نور» (1يوحنا 1: 5). وأثبت المسيح كذلك بقوله «أنا هو نور العالم» (يوحنا 8: 12) (انظر أيضاً يوحنا 12: 35 و36 و46) وكان المسيح نور الناس قبل تجسده (غلاطية 3: 9) وكان كذلك بواسطة خدمته الذاتية (عبرانيين 1: 2 و3) ولا يزال نور العالم بروحه (يوحنا 14: 16 و26) وبواسطة مبشريه ( 1كورنثوس 12: 28 وأفسس 4: 11) والمسيح على نوع خاص نور الناس الذين ينظرون إليه معلماً سماوياً يطلبون النور منه. فمنذ سقوط آدم لم يكن في العالم حياة روحية أو نور سماوي إلا منه وكل جماعات المخلّصين في السماء اهتدوا إلى السماء بنوره.
5 «وَٱلنُّورُ يُضِيءُ فِي ٱلظُّلْمَةِ، وَٱلظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ».
ص 3: 19
وَٱلنُّورُ يُضِيءُ فِي ٱلظُّلْمَةِ ليست الظلمة هنا نتيجة عدم النور المادي كما كانت الحال في بدء العالم (تكوين 1: 2) ولكنها ظلمة أدبية أي ظلمة الجهل والخطيئة التي سقط العالم بأسره إليها بسقوط الإنسان الأول ولم تزل فيه إذ لم يشرق عليه المسيح نور العالم. على أن المسيح أرسل أشعته إلى العالم قبل تجسده بأعمال الخليقة وعنايته الإلهية (رومية 1: 20 و21) وبتأثيره في ضمائر الناس وبوحيه في الأحلام والرؤى وبالنبوات والمبشرين كأخنوخ ونوح وبالشعائر والرموز وبالبركات على الذين أطاعوا الحق وبعقاب الذين عصوه. ولم يكن من وقت في تاريخ العالم لم يشرق المسيح فيه بنور سماوي ليرشد النفوس التي طلبت النور ورغبت فيه. ولكن النور الذي أشرق به قبل تجسده كان بالنسبة إلى ما بعده كالفجر بالنسبة إلى النهار الكامل.
وَٱلظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ أُشير بالظملة هنا إلى الناس الجهلاء والأشرار والمعنى أن أكثر الناس على الدوام يرفضون النور الذي في المسيح ولا يفهمون تعاليمه ولا يقبلون أن يدخل نوره قلوبهم. فلذلك جهل أهل عصره حقيقة الله وملكوته وطريق عبادته لأنهم اختاروا أن يبقوا في جهلهم وإثمهم لم يحبوا النور وكانوا جسدانيين فأغمضوا عيونهم عمداً واختياراً. وهذا وفق ما قيل في (متّى 13: 15 وص 3: 19).
6 «كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ ٱللّٰهِ ٱسْمُهُ يُوحَنَّا».
ملاخي 3: 1 ومتّى 3: 1 ولوقا 3: 2 وع 23
بعد أن أبان البشير حقيقة الكلمة ذكر كيف أن الكلمة أتى إلى العالم. فكان الاستعداد لذلك مجيء يوحنا المعمدان وعلة ذكره هنا كونه سابق المسيح وكون تعليمه شهادة بصحة دعوى المسيح.
كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ ٱللّٰهِ الفرق عظيم بين الكلام على يوحنا وما سبق من الكلام على المسيح فالواحد «إنسان» والآخر «الكلمة» والأول «مرسل من الله» والثاني «الله». وظن كثيرون من اليهود أن يوحنا المعمدان هو المسيح (لوقا 3: 15 وص 1: 19) فصرح كاتب هذه البشارة أن يوحنا ليس هو المسيح إنما هو الرسول الموعود به (ملاخي 3: 1) أرسله الله ليهيء الطريق أمام المسيح.
ٱسْمُهُ يُوحَنَّا هو يوحنا المعمدان واسمه مختصر يهوه حنان أي الرب رحيم وسُمي بذلك بأمر من الله (لوقا 1: 13) وهو لاوي ابن زكريا وأليصابات (متّى ص 3 ولوقا ص 1) وكان نبياً وسابقاً للمسيح ومنادياً بالتوبة وشاهداً لابن الله.
7 «هٰذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ، لِكَيْ يُؤْمِنَ ٱلْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ».
أعمال 19: 4
هٰذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ هذه وظيفته الخاصة وهي أن يشهد بأن يسوع هو المسيح (ص 1: 31) فنادى بين الناس بوجوب التوبة قبل مجيء المسيح ليعد قلوبهم لقبوله عند مجيئه ثم عينه لهم بعد ما أتى.
لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ أي للمسيح الذي هو نور (ص 12: 36 وإشعياء 60: 1) فأخذ يوحنا علامة من الله لكي يعرف المسيح ع 33.
لِكَيْ يُؤْمِنَ ٱلْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ أي لكي يصدقوا بواسطة شهادته أن يسوع هو المسيح. وكانت شهادته كافية لإقناعهم لو أرادوا. وقصد الله أن يفتح به أبواب الإيمان للجميع. ولو أتى المسيح بالمجد الذي كان له في السماء قبل إنشاء العالم لم يحتاج إلى شاهد وإنما احتاج إلى ذلك لاستتار مجده بثوب الاتضاع.
8 «لَمْ يَكُنْ هُوَ ٱلنُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ».
لَمْ يَكُنْ هُوَ ٱلنُّورَ أي نور العالم الذي له النور ذاته ويهبه لغيره. نعم إنّه كان «هُوَ ٱلسِّرَاجَ ٱلْمُوقَدَ ٱلْمُنِيرَ» (ص 5: 35) ونوره مقتبس من المسيح شمس البر. وظن بعض الناس أن يوحنا هو شمس البر لأنه ظهر نبياً عظيماً بعد ختام النبوات بنحو أربع مئة سنة وسمع الناس أنباء حوادث ولادته الغريبة ثم تأثروا من جراءته وقوة مواعظه (لوقا 3: 15) فدفع البشير ذلك الظن بقوله «لم يكن هو النور».
فمن وقت يوحنا المعمدان كل فلاسفة العالم وأشهر معلميه ولاهوتييه وواعظيه ليسوا أنواراً بالذوات لكنهم شهود للنور الذي مصدره المسيح.
9 «كَانَ ٱلنُّورُ ٱلْحَقِيقِيُّ ٱلَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى ٱلْعَالَمِ».
إشعياء 49: 6 وع 4 و1يوحنا 2: 8
كَانَ ٱلنُّورُ ٱلْحَقِيقِيُّ أي الذي استحق أن يسمّى بالنور. وهو استحق أن يسمّى كذلك لأربعة أسباب:
الأول: تمييزاً له عن النور المادي الذي ما هو إلا إشارة إلى النور الروحاني.
الثاني: تمييزاً له عن كل الأنوار الكاذبة كأديان الأمم الوثنية والأنوار الجزئية كتعاليم الفلاسفة والأنوار الرمزية التي في الشعائر والطقوس المشيرة إلى النور الحقيقي.
الثالث: تمييزاً له عن النور المستعار كتعاليم يوحنا وسائر المسيحيين (متّى 5: 14) لأن المسيح هو النور الأصيل الأزلي غير المتغير العام لكل العالم.
الرابع: الإشارة إلى عظمته تمييزاً له عن كل نور عادي. وكما سمى المسيح بالنور الحقيقي سُمي أيضاً بالخبز الحقيقي وبالكرمة الحقيقة والقدس الحقيقي (عبرانيين 9: 24).
ٱلَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى ٱلْعَالَمِ لم يتضح من الأصل اليوناني أقوله «آتياً» الخ متعلق بكل إنسان أم بالنور أي المسيح والأرجح الثاني. إنه كثيراً ما أشير إلى المسيح «بالآتي» «وبالذي يأتي». فإذا نسبناه إلى كل إنسان لا يزيد المعنى شيئاً إذ ليس من إنسان لا يأتي إلى العالم. فمعنى هذه الجملة ستة أمور.
الأول: غاية مجيء المسيح إلى العالم هي أن يكون نور العالم.
الثاني: كفاية الإنارة لأنه يهب النور الكافي للخلاص لكل من يقبل نوره ويسير بموجبه.
الثالث: افتقار كل الناس إلى المسيح فمهما وُجد في العالم من النور في أديانه وفلسفته وشرائعه وقلوب الناس وضمائرهم فمنه.
الرابع: عموم ذلك النور لأنه لكل بني آدم يهوداً وأمماً في كل عصر وموضع.
الخامس: كون المسيح نور العالم الوحيد قبل التجسد وبعده.
السادس: كون كل المخلصين في المجد اهتدوا إلى السماء بنور المسيح.
10 «كَانَ فِي ٱلْعَالَمِ، وَكُوِّنَ ٱلْعَالَمُ بِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ ٱلْعَالَم».
ع 3 وكولوسي 1: 17 وعبرانيين 1: 2 و11: 3
كَانَ فِي ٱلْعَالَمِ الكلام هنا على قبل تجسده والكلام عليه في الآية الآتية بعد ذلك التجسد. كان في العالم منذ البدء لا تنظره العيون البشرية إنما كان حاضراً بالروح بخلق العالم كما في العبارة التي تلي هذه وينير العالم كما في العبارة السابقة. فهو الذي وعظ في أيام نوح (1بطرس 3: 19). وهو الملاك الذي سار مع بني إسرائيل في البرية (أعمال 7: 38).
كُوِّنَ ٱلْعَالَمُ بِهِ ذُكر هذا قبلاً وكُرر هنا بياناً لأنه كان يجب على العالم أن يعرفه حين أتى علانية. فهو لم يدخل العالم كغريب عنه لأنه كان فيه قبلاً يخلق ويعتني. وكما تُعرف نباهة المخترع بمخترعاته كان يجب على العالم أن يعرف صفات المسيح من أعماله.
وَلَمْ يَعْرِفْهُ ٱلْعَالَمُ هذا مع كل وسائل معرفته المذكورة. ومعنى «العالم» هنا البشر عامة فأكثرهم لم يعترفوا بالله ولم يؤمنوا به ولم يطيعوه وعبدوا الأوثان دونه وسموها آلهة حتى أنه لم يوجد بين ألوف من المذابح التي كانت للوثنيين ما ينسب منها إلى الإله الحق سوى واحد وهو الذي كُتب عليه «لإله مجهول» (أعمال 17: 23).
ولا يُخفى على القارئ أن للعالم هنا ثلاثة معانٍ:
الأول: مكان معين هو هذه الأرض.
الثاني: الكون كله.
الثالث: الناس.
11 «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ».
لوقا 19: 14 وأعمال 3: 26 و13: 46
إِلَى خَاصَّتِهِ أي الأمة اليهودية دون عالم الوثنيين المذكورين في العدد السابق. وسُميت اليهود خاصته لأن الله اختارها لنفسه (تثنية 7: 6 وإشعياء 31: 9) والمسيح هو الله فاختار أولاد إبراهيم (تثنية 19: 5) وفداهم من أرض مصر وأعطاهم أرض كنعان والشريعة والعهود والأنبياء (مزمور 76: 2 و78: 71 و135: 4 ورومية 9: 4) وسكن بينهم. وكانوا خاصته أيضاً لأن المسيح يهوه العهد القديم اعتنى بهم وحفظهم في كل طرقهم وقصد بذلك إعدادهم لقبوله حين يأتي.
جَاءَ أي ظهر علانية وهذا تمييز عما في قوله «كان في العالم» في الآية السابقة فجاء وفقاً لقول النبي «يَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ ٱلسَّيِّدُ ٱلَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَمَلاَكُ ٱلْعَهْدِ ٱلَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ. هُوَذَا يَأْتِي قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ» (ملاخي 2: 1).
وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ جاء في ما سبق أن «ٱلظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ» (ع 5) وأن «العالم لم يعرفه» (ع 10) وزاد على ذلك هنا أن «خاصته لم تقبله» مع أن الله أعدها لقبوله برموز ونبوءات وجعلها تتوقع مجيئه فكان عليها أن تعرفه وتقبله عند مجيئه ولكن لما ظهر بينها رفضته بل صلبته (متّى 23: 37 ولوقا 11: 49 و50 وأعمال 7: 51 - 53). وعلة رفضها إياه إعماء الخطية لعيونها وعدم رضاها مخلصاً وملكاً روحياً.
12 «وَأَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ».
إشعياء 56: 5 وص 3: 3 إلى 7 وأعمال 10: 44 ورومية 8: 15 وغلاطية 3: 26 و2بطرس 1: 4 و1يوحنا 3: 1
وَأَمَّا كُلُّ ٱلَّذِينَ قَبِلُوهُ رفضه الشعب وقبله أفراد قليلون منه. ومعنى قبولهم إياه اعترافهم بأنه الكلمة والنور والحياة وإيمانهم به لخلاصهم.
وكان الذين قبلوه من كل شعب وأمة رحبوا به في قلوبهم واقتنعوا أنه المسيح بعقولهم.
فَأَعْطَاهُمْ أي كل المؤمنين به بلا استثناء من فريسيين وصدوقيين وعشارين علماء وجهلاء يهوداً وأمماً.
سُلْطَاناً أي نعمة خاصة أو حقاً. فلم يهب لهم قوة على تغيير قلوبهم أو تصييرهم أنفسهم أولاد الله بل فعل كل ما هو لازم لكي يكونوا كذلك وذلك بواسطة ثلاثة أمور:
الأول: صيرورته إنساناً لكي يجعلنا أولاد الله فكان لنا بذلك أن ندعوه أخاً وندعو الله أباً.
الثاني: إزالته كل الموانع من أن نكون أولاد الله إذ رفع عنّا جرم الخطية وغضب الله.
الثالث: إعطاؤه إيانا الروح القدس لنكون أولاد الله بالميلاد الجديد (أعمال 10: 44) فالبنوة هبة مجانية بدليل قوله «أعطاهم» ولم يكن ذلك إلا به.
أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ فصيرورتهم من أهل بيت الله شرف وبركة لهم. وهم بالطبيعة أبناء هذا الدهر (لوقا 16: 8) وأبناء المعصية (أفسس 2: 2) وأبناء الغضب (أفسس 2: 3) وتتضمن صيرورتنا أبناء الله خمسة أشياء:
الأول: ولادتهم الجديدة.
الثاني: محبة الله لهم كمحبة الأب لبنيه.
الثالث: اعتناء الله بهم وحمايته إياهم ومنحه لهم كل ما يحتاجون إليه.
الرابع: مشابهتهم له (غلاطية 4: 1 و7 وأفسس 4: 13 وعبرانيين 12: 10).
الخامس: إرثهم ميراثاً سماوياً (رومية 8: 16).
وبقي غير ما ذكر من متعلقات تلك النسبة ما لا يستطيع إدراكه المؤمنون إلا بعد دخولهم السماء وهذا وفق قول الرسول «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، ٱلآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ ٱللّٰهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (1يوحنا 3: 2).
أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ هذا تفسير قوله السابق «الذين قبلوه» فلا يستطيع الإنسان أن يكون ابناً لله ما لم يؤمن به. وقبول المسيح هنا يقتضي الإيمان لأن مجده مستتر ولاهوته محجوب بحجاب جسده. والإيمان به يستلزم تصديق دعواه والاتكال عليه للخلاص والثقة به.
بِٱسْمِهِ أي به كما هو معلن لنا. لأننا نعرفه بالاسم الذي يُدعى به والمراد بالاسم هنا مجموع الصفات التي أُعلن بها ومن ذلك «عمانوئيل» و «يسوع» و «الكلمة» و» «الرب برنا» فيكون الإيمان باسمه اتخاذنا إياه «الله معنا» ومخلصاً ومعلن مشيئة الله والاتكال عليه لتبريرنا وطاعتنا له رباً لنا.
13 «اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ».
أعمال 17: 26، أفسس 2: 3 و8 و9 ص 3: 5 ويعقوب 1: 18 و1بطرس 1: 23، 1يوحنا 3: 9
غاية هذا العدد بيان كيفية صيرورة الناس أولاد الله وهي دفع كل وهم أن ذلك بالتسلسل الطبيعي كما زعم اليهود لأنهم ذرية إبراهيم. وذكر الإنجيلي هنا ثلاث عبارات تشير إلى ذلك التسلسل وهي «دم» و «مشيئة جسد» و «مشيئة رجل» ونفى كون أولاد الله بشيء منها. وصرّح أن الناس صاروا أولاد الله بالولادة الروحية.
دَمٍ يعسر أن نميز الفرق بين معنى الدم هنا ومشيئة الجسد ومشيئة الرجل ولعلّ في ذلك وصف الولادة الطبيعة من أدنى درجات نشوئها إلى أعلاها. والمعلوم أن الدم هو مركز الحياة كقوله تعالى «نَفْسَ ٱلْجَسَدِ هِيَ فِي ٱلدَّمِ» (لاويين 17: 11).
والمعنى أن نعمة النبوءة ليست بالتسلسل من أب إلى ولد إبراهيم كان أم غيره لكن من الله تعالى إلى نفس الإنسان.
مَشِيئَةِ جَسَدٍ لعل معنى ذلك أن الإنسان عاجز عن أن يُصير نفسه ابناً لله وكل اتكاله على مقاصده في ذلك وأعماله عبثٌ.
مَشِيئَةِ رَجُلٍ لعل معنى هذا اتكال الإنسان على غيره من الناس لينال بنوة الله باطل. ولو كان المتكل عليهم أقدس البشر فلا تكفي ذلك صلواتهم ولا تعاليمهم ولا تعميدهم ولا رسمهم. وما صدق على الأفراد هنا يصدق على الجميع وهو أن البنوءة لله ولا تتوقف على اتفاقهم إنما تتوقف على نعمة الله. وما قيل في هذا التمييز صحيح في ذاته لكنه لم يتحقق أنه مقصود الإنجيلي والأرجح أن المعنى ما سبق ذكره في الكلام العام في أول هذه الآية.
بَلْ مِنَ ٱللّٰهِ أي أن الولادة المقصودة هنا هي هبة من الله. وهذا مثل قول الرسول «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ» (1بطرس 1: 23). وعلة هذه الهبة أي الولادة الجديدة هي النعمة الإلهية بقوة الله وهي تتضمن الدعوة والتجديد والتقديس. والوسيلة التي يتخذها روح الله في الولادة الجديدة هي الحق.
14 «وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً».
متّى 1: 16 و20 ولوقا 1: 31 و35 و2: 7 ورومية 1: 3 وغلاطية 4: 4 و1تيموثاوس 3: 16 وعبرانيين 2: 11 و14 و16 و17 و1يوحنا 4: 2 إشعياء 40: 5 ومتّى 17: 2 وص 2: 11 و11: 40 و2بطرس 1: 16 و17 و18 و1يوحنا 1: 1، كولوسي 1: 19 و2: 3 و9 و10
وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً العلاقة بين هذا الكلام وما قبله بيان أن الإنسان صار ابن الله لأن ابن الله الوحيد صار الإنسان.
الكلمة التي في الآية الأولى كان في البدء وكان عند الله وكان الله قد صار جسداً ولم يكن كذلك قبلاً وذلك ليعلن الله أوضح إعلان. فالذي كان في العالم بالروح خالقاً (ع 3) وحياة ونوراً (ع 4 و5) يفعل في قلوب الناس وضمائرهم أخذ طريقاً جديدة لإعلان الله بإضافة الطبيعة البشرية إلى الطبيعة الإلهية وفي ذلك سر التجسد.
ومعنى «جسد» هنا إنسان كامل كما في يوحنا 17: 2. وذلك يتضمن أن جسد المسيح كان جسداً حقيقياً لا صورة كما قال الدوسيتيون ولا هيئة إنسان أُخذت وقتياً كما في إعلانات العهد القديم. ويتضمن أيضاً أنه كان للمسيح نفس بشرية كما يظهر من (ص 12: 27 و13: 21) وأن الروح الإلهي لم يحل محل الروح الإنساني كما قال أوبوليناريوس.
وأتى المسيح ذلك لكي يكون شبه «إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» (عبرانيين 2: 17 قابل بذلك 1يوحنا 4: 2 و3 و2يوحنا 7). وأمكنه بذلك أن يتألم ويجرب ويتعلم وينمو ويصلي ويموت كسائر الناس. وسر المسيح أن يسمي نفسه «ابن الإنسان» ع 52.
والطريقة التي فيها صار الكلمة جسداً هي أنه وُلد من مريم العذراء إذ حبلت به بطريق غير عادية بقوة الروح القدس. ولم يختلف عن البشر شيئاً سوى أنه كان بلا «خطية» (2كورنثوس 5: 21) فإذاً كان المسيح إلهاً تاماً وإنساناً تاماً ذا طبيعتين ممتازتين في أقنوم واحد. واتخاذه الناسوت لم ينزع منه اللاهوت بل علامات اللاهوت الظاهرة إلا عند ما أظهره بعض الظهور بعمل المعجزات ليثبت دعواه. واتحاد الطبيعتين جعل لآلامه من أجل البشر قيمة لا تحد. وقدره أن يشارك الإنسان في كل انفعالاته. فالمسيح باعتبار أنه إله وإنسان عاش على الأرض وتألم ومات وقام وصعد إلى السماء وهو جالس الآن عن يمين الله يشفع فينا.
وَحَلَّ بَيْنَنَا بعد التجسد من هو قبل التجسد «كان عند الله» ع 1. فكما سكن روحياً خيمة الاجتماع في وسط بني إسرائيل في البرية نحو أربعين سنة (أعمال 7: 38) سكن الأرض إنساناً نحو ثلاث وثلاثين سنة. وسكن خصوصاً بين تلاميذه بعض ذلك الوقت حسب قول الرسول «اَلَّذِي كَانَ مِنَ ٱلْبَدْءِ، ٱلَّذِي سَمِعْنَاهُ، ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، ٱلَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ ٱلْحَيَاةِ» (1يوحنا 1: 1). وفي ذلك الحلول تنازل عجيب من المسيح ومجد عظيم لأرضنا وفرح وبركة للذين شاهدوه.
وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ أي نحن تلاميذه كما في (1يوحنا 1: 3 و2بطرس 1: 16). أظهر الله مجده في أزمنة العهد القديم بسحابة نور في خيمة الاجتماع وفي الهيكل وبالرؤى (إشعياء 6: 1) فأظهر المسيح مجده بمعجزاته (ص 2: 11 و11: 4). وبتجليه والذين رأوا ذلك من تلاميذه هم يوحنا وبطرس ويعقوب. وبصعوده أمام كل الرسل. وبقداسة سيرته وجودة تعليمه وإحسانه واحتماله الآلام من أجل البشر وفي هذا كله بيان صفاته المجيدة كأشعة من شمس لاهوته. فذكر يوحنا أنهم رأوا مجده برهاناً على أنه ليس مجرد ابن الإنسان بل إنّه ابن الله أيضاً. والمجد الذي رآه التلاميذ أقل مما كان له قبل تجسده (ص 17: 5) لكنه كاف لإثبات كونه ابن الله.
كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ أي كما يليق بوحيد الخ. ويسمى المسيح «وحيد الآب» تمييزاً عن أولاد الله الذين ذُكروا في ع 12 و13 وهم كثيرون نالوا ولادتهم من الله هبة بواسطة إيمانهم بالمسيح وإنما هو واحد أزلي واجب الوجود وابن الله بمعنى لا يصدق على غيره. وسمي الأقنوم الثالث ابن الله ليس لأنه وُلد من الله تعالى كولد من والدين بشريين لكن ذلك اسمه منذ الأزل وهو يصدق عليه لثلاثة أوجه.
الأول: الشبه التام بينه وبين الله.
الثاني: المساواة في المجد والإكرام.
الثالث: إعلان المحبة بين الأقنوم الأول والأقنوم الثاني من اللاهوت.
مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً الذي كان قبل التجسد خالقاً ونوراً وحياة ظهر عند تجسده مملوءاً نعمة وحقاً بطبيعته وقوله وعمله وهذا جزء من المجد الذي رآه التلاميذ. والصفتان المذكورتان هنا من صفات الله المميزة له عن كل خليقته (خروج 34: 6) فالمسيح باعتبار كونه كلمة الله أعلن هاتين الصفتين للناس. وفي هذا القول إشارة إلى البركات الروحية التي أتى المسيح ليهبها للناس فهي مجموعة في أمرين النعمة والحق. فأتى ببشارة النعمة بغية إظهار المحبة الإلهية للخطاة الهالكين لغفران خطاياهم وخلاص نفوسهم. وأتى أيضاً بإعلان حق الله الروحي غير محجوب برموز وإشارات وظلال العهد القديم.
ويوحنا بعد ما عبّر عن المسيح بالكلمة في هذا العدد لم يعبّر عنه بهذا الاسم في سائر إنجيله.
15 «يُوحَنَّا شَهِدَ لَهُ وَنَادَى: هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: إِنَّ ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي».
ع 32 وص 3: 32 و5: 33، متّى 3: 11 ومرقس 1: 7 ولوقا 3: 16 وع 27 و30 وص 3: 31 ص 8: 58 وكولوسي 1: 17
هذه الآية والتي بعدها فحوى كل شهادة يوحنا المعمدان للمسيح وفُصلت في بقية الأصحاح.
يُوحَنَّا شَهِدَ لَهُ أورد البشير هنا شهادة يوحنا إثباتاً لما قاله في العدد السابق وهو أن الكلمة صار جسداً... ورأينا مجده، وهو ممن رأوا ذلك المجد وشاهدوه. قيل في العدد السابق «هذا جاء للشهادة ليشهد للنور» وهنا بيان ما شهد به.
هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي قُلْتُ عَنْهُ قال هذا قبلما شاهده وعرفه (ع 33) وكان يومئذ يكرز في البرية (متّى 3: 11 - 13).
ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي أي الذي أنا سابقه. وصح ذلك في أمرين الولادة والشروع في الخدمة.
صَارَ قُدَّامِي الخ لثلاثة أمور:
الأول: أنه منذ الأزل.
الثاني: أنه كان قبل المعمدان في العالم بروحه زمن العهد القديم (يوحنا 12: 41 و 1كورنثوس 10: 4)
الثالث: كون المسيح أعظم منه كما أن الملك أعظم من سابقه.
16 «وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ».
ص 3: 43 وأفسس 1: 6 و7 و8 وكولوسي 1: 19
مِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا هذا كلام يوحنا الرسول لا يوحنا المعمدان وهو تابع لقوله في الآية الرابعة عشرة «مملوءاً نعمة وحقاً». وقوله «نحن» يتضمن نفسه وسائر المؤمنين فكما قال في ع 14 «رأينا مجده» قال هنا «أخذنا من ملئه» أي من غنى نعمته وحقه الذي لا يُستقصى. أشار بقوله «أخذنا» إلى نوال ذلك هبة مجانية.
وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ كما أن بني إسرائيل كانوا يجمعون ما يحتاجون إليه لأجسادهم من المن يوماً فيوماً كذلك المؤمنين يأخذون من نعمة المسيح ما يحتاجون إليه لنفوسهم يوماً فيوماً سوى أن المؤمنين يزيد ما يأخذونه من النعمة على توالي الأيام. وهذا موافق لقوله تعالى «مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَيُزَادُ» (متّى 13: 12) وقول الرسول «لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ ٱللّٰهِ» (أفسس 3: 19).
17 «لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا ٱلنِّعْمَةُ وَٱلْحَقُّ فَبِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ صَارَا».
خروج 20: 1 الخ وتثنية 4: 44 و5: 1 و33: 4، رومية 3: 24 و5: 21 و6: 14 ص 8: 32 و14: 6
لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أي الناموس بقسميه الأدبي والطقسي. وفي هذا الناموس الإعلان لله استعداداً لإعلان آخر أسمى وأكمل وأُعطي بواسطة بشرية أي بواسطة موسى فجاء به كخادم (عبرانيين 3: 5).
أَمَّا ٱلنِّعْمَةُ وَٱلْحَقُّ غاية الناموس بيان ما يجب على الإنسان عمله وغاية النعمة والحق بيان ما أراد الله أن يعمله من أجلنا. وأظهر المسيح نعمة الله بإعلانه طريق الخلاص والمناداة بمغفرة الخطية لكل مؤمن وبموته على الصليب لأجل البشر وبمنحه الحياة الأبدية للمؤمنين به. وأظهر الحق بنفسه وتعليمه باعتبار كونه النبي الحقيقي والكاهن الحقيقي والذبيحة الحقيقية وأنه تم فيه كل رموز العهد القديم.
والنعمة والحق هما الإنجيل أتى به المسيح كابن (عبرانيين 3: 6) وفضل الإنجيل على الناموس يتضح مما قيل في (رومية 7 وص 8 و2كورنثوس 3: 7 - 9 وغلاطية ص 3 وص 4 وعبرانيين ص 7 وص 10).
فَبِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ هذا أول ما ذكره يوحنا الإنجيلي بهذا الاسم ومعناه المخلص الممسوح من الله لإجراء عمل الفداء.
18 «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاَبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ».
خروج 33: 20 وتثنية 4: 12 و15 وص 6: 46 و1تيموثاوس 1: 17 و6: 16 و1يوحنا 4: 12 و20، متّى 11: 27 ولوقا 10: 22 وع 14 وص 3: 16 و18 و1يوحنا 4: 9
اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ فإذاً لا أحد من الناس ولا من الملائكة عرف الله حق المعرفة ليستطيع أن يعلن صفاته بلا خطإ لأن رؤية الله ضرورية لكمال معرفته. فليس لهم إلا ان يعلنوا إلا ما أُعلن لهم بوحي أو برؤيا (عبرانيين 1: 1). فموسى لم ير الله (خروج 33: 20) ومعلناته الروحية ومعلنات إبراهيم ويشوع وإشعياء ودانيال لم تكن إلا إعلانات الأقنوم الثاني من اللاهوت. والنتيجة أنه لا يمكن الإنسان أن يعلن ملء النعمة والحق.
اَلاَبْنُ ٱلْوَحِيدُ هذا هو القادر أن يعلن الله لانه «كلمة الله» وكان عند الله منذ الأزل ويعرف كل أفكار الله ومقاصده ويعرف ذلك من تلقاء نفسه حق المعرفة وهذا يجعله أهلاً للإعلان (ص 3: 11 و6: 46 و14: 7) ويحق له أن يعلن لأنه ليس خادمه كموسى لأن الخادم لا يعرف فكر سيده بل هو ابن وله ولأبيه طبيعة واحدة وبينه وبين الآب محبة تامة وهو ابن الآب الوحيد وهذا دليل على النسبة بينه وبين الآب خاصة ممتازة عن نسبة كل كائن آخر.
فِي حِضْنِ ٱلآبِ هذا إشارة إلى كون النسبة بين الآب والابن أقرب ما يكون وإلى حصول الابن على كمال المحبة من الآب والاتحاد به والمشاركة في عواطفه ومعرفة أفكاره وإلى سعادته وراحته. ولم يقل هنا الذي كان في حضن الآب بل «الذي هو في حضن الآب» فإذاً مع أن المسيح كان بناسوته على الأرض كان بلاهوته في حضن الآب كما هو منذ الأزل وإلى الأبد.
هُوَ خَبَّرَ أي هو لا غيره أعلن الله لأن هذا التخبير خاص به كالكلمة. ونتيجة ما قيل في هذا الفصل أن المسيح أعظم من يوحنا المعمدان بأزليته وأفضلية تعليمه وبأنه أعظم من موسى ومن كل الكهنة والأنبياء الذي أعلنوا الله ولذلك وجب أن نتخذه معلمنا ونبينا وأن ندرس كلامه ونتأمل فيه ونسأله الإرشاد لأنه عجيب مشير إله قدير.
19 «وَهٰذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا، حِينَ أَرْسَلَ ٱلْيَهُودُ مِنْ أُورُشَلِيمَ كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ لِيَسْأَلُوهُ: مَنْ أَنْتَ؟».
ص 5: 33، يشوع 3: 3
حِينَ أَرْسَلَ الأرجح أن ذلك الوقت كان بعد وقت المعمودية ورجوع المسيح من تجربته أربعين يوماً في البرية.
ٱلْيَهُودُ اختص هذا الاسم أولاً بسبط يهوذا ثم أُطلق بعد رجوع الإسرائيليين من سبي بابل على كل الأسباط. واليهود هنا وفي سائر هذه البشارة الذين قاوموا المسيح من اليهود. واصطلح يوحنا على ذلك لأن أكثر تلك الأمة ولا سيما رؤساؤها قاوم يسوع وأما سائر البشائر فذكروا مقاومي المسيح باسم فرقتهم كالفريسيين والصدوقيين أو باسم وظيفتهم كرؤساء الكهنة ونحو ذلك. واستعماله لفظة اليهود بهذا المعنى من الادلة على أن يوحنا كتب إنجيله بعد خراب أورشليم بزمن طويل وأن اليهود كانوا عند كتابته ملة دينية فقط لا أمة سياسية وأنه تقضت عليه مدة طويلة وهو ساكن بين الأمم.
مِنْ أُورُشَلِيمَ كان الذين أتوا من هذه المدينة لجنة مختارة أرسلها مجلس السبعين من قاعدة البلاد ومركز الديانة. وغاية إرساله إياها الفحص عن دعاوي ذلك النبي أي المعمدان الذي جمع إليه الجموع العظيمة وحمل كثيرين على ظنهم إياه المسيح (لوقا 3: 15) وإرسال تلك اللجنة دليل جليّ على شدة تأثير ما أتاه يوحنا المعمدان من المواعظ.
كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ هما من خدم الهيكل. والكهنة فرقة من اللاويين أي أولاد هارون وكان أكثر الكتبة من اللاويين. والمجلس الكبير مؤلف من الشيوخ والكتبة والكهنة.
مَنْ أَنْتَ لا ريب في أنهم عرفوا أنه لاوي وأنه ابن الكاهن زكريا فالذي أرادوا معرفته هو ماهية الوظيفة التي ادّعى أنه نالها من السماء. والمسيح اشار إلى هذا في خطابه بعد ذلك (ص 5: 33).
20 «فَٱعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ، وَأَقَرَّ أَنِّي لَسْتُ أَنَا ٱلْمَسِيحَ».
لوقا 3: 15 وص 3: 28 وأعمال 13: 25
ما في هذا العدد من تكرار المعنى للتأكيد وبيان أهمية الشهادة. فرفض يوحنا كل دعوى في أنه هو المسيح وأبى الإكرام الذي استعد الناس أن يقدموه له باعتبار كونه المسيح.
21 «فَسَأَلُوهُ: إِذاً مَاذَا؟ إِيلِيَّا أَنْتَ؟ فَقَالَ: لَسْتُ أَنَا. أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟ فَأَجَابَ: لاَ».
2ملوك 1: 8 وملاخي 4: 5 ومتّى 17: 10، تثنية 18: 15 و18 وص 6: 14 و7: 40 و41
إِيلِيَّا أَنْتَ انتقل إيليا النبي إلى السماء قبل ذلك بنحو 900 سنة. وقال ملاخي منذ 400 سنة قبل ذلك باسم الرب «هَئَنَذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا ٱلنَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ ٱلرَّبِّ ٱلْيَوْمِ ٱلْعَظِيمِ وَٱلْمَخُوفِ» (ملاخي 4: 5). فتوقع اليهود مجيء إيليا حقيقة من السماء قبل مجيء المسيح. ثم مسيره مع المسيح على الأرض ومسحه إياه وتعميد الناس عموماً وفقاً لقوله تعالى في (حزقيال 36: 25 و26 وفي زكريا 13: 1).
لَسْتُ أَنَا أي لست إيليا حقيقة كزعمهم من إتيان ذلك النبي فعلاً. نعم أن يوحنا المعمدان أتى «بروح إيليا وقوته» (لوقا 1: 17) وشبهه وهو الذي قصده ملاخي بنبؤته (ملاخي 3: 1 ومتّى 11: 14 و17: 12 و13).
أَلنَّبِيُّ أَنْتَ أي الذي أشار إليه موسى في تثنية 18: 15 فإن بعض اليهود فسر تلك النبوءة بأنها إشارة إلى المسيح وهو الصحيح (ص 6: 14). وبعضهم فسرها بأنها إشارة إلى غيره من الأنبياء يقترن مجيئه بمجيء المسيح (ص 7: 40 و41). وبعضهم ظنه إرميا أو أحد الأنبياء القدماء قام من الأموات (متّى 16: 14 ومرقس 6: 15) فأنكر يوحنا أنه أحد هؤلاء.
22 «فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ، لِنُعْطِيَ جَوَاباً لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟».
فرضت تلك اللجنة ثلاثة فروض وهو أن المعمدان إما المسيح وإما إيليا وإما واحد من الأنبياء القدماء قام من الأموات فنفى يوحنا كل ذلك فالتَمَسَت منه أن يصرح بحقيقة أمره.
23 «قَالَ: أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ ٱلنَّبِيُّ».
إشعياء 40: 3 ومتّى 3: 3 ومرقس 1: 3 ولوقا 3: 4 وص 3: 28
أظهر المعمدان تواضعه بهذا الجواب وشعوره بأهمية مرسليته لأنه لم يجب اللجنة حسبما سألت كأن الجواب عن نفسه مما لا طائل تحته. لكن الأمر المهم هو تأدية الشهادة للمسيح فلم يكن في هذا إلا مثل صوت يعلن تلك الشهادة. وأظهر بجوابه هذا أنه أتى لإتمام النبوءة المذكورة في إشعياء 40: 3. وحوّل بجوابه التفات الناس عنه إلى موضوع مناداته وبالنتيجة إلى الملك الآتي الذي هو سابقه.
قد أشار إشعياء إلى مجيء المسيح بإنبائه من ص 40 إلى ص 46 فاتخذ يوحنا المعمدان مجيء نفسه وتبشيره ومناداته إتماماً لأول ذلك الإنباء وأشار بذلك أن كله على وشك التمام أي أنه قد اقترب قدوم الملك المنتظر أو الموعود به وأنه هو نفسه يعد الطريق قدامه. فإذاً جوهر جوابه أنه سابق المسيح وظهور ذلك المسبوق قريب جداً.
24 «وَكَانَ ٱلْمُرْسَلُونَ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ».
مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ هم فرقة من فرق اليهود الثلاث التي انقسموا إليها والباقيتان هما الصدوقيون والاسينيون. وكان الفريسيون غيورين جداً في حفظ شريعة موسى وتقاليد الشيوخ ولذلك فحصوا بكل تدقيق عن كل شيء خارج عن مجراهم العادي في الدين كفحصهم عن علة تعميد يوحنا المعمدان. ولم تكن غايتهم من السؤال الآتي الوقوف على الحق بل المقاومة كعادتهم (لوقا 7: 30) وذكر يوحنا أن المرسلين فريسيون لئلا يظن أحد أنهم أتوا ذلك بغية الوقوف على الحق والأمر ليس كذا كما اتضح مما ذُكر.
25 «فَسَأَلُوهُ: فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ ٱلْمَسِيحَ، وَلاَ إِيلِيَّا، وَلاَ ٱلنَّبِيَّ؟».
يتضمن سؤال الفريسيين ليوحنا التسليم بأنه لو كان أحد أولئك الثلاثة الذين ذكروهم لحق له أن يعمد بناء على قول (حزقيال 36: 25 و26 وقول زكريا 13: 1). ولم يستغربوا المعمودية كأنها أمر جديد في الدين لأنهم اعتادوا التطهيرات الطقسية التي يمارسها كل يهودي لنفسه وتُعرف عندهم بالمعمودية (مرقس 7: 1 - 4) واعتادوا أيضاً تعميد الدخلاء أي الذين تهودوا من الأمم لكنهم تعجبوا من تعميد يوحنا مع نفيه أنه ليس أحد أولئك الثلاثة المفروضين. ولعلهم تعجبوا من أنه عمد اليهود الذين هم على زعمهم أمة مقدسة طاهرة لا تحتاج إلى معموديته. والأرجح أن سؤالهم لم يكن إلا عن سلطانه.
26 «أَجَابَهُمْ يُوحَنَّا: أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ، وَلٰكِنْ فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ ٱلَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ».
متّى 3: 11، ملاخي 3: 1
لم يجبهم يوحنا عن سؤالهم بالتصريح بل بالتضمين هو أنه سابق المسيح وأن عمله إنما هو تهيئة الطريق أمامه إن المسيح أتى وفعل يوحنا ما فعله بسلطان ذلك إذاً حق له أن يعمد كما أوضح أيضاً في ع 33.
أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ زاد يوحنا المعمدان على ذلك في بعض الأحيان قوله «هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَنَارٍ» (ع 33 ومتّى 3: 11).
فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ أي هو الآن بينكم في الأرض اليهودية. ومعنى ذلك أن المسيح قد أتى وأن يوحنا يفعل ما يفعله بسلطانه. ويظهر من الآية التاسعة أن المسيح لم يكن قدام يوحنا عند هذا الكلام.
ٱلَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ اي لم تتحققوا أنه المسيح.
27 «هُوَ ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي، ٱلَّذِي صَارَ قُدَّامِي، ٱلَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ».
ع 15 و30 وأعمال 19: 4
هُوَ ٱلَّذِي يَأْتِي أشار بهذا إلى شهادته السابقة في ع 15.
أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ كان الحذاء يومئذ نعلاً يربط إلى الرجل بسيور من جلد. وكان حل تلك السيور من الأعمال الخاصة بالعبيد (انظر الشرح متّى 3: 11).
أثبت يوحنا المعمدان بما ذُكر ثلاثة أمور:
الأول: أن المسيح قد أتى.
الثاني: أن الناس جهلوه.
الثالث: أنه عظيم جداً. وأظهر فوق ذلك وفرة تواضعه فإنه حسب شهادة المسيح لم «يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان». ومع ذلك لم يحسب نفسه أهلاً لأن يخدم المسيح كعبد. وفي ذلك مثالاً لكل خدم الدين فعلى كل منهم أن يقتدي به في التواضع.
28 «هٰذَا كَانَ فِي بَيْتِ عَبْرَةَ فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ حَيْثُ كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ».
قضاة 7: 24 وص 10: 40
فِي بَيْتِ عَبْرَةَ معنى هذا الاسم في الأصل معبر النهر وهو محل على شاطئ الأردن لم يتحقق مركزه والأرجح أنه غير بعيد عن أريحا. والشهادة التي أداها يوحنا هنالك لا ريب في أنه أداها مراراً كثيرة قبل أن عمّد المسيح كما في (لوقا 3: 16) وبعد ذلك كما هنا.
29 «وَفِي ٱلْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ: هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ».
خروج 12: 3 وإشعياء 53: 7 وع 36 وأعمال 8: 32 و1بطرس 1: 19 ورؤيا 5: 6 الخ إشعياء 53: 11 و 1كورنثوس 15: 3 وغلاطية 1: 4 وعبرانيين 1: 3 و2: 17 و9: 28 و1بطرس 2: 24 و3: 18 و1يوحنا 2: 2 و3: 5 و4: 10 ورؤيا 1: 5
فِي ٱلْغَدِ أي غد اليوم الذي أدى شهادته فيه قدام لجنة اليهود التي أُرسلت من أورشليم.
نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ ذهب يسوع بعد ما عُمّد إلى البرية لكي يُجرب وبقي هنالك أربعين يوماً والوقت المذكور هنا هو الزمن الذي رجع فيه من البرية أو بعده بقليل. وأتى وقتئذ بغية أن يعطي يوحنا فرصة ليشهد له. ولعل يوحنا كان في تلك المدة يتأمل في نبوات العهد القديم المتعلقة بالمسيح من جهة كونه عرضة للمصائب وحمل آثام البشر ولا سيما النبوة المذكورة في ص 53 من إشعياء حتى استعد أن يؤدي الشهادة للمسيح على الوجه الذي أداها عليه.
فَقَالَ الأرجح أنه قال ذلك على مسامع الجمع الذي اجتمع إليه.
هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ تشير تسمية المسيح حملاً إلى كونه ذبيحة الخطية وأنه المرموز إليه بكل الذبائح التي قُدمت في العهد القديم كفارة عن الإثم. فإن الحملان أكثر ما تُقدم لذلك (لاويين 5: 6) والمسيح هو الحمل الحق المشار إليه بخروف الفصح ( 1كورنثوس 5: 7) وهو تمم نبوءة إشعياء المذكورة في ص 53 ولا سيما الآية السابقة من ذلك الأصحاح وهي قوله «كشاة تساق إلى الذبح» (انظر أيضاً رومية 5: 6 و13: 8) ولاق بالمسيح أن يكون ذبيحة لأنه كان «حَمَلاً بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ» (1بطرس 1: 19).
وهو «حمل الله» لأربعة أسباب:
الأول: تعيين الله إياه منذ الأزل ذبيحة إثمٍ.
الثاني: وعد الله بأنه يكون كذلك في النبوءات والرموز التي هو عيّنها.
الثالث: إرسال الله إياه من السماء إلى العالم ليكون ذبيحة فاستحق أن يسمى حمل الله تمييزاً له عن سائر الحملان التي هي حملان الناس (رومية 3: 25 و8: 32).
الرابع: قبول الله إياه ذبيحة إثم بدل عالم الأثمة.
ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ أي يصنع كفارة تامة عن الخطية (1يوحنا 2: 12 وعبرانيين 9: 26). وأفرد الخطية هنا باعتبار أن كل خطايا العالم جُعلت حملاً واحداً ليحمله المسيح.
وهو رفع عن الناس (الذين يريدون) أولاً الخطية الأصلية والخطية الفعلية.
ثانياً: جرم الخطية وقصاصها.
ثالثاً: دنس الخطية وسلطتها عليهم. وقد رفعها عن غيره بوضعه إياها على نفسه وفق نبوءة إشعياء وهي قوله «جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ ... وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا» (إشعياء 53: 10 و11) وقول الرسول «ٱلَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ» (1بطرس 2: 24). وهو يرفع خطايا العالم أيضاً بشفاعته على يمين الآب في الخطأة المؤمنين به.
ٱلْعَالَمِ أي كل البشر لا اليهود فقط كما زعموا أن يفعل المسيح المنتظر. ومعنى «حمل المسيح خطية» العالم تقديمه ذبيحة تجعل خلاص كل البشر ممكناً. والفداء الذي قام به كاف للجميع وما افتقر إليه الكل. وقدم ذلك الفداء مجاناً لكل إنسان بدليل قول الرسول «إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ» (2كورنثوس 5: 19) وقول الآخر «وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضاً» (1يوحنا 2: 2) ومع هذا كله لم يقبله العالم كله فالذين استفادوا بذلك (من الراشدين) إنما هم المؤمنون به.
ألهم الروح القدس يوحنا أن يوضح عمل المسيح على ما ذُكر خلافاً لزعم اليهود في ذلك العمل. وفاق يوحنا جميع الرسل بمعرفته أن المسيح ذبيحة الإثم إلا بعد قيامة يسوع وحلول الروح القدس عليهم ودعا اليهود إلى مشاهدة المسيح بعيون أجسادهم وعيون أرواحهم المصدقة شهادته بقوله «هوذا حمل الله». فعلنيا أن ننظره بعين العبادة والشكر والمحبة والإيمان لخلاصنا الآن وتعزيتنا عند الموت وتمجيدنا في السماء.
30 «هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي قُلْتُ عَنْهُ يَأْتِي بَعْدِي، رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي».
ع 15 و27
أشار بهذا إلى شهادة أدّاها قبلاً ع 15 وكان قد أشار إليه أنه الآتي وهنا عينه حسياً وهو في الحضرة قائلاً «هذا هو».
31 «وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ. لٰكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ لِذٰلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِٱلْمَاءِ».
ملاخي 3: 1 ومتّى 3: 6 ولوقا 1: 17 و78 و3: 3 و4
وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ قصد يوحنا بهذه الكلمات أن يبيّن لليهود أن شهادته بأن يسوع هو المسيح مبنية على إعلان الله لا على معرفته الشخصية به. ولا ريب أنه سمع خبر ولادة المسيح غير المعتادة وأنباء حكمته وجودته فحمله ذلك على أن يقول له يوم أتاه ليعتمد منه «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ»» (متّى 3: 14). وقوله «لم أكن أعرفه» لم يقصد أن يجهله كل الجهل إنما قصد أنه لم يعرفه المعرفة التامة المعلنة من الله التي تقدره على تأدية الشهادة الصريحة العامة وأنه لم يكن له سلطان على التصريح قبل نزول العلامة الموعود هو بها من السماء. ونستنتج مما قيل هنا مع القرابة بين أم يسوع وأم يوحنا (لوقا 1: 36) أن الله قضى بأن لا يجتمع يوحنا بيسوع قبل معموديته إذ سكن أحدهما في الناصرة والآخر في البرية قرب حبرون (لوقا 1: 80) وغاية الله من ذلك دفع توهم الناس سبق مؤامرة بين يسوع ويوحنا.
لٰكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ الخ أي ليظهر أن يسوع هو المسيح فلم ينكر يوحنا أنه أتى ليبشر بالتوبة ويعمد بالماء إشارة إلى التطهير الروحي وأنه يهيء بما أتاه الطريق للمسيح إنما صرح بأن تقديم هذه الشهادة أمر جوهري في مرسليته.
32 «وَشَهِدَ يُوحَنَّا: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ ٱلرُّوحَ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَٱسْتَقَرَّ عَلَيْهِ».
متّى 3: 16 ومرقس 1: 10 ولوقا 3: 22 وص 5: 32
انظر الشرح متّى 3: 16 ومرقس 1: 10 و11.
فَٱسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أي بقي عليه مدة وهو إشارة إلى أن الروح مكث فيه.
33 «وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ، لٰكِنَّ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِٱلْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: ٱلَّذِي تَرَى ٱلرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ، فَهٰذَا هُوَ ٱلَّذِي يُعَمِّدُ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ».
لوقا 3: 2، متّى 3: 11 وأعمال 1: 5 و2: 4 و10: 44 و19: 6
هذا تكرير ما قيل في آخر العدد 31 وكُرر للتأكيد والأيضاح. ويوحنا لم يستنتج من نفسه أن حلول الروح القدس على يسوع علامة كونه المسيح لأن تلك العلامة وتعيين المراد بها كليهما من الله إذ أوحى إليه تعالى أن يعطيه علامة بها يعرف المسيح ويكون له سلطان إلهي على أن يشهد له.
ويُستفاد من هذا العدد أربعة أمور:
الأول: أن الله أمر يوحنا أن يعمد.
الثاني: أنه وعده بأن يعرّفه بالمسيح.
الثالث: أن يعيّنه له بالعلامة.
الرابع: أنه أمره بالشهادة للمسيح.
يُعَمِّدُ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ هذا عمل يسوع الخاص وهو مميز عن معمودية يوحنا التي هي معمودية الماء المشيرة إلى معمودية الروح (إشعياء 61: 1 ولوقا 4: 18). وبهذه المعمودية يهب المسيح حياة روحية لنفس الإنسان المؤمن به.
34 «وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هٰذَا هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ».
هذا تأكيد وتقرير فكأنه قال رأيت جلياً وأيقنت كل الإيقان ومنذ ذلك شهدت علانية أن يسوع هو المسيح الكلمة المتجسد لا ابن مريم فقط بل ابن الله الحي أيضاً. ومما حققه أن لا أحد يُعمد بالروح القدس ويهب للناس المواهب الروحية ما لم يكن هو الله. وعلم أنه ابن الله أيضاً بسمعه شهادة الآب له (متّى 3: 17).
35 «وَفِي ٱلْغَدِ أَيْضاً كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفاً هُوَ وَٱثْنَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ».
هذه شهادة ثالثة خاصة أدّاها يوحنا. الأولى للجنة الفريسية والثانية للجمع الذي حضر وعظه والثالثة وهي المذكورة هنا لبعض تلاميذه.
وَفِي ٱلْغَدِ أَيْضاً أي في غد اليوم الذي فيه أدى شهادته للجمع وهو اليوم الثالث من تأدية شهادته لتلك اللجنة.
كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفاً الأرجح أنه وقف في ساحة بيت عبرة حيث اعتاد أن يقف ويبشّر.
وَٱثْنَانِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ لنا أن نظن أنه كان له تلاميذ كثيرين. وكان أحد المذكورين هنا أندراوس (ع 40) ولا ريب في أن الآخر يوحنا كاتب هذه البشارة. ولم يذكر اسمه جريا على عادته وإنما كان يشير إلى نفسه بما يعيّنه (ص 13: 33 و18: 15 و19: 26 و20: 3 و21: 20).
36 «فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ مَاشِياً، فَقَالَ: هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ».
ع 29
فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ تفرس فيه قصد الإيماء إليه كما لو أشار إليه بغية أن يوجه نظر التلميذين إليه.
مَاشِياً أي ماراً بين بقية الناس غير معروف ولا مكرم.
فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ» اقتصر على ذلك دون تفسيره لأنه فسره قبل ذلك بيوم. ولم يكن هذا الكلام مجرد شهادة للمسيح بل دعوة للتلميذين إلى اتباعه أيضاً. والأرجح أن هذين التلميذين سمعا ذلك القول في اليوم الأول وأثر فيهما وسمعهما إياه ثانية حملهما على أن يتبعا المسيح.
37 «فَسَمِعَهُ ٱلتِّلْمِيذَانِ يَتَكَلَّمُ، فَتَبِعَا يَسُوعَ».
فَتَبِعَا يَسُوعَ لا بمعنى أنهما تركا كل شيء وصارا له تلميذين كما فعلا بعدئذ (لوقا 5: 10 و11) ولكنهما اقتفياه.
38 «فَٱلْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: مَاذَا تَطْلُبَانِ؟ فَقَالاَ: رَبِّي، (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ) أَيْنَ تَمْكُثُ؟».
متّى 3: 7 و8
مَاذَا تَطْلُبَانِ علم يسوع أفكارهما ومقاصدهما أحسن معرفة وإنما سألهما هذا السؤال ليشجعهما ويمهّد لهما طريق المعرفة والمحادثة فالظاهر أنهما تبعاه ولم يجسرا على مخاطبته.
رَبِّي، (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ) تفسير يوحنا لهذه الكلمة من الأدلة على أنه لم يكتب بشارته في اليهودية أو للعبرانيين فقط. ودعوة التلميذين يسوع «يا معلم» دليل على إرادتهم أن يعلمهما.
أَيْنَ تَمْكُثُ أظهرا بهذا السؤال إرادتهما أن يواجهوه على انفراد في بعض أوقات المستقبل لأجل المحادثة.
39 «فَقَالَ لَهُمَا: تَعَالَيَا وَٱنْظُرَا. فَأَتَيَا وَنَظَرَا أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ، وَمَكَثَا عِنْدَهُ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ. وَكَانَ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلْعَاشِرَةِ».
تَعَالَيَا وَٱنْظُرَا هذه دعوة لهما أن يأتيا إليه في الحال.
أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ كان منزله الوقتي في بيت عبرة.
نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلْعَاشِرَةِ أي قبل المغرب بساعتين ولأن ما بقي من النهار كان غير كاف للمخاطبة شغلا بخطابه الوقت ما بين المغرب والنوم وباتا عنده.
40 «كَانَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَاحِداً مِنَ ٱلاَثْنَيْنِ ٱللَّذَيْنِ سَمِعَا يُوحَنَّا وَتَبِعَاهُ».
متّى 4: 18
ذُكر اسم أحدهما وهو أندراوس الذي صار تلميذاً للمسيح قبل بطرس وأما التلميذ الآخر فاتفق كل المفسرين على أنه يوحنا الرسول لأنه لم يذكر اسمه قط في إنجيله ولما كان يريد أن يسند أمراً إلى نفسه كما حدث في سبع أوقات غير هذا اتى ذلك بإشارة تعيّنه. ولم يفعل ذلك إلا تواضعاً (ص 13: 33 و19: 26 و35 و20: 2 - 8 و21: 7 و20 و24).
أما أندراوس وسمعان وبطرس فقد مر الكلام عليهما في الشرح (متّى 10: 2). ولم يذكر يوحنا اسم بطرس قبلاً في بشارته ولكنه كتب ما يتعلق به كان كل قارئ لبشارته يعرفه.
41 «هٰذَا وَجَدَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: ٱلْمَسِيحُ)».
ص 4: 25
أَوَّلاً لم يتضح ما هو معنى هذه الكلمة هنا فذهب البعض أنهما تركا المسيح وقتاً قصيراً ووجدا بطرس ثم رجعا معه إلى المسيح. وذهب آخر إلى أن أندراوس ويوحنا ذهبا ليفتشا عن بطرس في طريقين مختلفتين وأن أندراوس وجده أولاً لأنه أخوه فيعرف أين يوجد. وظن غيره أن كل واحد منهما ذهب لكي يجد أخاه أي أن أندراوس ذهب ليجد بطرس ويوحنا ذهب ليجد يعقوب فنجح أندراوس في مقصده أولاً.
قَدْ وَجَدْنَا هذا هتاف الفرح وهو كهتاف من وجد كنزاً ثميناً. وفيه إشارة إلى أنه كان يفحص بانتباه عن نبوات العهد القديم المتعلقة بالمسيح ليعرف على من تصدق. وأنه كان متوقعاً مجيء المسيح الذي انتظره العالم أربعين قرناً. وما قاله هنا نتيجة مخاطبته ليسوع وتصديقه أنه المسيح فلا يستطيع أحد أن يقول «وجدت المسيح» ما لم يكن المسيح نفسه قد وجده قبلاً بروحه (متّى 18: 11 و12).
مَسِيَّا (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: ٱلْمَسِيحُ) يدل هذا التفسير على أن يوحنا الإنجيلي لم يكتب لمجرد إفادة اليهود الذين لم يكونوا في حاجة إلى هذا التفسير. ومعنى المسيح ممسوح من الروح القدس ليكون نبياً وكاهناً وملكاً (أعمال 10: 38).
شهد يوحنا المعمدان بأنه «حمل الله» وبأنه «ابن الله» أما أندراوس فعرف أن يسوع هو المسيح إما استنتاجاً من عبارتي يوحنا المذكورتين وإما تحققاً مما سمعه من يسوع نفسه. فعلينا جميعاً أن نقتدي بأندراوس ونجتهد في إرشاد غيرنا إلى المسيح لنفع نفوسهم.
42 «فَجَاءَ بِهِ إِلَى يَسُوعَ. فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَقَالَ: أَنْتَ سِمْعَانُ بْنُ يُونَا. أَنْتَ تُدْعَى صَفَا (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: بُطْرُسُ)».
متّى 16: 18 وص 2: 25
الأرجح أن ذينك الأخوين كانا قد تكلما ملياً في شأن المسيح وأن كلا منهما كان مثل الشيخ «المنتظر تعزية إسرائيل» (لوقا 2: 25).
نَظَرَ إِلَيْهِ لم يقتصر على التفرس في وجهه بل كان يرى خفايا قلبه أيضاً فعلم كيف يكون بعد وسماه اسماً يشير إلى صفاته وعمله حين يصير رسولاً.
أَنْتَ سِمْعَانُ أي السامع.
تُدْعَى صَفَا أي صخراً وهو ترجمة بطرس في السريانية ولقبه بذلك إشارة إلى شجاعته وثباته فهو إنباء من المسيح بصفات بطرس في المستقبل. وفي الكتاب المقدس وقع تغيير الاسم من الله دليلاً على منح مواهب أو مواعيد جديدة كتبديل ساراي بسارة وأبرام بإبراهيم (تكوين 17: 5) ويعقوب بإسرائيل (تكوين 32: 28). ودل المسيح بعد مدة على سبق هذا التغيير (متّى 16: 18). وما حدث هنا بين المسيح والأخوين استعداد لدعوته إياهما بعدئذ في الجليل ليكونا تلميذين ورسولين (متّى 4: 18 - 24).
43 «فِي ٱلْغَدِ أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى ٱلْجَلِيلِ، فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ فَقَالَ لَهُ: ٱتْبَعْنِي».
فِي ٱلْغَدِ أي اليوم الرابع بعد شهادة المعمدان للجنة اليهود ع 19.
أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ أي قصد الذهاب أو عزم عليه.
فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ أي وجده على وشك السفر وهو لم يزل في اليهودية.
فَقَالَ لَهُ: ٱتْبَعْنِي لعل فيلبس فهم من هذا ان يرافقه إلى الجليل فقط ولكن يسوع علم أن نتيجة هذه المرافقة اتباعه إياه قلبياً إلى الأبد ومشاركته له في حمل صليبه وليس إكليله. ولا بد من أن يسوع رأى في قلب فيلبس استعداداً لتلبية هذه الدعوة قبل أن دعاه ولا ريب في أن ذلك الاستعداد فعل روح الله.
44 «وَكَانَ فِيلُبُّسُ مِنْ بَيْتِ صَيْدَا، مِنْ مَدِينَةِ أَنْدَرَاوُسَ وَبُطْرُسَ».
ص 12: 21
بَيْتِ صَيْدَا انظر الشرح مرقس 6: 45 ولوقا 9: 10.
45 فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: وَجَدْنَا ٱلَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءُ: يَسُوعَ ٱبْنَ يُوسُفَ ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّاصِرَةِ».
ص 21: 2، تكوين 3: 15 و17: 7 و22: 18 و49: 10 وتثنية 18: 18 ولوقا 24: 27، إشعياء 4: 2 و7: 14 و9: 6 و53: 2 وميخا 5: 2 وزكريا 6: 12 و9: 9، متّى 3: 23 ولوقا 2: 4
نَثَنَائِيلَ لفظة عبرانية معناها عطية الله وهو من قانا الجليل ص 21: 2 والأرجح أنه برثولماوس المذكور في متّى 1: 3 (فارجع إلى الشرح هناك) وبرثولماوس كنيته لا اسمه ومعناه ابن ثولماوس ولفظه العبراني «بن تلماي».
أظهر فيلبس الرغبة في إرشاد غيره إلى المسيح كما فعل أندراوس.
كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى أشار خاصة إلى وعد الله لإبراهيم (تكوين 17: 7) وليعقوب (تكوين 59: 10) ولرموز الطقوس والذبائح الموسوية ولا سيما ما كتُب في تثنية الاشتراع 18: 15.
وَٱلأَنْبِيَاءُ في أماكن كثيرة.
ِيَسُوعَ ٱبْنَ يُوسُفَ ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّاصِرَة تكلم حسب زعم الناس وكلامهم العام ولم يكن قد عرف حينئذ إلا بعض الحق من جهة المسيح فقال البشير الذي قاله فيلبس لا الذي كان يجب أن يعرفه من أمره ويقوله فيه.
46 «فَقَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: أَمِنَ ٱلنَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟ قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: تَعَالَ وَٱنْظُرْ».
ص 7: 41 و42 و52
أَمِنَ ٱلنَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ معنى الصالح هنا أمر جليل ومشهور.
كانت الناصرة قرية حقيرة في الجليل وكانت الجليل عينها أقل اعتباراً من سائر أرض فلسطين وليس للناصرة من ذكر في العهد القديم انظر الشرح (متّى 2: 23) واستفهام نثنائيل يراد به التعجب والشك لا الاستخبار فكأنه قال من العجب أن تكون هذه القرية الصغيرة مولد المسيح النبي والملك العظيم والنبوءة تصرح بكون مولده بيت لحم لا الناصرة. وقال آخرون بعد ذلك مثل قول نثنائيل هنا «أَلَعَلَّ ٱلْمَسِيحَ مِنَ ٱلْجَلِيلِ يَأْتِي؟ أَلَمْ يَقُلِ ٱلْكِتَابُ إِنَّهُ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ، وَمِنْ بَيْتِ لَحْمٍ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَ دَاوُدُ فِيهَا يَأْتِي ٱلْمَسِيحُ؟» (ص 7: 41 و42).
تَعَالَ وَٱنْظُرْ سلك فيلبس أحسن طريق لإزالة شكوك نثنائيل فلم يجادله في الدعوى بل دعاه ليرى يسوع بعينيه ويفحص عن الحق فكأنه قال له أنا أتيت ونظرت وصدقت فتعال أنت وافعل كما فعلت.
47 «وَرَأَى يَسُوعُ نَثَنَائِيلَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ عَنْهُ: هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً لاَ غِشَّ فِيهِ».
مزمور 32: 2 و73: 1 وص 8: 39 ورومية 2: 28 و29 و9: 6
وَرَأَى يَسُوعُ نَثَنَائِيلَ أي نظر وجهه ونفسه ايضاً كما رأى بطرس ع 42 وكما عرف كل ما يتعلق بالمرأة السامرية (يوحنا 4: 17 و18). ووجه المسيح كلامه إلى كل الناس الواقفين حوله.
إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً معنى إسرائيلي في الأصل جندي الله وصفات نثنائيل كانت موافقة لهذا الاسم فعنى المسيح أنه صادق وتقيٌّ. ولم يقصد المسيح بذلك أن نثنائيل كان بلا خطية لأنه ليس كذلك إلا واحد (1بطرس 2: 2).
لاَ غِشَّ فِيهِ هذا تفسير لقوله «إسرائيلي حقاً».
48 «قَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟ أَجَابَ يَسُوعُ: قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ ٱلتِّينَةِ، رَأَيْتُكَ».
مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي سمع نثنائيل قول المسيح فيه وشعر بأنه حق فقال هذا عجباً وحيرة من علم المسيح وهو لم يعرفه ولم يواجهه إلا في تلك الدقيقة وما ذلك إلاّ لأنه لم يعرف قوة المسيح الفائقة الطبيعة لمعرفة القلوب فأبان ذلك له المسيح بجوابه.
وَأَنْتَ تَحْتَ ٱلتِّينَةِ، رَأَيْتُكَ تقتضي القرينة أن محل التينة لم يكن من هناك ويلزم منها أنه حدث لنثنائيل حادثة ذات شأن تحت تلك الشجرة حتى خصها المسيح بالذكر ولعله كان يصلي هنالك أو يعترف بإثم أو ينذر نذراً فإشارة المسيح إلى تلك الحادثة أقنعت نثنائيل إقناعاً تاماً أن للمسيح معرفة خارقة العادة وبمثل هذا اقتنعت المرأة السامرية أن الذي كان يخاطبها هو المسيح ص 4: 19 و29.
ولم يعن المسيح بقوله «رأيتك» أنه نظره بالعين الجسدية بل بتلك العين التي يرى بها كل ما في السماء وما على الأرض.
49 «فَقَالَ نَثَنَائِيلُ: يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!».
متّى 14: 33، متّى 21: 5 و27: 11 و42 وص 18: 37 و19: 3
أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ قال فيلبس أنه ابن يوسف ولكن نثنائيل تحقق أن الذي يعرف ما عرفه يسوع لا يكون إلا إلهاً وسماه ابن الله فمعرفته الفائقة الطبيعة هي المعجزة التي انقاد بها إلى التسليم بصحة دعواه الإلهية.
مَلِكُ إِسْرَائِيلَ! عُرف المسيح المنتظر عند اليهود بابن الله باعتبار نسبته إلى الآب وبملك إسرائيل باعتبار نسبته إلى شعب الله المختار فيكون نثنائيل قد أقرّ بأن يسوع هو المسيح. فكأنه قال أنت عرفتني إسرائيلياً وأنا عرفتك ملك إسرائيل واتخذتك ملكاً لي.
نرى أن نثنيائيل آمن في الحال إيماناً وطيداً والدليل على ذلك أنه في أول مشاهدته يسوع خاطبه بدون لقب يدل على الاحترام (ع 38) ولكنه بعد قليل سماه معلماً وابن الله وملك إسرائيل.
50 «أَجَابَ يَسُوعُ: هَلْ آمَنْتَ لأَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَحْتَ ٱلتِّينَةِ؟ سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هٰذَا!».
مدحه يسوع لأنه آمن به ولم يقف على سوى برهان واحد على قوته الإلهية.
سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هٰذَا هذا جزاء ما أظهره من الإيمان وهو أنه يرى معجزات كثيرة على توالي الأوقات لكي تزيد ثقته بأن يسوع هو المسيح ابن الله. وهذا من الأدلة على أن نثنائيل كان بعد ذلك ممن انتخبهم يسوع رُسلاً مع أنه لم يذكر بينهم بهذا الاسم.
51 «وَقَالَ لَهُ: ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ ٱلآنَ تَرَوْنَ ٱلسَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ ٱللّٰهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ».
إشعياء 64: 1 وحزقيال 1: 1 وملاخي 3: 10، تكوين 28: 12 ودانيال 7: 13 ومتّى 4: 11 ولوقا 2: 9 و13 و22: 43 و24: 4 وأعمال 1: 10
ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ هذا التكرار للتوكيد والإيماء إلى أهمية ما بعده ولم يروهِ أحد من الإنجيليين سوى يوحنا وذكره في إنجيله خمساً وعشرين مرة.
أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ ٱلآنَ تَرَوْنَ كان أول الخطاب لنثنائيل وحده ثم شمل بقية التلاميذ بما وعده به.
ٱلسَّمَاءَ مَفْتُوحَةً لعل المسيح أشار هنا إلى مجيئه بالمجد في اليوم الأخير الذي سيكون أعظم برهان على لاهوته كما ذكر في (متّى 26: 54 وأعمال 7: 56) والأرجح أن كلامه هنا مجاز بُني على ما رآه يعقوب في الحلم (تكوين 28: 10 - 17) ومعناه أنه يصير بواسطة المسيح اتصال دائم بين السماء والأرض أي بين الله والإنسان ليحصل الإنسان على النعمة والمعونة والإرشاد. وورد انفتاح السماء بهذا المعنى في (إشعياء 6: 1 و64: 1 و6 وحزقيال 1: 1 وملاخي 3: 10) وكان انفتاح السماء كذلك عند معمودية المسيح (متّى 2: 16) وعند صعوده (أعمال 1: 9) فكما كان نزول الملائكة وصعودهم على السلم الذي رآه يعقوب في الحلم وعداً له بالحماية السماوية والعناية الإلهية على الدوام كذلك وُعد التلاميذ بالمسيح الذي هو بمنزلة ذلك السلم بالاتصال بين الله والإنسان (كولوسي 1: 20) وأنه بواسطته تصعد من الأرض إلى السماء التضرعات والتسبيحات والصلوات وتنزل منها إلى الأرض البركات والمواهب الروحية وأن الله يرسل ملائكته إلى الناس برسائل المحبة والعناية والحفظ والتعزية (أعمال 12: 7 و27: 23 وعبرانيين 1: 14 ورؤيا 8: 3 و4).
عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ هذا كنية المسيح وهي مبنية على ما قيل في (دانيال 7: 13) فتكنى به المسيح في البشائر نحو ثمانين مرة ولم يستعمله أحد من كتبة العهد الجديد إلا من لفظه أو مما نُقل من كلماته سوى أن استفانوس استعمله مرة في أثر خطابه ويوحنا مرتين في سفر الرؤيا. وعنى المسيح به الكلمة متجسداً وأنه إنسان تام (كما أنه إله تام) ونائب البشر وآدم الثاني ونسل المرأة الذي يسحق رأس الحية (تكوين 3: 15) انظر تفسير ذلك في الشرح (متّى 8: 18 و20 ولوقا 5: 24).
ورد في هذا الأصحاح تسعة عشر اسماً للمسيح: (1) الكلمة. (2) الله. (3) الحياة. (4) النور. (5) النور الحقيقي. (6) وحيد الآب. (7) المملوءة نعمة وحقاً. (8) يسوع المسيح. (9) جسد. (10) رب. (11) حمل الله. (12) يسوع. (13) إنسان. (14) ابن الله. (15) ربي أو معلم. (16) المسيح. (17) يسوع الناصري ابن يوسف. (18) ملك إسرائيل. (19) ابن الإنسان.
1 «وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا ٱلْجَلِيلِ، وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ».
يشوع 19: 28 وص 4: 46
ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ أي بعد دعوة فيلبس (ص 1: 43 - 51) وهو اليوم السادس من تأدية يوحنا شهادته أمام اللجنة اليهودية (ص 1: 19).
قَانَا ٱلْجَلِيلِ أضافها إلى الجليل تمييزاً لها عن قانا التي في سهم أشير التي هي شرقي صور بميلة إلى الجنوب. وقانا الجليل كانت قرية في الشمال الشرقي من الناصرة وعلى أمد نحو ساعتين منها وآثارها واسمها باقية إلى هذا اليوم. وأخطأ من حسبها كفركنة وقانا على مسافة يومين أو ثلاثة من المكان الذي كان يوحنا المعمدان يكرز ويعمد فيه. وكان نثنائيل من هذه القرية (ص 21: 2).
أُمُّ يَسُوعَ لم يذكر يوحنا اسمها في إنجيله كما أنه لم يذكر اسمه ولا اسم أخيه يعقوب. ولعله لم يذكر اسمها لكونه معروفاً أو لأنه كانت قد دخلت في أهل بيته (ص 19: 26). ولنا من عدم ذكر اسم يوسف هنا أنه كان قد مات ولم نر من إشارة إلى بقائه حياً إلا منذ نحو 18 سنة قبل هذا (لوقا 3: 41). وكانت مريم حينئذ لم تزل ساكنة في الناصرة (مرقس 6: 3) ويحتمل أنه كانت قرابة بينها وبين أهل العرس في قانا لأنها أظهرت اهتمامها في بعض أمور العرس وأطلعت على ما لم يطلع عليه غريب من أمور ذلك البيت.
2 «وَدُعِيَ أَيْضاً يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى ٱلْعُرْسِ».
متّى 11: 18 و19
وَتَلاَمِيذُهُ الأرجح أن هؤلاء التلاميذ كانوا وقتئذ ستة وهم أندراوس وبطرس وفيلبس ونثنائيل ويوحنا كاتب هذه البشارة وأخوه يعقوب. أما سائر الاثني عشر فدعوا بعد ذلك وأجاب المسيح الدعوة ليُري مجده ويقوّي إيمان تلاميذه ويُظهر الصداقة لأهل العرس. وبحضوره ذلك العرص وإتيانه المعجزة فيه أباح لنا المسرات التي ليس فيها خطية وكرّم الزواج واعتبر النظام العائلي. فيجب على أهل كل عرس أن يجعلوه في أحوال تليق بأن يكون يسوع أحد المحتفلين به.
3 «وَلَمَّا فَرَغَتِ ٱلْخَمْرُ قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ».
وَلَمَّا فَرَغَتِ ٱلْخَمْرُ يحتمل أن الضيوف كانوا أكثر ممن توقعوا حضورهم أو أنهم أقاموا أكثر من المدة المنتظرة حتى نفذت الخمر المعدة للعرس. وكانت أيام العرس أحياناً نحو أسبوع (قضاة 14: 15). والظاهر أن أهل العرس لم يكونوا من الأغنياء.
قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ الخ هذا براعة طلب وهي أن يلوّح السائل عما في نفسه دون أن يُصرح بالطلب كقول أختي لعازر «الذي تحبه مريض» (يوحنا 11: 3). وعلى ذلك يكون الكلام طلباً بصورة الخبر. وما أتته أم يسوع دليل على أن لها يداً في مهام ذلك العرس وأنها كانت خائفة من أن يُلام أهل العرس ويتكدرون بنقص القيام بالواجبات للمدعوين.
ولا ريب في أن مريم حفظت في قلبها كل علامات عظمة ابنها منذ الحبل به والمواعيد في شأنه وقتئذ (لوقا 2: 19 و51) واعتقدت أن له قوة يستطيع أن يظهرها في أوقاتها. ولعلها استنتجت أن الوقت منذ معموديته وجمع تلاميذه وشروعه في خدمته هو الوقت المناسب لإظهار تلك القوة. ويحتمل أن تلاميذه أخبروها بحوادث المعمودية وشهادة يوحنا المعمدان له ووعده لنثنائيل (ص 1: 50 و51) فتوقعت أنه لا بد من أن يفعل على أثر ذلك شيئاً من المعجزات. ولا ريب في أنها كانت قد قرأت كيف أن إيليا صنع معجزة تكثير الدقيق والزيت في وقت الضيق (1ملوك 17: 14) واعتقدت أن ابنها قادر على أن يفعل مثله.
4 «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: مَا لِي وَلَكِ يَا ٱمْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ».
2صموئيل 16: 10 و19: 22 ص 19: 26 ص 7: 6
مَا لِي وَلَكِ يَا ٱمْرَأَةُ! لا يخلو هذا الجواب من التوبيخ لها على ما أظهرت من التعرض لما لا يعنيها والجسارة على ادعاء أن لها حقاً أن تأمره بإجراء عمل مما لا يعمله إلا بإرادة أبيه السماوي. ولكن لا شيء من التوبيخ بدعوته إياها «امرأة» لأنه دعاها كذلك حين أراد إظهار الحب لها ورقة قلبه عليها (يوحنا 19: 26). لكن قوله «ما لي ولك» يشف عن عدم الرضى أن يتعرض الإنسان لما يعنيه ويؤيده ما جاء في (قضاة 11: 12 و2صموئيل 16: 10 و19: 22 و1ملوك 17: 18 و2ملوك 3: 13 و2أيام 35: 21 ومتّى 8: 29 ومرقس 1: 24 و5: 7 ولوقا 4: 34 و8: 28) فكأن المسيح قال لأمه ليس لك أن تشيري عليّ ما يجب أن أعمله فهذا بيني وبين أبي السماوي.
فعلى الذين ينسبون إلى أم يسوع قوة الشفاعة مع ابنها في السماء أن يروا أي باب ترك المسيح لرجاء ذلك بعد أنه لم يسمح لها أن تتعرض أدنى تعرض لعمله على الأرض فكيف يسمح لها الآن أن تتعرض لشفاعته في السماء التي استعد لها بموته ولم تتم إلا به.
لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ أي لم يئن أن أظهر مجدي علانية بفعل المعجزة. ووردت هذه العبارة بهذا المعنى في (ص 7: 30 و8: 20 و12: 23 و27). ووردت في أماكن أُخر بمعنى موته ورجوعه إلى الآب (ص 13: 1 و17: 1) وهي في كل المواضع وقت عيّنه الله الآب منذ الأزل لا يمكن أن يتقدم دقيقة ولا أن يتأخر كذلك. ولعل المعنى هنا أن الخمر لم تنفد كل النفاد فإن صنعت المعجزة الآن شك الناس في صحتها لتوهمهم أنه مزج ما بقي من الخمر بالماء. وفي هذا الجواب إشارة إلى أن تلك الساعة ستأتي بعد.
وذهب البعض إلى أن معنى المسيح هنا أنه لم يأت الوقت المناسب ليعلن لأمة اليهود أنه هو المسيح إذ لا يليق ذلك الإعلان في قرية حقيرة كقانا وبين أصدقائه وأقربائه فلم تكن تلك الساعة إلا حين حضوره في قاعدة اليهودية أورشليم وفي هيكلها عينه على وفق النبوءة القائلة «وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ ٱلسَّيِّدُ ٱلَّذِي تَطْلُبُونَهُ» (ملاخي 3: 1) فعلى ذلك لا تكون معجزة المسيح في قانا إعلان نفسه للأمة أنه المسيح بل إظهار بعض أشعة مجده لتوطيد إيمان تلاميذه.
5 «قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَٱفْعَلُوهُ».
قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ يدل كلامها هذا على أنها توقعت من جواب المسيح أنه يصنع المعجزة في الوقت المناسب ولذلك أمرت الخدام بالاستعداد لطاعة أمره وأمرها للخدام يؤيد القول بأنها من أقرباء أهل العرس.
6 «وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ، حَسَبَ تَطْهِيرِ ٱلْيَهُودِ، يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً».
مرقس 7: 3 و4
وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ الظاهر أن تلك الأجران كانت موضوعة في مدخل الدار أو في الدهليز حيث لا يراها العريس ولا المدعوون في مجالسهم ع 9.
حَسَبَ تَطْهِيرِ ٱلْيَهُودِ على مقتضى تقاليد الشيوخ وعادة الفريسيين في غسل أيديهم قبل الأكل (متّى 15: 2 ومرقس 7: 1 - 4 ولوقا 11: 38). وكتب يوحنا هذه العبارة التفسيرية لأنه كان حينئذ ساكناً في أفسس كما هو المرجح.
يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً أي يسع أكثر من مطرين وأقل من ثلاثة ومعدل كل واحد نحو عشرين رطلاً فبلغ موسوع الكل نحو مئة وعشرين رطلاً.
وبما أن تلك الأجران معينة للماء لم يكن فيها من دردي أو أثر للخمر. والذين ملأوها ماء صاروا بذلك شهوداً بصحة المعجزة. وكان مقدار ما صنعه المسيح من الخمر كبيراً فكل عطايا المسيح بسخاء من فيض غناه (مزمور 65: 9 - 13 ولوقا 5: 6 و7). وليس لنا أن نظن أن المتكئين شربوا كل ذلك. ولعل المسيح قصد بذلك تقديم هدية لأهل العرس إكراماً ومساعدة لهم.
7، 8 «7 قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: ٱمْلأُوا ٱلأَجْرَانَ مَاءً. فَمَلأُوهَا إِلَى فَوْقُ. 8 ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: ٱسْتَقُوا ٱلآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ ٱلْمُتَّكَإِ. فَقَدَّمُوا».
الظاهر أن الأجران كانت فارغة أو ناقصة باستعمال المدعوين.
إِلَى فَوْقُ يظهر هذا رغبة الخدم ومسرتهم في العمل وبيان أنه لم يبق من موضع للحيلة بوضع خمر في الأجران بعد ذلك.
ٱسْتَقُوا ٱلآنَ هذا يدل على أن الماء استحال خمراً بين وقت ملء الأجران وأمر المسيح بالاستقاء فكان التحويل بمجرد إرادته بلا توسط شيء آخر.
رَئِيسِ ٱلْمُتَّكَإِ وهو ليس العريس بل أحد الأقرباء أو المدعوين المعيّن للاعتناء بالضيوف والآمر بتقديم ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب ومن وظيفته أو يذوق ذلك قبل تقديمه لهم. وكيفية مخاطبة رئيس المتكإ للعريس تدل على أنه ليس بخادم بل من أمثال العريس في المقام.
9 «فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ ٱلْمُتَّكَإِ ٱلْمَاءَ ٱلْمُتَحَوِّلَ خَمْراً، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ لٰكِنَّ ٱلْخُدَّامَ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَدِ ٱسْتَقَوُا ٱلْمَاءَ عَلِمُوا دَعَا رَئِيسُ ٱلْمُتَّكَإِ ٱلْعَرِيس».
ص 4: 46
ٱلْمَاءَ ٱلْمُتَحَوِّلَ خَمْراً بفعل إلهي.
وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ أي لم يعلم أنها من أجران الماء وهذا دليل على أنه لم يشاهد فعل الخدام لما ملأوا الأجران ماء واستقوا منها خمراً.
دَعَا رَئِيسُ ٱلْمُتَّكَإِ ٱلْعَرِيسَ أي دعاه إليه من متكأ العرس.
10 «وَقَالَ لَهُ: كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ ٱلْخَمْرَ ٱلْجَيِّدَةَ أَوَّلاً، وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ ٱلدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ ٱلْخَمْرَ ٱلْجَيِّدَةَ إِلَى ٱلآنَ».
يَضَعُ ٱلْخَمْرَ ٱلْجَيِّدَةَ أَوَّلاً، وَمَتَى سَكِرُوا تكلم على عادة الناس في الولائم فلا يلزم من ذلك أنه حدث مثله في هذا العرس إذ ليس من دليل على أن المدعوين إليه خرجوا عن دائرة الاعتدال بشربهم. والقانون الذي ذكره مأخوذ من اختبار الناس أن الذوق يعجز عن التمييز بين الخمرة الجيدة والدون بعد استمرار الشرب خلافاً لما في أوله. وكان الرئيس يحافظ على صحوه لئلا يخل بالواجبات.
أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ ٱلْخَمْرَ ٱلْجَيِّدَةَ الخ يظهر من هذا أن المسيح لم يكتف أن يصنع الماء خمراً عادية بل صنعه من أفضل الخمر. كذلك كل مواهب المسيح تليق به. وبمقابلة عطاياه بعطايا الناس تظهر أنها خير من جميعها في الوفرة والجودة. ومما يستحق الملاحظة هنا أن المسيح لم يكلف رئيس المتكإ تصديق استحالة لم تتبين له صحتها بشهادة ذوقه. وشهادة الرئيس بينت حقيقة المعجزة. وهو شهد بدون سبق مؤامرة بينه وبين الخدام إن ما قُدم له خمر من أفضل صنوف الخمر.
11 «هٰذِهِ بِدَايَةُ ٱلآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا ٱلْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُه».
ص 1: 14
هٰذِهِ بِدَايَةُ ٱلآيَاتِ استحسن يوحنا أن يسمي أفعال المسيح الإلهية آيات بالنظر إلى غايتها لتكون برهاناً على صحة مرسليته وعلامة لصدق لاهوته.
وسُميت أحياناً عجائب إشارة إلى تأثيرها في المشاهدين وسميت أحياناً معجزات وقوات إشارة إلى أنها فوق قوة البشر. ولم يذكر يوحنا من آيات المسيح سوى سبع المذكورة هنا أولها. والثانية شفاء المحموم. والثالثة إشباعه الألوف. والرابعة مشيه على الماء. والخامسة شفاء المقعد. والسادسة فتح عيني الأعمى. والسابعة إقامة لعازر. وقوله «بداءة الآيات» تنفي زعم بعضهم أنه صنع في صبوته معجزات فضلاً عن أن المعجزات التي نُسبت إليه في الصبوة لا تليق بشأنه. وسُمي تحويله الماء آية مع أنه ليس بخلق لأنه يحتاج إلى قوة إلهية لإنشائه حالاً. وكانت بداءة الآيات العشر التي أجراها الله على يد موسى في مصر تحويل الماء إلى دم للانتقام وأما بداءة آيات المسيح فكانت تحويل الماء إلى خمر للبركة.
فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا ٱلْجَلِيلِ على وفق نبوءة إشعياء بما يتعلق بتلك البلاد قبل ذلك بنحو مئة سنة وهي قوله «جَلِيلَ ٱلأُمَمِ. اَلشَّعْبُ ٱلسَّالِكُ فِي ٱلظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً. ٱلْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلاَلِ ٱلْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ» (إشعياء 9: 1 و2 ومتّى 4: 14 - 16).
أَظْهَرَ مَجْدَهُ أي مجد الكلمة المذكورة في ص 1: 14 فآيات موسى وإيليا وسائر الأنبياء أظهرت مجد الله وآيات المسيح أظهرت مجد نفسه. وهذا كان غايته الأولى. والمجد الذي أظهره في قانا كان محجوباً عن أعين الناس مدة ثلاثين سنة تقضّت عليه وهو ساكن بينهم يظهر لهم في الهيئة كسائر الناس. وفعله هذه المعجزة لإظهار مجده لا ينفي أنه فعلها أيضاً ليظهر لطفه وحنوه لبيت العرس ويدفع عنهم الخجل من التقصير في الواجبات.
فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ أي صدقوا أنه المسيح بيقين فثبّتت إيمانهم السابق. ولم يذكر البشير تأثير المعجزة في سائر الحاضرين فالأرجح أنهم تعجبوا منها وتحدثوا بها ثم نسوها. وما فعله المسيح وقتئذ رمز إلى كل فعله بمجيئه إلى العالم فإنه رفع شأن كل شيء في العالم بحضوره وبركته لأنه رفع طبيعة الإنسان باشتراكه فيها وحوّل قلوب الناس الحجرية إلى قلوب لحمية وجعل خرب سقوط آدم هياكل حية وحول أحزاننا إلى مسرات والخطأة إلى الأبرار والموت إلى باب الحياة وجعل القفار مجرى مياه وبدل عتق الناموس بجدة الروح.
12 «وَبَعْدَ هٰذَا ٱنْحَدَرَ إِلَى كَفْرَنَاحُومَ، هُوَ وَأُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ وَتَلاَمِيذُهُ، وَأَقَامُوا هُنَاكَ أَيَّاماً لَيْسَتْ كَثِيرَةً».
متّى 12: 46
ٱنْحَدَرَ إِلَى كَفْرَنَاحُومَ كانت كفرناحوم على شاطئ بحر الجليل فلذلك كانت أوطأ من قانا. وقد سبق الكلام على كفرناحوم في الشرح (متّى 4: 13). وانحداره من قانا إلى كفرناحوم لا يمنع أنه مال إلى الناصرة في الطريق وبقي فيها مع أمه أياماً. ولم يتبين من الكلام هنا علة زيارته كفرناحوم هذه الزيارة القصيرة. والأرجح أنه صنع معجزات هناك وهي التي أشار إليها أهل الناصرة في ما نُقل عنهم في بشارة لوقا (لوقا 4: 23).
وَأُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ المرجح أن علة ذهابهم معه الرغبة في مشاهدتهم الآيات التي توقعوا أن يصنعها. ولعل إخوته انتظروا أنه يعلن كونه ملكاً أرضياً فلما أبى ذلك انثنوا عن تصديق أنه المسيح لأن البشير صرح بعد ذلك «لأَنَّ إِخْوَتَهُ أَيْضاً لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ» (يوحنا 7: 5) وذكر تلاميذه هنا منفصلاً عن إخوته من الأدلة على أنهم لم يكونوا قد آمنوا به. وذكر أمه دون ذكر يوسف ما دل على أنه كان قد مات.
وَتَلاَمِيذُهُ وَأَقَامُوا هُنَاكَ أَيَّاماً الخ فكان بذلك للتلاميذ فرصة لأن يزوروا بيوتهم قبل أن دعاهم المسيح رسلاً يبقون معه دائماً.
13 «وَكَانَ فِصْحُ ٱلْيَهُودِ قَرِيباً، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ».
خروج 12: 14 وتثنية 16: 1 و16 وع 23 وص 5: 1 و6: 4 و11: 55
وَكَانَ فِصْحُ ٱلْيَهُودِ إضافة الفصح هنا إلى اليهود دليل على أن يوحنا لم يكتب إنجيله لهم فقط وأنه لم يكتبه في اليهودية. وسبق الكلام على الفصح في الشرح (متّى 26: 2).
لم يذكر أحد من البشيرين سوى يوحنا عدد أعياد الفصح التي تقضت على يسوع مدة خدمته والتي ذكرها أربعة. الفصح الأول في (ص 2: 12) والثاني في (ص 5: 1) والثالث في (ص 6: 4) وبقي وقته في الجليل والرابع في (ص 11: 5). والأرجح أن الفصح المذكور هنا كان بعد ستة أشهر من بداءة خدمته.
فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ لم يذكر هذا الصعود والحوادث التي حدثت حينئذ سوى يوحنا. وبقي النظام اليهودي مدة حياة المسيح على الأرض وأكرمه يسوع كل الإكرام بعدم تركه شيئاً من فرائضه فذهب إلى الفصح طوعاً للأمر في (خروج 23: 17) واجتماع اليهود العظيم في العيد جعل له فرصة مناسبة لإعلان دعواه لهم أنه المسيح.
14 «وَوَجَدَ فِي ٱلْهَيْكَلِ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَراً وَغَنَماً وَحَمَاماً، وَٱلصَّيَارِفَ جُلُوسا».
متّى 21: 12 ومرقس 11: 15 ولوقا 19: 45
فِي ٱلْهَيْكَلِ أي إحدى الأدور الأربع التي للهيكل والأرجح أنها هي الدار التي كانت تسمى دار الأمم وهي نحو ثلثي المساحة المحيطة بجدران الهيكل. وكان رواق سليمان في شرقي هذه الدار حيث اعتاد يسوع أن يتمشى ويعلم (يوحنا 10: 23) وكان دخول يسوع إلى الهيكل وقتئذ إتماماً لنبوءة ملاخي 3: 1 - 3 وبموجب تلك النبوءة كان أول عمل المسيح في الهيكل التطهير لا صنع المعجزة.
ٱلَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَراً وَغَنَماً وَحَمَاماً كانت هذه للذبائح تُباع لليهود الآتين من خارج أورشليم. ولم يسمح الكهنة للباعة بهذه التجارة إلا لمشاركتهم إياهم في الربح. فجعل ذلك الاتجار الهيكل مثل سوق ومُنع من أن يكون محلاً مناسباً للعبادة الدينية والتأملات والمحادثات الروحية.
وَٱلصَّيَارِفَ جُلُوساً كان المطلوب من كل يهودي أن يؤدي جزية الهيكل السنوية نصف شاقل (انظر الشرح متّى 17: 24 - 26) وهو وفق ما في خروج 30: 13. ولا ريب في أن اليهود الآتين من الخارج لا يكون معهم إلا النقود الرائجة في البلاد التي أتوا منها فاحتاجوا أن يبدلوها بالنقود اليهودية المطلوبة وهذا هو الذي اتخذه الصيارفة حجة على جلوسهم هناك ولا بد من أنه كان في ذلك ربح لهم وقسم من ذلك الربح للكهنة.
نعم إنّ بيع حيوانات الذبيحة جائز وكذا تبديل النقود ولكن ذلك يحرم في دار الهيكل التي هي أرض مقدسة أي موقوفة لعبادة الله.
15 «فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ ٱلْجَمِيعَ مِنَ ٱلْهَيْكَلِ، اَلْغَنَمَ وَٱلْبَقَرَ، وَكَبَّ دَرَاهِمَ ٱلصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ».
سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ لكي يطرد به البقر والغنم. ولكن الرجال طردهم بالكلام وبظواهر هيبته التي ألقت في قلوبهم الرعب كما في ص 18: 6 ولا بد من أن ضمائرهم وبختهم حتى لم يستطيعوا المقاومة.
وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ التي كان عليها النقود وفعل ذلك منعاً لهم من مداومة العمل.
16 «وَقَالَ لِبَاعَةِ ٱلْحَمَامِ: ٱرْفَعُوا هٰذِهِ مِنْ هٰهُنَا. لاَ تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ».
لوقا 2: 49
وَقَالَ لِبَاعَةِ ٱلْحَمَامِ لم يقصد المسيح بهذا إكرام باعة الحمام خلافاً لما فعل بباعة الغنم والبقر بل لأنه ما كان يمكنه أن يطرد الحمام كما طرد تلك الحيوانات إلا بخسران أربابها ألزمهم أن يخرجوا بها بأقفاصها بأمر لم يستطيعوا عصيانه.
بَيْتَ أَبِي كلامه هنا مثل كلامه في لوقا 2: 49. وقال هذا للباعة على مسامع كل الذين كانوا في الهيكل فحامى به عن حق الله لأنه رفع من هيكله التدنيس وأظهر محبته للآب وغيرته لمجده وعلم الشعب الاعتبار الذي يجب لبيت الله وعبادة الله وأظهر لهم أيضاً أنه أتى المصلح الممحص الذي أنبأ به ملاخي 3: 1 - 3 وفي ذلك كله إعلان أنه ابن الله لأنه دعا الله أباه. وأنه المسيح الذي أنبأ به الأنبياء. وقدم نفسه باعتبار هاتين الصفتين لإسرائيل. وهذا الإعلان مع شهادة يوحنا المعمدان له كاف لإيضاح كل دعواه.
ومن الضروري أن نميز بين تطهير الهيكل الأول الذي ذكره يوحنا هنا والثاني الذي ذكره سائر الإنجيليين (متّى 21: 12 ومرقس 11: 15 و16 ولوقا 19: 45) لأن هذا كان في أول خدمته وذاك قبل موته بأربعة أيام. والفرق بينهما أيضاً أن المسيح صنع هنا سوطاً من الحبال وقلب موائد الصيارفة وطرد باعة الحمام بمجرد الكلام ولا شيء من ذلك في المرة الثانية. وكلمات التوبيخ مختلفة بينهما فوبخهم هنا على مجرد التجارة في بيت الله ووبخهم في ذلك على الزور والخطف. ومحادثة المسيح في هذه تختلف عن محادثته إياهم في تلك. ولا دليل على أن تعرضه لهم في هذا الوقت ألغى تلك التجارة. وكان لائقاً بشأنه عندما انتهت خدمته أن يشهد لقداسة الهكيل ويوبخ المدنسين كما لاق به في أولها.
17 «فَتَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي».
مزمور 69: 9
الكلام هنا مقتبس من مزمور 69: 9 وهو كتب أولاً بياناً لحال داود النبي فإنه كان في أمور كثيرة رمزاً إلى المسيح وما قاله على نفسه في هذا المزمور نُسب في سبع مواضع من البشائر والرسائل إلى المسيح.
(1) هنا. (2) في ص 15: 25. (3) في رومية 15: 3 (4) في ص 19: 28. (5) في أعمال 1: 20. (6) في رومية 11: 9. (7) في مرقس 11: 17. ومعناه أن غيظ المسيح على الذين أهانوا بيت أبيه واجتهاده في تطهيره وتمجيد اسم الآب وحزنه على شر المعتدين كانت كنار تتوقد في قلبه وظهرت إمارات وجهه وكلامه وفعله كما يظهر اللهب في الحطب فتلك الغيرة شغلت كل قواه وأفكاره.
18 «فَسَأَلَهُ ٱلْيَهُودُ: أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هٰذَا؟».
تثنية 13: 1 إلى 3 و18: 21 و22 ومتّى 12: 38 وص 6: 3
فَسَأَلَهُ ٱلْيَهُودُ ذُكر آنفاً تأثير عمل المسيح وكلامه في الباعة وفي التلاميذ وظهر هنا تأثيره في حراس الهيكل وسائر اليهود من الكهنة والفريسيين ولكن لم يظهر أدنى تأثير في جمهور الشعب بإعلانه بواسطة عمله أنه ابن الله المسيح الموعود به فصحّ قول الإنجيلي «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» (ص 1: 11).
أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا أي ما المعجزة التي تفعلها إثباتاً لدعواك. وفي سؤالهم هذا أن ليس ليسوع حق الادعاء أنه مصلح إلا بإتيانه إياهم بآية من السماء كما فعل موسى أمام فرعون. فكأنهم قالوا له أنت ليس بكاهن ولا لاوي فإن كنت نبياً فأين آية نبوءتك. فأظهر أنهم لم ينتبهوا لدعواه أنه ابن الله ولو سلموا بذلك ما سألوه آية.
19 «أَجَابَ يَسُوعُ: ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ».
متّى 26: 61 و27: 40 ومرقس 14: 58 و5: 29
ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ هذا خبر ونبوءة بصورة الأمر. قصد المسيح أن يجعل كلامه لليهود لغزاً والذي جعله كذلك اتخاذ الهيكل بمعنيين.
الأول: البناء المعروف أي القدس لا الدار.
الثاني: جسد المسيح.
والمعنى المراد لم يظهر لأحد إلا بعد ذلك. فمعنى قوله «انقضوا الهيكل» أي بعد أن تقتلوا جسدي أقيمه. وصحّ أن يسمّى جسده هيكلاً لأنه كان فيه كل «ملء اللاهوت» فهو مسكن الله الحي المقدس الحقيقي. وكان هيكل أورشليم رمزاً إلى المسيح لأنه مسكن الله بين الناس ولكن بما أن يسوع المرموز إليه قد أتى زالت الحاجة إلى ذلك الرمز. ولم يكن المسيح الهيكل فقط بل أعظم من الهكيل أيضاً (متّى 12: 6).
ولا دليل على أن المسيح أشار بإصبعه إلى نفسه حين قال «هذا الهيكل» ولو فعل ذلك لفهم التلاميذ وسائر اليهود مراده وكونهم لم يفهموا يظهر من ع 20 و22.
وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ اشار بذلك إلى قيامته فأوقف صحة دعواه على صدق قيامته. فكأنه قال إن قمت فصدقوني وإلا فلا. ولكن إن قمت ولم تصدقوا لم يبق لكم عذر. والكلام هنا كالكلام في متّى 12: 39. وقوله أنه يقيم نفسه لا ينفي ما قيل في مواضع أُخر ينسب فيها إقامته إلى الآب وبيان موافقة القولين في ص 1: 17 و18 وهو أنه أخذ ذلك السلطان من الآب.
نقض جسد المسيح كان علة نقض هيكل أورشليم ولما قام المسيح قام معه الهيكل الروحي الحقيقي الذي فيه يقدم كل المؤمنين العبادة الروحية المقبولة (1بطرس 2: 5 - 7).
20 «فَقَالَ ٱلْيَهُودُ: فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هٰذَا ٱلْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟».
هذا ليس استخباراً عن الممكن بل استهزاء به بناء على أنه ادعى المحال.
فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ الهيكل المذكور هنا ليس هو الهيكل الأول الذي بناه سليمان ولا الثاني الذي بناه زربابل لكن الذي جدده وأصلحه هيرودس الكبير حتى صح أن يسمّى الهيكل الثالث (انظر الشرح متّى 21: 12). فابتدأ هيرودس الكبير يُصلح الهيكل قبل ميلاد المسيح بنحو ست عشرة سنة وكان المسيح عندما قال ذلك الكلام في سن الثلاثين فيكون قد مر على الهيكل وهو يصلح ستة وأربعون سنة ولم يكمل. واستخدم هيرودس لما أصلحه فيه ثمانية عشر ألف فاعل وأكمل المقدس عينه في سنة ونصف سنة والأبنية حوله في ثمانية سنين بعد ذلك. وظل الترميم والتجديد على قول يوسيفوس المؤرخ جارياً إلى سنة 64 ب. م وتممه حينئذ هيرودس أغريباس الثاني.
أَفَأَنْتَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ هذا استهزاء وتنبيه على الباطل ومعناه «أيقدر الجليلي الفقير أن يصنع في ثلاثة أيام ما لم يستطع الملوك الأغنياء القادرون أن يكملوه في ست وأربعين سنة». والنتيجة أن دعوة يسوع عندهم باطلة مضحكة.
21 «وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ».
1كورنثوس 3: 16 و6: 19 و2كورنثوس 6: 16 وكولوسي 2: 9 وعبرانيين 8: 2
هذا تفسير يوحنا لقول المسيح في العدد التاسع عشر وقد سبق الكلام عليه.
22 «فَلَمَّا قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، تَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هٰذَا، فَآمَنُوا بِٱلْكِتَابِ وَٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ».
لوقا 24: 8
تَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ لم يقل يوحنا أن التلاميذ فهموا مراد المسيح حين قال ما سبق لكنه أشار إلى أنهم حفظوا الكلام في قلوبهم وتأملوا فيه ثم فهموا معناه عند تمام النبوءة التي تضمنها ذلك الكلام. وذكر ذلك اليهود أيضاً واتخذوه جزءاً من شكايتهم عليه في مجلس السبعين (متّى 26: 61) وكان موضوع هزئهم به وهو معلق على الصليب (متّى 27: 40).
وكثيراً ما يحدث أن التعليم الديني لا يظهر نفعه في الحال لكنه يكون بعد سنين ذا نفع عظيم. ومثل ذلك أن الصغار يحفظون كثيراً من آيات الكتاب المقدس التي تنفعهم في البلوغ والشبيبة.
فَآمَنُوا بِٱلْكِتَابِ وَٱلْكَلاَمِ الخ أي أنهم تقووا في الإيمان. ولعل المراد «بالكتاب» هنا ليس آية مخصوصة في العهد القديم تنبئ بقيامة المسيح أو قولاً من أقواله المختصة بذلك بل كل ما ذُكر في ذلك العهد في أمر موته وقيامته. ومنه المزمور 16 و17: 15 و73: 23 و24 وإشعياء 53 و26: 19 وهوشع 6: 2 وقوله في متّى 26: 21 و17: 22 و20: 17 و19.
23 «وَلَمَّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ ٱلْفِصْحِ، آمَنَ كَثِيرُونَ بِٱسْمِهِ، إِذْ رَأَوُا ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي صَنَعَ».
آمَنَ كَثِيرُونَ مع أن الرؤساء وأكثر الشعب رفضوه لكن بعضهم قبلوا أنه المسيح واثقين بصحة معجزاته وصدق كلامه ولكن لم يكن إيمانهم روحياً كاملاً كما يتضح مما بعده.
بِٱسْمِهِ أي كما أعلن باعتبار كونه ابن الله والمسيح.
إِذْ رَأَوُا ٱلآيَاتِ لم يذكر يوحنا ما هي تلك الآيات ولا كم هي. وكانت عظيمة مشهورة حتى أن نيقوديموس شهد بها بقوله «لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ ٱللّٰهُ مَعَهُ» (ص 3: 2). وشهد الجليليون كذلك (ص 4: 45). وأما قوله «هذه آية ثانية صنعها يسوع» فلا ينفي أنه صنع آيات كثيرة في اليهودية لأن تلك الآية قُيدت بكونها صُنعت في الجليل.
ما يحدث للإنسان من الإيمان بمشاهدة المعجزات وبحمله على الحيرة والتعجب والاعتقاد أنها كانت بقوة فوق الطبيعة ليس سوى مقدمة للإيمان الحق الذي ينشئه الروح القدس.
24، 25 «24 لٰكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعَ. 25 وَلأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي ٱلإِنْسَانِ».
1صموئيل 16: 7 و1أيام 28: 9 ومتّى 9: 4 ومرقس 2: 8 وص 6: 64 و16: 30 وأعمال 1: 24 ورؤيا 2: 23
لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ أي لم يصدق صحة إيمانهم ولم يحسبهم تلاميذ ثابتين نعم إنّ عقولهم اقتنعت بمشاهدتهم الآيات بأنه نبي الله لكنهم لم يقبلوا تعاليمه في قلوبهم ويتجددوا.
لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعَ بمعرفته الإلهية التي استطاع بها أن يعرف نثنائيل (ص 1: 47). وتذمرات الفريسيين بقلوبهم ونية يهوذا الاسخريوطي. والمضمون هنا أن المسيح عرف أنهم سيتغيرون وأنهم مستعدون أن يتركوه وقت الخوف واستهزاء اليهود به.
لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ هذا تكرير لمعنى العدد السابق بتغيير اللفظ. والمعنى أن معرفته غنية عن الوسائل التي يتخذها الناس ليعرف بعضهم بعضاً فهو يعلم كل شيء لأنه الله (ص 1: 1) وفحص القلوب من الصفات المختصة بالله (إرميا 17: 10).
1 «كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ ٱسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ، رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ».
مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ هم فرقة من اليهود ادعوا زيادة تقواهم على تقوى الناس وحفظهم كل وصايا الشريعة وتقاليد الشيوخ بتدقيق وأكثر هذه الفرقة قاوم المسيح في كل خدمته أشد مقاومة.
نِيقُودِيمُوسُ هذا الاسم يوناني لكنه كان شائعاً بين اليهود في ذلك العصر. وذُكر مرتين غير هذه في هذا الإنجيل (ص 7: 50 و19: 30).
رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ من مجلس السبعين فإن بعض أعضاء ذلك المجلس كان من الكهنة وبعضه من العامة (ص 7: 50).
2 «هٰذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ ٱللّٰهِ مُعَلِّماً، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ ٱللّٰهُ مَعَه».
ص 7: 50 و12: 42 و19: 39 ص 9: 16 و33 وأعمال 2: 22 و10: 38
جَاءَ إِلَى يَسُوعَ نعلم من معاملة المسيح له أنه لم يأت جاسوساً ولا مرائياً ولا طالب الخلاص لكنه سمع بشهادة يوحنا المعمدان له للجنة التي أرسلها المجلس وبمعجزات يسوع وأعماله في الهيكل ودعواه وتحقق أنه مُرسل من الله وتوقع أن يتعلم منه أموراً جديدة.
لَيْلاً قصد نيقوديموس أن يأتي إلى يسوع ليلاً فلم يكن اتفاقاً لأنه كان كلما ذُكر اسمه يُذكر معه أنه جاء إلى يسوع ليلاً (ص 7: 50 و19: 39). وسبب ذلك إما الخوف من أصحابه في المجلس أن يعتبروه من تلاميذ يسوع ويعاتبوه على ذلك وإما الحياء من الشعب.
يَا مُعَلِّمُ هو ترجمة «ربي» وقد مر الكلام عليه في ص 1: 38. فأظهر له بذلك إكراماً عظيماً لأن هذا اللقب لم يكونوا يلقبون به أحداً إلا من تعلم في المدارس ولم يكن يسوع كذلك ص 7: 15.
أَتَيْتَ مِنَ ٱللّٰهِ مُعَلِّماً عرف ذلك من أنه لم يكن له من معلم أرضي ومن الآيات التي صنعها ص 2: 23. فحكم بأنه يقدر لكونه نبياً على إجابته على مسائل كثيرة في الدين عسرت عليه.
لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ ٱللّٰهُ مَعَهُ حكمه بذلك صواب لأن الله لا يسمح لخادع بقوة على صنع معجزة حقيقية لإثبات الكذب بها. نعم إنّ الأنبياء الكذبة كانوا يأتون بعض الغرائب كسحرة مصر لكنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا مثل ما فعل يسوع. ومراد نيقوديموس بما في آخر هذه العبارة أن الله كان مع يسوع كما كان مع إبراهيم ويوسف ودانيال وهذا دون ما كان يستحقه المسيح وما دلت عليها المعجزات التي صنعها. وقول نيقوديموس «نعلم» يشير إلى أنه حاور جماعة من رفقائه في المجلس وأنهم سلموا له بما قاله هنا. ولا بد من أن نيقوديموس قصد بكلامه المدح والتعظيم ليسوع وأن يكون كلامه مقدمة لما أراده من المسائل.
3 «فَقَالَ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰه».
ص 1: 13 وغلاطية 6: 15 وأفسس 5: 26 وتيطس 3: 5 ويعقوب 1: 18 و1بطرس 1: 23 و1يوحنا 3: 9
فَقَالَ يَسُوعُ لم يسأله نيقوديموس شيئاً عما كان كلام المسيح جواباً له لأنه إجابة على أمر كان قد قصد أن يسأله إياه. ولعل نيقوديموس كان يقصد أن يسأل يسوع عن رأيه في شأن ملكوت المسيح.
ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ هذا يشير إلى تيقن المتكلم ما يقوله وإلى سلطانه وأهمية الموضوع.
إِنْ كَانَ أَحَدٌ يهودياً أو غير يهودي.
لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ أشار بذلك إلى الولادة الجديدة الروحية فهو مثل قوله «الذين ولدوا... من الله» (ص 1: 13) ومثل ما في (1يوحنا 2: 29 و3: 9). وبيّن ضرورية تغير قلب الإنسان الخاطئ تغيراً عظيماً كاملاً مستمراً كأنه وُلد ثانية ويحدث ذلك عندما يتوب ويؤمن.
لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ مرّ الكلام على معنى ملكوت الله في الشرح متّى 3: 2. وقوله «يرى» بمعنى يدخل كما يظهر من ع 5. وبما ان ملكوت الله ملكوت روحي كان الذين يدخلونه محتاجين إلى الولادة الروحية. فرؤية الملكوت الروحي تتوقف على وجود الحياة الروحية وهذه تتوقف على الولادة الروحية. وتعليم هذه الولادة من أعظم مبادئ دين المسيح الأساسية. وصرح المسيح بأنها ضرورية لكل إنسان بلا استثناء من عالٍ أو دون أو خاطئ أو بار في عيون الناس. وعلة ذلك أن الطبيعة البشرية قد فسدت منذ سقوط آدم فلا يخلص إلا من وُلد ثانية من الروح القدس.
وظن نيقوديموس كسائر اليهود أن ملكوت الله خارجي زمني دنيوي. وأن لكل يهودي حقاً أن يدخله بناء على أنه ابن إبراهيم. ولكن المسيح علمه أن تلك الولادة الطبيعية لا تنفع اليهود شيئاً وأن الذي يحتاجون إليه هو الولادة الجديدة.
وهذا التلعيم ذُكر في العهد القديم أيضاً (تثنية 10: 16 وإرميا 4: 4 و30: 33 وحزقيال 11: 19 و36: 25). وعبّر عنه أيضاً بالخليقة الجديدة (2كورنثوس 5: 17 وغلاطية 6: 15) و «بالقيامة من الأموات» (يوحنا 5: 24 وأفسس 2: 1).
وكان من عادة المسيح أن يخاطب كل إنسان حسب استعداده إلى قبول تعليمه. مثال ذلك أمره للرئيس الغني المتكل على غناه أن يبيع ما له ويوزعه على الفقراء (لوقا 18: 22). وللجموع الطالبة الخبز بقوله «اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ ٱلْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ ٱلْبَاقِي لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ» (ص 6: 27). وللمرأة السامرية التي أتت لتستقي ماء بأن تستقي الماء الحي (ص 4: 10). ولهذا الفريسي المتكل لتبريره على أنه ابن إبراهيم بأن «يولد من فوق». وخاطبه المسيح بهذا الكلام لكي ينفي أفكاره الدنيوية الزمنية في شأن ملكوت المسيح. فحقق له أن ملكه روحي لا زمني. وان غايته لم تكن الانتصار على الرومانيين بل على الطبيعة البشرية الفاسدة ونجاة النفس من رق الشيطان لا اليهود من رق قيصر. وعلمه أيضاً أن هذا الملكوت ليس لليهود خاصة بل للناس المتجددي القلوب من كل أمة.
4 «قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ: كَيْفَ يُمْكِنُ ٱلْإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟».
في جواب نيقوديموس إشارة إلى التعجب والحيرة وطلب زيادة الإيضاح لأن الولادة الثانية على ظاهر معناها محال. نعم إنّه يصعب علينا تصديق أن معلماً لاهوتياً عالماً مشهوراً لا يفهم من كلام المسيح إلا ظاهر المعنى الجسدي أي الولادة الطبيعية ويغفل عن المعنى الروحي الذي قصده المسيح من أن تعليم تجديد القلب من تعاليم العهد القديم التي عرفها نيقوديموس ودرسها وعلمها (مزمور 51: 10 و86: 11 وحزقيال 11: 19 و36: 26).لكن نعلم أنه يصعب على القلب الطبيعي أن يدرك الحقائق الروحية. فالمرأة السامرية لم تفهم مراد المسيح «بالماء الحي» والتلاميذ لم يفهموا ما عناه المسيح «بخمير الفريسيين» ويهود كفرناحوم لم يفهموا ما قصد المسيح «بالخبز النازل من السماء». على أن تعليم الولادة الجديدة لم يزل إلى اليوم من أصعب الحقائق على القلب البشري. ولا دليل على أن نيقوديموس حمل كلام المسيح على نفسه أي أنه هو يجب أن يولد ثانية. ولعله قصد ما معناه أن مثل ذلك التغير الأدبي العظيم الذي أشار إليه المسيح يستحيل على البالغ الذي اعتاد الشر كما يستحيل على الشيخ أن يولد ثانية ولادة طبيعية.
5 «أَجَابَ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ ٱلْمَاءِ وَٱلرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ».
مرقس 16: 16 وأعمال 2: 38
ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ كرره بياناً لأهمية الكلام وسلطان المتكلم.
لاَ يُولَدُ مِنَ ٱلْمَاءِ وَٱلرُّوحِ هذا تكرير لقوله «لا يولد من فوق» مع شيء من التفسير. ولم يشر المسيح هنا إلى ولادتين ولادة الماء وولادة من الروح لأنهما ولادة واحدة فالأولى رمزية والأخرى حقيقية وقُدمت الرمزية تمهيداً لفهم الثانية. والمعنى أن الولادة من فوق هي الولادة من الروح القدس الذي يطهر القلب كما يطهر الماء الجسد. وكثيراً ما أُشير بالماء في العهد القديم إلى تطهير القلب من الخطيئة (مزمور 51: 2 وإشعياء 53: 15 وحزقيال 36: 25 وزكريا 13: 1).
وقد ورد مثل هذا أي ذكر الرمز والمرموز معاً في قول يوحنا المعمدان في المسيح «هو سيعمدكم بالروح القدس ونار» وهذه العبارة بمعنى العبارة التي نحن في شرحها إلا أنه فيها النار بدل الماء وكلاهما رمز إلى التطهير. وعدم ذكر الماء في الآية الثامنة إشارة إلى كون الولادة من الروح هو الأمر الجوهري. والأرجح أنه ليس هنا من إشارة إلى وجوب المعمودية على أن الكتاب نص على وجوبها في عدة أماكن غير هذا. ولو سلمنا بأن المعمودية مشار إليها هنا لوجب أن يخلص كل من اعتمد وأن يهلك كل من لم يعتمد وهذا خلاف تعاليم الكتاب الصريحة. وخلاصة ما عناه المسيح هنا هو أنه كما يتطهر جسد الإنسان بالماء كذلك يجب أن تتطهر نفسه وتتجدد بالروح القدس.
لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ الخ هذا تفسير لقوله «لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ» ع 3 ومعناه أنه لا شركة له في بركات ذلك الملكوت.
6 «اَلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَٱلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلرُّوحِ هُوَ رُوحٌ».
ذكّر المسيح نيقوديموس بما كان قد تحققه من المماثلة الطبيعية بين الوالد والمولود ليحقق له لزوم الولادة الروحية لأن كل والد حي يلد مثله. ومعنى «الجسد» هنا البشر أو الإنسان في الحال التي وُلد عليها من الضعف والفساد. فالإنسان الخاطئ الفاسد لا يستطيع أن يلد إلا من كان مثله في الخطيئة والفساد (تكوين 5: 3 وأيوب 14: 4). فإذن كل من ولدوا من البشر فاسدون لا يستحقون أن يدخلوا ملكوت الله. ولو وُلد الشيخ ثانية من أمه كما قال نيقوديموس لوُلد خاطئاً دنيوياً فإذاً من المحال أن تتوقع وجود الحياة الروحية في مصدر أرضي. ولا يدخل المسيح تحت قوله «المولود من الجسد جسد هو» لأنه وُلد من مريم ولادة خارقة الطبيعة بفعل روح الله. نعم إنّه «صَارَ جَسَداً» (ص 1: 14) لكنه لم يشارك الجسد في الخطيئة (2كورنثوس 5: 21).
وَٱلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلرُّوحِ الخ الروح السماوي مصدر كل حياة روحية وهو المصدر الوحيد لذلك. فالإنسان الذي استمد حياة جديدة من الروح هو روحي ويستطيع أن يدرك الأمور الروحية ويشترك في البركات الروحية ويقدر على الأعمال الروحية كالمحبة والإيمان والطاعة والمشابهة لله الطاهر القدوس (غلاطية 5: 22 و23).
ولم يذكر المسيح هنا وجوب الولادة من الماء وهذا دليل على أن الأمر الجوهري هو الولادة الروحية التي التطهير بالماء رمز إليها.
7، 8 «7 لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ. 8 اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لٰكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هٰكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱلرُّوح».
جامعة 11: 5 و 1كورنثوس 2: 11
لاَ تَتَعَجَّبْ عرف المسيح أفكار نيقوديموس مما ظهر من هيئته وكلامه أي علم من ذلك أنه لم يقتصر على التعجب بل كان على وشك أن يرفض ذلك التعليم كأمر يجاوز التصديق البشري ومما لا يُدرك. اعترض نيقوديموس على تعليم المسيح الولادة الجديدة بقوله «كيف يمكن أن يكون» فأخذ يسوع يبيّن له أنه يصدق أموراً غير هذا الأمر عسرة الوقوع مثله فلا حق له أن يرفض ذلك التعليم لهذا السبب.
اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ شبّه سابقاً فعل الروح بالماء وشبهه هنا بالريح. لا أحد يقدر أن يرى الريح أو أن يخبر بمصدرها أو غايتها وهي غير خاضعة لأمره لكنه مع ذلك لم ينكر وجودها عندما يسمع صوتها. فأوجب المسيح بذلك على نيقوديموس أن لا ينكر حضور الروح القدس وفعله في قلب الإنسان لأنه لا يراه ولا يعرف كيف يعمل.
والمشابهة هنا أو وجود الريح وقوتها يعرفان من فعلها كذلك وجود الروح القدس وقوته يعرفان بفعله وهو ما يحدثه من التغيير في قلب الإنسان وأعماله كما كان لشاول الطرسوسي المضطهد فإن المسيح شهد له بقوله «هوذا يصلي» (أعمال 9: 11). وكما كان للوثنيين في أفسس من أنهم آمنوا بالمسيح وأحرقوا كتبهم السحرية الثمينة (أعمال 19: 19).
هٰكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱلرُّوحِ يشبه فعل الريح فعل الروح في ثلاثة أمور:
أولاً: أن «الريح تهب حيث تشاء» والروح يفعل حيث يريد أي أنه حر مستقل بأعماله.
ثانياً: أن الريح تأتي وتذهب غير منظورة والروح يفعل في قلب الإنسان فعلاً سريّاً لا يدركه إلا من يفعل هو فيه.
ثالثاً: أن قوة الريح عظيمة لا تقاوم وقوة الروح في تغيير الأفراد والجماعات لا تُحصى ولا تُحدّ.
9 «فَسَأَلَهُ نِيقُودِيمُوسُ: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هٰذَا؟».
ص 6: 52 و60
كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ يُظهر هذا السؤال قدر صعوبة إدراك العقل البشري للحقائق الروحية. والفرق بين سؤال نيقوديموس هنا وسؤاله في العدد الرابع أن السؤال الأول يتضمن رفض تعليم الولادة الجديدة بناء على كونه محالاً كولادة الشيخ ثانية. والسؤال هنا يتضمن عدم قبوله ذلك التعليم بناء على أنه غريب مخالف لما اعتاده هو. وهذا ظاهر من قول المسيح «وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا... وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ» (ع 11 و12).
آراء نيقوديموس الفريسية منعته من إدراك كل معنى المسيح الروحي وحملته على أن ينفر مما فهمه منه. ولا ريب أنه في هذا السؤال طلب إلى المسيح زيادة إيضاح معناه كأنه لا يريد التسليم بشيء ما لم يدركه كل الإدراك. كذا عادة الناس أبداً أن يطلبوا إيضاحاً في الدين لا يطلبونه في العلوم الطبيعية لأنهم لا ينكرون المعلومات لتعلقها ببعض المجهولات.
هٰذَا أي ما قاله المسيح في حقيقة الولادة الجديدة ووجوبها.
10 «أَجَابَ يَسُوعُ: أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ وَلَسْتَ تَعْلَمُ هٰذَا!».
لم يجب المسيح نيقوديموس على سؤاله في الحال لكنه وبخه أولاً على جهله ثم أتى بالجواب في العدد الرابع عشر وهو الإيمان بالمسيح.
وتضمن كلام المسيح أنه كان على نيقوديموس أن يفهم تعليم الولادة الجديدة لأنه معلم ديني للشعب وقد درس أسفار العهد القديم وأدعى معرفة حقيقتها وذلك التعليم فيه على غاية الإيضاح (مزمور 51: 10 وإرميا 4: 4 وحزقيال 18: 31 و36: 26) فاستحق اللوم على جهله ذلك. وهكذا كثيرون يقرأون الكتب المقدسة كل أيام الحياة وبعضهم يعلمونها وهم لا يدركون حقائقها لأنه لا يقبلونها كالأولاد ولا يطلبون تعليم الروح. وكثيرون من أرباب العلوم والفلسفة يجهلون مبادئ الدين المسيحي.
11 «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا، وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا».
متّى 11: 27 وص 1: 18 و7: 16 و8: 23 و12: 49 و14: 24، ع 32
نَتَكَلَّمُ عبّر المسيح هنا عن نفسه بصيغة الجمع كما في مرقس 4: 30. فيحتمل أنه جمع معه الآب والروح ولعله جمع معه كل من وُلدوا ثانية وتعلموا من الروح.
بِمَا نَعْلَمُ حقق لنيقوديموس أنه تكلم بسلطان ويقين وأنه يعلم حقائق عرفها منذ الأزل لا كسائر الأنبياء الذين تكلموا بما تعلموا ولا كالكتبة الذين علموا تقاليد الناس.
وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا لم يشر بذلك إلى مجرد ما قاله لنيقوديموس في ذلك الوقت بل إلى كل تعليمه علناً في اليهودية. ومعناه أنكم أيها الفريسيون ترفضون شهادتي مع أني أثبتها بالمعجزات.
12 «إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ ٱلأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّاتِ؟».
حقق له يسوع أن لا نفع له من أن يعلمه حقائق الدين السامية ما لم يقبل مبادئه البسيطة.
ٱلأَرْضِيَّاتِ أي التعاليم المتعلقة بالولادة الجديدة وفعل الروح القدس في قلب الإنسان. وسُميت «أرضيات» لوجوب حدوثها على الأرض ولأن نتائجها ظاهرة هنا. فجيب أن يختبرها كل إنسان في هذه الحياة وهي مما يستطيع العقل البشري أن يحكم بها أي بأنه هل حصل عليها الإنسان أو لا. وهي مما تشبه بالاشياء الأرضية كالماء والريح. وذهب بعضهم أن المسيح أشار بالأرضيات إلى كل تعاليمه التي أعلنها لليهود منذ بدء خدمته كوجوب التوبة وحقيقة ملكوته الجديد وتجديد القلب وقداسة السيرة. وكل هذه الأمور أُعلنت قبلاً في أسفار العهد القديم وصارت من المسلمات المحققة عند أهل الأرض.
وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ أظهر نيقوديموس عدم إيمانه بقوله «كيف يكمن أن يكون هذا» وأظهر اليهود عدم إيمانهم برفضهم تعاليم المسيح.
ٱلسَّمَاوِيَّاتِ أي الحقائق التي لا يستطيع العقل التوصل إليها ولا الحكم بمجرد قواه. ولم تُعلن إلا بالوحي وهي مما يُقبل بالإيمان. ولعل المسيح قصد بها المواضيع التي أتى نيقوديموس يسأل عنها من جهة ملكوت الله والمسيح المنتظر أو سؤال نيقوديموس في ع 4 و9 عن كيفية عمل الروح أي تجديده للقلب وعلة أنه ينتخب البعض ويترك الآخر وهي مما يختص بقضاء الله في السماء (تثنية 29: 29). والأرجح أن مراد المسيح «بالسماويات» الأمور التي قصد بيانها في ع 14 و15 وهي لاهوته وكون الفداء بموته على الصليب ومحبة الله لكل العالم وكون الإيمان به شرط الخلاص ودينونة الذين لا يؤمنون.
13 «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ».
أمثال 30: 4 وص 6: 33 و38 و51 و62 و16: 28 وأعمال 2: 34 و 1كورنثوس 15: 47 وأفسس 4: 9 و10، ص 1: 18
أكد المسيح لنيقوديموس أنه لا يقدر أحد أن يعلن له هذه السماويات إلا هو. وأبان أنه هو المعلن الإلهي للحقائق السماوية.
لَيْسَ أَحَدٌ أي لا أحد ممن هم الآن على الأرض.
صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ ثم هبط إلى الأرض لينبئ الناس بما شاهده هناك. فإذن لا أحد من الناس يقدر أن يعلن أسرار السماء وحقائقها مما عاينه وسمعه إلا المسيح.
ولا إشارة في ذلك إلى الذين ماتوا بالإيمان وصعدوا إلى السماء بأرواحهم كإبراهيم وإسحاق ويعقوب أو إلى من انتقل إلى السماء بالجسد كأخنوخ وإيليا (تكوين 5: 24 و2ملوك 2: 11) إنما أشار إلى الباقين على الأرض الذين يمكننا أن نسألهم عن الحقائق السماوية.
إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ أي المسيح وهو لم يكن قد صعد بالجسد لكن لكونه ابن الله كما أنه ابن الإنسان لا يحتاج أن يصعد كأحد الناس ليعلم أمور السماء ويخبر بها أهل الأرض. والمعنى أنه كان يعلم ما لم يعلمه أحد من الناس إلا بالصعود من الأرض إلى السماء. فقوله «ابن الإنسان الذي هو في السماء» يتضمن كل ما يقتضي الصعود. وهذه الآية تثبت أزلية المسيح وطبيعته الإلهية. وهو يمتاز عن كل الذين أعلنوا ما لله من الآباء الأقدمين والأنبياء والرسل بأنه الساكن العُلى منذ الأزل وأتى الأرض لكي يعلم الناس ويخلصهم. وكثيراً ما يُنسب إلى المسيح أنه نزل من السماء كقوله «خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ ٱلآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى ٱلْعَالَمِ» (ص 16: 28). ومثله ما في (ص 6: 33 و38).
ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ أي الكلمة الذي صار جسداً (ص 1: 14 و51).
ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ هذا مثل قول البشير «اَلاَبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ» (ص 1: 18) وفي ذلك زيادة على كون المسيح نزل من السماء أنه كان يسكن بالروح في السماء مع أبيه في كل المدة التي كان فيها بين الناس بالجسد. وهو تصريح بلاهوت المسيح واحد «السماويات» التي لم يؤمن اليهود بها ع 12 أي أن ابن الإنسان وهو على الأرض يخاطب الناس هو في السماء أيضاً. لأنه ابن الله فهو يملأ الكون السموات والأرض في وقت واحد (ص 1: 1 و6: 62 و17: 5) وله حياتان متوازيتان حياة في الجسد على الأرض وحياة مع الآب في السماء وله طبيعتان متميزتان إحداهما إلهية والثانية إنسانية ومع ذلك ليس هو سوى أقنوم واحد.
وخلاصة ما قصده المسيح من إفادة نيقوديموس في هذا العدد هي أنه إذا أراد أن يعلم الأمور السماوية فليتعلم منه إذ لا يستطيع أن يتعلم من غيره.
14 «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ».
عدد 21: 9 ص 8: 28 و12: 32
أعلن يسوع لنيقوديموس في هذه الآية الأمر الثاني من السماويات وهو أن المسيح معيّنٌ للآلام والموت. وتخليص الناس لا بارتفاعه على عرش المجد والسلطان بل على الصليب. وفي كل ذلك إعلان عجيب لمحبة الله العالم.
كَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ عدد 21: 6 - 9. رُفعت الحية النحاسية على راية كانت في معسكر إسرائيل حيث يراها كل من أراد أو كانت تُحمل فيه وتُعرض على عيون كل الإسرائيليين. وحفظها بنو إسرائيل وهم يجولون في البرية وأتوا بها إلى الأرض المقدسة ثم اتخذوها وثناً وعبدوها فكسرها حزقيا الملك (2ملوك 18: 4).
فِي ٱلْبَرِّيَّةِ تجاه جبال أدوم وهي برية التيه أو فاران جنوبي جبل هور.
هٰكَذَا يَنْبَغِي لكي يوفي مطاليب شريعة الله والعدل حقه بمقتضى قضاء الله الأزلي ونبوءات الكتاب المقدس لأنه لا نعلم غير موت المسيح طريقاً يكون بها الله باراً ويبرر الخاطئ (رومية 3: 26). وقد أكد الكتاب أيضاً أنه «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عبرانيين 9: 22) (انظر أيضاً لاويين 17: 11 ولوقا 24: 26 و27 و46).
أَنْ يُرْفَعَ على الصليب ليموت بالآلام والهوان كما تبيّن في ص 2: 33 و34. وأشار المسيح إلى ذلك أيضاً في ص 8: 28. فانتظر نيقوديموس أن يُرفع المسيح على العرش الملكي باحتفال وقوة ومجد لكن المسيح صرّح له أنه ينبغي أن يُرفع أولاً على صليب العار ثم يُرفع بذلك ملكاً ومخلصاً على عرش المجد السماوي (أعمال 4: 30 و31 وفيلبي 2: 8 و9 وعبرانيين 2: 9).
صُوِّرت الحيّة النحاسية على صورة الحيّات السامة لكنها لم تكن سامة فكذلك أتى المسيح في صورة الجسد الخاطئ لكنه كان بلا خطية (رومية 8: 3 و2كورنثوس 5: 21 و1بطرس 2: 22 و24). وعُومل كما يعامل الخاطئ ليفدي الخطاة. ومعنى هذه الآية كمعنى قول المعمدان في المسيح «هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (ص 1: 29).
15 «لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ».
ع 36 وص 6: 47
في هذا العدد بيان علة رفع يسوع على الصليب والطريق التي بها يكون المسيح المصلوب واسطة الخلاص وذلك لا لمجرد كونه مصلوباً بل لكونه موضوع الإيمان أيضاً. وكما أنه لم يكن سبيل إلى شفاء الذين لدغتهم الحيّات من الإسرائيليين إلا نظرهم إلى الحيّة النحاسية كذلك لا طريق للخطأة إلى نوال الحياة الأبدية إلا الإيمان بيسوع المسيح مصلوباً.
كُلُّ مَنْ هذا يعم كل البشر بلا استثناء فالخلاص بالإيمان بالمسيح معروض على كل نسل آدم الساقط.
يُؤْمِنُ بِهِ الإيمان المراد هنا ليس مجرد تصديق العقل وجود المسيح ولاهوته وموته من أجل الخطأة بل قبوله بالقلب والإرادة والاتكال عليه مخلصاً وحيداً كافياً وتسليم النفس إلى يديه لأجل الخلاص (أعمال 16: 31 وعبرانيين 12: 2).
لحظة عين خلصت إسرائيلياً ملدوغاً من الموت الجسدي ولحظة إيمان تُخلص نفس الخاطئ من الموت الأبدي وفي الأمرين كليهما الشرط الوحيد هو النظر (عدد 61: 9 وإشعياء 45: 22).
لاَ يَهْلِكَ أي لا يقاسي القصاص على خطيئته في جهنم.
بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ هذا يتضمن زيادة على نجاة الأثيم من الهلاك رضى الله والقداسة والسعادة الكاملتين الدائمتين في السماء وأن يُحسب باراً ويُجعَل وارثاً لمجد السماء وغناها.
16 «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ».
رومية 5: 8 و1يوحنا 4: 9
هذه الآية إنجيل مختصر.
هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰه أعلن المسيح هنا أن أصل الفداء محبة الله فالإنسان مع أنه أثيم مستحق غضب الله لم تكن إحساسات الله من جهته إحساسات الغضب والانتقام بل عواطف المحبة. وجاء مثل هذا في 2يوحنا 4: 7 - 11. والمحبة هنا ليست محبة الرضى والمسرة كمحبة الله لسكان السماء بل محبة الحنو والشفقة على الذين هم عرضة للهلاك الأبدي ولا ملجأ لهم والرغبة في إنقاذهم ومباركتهم.
ٱلْعَالَمَ لا الملائكة فقط والمختارين ولا الأمة اليهودية فقط كما زعم نيقوديموس كسائر اليهود أن المسيح لهم دون غيرهم وأن رحمة الله مختصة بهم بل كل نسل آدم. وجاء «العالم» بهذا المعنى أيضاً في (ص 1: 10 و29 و6: 33 و51 و8: 12 ورومية 3: 19 و2كورنثوس 5: 19 و1تيموثاوس 2: 4 وعبرانيين 2: 9 و2بطرس 3: 9 و1يوحنا 2: 2 و4: 14). وهذه الحقيقة من «الحقائق السماوية» التي صعب على اليهود التسليم بها وهي أن محبة الله تعمّ الأمم كما تعمّ اليهود وأن المسيح مخلص للجميع.
حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ هذا مقياس محبة الله لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل عنه لا العالم أو الملائكة بل أفضل موهبة في السماء وهي ابنه الوحيد يسوع المسيح فهو «عطية الله» (ص 4: 10) و «عَطِيَّتِهِ ٱلَّتِي لاَ يُعَبَّرُ عَنْهَا» (2كورنثوس 9: 15). وسمي المسيح عطية لأنه قُدّم لنا مجاناً إذ ليس لأحد حق فيه ولا يستطيع أن يثيبه على عمله. ولا يخفى ما في تقديم تلك العطية من إنكار الذات والنفقة العظيمة.
والله بذل ابنه لا ليملك باحتفال ويُكرم ويُمدح من الناس بل ليكون مهاناً مرذولاً ولا يُسخر به مصلوباً وميتاً لفداء البشر (رومية 4: 25 و8: 32). وعلة عطية المسيح للعالم ليست محبة العالم لله بل محبة الله للعالم.
سمّى المسيح نفسه في هذه الآية «ابن الله»: وسمّى نفسه في الآية التي قبلها «ابن الإنسان» لكي يعلم نيقوديموس أنه ذو طبيعتين. وقد مر الكلام على معنى كون المسيح ابن الله في الشرح ص 1: 14. وذهب البعض أن في هذا العدد تلميح إلى ما أتاه إبراهيم فإنه كان مستعداً لبذل ابنه الوحيد إسحاق طوعاً لأمر الله وأظهر بذلك محبته لله (تكوين ص 22) فالله أعطى الإنسان الخاطئ أكثر مما رضي تعالى أن إبراهيم يعطيه.
كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ جاء في تفسير هذه في الآية السابقة. الله أحب العالم كله لكن الذين يستفيدون من تلك المحبة هم المؤمنون فإنه لا ينال الخلاص الذي أعده إلا هم. إنّ الله فعل كل ما اقتضاه خلاص البشر ببذل ابنه والابن فعل كل ما اقتضى ذلك بموته على الصليب من أجلهم فبقي على الناس أن يفعلوا ما عليهم وهو أن يؤمنوا بيسوع مصلوباً فالإيمان بيسوع هو الشرط الوحيد لنوال كل فوائد «عطية الله التي لا يُعبر عنها».
بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ هذا المقصود من عطية الله وهو خلاص الهالكين.
17 «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَم».
لوقا 9: 56 وص 5: 45 و8: 15 و12: 47 و1يوحنا 4: 14
بيّن المسيح في هذه الآية حقيقة أخرى «من الحقائق السماوية» وهي غاية مجيء المسيح. زعم نيقوديموس أن غايته دينونة أكثر العالم أي جميع الأمم ولا سيما الرومانيين.
لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ استحق العالم الدينونة فكان من الحق والعدل لو أرسل الله ابنه ليدينه لكنه اختار أن يظهر رحمته للخطاة بإرساله ليعد له الخلاص.
وما قيل هنا لا ينفي أن تكون غاية المسيح من مجيئه الثاني أن يدين غير المؤمنين كما أُعلن في ص 5: 22 و27 وأعمال 17: 31 و2كورنثوس 5: 10 بل يبيّن علّة مجيئه الأول وهو إتيانه للخلاص لا كما ظن نيقوديموس أنها إنقاذ اليهود من عبودية الرومانيين بل إنقاذ العالم من عبودية الشيطان والإثم والموت.
بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ بشرط أن يؤمن العالم به. ولعل سبب قوله «ليخلص به العالم» بدل على أن يقول «ليخلص العالم» يبيّن أنه على العالم مسؤولية الإيمان لتحصيل الخلاص.
18 «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيد».
ص 5: 24 و6: 40 و47 و20: 31
تفيد هذه الآية أن مجيء المسيح وإن لم تكن غايته الدينونة يستلزم دينونة بعض الناس. وهي تقسم العالم إلى شطرين المذنبين والمبررين وذلك باختيارهما رفض المسيح أو قبوله.
اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ هذا مثل ما قيل في ص 5: 24 ورومية 8: 1. ومعنى «لا يُدان» أنه بُرر لأجل المسيح وانتقل من الموت إلى الحياة (1يوحنا 3: 14) وغُفرت خطاياه واُنقذ من لعنة الناموس ويحصل على كل ذلك عندما يؤمن.
ٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ الكلام هنا ليس على دينونة مستقبلة بل على دينونة حاضرة. وهذه الدينونة قد جلبها الخاطئ على نفسه بخطاياه والحاكم عليه بتلك الدينونة ضميره وشريعة الله. فلا حاجة إلى إتيان المسيح ليدينه دينونة أخرى فهو باق في الحال الأصلية لعدم إيمانه كأن المسيح لم يمت وهالك بآثامه. وبما أن الحاكم الأول ثابت عليه وهو «أن النفس التي تخطئ تموت» لا تبقى حاجة إلى حكم ثانٍ ودينونة ثانية.
لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ أي لأنه لم يستفد من الطريق الوحيد الذي أعده الله للنجاة. فيكون كالإسرائيلي الملدوغ الذي أبى أن ينظر إلى الحية النحاسية. ويكون فوق ذلك قد استهان بنعمة الله فزاد إثماً على إثمٍ (عبرانيين 10: 29) ولا خطية تضر النفس مثل الكفر بالنعمة.
بِٱسْمِ أي بكل ما تُعلن به صفاته وأعماله. وأحد تلك الأسماء «يَسُوعَ، لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (متّى 1: 21).
ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ ليس لله ابن آخر ليأتي للخلاص إذا رُفض هذا. وتسميته «بالوحيد» تشير إلى عظمته واعتبار الآب إياه. فعلى قدر عظمة المسيح تعظم خطيئة من لم يؤمن به.
وبمقتضى نص هذه الآية أن الإنسان الذي يدان لا حق له في أن يلوم آدم على ذلك أو أن ينسب دينونته إلى الخطية الأصلية إنما يجب عليه أن يلوم نفسه لأنه لم يؤمن بالمسيح الذي يرفع الخطيئة وينجو به من كل دينونة.
19 «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلدَّيْنُونَةُ: إِنَّ ٱلنُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَأَحَبَّ ٱلنَّاسُ ٱلظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً».
ص 1: 4 و9 و10 و11 و8: 12
هذه الآية تفيدنا أن الناس يدينون أنفسهم برفضهم المسيح.
وَهٰذِهِ هِيَ ٱلدَّيْنُونَةُ أي علة الدينونة وذلك لأنها أظهرت أحوال قلوبهم من صالحة وطالحة بمعاملتهم للمسيح ودينه.
إِنَّ ٱلنُّورَ قَدْ جَاءَ أي المسيح (ص 1: 7) لأنه أعلن طريق الخلاص وأشرق به نور الإنجيل (متّى 4: 16 وإشعياء 9: 2 و60: 1).
وَأَحَبَّ ٱلنَّاسُ ٱلظُّلْمَةَ الظلمة هنا مستعارة للخطية والضلال وكل ما هو مضاد للحق. فالناس لا يهلكون لجهلهم الحق بل لرفضهم إياه اختياراً ولم يضلوا لعدم النور بل لمحبتهم ظلمة الإثم. فليس من علة لهلاك الناس سوى فساد قلوهم وعواطفهم. إن الله وضع أمام الإنسان النور وترك له الحرية في اختياره أو رفضه ففضل باختياره الجهل والانخداع والأوهام الدينية وسائر أنواع الضلال فجلب الهلاك على نفسه (هوشع 4: 17 ورومية 1: 28).
لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً أعمال الإنسان ترجمان أفكاره وعواطفه وخصاله فلو أتوا إلى النور أي المسيح وآمنوا به لاضطروا إلى الانفصال عن كل الأعمال الشريرة التي أحبوها ومعظم المانع للناس من قبول الحق هو شر قلوبهم لا جهلهم. فأعمال الفريسيين الشريرة منعتهم من الاقتناع بالبراهين أن يسوع هو المسيح وأن تعليمه من السماء.
20 «لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ ٱلسَّيِّآتِ يُبْغِضُ ٱلنُّورَ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى ٱلنُّورِ لِئَلاَّ تُوَبَّخَ أَعْمَالُه».
أعمال 24: 13 و17 وأفسس 5: 13
كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ ٱلسَّيِّآتِ أي كل من يرتكب الشرور ولا يرجع عنها أو كل إنسان لم يتجدد قلبه.
يُبْغِضُ ٱلنُّورَ أي يكرهه ويبتعد عنه لأنه يُعلن شره لنفسه فيؤنبه ضميره فلا يرى وسيلة إلى الراحة إلا بهربه من النور (1ملوك 22: 8 أمثال 15: 12) ويظهر سيئاته لغيره فيوبخه عليها. وكثيراً ما حُكم في عصور الجهل بأن بعض الرذائل فضائل فيكره أهل الشر النور لأنه يكشف شرورهم.
وَلاَ يَأْتِي إِلَى ٱلنُّورِ الخ هذا نتيجة بغض النور والخوف من توبيخ الضمير لأن يبغضه الإنسان ويخفافه يبتعد عنه.
ولنا من هذه الآية أربع فوائد:
الأولى: إن إحدى غايات الإنجيل توبيخ الناس على خطاياهم.
الثانية: سبب بغض أكثر الناس في كل عصر للإنجيل ومقاومتهم إياه. وهو أنه يوبخ على الظلم والخداع والزور والبغض والحسد والبخل والقساوة والسكر والزنا وكل الخطايا التي يكشف الإنجيل الحجاب عن فظاعتها.
الثالثة: أن أحوال قلوب الناس تُعرف من معاملتهم للإنجيل. فإن الصالحين يحبونه والأشرار يبغضونه (يوحنا 18: 37).
الرابعة: أنه توجد دينونة قبل دينونة اليوم الأخير وهي دينونة الإنسان لنفسه. فالحكيم يطلب طريق التبرير ما دام في إمكانه.
21 «وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ ٱلْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى ٱلنُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِٱللّٰهِ مَعْمُولَةٌ».
مزمور 15 ولوقا 8: 15
وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ ٱلْحَقَّ أي النقي المتجدد القلب الذي يحب الحق ويفعله ويطيع الضمير ويسير بمقتضى ما حصل عليه من النور ويسر بأن يقوده روح الله.
فَيُقْبِلُ إِلَى ٱلنُّورِ أي يميل قلبه إلى المسيح وإنجيله ويسر بالحق ويُرحب به ويسير بمقتضاه فلا يخاف توبيخ ضميره له مما يُظهره النور ولا ما يعلنه له من صفات الله وإحساساته من جهته. ومن يُقبل إلى النور يواظب على درس الكتاب المقدس وعلى سؤال الروح القدس أن يرشده إلى فهم ذلك الكتاب وينتهز كل الفرص لمعرفة الحق والنجاة من الضلال.
لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ لا يخاف أن يُدان بواسطة النور على رياء وخداع وشر عمل ومشاركة للشيطان. وإن أظهر النور أن شيئاً من أعماله شريرة وهو غافل عنه سُرّ بذلك وأسرع إلى تركه.
أَنَّهَا بِٱللّٰهِ مَعْمُولَةٌ أي عُملت طوعاً لأمر الله وإرضاء له تعالى وهي كأعمال الله ونتيجة إرشاد روحه القدوس. والإتيان إلى النور هو عينه من الأعمال المعمولة بالله.
وهذه نهاية المحاورة بين المسيح ونيقوديموس ولم يذكر البشير تأثيرها في نيقوديموس. والأرجح أنه استفاد منها كما يستدل مما ذُكر في (ص 7: 50 و12: 42 و19: 39). وفي هذا الفصل أي من ع 1 إلى ع 21 بيان حقائق عظيمة منها عمل أقانيم اللاهوت الثلاثة وهو محبة الآب للعالم وموت المسيح على الصليب وفعل الروح القدس في تجديد قلب الإنسان ومنها فساد الطبيعة البشرية وحقيقة الولادة الثانية ومنزلة الإيمان في خلاص الخاطئ ومعظم علة دينونة الهالكين.
22 «وَبَعْدَ هٰذَا جَاءَ يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى أَرْضِ ٱلْيَهُودِيَّةِ، وَمَكَثَ مَعَهُمْ هُنَاكَ، وَكَانَ يُعَمِّدُ».
ص 4: 2
وَبَعْدَ هٰذَا أي بعد كل ما يتعلق بالفصح الأول حين كان يسوع في مدينة أورشليم (ص 2: 23).
إِلَى أَرْضِ ٱلْيَهُودِيَّةِ ترك قاعدة البلاد التي هي أورشليم وجال في الأرض المجاورة لها.
واليهودية هي القسم الجنوبي من الأقسام الثلاثة التي قُسمت إليها الأرض المقدسة في عصر المسيح وهي ممتدة من برية التيه في الجنوب قرب بئر السبع إلى تخوم السامرة في الشمال وتلك التخوم إلى أمد ثماني ساعات من أورشليم وتمتد من الأردن في الشرق إلى سهل الفلسطينيين في االغرب. والأرجح أن المسيح شغل بذلك الجولان ثمانية أشهر أو تسعة لأن الفصح كان في آذار وهو ذهب إلى السامرة في كانون الأول قبل بداءة الحصاد بأربعة أشهر (يوحنا 4: 35). ولم يذكر متّى في إنجيله خدمة المسيح في اليهودية ولو ذكرها لكان موضع ذكرها في الأصحاح الرابع من إنجيله بين العدد 11 و12 منه.
وَمَكَثَ مَعَهُمْ هُنَاكَ أي في محال مختلفة في أرض اليهودية.
وَكَانَ يُعَمِّدُ لم يعمد هو نفسه بالماء بل تلاميذه كانوا يفعلون ذلك بأمره وسلطانه (ص 4: 2) فكان عمل المسيح وقتئذ التبشير والتعليم. فالأرجح أن تلك المعمودية كانت كمعمودية يوحنا المعمدان وهي معمودية التوبة بغية إرشاد الناس إلى المسيح. وكانت مناداة تلاميذ المسيح مثل مناداة يوحنا وهي قوله «ٱقْتَرَبَ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ»(متّى 10: 7) ولعل الغاية من تلك المعمودية كانت إقرار المعمودين بأن يسوع هو المسيح، ولم نسمع بعد أن تقدم يسوع في الخدمة أنهم عمدوا. ولم تكن معمودية الروح قد أُجريت يومئذ (ص 7: 39). والمعمودية المسيحية رُسمت بعد قيامة المسيح (متّى 28: 19) ومورست أولاً في يوم الخمسين (أعمال 2: 42).
23 «وَكَانَ يُوحَنَّا أَيْضاً يُعَمِّدُ فِي عَيْنِ نُونٍ بِقُرْبِ سَالِيمَ، لأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانُوا يَأْتُونَ وَيَعْتَمِدُون».
1صموئيل 9: 4 ومتّى 3: 5 و6
عَيْنِ نُونٍ بِقُرْبِ سَالِيمَ لم يتحقق موقعا هذين المحلين إلى الآن والأرجح أنهما غربي الأردن وشرقي شكيم أي نابلس. والقرينة تدل أنهما قرب الموضع الذي مكث فيه المسيح وتلاميذه بعض الوقت.
مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ كثرة الجموع الذين قصدوا يوحنا المعمدان اقتضت كثرة الماء لهم ولبهائمهم فلا يلزم من ذاك شيء من جهة كيفية معموديته.
24 «لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا قَدْ أُلْقِيَ بَعْدُ فِي ٱلسِّجْنِ».
متّى 14: 3
ذاك في مدة خدمة المسيح في اليهودية لأنه حين أُلقي يوحنا في السجن ترك يسوع اليهودية وذهب إلى الجليل (متّى 4: 12 ومرقس 1: 14). والغاية من النبإ في هذه الآية بيان أن خدمة يوحنا وخدمة يسوع بقيتا مدة معاً وأن خدمة المسيح لم تبتدئ وقت سجن يوحنا وأن خدمة يوحنا لم تنته عند ابتداء يسوع بالكرازة. وقد مر استيفاء الكلام على سجن يوحنا في شرح ع 12 من ص 4 من بشارة متّى وع 20 من ص 3 من بشارة لوقا.
25 « وَحَدَثَتْ مُبَاحَثَةٌ مِنْ تَلاَمِيذِ يُوحَنَّا مَعَ يَهُودٍ مِنْ جِهَةِ ٱلتَّطْهِيرِ».
تَلاَمِيذِ يُوحَنَّا تبع بعض تلاميذ يوحنا المعمدان المسيح ص 1 وبقي الآخرون (وهم الأكثر) معه. وموضوع المباحثة هنا حُسب عند اليهود ولا سيما عند الفريسيين من أهم المواضيع. ولم يتضح هنا أي شيء من أمور التطهير كان مدار البحث عليه. ولعله منزلة المعمودية في التطهير ثم أنفعية إحدى المعموديتين معمودية يوحنا أو معمودية المسيح وأنه هل تغني الثانية عن الأولى. لأن القرينة تدل على أن تلك المباحثة لم تنشأ إلا والمعموديتان جاريتان معاً ومتجاورتان.
ووقع بعد ذلك مباحثة بين المسيح والفريسيين من جهة التطهير الخارجي والداخلي (مرقس 7: 5 ولوقا 11: 39).
26 «فَجَاءُوا إِلَى يُوحَنَّا وَقَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، هُوَذَا ٱلَّذِي كَانَ مَعَكَ فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ، ٱلَّذِي أَنْتَ قَدْ شَهِدْتَ لَهُ، هُوَ يُعَمِّدُ، وَٱلْجَمِيعُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ».
ص 1: 7 و15 و27 و34
فَجَاءُوا أي تلاميذ يوحنا.
ٱلَّذِي كَانَ مَعَكَ يدل كلام تلاميذ يوحنا على الحسد والغيرة من نجاح عمل المسيح ووفرة اعتبار الناس له ومما يشير إلى ذلك عدم ذكرهم اسم يسوع. والظاهر أنهم توقعوا مشاركة يوحنا لهم في ذلك. ولا يمكن أن يحدث هذا كله لولا جهلهم عظمة يسوع وحقيقة النسبة بينه وبين معلمهم.
ٱلَّذِي أَنْتَ قَدْ شَهِدْتَ لَهُ قالوا هذا إشارة إلى ما ذُكر في ص 1: 29 وإلى أن يسوع كان مديوناً ليوحنا بتلك وأنه أنكر معروفه بمباراته له في المعمودية وصرف اعتبار الناس عن يوحنا إليه.
وَٱلْجَمِيعُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ أي كل الذين يأتون إلى يوحنا ص 4: 1 وهذه علة هياجهم أي خوفهم من زوال اعتبار الناس لمعلمهم. ولا ريب في أن غيرتهم حملتهم على شيء من المبالغة بقولهم «الجميع» الخ والواقع أن كثيرين أتوا إليه. وهذه ليست المرة الوحيدة التي فيها أظهر الناس لأجل طائفتهم أو رئيسها الغيرة التي كان يجب عليهم أن يظهروها للمسيح نفسه.
27 «فَقَالَ يُوحَنَّا: لاَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئاً إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ».
1كورنثوس 4: 7 وعبرانيين 5: 4 ويعقوب 1: 17
أما يوحنا فلم يشارك تلاميذه في غيرتهم ولم يتأثر من كلامهم. ومضمون كلامه أن كل النجاح من الله. وأنه هو عيّن لكل منا مقامه وعمله وقوته في الكلام والعمل وتأثيره في الناس. وأن عظمة يسوع من الله وبرهان على أنه هو المسيح المرسل من السماء فلا داعي للغيرة والحسد لما قضى الله به وهو لم يعطني مقام المسيح فأنا لست سوى سابقه.
28 «أَنْتُمْ أَنْفُسُكُمْ تَشْهَدُونَ لِي أَنِّي قُلْتُ: لَسْتُ أَنَا ٱلْمَسِيحَ بَلْ إِنِّي مُرْسَلٌ أَمَامَهُ».
ص 1: 20 و27، ملاخي 3: 1 ومرقس 1: 2 ولوقا 1: 17
تَشْهَدُونَ لِي أَنِّي قُلْتُ ذكّر يوحنا تلاميذه شهادته ليسوع ليبينوا مَنَّه عليه. أما هو فنبههم على معنى شهادته ص 1: 20 و25 - 27 وأن الشيء الذي غاظهم من تقدم يسوع على يوحنا هو الواجب أن يكون بمقتضى تلك الشهادة.
إِنِّي مُرْسَلٌ أَمَامَهُ كالمنادي أمام الملك (لوقا 3: 3 - 6) فإني لم آت لأجمع شعباً واعتباراً لنفسي بل لأهيئ الطريق قدام المسيح فنجاحه نجاحي وغاية مجيئي.
29 «مَنْ لَهُ ٱلْعَرُوسُ فَهُوَ ٱلْعَرِيسُ، وَأَمَّا صَدِيقُ ٱلْعَرِيسِ ٱلَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحاً مِنْ أَجْلِ صَوْتِ ٱلْعَرِيسِ. إِذاً فَرَحِي هٰذَا قَدْ كَمَلَ».
متّى 22: 2 و2كورنثوس 11: 2 وأفسس 5: 25 و27 ورؤيا 21: 9، نشيد الأناشيد 5: 1
أظهر يوحنا بهذا نسبته إلى المسيح وهي أمران الأول أنه دونه في المقام والثاني أنه راضٍ ومسرور بذلك. ولا مقتضى لطلب معنى لكل ما في هذا التمثيل والجوهر فيه الأمران المذكوران.
مَنْ لَهُ ٱلْعَرُوسُ فَهُوَ ٱلْعَرِيسُ هذه قاعدة عامة تصح في كل عرس وهو أن العروس للعريس. جعل يوحنا هنا المسيح بمنزلة العريس وجعل نفسه بمنزلة الصديق الذي يكون الوسيط في الخطبة ويعتني بأمور العرس في حينها. فبالطبع يكون العريس المقدم في الاعتبار وقت العرس. له العروس والاعتبار والإكرام وأما صديق العريس فلا يستحق شيئاً من ذلك الاعتبار ولا يتوقعه بل يفرح لفرح العريس.
يَفْرَحُ فَرَحاً مِنْ أَجْلِ صَوْتِ ٱلْعَرِيسِ اعتبر يوحنا شيوع الخبر بنجاح يسوع وتأثير تعليمه وإتيان الكل إليه بمنزلة سمع الصديق لصوت العريس عتد ابتهاجه فيفرح معه.
إِذاً فَرَحِي هٰذَا قَدْ كَمَلَ الذي أغاظكم بإتيان الجميع إليه هو الذي سرني السرور الكامل.
ومن أراد الوقوف على وجه الشبه بين العروس والكنيسة في الكتاب المقدس فليطالع (إشعياء 62: 5 وإرميا 3: 31 وأفسس 5: 26 و32 ورؤيا 9: 21). ولا دليل على أن يوحنا قصد تشبيه الكنيسة بالعروس هنا إنما ذكرها إتماماً للمعنى.
30 «يَنْبَغِي أَنَّ ذٰلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ».
أظهر يوحنا بهذا الكلام التواضع الحقيقي وقصد به إزالة كل ما خامر قلوب تلاميذه من أفكار الحسد ليسوع.
يَنْبَغِي أَنَّ ذٰلِكَ يَزِيدُ يزيد أي أن الله قضى أن يكون كذلك وهو لائق بذاته لكونه مسيحاً وملكاً فلا بد من أن يزيد مجده وسلطانه بلا نهاية إلى الأبد وأن يكثر عدد تابعيه وتأثيره فيهم.
وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ كما ينقص نور كوكب الصبح عند طلوع الشمس لانتهاء وظيفتي وهي كوني سابق الملك والمنادي بقدومه عن مجيء الملك نفسه.
وكذلك نقصت قيمة الرموز الموسوية عند ظهور المرموز إليه ونقص اعتبار نظام العهد القديم الذي كان يوحنا من أتباعه وزادت قيمة النظام الإنجيلي وسوف يزيد على الدوام.
ويجب على كل خادم للإنجيل أن تكون غايته كغاية يوحنا المعمدان وهي اشتياقه إلى أن يمجد المسيح بتبشيره وأن يهدي إليه الضالين في قفر الهلاك لا أن يكون هو الممجد المكرم المحبوب.
31 «اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ، وَٱلَّذِي مِنَ ٱلأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ، وَمِنَ ٱلأَرْضِ يَتَكَلَّمُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ».
ع 13 وص 8: 23، متّى 28: 18 وص 1: 15 و27 ورومية 9: 5، 1كورنثوس 15: 47، ص 6: 23 وأفسس 1: 21 وفيلبي 2: 9
الكلام في هذا العدد والأربعة التابعة له أيضاح لما قيل في العدد الثلاثين في عظمة المسيح وأفضلية شأنه على شأن يوحنا المعمدان.
اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ أي المسيح (ع 13 وص 6: 33 و8: 23) وأفضلية يسوع على يوحنا تقوم بموجب هذه الشهادة بمصدره السماوي لأن يوحنا لم يقصد هنا أن تعليم المسيح من السماء بل أنه هو نفسه من هنالك لأن المسيح لم يكن إنساناً فقط بل إلهاً أيضاً فأتى «من فوق» حين اتخذ طبيعة الإنسان فوجب أن يسمو على الجميع عظمة واعتباراً.
فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ أي أن يرأس كل خدم الدين من أنبياء وملائكة ومرسلين أمام وجهه بمقامه وسلطانه (رومية 9: 5 وعبرانيين 1: 1 و2 و4: 14).
وَٱلَّذِي مِنَ ٱلأَرْضِ أي كل إنسان مثلي أصله من هنا مخلوق من التراب ويرجع إليه.
هُوَ أَرْضِيٌّ كسائر البشر ضعيف ناقص أفكاره وأعماله وإحساساته من متعلقات هذه الأرض فهو دون ذاك الذي هو من فوق.
وَمِنَ ٱلأَرْضِ يَتَكَلَّمُ أي يتكلم إنساناً مجرداً محدود العلم ناقص الإدراك. نعم إنّ تعليم يوحنا المعمدان بالنسبة إلى تعليم الكتبة والفريسيين كان سماوياً ولكنه بالنسبة إلى تعليم المسيح أرضي.
اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ أي أن المسيح يفوق كل الأنبياء والمعلمين والمبشرين بعلمه وبكل صفات طبيعته وبمجده وسلطانه.
32 «وَمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ، وَشَهَادَتُهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْبَلُهَا».
ع 11 و8: 26 و15: 15
وَمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ أبان يوحنا أن تعليم المسيح إلهي كما شهد بأن طبيعته إلهية ومصدره سماوي. وبما أن المسيح أتى من السماء يقدر أن يشهد بالأمور السماوية من اختباره مما رآه وسمعه هنالك ومن علمه بكل أفكار الله كما شهد لنفسه في ع 11 وص 5: 19 و30: و8: 38. فما تكلم به يوحنا المعمدان إنما تكلم به كخادم ينقل كلام سيده ولا يدرك كل معناه ولكن ما تكلم به المسيح تكلم كابن في ما رآه وسمعه في بيت أبيه. وقوله «رآه وسمعه» كناية عن العلم الكامل. ومفاد شهادة يوحنا المعمدان أن تعليم المسيح حقٌ يقين لا ريب فيه وأظهر بذلك فضل المسيح على كل معلمي البشر الذين لا يستطيعون أن يتكلموا إلا بما تعلموه من الروح القدس أو من أمثالهم من الناس.
وَشَهَادَتُهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْبَلُهَا هذا رد من يوحنا المعمدان على قول تلاميذه «الجميع يأتون إليه» فكأنه قال لهم ما علمته غير ما ظننتم. فإنّه علم أن مجلس السبعين وأكثر الأمة اليهودية رفضوا قبول يسوع مسيحاً ولذلك قال ما قال. وليس معناه نفي قبول بعض أفراد الناس للمسيح كما يتبين من الآية الآتية. فمعناه أنه مع إتيان الجميع إليه كما قلتم لم يقبل شهادته ويؤمن به إلا قليلون فإتيان أكثرهم إليه كان وقتياً ولغايات مختلفة (ص 6: 26 و66 ومتّى 26: 56).
33 «وَمَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ ٱللّٰهَ صَادِقٌ».
رومية 3: 4 و1يوحنا 5: 10
مَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ المراد بقبول شهادة المسيح هنا تصديق دعواه والإيمان به وإخضاع القلب له.
فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ ٱللّٰهَ صَادِقٌ أي أن الإيمان بالمسيح هو الإقرار بصدق الله الذي تكلم أولاً بلسان يوحنا المعمدان نفسه لأنه سمع قول الله في يسوع «هذا هو ابني الخ». وشاهد علامة من الله بنزول الروح القدس عليه كحمامة فتحقق بها أنه هو المسيح. فمن صدق المسيح صدق الله المتكلم بلسان يوحنا.
ثانياً: بألسنة الأنبياء الذين تنبأوا بوحي الله وتمت نبوءتهم بالمسيح.
ثالثاً: بواسطة المعجزات التي صنعها المسيح وشهد بها الله بصدق دعوى ابنه.
رابعاً: بلسان المسيح عينه الذي هو كلمة الله والمعلن للناس كلام أبيه.
ومعنى قوله «ختم أن الله صادق» أنه أثبت صدق الله كل الإثبات بناء على أن الناس عادة يثبتون شهادتهم بالختم. فإذاً كل مؤمن بالمسيح يشهد بصدق الله. وجماعات المسيحيين في كل عصرهم جيوش شهود ختموا ويختمون على شهادة المسيح بصدق الله. وأما الذين ينكرون المسيح وتعليمه فكانهم يبذلون جهدهم في أن يجعلوا الله كاذباً (1 يوحنا 5: 10).
34 «لأَنَّ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ ٱللّٰهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمِ ٱللّٰهِ. لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي ٱللّٰهُ ٱلرُّوحَ».
ص 7: 16 ص 1: 16
ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ ٱللّٰهُ أي المسيح، وكثيراً ما ذُكر المسيح أنه مرسل من الله ولذلك سُمّي «رسول اعترافنا» (عبرانيين 3: 1) ولكنه ليس كسائر الرسل لأنه من السماء ع 31 وأُرسل ليكون المسيح المخلص.
يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمِ ٱللّٰهِ هذا شرح ما قيل في العدد السابق وهو أن تصديق المسيح تصديق لله لأن المسيح لم يتكلم من عنده كما يمكن الإنسان أن يتكلم بل إنّه مُرسل إلهي من السماء أتى ليعلن للناس أفكار الله وكلامه الذي أراد الله أن يعرفه الإنسان ويأمر يسوع أن يتكلم به.
لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي ٱللّٰهُ ٱلرُّوحَ أي الروح القدس. والمعنى أن الله لم يعط ابنه مقداراً قليلاً من الروح القدس لأن القليل المحدود يُوزن ويُكيّل بخلاف الوافر غير المحدود. وقد رأى يوحنا المعمدان الروح القدس نازلاً على المسيح بهيئة حمامة وعرف انه امتلأ من ذلك الروح (ص 1: 32 و33 ولوقا 4: 1) وكان يسوع حاصلاً على كل مواهب الروح ومستعداً لإعلان أسرار الله. والكلام على المسيح هنا باعتبار كونه وسيطاً وكلمة الله المتجسد لا باعتبار كونه ابن الله المتحد منذ الأزل بالروح القدس. فمسحه الله بروحه لكي يمارس وظيفته ملكاً ونبياً وكاهناً لشعبه (إشعياء 61: 1 وأعمال 10: 38).
أعطى الله سائر الأنبياء من روحه في أوقات معينة لغايات خاصة. أما المسيح فكان روح الله عليه أبداً وكان هو ممتلئاً منه.
35 «اَلآبُ يُحِبُّ ٱلاَبْنَ وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ».
متّى 11: 27 و28: 18 ولوقا 10: 22 وص 5: 20 و13: 3 و17: 2 وعبرانيين 2: 8
اَلآبُ يُحِبُّ ٱلاَبْنَ زاد يوحنا المعمدان هذا على ما قاله آنفاً بياناً لأفضلية المسيح عليه وهو أن المسيح ابن وأن يوحنا وسائر الأنبياء والمعلمين ليسوا سوى خدام. وعرف أن الآب يحبه بالوحي والإعلان بصوت مسموع وهو قول الآب من السماء «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت». وكانت محبة الآب للمسيح أعظم من محبته لسائر أتقيائه الناس والأنبياء والرسل كما أن محبة الآب للإبن تكون أعظم من محبته للخدم (ص 17: 24).
وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ باعتبار كونه الوسيط لأمرين. الأول أن يكون قادراً على ممارسة عمل الفداء. والثاني الإثابة له على اتضاعه الاختياري.
وهذا وفق ما قيل في متّى 11: 27 وأفسس 1: 21 و22 وفيلبي 2: 9 وكولوسي 1: 19 - 20 انظر أيضاً الشرح متّى 28: 18 وهذا أي قوله «دفع كل شيء في يده» زيادة على قوله في الآية السابقة في شأن إعطائه الروح وتمييز بين ما وهبه الله للأنبياء من البشر من المواهب المعينة والقوة المحدودة وما أعطاه للمسيح. قابل هذا بما في (مزمور 2: 7 - 9). وأشار بقوله «في يده» إلى تصرف المسيح في كل شيء كما يشاء.
36 «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱلاَبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِٱلاَبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ ٱللّٰهِ».
حبقوق 2: 4 وص 1: 12 وع 15 و16 وص 6: 47 ورومية 1: 17 وايوحنا 5: 10
هذا البيان الأخير لأفضلية المسيح وهي قائمة ببيان أفضلية الإيمان به. فالحياة والموت أي السماء وجهنم بقبول ذلك الذي كان «مع المعمدان في عبر الأردن» (ع 26) أو برفضه.
اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱلاَبْنِ أي يقبله مخلصاً وحيداً كافياً ويتكل عليه ويعترف به. فإنه لكونه الابن كان الإيمان به. حياة النفس ورفضه موتها.
لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ المراد بالحياة هنا الحياة الروحية هي نجاة النفس من دينونة الخطية ولعنة الناموس وحصولها على غفران الخطايا والسلام مع الله والميراث السماوي. والكلام هنا غير مقصور على المستقبل بل يعم ما تناله النفس في حال قبولها المسيح فإنها في ذلك الوقت عينه «تنتقل من الموت إلى الحياة» وتحصل على بداءة السعادة التي تكون في السماء بلا نهاية. وهذا مطابق لقول المسيح في ع 15 و16 و18.
لَنْ يَرَى حَيَاةً ما دام غير مؤمن فلا يكون له أقل نصيب في بركات الحياة الروحية في هذا العالم ولا في العالم الآتي. ولأن المسيح المصدر الوحيد لتلك الحياة كان من لم يتحد به خالياً منها وليس له ملجأ من عواقب إثمه.
بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ ٱللّٰهِ أي الغضب الذي يوجبه الله على الخاطئ لخطيئته. وكل البشر عرضة لذلك الغضب لأنهم خطاة وفقاً لقول الرسول «وَكُنَّا بِٱلطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ ٱلْغَضَبِ كَٱلْبَاقِينَ أَيْضاً» (أفسس 2: 3). وهذا الغضب هو الذي احتمله المسيح بدلاً من الخطأة والذي ينجو منه كل من يؤمن باسمه (رومية 2: 8 وأفسس 4: 31 وكولوسي 3: 8 ورؤيا 19: 15) وقوله إنّ هذا الغضب يمكث على غير المؤمن يفيد أنه يمكث عليه الآن ويبقى إلى الأبد لسبب خطيئته كأن يسوع لم يمت عنه. وزاد على نفسه الغضب برفضه النعمة التي عرضها الله عليه بواسطة ابنه.
والله لا يظهر في هذا العالم غضبه على الخطأة غير المؤمنين لأنه يسر بأن يعطيهم فرصة للتوبة (2بطرس 3: 9) ولأن يسوع يشفع فيهم (لوقا 13: 8) لكنه لا يبقى بعد الموت وموقف الدين سوى غضب بلا رحمة.
وليس في ما قيل هنا ما ينافي «أن الله محبة» لأن الله أعد طريق النجاة من ذلك الغضب لكل إنسان وكلفه ذلك ما لا يُحد. وما جاء في هذه الآية شهادة يوحنا المعمدان الأخيرة للمسيح وخلاصة كل ما قاله فيه وهو تحذيره الأخير لتلاميذه وللأمة اليهودية. والأرجح أن المعمدان سُجن بعد ذلك بقليل. ولم يذكر البشير سجنه وموته مع ما يتعلق بها من الحوادث لأنه حسب قارئ بشارته عارفاً بذلك وهي ليست من مقاصد إنجيله. لكن ما قيل في ص 5: 35 يشير إلى أن خدمته كانت قد انتهت يومئذ. وأفضلية المسيح على يوحنا المعمدان خمسة أمور:
أولاً: أصل المسيح ع 31.
ثانياً: تعليمه فإنه تكلم من اختباره وكان تصديقه تصديق الله نفسه ع 32 و33.
ثالثاً: أن له الروح بلا كيل ع 34.
رابعاً: أنه ابن الله وله كل سلطان ع 35.
خامساً: أن نتيجة قبوله أو رفضه ذات شأن عظيم جداً.
1 «فَلَمَّا عَلِمَ ٱلرَّبُّ أَنَّ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ سَمِعُوا أَنَّ يَسُوعَ يُصَيِّرُ وَيُعَمِّدُ تَلاَمِيذَ أَكْثَرَ مِنْ يُوحَنَّا».
ص 3: 22 و26
ٱلرَّبُّ اعتاد التلاميذ أن يلقبوا يسوع بالرب بعد صعوده وتمجيده وكثر منهم ذلك في الرسائل وندر في البشائر.
ٱلْفَرِّيسِيِّينَ هم فرقة من اليهود اشتهروا بشدة الغيرة لشريعة موسى وتقاليد الشيوخ وامتازوا على سائر الفرق اليهودية بمقاومتهم ليسوع (انطر الشرح متّى 3: 7).
سَمِعُوا أَنَّ يَسُوعَ الخ مضمون هذا الكلام مضمون الخبر الذي أنبأ به يوحنا تلاميذه بقولهم «هُوَ يُعَمِّدُ، وَٱلْجَمِيعُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ» (ص 3: 26). والفريسيون كانوا قد أرسلوا لجنة إلى المعمدان تسأله لماذا يُعمد (ص 1: 24) ولم يُسروا بوعظ يوحنا (متّى 3: 7 و20: 25). وكرهوا وعظ يسوع أكثر من ذلك وعندما سمعوا نبأ نجاحه اغتاظوا واشتدت مقاومتهم إيّاه. ولأن ساعة موت يسوع لم تكن قد أتت رأى أن يذهب إلى موضع آخر حيث أعداؤه أقل عدداً وقوة.
2 «مَعَ أَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ يُعَمِّدُ بَلْ تَلاَمِيذُهُ».
1كورنثوس 1: 14 إلى 17
ظن الفريسيون بناء على الخبر الذي بلغهم أن يسوع نفسه كان يعمد فجاء البشير بما ذكره هنا بياناً للواقع. ولعل الأسباب التي منعت يسوع عن التعميد بيده الخوف من أن تلاميذه يستنتجون من عمله أن رسم المعمودية يستحق اعتباراً أكثر مما يليق به وارادته أن يشغل وقته بالتبشير لا بشيء آخر. وكون التعميد بالروح القدس عمله الخاص وهذا أعظم تلك الأسباب.
3 «تَرَكَ ٱلْيَهُودِيَّةَ وَمَضَى أَيْضاً إِلَى ٱلْجَلِيل».
تَرَكَ ٱلْيَهُودِيَّةَ بعد ما تقضى عليه فيها نحو ثمانية أشهر. وعلة تركه اليهودية حسد الفريسيين وبغضهم إياه ومؤامرتهم عليه وهي التي منعته عن التبشير وجعلت حياته في خطر قبل إتيان الساعة المعينة لموته (ص 7: 30).
وَمَضَى أَيْضاً قال البشير هذا لأن يسوع كان قد زار الجليل قبل هذا زيارة قصيرة وقد ذُكرت في (ص 2: 12).
إِلَى ٱلْجَلِيلِ هي القسم الشمالي من أقسام الأرض المقدسة الثلاثة وفي نحو هذا الوقت ألقى هيرودس يوحنا المعمدان في السجن (متّى 4: 12 ومرقس 1: 14). ولم يذكر متّى ومرقس عِلل ذهاب يسوع يومئذ إلى الجليل إنما اقتصروا على ذكرها أن ذلك كان وقت إلقاء يوحنا في السجن وهي أن سلطة الفريسيين أعداء المسيح كانت في الجليل أقل منها في اليهودية وأن أهل الجليل كانوا أكثر رغبة في قبول تعليمه من أهل اليهودية وأنه استحسن أن يعظ هنالك أكثر مواعظه ويصنع أوفر معجزاته ويتخذ معظم تلاميذه.
ولنا مما فعله المسيح الإباحة للمسيحي في وقت الاضطهاد والخطر بترك مكانه والذهاب إلى حيث يأمن على سلامته وحياته ويستطيع أن ينفع غيره.
4 «وَكَانَ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ ٱلسَّامِرَة».
بين اليهودية والجليل طريقان تمر إحداهما بالسامرة وهي مستقيمة وأقرب من الأخرى. وتمر الأخرى ببيرية شرقي الأردن سار فيها المسيح في سفره الأخير من الجليل إلى أورشليم (متّى 19: 1 ومرقس 10: 1). وقوله «لا بد له الخ» مبني على اضطراره أن يتمم مقاصد الله في السامرة وعلى رغبته في تبشير أهلها أو على قصده الطريق الأقرب.
ٱلسَّامِرَةَ هي القسم الأوسط من أقسام الأرض المقدسة الثلاثة سُميت باسم قاعدتها التي بناها عَمري ملك أسباط إسرائيل العشرة سنة 920 ق. م (1ملوك 16: 23 و24) وجدد بناء تلك القاعدة هيرودس الكبير وزينها وسماها سيبستي إكراماً لأغسطس لان سيبستي اسمه في اليونانية. وهي الآن قرية حقيرة مبنية على أطلال القديمة واسمها سيبسطية.
ظن بعضهم أن البشير ذكر ما ذكره هنا دفعاً لشبهة التناقض بين ذهاب المسيح إلى السامرة وأمره للتلاميذ بقوله «إِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا» (متّى 10: 5) وبياناً أن ذهابه إليها كان لمجرد المرور في الطريق ولكن الأرجح أن المسيح أراد بذلك الذهاب أن يترك لتلاميذه مثالاً في ما يجب عليهم أن يفعلوه بعد موته والمناداة بإنجيله أولاً بين اليهود وهو أن يبشروا بالإنجيل كل قبائل الأرض.
5 «فَأَتَى إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ ٱلسَّامِرَةِ يُقَالُ لَهَا سُوخَارُ، بِقُرْبِ ٱلضَّيْعَةِ ٱلَّتِي وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ٱبْنِهِ».
قضاة 9: 7 و46 و1ملوك 12: 25 وإشعياء 28: 1،تكوين 33: 19 و48: 22 ويشوع 24: 32
سُوخَارُ ظنها بعضهم شكيم (تكوين 23: 18 وقضاة 9: 7) وتسمى اليوم نابلس. وهذا الظن لم يثبت لأن شكيم تبعد عن بئر يعقوب ميلين أي أكثر من نصف ساعة. وهي وافرة الماء فلم يكن من داع لأحد سكانها أن يذهب منها إلى تلك البئر للاستقاء. والأرجح أنها كانت قرب البئر وهي خربة تُسمى عسكر.
وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ٱبْنِهِ الأرجح أن ما وهبه يعقوب ليوسف اشترى بعضه (تكوين 33: 19) وملك البعض الآخر بالحرب (تكوين 48: 22) وهنالك دُفنت عظام يوسف (قابل ما في تكوين 33: 19 بما في يشوع 24: 32).
6 «وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ ٱلسَّفَرِ، جَلَسَ هٰكَذَا عَلَى ٱلْبِئْرِ، وَكَانَ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَة».
بِئْرُ يَعْقُوبَ ذُكر أن يعقوب اشترى تلك الأرض في (تكوين 33: 18 - 20) ولكن لم نجد من ذكر أنه حفر تلك البئر ولما قسم يشوع الأرض على الإسرائيليين كانت تلك الأرض في سهم أفرايم (يشوع 21: 21 و24: 32). وهناك اليوم بئر تُسمى بئر يعقوب في سهل بين جبل جرزيم وجبل عيبال قاس بعضهم عمقها فوجده مئة قدم وخمسة أقدام، خمس عشرة قدماً منها تحت الماء وقطرها نحو تسع أقدام. ثم وجد بعضهم أنه قد طُرح فيها مقدار عظيم من الحجارة والتراب حتى نقص عمقها فلم يكن سوى نحو خمس وسبعين قدماً وخلت من الماء. وقد سُد فمه إلا قليلاً بما سقط عليه من كبار الحجارة. ويصعب علينا أن نرى سبباً لحفر تلك البئر في أرض كثيرة العيون والينابيع إلا إذا قيل أن يعقوب أراد الاستغناء ببئره عن كل ماء لجيرانه وأن يثبت بحفرها ملكه لتلك الارض.
إِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ ٱلسَّفَرِ تعب لأنه كان إنساناً تاماً كما كان إلهاً تاماً ولأنه قطع ماشياً المسافة من أورشليم إلى بئر يعقوب وهي نحو أربعين ميلاً أو مرحلتين.
وقد أظهر رب المجد غاية التنازل لأجلنا لأنه مع كونه «خَالِقُ أَطْرَافِ ٱلأَرْضِ لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَعْيَا» (إشعياء 40: 28) «اَلْمُفَجِّرُ عُيُوناً فِي ٱلأَوْدِيَةِ» (مزمور 104: 10) عرّض نفسه للتعب والعطش بالجولان ماشياً في حرّ الصيف وبرد الشتاء حتى احتاج إلى الراحة وطلب شربة ماء من غريبة استثقلت أن تجيب طلبه.
جَلَسَ هٰكَذَا عَلَى ٱلْبِئْرِ أي في الحال التي كان عليها وهو تعب ليس له شيء يجلس عليه سوى حجر البئر. وذكر البشير ذلك بياناً لعلة جلوسه. ولنا في هذا مثال القناعة. ويتبيّن جلياً بمقابلتنا حال المسيح في سفره وقتئذ بحالنا في السفر اليوم على أن قليليين من الناس يرضون أن يحتملوا مشقات المسيح في أسفارهم.
ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ أي الظهر.
7 «فَجَاءَتِ ٱمْرَأَةٌ مِنَ ٱلسَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً، فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: أَعْطِينِي لأَشْرَبَ».
ٱمْرَأَةٌ مِنَ ٱلسَّامِرَةِ ليس المراد أنها مدينة السامرة لأنها كانت على أمد ثلاث ساعات من تلك البئر بل إنّها من السامريين جنساً وديناً والأرجح أنها من قرية عسكر.
رضي المسيح أن يلفظ موعظة من أحسن مواعظه لإنسان واحد وهو امرأة نصف وثنية ونصف يهودية وأن يكون منبره حجر البئر. وأظهر بما أتاه حينئذ قيمة نفس واحدة في عينيه وترك لخدم الدين مثالاً لئلا يتخذوا تعب الجسد عذراً لتركهم الفرصة المناسبة لعمل الخير.
فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: أَعْطِينِي لأَشْرَبَ كان وقتئذ الظهر ويسوع تعب من المشي فلا شك في أنه كان عطشان وهذا علة طلبه الماء على أنه اتخذ ذلك الطلب وسيلة إلى افتتاح الحديث مع المرأة لإفادة نفسها. ومن المعلوم أنك إذا سألت أحداً معروفاً جعلته راضياً عنك لأن في سؤالك اعترافاً له بالفضل وبأنه يملك ما لم تملكه أنت.
8 «لأَنَّ تَلاَمِيذَهُ كَانُوا قَدْ مَضَوْا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لِيَبْتَاعُوا طَعَاماً».
ذكر البشير هذا بياناً لعلة طلب المسيح الماء من المرأة السامرية لا من تلاميذه.
9 «فَقَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ ٱلسَّامِرِيَّةُ: كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا ٱمْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟ لأَنَّ ٱلْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ ٱلسَّامِرِيِّين».
2ملوك 17: 24 ولوقا 9: 52 و53 وأعمال 10: 28
كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ هذا الاستفهام للتعجب لا للاستخبار. وطلب الإنسان شربة ماء من الأمور العادية فليس فيه ما يحملها على الاستغراب لولا البغض بين اليهود والسامريين الذي كان قد مر عليه يومئذ نحو خمس مئة سنة. وذلك منذ إتيان أسرحدّون ملك أشور بخمس أمم وثنية وإسكانه إيّاها في الأرض التي سبى منها عشرة أسباط إسرائيل (2ملوك 17: 24 - 41 عزرا ص 4 راجع الشرح متّى 10: 5 ولوقا 9: 52). وليس في كلامها هذا من رفض خالص لطلب المسيح ولا من إجابة.
وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ عرفت أنه يهودي إما من هيئته وإما من لهجته وإما من كليهما.
لأَنَّ ٱلْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ ٱلسَّامِرِيِّينَ قال البشير هذا بياناً لعلة جوابها. قال أحد الربانيين من أكل من اليهود شيئاً من خبز السامريين فكأنه أكل من لحم الخنزير. ويتضح من هذا أنه لم تكن من معاملة بين اليهود والسامريين بعد ذلك أن يبيت المسيح وتلاميذه في إحدى قراهم ليلة واحدة (لوقا 9: 52) وهذا لا يستلزم المنافاة كما سبق من ان التلاميذ مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعاماً لأن ربانيي اليهود أجازوا من طعام السامريين الفواكه والبقول والبيض. وأن عامة الإسرائيليين لم يتمسكوا على الدوام بكل تعصبات الرؤساء.
وأعنف الخصومات ما نتجت عن الاختلال الديني وهذا ليس من شريعة الله لأنه يريد أن يعامل الناس بعضهم بعضاً كإخوة ولكن الناس اضطهد بعضهم بعضاً لأن بعضهم يعبده تعالى في مكان والآخر يعبده في مكان آخر.
10 «أَجَابَ يَسُوعُ: لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ ٱللّٰهِ، وَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّا».
إشعياء 12: 3 و44: 3 وإرميا 2: 13 وزكريا 13: 1 و14: 8
لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ جهل الناس حقيقة المسيح من الأسباب لرفضهم نعمته.
عَطِيَّةَ ٱللّٰهِ وهي يسوع المسيح ابن الله الحبيب (ص 3: 16).
وَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَقُولُ لَكِ ظنته المرأة إنساناً يهودياً معيياً محتاجاً إلى شربة ماء لانتعاش جسده وجهلت كونه «عطية الله» والمرسل منه بل الله نفسه متجسداً الذي في يده قدرة لا تُحد وفي قلبه حنّو لا يقاس.
لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ عدل المسيح عن بيان حاجته إليها إلى بيان حاجتها إليه وأنه قادر على أن يهب لها عطية أعظم مما طلبه منها. ومضمون ما قاله لها أنه لو عرفت وظيفة المسيح وما أتى به من المواهب المحيية نفوس الناس وأنه هو الذي يخاطبها حينئذ لطلبت منه أعظم البركات ونالتها منه.
فَأَعْطَاكِ جعل المسيح الطلب الشرط الوحيد للنوال بقوله «لطلبت أنت منه فأعطاك» وجعل جهلها إياه العلة الوحيدة لعدم طلبها بقوله «لو كنت تعلمين... لطلبت الخ».
مَاءً حَيّاً أي دائم الجريان من نبع لا من جمع. والمقصود به هنا كل ما ينال به الإنسان الخلاص والحياة الأبدية وما يروى ظمأ النفس الروحي إلى الأبد. وهذا يتضمن غفران الخطيئة والسلام مع الله والنعمة والتبرير والتقديس. والمسيح بهبته نفسه لنفس الإنسان وبإعطائه إياه مواهب الروح القدس يؤكد له كل ما ذُكر.
وكثيراً ما أُستعير الماء للبركات الروحية في الكتاب المقدس منها ما يأتي (مزمور 23: 2 و36: 8 وإشعياء 55: 1 وإرميا 2: 13 و19: 13 وحزقيال 36: 25 وزكريا 13: 1 والجامع بينهما التطهير والإحياء.
وإن قيل ماذا حمل المسيح على المجاز أي استعارة الماء الحي لنعمته قلنا أولاً جعل كلامه في الروحيات متعلقاً بما سبق فإنه طلب منها ماء لرواء جسده فوعدها بماء لرواء نفسها.
ثانياً: حمل المرأة على فرط الإصغاء إليه لأن العقل البشري مطبوع على لذة التدرج من الخفاء إلى الوضوح والانتقال من الرمز إلى المرموز إليه.
كما أن المسيح أظهر حكمته بدعوته بطرس وأندراوس من تلاميذ صيادي السمك إلى اتباعه بقوله «هلمّ ورائي فأجعلكما صيادي الناس» ورغبة الجموع الذين تبعوه بعد معجزته إشباع ألوف ببضعة أرغفة في الطعام الروحي بقوله «أنا خبز الحياة» كذلك أظهر حكمته في مخاطبة المرأة السامرية التي أتت إلى بئر يعقوب لتستقي الماء في الماء الحي ليرقي أفكارها من البركات الجسدية إلى البركات الروحية التي الماء إشارة إليها.
11 «قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: يَا سَيِّدُ، لاَ دَلْوَ لَكَ وَٱلْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ ٱلْمَاءُ ٱلْحَيُّ؟».
يَا سَيِّدُ هذا يدل على تأثير كلامه فيها لأنها أخذت تخاطبه بألقاب الاعتبار التي لم تلتفت إليها أولاً فبدلت قولها يهودي (ع 8) بقولها «يا سيد».
والظاهر لنا من هذه الآية أن المرأة لم تفهم معنى المسيح الروحي بل أخذت كلامه على ظاهر معناه وفهمت بالماء الحي الماء المادي كما جاء في (تكوين 26: 19 ولاويين 14: 5). ولا عجب من أنها لم تدرك معنى كلام المسيح الروحي فإنها لم تكن أقل ذكاء من نيقوديموس في إدراك الروحيات (ص 3: 4). وليس في جوابها رفض لعطية المسيح بل التعجب من وعده إياها لما لا وسيلة له إليه. فكأنها قالت إن كنت قد قصدت بالماء الحي ماء هذه البئر فلست قادراً على أن تعطيني إياه إذ لا دلو لك ولا حبل وإن كنت عنيت أنك تعطيني ماء أحسن من ماء هذه البئر فقد ادعيت أنك أعظم من يعقوب. وأما قولها أن البئر عميقة فهو صحيح لأن عمقها نحو تسعة وأربعين ذراعاً كما أنبأ الذين قاسوه.
12 «أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، ٱلَّذِي أَعْطَانَا ٱلْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟».
أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ أي لا ريب في أنك لست بأعظم.
مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ ادعى السامريون نسبتهم إلى يعقوب بناء على تقليدهم أنهم سلالة ابني يوسف ابنه افرايم ومنسى. ولا سند لهم في ذلك سوى أن بقايا ذينك السبطين بعد السبي اختلطوا بالأمم الخمس التي هي أصل السامريين. ولا برهان لهم على أن يعقوب أعطاهم تلك البئر إلا أنهم سكنوا أرضها التي وهبها يعقوب ليوسف ع 6. ومعناها أن هذه البئر اكتفى بها يعقوب وأولاده ومواشيه وسُروا بها فكيف تستطيع أنت أن تعطي ماء أفضل من مائها ولماذا أطلب أنا أحسن منه. فعظمت البئر لعظمة الذي حفرها واتخذ ماءها. أو لعلها أرادت ما معناه هل تدّعي أنت أنك نبي كموسى قادر أن تضرب الصخرة فتخرج منها ماء حياً.
13 «أَجَابَ يَسُوعُ: كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هٰذَا ٱلْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضا».
لم يجبها يسوع بأنه أعظم من يعقوب بصريح العبارة بل أفادها ذلك بطريق الكناية إذ قال ما مفاده أن عطيته أعظم من عطية يعقوب. وهذا حق لأن المسيح أعظم من يعقوب وسائر الآباء والأنبياء والرسل.
هٰذَا ٱلْمَاءِ الذي تقولين أن يعقوب أعطاك إياه.
يَعْطَشُ أَيْضاً هذا مما تيقنته المرأة باختبارها. وما صدق على هذا الماء يصدق على كل بركة جسدية فإنها لا تقوم بالحاجة إلا وقتاً قصيراً ثم يعود الاحتياج إلى مثلها. فحقق لها بذلك أنه لو أعطاها من أصل ينبوع ذلك البئر ماء لما كان ما يعطيها خيراً دائماً. وبمثل هذا أظهر لليهود عدم كفاية المن الذي أُعطي على يد موسى بياناً لأفضلية ما يعطيه هو من خبز الحياة بقوله «آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا ٱلْمَنَّ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا... أَنَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلْحَيُّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هٰذَا ٱلْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ» (ص 6: 49 و51).
14 «وَلٰكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ، بَلِ ٱلْمَاءُ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ».
ص 6: 35 و58 ص 7: 38
مَنْ يَشْرَبُ أي يقبل قبولاً تاماً أو يؤمن حق الإيمان.
ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا أي نعمتي وخلاصي والروح القدس الذي أنا أرسله.
فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ أي يحصل على كل ما يشتاقه أو يحتاج إليه من البركات الروحية. والمجاز هنا كالمجاز في (ص 6: 51 ورؤيا 7: 16 و21: 6).
بَلِ ٱلْمَاءُ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ ببذل حياتي من أجل العالم وبإقامتي بقلب المؤمن (ص 14: 19 و23) وبإرسال الروح القدس إلى ذلك القلب (ص 7: 39 و16: 14 و15 و17: 23). وشرح المسيح في هذا العدد الماء الحي ووصفه بأربعة أمور:
الأول: أنه هو الذي يعطيه تمييزاً له عن الماء الذي أعطاه يعقوب.
الثاني: أنه يروي ظمأ النفس أكمل رواء بأنها تشفي أشواقها بالاتحاد بالله وبالمصالحة له وبمعرفة الحق وراحة الضمير وبمغفرة الإثم وبالقداسة والقناعة والسعادة.
الثالث: أنه يغني من حصل عليه بالإيمان عن كل وسائل السعادة الخارجية فكأنه يكون فتح في قلبه ينبوع الفرح الروحي فيستطيع أن يستقي «مِيَاهاً بِفَرَحٍ مِنْ يَنَابِيعِ ٱلْخَلاَصِ» (إشعياء 12: 3).
الرابع: أنه دائم إلى الأبد يبقى لمن حصل عليه مع كل النوازل التي تحل به حتى الموت نفسه لأن مصدر ذلك الماء هو الله «ساكن الأبد» وهو يجري من الله إلى قلوب المؤمنين (رومية 8: 35 - 39 و2تيموثاوس 1: 12).
15 «قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هٰذَا ٱلْمَاءَ، لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ».
ص 6: 34 و17: 2 و3 ورومية 6: 23 و1يوحنا 5: 20
لم تدرك المرأة تمام معنى المسيح لكنها صدقت أنه قادر على إعطائها عطية زمنية عجيبة تغنيها عن التعب والعناء في الإتيان إلى تلك البئر. وكلامها يشبه قول اليهود في كفرناحوم «يا سيد أعطنا في كل حين هذا الخبز» في أنهم لم يقصدوا به سوى النفع المادي مثلها. أما هي فأصابت إلى حد أنها قالت «أعطني» وشعرت بأنها محتاجة إلى شيء يقدر المسيح أن يهبه لها إذ وعدها بذلك بقوله «لطلبت أنت منه فأعطاك» (ع 10) فطلبت وإن لم تفهم كل المراد مما طلبت وحصلت على أكثر مما توقعت بما لا يوصف.
16 «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: ٱذْهَبِي وَٱدْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى هٰهُنَا».
عدل المسيح من هنا عن مخاطبة المرأة بالمجاز إذ نال به غايته من تنبيه ذهنها وحملها على زيادة الإصغاء إلى كلامه وطلب الماء الحي منه. وبقي أن يبيّن لها أنه يعلم ما لم يستطع أحد من الناس أن يعلمه ويُعدها بذلك إلى التسليم بأنه المسيح والشعور بانها خاطئة. فإنه عرف سيرتها الماضية وماذا يكون تأثير كلامه فيها بتبيين هذه المعرفة لها. فكان كطبيب ماهر يعالج النفوس بأن جعلها تشعر بمرض نفسها واحتياجها إلى الشفاء ليرشدها إلى الدواء الروحي. وهذه غايته من قوله «اذهبي وادعي زوجك الخ» وسلك هذا السبيل ليعطيها الماء الحي إجابة لطلبتها وهي قولها «أعطني هذا الماء» أي ليقودها أولاً إلى الشعور بالخطيئة ثم إلى التوبة ثم إلى الإيمان بأنه هو المسيح.
17 «أَجَابَتِ ٱلْمَرْأَةُ: لَيْسَ لِي زَوْجٌ. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: حَسَناً قُلْتِ لَيْسَ لِي زَوْجٌ».
صدقت هذه المرأة ولم تدّع أن الرجل الذي كانت تعيش معه زوجها الشرعي. أظهر المسيح حكمته بمدحه إياها على صدقها باعترافها بدلاً من توبيخه إياها على خطيتها لأنه لو لامها لقست قلبها وانصرفت عنه غاضبة وما أصغت إلى كلامه بعد.
18 «لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَٱلَّذِي لَكِ ٱلآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هٰذَا قُلْتِ بِٱلصِّدْقِ».
هذا بيان أنها كانت خاطئة متعدية الوصية السابعة من وصايا الله العشر وأنها لا تزال عائشة في الزنا.
وكما عرف المسيح خطايا تلك المرأة الخفية يعرف خفايا كل إنسان في كل حين وموضع.
قُلْتِ بِٱلصِّدْقِ مدحها المسيح ثانية على صدقها بإقرارها. وهذا وفق قول الكتاب «مَنْ يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لاَ يَنْجَحُ، وَمَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ» (أمثال 28: 13) وقوله «إِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (1يوحنا 1: 9) والظاهر أن تلك المرأة وإن كانت خاطئة لم تكن قاسية القلب حتى تنكر إثمها أو تعتذر عليه.
19 «قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ!».
لوقا 7: 16 و24: 19 وص 6: 14 و7: 4
ما قالته هذه المرأة هنا يدل على تغيّر أفكارها تغيّراً عظيماً من جهة مُخاطبها. وفي كلامها تسليم بصدق قوله عليها.
أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ تيقّنت استحالة أن شخصاً غريب المكان يهودياً يعرف ما عرف من أمرها وهو مجرد إنسان وتحققت كونه معلماً إلهياً مرسلاً من الله ليُعلن الحق للناس. وتحققت عظمة يسوع بمثل البرهان الذي تحقق به نثنائيل عظمته (ص 1: 48 و49). لكنها لم تكن قد تحققت أنه هو المسيح ع 25 فكان إيمانها به كإيمان التلميذين الذاهبين إلى عمواس (لوقا 24: 19).
20 «آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيه».
قضاة 9: 7، تثنية 12: 5 و11 و1ملوك 9: 3 و2أيام 7: 12
اعتبرته نبياً يعلم كل شيء فابتغت أن يفيدها جواب سؤال مقدر هو أين محل العبادة المقبولة وكان هذا من أهم الأمور عندها. ولعلها أرادت معرفته منذ زمن طويل وهو جوهر الاختلاف بين دين السامريين ودين اليهود وعلة البغض الشديد بينهما. فكأنها قالت لنفسها إن كان الحق في هذا مع السامريين كان الحق معهم في سائر الاختلافات.
ولا دليل في كلامها أنه أرادت العدول عن الكلام على خطاياها إلى موضوع آخر بل رغبت في أن تستعلم من ذلك المعلم الإلهي طريق الصواب إلى عبادة الله. وظهر بسؤالها ذلك منه أنها خالية من كل تعصب ديني يمنعها من قبول الإرشاد من يهودي وهي سامرية.
آبَاؤُنَا المرجح أنها أرادت بهؤلاء الآباء السامريين الذي سجدوا في جبل جرزيم منذ عصر نحميا.
فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ أي جبل جرزيم المشرف على شكيم أي نابلس القريب من بئر يعقوب حيث هما. وكان السامريون قد بنوا هيكلاً هنالك سنة 332 ق . م هدمه يوحنا هركانوس سنة 129 ق. م. ولكن ذلك لم يثن السامريين عن إقامة العبادة هناك وحسبوا ذلك الجبل أقدس جبال الأرض وأثبتوا ادعاءهم أقدسيته بما جاء في (تثنية 27: 4) بادلين في نسختهم «جبال عيبال» بجبل جرزيم وبما جاء في (تكوين 12: 6 و7 و13: 4 و33: 18 و20) وظنوا أنه هو الجبل الذي ذهب إليه إبراهيم ليقدم عليه إسحاق.
وكثيرون من الناس في كل عصر يسلكون مسلك هذه المرأة بأن يعبدوا الله كما عبده آباؤهم ويؤمنون به كما آمنوا مستندين استنادها بقولهم «آباؤنا سجدوا الخ» ونحن على آثارهم مقتفون.
وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ لم تزل مع اعتقادها أنه نبي تعتبره يهودياً.
فِي أُورُشَلِيمَ الخ اختار داود ذلك الموضع للعبادة بإرشاد الله (1أيام 21: 26 و22: 1). وأخبر الله سليمان بأنه قبل أورشليم موضعاً لعبادته (2أيام 6: 12 انظر أيضاً مزمزر 78: 68 و69 و132: 13 و14). وفي هذا العدد إيجاز الحذف فلو ذكرته لقالت «وأنت ماذ تقول أي المكانيين ينبغي أن يُسجد فيه وأي مكان قصده موسى بما قاله» في (تثنية 12: 5 - 7).
21 «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا ٱمْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ».
ملاخي 1: 11 و1تيموثاوس 2: 8
يَا ٱمْرَأَةُ، صَدِّقِينِي قال هذا تأكيداً لكلامه وتنبيهاً على أهميته. دعته هي نبياً وهو علمها باعتبار كونه نبياً وأمرها بتصديق كلامه كما يحق لكلام الأنبياء فهو بمنزلة قوله لتلاميذه «الحق أقول لكم» (متّى 5: 18).
تَأْتِي سَاعَةٌ أي وقت كما في (ص 2: 4 و5: 25 و28 و34) وهو زمان الإنجيل. وفي هذا العدد إشارة إلى بداءة نظام جديد وإزالة النظام القديم الذي استمر نحو 1500 سنة وأوجب فيه على اليهود أن يذهبوا ثلاث مرات في السنة ليعبدوا الله في مكان مُعين. وأن ذلك لا يكون بعد أربعين سنة حين تهدم مدينة اليهود وهيكلهم كما هُدم الهيكل في جرزيم قبل وقت هذا الكلام بنحو 160 سنة بل ابتدأ الآن.
لاَ فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ أي أنتم أيها السامريون. ولا ريب في أن هذه المرأة توقعت أن يقول لكونه يهودياً أن موضع السجود هو أورشليم وأنها تعجبت لما سمعته قال خلاف ذلك أي أن لا فرق في الأمكنة فلا يجب على اليهود أن يسجدوا في جرزيم ولا على السامريين أن يسجدوا في أورشليم. وأبان لها أن سؤالها الذي ظهر لها مهماً جداً وكان كذلك في الأزمنة الماضية ليس بمهم بعد.
وأعلن يسوع للعالم بما قال هنا إعلاناً جديداً مغايراً لكل الرسوم الماضية ولاعتقاد كثيرين في هذه الأيام لأن الله كان قد عين محال خاصة للعبادة وكان لا بد من تلك المحال مدة بقاء الديانة مفتقرة إلى الرموز والطقوس عن تلك المحال لأنها كانت كلها رموزاً إلى المسيح والمرموز إليه قد أتى فلم تبق حاجة إليه.
لِلآبِ أحب يسوع أن يعبر للناس عن الله بهذا الاسم باعتبار أنه تعالى آب للناس لعنايته بهم وحبه إياهم على السواء وجعل يسوع بهذا القول اليهود والسامريين في منزلة واحدة أمام الله وذلك خلاف اعتقاد اليهود أنه أبوهم دون غيرهم. نعم إن الله قال لفرعون «إسرائيل ابني» (خروج 4: 22) ولكن الآن بالمسيح صار جميع البشر أولاد الله.
وفي ما ذكره المسيح للمرأة قاعدتان أولاً. أنه يجوز تقديم العبادة إلى الله في كل مكان.
ثانياً: أنه إذا اقتربنا إلى الله يحق لنا أن ندنو منه تعالى كالأولاد من أبيهم.
22 «أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ لأَنَّ ٱلْخَلاَصَ هُوَ مِنَ ٱلْيَهُودِ».
2ملوك 17: 29، إِشعياء 2: 3 ولوقا 24: 47 ورومية 3: 1 و2 و9: 4 و5
لم يرد المسيح أن تستنتج المرأة من جوابه أن ديانة السامريين تسرّ الله كديانة اليهود.
أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ قال هذا بنسبة معرفة السامريين إلى معرفة اليهود. فإن تاريخهم الأصلي أبان جهلهم الله لأنهم أشركوا به بعبادتهم الأوثان معه (2ملوك 17: 24 - 34) وأن معرفتهم بالله كانت ناقصة وأكثرها من تعاليم الناس رفضهم أكثر الأسفار التي أعلن الله مشيئته فيها وتعاليم الأنبياء الذين أرسلهم الله مع أنه لا يستطيع الإنسان أن يعرف الله حق المعرفة وطريق عبادته إلا بمعلناته.
أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ هذه المرة الوحيدة تكلم المسيح باعتبار كونه يهودياً وهو جواب قول المرأة في العدد العشرين «وأنتم تقولون الخ».
لِمَا نَعْلَمُ لأن لنا إعلاناً كاملاً من شأن الله. قال ذلك تمييزاً لليهود على السامريين لأنهم قبلوا كل أسفار العهد القديم والسامريون قد رفضوا أكثرها.
لأَنَّ ٱلْخَلاَصَ هُوَ مِنَ ٱلْيَهُودِ بدل المسيح هنا الكلام في معرفة الله وعبادته بالكلام على الخلاص لأن الخلاص هو غاية تلك المعرفة وتلك العبادة.
وخصّص الخلاص باليهود لثلاثة أسباب:
أولاً: إن الله أعلن كل ما يتعلق بالخلاص لليهود. وأوضح معلنات الخلاص في نبوءات العهد القديم وهذه قبلها اليهود ورفضها السامريون فلذلك نال اليهود من معرفة المسيح والخلاص ما لم ينله السامريون.
ثانياً: إن يسوع المسيح المخلّص وُلد في الأمة اليهودية.
ثالثاً: إن الله جعل الأمة اليهودية وسيلة إيصال الخلاص إلى سائر أمم الأرض لأن عبادة تلك الأمة كانت استعداداً للعبادة المسيحية. وكانت أنبياؤها وكهنتها وملوكها وذبائحها وكل طقوسها رموزاً إلى المسيح وكانت كتبها الدينية تنبئ بذلك الخلاص. وأن المسيح نفسه وُلد من عذراء يهودية في قرية يهودية. ومارس معظم أعماله وتعليمه بين اليهود. وقدم نفسه ذبيحة إثم في أورشليم قاعدة اليهودية. وكان أول المبشرين بالإنجيل يهود. وأول انتصارات الإنجيل في بلاد اليهود وهناك انسكب الروح القدس بقوة وانتظمت الكنيسة المسيحية.
23 «وَلٰكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ ٱلسَّاجِدُونَ ٱلْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ، لأَنَّ ٱلآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هٰؤُلاَءِ ٱلسَّاجِدِينَ لَهُ».
فيلبي 3: 3، مزمور 145: 18 وص 1: 17
تفيدنا هذه الآية أن الخلاص لم ينحصر باليهود وإن كان الخلاص منهم.
وَهِيَ ٱلآنَ أي الساعة المذكورة في ع 21 وهي زمن الإنجيل الذي أوله يوم أتى المسيح وأعلن تعليمه الروحي وآخره اليوم الأخير.
ٱلسَّاجِدُونَ ٱلْحَقِيقِيُّونَ لا اليهود خاصة ولا السامريون ولا الأمم ولا الذين يعبدون الله في موضع دون آخر بل هم المخلصون المقدمون العبادة القلبية الروحية المرضية لله لا المراؤون المقدمون مجرد العبادة الظاهرة الرمزية.
يَسْجُدُونَ لِلآبِ تدل القرينة على أن المراد هو أن الساجدين الحقيقيين يعرفون من يعبدونه حق المعرفة ويعتبرونه أباً لا كالذين يسجدون لمن لا يعلمون كالسامريين المذكورين في ع 22 وعلى أن العبادة الحقيقية لا تقيد بمكان دون آخر ولا بأمة دون غيرها. فيمكن أن تُؤتى في كل مكان من أيٍّ كان وأن يقترب الإنسان إلى الله كما يقترب الولد من أبيه بوقار وثقة ومحبة.
بِٱلرُّوحِ أي بالقلب لا بمجرد الشفتين. وهذا هو الأمر الجوهري في العبادة وما سواه عرض كالموضع واللغة وهيئة العابد ووضعه. وتكون العبادة بالروح إذا قُدمت بمعونة الروح القدس وتعليمه (رومية 8: 26) ونتجت عن أشواق روحية تدل على حياة العابد الروحية ( 1كورنثوس 6: 19 قابل ما في رومية 1: 9 بما في أفسس 6: 18).
وَٱلْحَقِّ لأن مجرد الإخلاص لا يكفي إذ يمكن الإنسان أن يعبد الشمس بالإخلاص. فالعبادة المقبولة تتضمن معرفة الله وطريق الاقتراب منه كما أعلنها يسوع المسيح الذي هو الحق. وأن تكون صحيحة لا ظاهرة فقط (مزمور 145: 18) وأن لا تكون بواسطة ظلال النظام الموسوي ورموزه بل بواسطة نور النظام المسيحي الكامل. وفي هذه العبارة بيان الفرق بين الديانة المسيحية وسائر الأديان.
لأَنَّ ٱلآبَ سمى يسوع هنا الله «بالآب» ثلاث مرات (ع 21 و23) إشارة إلى أنه إله المحبة لا إله النقمة والقدرة فقط.
طَالِبٌ مِثْلَ هٰؤُلاَءِ الخ لا يعتبر الله من الألوف وألوف الألوف الساجدين إلا الذين يسجدون له بالروح والحق. والكلام يدل على أن هؤلاء قليلون وأن الله يسر بهم غاية المسرة حيث كانوا. وأنه أرسل ابنه إلى العالم ليجمعهم. وهذا علة مخاطبة يسوع لتلك السامرية.
24 «اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا».
2كورنثوس 3: 17، أعمال 7: 48 و17: 25 ويهوذا 20
اَللّٰهُ رُوحٌ هذا سبب ثان لوجوب أن نعبد الله بالروح والحق والسبب الأول ذُكر في ع 23 وهو طلب الله لمن يعبدونه كذلك. فروحية الله تقتضي أن يُعبد عبادة روحية. وفي هذه العبارة ثلاث حقائق:
الأولى: إن الله ليس بمادة وليس بجزء من الكون ولا كله.
الثانية: إن الله لا يمكن أن يراه إنسان أو أن يبيّنه بصورة أو تمثال.
الثالثة: إن الله يمتاز عن أرواح الملائكة وأرواح الناس لأنها مخلوقة ومحدودة ولذلك يستحيل أن يُحصر في مكان جبلاً كان أم هيكلاً كما زعمت السامرية (أعمال 7: 48 و17: 25). وقوله «الله روح» حقيقة امتازت بها الديانة اليهودية على كل ما سواها من ديانات الأمم.
فَبِٱلرُّوحِ أي بالعقل والقلب والحرارة والأشواق الروحية لغايات روحية وبإرشاد الروح القدس.
وَٱلْحَقِّ أي بالإخلاص دون رياء أو خداع أو اتكال على الطقوس التي هي ظلال الحقائق وبمعرفة المعبود حق المعرفة كما أعلنه المسيح الذي هو الحق.
يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا أوجب كون الله روحياً أن يُعبد عبادة روحية قلبية غير قائمة بحركات الشفتين والركوع وغيره من الأوضاع الجسدية دون القلب. وأوجبها أيضاً عدم قبول الله غيرها. وما قيل هنا لا يمنع مشاركة الجسد للروح في العبادة إنما ينفي اتخاذ العبادة الخارجية بدلاً من العبادة القلبية.
25 «قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْء».
ع 29 و39
كلام المسيح على الماء الحي حمل هذه المرأة على أن تسأله إياه. وكلامه على خطيئتها حملها على الاعتراف بأنه نبي. وكلامه هنا على بطلان عبادتها السامرية ووجوب أن تعبد الله عبادة جديدة قلبية سامية حيّرها وحملها على الشعور بجهلها ونقصان عبادتها القديمة وعلى الاشتياق إلى ما هو أحسن وأفضل. وما قيل هنا بيان ذلك الاشتياق.
أَنَا أَعْلَمُ كانت كسائر السامريين في الإيمان بأسفار موسى الخمسة وانتظارهم المسيح بناء على ما قيل في تثنية 18: 15.
مَسِيَّا، ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلْمَسِيحُ قوله «الذي يقُال له الخ» تفسير «لمسيا» وهذا التفسير لإفادة قراء بشارته من الأمم.
يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ انتظرت معلماً إلهياً مثل موسى يزيل من قلبها كل الشكوك الدينية ويحكم بالصواب في ما اختلف فيه معلمو الدين ويفسر لها ما لم تفهمه من كلام يسوع في روحية الله وعبادته.
26 «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: أَنَا ٱلَّذِي أُكَلِّمُكِ هُو».
متّى 26: 63 ومرقس 14: 61 و62 وص 9: 27
أظهر المسيح بهذا خمسة أمور:
أولاً: تنازله تنازلاً عجيباً. فإنه أنبأها بكونه هو المسيح وهي امرأة سامرية جاهلة خاطئة ولم ينبئ بذلك الكتبة العلماء ولا اليهود المنتقدين. ولا ريب أنه رآها مستعدة لقبول كلامه وتصديقه. وكلامه هذا جواب عن سؤالها وهو قولها «أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ» (ع 12). ومطلوب شوقها إلى إتيان المسيح والتعلم منه. ومنال طلبتها أي قولها «اعطني من هذا الماء» أي الماء الحي.
ثانياً: الرحمة العظيمة. فإنّه رغب في خلاصها وهي خاطئة.
ثالثاً: الحكمة العظيمة. فإنه قادها إلى المطلوب تدريجاً إذ سألها أولاً معروفها ثم حملها على الانتباه لمراده بالمجاز أي الماء الحي ثم أيقظ ضميرها بكلامه على سيرتها الماضية ثم علمها روحية العبادة ثم أوصلها بما ذُكر إلى إعلانه الأخير أي أنه هو المسيح.
رابعاً: صبره العظيم بتعليمه إياها على ما هي عليه من الجهل.
خامساً: قوته العجيبة بتغيير قلبها ونتيجة نفسها لأن نتيجة الحادثة تبيّن أنها آمنت بالمسيح عندما أعلن نفسه لها.
27 « وَعِنْدَ ذٰلِكَ جَاءَ تَلاَمِيذُهُ، وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ ٱمْرَأَةٍ. وَلٰكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: مَاذَا تَطْلُبُ أَوْ لِمَاذَا تَتَكَلَّمُ مَعَهَا».
عِنْدَ ذٰلِكَ أي حين بلغ الحديث إلى هذا الحدّ.
جَاءَ تَلاَمِيذُهُ أي عادوا من المدينة التي ذهبوا إليها ليبتاعوا طعاماً ع 8 فالمرأة لم ترد أن تتكلم في حضورهم فانصرفت.
وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ ٱمْرَأَةٍ علة تعجبهم أنه كلف نفسه أن يعلم امرأة لاعتقادهم كسائر اليهود قلة فهم المرأة وقبولها التعليم أو إتيانه ذلك على أثر ما عرفوه من تعبه من السفر أو تعصبهم لأنها كانت امرأة سامرية. وهذا مما يدلنا على أن حنو المسيح أعظم من حنو رسله.
وَلٰكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ الخ لم يجسروا أن يسألوه عن علة مخاطبته للمرأة مع تعجبهم منها لهيبته وشدة احترامهم إياه.
28 «فَتَرَكَتِ ٱلْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا وَمَضَتْ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ وَقَالَتْ لِلنَّاسِ».
فَتَرَكَتِ ٱلْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا حملتها رغبتها في الأمور الروحية التي سمعتها من المسيح على عدم الالتفات إلى الأمور الدنيوية وشدة محبتها لأهل وطنها حملتها على الإسراع في تبليغهم أنباء المسيح السارة حتى لم ترد أن تعاق بملء جرتها وحملها إياها إلا بعد أن تذهب وترجع. وحملتها مسرتها بالماء الحي الذي حصلت عليه على عدم المبالاة بماء بئر يعقوب.
وَقَالَتْ لِلنَّاسِ في الطريق وفي المدينة.
29 «هَلُمُّوا ٱنْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ؟».
ع 25
هَلُمُّوا ٱنْظُرُوا رغبتها في نفع الغير وتنوير أذهانهم تدل على أنّ قلبها تجدد حقاً. فكان ذلك كأندراوس بإخباره بطرس وفيلبس بإخباره نثنائيل. وكانت أول من بشّر السامريين بالمسيح. وأظهرت الحكمة بأنها لم تجادل الناس وتجتهد في أن تقنعهم بكلامها بل سألتهم أن يأتوا ويفحصوا عن ذلك بأنفسهم. فقولها لهم كقول فيلبس لنثنائيل (ص 1: 46). وكثيراً ما نرى الأسلوب في الإرشاد أنفع من الجدال ويستطيعه الساذج والعالم والفصيح والعيّ وهو أن يقول الإنسان لغيره قرأت الإنجيل وعرفت الحق فهلمّ انظر.
قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ قصدت بهذه المبالغة أن تنبئ الناس بمعرفة يسوع الخارقة الطبيعة لأن ما أنبأها به يسوع أقنعها أنه قادر على إنبائها بسائر ما فعلت. فالبرهان الذي أقنعها بأن يسوع هو المسيح كالبرهان الذي أقنع نثنائيل بأن يسوع كذلك فأقامته لأهل وطنها بشهادتها.
أَلَعَلَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ لم تقل هذا هو المسيح على سبيل الإخبار دفعاً للإنكار والجدال وادعاءها أنها تعرف ما لم يعرفوا وأنها أهل لأن تعلمهم. واستفهامها أحسن دعوة لهم إلى الفحص والوقوف على الحق.
30 «فَخَرَجُوا مِنَ ٱلْمَدِينَةِ وَأَتَوْا إِلَيْهِ».
فَخَرَجُوا مِنَ ٱلْمَدِينَةِ كان لكلام هذه المرأة تأثير عظيم في كل أهل المدينة. ولا ريب في أن روح الله حرك قلوبهم حتى أصغوا إلى كلامها واهتدوا به.
وفي ما ذُكر هنا تشجيع لمن يتعب في إرشاد نفس واحدة إلى الحق لأنه ربما كان بذلك واسطة إرشاد أهل مدينة إلى المسيح كما فعل المسيح بإرشاده تلك المرأة. وفيه تشجيع للنساء على أن يكنّ شاهدات للمسيح ولحق الإنجيل فإن تلك المرأة مع جهلها هدت بتعليمها إلى المسيح أكثر ممن هداهم نيقوديموس مع كل علمه.
وَأَتَوْا إِلَيْهِ ولم يبلغوا البئر حيث المسيح وتلاميذه بل كانوا مقبلين في الطريق حيث يمكن المسيح والتلاميذ أن يروهم وعند ذلك حدثت المكالمة التي ذُكرت بعد (ع 31 - 38).
31 «وَفِي أَثْنَاءِ ذٰلِكَ سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ: يَا مُعَلِّمُ، كُلْ».
وَفِي أَثْنَاءِ ذٰلِكَ أي المدة بين ذهاب المرأة وقدوم أهل المدينة.
سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ أتوا بالطعام من المدنية ع 8 وعرفوا أن جسد يسوع في حاجة إليه لما لقي من تعب السفر فطلبوا إليه أن يأكل.
32 «فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُم».
المعنى أنه حدث لي ما أبهجني وانتعشت نفسي منه حتى لم يبق لي قابلية للطعام الجسدي وأنتم تجهلون ذلك الحادث.
لِي طَعَامٌ لآكُلَ كلمهم المسيح بالمجاز ليكون لتفسير كلامه بعد وقع في قلوبهم أشد مما لو كلمهم بغيره. وأشار بذلك إلى ما أتاه في غيبتهم من تبشير السامرية بالإنجيل وأن مسرته بالتبشير أوفر من مسرة الجوعان بتناول الطعام. وأن تلك المسرة عظمت حتى شغلت جسده عن الحاجة إلى الأكل فإن الناس يأكلون بغية اللذة والتقوّي لكن المسيح وجد كل ذلك من نفسه بالعمل الروحي. كذلك يكون للناس الروحيين من القوت السماوي ما يقويهم للعمل ويعزيهم في الشدائد مما لا يعرفه غيرهم.
33 «فَقَالَ ٱلتَّلاَمِيذُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَعَلَّ أَحَداً أَتَاهُ بِشَيْءٍ لِيَأْكُلَ؟».
قالوا ذلك في المناجاة أو على بعد من المسيح وكانوا بطيئي القلوب عن فهم مراد المسيح الروحي فلم يستطيعوا أن يدركوا معنى للطعام غير المأكول المادي المعتاد. وكذلك عسر على نيقوديموس إدراك مراد المسيح «بالولادة الجديدة» والمرأة السامرية «بالماء الحي».
34 «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَه».
أيوب 23: 12 وص 6: 38 و17: 4 و19: 30
طَعَامِي وصل المسيح إلى البئر معيياً (ع 6) عطشاً (ع 7) ولا ريب في أنه كان جائعاً أيضاً فلما رأى فرصة لعمل الخير نسي تعبه وعطشه وجوعه ووجده في عمل مشيئة أبيه وإتمام عمله راحة ورياً وشبعاً. وقول المسيح هنا يوافق قوله في عدة أماكن أُخر مما يبين مسرته بعمله (ص 5: 30 و6: 38 و7: 18 و8: 50 و9: 4 و12: 49 و50 و14: 31 و15: 10 و17: 4).
مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي أي المناداة بالخلاص للهالكين كما يتضح من قوله في (ص 6: 39 و40).
وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ اي عمل الفداء والمسيح تمم ذلك بطاعته الكاملة للناموس عوضاً عن الناس وكفّر بموته على الصليب عن كل سيآتهم (ص 17: 4).
35 «أَمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي ٱلْحَصَادُ؟ هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ٱرْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَٱنْظُرُوا ٱلْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ٱبْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ».
متّى 9: 37 ولوقا 10: 2
أَمَا تَقُولُونَ هنا محذوف تقديره إذا «تكلمت على ما هو طبيعي في الزرع والحصاد».
إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي ٱلْحَصَادُ يُفهم من هذا أن المسيح تكلم به في نحو منتصف كانون الأول أي قبل أربعة أشهر من منتصف كانون الأول الذي يبتدئ الحصاد فيه هنالك (لاويين 23: 10 وتثنية 6: 9) وهذا هو الواضح المرجح. وذهب بعضهم إلى أن المسيح ذكر قانوناً عاماً وهو أن بين الزرع والحصاد أربعة أشهر.
ٱرْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ هذا مجاز حقيقته انتبهوا للسامريين الآتين جماعات من سوخار ليسمعوا تعليمي ع 30 وقال «الحقول ابيضت» لأن البياض لون الحنطة عند الحصاد. ولم تكن حينئذ حقول سوخار قد ابيضت لأن ذلك لا يكون إلا بعد أربعة أشهر فاعتبر استعداد الناس لقبول الإنجيل ورغبتهم فيه حصاداً روحياً وكلامه للمرأة زرع ذلك الحصاد.
بين الزرع الحقيقي (على التفسير الثاني المذكور آنفاً) والحصاد أربعة أشهر أما بين زرع المسيح المجازي وحصاده لم يكن أكثر من ساعة. وقابل المسيح التبشير بالإنجيل بالزرع في (متّى 9: 36 - 38 ومتّى ص 13 ولوقا 10: 37).
36 «وَٱلْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ، لِكَيْ يَفْرَحَ ٱلزَّارِعُ وَٱلْحَاصِدُ مَعاً».
دانيال 12: 3
كلام المسيح هنا لم يقيّد بما كان يحدث في السامرة بل أُطلق على العالم كله باعتباره حقلاً لزرع الحق فيه حسب قوله «الحقل هو العالم» (متّى 13: 38). وفي هذا الكلام تشجيع لكل الذين يتعبون في سبيل خلاص النفوس ويؤكد لنا «أَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ» (غلاطية 6: 9).
وَٱلْحَاصِدُ أي قائد الناس بتبشيره إلى المسيح.
يَأْخُذُ أُجْرَةً يأخذ بعضها في الحال بمسرته بإنقاذ الهالكين وإكرام يسوع وأكثرها في السماء كما قيل في (دانيال 12: 3 ومتّى 19: 28).
ثَمَراً لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ أي نتائج روحية تدوم إلى الأبد لأن النفوس الناجية بالتبشير تنال سعادة لا نهاية لها. وهذا خلاف حصاد الحنطة الذي لا يبقى إلا وقتاً قصيراً.
لِكَيْ يَفْرَحَ ٱلزَّارِعُ وَٱلْحَاصِدُ مَعاً كما كان وقتئذ باعتبار المسيح بمنزلة الزارع وهو والتلاميذ بمنزلة الحاصد وكما يكون على الدوام لكل من يسعى في خلاص النفوس.
وكما أنه في الفلاحة العادية يشترك كثيرون من الفعلة في الحرث كذلك يكون في الفلاحة الروحية. ومن الزرع الروحي تعليم الوالدين أولادهم بالتعليم في مدارس الأحد وقراءة الكتاب المقدس على مسامع الناس ومخاطبتهم في الواجبات الدينية وتوزيع الكتب الروحية عليهم. ومن الحصاد الروحي معرفة إيمانهم بتلك الوسائط وقبولنا إياهم في شركة الكنيسة أو مشاهدتنا ذلك.
والمشاركة في الفرح تكون في هذا العالم إذا ظهرت نتائج العمل فيه ولكن معظم المشاركة في الفرح يكون في نهاية العالم يوم الحصاد العظيم (متّى 13: 39).
37 «لأَنَّهُ فِي هٰذَا يَصْدُقُ ٱلْقَوْلُ: إِنَّ وَاحِداً يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُد».
هذا القول مثلٌ عند اليهود أو الأمم بُني على ما يحدث كثيراً في هذا العالم وهو أن الواحد يتعب وغيره ينتفع بتعبه وسمح الله بذلك لما تقتضيه حكمته (ميخا 6: 15).
38 «أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ. آخَرُونَ تَعِبُوا وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ».
أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا أشار المسيح بهذا إلى أعمال كل التلاميذ باعتبار كونهم رسلاً وذلك بمناداتهم أن المسيح قد أتى ودعوتهم الناس إلى الإيمان به وبتأسيس الكنيسة كما فعلوا في يوم الخمسين ويجمعهم المؤمنين إليها من كل قطر.
مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ كان عمل الرسل في خدمتهم الإنجيل زهيداً بالنسبة إلى العمل الاستعدادي الذي ظل جارياً نحو أربعة آلاف سنة ولم يتم إلا حين عُلق المسيح على الصليب.
آخَرُونَ تَعِبُوا وهم أنبياء العهد القديم من أولهم إلى يوحنا المعمدان (وهو أعظمهم بموجب شهادة المسيح) والكهنة الذين قدموا ذبائح أشارت إلى ذبيحة المسيح العظمى والمسيح نفسه وهو لم ير مدة حياته على الأرض من نتائج خدمته سوى قليل.
وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ لأن نجاحهم في التبشير لم يكن سوى نتيجة العمل الاستعدادي الذي أتاه خدم الله في كل زمان العهد القديم. ولا ريب في أن حصاد النفوس الذي كان في يوم الخمسين نتيجة تعب بعض الفعلة الذين ماتوا ولم يروا نتائج أتعابهم (مزمور 136: 6 وجامعة 11: 4).
كل مبشر بالإنجيل بأمانة زارع بالنسبة إلى من يأتون بعده وحاصد بالنسبة إلى الذين سبقوه.
39 «فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلسَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كَلاَمِ ٱلْمَرْأَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ: قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْت».
ع 29
فَآمَنَ بِهِ... كَثِيرُونَ هذا بدء الحصاد المذكور في العدد الخامس والثلاثين.
بِسَبَبِ كَلاَمِ ٱلْمَرْأَةِ لم يذكر البشير أن يسوع صنع شيئاً من المعجزات في السامرة إلا معرفته الفائقة الطبيعة التي أظهرها في مخاطبة المرأة السامرية فتوقع هؤلاء السامريون مجيء المسيح وآمنوا بأن يسوع هو المسيح بشهادة تلك المرأة. ومن العجائب أن أعظم النتائج قد يكون من وسائط زهيدة كما كان من نتائج مخاطبة مسافر يستريح قليلاً لامرأة تستقي من بئر. وهذا خبر مثالٍ لانتهاز كل فرصة من فرص فعل الخير.
40 «فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ ٱلسَّامِرِيُّونَ سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ، فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ».
جاء المسيح إلى خاصته اليهود ولم تقبله وأما السامريون الذين يعدهم اليهود من المرفوضين فقبلوه بفرح. وعاملوه بخلاف ما عامله الجدريون فإنهم طلبوا إليه أن ينصرف عن تخومهم (متّى 8: 34).
سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ سروا بتعليم المسيح سروراً عظيماً حتى لم يكتفوا بما سمعوه من ذلك التعليم عند البئر بل دعوه إلى أن يقيم عندهم مدة يعلمهم.
فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ لا ريب في أن هذين اليومين كانا وقت سرور للمعلم والمتعلمين. ويمكننا أن نعرف ماذا كانت فائدة تعليمه في ذينك اليومين مما عرفناه من فائدة مخاطبته للمرأة بعض الدقائق. وظهرت تلك الفائدة بعد موت المسيح بوفرة من آمن واعتمد من السامريين بواسطة فيلبس المبشر والرسولين بطرس ويوحنا (أعمال 8: 5 - 25).
41، 42 «41 فَآمَنَ بِهِ أَكْثَرُ جِدّاً بِسَبَبِ كَلاَمِهِ. 42 وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كَلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا هُوَ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱلْمَسِيحُ مُخَلِّصُ ٱلْعَالَم».
ص 17: 8 و1يوحنا 4: 14
بِسَبَبِ كَلاَمِهِ يختلف تأثير الأدلة في الناس باختلاف عقولهم فيقنع بعضهم بنوع من البراهين والآخر بنوع آخر فبعض السامريين اقتنع بشهادة المرأة (ع 39) وبعضهم بما ظهر في كلام المسيح من الحكمة والسلطان الإلهي. وعلة إيمان كل من الفريقين أن روح الله ليّن قلوبهم وأنار عقولهم وأعدهم للإيمان. فالذي يجدد النفوس نعمة روح الله لا الآيات والمعجزات.
قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ هذا وفق قول الرسول «الإيمان بالخبر» (رومية 10: 17).
ٱلْمَسِيحُ مُخَلِّصُ ٱلْعَالَمِ أدرك السامريون ما لم يدركه إلا قليل من اليهود ومن الرسل أنفسهم يومئذ من روحانية خدمة المسيح وعمومها. وهو أنه منقذ الناس من الخطية والموت الأبدي. وأنه لم يأت لأمة واحدة بل لجميع قبائل الأرض.
اعتقد السامريون وحيَ أسفار موسى وفي هذه الأسفار وعد لإبراهيم بأنه «تَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ» (تكوين 12: 3) وفيها نبوة بالمسيح (تكوين 49: 10) ولعل المسيح فسر في خطابه للسامريين في ذينك اليومين هاتين النبؤتين وغيرهما مما يتعلق به في تلك الأسفار فعرفوا من ذلك ما اعترفوا به هنا وهو أن يسوع هو المسيح مخلص العالم. وكان السامريون أقل من اليهود تعصباً وكبرياء ولم ينتظروا كاليهود أن يكون المسيح ملكاً أرضياً فيمتنعوا مثلهم عن قبوله منقذاً روحياً. تقضّى على المسيح قبل ذلك ثمانية أشهر في اليهودية مبشراً ولم يحصل هناك على نتيجة مثل النتيجة التي حصل عليها بتبشيره يومين في السامرة.
43 «وَبَعْدَ ٱلْيَوْمَيْنِ خَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى ٱلْجَلِيلِ».
ع 40
وَبَعْدَ ٱلْيَوْمَيْنِ وهما اللذان تقضيا عليه في السامرة.
مَضَى إِلَى ٱلْجَلِيلِ سوى الناصرة. وذُكر هذا المضي في (متّى 3: 12 ومرقس 1: 14 ولوقا 4: 14) والموضع الذي ذُكر أنه بلغه أولاً في الجليل هو قانا (ع 46). وأبان البشير في الآيتين الرابعة والأربعين والخامسة والأربعين الفرق بين قبول السامريين للمسيح (مع كونه غريباً يهودياً والسامريون لا يخالطون اليهود وهو لم يعمل بينهم معجزة) وقبول أهل وطنه الجليليين الذين شاهدوا معجزاته في اليهودية له.
44 «لأَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ شَهِدَ أَنْ: لَيْسَ لِنَبِيٍّ كَرَامَةٌ فِي وَطَنِهِ».
متّى 13: 57 ومرقس 6: 4 ولوقا 4: 24
لأَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ شَهِدَ هذا علة عدم ذهابه إلى الناصرة فكأن البشير قال مضى يسوع إلى الجليل ولم يدخل الناصرة وطنه «لأن يسوع نفسه شهد» الخ. أو قصد بيان على أن المسيح لم يبتدئ خدمته في الجليل وذهب أولاً إلى اليهودية وبشر فيها نحو ثمانية أشهر وصنع هناك معجزات كثيرة واشتهر بأنه نبي ثم أتى إلى الجليل «لأن» الخ.
لَيْسَ لِنَبِيٍّ كَرَامَةٌ فِي وَطَنِهِ انظر الشرح (متّى 13: 57) والمراد بوطنه هنا إما الناصرة حيث تربى كما في لوقا 4: 24 أو بلاد الجليل التي الناصرة إحدى قراها.
45 «فَلَمَّا جَاءَ إِلَى ٱلْجَلِيلِ قَبِلَهُ ٱلْجَلِيلِيُّونَ، إِذْ كَانُوا قَدْ عَايَنُوا كُلَّ مَا فَعَلَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي ٱلْعِيدِ، لأَنَّهُمْ هُمْ أَيْضاً جَاءُوا إِلَى ٱلْعِيدِ».
ص 2: 23 و3: 2، تثنية 16: 16
قَبِلَهُ ٱلْجَلِيلِيُّونَ أي سكان الجليل سوى أهل الناصرة وقبلوه نبياً أو معلماً من الله وكانت معرفتهم به ناقصة وإيمانهم ضعيفاً كإيمان اليهود المذكور في (ص 2: 23).
إِذْ كَانُوا قَدْ عَايَنُوا كُلَّ مَا فَعَلَ فِي أُورُشَلِيمَ تدل القرينة على أن الجليليين لم يميلوا إلى قبوله نبياً لأنه واحد منهم ولكن لاشتهاره في أورشليم وما صنعه من المعجزات هنالك قبلوه كذلك.
فِي ٱلْعِيدِ أي عيد الفصح وكان قد حدث منذ ثمانية أشهر كما من مقابلة ما في ص 2: 23 بما في ص 4: 35.
46 «فَجَاءَ يَسُوعُ أَيْضاً إِلَى قَانَا ٱلْجَلِيلِ، حَيْثُ صَنَعَ ٱلْمَاءَ خَمْراً. وَكَانَ خَادِمٌ لِلْمَلِكِ ٱبْنُهُ مَرِيضٌ فِي كَفْرَنَاحُومَ».
ص 2: 1 إلى 11
قَانَا ٱلْجَلِيلِ انظر الشرح ص 2: 1
حَيْثُ صَنَعَ ٱلْمَاءَ خَمْراً ص 2: 1 - 11. لا بد من أن مجيء المسيح ثانية إلى قانا ذكّر أهلها المعجزة التي صنعها عندهم في مجيئه الأول.
وَكَانَ خَادِمٌ الخ الأرجح أن هذا الخادم كان قائداً في عسكر هيرودس أنتيباس وأن كفرناحوم كانت إما محل خدمته وإما محل سكنه مع أهل بيته.
ٱبْنُهُ مَرِيضٌ كان هذا في حد ذاته مصاباً لخادم الملك لكنه كان علة إتيانه إلى المسيح ووسيلة إلى خلاص نفسه ونفوس أهل بيته.
47 «هٰذَا إِذْ سَمِعَ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ جَاءَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجَلِيلِ، ٱنْطَلَقَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ وَيَشْفِيَ ٱبْنَهُ لأَنَّهُ كَانَ مُشْرِفاً عَلَى ٱلْمَوْتِ».
إِذْ سَمِعَ الخ كان إيمانه بالمسيح نتيجة مما سمعه من نبإ معجزاته وظن إتيان المسيح إلى مخدع المريض ضرورياً لشفائه. وكان سؤاله إياه أن ينزل من قانا إلى كفرناحوم مبنياً على كون قانا أعلى منها.
48 «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!».
1كورنثوس 1: 22
يدل كلام المسيح على أن إيمان خادم الملك بقدرة المسيح لم يكن خالصاً من الشكوك وأنه كان يتوقع أن يشاهد بعينيه معجزة من معجزات المسيح قبل أن يثق به كل الثقة فامتحنه قبل إجابة طلبته لكي يقوي إيمانه ويزيد رغبة في الطلب. فعامله كما عامل المرأة الفينيقية (متّى 15: 24). وخاطبه بصيغة الجمع بقوله «لا تؤمنون الخ» لكونه لم ينفرد بذلك بل كان له فيه أمثال كثيرة.
49 «قَالَ لَهُ خَادِمُ ٱلْمَلِكِ: يَا سَيِّدُ، ٱنْزِلْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ٱبْنِي».
ص 11: 21 و32
هذا صراخ لجاجة ويأس وخوف لئلا تذهب بالتمهل فرصة إنقاذ الابن من الموت الذي أشرف هو عليه. وشدة احتياجه إلى المسيح زادته تمسكاً به لكنه ما برح يعتقد أن وصول المسيح إلى المريض ضروري لشفائه وأن قوته محدودة في الشفاء ما دام المريض حياً وأنه لا يستطيع شيئاً بعد موته.
50 «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: ٱذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ. فَآمَنَ ٱلرَّجُلُ بِٱلْكَلِمَةِ ٱلَّتِي قَالَهَا لَهُ يَسُوعُ، وَذَهَبَ».
دل جواب المسيح أن تمهله كان لإفادة الوالد تقوية إيمانه لا لعدم إرادته شفاء ولده وأنه قبل إيمانه وإن لم يكن خالصاً.
ٱذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ أي أني شفيت ابنك فهو صحيح معافى فلا حاجة إلى ذهابي إليه.
أظهر المسيح بهذه المعجزة خير شفقة بشفائه من لم يره قبلاً بطلب أبيه وقوة غريبة بأنه شفاه على البعد بمجرد إرادته وبأنه عرف النتيجة في الحال.
فَآمَنَ ٱلرَّجُلُ بِٱلْكَلِمَةِ طلب منه المسيح أن يؤمن بمجرد قوله دون أن يرى شيئاً من الآيات والعجائب فاحتمل الامتحان ودليل صحة إيمانه أنه انصرف ولم يسأل المسيح أن يذهب معه.
51 «وَفِيمَا هُوَ نَازِلٌ ٱسْتَقْبَلَهُ عَبِيدُهُ وَأَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ: إِنَّ ٱبْنَكَ حَيٌّ».
وَفِيمَا هُوَ نَازِلٌ أي إلى كفرناحوم وهي مدينة على شاطئ بحيرة طبرية وأوطأ من قانا التي هي في كورة جبلية.
ٱسْتَقْبَلَهُ عَبِيدُهُ آتين من كفرناحوم لتبشيره بشفاء ابنه.
ٱبْنَكَ حَيٌّ قال له المسيح «ابنك حي» وبشره عبيده بشفاء ابنه بالعبارة نفسها.
52 «فَٱسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ ٱلسَّاعَةِ ٱلَّتِي فِيهَا أَخَذَ يَتَعَافَى، فَقَالُوا لَهُ: أَمْسٍ فِي ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّابِعَةِ تَرَكَتْهُ ٱلْحُمَّى».
فَٱسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ ٱلسَّاعَةِ ليثبت إيمانه ويدفع الظن أنه شُفي اتفاقاً لأن شفاءه كان في الدقيقة التي فيها أنبأه المسيح بشفائه.
أَمْسٍ كان أول اليوم عندهم المغرب فيصح هذا الكلام إن كان العبيد لقوه في أي ساعة كانت بعد مغرب النهار الذي شُفي فيه الابن.
فِي ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّابِعَةِ أي الساعة الثانية بعد الظهر لأنه كان ذلك في شهر كانون الأول (ص 4: 35) والمسافة بين قانا وكفرناحوم خمسة وعشرون ميلاً أو سفر يوم. وقد عجب البعض من أن الوالد لم يبلغ بيته يوم شفاء ابنه مع شدة رغبته في شفائه ولكن الذي ظهر لنا مما ذُكر أنه لم يتمهل في السفر. فعجبهم ليس في محله لوجهين الأول ما ذُكر والثاني تحققه شفاءه بإيمانه بالمسيح وعلى هذا كان في راحة بال وغنى عن سرعة السير.
53 «فَفَهِمَ ٱلأَبُ أَنَّهُ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ ٱلَّتِي قَالَ لَهُ فِيهَا يَسُوعُ إِنَّ ٱبْنَكَ حَيٌّ. فَآمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّه».
وقوع أنباء المسيح بشفاء الابن وشفاءه في وقت واحد حقق لخادم الملك أن الأول علة الثاني.
فَآمَنَ هذا الإيمان أعلى درجة من الإيمان الذي ذُكر في الآية. ففي الأول آمن بأن يسوع قادر على شفاء ابنه وفي هذا آمن بأنه المسيح وصار تلميذاً له. فبلغ الإيمان الحقيقي في ثلاث درجات الأولى عند وصوله إلى المسيح والثانية عند قول المسيح له «ابنك حي» والثالثة لما بلغ بيته وشاهد ابنه صحيحاً معافى.
وَبَيْتُهُ كُلُّهُ مرض واحد من أهل هذا البيت كان وسيلة حياة أبدية للجميع بالإيمان بالذي شفاه. فأهل البيت شاهدوا شفاء الولد بغتة ثم فهموا من الوالد أن علة ذلك الشفاء المسيح.
54 «هٰذِهِ أَيْضاً آيَةٌ ثَانِيَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ لَمَّا جَاءَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجَلِيل».
آيَةٌ ثَانِيَةٌ في الجليل غير المعجزات الكثيرة التي صنعها في اليهودية ص 3: 2 و6: 23. والآية الأولى في الجليل تحويل الماء خمراً صنعها قبل ذهابه إلى اليهودية وعوده إلى الجليل.
لَمَّا جَاءَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجَلِيلِ ذكر البشير هذا كأنه قسم جديد من خدمة المسيح. واكتفى يوحنا بذكر معجزتين من كل المعجزات التي صنعها المسيح في هذا القسم من خدمته إحداهما شفاء ابن خادم الملك التي مر ذكرها والأخرى إشباع خمسة الآلاف المذكورة في ص 6. والآية الأولى التي ذكرها كل من متّى ولوقا غير الآية الأولى التي ذكرها يوحنا.
وكانت غاية يوحنا كتابة أنباء المسيح في اليهودية ومعظم غاية سائر الإنجيليين كتابة إنبائه في الجليل فلذلك عدل يوحنا عن ذكر ما يتعلق بالخدمة الجليلية كذهاب يسوع إلى الناصرة ورفض أهلها إياه (لوقا 4: 16 - 31) ومكثه في كفرناحوم (متّى 4: 13). ودعوة أربعة من رسله (متّى 4: 18 - 22 ومرقس 1: 16 - 20 ولوقا 5: 1 - 11). وجولانه في الجليل (متّى 4: 23 - 25). ودعوة متّى (متّى 9: 9). ومعجزات كثيرة صنعها في تلك المدة.
1 «وَبَعْدَ هَذَا كَانَ عِيدٌ لِليَهُودِ، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ».
لاويين 23: 2 وتثنية 16: 1 ويوحنا 2: 13
وَبَعْدَ هَذَا أي بعد مرور المدة بين ما جاء في آخر أصحاح 4 وأول أصحاح 5، وهي غالباً نحو أربعة أشهر.
كَانَ عِيدٌ الأرجح أنه عيد الفصح، فإن كان كذلك كانت مدة تبشير المسيح نحو ثلاث سنين ونصف سنة.
فَصَعِدَ يَسُوعُ بقيت شريعة موسى سائدة إلى أن مات المسيح، وتمم يسوع أثناء حياته على الأرض كل مطالب تلك الشريعة.
2 «وَفِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ بَابِ الضَّأْنِ بِرْكَةٌ يُقَالُ لَهَا بِالعِبْرَانِيَّةِ «بَيْتُ حِسْدَا» لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ».
نحميا 3: 1، 32 و12: 39
بَابِ الضَّأْنِ كان هذا الباب قرب الهيكل في جانب المدينة الشرقي، والأرجح أنه سُمِّي كذلك لأنهم كانوا يأتون منه بغنم الذبيحة إلى الهيكل.
بِرْكَةٌ.. بَيْتُ حِسْدَا أي بيت الرحمة، ولعلها سُمّيت بذلك لما نسبه الناس إليها من قوة الشفاء. ولا نستطيع اليوم تعيين موقعها. وظن بعضهم أنه ما يُعرف الآن بنبع العذراء الذي يجري ماؤه في قناة تحت الأرض إلى بركة سلوام، وتُسمى أيضاً ببركة الملك (نحميا 2: 14).
لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ الأرجح أنها بُنيت لنفع المرضى الذين كانوا يزدحمون هناك طلباً للشفاء، وكانت مفتوحة من جهة ومسدودة من الجهة الأخرى.
3 «فِي هَذِهِ كَانَ مُضْطَجِعاً جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى وَعُمْيٍ وَعُرْجٍ وَعُسْمٍ، يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ المَاءِ».
جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى من أصحاب الأمراض المزمنة الذين يئسوا من الشفاء بواسطة الأطباء والأدوية، فلجأوا إلى تلك الأروقة.
عُسْمٍ أي مصابين بتيبُّس مفاصل اليدين أو الرجلين.
يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ المَاءِ هذا يدل على أن ذلك الماء لم يكن نافعاً للشفاء ما لم يتحرك. وأجمع المفسرون على أن ماء تلك البركة كان يجري إليها من عينٍ يجري ماؤها جرياً معتدلاً، وأحياناً يعظم ويجري بشدة. ومعروفٌ أن مياه بعض العيون معدنية تنفع في كثير من الأمراض نفعاً عظيماً. ولعل ماء بركة بيت حسدا كان كذلك يومئذ، لكن حال مائها لم يبقَ على ما كان عليه. ولعل خواصه المعدنية النافعة للمرضى كانت تكثُر عند فيضانه بقوة.
4 «لأنَّ ملاكاً كَانَ يَنْزِلُ أَحْيَاناً فِي البِرْكَةِ وَيُحَرِّكُ المَاءَ. فَمَنْ نَزَلَ أَوَّلاً بَعْدَ تَحْرِيكِ المَاءِ كَانَ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ اعْتَرَاهُ».
لأنَّ ملاكاً كَانَ يَنْزِلُ لم يقل إن هذا الملاك كان يُشاهد بالبصر، فلا نحكم أن البشير يخبرنا أن ذلك معجزة، لأنه لو كان كذلك لذكره يوسيفوس وغيره من مؤرخي اليهود. إنما ذكر ذلك بياناً لاعتقاد العامة يومئذ وتعليلهم فيضان الماء فيضاناً دورياً وخواصه المعدنية في الشفاء. ويجب أن لا نستغرب كثيراً اعتقاد العامة بذلك، لأن الناس في كل زمان اعتادوا أن ينسبوا ما يجهلون علته من النافعات إلى خدمة الملائكة. على أن الكتاب المقدس نفسه يعلمنا أن الله يستخدم الملائكة لتوصيل بركاته إلى الناس، فمن استخدامهم العام ما جاء في عدد 20: 16 و2ملوك 6: 17 ومزمور 34: 7 و91: 11 و12 ودانيال 3: 38 و6: 22 ولوقا 1: 22 وعبرانيين 1: 12. ومن استخدامهم الخاص ما ورد في تكوين 19: 15 ومتّى 4: 11 و18: 10 ولوقا 16: 22 وأعمال 7: 53 و12: 11.
فَمَنْ نَزَلَ أَوَّلاً هذا ما اعتقده العامة، فلا يلزم منه أنه لم يكن يُشفى في السنة إلا مريض واحد. ولعل المقصود أنه لم ينزل في البركة عند تحريك الماء إلا قليلون بالنسبة إلى الجماعة الكبيرة التي كانت تنتظره. ولا شك أن المرضى انتفعوا بذلك الماء نفسياً، فوق منفعة خواصه الطبيعية، لقوة اعتقادهم بمنفعته فور تحريكه.
5 «وَكَانَ هُنَاكَ إِنْسَانٌ بِهِ مَرَضٌ مُنْذُ ثَمَانٍ وَثلاثِينَ سَنَةً».
مُنْذُ ثَمَانٍ وَثلاثِينَ سَنَةً هذا مدة مرض ذلك الإنسان ولم يُذكر عمره، ولا كم مضى عليه من سني مرضه وهو يتوقع الشفاء بجوار البركة. ويدل طول مدة مرضه على اليأس من الشفاء بالوسائط العادية، وعلى عظمة قوة المسيح على الشفاء. ولعل مرضه كان ضعف الأعصاب أو الشلل الخفيف مما صعَّب حركته (ع 7). كما لم يكن له صاحب يعتني به (ع 7). ويدل الحديث على أن مصابه كان نتيجة بعض الخطايا (ع 14).
6 «هَذَا رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعاً، وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَاناً كَثِيراً، فَقَالَ لَهُ: أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟».
وَعَلِمَ عرف يسوع باعتبار لاهوته كل تاريخ ذلك الإنسان في الماضي، كما عرف من أمر المرأة السامرية (يوحنا 4: 17، 18). ورأى علامات الألم على وجهه فأشفق عليه. ولا دليل على أنه شرع في شفاء غيره من جمهور المرضى هناك (ع 3) فكان كملك مطلق في اختيار من يريد شفاءه.
فَقَالَ لَهُ لم يحمل المسيح على الإقبال إلى ذلك طلب المصاب الرحمة، بل مجرد شفقة المسيح عليه. وللذين أزمنت أمراضهم الآن تعزية عظيمة بأن المسيح يعرف كل مريض في الأرض ومدة مرضه وكل ما يتعلق بذلك، وإن قلبه اليوم رقيق كما كان حين مشى تحت أروقة بركة بيت حسدا.
أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟ غاية المسيح في هذا السؤال إظهار حزنه على مصابه، وإنشاء الرجاء فيه، وتوجيه نظره إليه، وتهيئته بذلك إلى الشفاء. وكذلك فعل بطرس ويوحنا بالمقعد عند باب الهيكل الجميل بقولهما «انظر إلينا» (أعمال 3: 4). وكان المسيح يريد أن يجعل شفاء أجساد الناس رمزاً إلى شفاء نفوسهم، فطلب اقتران إرادة الإنسان بإرادة الله للشفاء، ليبين أن الله لا يريد أن يشفي نفس الخاطئ ما لم يُرد الخاطئ نفسه الشفاء. ولعل المسيح أراد بقوله «أتريد أن تبرأ؟» شفاءين: شفاءً جسدياً وشفاءً روحياً، ولم يفهم المريض سوى الأول منهما.
7 «أَجَابَهُ المَرِيضُ: يَا سَيِّدُ، لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلقِينِي فِي البِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ المَاءُ. بَل بَيْنَمَا أَنَا آتٍ يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ».
لا شك أن المريض استغرب هذا السؤال، لأنه من البديهي أن كل إنسان يفضل الصحة على المرض. ووجود ذلك المريض عند تلك البركة دليل واضح على رغبته في الشفاء.
لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلقِينِي فِي البِرْكَةِ مضمون جوابه نعم أريد الشفاء، ولكن لا وسيلة لنواله. والظاهر أنه لم يكن يتوقع الشفاء إلا بأن يُلقى في البركة. ولعله رجا أن هذا الغريب الذي سأله يشفق عليه ويساعده على النزول إليها متى تحرك ماؤها. ولا شك في أن مصاب هذا الإنسان كان عظيماً جداً، لأنه علاوة على مضي زمان طويل عليه وهو يقاسي آلام المرض لم يكن له صاحب يحسن إليه ويلقيه في البركة. ومن العجب أنه مع كثرة الألوف في أورشليم لم يلتفت أحد ليساعد ذلك المسكين ليصل إلى البركة. وصرخة «ليس لي إنسان» هي صرخة ملايين المصابين اليوم في الأجساد والأرواح، وحولهم من يقدرون أن يساعدوهم. وعرف يسوع كل أحوال ذلك المريض، فاقترب إليه ليشفيه، فهو صاحب من لا صاحب له ومعين من ليس له معين. وعلة اقترابه من ذلك الإنسان هي علة من السماء لخلاص نفوس الهالكين، كما قال النبي «فَرَأَى أَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانٌ، وَتَحَيَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ شَفِيعٌ. فَخَلَّصَتْ ذِرَاعُهُ لِنَفْسِهِ، وَبِرُّهُ هُوَ عَضَدَهُ» (إشعياء 59: 16).
يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ تكلم حسب معتقد العامة وهو أن قوة الماء على الشفاء محدودة من أول تحرك الماء إلى أول النازلين فيه.
8 «قَالَ لَهُ يَسُوعُ: قُمِ. احْمِل سَرِيرَكَ وَامْشِ».
متّى 9: 6 ومرقس 2: 11 ولوقا 5: 24
قَالَ لَهُ يَسُوعُ خرجت قوة الشفاء من المسيح مع خروج الكلام من شفتيه، كما حدث عندما قال ليابس اليد «مُد يدك» (متّى 3: 5).
قُمِ. احْمِل سَرِيرَكَ وَامْشِ أمره المسيح بثلاثة أعمال لا يستطيع أن يقوم بأيٍّ منها، وذلك امتحاناً لإيمانه وطاعته اللذين بدونهما لا يُظهر المسيح قوته. فمن شاء شفاء نفسه من مرض الخطية يجب أن يُظهر مثل ذلك الإيمان وتلك الطاعة، فينال البرء من يد المسيح التي أبرأت ذلك الرجل. وأمره المسيح أن يحمل سريره ويسير به في أزقة أورشليم بياناً لصحة شفائه، وشهادةً ليسوع بأنه المسيح. وذلك برهان لا يمكن إنكاره، فقد كان المريض مقعداً مدة 38 سنة، فشفاه يسوع بكلمة، فحمل سريره ومشى. وعلم يسوع أن حمل السرير يوم السبت سيكون سبب تذمر اليهود وشكواهم، فأمره به لتكون هناك فرصة توصيل التعليم الصحيح عن حفظ يوم السبت بمقتضى وصية الله خلافاً لتقليدهم.
9 «فَحَالاً بَرِئَ الإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى. وَكَانَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ سَبْتٌ».
يوحنا 9: 14
فَحَالاً بَرِئَ الإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى برئ هذا الإنسان في الحال برءاً تاماً بكلمة يسوع. وأظهر يسوع بذلك قوته الفائقة. وأظهر الرجل إيمانه وطاعته بما فعله. ولعل سريره لم يكن سوى فراش صغير لو تركه لكان فقده.
سَبْتٌ اختار المسيح هذا الإنسان الموضوع الوحيد لرحمته من بين ألوف المرضى في أورشليم، واختار السبت دون غيره من أيام الأسبوع وقتاً لإظهار تلك الرحمة، ليبيّن فيه حقائق مهمة وهي إبطال تقاليد الفريسيين، وبيان أن أفعال الرحمة جائزة في السبت، وإثبات أن ابن الإنسان هو رب السبت.
10 «فَقَالَ اليَهُودُ لِلَّذِي شُفِيَ: إِنَّهُ سَبْتٌ! لا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَحْمِلَ سَرِيرَكَ».
خروج 20: 10 ونحميا 13: 19 وإرميا 7: 21 ومتّى 12: 2 ومرقس 2: 24 و3: 4 ولوقا 6: 2 و13: 14
لا يَحِلُّ لَكَ قالوا ذلك لزعمهم أن ما فعله يخالف شريعة الله وتقاليد الشيوخ. نعم إن الله نهى عن الأعمال المعتادة في السبت (خروج 20: 8 - 10) ولم يسمح لهم أن يحملوا أحمالاً في ذلك اليوم (عدد 31: 13 - 17 ونحميا 13: 15 وإرميا 17: 21). وزاد اليهود على أمر الله كثيراً من أوامرهم (انظر شرح متّى 12: 2). واغتاظ اليهود من أمرين: شفاء يسوع المقعد يوم السبت، وحمل المقعد سريره في ذلك اليوم. فعنفوا المقعَد أولاً على حمله السرير، وطلبوا ثانياً قتل المسيح على إبرائه إياه (ع 15، 16 ويوحنا 7: 19، 23).
11 «أَجَابَهُمْ: إِنَّ الَّذِي أَبْرَأَنِي هُوَ قَالَ لِي احْمِل سَرِيرَكَ وَامْشِ».
مضمون جوابه: إني مجبَر على طاعة أمر من فعل مثل هذه المعجزة بقوته. ومن البديهي أن الله لا يمكِّن إنساناً يأمر بالحرام من صنع عجيبة كهذه.
12 «فَسَأَلُوهُ: مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ الَّذِي قَالَ لَكَ احْمِل سَرِيرَكَ وَامْشِ؟».
أظهر اليهود خبث قلوبهم، فلم يسألوا الذي شُفي عن الذي شفاه ليكرموه، بل سألوه عمن قال له احمل سريرك، لينتقموا منه. وغضّوا النظر عن فعل الخير وإظهار الرحمة وإقامة البرهان على قوة إلهية، ولم يلتفتوا إلا إلى أنه خالف تقليد اليهود.
13 «أَمَّا الَّذِي شُفِيَ فَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَنْ هُوَ، لأنَّ يَسُوعَ اعْتَزَلَ، إِذْ كَانَ فِي المَوْضِعِ جَمْعٌ».
أتى المسيح إليه وهو غريب عنه وفعل له الرحمة وانصرف عنه واختلط بالجمهور. والأرجح أن تلاميذه لم يكونوا معه وإلا لما جُهل أمره.
14 «بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدَهُ يَسُوعُ فِي الهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ: هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ، فلا تُخْطِئْ أَيْضاً، لِئلا يَكُونَ لَكَ أَشَرُّ».
متّى 12: 45 ويوحنا 8: 11
بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدَهُ يَسُوعُ كان يجب على الذي شُفي أن يسأل عن اسم شافيه ويطلبه ليشكره على معروفه، بدلاً من أن المحسن يسأله عنه ويجده.
فِي الهَيْكَلِ الأرجح أنه ذهب إلى الهيكل ليشكر الله على ما ناله من الرحمة، وليقدم تقدمة الشكر. فأحسن بذلك لأن من أول واجبات الذين ينجون من مرض أو خطر أن يشكروا الله في بيته على النجاة (مزمور 116: 16 - 19).
هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ ذكَّره المسيح بشفائه من مرض طال عليه، ليعلمه أن خطيته كانت على ذلك المرض، ويحمله على طلب شفاء نفسه من داء الإثم، ومعرفة أن لا نفع من شفاء الجسد الوقتي ما دامت علة المرض فيه.
فلا تُخْطِئْ أَيْضاً أبان له المسيح بهذا ثلاثة أمور: (1) إن مرضه الماضي نتيجة خطية مخصوصة لم يذكرها. كما قيل في 1كورنثوس 11: 30. وكان من علامات لاهوت المسيح أنه عرف سيرة هذا الإنسان الماضية وخطيته السرية التي كانت علة مرضه. وبهذا بيّن العلاقة بين الشر الجسدي والشر الأخلاقي، واجتهد أن يجعل شفاء الجسد من المرض وسيلة إلى شفاء النفس من الخطية كما اعتاد في معجزاته. (2) إن شرط دوام الصحة لذلك المصاب الامتناع عن تكرير الخطية التي كانت علة مرضه. (3) إن الرجوع إلى تلك الخطية بعد الشفاء والإنذار تكون سبب موته وهلاكه، لأن الموت والهلاك أشرّ من مرض 38 سنة.
ولا يلزم مما قيل هنا أن كل مرض ينتج عن خطية، لكن كثيراً ما يرسل الله أمراض الجسد لشفاء النفس. فيجب أن يستفيد الإنسان من المرض الذي يعتريه.
15 «فَمَضَى الإِنْسَانُ وَأَخْبَرَ اليَهُودَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الَّذِي أَبْرَأَهُ».
سبق أن قال لليهود إنه لم يعلم من أبرأه. ولما علم رجع في الحال وأخبرهم. والأرجح أنه عرف اسم يسوع من الذين كانوا على القرب منه عند الحديث. ولا نظن أنه أراد بهذا أن يؤذي المسيح الذي أحسن إليه، لكنه أراد أن يكرمه. ويُحتمل أنه أنبأ اليهود بهذا خوفاً من أن يقتلوه لحمله السرير إن لم يبرهن لهم أنه فعل ذلك بأمر المسيح.
16 «وَلِهَذَا كَانَ اليَهُودُ يَطْرُدُونَ يَسُوعَ، وَيَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأنَّهُ عَمِلَ هَذَا فِي سَبْتٍ».
وَلِهَذَا أي شفاء المقعد وأمره بحمل سريره.
يَطْرُدُونَ يَسُوعَ أي يحرمونه ويسيئون إلى سمعته لأنه وهو نبي يخالف الشريعة. فبدلاً من أن يحترموه لتلك المعجزة امتلأوا حقداً ورغبة في إيقاع الضرر به، لأنه لم يحترم سلطانهم ولا تقاليد الشيوخ.
يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ بدعوى أن ذلك أمر الشريعة (خروج 31: 15). مع أن العلة الحقيقية كانت حسدهم، لأنهم سلَّموا بجواز فعل الرحمة للبهيمة في ذلك اليوم (لوقا 14: 5). فبالأولى يجوز ذلك للإنسان كما فعل المسيح.
17 «فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ».
يوحنا 9: 4 و14: 10
برر يسوع نفسه في ما صنع بقوله «إن له سلطاناً من الآب على السبت» وأنه شفى المقعد في ذلك اليوم اقتداءً بالله الذي يعمل في السبت.
أَبِي صرح يسوع في هذا بأنه «ابن الله» بمعنى لا يصدُق على غيره. وفهم اليهود من ذلك أنه يدَّعي المساواة بالآب (ع 18). ولم ينكر هو ما فهموه، بل صدَّق عليه.
هذه مناظرة ثانية بين المسيح واليهود. كانت الأولى عندما طهَّر الهيكل من التجارة وأعلن أن الله أبوه بقوله: «لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة» (يوحنا 2: 16). والثانية عندما نقَّى شريعة السبت من تقاليد الشيوخ، وفيها صرح أيضاُ بأن الله أبوه.
شفي المسيح في السبت مرضى كثيرين وبرّر نفسه بأساليب مختلفة، منها الإشارة إلى ما يفعلونه في يوم السبت للبهائم، ومنها ما فعله داود يوم أكل خبز التقدمة، ومنها ما يفعله الكهنة في السبوت إذ يقدمون الذبائح ويختنون الأولاد. وذكر هنا أن الآب يعمل في السبت!
يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ أي لم يزل يعمل في السبت بعض الأعمال منذ الخليقة إلى الآن. نعم إن الله استراح في اليوم السابع من عمل الخليقة (تكوين 2: 2) لكنه داوم على عمل العناية، الذي به يدبر حاجات الخلق. ومن أعماله تسيير الكواكب في أفلاكها، ونزول الأمطار، وجريان الأنهار، وشروق الشمس، وهبوب الرياح، ونمو النبات والحيوان. وفي هذه كلها لا نرى فرقاً بين عمله في السبت وغيره من الأيام. ولو لم يفعل ذلك نهاراً وليلاً وصيفاً وشتاء وسبوتاً وغيرها من الأيام لعمَّ الهلاك الخليقة كلها. وأعمال الله الروحية كتجديد قلوب الناس وتقديسها في أيام الراحة أكثر منها في غيرها.
وَأَنَا أَعْمَلُ أي أعمال الرحمة كما يعمل الله. فشفاء المقعد يوم السبت كحفظ الله البشر أحياء في ذلك اليوم. فإن أصاب اليهود بتخطئة المسيح لأنه تعدى شريعة الله بذلك الشفاء، فإنهم يخطِّئون الآب أيضاً، لأن المسيح فعل ما يفعله الآب. ولم يقتصر المسيح على أن يبيّن حقه في الإبراء بناءً على مشابهته فيه الآب، بل زاد على ذلك بيان مساواته له، وأنه رب السبت كأبيه.
وقد صرح المسيح بمساواته للآب في مواضع كثيرة من هذا الأصحاح، مثل عمله الأعمال التي يعملها الآب (ع 19). وأنه عالم بكل ما يقضي به الآب (ع 20). وأنه يحيي الأموات أجساداً وأرواحاً كما فعل الآب (ع 21، 28). وأنه ديان العالمين (ع 22). وأنه يستحق الإكرام الذي يستحقه الآب (ع 23). وأنه واضع الشريعة وواهب الحياة الأبدية للمؤمنين (ع 24). وأن دعواه ثبتت بشهادة الله والبشر (ع 32 - 37) وثبتت أيضاً بنبوات الكتاب المقدس (ع 39).
18 «فَمِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَ اليَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ، بَل قَالَ أَيْضاً إِنَّ اللَّهَ أَبُوهُ، مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللَّهِ».
يوحنا 7: 19 و10: 30 و33 وفيلبي 2: 6
وجد اليهود هنا علة ثانية للشكوى على المسيح، وهي أعظم من الأولى لأنهم حسبوها من أفظع التجاديف. فإنهم كانوا يعتقدون أن يسوع إنسان فقط، وهو يقول إنه «ابن الله» بمعنى أنه مساوٍ للآب. والحق أنه لو لم يكن إلهاً لكان مجدفاً، لكنه برهن بأعماله صدق قوله.
يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ بناء على ما قيل في لاويين 24: 16.
19 «فَقَالَ يَسُوعُ لَهُمُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لا يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إلا مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الابْنُ كَذَلِكَ».
ع 30 ويوحنا 8: 28 و9: 4 و12: 49 و14: 10
حمله إنكار اليهود أنه ابن الله على توضيح علاقته بالآب، وهذا يشغل بقية الأصحاح.
لا يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً لم يقل «أنا لا أقدر» بل قال «لا يقدر الابن» لبيان العلاقة التي سلم بها اليهود وهي أن ابن الله يكون المسيح. ثم إيضاح أنها هي علاقته هو بالآب. وعدم القدرة المنسوب إلى الابن هنا نتيجة عدم الإرادة. وذلك كقولنا «لا يقدر الله أن يكذب» ومثله قوله «لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْعَلَ شَيْئاً حَتَّى تَجِيءَ إِلَى هُنَاكَ» (تكوين 19: 22). ولا إشارة في هذه الآية إلى أن الابن دون الآب في الجوهر والقدرة والحكمة، بل المقصود استحالة الانفصال بين الأقنومين في الرأي أو في العمل، واستحالة استقلال الابن عن الآب إلى الاتحاد الكلي بينهما والمحبة الكاملة.
إلا مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ في أعمال الخليقة والعناية وسياسة الكون. وهذا يوافق لقب المسيح «كلمة الله». فكما أن كلمة الإنسان تُعلن فكره يعلن المسيح الكلمة أفكار الآب ومشاعره ومقاصده. ولا يقصد المسيح بهذا القول مجرد طاعة الابن للآب في ما فعله لفداء الناس كسفير يعلن أفكار ملكه باعتبار كونه إلهاً وإنساناً معاً، بل باعتباره الإله الأزلي الذي هو والآب واحد (يوحنا 10: 30). ويظهر أفكار الله إظهاراً كاملاً لاتحاده الأزلي به. نعم إن الله لم يظهر ذاته لخلائقه إلا بواسطة ابنه، وكل عمل الابن هو إعلان الآب (يوحنا 1: 18). ومعنى «ينظر» هنا يعلم (يوحنا 5: 19). والناس ينظرون نتائج أعمال الله فقط، وأما الابن فينظر مقاصد الآب التي هي علة تلك الأعمال.
لأنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الابْنُ كَذَلِكَ أي كل أعمال الله المتنوعة يعملها الابن مثله بقدرته وكماله. هذا يوضح مساواة الابن للآب في القدرة والحكمة والمعرفة. ومن له سلطان كسلطان الآب وذراع كذراعه وصوت كصوته، لا بد أن يكون الله (أيوب 40: 9 وأعمال 10: 36 وكولوسي 1: 16، 17). فبالنظر إلى كون المسيح فادياً هو دون الآب «لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً» ولكنه مساوٍ للآب في الجوهر «لأن مهما عمل ذاك يعمله الابن كذلك». فمستحيلٌ أن ينقض المسيح شريعة الله بأعماله أو تجديفه على اسمه، كما اتهمه اليهود.
20 «لأنَّ الآبَ يُحِبُّ الابْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ، وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ».
متّى 3: 17 ويوحنا 3: 35 و2بطرس 1: 17
هذه الآية تبين مساواة الابن للآب لأن الابن يعرف كل أسرار الآب ومقاصده.
لأنَّ الآبَ يُحِبُّ الابْنَ هذا هو علة تسمية الأقنوم الثاني من اللاهوت «الابن». وذُكر بياناً لإعلان الآب كل شيء له، ويلزم عن محبته له أن لا يخفي عنه شيئاً، بل يثق به كل الثقة، ويبدي له كل أفكاره. وهذا وفق ما قيل في المسيح «الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ» (يوحنا 1: 18).
وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ هذا غير ما يعمله الله مع الناس حتى الأنبياء والرسل، فيلزم أن يكون علم الابن غير محدود ليمكنه أن يدرك كل أفكار الله ومقاصده.
وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً «سيريه» أي يُعيِّن له ما يفعله بين الناس كما يدل عليه سائر العبارة.
أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ أي المعجزات التي صنعها كإبراء المقعد وغيره. ومن تلك الأعمال العظمى ما سيذكره من ع 21 - 30 من إقامة موتى الروح، وموتى الجسد، ودينونة العالم.
لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ التأثير الأول من مشاهدة المعجزات هو التعجب والرهبة، وهو تأثير اضطراري واستعداد لتأثير ثان أسمى من الأول، وهو التسبيح لله والإيمان بصانع المعجزة وإكرامه (ع 23). نعم إنهم أغمضوا عيونهم عن معجزة بيت حسدا لكي لا تؤثر فيهم، لكنهم لا بد أن يتأثروا من الأعمال العظمى التي ستأتي.
21 «لأنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذَلِكَ الابْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ».
لوقا 7: 14 و8: 45 ويوحنا 11: 25 و43
ذُكر في هذه الآية أحد الأعمال العظمى التي ذُكرت في الآية السابقة، وهو إحياء الموتى الذي يتضمن منح الحياة الروحية للنفوس والحياة الجسدية للأجساد (ع 25، 28).
كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَات اعتقد كل اليهود أن للآب هذا السلطان وأنه مما يختص باللاهوت (تثنية 33: 39 و1صموئيل 2: 6). وقد أقام الله الأجساد فعلاً على يد النبيين إيليا (1ملوك 17) وأليشع (2ملوك 4: 32 - 35). ونُسب ذلك إلى الآب (رومية 8: 11). والكتاب مشحون بإقامة النفوس.
كَذَلِكَ الابْنُ صرح المسيح بأن سلطانه كسلطان الآب، وأثبت صحة دعواه بإقامة ابنة يايرس (لوقا 8: 55) وابن أرملة نايين (لوقا 7: 14، 15) ولعازر (يوحنا 11: 43، 44) وهو يمنح الحياة الروحية لموتى الأرواح بواسطة روحه القدوس الذي يرسله إلى قلوبهم.
يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ الإحياء متوقف على مجرد مشيئة الابن، أي أنه لا يحيي إلا من يريد إحياءه، وأن الوسيلة الوحيدة إلى ذلك الإحياء إرادته وأمره.
22 «لأنَّ الآبَ لا يَدِينُ أَحَداً، بَل قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ».
متّى 11: 27 و28: 18 وع 27 ويوحنا 3: 35 و17: 2 وأعمال 17: 31 و1بطرس 4: 5
هذا عمل ثان من تلك الأعمال العظيمة، أي الدينونة وهو مما يختص بالله.
لأنَّ الآبَ لا يَدِينُ أَحَداً علة ذلك وعد الآب للابن في عهد الفداء وهو أنه يدين العالم إثابة له على تواضعه الاختياري لفداء العالم (فيلبي 2: 5 - 11). وتستلزم القوة على دينونة الناس القدرة على فحص قلوب الجميع، ومعرفة الأسباب الموجبة لأعمالهم. ولا يقدر على ذلك إلا الله، فيكون المسيح هو الله.
قَدْ أَعْطَى (متّى 25: 31 - 45 وأعمال 17: 31).
23 «لِكَيْ يُكْرِمَ الجَمِيعُ الابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ. مَنْ لا يُكْرِمُ الابْنَ لا يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ».
1يوحنا 2: 23
لِكَيْ يُكْرِمَ الجَمِيعُ الابْنَ هذا قصد الآب في إعطاء الابن أن يحيي الناس ويدين العالم فهو يحبه (ع 20 ويوحنا 3: 35).
كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ أي أن الله أراد أن يكون إكرام ابنه مساوياً لإكرامه، فيعتبر الناس ابنه ويعبدونه ويسجدون له ويطيعونه. وينتج من ذلك أن الابن مساوٍ للآب، وأنه يجب أن نقدم للابن ما نقدمه للآب من المحبة والإكرام والطاعة، فهذا ما يفعله سكان السماء (رؤيا 5: 12 و7: 10).
مَنْ لا يُكْرِمُ الابْنَ لا يُكْرِمُ الآبَ ظن اليهود أن غيرتهم للآب توجب عليهم أن لا يعتبروا الابن اعتبارهم له، وأن يحسبوا دعوى المسيح أنه ابن الله تجديفاً. فأوضح لهم أن امتناعهم عن اعتبار الابن هو التجديف، لأن من يأبى إكرام المسيح لجهله أو كبريائه أو عناده يأبى إكرام الآب. لأن الآب والابن ليسا إلهين حتى يستلزم إكرام الواحد سلب إكرام الآخر، بل هما أقنومان وإله واحد متحدان. فإنكار ما للواحد يستلزم إنكار ما للآخر.
أعلن الله إرادته أن تكون إحدى طرق إكرامه إكرام ابنه الذي هو «بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ» (عبرانيين 1: 3). فإذاً لا عبادة حقيقية بلا إكرام الابن، فالذي لا يكرم الابن يهين الله الآب.
الَّذِي أَرْسَلَهُ إهانة السفير تُحسب إهانة لملكه، وإهانة الرسول إهانة لمرسله. وقال هنا إنه لم يأت من تلقاء نفسه لكنه سفير الله مرسَل من السماء إلى الناس، فلذلك يستحق الإكرام الذي تقتضيه منزلته. والنتيجة المشار إليها هنا تبلغ الكمال عند إتمام عمل الفداء، حين يُظهر المسيح مجده بإقامة الموتى، ومحاسبة العالم، وإثابة المؤمنين، وعقاب الكافرين.
24 «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلامِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، ولا يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَل قَدِ انْتَقَلَ مِنَ المَوْتِ إِلَى الحَيَاةِ».
يوحنا 3: 16، 18 و6: 40، 47 و8: 51 و12: 44 و20: 3، مزمور 143: 2 و1يوحنا 3: 14
تكلم المسيح على الابن في ما سبق بضمير الغائب، وأخذ هنا يتكلم عليه بطريق المخاطب ليبين أن كل ما ذُكر من أمر الابن يصدق عليه، وبدأ كلامه بقوله «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ» تأكيداً وتثبيتاً.
مَنْ يَسْمَعُ تكلم في ما مرّ على نفسه ووظيفته، وأخذ يتكلم هنا على تأثير عمله في المؤمنين. و «السمع» المراد هنا ليس الإدراك بالأذن فقط، بل قبول القلب بالانتباه والوقار والمحبة والإيمان والطاعة أيضاً، كما يُفهم من متّى 11: 15 ويوحنا 8: 47 و10: 27 وأعمال 3: 23.
كلامِي أي تعليمي في الله وفي نفسي وواجبات الإنسان وكل الحقائق المعلنة في الإنجيل. فسماع قول المسيح ضروري اليوم كما كان يومها.
وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي أي بالآب الذي أرسل المسيح إلى العالم ليخلص الخطاة (يوحنا 3: 17) ومعنى الإيمان بالآب هنا تصديق شهادته لابنه وفقاً لقول الرسول «مَنْ لا يُصَدِّقُ اللَّهَ فَقَدْ جَعَلَهُ كَاذِباً، لأنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي قَدْ شَهِدَ بِهَا اللَّهُ عَنِ ابْنِهِ» (1يوحنا 5: 10 و11 انظر رومية 4: 24 و1بطرس 1: 21). ونتيجة الإيمان بالآب كنتيجة الإيمان بالابن (يوحنا 3: 36) وإن أحد هذين الإيمانين مرتبط بالآخر حتى يتعذر أحدهما بدون الآخر، لأن الإيمان بالمُرسِل يستلزم الإيمان بالمُرسَل الذي بدونه لا يُعرف الذي أرسله ولا مراده. وقد ذُكر هنا سماع كلام المسيح والإيمان بالله معاً شرطاً لنوال الحياة الأبدية.
فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ أي أنه دخل في الحياة الجديدة التي تشمل الولادة الروحية، ومقاومة الخطية، والنمو في القداسة، وراحة الضمير، ومصالحة الله، ومشابهة صورته، وتنتهي بالانتصار على الموت ونوال الطهارة التامة والسعادة الكاملة في السماء إلى الأبد (أعمال 13: 39 ورومية 5: 1). فعندما يؤمن الخاطئ تُغفر خطاياه ويتبرر ويصير وارثاً للسماء.
ولا يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ كما يستحق هو وكل نسل آدم الخاطئ (يوحنا 3: 18) وكما يصيب الذين لا يؤمنون. وعلّة نجاة المؤمن من الدينونة أن الإيمان بالمسيح وبالله المتكلم بواسطته يرفع عنه كل آثامه التي كانت سبب الدينونة (يوحنا 3: 18 و10: 28 ورومية 8: 1).
بَل قَدِ انْتَقَلَ مِنَ المَوْتِ إِلَى الحَيَاةِ أي من الموت الروحي إلى الحياة الروحية. وذلك انتقال: (1) من حال الجهالة والشقاء وعدم الشعور بالحقائق الروحية، إلى حال المغفرة والميراث السماوي واللذة بالأمور الروحية والمحبة والطاعة والغيرة لخدمة الله. (2) من حكم الموت بمقتضى الشريعة، إلى حال التبرير والتبني. (3) من بين الموتى بالخطية، إلى جماعة الأحياء بالقداسة. ويحدث هذا الانتقال للخاطئ عند توبته وقبوله المسيح، وينتج عن قوة المسيح واختيار الخاطئ، فليس هو إجبارياً ولا مما يُشعر به، بل هو من النعمة بواسطة الإيمان لا من التسلسل من الوالدين المؤمنين ولا من المعمودية ولا من مجرد التعليم.
25 «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ، وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ».
أفسس 2: 1، 5 و5: 14 وكولوسي 2: 13
اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ قال ذلك لأهمية ما يأتي وبيان أنه موضوع جديد، وهو أمر آخر من الأعمال العظمى التي ذُكرت في ع 20.
إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ بدء هذه الساعة عند مجيء المسيح. وما قيل على أثر هذه العبارة لا يصح قبل ذلك المجيء.
حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ هؤلاء الأموات هم الأموات بالروح (أفسس 5: 14) العائشين في الجهل والمعصية وعدم الشعور بسوء أحوالهم الروحية، وهم تحت حكم الهلاك الأبدي. والموت الجسدي رمز إلى هذا الموت الروحي. وأبان المسيح قدرته على إقامة الموتى في الروح بإحيائه الموتى في الجسد. وذلك لما قال لابنة يايرس «طليثا قومي» ولابن الأرملة «قم» وللعازر «هلم خارجاً». ومعنى «صوت ابن الله» هنا دعوته الأموات إلى الاستيقاظ من جهلهم وغفلتهم وحبهم العالم والخطية، فيسمعون ذلك الصوت بقلوبهم حين يقبلون الدعوة بالإيمان والطاعة. وتم ذلك بأن كثيرين سمعوا صوته وهو على الأرض وآمنوا به. وسمع صوته ثلاثة آلاف نفس في يوم الخمسين، ومنذ ذلك الوقت إلى الآن كل من سمع أصوات المبشرين المنادين بالإنجيل وآمن، سمع صوت ابن الله، وكذلك الذي قرأ كتابه وآمن.
وَالسَّامِعُونَ أي الذين ينتبهون من موتهم الروحي عند سماعهم صوت المسيح ويصغون إليه بالإيمان والطاعة.
يَحْيَوْنَ حياة روحية هي حياة الإيمان والبر والقداسة والطاعة لله، ويدخلون تلك الحياة وهم على الأرض، ويستعدون بذلك للدخول أخيراً في حياة القديسين في السماء. ولا نصيب لغير المؤمنين في هذه الحياة، خلافاً لأحوال المذكورين في ع 40.
26 «لأنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذَلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ».
كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ ذلك «الإله الحي» تمييزاً له عن الأوثان الذين بلا حياة، ولأن حياته ذاتية أبدية، ولأنه مصدر حياة كل حي في العالم (تكوين 2: 7 ومزمور 104: 29، 30).
كَذَلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَيْضاً أي كما أن الآب حي بالذات ومصدر حياة كل الأحياء كذلك الابن متجسداً. ولم يشر بقوله «أعطى الابن» إلى أن تلك الحياة لم تكن له قبل التجسد، بل قصد أن الله عيَّن للمسيح في ممارسته عمل الفداء أن يكون هو الواهب الحياة لموتى الأرواح وموتى الأجساد.
وفي هذا برهان على لاهوت المسيح، لأنه يستحيل أن يكون للمخلوق حياة كحياة الله ومصدر لكل أحياء العالم، لأن من خصائص الله أن الناس به تحيا وتتحرك وتوجد (أعمال 17: 28).
27 «وَأَعْطَاهُ سُلطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً، لأنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ».
ع 22 وأعمال 10: 42 و17: 31، دانيال 7: 13، 14
وَأَعْطَاهُ سُلطَاناً بالنظر إلى أنه وسيط في عمل الفداء.
أَنْ يَدِينَ أَيْضاً عيّن الله المسيح في نظام الفداء ديّاناً لكل البشر، فإذاً الذي يجلس على عرش الدينونة الابن لا الآب ولا الروح. نعم الله «ديان الجميع» (عبرانيين 12: 23) لكنه قضى أن يُجري تلك الدينونة على يد ابنه.
لأنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ يليق أن يكون ابن الإنسان ديّان الناس لثلاثة أمور: (1) أن الدينونة تكملة عمل الفداء الذي تجسد لأجله، فإن ابن الله صار ابن الإنسان ليموت عن الإنسان ويفديه ويحييه ويشفع فيه ثم يدينه. (2) إن ذلك إثابة له على تواضعه الاختياري، فإنه وقف أمام كرسي قيافا وكرسي بيلاطس، ودِين ظلماً ولذلك عيّنه الله ديّاناً للعالمين (فيلبي 2: 9). (3) إنه كابن الإنسان عرف ضعف الإنسان وقوة التجربة عليه، فاستعد بهذا لأن يكون ديّاناً شفوقاً كما أنه ديّان عادل.
وقوله «الآب أعطى الابن» يبطل قول سباليوس بأن الآب والابن أقنوم واحد، يتميزان باعتبار ممارسة العمل. وليس في ذلك القول ما يسند قول أريوس بأن الابن مخلوق، لأنه قيل على يسوع باعتبار أنه فادٍ لا بالنظر إلى طبيعته الأصلية.
28 «لا تَتَعَجَّبُوا مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي القُبُورِ صَوْتَهُ».
لا تَتَعَجَّبُوا مِنْ هَذَا الأرجح أنهم أظهروا بكلامهم أو بإمارات وجوههم أنهم استغربوا ما قاله في أنه «يحيي ويدين». ومضمون قوله في هذه الآية أنه سيريهم سبباً أعظم من هذا للتعجب عندما يبرهن صدق ما قاله فعلاً أمام كل المخلوقات، أي بإقامة أجساد الموتى. وليس ذلك لأنه أعظم مما ذُكر بالذات، بل إنه يجعل المشاهدين يندهشون ويتعجبون أكثر من ذلك، نظراً للأحوال والنتائج.
فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ في اليوم الأخير أي يوم القيامة العظيم.
جَمِيعُ الَّذِينَ فِي القُبُورِ أي كل الموتى الذين أجسادهم في القبور. فتلك الأجساد وإن اختلط ترابها بتراب الأرض، وحُجبت عن أبصار الناس تحت لجة البحر، تقوم وتشارك أرواحنا في الفرح أو في الحزن. وهذه الآية من أوضح البيّنات على القيامة وعمومها، لأنها قيلت عن جميع الموتى كباراً وصغاراً أغنياء وفقراء صالحين وأشراراً مؤمنين وكفرة في كل أمة وعصر.
يَسْمَعُ.. صَوْتَهُ الذين يسمعون هم أرواح الموتى عند رجوعها إلى الأجساد، والصوت الذي يسمعونه وقتئذ هو نفس الصوت الذي خاطبهم به لينبههم من موتهم الروحي. وشُبِّه الموت هنا بالنوم الذي ينتبه منه الراقدون بصوت المنادي. والمنادي العظيم هنا هو ابن الله. ولا نعلم كيف يوقظ صوته الموتى. قيل إن ذلك الصوت يقترن بصوت البوق (1 كورنثوس 15: 52). وقيل إن «الرَّبَّ نَفْسَهُ سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ» (1تسالونيكي 4: 16).
وتقتضي إقامة كل الموتى من البر والبحر منذ آدم إلى آخر إنسان يموت، تقتضي قوة إلهية لا يمكن عقل البشر أن يتصوّرها، وأن يسوع يجري كل ذلك بكلمة. وهو برهان قاطع أنه ذو طبيعة إلهية وقدرة غير محدودة.
29 «فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الحَيَاةِ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ».
إشعياء 26: 19 و 1كورنثوس 15: 52 و1تسالونيكي 4: 16، دانيال 12: 2 ومتّى 25: 32، 33، 46
فَيَخْرُجُ من القبور كما خرج لعازر يوحنا 11: 43، 44 فلا بد من أن يسمع الجميع ويخرجوا، ولكن لا يخرج الجميع إلى قيامة الحياة.
الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ أي الذين أظهرت أعمالهم أنهم آمنوا بالمسيح وأطاعوه، لأن الإيمان بلا أعمال لا يخلِّص أحداً (انظر شرح متّى 25: 32 - 36).
إِلَى قِيَامَةِ الحَيَاةِ سُميت قيامة هؤلاء قيامة الحياة لأنها مدخل إلى الحياة الأبدية، ولأنهم قاموا لكيلا يموتوا أيضاً (رؤيا 21: 4) ولأنهم يشاركون المسيح عند قيامتهم في حياته الممجدة. وكلمة «الحياة» هنا تعم كل خير وبركة وقداسة وسعادة ورضى الله.
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ يتضح من هذا أن أعمالهم الشريرة هي العلة الوحيدة لدينونتهم، فلا يمكنهم أن يلوموا إلا أنفسهم.
إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَة سُميت كذلك لأنه يلحقهم بعدها الدينونة والعقاب (دانيال 12: 2. انظر متّى 10: 28 و25: 34، 46 وأعمال 24: 15 و2تسالونيكي 1: 8، 9 و2بطرس 2: 9 ورؤيا 20: 5، 12).
وجملة ما قيل في هذا العدد أربعة أشياء: (1) إن بعد القبر حياة، فالموت ليس نهاية كل أمور الإنسان. (2) إن في العالم الآتي حالين: الحياة والدينونة. (3) إن القيامة ليست مختصة بالمؤمنين فيتلاشى الأشرار، بل إن الأشرار يقومون كالأبرار. (4) إن العلامات التي يُعرف بها الصالحون والأشرار ويُميَّزون ويُدانون في اليوم الأخير هي أعمالهم. ولم يذكر بولس قيامة الأشرار في 1كورنثوس 15 لأن غايته كانت إقناع المؤمنين بالمسيح بقيامة أجسادهم، ولم يكن من داعٍ للكلام على قيامة غيرهم.
30 «أَنَا لا أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ، وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ، لأنِّي لا أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَل مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي».
ع 19، متّى 26: 39 ويوحنا 4: 34 و6: 38
تكلم في هذه الآية وما يليها إلى آية 39 على الشهود الذين يشهدون بصدق قوله وهم ثلاثة: الآب، ويوحنا المعمدان، وكتَبَة الأسفار المقدسة.
أَنَا لا أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً كرر المسيح هنا قوله في ع 19 وهو أنه ليس مستقلاً بأعماله باعتبار أنه وسيط، إنما هو نائب الآب ومُجري قضائه وعامل بسلطانه. وفي ذلك إشارة إلى تمام الاتفاق بينه وبين الآب في القصد والعمل. فيكون معنى قوله «لا أقدر» أنه لا يريد، كما نقول إن الله لا يقدر أن يكذب.
كَمَا أَسْمَعُ تكلم هنا جرياً على عادة الناس الذي يسمعون بآذانهم ويبلغون بألسنتهم أخبار مرسليهم. ومقصود المسيح هنا بيان أنه يعلم تمام العلم إرادة الآب التي أتى ليعلنها.
أَدِينُ المعنى أن حكمه في الناس وفي التعاليم الآن وفي اليوم الأخير موافق كل الموافقة لأفكار الله ومقاصده التي يعرفها هو أكمل معرفة.
وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ لسببين: (1) ما ذكره سابقاً وهو أنها مبنية على معرفة كل أفكار الله تمام المعرفة. (2) خلوُّه من الظلم، فمشيئته وفق مشيئة الآب.
لأنِّي لا أَطْلُبُ مَشِيئَتِي الخ لا يستلزم ذلك أن المسيح لو طلب مشيئة نفسه كان حكمه جائراً، بل يدل على أنه ليس أنانياً، ولا يخطئ في الحكم لأنه أتى ليعمل مشيئة الله لا ليُرضي نفسه. وأبان خضوعه التام لمشيئة الآب بصلاته في جثسيماني (لوقا 22: 22). وأشار المسيح بذلك إلى أن اليهود طلبوا مشيئة أنفسهم وإكرامها عندما حكموا ببطلان دعواه خلافاً لما فعله هو.
31 «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً».
يوحنا 8: 12، 14 ورؤيا 3: 14
في الآيات 31 - 40 كلام في شهادة الآب للابن.
إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي قال هذا دفعاً لاعتراض في أفكار اليهود، وهو: إنك تشهد لنفسك وليس مَن يشهد لك. والمعنى: إن كنتُ انفردت بذلك بلا سند فاعتراضكم في محله.
فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً أي لا تُقبل شرعاً (لوقا 20: 21 ويوحنا 8: 13 و17). وهذا تصريح من المسيح بقبوله أن يُحكم في دعواه بمقتضى قوانين الشريعة التي لا تثبت الدعوى بأقل من شاهدين (عدد 35: 30 وتثنية 17: 6) والناس ينظرون في صفات الشاهد قبل أن يثقوا كل الثقة بشهادته، والمسيح استشهد الآب وهو أصدق الصادقين. ولعل معنى المسيح هنا: لو أمكن أن أكون منفرداً بشهادتي لأمكن أن تكون كاذبة، لكن ذلك فرض محال فالنتيجة محال أيضاً.
32 «الَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ».
متّى 3: 17 و17: 5 ويوحنا 8: 18 و1يوحنا 5: 6، 7، 9
الَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ أي الآب (ع 36). نعم إنه ذكر أيضاً شهادة يوحنا المعمدان له (ع 33) لكنه لم يشر إليها إلا بياناً أنه لا يستند عليها إثباتاً لدعواه، بل على شهادة الآب.
وَأَنَا أَعْلَمُ الخ أي الآن كما علمت منذ الأزل. قال ذلك بياناً لشرف مقامه واتحاده مع الآب وليذكرهم استحالة شهادة الله للكذب.
33 «أَنْتُمْ أَرْسَلتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهِدَ لِلحَقِّ».
يوحنا 1: 15، 19
أَنْتُمْ أَرْسَلتُمْ إِلَى يُوحَنَّا أشار بذلك إلى اللجنة التي أرسلها الفريسيون إلى المعمدان يوحنا 1: 19. والمعنى أنكم أنتم أرسلتم إلى المعمدان وسألتموه شهادته فهو شاهدكم المختار.
فَشَهِدَ لِلحَقِّ (في يوحنا 1: 26، 29، 36). كان يجب أن يقتنعوا بشهادته. كأن المسيح قال لهم: لا تستطيعون أن تنكروا أن المعمدان نبي مخلص بلا غاية شخصية تمنعكم من قبول شهادته، وقد شهد لي، فلي حق أن أتخذ شهادته إثباتاً كافياً لدعواي لو أردت أن أستند على شهادة بشر.
34 «وَأَنَا لا أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ، وَلَكِنِّي أَقُولُ هَذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ».
وَأَنَا لا أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ أي لا أكتفي بها وحدها، ولا أجعلها جلَّ معتمدي لأني لست مفتقراً لشهادة بشر بأني المسيح. نعم كان المعمدان أعظم الأنبياء، لكنه إنسان وأنا متكل على شاهد أعظم منه.
وَلَكِنِّي أَقُولُ هَذَا أي أشير إلى شهادة المعمدان لأنكم طلبتم شهادته، فجاءتكم واضحة صادقة مستوفية تستحق أن تثقوا فيها (متّى 21: 23 - 27).
لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ أي أني أشرت إلى شهادة المعمدان لمنفعتكم، لإثبات دعواي لأني في غنى عن ذلك. فإن قبلتم شهادته آمنتم بأني المسيح وخلصتم بي. ولكن برفضكم تلك الشهادة رفضتم رسول الله ورسالته فستهلكون بخطاياكم وعدم إيمانكم.
35 «كَانَ هُوَ السِّرَاجَ المُوقَدَ المُنِيرَ، وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَةً».
2بطرس 1: 19، متّى 21: 26
كَانَ هُوَ استخدم هنا الفعل الماضي، فقد قال هذا حين كان في الجليل وكان المعمدان في السجن (متّى 4: 12 ويوحنا 4: 44) ثم قطع هيرودس رأسه بعد ذلك بقليل (يوحنا 6: 1 ومتّى 14: 13) ولذلك ذكر المسيح شهادته في الماضي.
السِّرَاجَ المُوقَدَ المُنِيرَ هذا تشبيه ووصف ليوحنا باعتبار أنه سابق المسيح، ومرسل ليُهيئ قلوب الناس لقبوله، ويبين لهم ما يعرفونه به. وكثيراً ما يُشبَّه المعلم بالنور (رومية 2: 19 ومتى 5: 14 ويوحنا 8: 12 و12: 46) ويُشبَّه كتاب الله بالسراج لأنه يُري الناس طريق القداسة والحق (مزمور 119: 105) وكذلك فعل المعمدان. وهذه شهادة قوية بعظمة المعمدان، ولاق أن يُشبَّه بالسراج لا بالشمس، لأن السراج لا ينير بذاته لأن الناس يضعون فيه الزيت ويوقدونه لغايات مخصوصة، ولأن نوره وقتي يُطفأ متى أُدركت الغاية التي أُوقد من أجلها. كذلك يوحنا عيًنه الله مرشداً وقتاً معيناً للناس يخبرهم بما أمره الله به ويقودهم إلى «النور الحقيقي» (يوحنا 1: 8، 13).
وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا أشار بذلك إلى ما اشتهرت به كرازة المعمدان حين خرج إليه «أورشليم وكل اليهودية» (متّى 3: 5). وخاطبهم يسوع باعتبار الأمة كلها. والأرجح أن كلامه صدق أيضاً على بعض الحاضرين، لأن بعض الفريسيين خرج إلى يوحنا (متّى 3: 7) واعتبره الناس نبياً، فكان للمسيح أن يشير إلى شهادته إثباتاً لدعواه لو أراد ذلك.
سَاعَةً أي وقتاً قصيراً. ابتهج شعب اليهود بتعليم يوحنا حين بشرهم بقرب مجيء المسيح قبل أن عرفوا أنه قصد به يسوع الناصري، لكن لما ألحَّ عليهم أن يتركوا خطاياهم ويقبلوا يسوع مسيحاً لهم تركوه. وكان تأثير كرازة يوحنا في اليهود وقتياً، لأن قليلين ممن سمعوا وعظه قبلوا نصيحته وتبعوا يسوع. ولكن لما سُجن وقُتل لم يبالوا بتعاليمه ولا بشهادته.
36 «وَأَمَّا أَنَا فَلِي شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا، لأنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا، هَذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي».
1يوحنا 5: 9 يوحنا 3: 2 و10: 25 و15: 24
شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا أي أشد إقناعاً وأقطع حجة وأكثر استحقاقاً للقبول.
الأَعْمَالَ أي المعجزات التي صنعها كشفاء المرضى وفتح عيون العميان وإقامة الموتى. وشهد الآب بصحة دعواه بإعطائه أن يفعل تلك المعجزات. واستشهد المسيح بمعجزاته أربع مرات في هذه البشارة هنا وفي 3: 2 و10: 25 و15: 24. والذي قوَّى شهادة تلك المعجزات أربعة أمور: (1) عددها، فهي كثيرة جداً. و(2) عظمتها. و(3) لأن صنع أكثرها أمام أعدائه وأصدقائه. و(4) لأنها خيرية لا مجرد إظهار قوته.
وكانت طهارة سيرته وجودة تعليمه علاوة على عظمة معجزاته شهادة بصدق دعواه.
أَعْطَانِي الآبُ أي عيّن لي أن أصنعها. أراد أن يبيّن اتحاده بالآب بصنع الآيات كما بيّنه قبلاً بالتعليم.
لأُكَمِّلَهَا أي أتممها جميعاً حتى يمكنني أن أقول وأنا على الصليب في شأن كل عملي باعتبار كوني وسيط الآب ومعلن إرادته «قد أُكمل» (يوحنا 19: 30).
هِيَ تَشْهَدُ لِي أني من عند الله، لأنها أعمال إلهية لا يستطيعها إنسان. ولو استطاع أن يصنعها لا يسمح الله بها لمن لا يرضيه. وقد سلَّم نيقوديموس بصحة شهادة هذه المعجزات (يوحنا 3: 2) وسلَّم بها الأعمى الذي شُفي (يوحنا 9: 31 - 33).
37 «وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ، ولا أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ».
متّى 3: 17 و17: 5 ويوحنا 6: 27 و8: 18، تثنية 4: 12 ويوحنا 1: 18 و1تي 1: 17 و1يوحنا 4: 12 - 14
وَالآبُ نَفْسُهُ هذا فوق ما شهد بواسطة المعجزات. والأرجح أن المعنى هنا أن الآب يشهد بطريقين: (1) بأنبياء العهد القديم (2) بروحه الذي يخاطب قلوبهم. ولا نقول إن المسيح أشار هنا إلى شهادة الآب المسموعة حين عمّده يوحنا، ولا إلى شهادته له على جبل التجلي، لأن الأرجح أن الأولى لم يسمعها سوى يوحنا، والثانية لم يسمعها سوى ثلاثة من الرسل. والكلام هنا في شهادة الآب له لأمة اليهود كلها.
لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ يمكن أن يكون هذا تفسيراً لما سبق أو توبيخاً لليهود. ولا ندري أيهما المقصود. فإن كان تفسيراً لما سبق يكون قصد المسيح في هذه الآية وما يليها. لا أقول لكم أيها اليهود إن الله أبان لكم شهادته لي بصوت مسموع كما تكلم مع آبائكم في طور سينا، أو أنه ظهر لكم بتلك الشهادة كما ظهر لعيون الآباء القدماء، أو أنه جعلكم تشعرون بها في داخل قلوبكم كالذين يسكن الروح القدس فيهم ويعلّمهم كل حق (يوحنا 3: 33). بل أقول إن تلك الشهادة بين أيديكم مكتوبة وتتلونها بشفاهكم وأنتم لم تقبلوها.
وإن كان توبيخاً فقصده أنكم أيها اليهود لم تريدوا قط قبول شهادة الله منذ أول مخاطبته إياكم إلى الآن. ويكون معنى «الصوت» أوامر الله و «السمع» طاعتها، فكأنه قال «كلمكم الله في طور سيناء وسمعتم صوته بآذانكم دون قلوبكم» (تثنية 4: 12) و «كلمكم أيضاً بأنبيائه وأبيتم سماعه» (إرميا 7: 13 و11: 7، 8) «وكلمكم بفم ابنه أيضاً فلم تسمعوا. وهو لا يزال يكلمكم بأعمال عنايته وروحه القدوس ولم تصغوا».
ولا أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ لا ريب في هذا إذا أخذناه على ظاهره لأن «الله لم يره أحد قط» (يوحنا 1: 18). ولكن معنى «الإبصار» هنا الالتفات بالقلب (كما في 3يوحنا 2 و1يوحنا 3: 6). وأشار «بالهيئة» إلى الطرق التي أظهر الله وجوده كما أظهر ذلك بالسحابة في البرية (عدد 9: 15، 16) وبالحمامة عند معمودية يسوع (لوقا 3: 22) وبكل الوسائل التي شهد بها الآب لابنه وهو على الأرض، لأن المسيح باعتباره معلن صفات الآب كان يعلّم بينهم ويصنع المعجزات، ولم تكن لهم عيون تنظر علامات كون الله بينهم، ولا آذان تسمع كلامه.
38 «وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ، لأنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِهِ».
لَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ المراد بكلمة الله هنا كل الوسائط التي أظهر بها نفسه للناس، ولا سيما كلامه المكتوب. فهذا كان بين أيديهم، وفي تابوت العهد، وفي المجامع، وعلى صفحات ذاكرتهم. لكنه لم يكن على صفحات قلوبهم. لقد ادَّعى اليهود أنهم غيورون على كلمة الله، لكنهم لم يدركوا معناها الروحي ولم يحبوها ولم يشاءوا أن يتأملوا فيها ويطيعوها. ولو ثبتت كلمة الله فيهم لظهر تأثيرها في سيرتهم.
لأنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ الخ هذا برهان على أن كلمة الله ليست ثابتة فيهم منذ أول إعلانها لهم، فلو قبلوا شهادة الأنبياء وثبتت فيهم لأعدَّت قلوبهم لقبول المسيح عند مجيئه. ولأن الأنبياء شهدوا لهم، فبرفضهم المسيح رفضوا كلمة الله الشاهدة له.
39 «فَتِّشُوا الكُتُبَ لأنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي».
إشعياء 8: 20 و34: 16 ولوقا 16: 29 وع 46 وأعمال 17: 11، تثنية 18: 15، 18 ولوقا 24: 27 ويوحنا 1: 45
فَتِّشُوا الكُتُبَ أبان المسيح في آية 37 أن الآب شهد له بالأعمال التي أعطاه أن يصنعها. وأعلن في هذه الآية شهادة ثانية من الآب وهي ما كتب من أمره في الأسفار المقدسة. ومعنى قوله «فتشوا الكتب» اجتهدوا أن تعرفوا المعنى الروحي للكتب لتتحقَّقوا ما هي شهادة الآب ولا سيما شهادته لابنه. نعم إن اليهود يفتشون الكتب بغية المعرفة العقلية وحفظ الألفاظ، لكنهم لم يلتفتوا إلى المعنى الروحي.
ويحتمل تعبير «فتشوا الكتب» في أصله اليوناني معنى «أنتم تفتشون الكتب». فيكون قصد المسيح على ذلك توبيخ اليهود على أنهم بعد أن درسوا الكتب رفضوا شهادتها للمسيح.
لأنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وهو ظن في محله، لأن كتب الوحي ترشد الناس إلى الحياة الأبدية لا باقتنائها فقط أو بمجرد تلاوتها، بل بأن يصحب ذلك روح الله الذي يجعل المطالع يفهم المعنى ويستفيد منه الفائدة الروحية.
وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي أي الكتب التي تظنون أن لكم فيها حياة أبدية هي نفسها التي تشهد لي. ومعنى هذه العبارة أن خلاصة تعليم أسفار العهد القديم لا سيما ما كُتب في إشعياء 53 ودانيال 9: 26، 27 هي الشهادة للمسيح والإعلان أن به الحياة الأبدية. وهي «تشهد لي» بثلاث طرق: (1) النبوات والمواعيد الصريحة، (2) الرسوم أو الرموز كالذبائح وما شابهها، (3) أشخاص العهد القديم الذين كانوا رموزاً إلى المسيح كموسى وداود وغيرهما.
40 «ولا تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ».
يوحنا 1: 11 و3: 19
لا تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ ما أعظم الفرق بين اعتقادهم وعملهم، فإنهم طلبوا الحياة ورفضوا الذي أتى بها، مع أن الكتب المقدسة شهدت له أنه معلم ومخلِّص، لكنهم لم يقبلوا براهينها فابتعدوا عن الحياة الأبدية المعلنة فيها. ولم يقتنعوا بالبراهين لأنهم لم يريدوا أن يأتوا إليه، وليس لأن البراهين أو عقولهم كانت ضعيفة.
لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ المسيح هو الطريق والحق والحياة (يوحنا 14: 6) وغاية مجيئه منح الحياة. والإتيان إليه هو الطريق الوحيد لنوال الحياة الأبدية (يوحنا 10: 10). وهذه الحياة روحية أبدية (غلاطية 5: 22، 23 وأفسس 2: 10) ويتضح مما قيل هنا أن المانع الوحيد للناس من نوال الحياة الأبدية فساد الإرادة، لا كثرة الخطايا، ولا قضاء الله، ولا محدودية الفداء، ولا قلّة المعرفة، ولا ضعف البراهين. فمتى أراد الإنسان أن يكون تلميذاً ليعرف طريق الخلاص أراد الله أن يكون معلماً له. وينبوع الكفر الأصلي في الإرادة لا في العقل.
41 «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ».
ع 34 و1تسالونيكي 2: 6
قصد يسوع هنا أنه لا يخاطبهم لأنه يطلب مجد نفسه بجعلهم تلاميذه، فلو أنه طلب ذلك لكان معناه أنه ملك زمني كما يشتهي اليهود. ولم يعلن المسيح هنا غايته، لكن من الواضح أنها مجد الآب وخلاص النفوس. ولم يطلب المسيح قط مجداً من الناس بل من الله (فيلبي 2: 9).
42 «وَلَكِنِّي قَدْ عَرَفْتُكُمْ أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللَّهِ فِي أَنْفُسِكُمْ».
تثنية 6: 4، 5
قَدْ عَرَفْتُكُمْ أي أدركت أسرار قلوبكم، وكل العلل التي تحملكم على رفضكم إياي، لأنها مكشوفة لي دائماً.
أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللَّهِ هذا هو السبب الأول لرفضهم المسيح. نعم إنهم ادَّعوا عبادة الإله الحق وإكرامه وطاعته، لكن قلوبهم خلت من المحبة الخالصة له. وأظهروا عدم حبهم برفضهم نبيَّه وكلامه وابنه، ولذلك لم يفهموا كتابه ولا عرفوا إرادته ورفضوا شهادته. لقد اشتكوا على المسيح بأنه خالف شريعة الله ولم يقدس السبت، لكنهم لم ينتبهوا إلى أنهم خالفوا الشريعة الأولى والعظمى وهي شريعة المحبة (تثنية 6: 5).
43 «أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذَلِكَ تَقْبَلُونَهُ».
أَنَا قَدْ أَتَيْتُ... وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي هذا دليل قاطع على عدم محبتهم لله لأنه رفضوا رسوله وشهادته له. لا مناسبة بين يسوع الوديع المتواضع القلب والفريسيين المدَّعين المتكبرين البخلاء الحساد المرائين.
بِاسْمِ أَبِي صرحت لكم أني جئت بأمر الله الآب لعمل مشيئته وطلبت دائماً مجده. وطاعتي له هي سبب تأسيسي ملكوتاً روحياً لا زمنياً. والمعجزات التي صنعتها حُجة قاطعة على أني أتيت باسمه وسلطانه.
إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ في هذا تاريخ لماضٍ ونبوَّة بمستقبل، فإن اليهود كانوا يميلون دائماً إلى قبول المسحاء الكذبة الذي غايتهم مجد أنفسهم. والمسحاء الكذبة الذين أعلنوا أنهم «المسيح» كثيرون جداً (انظر شرح متّى 24: 5).
فَذَلِكَ تَقْبَلُونَهُ شبيه الشيء منجذب إليه. طلب اليهود ملكاً أرضياً فاستعدوا لقبول من يدّعي ذلك الملك. فأكرمهم مثل هذا وتملقهم ليصل إلى غايته وارتقائه، فلذلك سرّوا به.
44 «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلَهِ الوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟».
يوحنا 12: 43، رومية 2: 29
في هذا العدد علة ثانية لعدم قبول اليهود للمسيح وشهادة الآب له، وهي رغبتهم في المجد الدنيوي وتفضيلهم إياه على المجد الذي من عند الله. والاستفهام هنا للتنبيه على استحالة اتفاق الضدين.. فمن المحال أن تؤمنوا ما دمتم على هذه الحال التي تمنع قلوبكم من قبول شهادة الله للمسيح الحق. فقد كانوا يتوقعون مسيحاً يعظمهم ويمجدهم. فلو جاء يسوع باحتفال ومجد وسلطان ملكي لتبعوه بغية أن يشاركوه في مجده. ولهذا صعب عليهم أن يتبعوه وهو معلم وديع وملك روحي.
وَالمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلَهِ الوَاحِدِ افتخر اليهود بتمسكهم بتوحيد الله وفق قوله بلسان كليمه موسى «إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ» (تثنية 6: 4) وأنهم مجدوه بذلك، ولكنهم بطلبهم المجد لأنفسهم سلبوا المجد منه. فلو تركوا مجد أنفسهم بغية مجد الله لنالوا مدح ضمائرهم في الدنيا وثواب السماء في الآخرة، لأن الإنسان لا يمكن أن ينال المجد من الله ما لم ينكر ذاته (يوحنا 12: 43).
45 «لا تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآبِ. يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى، الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ».
رومية 2: 12
لا تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ المسيح أتى ليخلِّص لا ليشكو. ولو أراد أن يشكو لما احتاج إلى شكواه لأنه يوجد شاك آخر كاف.
يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى ليس المعنى أن موسى يشكوهم فعلاً إلى الله، بل إن كتب موسى التي يقرأونها كل يوم في مجامعهم تدينهم، كأنه هو الذي يتكلم، لأنهم ادَّعوا أنهم تلاميذه وأنهم يعتبرون كلامه كل الاعتبار، لكنهم رفضوا مضمون كتبه، أي الشهادة للمسيح. ولا يعين هنا وقت تلك الشكاية، فهي ليست مختصة بيوم الدين، بل هي عليهم دائماً ما لم يؤمنوا بالمسيح.
الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ اتكلوا لتبريرهم في اليوم الأخير على شدة حفظهم كل ما أمر به في الشريعة التي جاء بها موسى، فكانوا كأنهم يتوقعون أن يقوم موسى من قبره ويشهد لهم بأمانتهم، لكن الأمر على خلاف ما توقعوا، لأن موسى يشكوهم إلى الآب بدلاً من أن يشهد لهم. وما قاله المسيح هنا ينقض كل أساس ما اتكل اليهود عليه لخلاص نفوسهم، لأن موسى يطلب دينونتهم من الله، وهو الذي رجوا أن يبررهم.
46 «لأنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي، لأنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي».
تكوين 3: 15 و12: 3 و18: 18 و22: 18 و49: 10 وتثنية 18: 15 و18 ويوحنا 1: 45 وأعمال 26: 22
لأنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي الإيمان بأحدهم يستلزم الإيمان بالآخر، فالذي يقبل تعليم موسى قبولاً صحيحاً لا بدّ أن يقبل تعليم المسيح، لشدة العلاقة الواضحة بينهما. واليهود لم يدركوا المعنى الروحي من تعاليم موسى ورموزه كالذبائح والتطهيرات والكهنوت، ولذلك لم يستعدوا لقبول المسيح المشار إليه بكل هذا التعليم.
لأنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي إني نسل المرأة «الذي يسحق رأس الحية» (تكوين 3: 15)، ونسل إبراهيم الذي «به تتبارك جميع قبائل الأرض» (تكوين 12: 3)، و «شيلون الذي له يكون خضوع شعوب» (تكوين 49: 10)، و «الكوكب الذي يبرز من يعقوب والقضيب الذي يقوم من إسرائيل» (عدد 24: 17)، والنبي «الذي يقيم لك الرب إلهك من وسطك من إخوتك مثلي» (تثنية 18: 15 - 18).
والكلام هنا وفق قول الرسول «قد كان الناموس مؤدبنا (المربّي) إلى المسيح» (غلاطية 3: 24) وأن شريعة موسى الطقسية وكل رسومها وشعائرها رموز إلى المسيح (كولوسي 2: 17). وكانت حيّة النحاس التي رفعها موسى في البرية إشارة إلى المسيح مرفوعاً على الصليب (عدد 21: 9 ويوحنا 3: 14).
هذه الآية شهادة واضحة من المسيح بأن الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى هي من وحي الله لموسى (قارن لوقا 24: 44 برومية 10: 5).
47 «فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ، فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كلامِي؟».
تقول هذه الآية ما قالته آية 46 بتغيير اللفظ، أي أن رفض شهادة موسى يستلزم رفض تعليمي، لأن تلك الشهادة هي الوسيلة إلى معرفة صحة دعواي. فكأنه قال: تدَّعون أنكم تلاميذ موسى وأنكم تعتبرون كلامه وتوقّرونه نظراً لكثرة من تمسكوا به من الأتقياء في قرون كثيرة، ومع ذلك لم تؤمنوا بذلك الكلام حق الإيمان. فلا عجب أنكم لم تؤمنوا بكلامي وأنتم تحتقرونني وتبغضونني.
ولم يخبرنا البشير بتأثير هذا الكلام في اليهود، لكن نستنتج مما نقرأه في مواضع أُخرى أنه أثار غضب اليهود عليه وبغضهم له وإصرارهم أن يقتلوه (ع 18).
وفي هذه المخاطبة اثنتا عشرة حقيقة ذات شأن: (1) الاتحاد الكلي بين الآب والابن. (2) شرف الابن وإرساليته الإلهية. (3) حقوق المؤمن. (4) إحياء الموتى بالروح. (5) الدينونة والديان. (6) قيامة الجسد. (7) قيمة شهادة المعجزات. (8) وجوب درس الكتاب المقدس. (9) فساد مشيئة الإنسان. (10) محبة مجد الناس علة الكفر. (11) قيمة كتب موسى بالنظر إلى أنها تشهد للمسيح. (12) حقيقة حفظ يوم الراحة.
1 «بَعْدَ هَذَا مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ الجَلِيلِ، وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ».
متّى 14: 14 الخ ومرقس 6: 35 الخ ولوقا 9: 10 الخ
بَعْدَ هَذَا أي بعد الأمور المذكورة في أصحاح 5. وبدء هذا الأصحاح كبدء أصحاح 5، وليس فيه ما يبيّن طول المدة الماضية أو قصرها والمرجح أنها نحو سنة. ومن حوادث هذه المدة قتل يوحنا المعمدان (متّى 14: 13)، ودعوة الرسل وإرسالهم إلى التبشير ورجوعهم (مرقس 6: 30، 31)، والوعظ على الجبل، وجولان المسيح ثانية في الجليل، وصنعه معظم معجزاته، ووعظه بأكثر أمثاله. ولم يذكر يوحنا من معجزات المسيح في الجليل سوى اثنتين، وهما: تحويل الماء خمراً، وشفاء ابن خادم الملك (يوحنا 2، 4).
مَضَى يَسُوعُ إِلَى عَبْرِ بَحْرِ الجَلِيلِ أي من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي. والموضع الذي ذهب إليه في جوار بيت صيدا أو من توابعها (لوقا 9: 10).
وَهُوَ بَحْرُ طَبَرِيَّةَ زاد البشير هذا التفسير لإفادة قراء بشارته من الأمم. وسُمّي هذا البحر «جنيسارت»، كما نُسب إلى مدينة طبرية المبنية على شاطئه، والتي بناها هيرودس أنتيباس وأطلق عليها اسم طيباريوس قيصر الرومان (انظر شرح متّى 4: 18).
2 «وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ لأنَّهُمْ أَبْصَرُوا آيَاتِهِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا فِي المَرْضَى»
أشار يوحنا هنا بالاختصار إلى وفرة الجموع الذين تبعوا المسيح من مكان إلى آخر وهو يجول في الجليل وكثرة ما صنع من المعجزات التي ذكرها غيره من الإنجيليين بالتفصيل (متّى 4: 24 و8: 16 و9: 35 و15: 30 ومرقس 6: 56 ولوقا 19: 11، 12).
3 «فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى جَبَلٍ وَجَلَسَ هُنَاكَ مَعَ تلامِيذِهِ».
فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى جَبَلٍ أي إلى تل أو أرض مرتفعة شمال شرق البحر. وصعد إلى هناك للراحة والصلاة وتعليم رسله (مرقس 6: 30).
4 «وَكَانَ الفِصْحُ عِيدُ اليَهُودِ قَرِيباً»
لاويين 23: 5، 7 وتثنية 16: 1 ويوحنا 2: 13 و5: 1
أضاف «الفصح» لفائدة قراء بشارته ممن يجهلون شريعة اليهود، وفي ذلك تلميح إلى عدم تكليف المسيحيين بذلك العيد. وقد سبق الكلام على الفصح بالتفصيل في شرح متّى 26: 2. والأرجح أن هذا العيد هو الفصل الثالث في مدة خدمة المسيح. ولم يصعد إليه المسيح لأن اليهود رفضوه في الفصح الذي قبله (يوحنا 2: 18 و5: 1، 18) فكان لا يستطيع أن يصعد إليه بلا خطر، وساعته لم تكن قد أتت. وكان ازدحام الناس على المسيح في الجليل بسبب قرب الفصح، إذ كانوا يجتمعون من الشمال استعداداً للصعود إلى أورشليم.
5 «فَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ: مِنْ أَيْنَ نَبْتَاعُ خُبْزاً لِيَأْكُلَ هَؤُلاءِ؟».
سبق الكلام على هذه المعجزة وحوادثها في شرح (متّى 14: 13 - 21 ومرقس 6: 32 - 44 ولوقا 9: 10 - 17. ولكن يوحنا ذكر من متعلقات ذلك ما لم يذكره سائر البشيرين. وهذه المعجزة هي الوحيدة التي ذكرها كل الإنجيليين الأربعة. وذكرها يوحنا ليتخذها مقدمة لخطاب المسيح الذي بُني عليها.
وَنَظَرَ أَنَّ جَمْعاً كَثِيراً مُقْبِلٌ إِلَيْهِ كان بعض هذا الجمع هناك عند خروجه من السفينة، وظلوا مجتمعين وهو على الجبل، فتحنَّن عليهم ونزل إليهم.
فَقَالَ لِفِيلُبُّسَ لم يذكر هذه المحادثة إلا يوحنا، وقد مر الكلام على فيلبس في شرح متّى 10: 3. ولم يتضح سبب سؤال يسوع إيّاه دون غيره، ولعل إيمان فيلبس كان وقتئذ أضعف من إيمان غيره من الرسل، أو لعله كان أقرب التلاميذ إليه. وكان أحد الستة الذين كانوا في قانا يوم تحويل الماء خمراً. ولعل يسوع أراد أن يرى ما استفاده فيلبس يومئذ.
6 «وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَمْتَحِنَهُ، لأنَّهُ هُوَ عَلِمَ مَا هُوَ مُزْمِعٌ أَنْ يَفْعَلَ».
وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيَمْتَحِنَهُ أي ليمتحن قوة إيمانه به من جهة قدرته على إشباع الجمع الكثير. ولا تناقض بين ما قيل هنا وما قاله متّى من أن المسيح علَّم الجمع إلى المساء ثم أتى إليه تلاميذه وسألوه أن يصرف الجمع، لاحتمال أن المسيح وجَّه سؤاله إلى فيلبس قبل إتيان التلاميذ أو بعده. فلو عرفنا كل الأحوال وقتئذ لعرفنا الاتفاق التام بين الخبرين (انظر شرح متّى 14: 15).
لأنَّهُ هُوَ عَلِمَ الخ شهادة البشير بعلم المسيح كل شيء نتيجة اختباره، فأيقن أن المسيح لم يسأل فيلبس ما سأله إياه ابتغاء نصيحته.
7 «أَجَابَهُ فِيلُبُّسُ: لا يَكْفِيهِمْ خُبْزٌ بِمِئَتَيْ دِينَارٍ لِيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئاً يَسِيراً»
عدد 11: 21، 22
أظهر جواب فيلبس ضعف إيمانه بيسوع، لأنه لم يلتفت إلى قدرة المسيح على كل شيء، بل حصر نظره في صعوبة إشباع مثل ذلك العدد.
بِمِئَتَيْ دِينَارٍ كان ذلك أجرة فاعل في مئتي يوم (متّى 20: 9، 10). ولا شك أن فيلبس ذكر ذلك المبلغ لأنه يتعذر على جميع التلاميذ.
8، 9 «8 قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تلامِيذِهِ، وَهُوَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ: 9هُنَا غُلامٌ مَعَهُ خَمْسَةُ أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ وَسَمَكَتَانِ، وَلَكِنْ مَا هَذَا لِمِثْلِ هَؤُلاءِ؟»
2ملوك 4: 43
أَنْدَرَاوُسُ هو أحد تلميذي المعمدان اللذين تبعا المسيح أولاً، والآخر يوحنا كاتب هذه البشارة (يوحنا 1: 40 انظر شرح متّى 10: 2). وكان قوله بعض الجواب عن فيلبس لقول يسوع «أين نبتاع خبزاً؟» وقوله لجميع الرسل «كم رغيفاً عندكم؟» (مرقس 6: 38).
أَرْغِفَةِ شَعِيرٍ لم يذكر أحد من الإنجيليين سوى يوحنا من أي الحبوب كانت تلك الأرغفة، ومن أين هي. وكان خبز الشعير مأكول الفقراء في الجليل. وأتى ذلك الغلام بالخبز ليبيعه بين ذلك الجمع، فاشترى الباقي منه أحد التلاميذ، أو كان حامل زاد التلاميذ.
أظهر جواب فيلبس عظمة الحاجة وأظهر جواب أندراوس قلة الوسائل.
10 «فَقَالَ يَسُوعُ: اجْعَلُوا النَّاسَ يَتَّكِئُونَ. وَكَانَ فِي المَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ، فَاتَّكَأَ الرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلافٍ».
وَكَانَ فِي المَكَانِ عُشْبٌ كَثِيرٌ لأن الوقت كان ربيعاً، وقت الفصح أي في شهر نيسان (ع 4).
فَاتَّكَأَ الرِّجَالُ وَعَدَدُهُمْ نَحْوُ خَمْسَةِ آلافٍ وزاد متّى قوله عدا عن النساء والأولاد (متّى 14: 21) وعلة ذكر عدد الرجال دون غيرهم جلوسهم وحدهم صفوفاً مئة مئة وخمسين خمسين ليسهل توزيع الخبز عليهم، وبذلك هان إحصاؤهم. أما النساء والأولاد فلم يكونوا كذلك.
11 «وَأَخَذَ يَسُوعُ الأَرْغِفَةَ وَشَكَرَ، وَوَزَّعَ عَلَى التّلامِيذِ، وَالتّلامِيذُ أَعْطَوُا المُتَّكِئِينَ. وَكَذَلِكَ مِنَ السَّمَكَتَيْنِ بِقَدْرِ مَا شَاءُوا».
جاء في سائر البشائر «بارك» بدل «شكر» والمعنى واحد، لأن الشكر يجلب البركة.
12، 13 «12 فَلَمَّا شَبِعُوا، قَالَ لِتلامِيذِهِ: اجْمَعُوا الكِسَرَ الفَاضِلَةَ لِكَيْ لا يَضِيعَ شَيْءٌ. 13 فَجَمَعُوا وَملأوا اثْنَتَيْ عَشَرَةَ قُفَّةً مِنَ الكِسَرِ، مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةِ الشَّعِيرِ الَّتِي فَضَلَتْ عَنِ الآكِلِينَ».
قَالَ لِتلامِيذِهِ روى سائر البشيرين أن التلاميذ جمعوا الكسر، وقال يوحنا إنهم جمعوها بأمر المسيح. والغاية من ذلك الانتقاع بها، والتذكير بالمعجزة.
14 «فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ الآيَةَ الَّتِي صَنَعَهَا يَسُوعُ قَالُوا: إِنَّ هَذَا هُوَ بِالحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى العَالَمِ!».
تكوين 49: 10 وتثنية 18: 15، 18 ومتّى 11: 3 ويوحنا 1: 21 و4: 19، 25 و7: 40
النَّبِيُّ الآتِي إِلَى العَالَمِ هو الذي أنبأ به موسى في تثنية 18: 15 - 18، وتوقعت الأمة اليهودية مجيئه، والذي نادى المعمدان بإتيانه.
15 «وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً، انْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى الجَبَلِ وَحْدَهُ».
يَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكاً قصدوا أن يجعلوه ملكاً زمنياً ليأخذوه باحتفال إلى أورشليم ويجمعوا الجنود ويحاربوا الرومان وينقذوا بلادهم من سلطان قيصر. ولم يقصدوا قط أن يقبلوه ملكاً روحياً ويطيعوا أوامره الروحية.
انْصَرَفَ أَيْضاً إِلَى الجَبَلِ أي الأراضي الجبلية حيث كان سابقاً (ع 3). ذكر متّى ومرقس علة واحدة لانصرافه وهي الصلاة، وزاد يوحنا على ذلك التخلص من تمليكه. ولنا من هذه المعجزة أربع فوائد: (1) برهان شفقة المسيح وقوته. (2) الثقة فيه على الدوام، فالذي أشبع خمسة آلاف في ذلك اليوم قادر ومستعد أن يقوم بواجبات تلاميذه الجسدية الآن. (3) ما يجب أن تعمله الكنيسة من أجل غيرها من الناس، فتجتهد في بذل المنافع الجسدية والروحية لهم. (4) الإشارة إلى ما كان المسيح مزمعاً أن يفعله لأجل خلاص العالم إذ جعل جسده «المكسور لأجلنا» واسطة حياة وقوة له.
16 - 21 «16 وَلَمَّا كَانَ المَسَاءُ نَزَلَ تلامِيذُهُ إِلَى البَحْرِ، 17 فَدَخَلُوا السَّفِينَةَ وَكَانُوا يَذْهَبُونَ إِلَى عَبْرِ البَحْرِ إِلَى كَفْرَنَاحُومَ. وَكَانَ الظّلامُ قَدْ أَقْبَلَ، وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ أَتَى إِلَيْهِمْ. 18 وَهَاجَ البَحْرُ مِنْ رِيحٍ عَظِيمَةٍ تَهُبُّ. 19 فَلَمَّا كَانُوا قَدْ جَذَّفُوا نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثلاثِينَ غَلوَةً، نَظَرُوا يَسُوعَ مَاشِياً عَلَى البَحْرِ مُقْتَرِباً مِنَ السَّفِينَةِ، فَخَافُوا. 20 فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا هُوَ لا تَخَافُوا. 21 فَرَضَوْا أَنْ يَقْبَلُوهُ فِي السَّفِينَةِ. وَلِلوَقْتِ صَارَتِ السَّفِينَةُ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي كَانُوا ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا».
متّى 14: 23 ومرقس 6: 47
انظر شرح هذه المعجزة في شرح متّى 14: 22 - 33 ومرقس 6: 45 - 52. ولم يذكرها لوقا.
المَسَاءُ (ع 16) يبدأ المساء بالمغرب، وهو المساء الثاني. والمساء الأول يبدأ بالعصر، وفيه أتى التلاميذ إلى المسيح وسألوه أن يصرف الجموع (متّى 14: 15).
نَزَلَ تلامِيذُهُ إِلَى البَحْرِ بأمره بدليل ما جاء في بشارتي متّى ومرقس. والمرجح أن السفينة التي نزلوا إليها هي التي أتوا فيها (ع 1).
إِلَى كَفْرَنَاحُومَ قال مرقس «إلى بيت صيدا» (مرقس 6: 45) والمكانان في جهة واحدة من موضع المعجزة وهي جهة الغرب، فالأرجح أنهم قصدوا أن يلاقوا يسوع في بيت صيدا ويأخذوه بالسفينة إلى كفرناحوم، فقذفت بهم الريح إلى وسط البحر وأتى يسوع إليهم هنالك. وبقوا متوجهين إلى نواحي كفرناحوم.
نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَوْ ثلاثِينَ غَلوَةً الغلوة نحو 200 متراً، وعرض البحر هناك نحو 800 متراً فيكونوا قد سافروا ما بين خمسة وستة كيلومترات.
فَخَافُوا توقعوا أن يلتقوا بالمسيح في بيت صيدا (مرقس 6: 45) لكنهم لم يتوقعوا أن يأتيهم ماشياً على أمواج البحر، وذلك أمر لم يروا مثله ويسمعوا به. نعم إن موسى شق البحر بقوة الله، وأما يسوع فمشى على الماء بقوته.
فَرَضَوْا أَنْ يَقْبَلُوهُ (ع 21) وقد زال خوفهم بعد سماعهم صوته. زاد متّى على هذا أن بطرس نزل لملاقاته على الماء.
لِلوَقْتِ صَارَتِ السَّفِينَةُ أشار بهذا إلى سرعة السفينة بعد سكون الريح، ولا يستلزم ذلك أن تكون سرعتها بمعجزة.
إِلَى الأَرْضِ الخ أي سهل جنيسارت قرب كفرناحوم (متّى 14: 34).
22 «وَفِي الغَدِ لَمَّا رَأَى الجَمْعُ الَّذِينَ كَانُوا وَاقِفِينَ فِي عَبْرِ البَحْرِ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ سَفِينَةٌ أُخْرَى سِوَى وَاحِدَةٍ، وَهِيَ تِلكَ الَّتِي دَخَلَهَا تلامِيذُهُ، وَأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَدْخُلِ السَّفِينَةَ مَعَ تلامِيذِهِ بَل مَضَى تلامِيذُهُ وَحْدَهُمْ».
وَفِي الغَدِ أي غد يوم المعجزة.
رَأَى الجَمْعُ لا شك أن بعض الجمع انصرف إلى القرى المجاورة بعد أن صرفهم المسيح (متى 14: 22)، وبعضه ظل سائراً إلى أورشليم ليحضر العيد، وآخرون توقعوا نزول يسوع من الجبل ولما لم يروه تحيروا إذ لم يعملوا كيف ذهب، فلم تكن هناك إلا سفينة واحدة نزل التلاميذ إليها ويسوع ليس معهم. ولو مرَّ يسوع على الشاطئ لشاهدوه لأنهم كانوا واقفين هناك.
وَاقِفِينَ ليأخذوه متى نزل ويجعلوه ملكاً.
فِي عَبْرِ البَحْرِ أي الجانب الشرقي.
23 «غَيْرَ أَنَّهُ جَاءَتْ سُفُنٌ مِنْ طَبَرِيَّةَ إِلَى قُرْبِ المَوْضِعِ الَّذِي أَكَلُوا فِيهِ الخُبْزَ، إِذْ شَكَرَ الرَّبُّ».
ذكر البشير هذا ليبين سبب وجود سفينة يسافرون فيها بعد ما ذكر أنه لم تكن هنالك سوى سفينة واحدة سافروا فيها (ع 22).
إِذْ شَكَرَ الرَّبُّ لا يلزم من ذلك أن الرب لم يعتد أن يشكر على كل طعام، بل يفيد أن في ذلك الشكر شيئاً غير معتاد من كيفية تقديمه ونتيجته.
24 «فَلَمَّا رَأَى الجَمْعُ أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ هُوَ هُنَاكَ ولا تلامِيذُهُ، دَخَلُوا هُمْ أَيْضاً السُّفُنَ وَجَاءُوا إِلَى كَفْرَنَاحُومَ يَطْلُبُونَ يَسُوعَ».
الجَمْعُ بعض الخمسة الآلاف لا كلهم (ع 22).
إِلَى كَفْرَنَاحُومَ ذهبوا إلى المدينة لأنها عاصمة تلك البلاد ومجتمع كثرة الناس حيث يرجح أن يسمعوا شيئاً من أخبار يسوع، ولأنه كان يتردد إلى هناك. ولم يذهبوا إلى طبرية ليبحثوا عنه لأنهم عرفوا من السفينة الآتية منها أنه ليس فيها (ع 23).
25 «وَلَمَّا وَجَدُوهُ فِي عَبْرِ البَحْرِ، قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، مَتَى صِرْتَ هُنَا؟».
وَلَمَّا وَجَدُوهُ فِي عَبْرِ البَحْرِ لم يجدوه في أول الأمر وهو في سهل جنيسارت، بل وجدوه يوم السبت في مجمع كفرناحوم (ع 59). و «عبر البحر» هنا الجانب الغربي منه. وظن بعض المفسرين أنه بدأ هذه المخاطبة في سهل جنيسارت واستمر عليها إلى ما في آية 40 وأتمها في المجمع. ولم يذكر يوحنا ما صنع المسيح من المعجزات في ذلك السهل وذكره متّى ومرقس (متّى 14: 34 - 36 ومرقس 6: 53 - 56).
يَا مُعَلِّمُ هذا ترجمة «ربي» وهو لقب احترام للمعلم عند اليهود.
مَتَى صِرْتَ هُنَا؟ سألوه ذلك تعجباً من مشاهدتهم إياه هناك، حيث لا توجد وسيلة توصله إلى ذلك الموضع براً أو بحراً. وسؤالهم هذا تمهيد لسؤال ثانٍ هو: كيف جئت؟ وذلك دليل على أنهم كانوا يفتشون عنه.
26 «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي لَيْسَ لأنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ، بَل لأنَّكُمْ أَكَلتُمْ مِنَ الخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ».
لم يجبهم المسيح على سؤالهم، لكن كلامه كان جواباً على سؤال لم يصرح هو به وهو: «لماذا جئتم تطلبونني؟». كان ظاهر عملهم يدل على رغبتهم في إكرام المسيح وسماع تعاليمه واعتباره رسولاً لله، أما هو فعرف أن قصدهم كان غير ذلك.
لَيْسَ لأَنَّكُمْ رَأَيْتُمْ آيَاتٍ شاهد اليهود المعجزات وتعجبوا منها لكنهم لم يستفيدوا منها فائدة روحية، ولم يستنتجوا منها أنه هو المسيح فيأتون إليه ليعبدوه ويتعلموا منه الحقائق الروحية. وهذا وفق قول مرقس «لأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا بِالأَرْغِفَةِ إِذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ غَلِيظَةً» (مرقس 6: 52).
بَل لأنَّكُمْ أَكَلتُمْ مِنَ الخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ ظنوا أنهم إذا تبعوه شبعوا دائماً كما شبعوا سابقاً. وتوقعوا أن ينالوا بواسطته كل البركات الجسدية والمنافع العادية بلا تعب. فكانت غايتهم دنيوية فقط، ولم يشعروا بجوع النفس ليطلبوا الطعام الروحي أي تعليم المسيح. فلم يُسرّ يسوع بمجيئهم إليه لتلك الغاية. ولا يريد الآن أن يُكثر عدد تابعيه بمنح الخيرات العالمية، فلا يتوقف نجاح الإنجيل في بلد ما على كثرة المتنصرين بل على تغيير قلوبهم. فالديانة التي تُتخذ تجارة باطلة، فيجب أن تتبع المسيح حباً له لا محبة لعطاياه.
27 «اِعْمَلُوا لا لِلطَّعَامِ البَائِدِ، بَل لِلطَّعَامِ البَاقِي لِلحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ، لأنَّ هَذَا اللَّهُ الآبُ قَدْ خَتَمَه».
1كورنثوس 6: 13 ويوحنا 4: 14 وع 54، متّى 3: 17 و17: 5 ومرقس 1: 11 و9: 7 ولوقا 3: 22 و9: 35 ويوحنا 1: 33 و5: 27 و8: 18 وأعمال 2: 22 و2 بطرس 1: 17
اتخذ المسيح إشباع الجموع خبزاً وسيلة لتعليمهم الحقائق السماوية، كما اتخذ طلبه شربة ماء من المرأة السامرية ذريعة إلى الكلام عن الماء الحي (يوحنا 4: 10)، وكما انتقل بالكلام عن الخميرة إلى الكلام عن الرياء (متّى 16: 6)، وبالإنباء بقتل الجليليين إلى الكلام عن وجوب التوبة (لوقا 13: 1)، وبدعوة العشاء إلى الكلام عن العرس السماوي.
اِعْمَلُوا لا لِلطَّعَامِ البَائِدِ ليس في هذا نهي عن العمل لتحصيل أسباب المعاش الضرورية، لأن ذلك مما أوجبه كتاب الله (خروج 20: 9 وأعمال 18: 3 وأفسس 4: 28 و1تسالونيكي 3: 10 و4: 10 - 12 و1تيموثاوس 5: 1) إنما فيه نهي عن الاقتصار على طلب حاجات الجسد دون حاجات النفس (إشعياء 55: 2 ومتّى 5: 24). فالخطأ كامن في زيادة الاهتمام بالزمنيات. ووصف الطعام هنا «بالبائد» لأنه زائل، وفائدته وقتية، ولا قوة له على حفظ الحياة ( 1كورنثوس 6: 13). وكلام المسيح على الطعام هنا ككلامه على الماء (يوحنا 4: 32).
بَل لِلطَّعَامِ البَاقِي أي الروحي وإلا لم يكن باقياً. والطعام البائد والطعام الباقي كلاهما عطية الله، فهو الذي خلق الإنسان ويعرف ما يحتاج الإنسان إليه، وأمره هنا أن نعمل للباقي ولا نقلق للأول. ومعنى قوله «اعملوا للطعام الباقي»: اشتهوا الخيرات الروحية، واتخذوا كل الوسائل التي أعدها الله لتحصيلها من الصلاة ومطالعة الكتاب المقدس والحضور في بيت الله وممارسة الفرائض الدينية واتباع المسيح.
لِلحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ أي الدائمة نتائجها إلى الأبد في تقوية النفس، وراحة الضمير، والثقة بالغفران، والنمو الروحي (يوحنا 4: 14 و5: 38 و6: 56 و8: 31 و15: 4، 7 و1يوحنا 2: 6، 27).
الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ جعل المسيح البركات الروحية موهبته الخاصة التي نزل من السماء ليهبها للناس وهو يُسرّ بمنحها (رومية 6: 23) نعم إنّه يعطي أيضاً «الطعام البائد» لكنه لم يجعله الهبة الخاصة، بل يتخذ منحه إشارة إلى تلك، وبياناً لقوته على إعطائه إياها. كذلك اتخذ شفاءه للجسد إشارة إلى قدرته على شفاء النفس. وهو يعطي البركات الروحية بسخاء أكثر مما يعطي به الجسدية، ويسر بأن يعطيها دائماً لكل من يسأله إياها «بلا كيل».
لأنَّ هَذَا اللَّهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ يتخذ الناس الختم للتثبيت (1ملوك 21: 8 وأستير 3: 12 و8: 8). والمعنى أن الله عيّن المسيح منذ الأزل ليعطي الحياة الأبدية (يوحنا 10: 36) وشهد له إفادة للناس عند معموديته بصوت مسموع وآية ظاهرة ومعجزات أجراها على يده (يوحنا 5: 36) فكانت تلك ختماً لإثبات أن الله عيَّنه.
28 «فَقَالُوا لَهُ: مَاذَا نَفْعَلُ حَتَّى نَعْمَلَ أَعْمَالَ اللَّهِ؟».
مَاذَا نَفْعَلُ؟ فهم اليهود من كلام المسيح أنه يجب عليهم لكي يستحقوا «الطعام الباقي للحياة الأبدية» أن يعملوا بعض الأعمال كالأصوام وطاعة الشريعة وإنكار الذات. فسؤالهم كسؤال الشاب الذي أتى للمسيح «أي صلاح أعمل لتكون لي الحياة الأبدية؟» (متّى 19: 16). فإن أخطأوا في السؤال أصابوا بأن وجَّهوه إلى من يقدر أن يرشدهم إلى الصواب. وكثيراً ما يكون مثل هذا السؤال وسيلة لنوال أعظم مما يُتوقع، كسؤال اليهود يوم الخمسين (أعمال 2: 37) وسؤال شاول الطرسوسي (أعمال 9: 6) وسؤال سجان فيلبي (أعمال 16: 30).
أَعْمَالَ اللَّهِ أي الأعمال التي أمر بها وسيثيب عليها. سألوه عنها لتكون وسيلة إلى نوالهم «الطعام الباقي للحياة الأبدية».
29 «أَجَابَ يَسُوعُ: هَذَا هُوَ عَمَلُ اللَّهِ: أَنْ تُؤْمِنُوا بِالَّذِي هُوَ أَرْسَلَه».
1يوحنا 3: 23
أعظم أعمال الله وأولها هو الإيمان بالمسيح، فهو يسره ويكرمه ويؤكد سائر الأعمال الصالحة. وسألوه عن أعمال الله كأنها كثيرة فجمعها كلها في واحد، جعله شرط الحياة الأبدية (يوحنا 17: 3 ورومية 10: 4). وكذلك حسب كل أعماله عملاً واحداً بقوله «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» (يوحنا 17: 4).
جعل المسيح هنا الإيمان به بمنزلة عمل أساسي، فالإيمان أصلٌ لكل الأعمال الصالحة ومنشئها. فجواب المسيح المذكور حكم بأهمية الإيمان به، وبأنه أساس كل ديانته. وهو الجواب الوحيد لمن يسألوننا عن طريق الخلاص.
30 «فَقَالُوا لَهُ: فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟».
متّى 12: 38 و16: 1 ومرقس 8: 11 و 1كورنثوس 1: 22
أَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لا دليل على أن أصحاب هذا السؤال غير أصحاب الذي قبله، لكنهم أظهروا مقاومة القلب البشري للتعاليم الروحية. وطلبه أن يؤمنوا به أثار بغضهم لتعليمه. نعم إنهم حين صنع المعجزة قالوا «هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم» (ع 14) وأرادوا أن يجعلوه ملكاً، فلو قبل منهم اكتفوا بالآية برهاناً على صحة دعواه. ولكن عندما رفض أن يملك عليهم، وأزال كل رجائهم أن ينقذهم من نير الرومان، وصرح بأنه ذو ملكوت روحي لينقذ نفوسهم من رق الخطية، تحققوا أنه ليس المسيح الذي أرادوه، ولا الذي علمهم ربانيوهم أن يتوقعوه. وكثيراً ما طلب اليهود من المسيح أن يصنع لهم آية ظاهرة دائمة كنزول المن في البرية ( 1كورنثوس 1: 22).
لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ طلبوا آية أخرى حجة لعدم إيمانهم، وكانت الأولى كافية فأنكروها.
31 «آبَاؤُنَا أَكَلُوا المَنَّ فِي البَرِّيَّةِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزاً مِنَ السَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا».
خروج 16: 15 وعدد 11: 7 ونحميا 9: 15 و 1كورنثوس 10: 3، مزمور 78: 24، 25
آبَاؤُنَا أي اليهود الذين قادهم موسى في البرية.
أَكَلُوا المَنَّ (خروج 16: 14، 31 وعدد 11: 7). لم يذكروا موسى في هذا بل أشاروا إليه، فكأنهم قالوا: هات لنا برهاناً كبرهان موسى لآبائنا فنؤمن بك. فالمعجزة التي صنعتَها أصغر من معجزات موسى، فأنت أعطيتنا خبزاً عادياً من الأرض، وذاك أعطى خبزاً من السماء. أنت أعطيتنا الخبز مرة واحدة، وذاك أعطى خبز السماء أربعين سنة. أنت أشبعت خمسة آلاف، وذاك أشبع من لا يقلون عن مليونين.
كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ في مزمور 78: 24، 25.
32 «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ، بَل أَبِي يُعْطِيكُمُ الخُبْزَ الحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ».
الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ اعتاد المسيح أن يقول هذا مقدمة لكل موضوع مهم.
لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ لم ينكر المسيح أن الله أعطى بني إسرائيل المن على يد موسى، بل بيّن أن المنَّ ليس هو الخبز الروحي الحقيقي الذي يعطي حياة للعالم، وأنه لا يدوم إلى الأبد، فلا ينقذ النفس من الموت الأبدي. إنما هو مجرد إشارة إلى الخبز الحقيقي النازل من السماء الذي يخلّص النفس من الهلاك.
بَل أَبِي يُعْطِيكُمُ أعطى موسى آباءكم الرمز، وأما الآب فأعطاكم المرموز إليه الذي لم يستطع موسى أن يعطيكم إياه. وموسى أعطى وقتياً، وأما أبي فيعطي الآن وإلى الأبد.
الحَقِيقِيَّ قال هذا تمييزاً له عن الرمزي الوقتي الأرضي. وكثيراً ما ورد «الحقيقي» بهذا المعنى كقوله «النور الحقيقي» (يوحنا 1: 9) و «الكرمة الحقيقية» (يوحنا 15: 1) و «المسكن الحقيقي» (عبرانيين 8: 2).
33 «لأنَّ خُبْزَ اللَّهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الوَاهِبُ حَيَاةً لِلعَالَمِ».
هذا تفسير للخبز الحقيقي الذي يعطيه الآب، وهو هبته العظمى اللائقة به، الذي يمدحه الله ترغيباً فيه للجياع المحتاجين إليه. وقال هذا إصلاحاً لخطإ اليهود بظنهم المن «خبز الله» و «النازل من السماء» (مزمور 78: 24، 25). وفي هذه الآية ثلاث صفات تميز الخبز الحقيقي: (1) أنه نزل من السماء العليا حيث يسكن الله، لا من السماء الدنيا (أي الجو) كالمن. (2) أنه واهب الحياة لا كالمن الذي يسند فقط حياة الجسد وقتياً لا دائماً، لأن كل الذين أكلوا منه ماتوا (ع 49). وأما هذا فيعطي النفس حياة روحية أبدية. (3) أنه لنفع العالم كله بخلاف ذاك، لأن نفعه كان مقصوراً على اثني عشر سبطاً من أمة واحدة مدة حياة جيل واحد منها، ثم انقطع (يشوع 5: 12). أما هذا فكان لمنفعة كل من يقبله من نسل آدم يهوداً وأمماً مدة كل الأجيال إلى منتهى الزمان. ورفض أكثر الناس هذه العطية لا ينفي أن الله وهبها للجميع. لقد أعطانا الله تلك العطية العظمى بابنه، ولكن لم يصرّح هنا بأنه هو تلك الهبة، إنما صرح بذلك في آية 35.
34 «فَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، أَعْطِنَا فِي كُلِّ حِينٍ هَذَا الخُبْزَ».
يوحنا 4: 15
هذه الطلبة كطلبة المرأة السامرية للماء الحي، ولم تكن ناتجة عن إدراك المعنى الذي قصده المسيح، ولا دالة على استعداد اليهود لاتخاذ الوسائل لتحصيل المطلوب. وإنما هي اشتهاؤهم نوال نفع عظيم زمني لأجسادهم فقط.
35 «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ خُبْزُ الحَيَاةِ. مَنْ يُقْبِل إِلَيَّ فلا يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فلا يَعْطَشُ أَبَداً».
ع 48، 58 ويوحنا 4: 14 و7: 37
أَنَا هُوَ انتقل المسيح في حديثه من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم. وفي كلامه هنا جواب قولهم «أعطنا هذا الخبز» وهو قوله «أنا هو» أي أن الخبز الذي طلبتموه كأنه غائب ها هو أمامكم.
خُبْزُ الحَيَاةِ وجه الشبه بين المسيح والخبز ثلاثة أمور: (1) أن كليهما ضروري لحياة الإنسان. (2) أن كليهما مناسب للجميع في كل زمان ومكان. (3) نحتاج إلى كليهما في كل يوم: الخبز لإسناد الجسد، ونعمة المسيح وشفاعته وبره لحياة النفس. وسُمي المسيح «خبز الحياة» لأنه الحياة وقادر أن يمنح الحياة لغيره. و «الحياة» هنا تحوي كل ما يجعل النفس حكيمة تقية سعيدة. ولأن المسيح «كلمة الله» يعلن للإنسان الحقائق الإلهية الضرورية للنفس كالخبز للجسد، وهو في كل وظائفه قوت للنفوس.
مَنْ يُقْبِل إِلَيَّ هذا بيان لكيفية حصول نفس الإنسان على خبز الحياة. ومعنى ذاك كمعنى «من يؤمن بي» في هذه الآية عينها. والفرق بينهما أن الأول مجاز والثاني حقيقة، وكمعنى «أكل وشرب» (آية 54).
والمقصود بالإقبال ثلاثة أمور: (1) قبول أن يسوع هو المسيح بكل وظائفه نبياً وكاهناً وملكاً. (2) تصديق كل كلامه ومواعيده والتسليم بدعواه والخضوع لأوامره. (3) الاتكال عليه باعتباره المخلص الوحيد الكامل، الذي صُلب وقام ويشفع. والطلب إليه أن يرشد ويُطهر ويغفر ويبرر ويمجد. ويلزم ذلك الإقبال أن يكون دائماً لأوامره واحدة نتيجة الاتحاد بالمسيح واستمداد كل حياة وقوة منه.
فلا يَجُوعُ... فلا يَعْطَشُ انظر شرح يوحنا 4: 14. المعنى أن المسيح يسد كل احتياجات النفس لأنه المخلّص الذي يقنع عقلها، ويريح ضميرها، ويكفي أشواقها، ويكمل سعادتها. وليس في هذه المواعيد ما يدل على أن النفس تتمكن في المستقبل من الاستقلال عن المسيح، فهي تبقى إلى الأبد في حاجة إلى أن تقتات به وتستقي من نعمته (متّى 5: 6 ورؤيا 7: 16). وعلة شعور المؤمنين الآن ببعض جوع النفس وعطشها أنهم لم يأخذوا الكفاية من ملء المسيح، ولكنهم يشبعون في السماء شبعاً كاملاً (مزمور 17: 15 و1يوحنا 3: 2).
وفي هذا القول تلميح إلى أن الذين لا يأتون إليه يهلكون جوعاً وعطشاً، أي يبقون إلى الأبد في عذاب الاحتياج إلى البركات التي عرضها المسيح عليهم.
36 «وَلَكِنِّي قُلتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمُونِي، وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ».
ع 26، 64
وَلَكِنِّي قُلتُ لَكُمْ هذا مضمون ما قاله لهم في ع 26 وهو أنهم طلبوه بعد ما شاهدوا معجزاته لغايات جسدية لا لإيمانهم بأنه هو المسيح.
قَدْ رَأَيْتُمُونِي، وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ أي شاهدتم معجزاتي ووقفتم على أحسن برهان أني مرسل من الله، ومع هذا كله سألتموني آية لتروا وتؤمنوا بي. وأنا صنعت لكم آيات كثيرة كنت بصنعها آية أعظم من نزول المن من السماء ولم تؤمنوا.
37 «كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ، وَمَنْ يُقْبِل إِلَيَّ لا أُخْرِجْهُ خَارِجاً».
ع 45 متّى 24: 24 ويوحنا 10: 28، 29 و2تيموثاوس 2: 19 و1يوحنا 2: 19
قال المسيح هذا بياناً أنه وإن لم يؤمنوا به لم يكن عمله عبثاً، لأنه يأتي إليه البعض ويخلص.
كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ ذكر المسيح في ما سبق عطية الله للإنسان (ع 27، 31، 32، 34) ولا سيما أنه أعطاهم ابنه خبز الحياة. وتكلم هنا على عطية الآب لابنه وهي نفوس المفديين بدمه المؤمنين به الذين يحبونه ويسبحونه، وذلك كقوله في ع 37، 39 ويوحنا 10: 29 و17: 2، 6، 9، 24 و18: 9. والآب أعطى الابن تلك النفوس حين قطع معه عهد الفداء. ووعده بها إثابة له على تواضعه وموته (مزمور 2: 7، 8 وإشعياء 53: 10 - 12 و55: 4، 5). والنفوس التي أعطاها الله لابنه اختارها لمجرد إرادته لا بالنظر إلى استحقاقها، فهو أعدّ الوسائط لتعرف الحق، وأرسل روحه القدوس إليها لتستفيد منها أي لتتوب وتؤمن به وتطيعه. والنفوس التي أعطاها الآب لابنه هي التي يجتذبها (ع 44) وهي التي تكون متعلمة من الله (ع 45). وعدد تلك النفوس وافر جداً بدليل قول البشير في رؤياه «بَعْدَ هَذَا نَظَرْتُ وَإِذَا جَمْعٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ» (رؤيا 7: 9). وسمّاها يسوع خرافه (يوحنا 10: 27، 29 وأفسس 1: 4، 5).
فَإِلَيَّ يُقْبِلُ فُسر الإقبال المقصود هنا في ع 35. فكل نفس تأتي إلى المسيح يقبلها المسيح كعطية من أبيه. والذين أعطاهم الآب له يُقبلون كلهم إليه.
وَمَنْ يُقْبِل إِلَيَّ أي يؤمن بي ويعمل بموجب ذلك الإيمان. و «الإقبال» هو فعل الإنسان الاختياري، فالله لا يجذب الإنسان غصباً إنما يريه خطيته وخطره، وحكمة طريق الفداء ومحبته الظاهرة في تلك الطريق حتى يُسرَّ بالإقبال إلى المسيح.
والإتيان إلى المسيح هو الشرط الوحيد لنوال الخلاص. والوعد هنا عام غير قاصر على عدد معين. فالذي يأتي إلى المسيح شاعراً بأنه خاطئ هالك طالباً الغفران، يقبله المسيح ويرحب به من أي أمة كان، ومهما كانت خطاياه كثيرة وعظيمة.
لا أُخْرِجْهُ خَارِجاً أي لا أرفض سمعي له وإعانتي إياه. وهذا النفي يستلزم إيجاباً هو أن المسيح يقبل الآتي إليه بفرح ويحفظه ويخلصه. وليس ما يمنع أحد الخطاة من أن يجد المسيح وينال الخلاص إلا عدم إرادته. فلا يمنعه من ذلك قضاء الله، ولا قوة الشيطان، ولا توغله في الإثم، ولا ضعف الطبيعة البشرية (يوحنا 10: 28، 29). وهذا الوعد يتضمن كل ما يفتقر إليه الخاطئ ليحصل على الخلاص التام الأبدي. والشرط الوحيد لنوال ذلك إرادة الخاطئ أن يقبله. ومثاله الابن الضال (لوقا 15).
ومن العجب أن بعض الناس يرفض الحق المعروض عليهم بأوضح البراهين (كما في ع 36) وبعضهم يقبله (كما في ع 69). وذكر المسيح في هذه الآية سببين لذلك: (1) إرادة الله الأزلية منح البعض نعمة الإيمان. (2) اختيار الإنسان. وهذان أمران حقيقيان لا يستطيع العقل البشري أن يدرك العلاقة بينهما، فلا أحد يأتي إلى المسيح ما لم يجتذبه الله. ولا شيء يمنع الإنسان من الخلاص إلا عدم إرادته.
38 «لأنِّي قَدْ نَزَلتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لأعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَل مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي».
متّى 26: 39 ويوحنا 5: 30 و4: 34
لأنِّي قَدْ نَزَلتُ مِنَ السَّمَاءِ فإذن كان في السماء قبل أن تجسّد (يوحنا 1: 2) وهذا لا يصدُق على نبي من البشر.
لَيْسَ لأعْمَلَ مَشِيئَتِي الخ مشيئة الآب أن المسيح لا يترك من يأتي إليه خارجاً. وهذا ينفي كل محاباة في قبوله البعض ورفضه البعض، فهو لا يمكن أن يظلم أحداً، بل هو يقبل الذين اختارهم الآب وأعطاهم له وجذبهم إليه وختمهم بختم رضاه.
39 «وَهَذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لا أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً، بَل أُقِيمُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ».
يوحنا 10: 28 و17: 12 و18: 9
هذا تأكيد لما قاله في الآيتين السابقتين وبيان أن مشيئة الآب، فوق أنها قبول الآتين إلى المسيح، تتضمن حفظهم إلى النهاية، وإعطاءه كل قوة لإنقاذهم من الهلاك، ومنحهم الحياة الأبدية.
كُلَّ مَا أَعْطَانِي لا أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئاً عبّر عن كل النفوس التي أعطاه الآب إياها بمجموع واحد، وهي رغبته الخاصة. وقرر أنه لا يُفقَد أحد ممن يأتون إلى المسيح بالإيمان. فلا يستطيع العالم ولا الشيطان ولا الموت أن يفصله عن محبة المسيح ويهلكه.
بَل أُقِيمُهُ هذا نهاية عمل الفداء وثمرته، ويكون ذلك عند قيامة أجساد المؤمنين على صورة جسد مجد المسيح، وعودة الروح إليها لتشاركه في المجد (فيلبي 3: 21 وكولوسي 3: 4) وحينئذ تتم لهم هبة الحياة الأبدية التي اشتراها المسيح لهم بطاعته وموته.
فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ أي يوم القيامة وهو يوم الدين. ولا داعي هنا لذكر قيامة الأشرار، ولا يستلزم عدم ذكرها هنا أنهم لا يقومون. وقد ذُكر قيامة البعض للدينونة في يوحنا 5: 29.
40 «لأنَّ هَذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ».
يوحنا 3: 15، 16 و4: 14 وع 27، 47، 54
الفرق بين ما في هذه الآية وما في آية 39 أن ما في هذه الآية قيل عن كل شخص بمفرده، وعُبر فيها عن المفديين بأنهم «عطية الله» وما في آية 39 قيل عن الجميع جملة، وعبّر فيها عن كل مفدي بأنه يرى ويؤمن. ويتضح من هذه الآية أن الخلاص لا يتوقف على مجرد رحمة الله بل على مشيئة الإنسان أيضاً، لئلا يقول أحدٌ: إن كنت ممن أعطاهم الآب للابن أخلُص، وإلا فلا. فما عليَّ من مسؤولية فالله الذي عيّن أناساً للخلاص عيّن أيضاً أنهم ينالون ذلك الخلاص بالإيمان بابنه. وإيمان المؤمنين برهان على أن الآب أعطاهم للابن.
كُلَّ مَنْ يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ ليست الرؤية هنا نظر العين وقتياً بالصدفة، بل فعل الإنسان اختياراً وعمداً، وتوجيه بصيرته إلى المسيح بشوق وحمد بلا انقطاع وقطع النظر عن كل ما سواه. فمن يرى المسيح بالعين الظاهرة وعين العقل ولا يؤمن به فدينونته أعظم من دينونة الذين لا يرونه أبداً. وعلى المفديين أن يحمدوا مشيئة الله، وقد ذُكرت هنا وفي ع 38، 39 ثلاث مرات أنها علة نجاتهم.
وَأَنَا أُقِيمُهُ الخ كرر ذلك للتوكيد.
41 «فَكَانَ اليَهُودُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَيْهِ لأنَّهُ قَالَ: أَنَا هُوَ الخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ».
اليَهُودُ اعتاد يوحنا أن يعبر «باليهود» عن أعداء المسيح ويعبّر عن غيرهم «بالشعب». ولعلهم شاهدوا معجزة الخبز في عبر البحر وتبعوه إلى كفرناحوم، أو لعلهم أتوا من أورشليم ووجدوه هناك. وقولهم «نحن عارفون بأبيه وأمه» يدل على كونهم جليليين.
يَتَذَمَّرُونَ عَلَيْهِ بيَّنوا شكوكهم لينشروا الشك في قلوب الشعب ويمنعوهم من الإيمان بالمسيح (ع 43). وعلة تذمرهم تصريحه بمصدره الإلهي بقوله «لأني قد نزلت من السماء» لا بقوله «أنا الخبز» أو «أنا خبز الحياة».
42 «وَقَالُوا: أَلَيْسَ هَذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ، الَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. فَكَيْفَ يَقُولُ هَذَا: إِنِّي نَزَلتُ مِنَ السَّمَاءِ؟».
متّى 13: 55 ومرقس 6: 3 ولو 4: 22
يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ هذا يدل على أن اليهود لم يعرفوا أن ولادة يسوع كانت خارقة الطبيعة، بل اعتقدوا أنه ابن يوسف ومريم. وعلة جهلهم أن الحوادث التي تعلقت بولادته كانت منذ ثلاثين سنة ولم يعرفها في وقتها سوى قليلين، وأنه قد مضت على يسوع تلك المدة وهو في عزلة عن الناس، فلا عجب من أن اليهود تذمروا على المسيح بدعواه أنه سماوي أزلي، خلافاً لما اعتقدوا في شأنه، فحسبوا دعواه كذباً.
43 «فَأَجَابَ يَسُوعُ: لا تَتَذَمَّرُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ».
اقتصر يسوع على توبيخهم لبغضهم إياه الذي أظهروه بتلك التذمرات، إذ علم أن لا نفع من إخبارهم بما يتعلق بميلاده، وأنهم لا يتخذون ذلك إلا وسيلة إلى زيادة الهزء والتعيير. ففائدة النبإ الصحيح بميلاد المسيح العجيب تثبيت إيمان المؤمن، لا إزالة شكوك غير المؤمنين.
44 «لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ».
نشيد الأنشاد 1: 4 وع 65
أخبر يسوع اليهود أن قساوة قلوبهم هي سبب عدم إدراكهم، ورفضهم دعواه، وتذمرهم عليه.
لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ أي يؤمن بي ويعمل بموجب هذا الإيمان. وأبان في ع 37 أن كل ما يعطيه الآب يأتي إليه، وأبان في هذا العدد أن ليس أحد يأتي إليه إلا من يغيّر الله قلبه. وعدم القدرة ناتج عن عدم الإرادة، كما حدث من إخوة يوسف فإنهم «لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُكَلِّمُوهُ بِسلامٍ» (تكوين 37: 4) وهذا مبدأ عام وهو أن «الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لا يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللَّهِ» ( 1كورنثوس 2: 14).
إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ هذا وفق ما قيل في يوحنا 5: 40، 44. وفعل الله في القلب جذب لا إجبار فهو يجعل القلوب راضية الإتيان إلى المسيح.
والروح القدس هو الذي يجذب قلوب الناس إلى المسيح بإنارة العقول (ع 45)، وإعداد المشيئة، وتحريك الضمير، وإقناع العقل، وترهيب الإنسان من جهنم وترغيبه في السماء، وتعريفه بجمال القداسة وقباحة الإثم. وذلك الروح يتخذ كلمة الله آلة لفعله العظيم في القلوب. ويجتذب الله القلب من بغضه الطبيعي للحق ومن الكبرياء والحسد والعناد وحب العالم إلى محبة الحق والقداسة والغنى الروحي، وبالإجمال إلى المسيح نفسه الذي هو كنز الفضائل.
الَّذِي أَرْسَلَنِي الذي أرسل المسيح من السماء ليطلب النفوس هو نفسه الذي يجتذبها إلى المسيح.
وَأَنَا أُقِيمُهُ الخ هذه مرة ثالثة ذُكر ذلك في هذا الأصحاح وسيذكره مرة رابعة. بدء أمر الخلاص من الآب (يوحنا 3: 16) ونهايته من الابن كما في هذه الآية. فالآب «يجتذب» النفوس ويعطيها (ع 38) و «يعلمها» (ع 45) والابن «يقبلها» ويمنحها الحياة (ع 33).
45 «إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: وَيَكُونُ الجَمِيعُ مُتَعَلِّمِينَ مِنَ اللَّهِ. فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ الآبِ وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ».
إشعياء 54: 13 وإر 31: 34 وميخا 4: 2 وعبرانيين 8: 10 و10: 16 وع 37
أثبت يسوع كلامه باقتباس من نبوات العهد القديم (إشعياء 54: 13) وهو يتضمن قوله في إرميا 31: 33، 34 ويوئيل 2: 28 وميخا 9: 1 - 4.
مُتَعَلِّمِينَ مِنَ اللَّهِ هذا تفسير قوله «يجتذبه الآب» (ع 44). ويجتذب الله النفوس بواسطة حقائق كتابه. فكل من يجتذبه الله يتعلم منه. والقرينة في نبوة إشعياء تدل على أن لفظة «الجميع» لا تعم كل البشر بل شعب الله السامع لصوته.
فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ الآبِ وَتَعَلَّمَ معنى ذلك كمعنى قوله «يرى ويؤمن» (ع 40). وليس السمع هنا مجرد الإدراك بالأذن، بل الإصغاء بحرص وسرور وشوق إلى زيادة الإعلان وتصديق المسموع. فمن سمع كذلك يتعلم، وأما من يقتصر على سماع الأذن ولا يحب الحق ولا يرغب في التعليم لا يتعلم شيئاً.
46 «لَيْسَ أَنَّ أَحَداً رَأَى الآبَ إلا الَّذِي مِنَ اللَّهِ. هَذَا قَدْ رَأَى الآبَ».
متّى 11: 27 ولوقا 10: 22 ويوحنا 1: 18 و5: 37 و7: 29 و8: 19
لَيْسَ أَنَّ أَحَداً رَأَى الآبَ يستحيل أن يرى الله أحدٌ من البشر. فإذاً لا أحد منهم يستطيع إدراك كنهه ومقاصده وإرادته ليبينها للناس. فإتمام النبوة بأن الجميع يكونون متعلمين من الله لا يمكن بلا واسطة، ولا يمكن أن تكون تلك الواسطة إلا من هو مساوٍ للآب.
إلا الَّذِي مِنَ اللَّهِ أي المسيح الذي استطاع أن يعلن لنا الآب لأنه «الكلمة» (يوحنا 1: 1، 14) و «كان في حضن الآب» (يوحنا 1: 18) وهو «بهاء مجده ورسم جوهره» (عبرانيين 1: 3).
47 «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ».
يوحنا 3: 16، 18، 36 وع 40
ما في هذا العدد وما يليه إلى ع 51 تكرير التعليم الذي تذمر اليهود منه. وبين هذه الآية وآية 40 فرق قليل.
اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ قال هذا تأكيداً لصدق تعليمه، تذمر السامعون ورفضوا أم لا.
مَنْ يُؤْمِنُ بِي قال في آية 40 «من يؤمن بالابن» وقال هنا «من يؤمن بي» فدل بذلك على أن كل ما نسبه إلى نفسه، وأنه هو ابن الله مخلص البشر، وأن الإيمان به الشرط الضروري. وما قيل في هذه الآية جوهر كل هذا الخطاب، أي أن الإيمان بالمسيح شرط نوال الحياة الأبدية، وأنه بدونه لا خلاص لأحد، وأن الخلاص به مؤكد لكل إنسان من كل أمة وملة وعصر.
فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ أي يبدأ أن ينال الميراث الذي يكمل بعد القيامة في السماء. ومعنى «الحياة الأبدية» حياة النفس الروحية التي أتى المسيح من السماء ليهبها للمؤمنين به، وتبدأ في النفس فور ولادتها من فوق.
48 «أَنَا هُوَ خُبْزُ الحَيَاةِ».
ع 33، 35
هذا القول علة ما قبله. فكأن المسيح قال: لي الحق في ما قلته في آية 35، أي أني خبز الحياة، لأن كل من يقتات بي بالإيمان ينال الحياة الأبدية. فيسوع هو الحياة وهو خبز الحياة، لأنه بذل نفسه للمؤمن ليقتات بها بالإيمان، وهو ينشئ في الإنسان الحياة الروحية ويقويها ويقيها من الاضمحلال. وهذا جوابه لطلبهم في ع 34 «أعطنا في كل حين هذا الخبز» فكأنه قال لهم: ها أنا ذا. . والمن في البرية لم يكن إلا رمزاً للمسيح الذي هو خبز الحياة.
49، 50 «49 آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا المَنَّ فِي البَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. 50 هَذَا هُوَ الخُبْزُ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ ولا يَمُوتَ».
ع 31، 51، 58
حسب اليهود المن الذي أكله آباؤهم هبة أعظم من هبة المسيح، فأبان لهم قلة نفعه لأنه لا يفيد النفس شيئاً، وأفاد الجسد وقتياً لأن كل الذين أكلوه ماتوا. أما المسيح فهو القوت الروحي لنفوس جميع الناس لا لبني إسرائيل فقط. والذين يقتاتون به يحيون إلى الأبد حياة روحية.
النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ (ع 50) هذا هو الأمر الذي تذمر اليهود منه، كرره هنا وفي الآية التالية. وفيه تصريح بوجوده قبل تجسده، وتلميح إلى ولادته الفوق طبيعية.
لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ أي كل من أراد من الناس بلا استثناء. ومعنى الأكل هنا الاشتراك في كل فوائد مجيء المسيح إلى العالم بواسطة الإيمان به.
ولا يَمُوتَ الموت الذي هو نتيجة الخطية، وهو الهلاك الأبدي في جهنم المعروف بالموت الثاني (رؤيا 20: 14 و21: 8).
51 «أَنَا هُوَ الخُبْزُ الحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ العَالَمِ».
يوحنا 3: 13، كولوسي 1: 17 وعبرانيين 10: 5، 10
أَنَا هُوَ الخُبْزُ الحَيُّ أي الذي فيه الحياة، لا مجرد الخبز المحيي. ولهذا هو أعظم من المن الذي هو مادة لا حياة فيها، وإذا تُركت فسدت، ولا يكفي آكله سوى ليوم واحد. والذي لا حياة له لا يستطيع أن يعطي الحياة غيره. وقوله «أنا الخبز الحي» كقوله «إني أنا حي فأنتم ستحيون» (يوحنا 14: 19).
الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ أي السماء العليا حيث عرش الله، وهو مسكن المسيح منذ الأزل. أما المن فليس هو إلا من السماء الدنيا أي الجو.
يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ يعطي المسيح المؤمنين من الحياة الروحية التي فيه لاتحادهم به. وهذه الحياة تشتمل على كمال القداسة والسعادة. فالذي ينالها لا يُدان لأنه يتبرر ثم يتقدس ثم يتمجد. نعم قد لا ينجو من الموت الأول وهو موت الجسد، لكن هذا الموت «يُبتلع إلى غلبة» ( 1كورنثوس 15: 45).
وَالخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي كلام المسيح من هنا إلى ع 57 تفسير لهذه العبارة، وتكرير لها. وقد عدل من هنا عن المجاز بالخبز إلى المجاز بالجسد لثلاثة أسباب: (1) موافقة الجسد لمراده موافقة أتم من موافقة الخبز الحي له. (2) دفع توهم الناس أن تعليمه هو الخبز الحي دون نفسه. (3) الإشارة إلى أنه ذبيحة.
الَّذِي أَبْذِلُهُ في المستقبل. والإشارة هنا إلى موته كفارة عن الخطايا، فالمسيح لم يخلّص الناس بمجرد تجسده بل بموته على الصليب بدلاً عنهم لينالوا الغفران، والمصالحة مع الله، والحياة الأبدية. وهذا وفق ما أنبأ به إشعياء ويوحنا المعمدان من أن المسيح حمل الله (إشعياء 53 ويوحنا 1: 36) وهو الفصح الحقيقي ( 1كورنثوس 5: 6). وخلاصة هذا الموضوع أن يسوع المسيح المصلوب هو مصدر الحياة الروحية وقوتها.
العَالَمِ البشر كلهم لأن ذبيحة المسيح كافية للجميع ومعروضة على الجميع كقول الرسول «هُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَل لِخَطَايَا كُلِّ العَالَمِ أَيْضاً» (1يوحنا 2: 2).
52 «فَخَاصَمَ اليَهُودُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: كَيْفَ يَقْدِرُ هَذَا أَنْ يُعْطِيَنَا جَسَدَهُ لِنَأْكُلَ؟».
يوحنا 7: 43 و9: 16 و10: 19 و3: 9
أخطأ اليهود فهم معنى المسيح كما أخطأ نيقوديموس (يوحنا 3: 4) والمرأة السامرية (يوحنا 4: 11) وجهلوا معنى كلامه الروحي.
فَخَاصَمَ أي جادل بعضهم بعضاً، إذ مال بعضهم إلى قبول كلامه ورفضه بعضهم.
كَيْفَ يَقْدِرُ الخ هذا استفهام إنكاري، أي لا يقدر. ويتضمن الهزء بالمسيح على وضعه مثل هذا الشرط المستحيل، فغضوا النظر عن كل ما قاله المسيح في شأن الحياة الأبدية ونزوله من السماء، وتمسكوا بالعبارات التي تحتمل معنيين لينتقدوه.
53 «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ».
تكوين 9: 4 ولاويين 16: 10 - 14 وعبرانيين 9: 22
الحَقَّ الحَقَّ مقدمة اعتادها المسيح لبيان الأهمية وللتأكيد. وفي هذا تصريح بأن ما ظهر لليهود مستحيلاً مضحكاً المقصود منه شرط ضروري للخلاص.
إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ سمَّى المسيح نفسه «ابن الإنسان» وقصد بذلك أنه ابن الله متجسداً، لأنه لا يستطيع أن يموت دون التجسد. ولا يمكن أن يؤخذ كلامه هنا حرفياً، لأننا لو أخذناه حرفياً وقت قوله، لوجَب أن يُؤكل لحمه وهو حي، وذلك ما ينفر منه كل عاقل. وكذلك شرب دمه، فإن هذا محظور على اليهود (تكوين 9: 4 ولاويين 3: 17 و7: 26، 27 و17: 10 - 15). وما صحَّ عليه حينئذ يصح عليه الآن، لأنه لم يأكل إنسان قط جسد المسيح المادي، ولم يمكنه ذلك ولن يمكنه، لأن ذلك الجسد صُلب ودُفن وأُقيم وأُصعد إلى السماء وهو الآن عن يمين الله.
فيجب أن نعتبر الجسد والدم هنا مجازين يشيران إلى تقديم المسيح نفسه ذبيحة على الصليب لأجل خطايا العالم. والأكل والشرب هنا يشيران إلى اشتراكنا بالإيمان في فوائد ذبيحته. وكما أن الغذاء المعتاد ضروري لحياة الجسد كذلك يسوع المصلوب القوت الضروري للحياة الروحية تتناوله النفس بالإيمان به.
ولا توجد إشارة هنا إلى العشاء الرباني، فإنه لم يُرسم إلا بعد هذا الكلام بنحو سنة، ولم يُذكر في الإنجيل شرطاً ضرورياً للخلاص. لكن الإيمان المراد بالأكل والشرب هو الشرط الضروري لذلك. فيمكن الإنسان أن يأكل العشاء الرباني ولا يأكل جسد المسيح بالمعنى المراد هنا. إن ذلك السر تذكار وإشارة إلى نفس المسيح.
وهذه الآية تفيد ما قاله المسيح قبلها في هذا الأصحاح عينه، ففيها الوعد بالحياة الأبدية. وهو ما وعد به قبلاً. والمجاز فيها أي «الأكل» هو نفس المجاز فيما قبلها، والمراد به طريق نوال تلك الحياة (ع 35، 48، 51). وقدم فيها يسوع نفسه غذاء للنفس كما قدمها قبلاً (ع 39، 40، 44). فلا شك أن المقصود بذلك بيان أن الإيمان بالمسيح شرط ضروري للخلاص وحقيقة أساسية في الدين المسيحي.
فإن قيل: هل هناك فرق بين أكل جسد المسيح وشرب دمه؟ قلنا لا، لأن «الجسد» و «اللحم والدم» بمعنى واحد لأنه قيل «الكلمة صار جسداً» (يوحنا 1: 14) وقيل إن «الابن اشترك في اللحم والدم» (عبرانيين 2: 14). وقد ذكر الأكل والشرب ليفيد أنه كما أنهما كل ما يحتاج إليه الجسد لحياته، كذلك المسيح هو كل ما تحتاج إليه النفس لحياتها.
وزاد المسيح على ذكر جسده ذكر دمه، إشارة إلى أن مجرد تجسده لا يأتي بالحياة الروحية للعالم، فإن ذلك لا يتم إلا بسفك دمه، ونظر الخاطئ إليه بالإيمان مصلوباً. وكثيراً ما ورد في الإنجيل «الدم» بمعنى موت المسيح كفارة (رومية 3: 25 وكولوسي 1: 14، 20 وعبرانيين 9: 14، 20 و10: 10 و1يوحنا 1: 7 ورؤيا 1: 5).
ورأى بعضهم في ذلك إشارة إلى الفصح اليهودي الذي كان فيه لحم الخروف ودمه ضروريين لنجاة بني إسرائيل من الهلاك الذي نزل بالمصريين.
فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ أي ليس لنفوسكم حياة روحية الآن إلا بإيمانكم بي، ولا رجاء للحياة الأبدية في السماء، لأنه ليس لأحد من الناس حياة روحية بالذات، والله لم يجهز طريقاً لنوالها غير الإيمان بابنه. فلم يكن يكفي اليهود لينالوا الحياة أن يروا أعمال المسيح ويسمعوا كلامه ما لم يقبلوا المسيح بالإيمان قوتاً لنفوسهم.
54 «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ».
يوحنا 4: 14 وع 27، 40، 63
مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ ذكر هذا تأكيداً لما قبله، لأنهما بمعنى واحد، سوى أن الأول نفي الحياة عن غير المؤمن، والثاني إيجابها للمؤمن. المسيح مصدر كل الحياة، والمؤمن يتحد به بالإيمان، فيشترك في الحياة الأبدية التي هو مصدرها. وتبدأ تلك الحياة في الإنسان عند ما يقتات بالإيمان به باعتباره كفارة عن الإثم (ع 47 ويوحنا 3: 18).
ولا إشارة هنا إلى العشاء الرباني لأن ألوفاً يأكلون منه وليس لهم شيء من الحياة الأبدية.
وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ هذه مرة رابعة لهذا الوعد (ما سبق في ع 39 و40 و44). ولنا من ذلك أن نفس المؤمن لا تنال كمال الحياة الأبدية إلا متى قام الجسد وشارك الروح في السعادة (رومية 8: 23) وهو أن فداء الإنسان يتضمن فداء جسده، وما قيل في 1كورنثوس 5: 26 وهو انتصار يسوع على الخطية لا يتم إلا متى سلم عدو الإنسان الأخير وهو الموت ما استولى عليه. وهبة الحياة الأبدية الآن تتضمن القيامة للمجد في المستقبل.
55 «لأنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ».
معنى هذه الآية كمعنى آية 35 والفرق بينهما لفظي. كثيراً ما جاء في الكتاب المقدس وصف الشيء بالحق بياناً لأفضليته على كل ما يشاركه في المعنى الذي جرى عليه الحديث. وعلى هذا يكون «الإنسان الحق» النفس لا الجسد، وحياة الإنسان الحق حياته الروحية لا الجسدية، وقوت الإنسان الأحقُّ بأن يسمى قوتاً هو جسد المسيح ودمه. وكان جسد المسيح «مأكلاً حقاً» لأن به الحياة الأبدية، ولأنه يشبع النفس أتم شبع. و «الجسد والدم» هنا إشارة إلى ذبيحة المسيح كفارة، وأكلهما وشربهما الإيمان به. والقضية الأولى من آية 54 كالقضية من هذه الآية، ومعناهما الاتحاد بالمسيح بواسطة الإيمان، ففي الأولى أن ثمرة الإيمان في المؤمن نواله الحياة الأبدية، وفي هذه أن ثمرته الاتحاد الكامل به دائماً.
56 «مَنْ يَأْكُل جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ».
1يوحنا 3: 24 و4: 15، 16
يَثْبُتْ فِيَّ دائماً. ويتضمن ثبوت المؤمن في المسيح الاتحاد به، والمشابهة له، وموافقته في الإرادة، والتمتع برضاه، والأمن من الخوف، والتعزية في الضيق، والنجاة من الدينونة (يوحنا 14: 1 - 6 و15: 5 و17: 21 - 23 وغلاطية 2: 17، 20).
وَأَنَا فِيهِ كما أن المسيح الابن في الآب والآب في الابن كذلك تلاميذه المؤمنون هم واحد (يوحنا 17: 21). وكون ما ذُكر نتيجة أكل جسد المسيح وشرب دمه يفسر لنا قصده بحقيقة ذلك الأكل وذلك الشرب، وهو أنهما روحيان، ويمنع أن يكونا ماديين.
57 «كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي».
الغاية من هذه الآية إيضاح ثبوت المؤمن في المسيح، وثبوت المسيح في المؤمن، وبيان الاتحاد بين الآب والابن. لا شك أن علاقة الاتحاد بين المؤمن والمسيح ليست كعلاقة الاتحاد بين الآب والابن، ولكن لا سبيل إلى إيضاحها بغير هذه العلاقة.
كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ لأكمل عمل الفداء.
الحَيُّ ذُكر في هذه الآية ثلاثة أحياء: الآب والابن والمؤمن، وأن الحياة تجري من الواحد إلى الآخر، وتحقيق وجودها في واحد يثبت وجودها في الآخر. ومصدر تلك الحياة وعلتها في الآب.
وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ معنى هذا أن حياة المسيح غير منفصلة عن حياة الآب، إنما هي قائمة باتحاد الابن بالآب، ووحدة الفكر والمحبة والمقاصد والعمل. وليس الكلام هنا في أصل حياة الابن لأن الابن أزلي كالآب، إنما هو وصف حياة المسيح على الدوام منذ الأزل وإلى الأبد. وقول المسيح هنا كقوله في موضع آخر «صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ» وقوله «الآبَ الحَالَّ فِيَّ» (يوحنا 14: 10، 11).
فَمَنْ يَأْكُلنِي يؤمن بي ويتأمل في صفاتي كما هي معلنة في كلامي، ويتمتع بذلك ويدوم كذلك.
يَحْيَا بِي ينال الحياة الروحية الأبدية التي هي أعظم حياة للإنسان وهي الحياة المذكورة في ع 51، 54. والتي ذكرها بولس في قوله «مَعَ المَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لا أَنَا بَلِ المَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللَّهِ» (غل 2: 20). وهذه هي حياة الإيمان والقداسة والمحبة والنفع في هذا العالم والسعادة والمجد في العالم الآتي. وحقق المسيح هذه الحياة للمؤمن بقوله في أول هذه الآية «كما أرسلني الآب» أي كما تحقق أني رسول الآب كذلك تحقق نوال الحياة بالإيمان بي.
58 «هَذَا هُوَ الخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُمُ المَنَّ وَمَاتُوا. مَنْ يَأْكُل هَذَا الخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ».
ع 49، 50، 51
تلخص هذه الآية ما قاله المسيح في هذا الخطاب: (1) هَذَا هُوَ الخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وهذا يلخص آيات 32، 33، 35 أي أني أنا هو الخبز الحقيقي، وأني نزلت من السماء، وأقوت العالم بتقديم نفسي ذبيحة لله، ويقتات فيَّ الخاطئ بالإيمان. (2) «لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُم» هذا بيان لنقص المن الذي أعطاه موسى الآباء، فإنهم لم يأكلوا الخبز الحقيقي، ولم يحصلوا إلا على نفع وقتي لأجسادهم فقط (ع 31، 49). (3) «مَنْ يَأْكُل هَذَا الخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ» هذا بيان لكمال ما أعطاه المسيح، فإن الذين قبلوه بالإيمان كفارة عن خطاياهم تحيا نفوسهم في السماء إلى الأبد (ع 33، 50، 51، 54، 57).
59 «قَالَ هَذَا فِي المَجْمَعِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كَفْرَنَاحُومَ».
قَالَ هَذَا الأرجح أن الإشارة إلى كل ما في هذا الأصحاح من آية 26 إلى هذه الآية، وأنه لفظ كل الخطاب في مجمع كفرناحوم. وظن بعضهم أنه بدأ يخاطب الشعب في سهل جنيسارت عندما خرج من السفينة، وأن ما قاله هناك هو ما في آية 26 - 40. وأن ما في الآية 41 إلى هذه الآية قاله في ذلك المجمع.
60 «فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْ تلامِيذِهِ، إِذْ سَمِعُوا: إِنَّ هَذَا الكلامَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ؟».
متّى 11: 6 وع 66
مِنْ تلامِيذِهِ هم غير المؤمنين الحقيقيين، بل الذين تبعوه متظاهرين بأنهم تلاميذه (ع 64).
هَذَا الكلامَ صَعْبٌ أي قوله إنه «خبز الحياة» وقوله في «أكل جسد ابن الإنسان وشرب دمه» وهو صعب الفهم، لأنهم لم يفهموا المعنى الروحي الذي قصده المسيح منه، ولأنه كان منافياً لآرائهم في شأن المسيح المنتظر وملكوته الجديد، ومضاداً لشهوات قلوبهم الدنيوية لأنهم طلبوا خيراً جسدياً. وأما المسيح فوعدهم بخير روحي. طلبوا ملكاً يقود جيوشهم على الرومان ويملك بالمجد كداود وسليمان، وأما هو فقدَّم نفسه لهم مسيحاً يتألم ويموت ليحررهم من الخطية.
مَنْ يَقْدِر أَنْ يَسْمَعَهُ؟ أي من يريد أن يسمع تعليماً كهذا، ومن يسمعه ويصدقه ويطيعه؟ وجاء «السمع» بهذا المعنى في يوحنا 5: 24 و8: 43 و10: 3 و16: 27 و18: 37.
61 «فَعَلِمَ يَسُوعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ تلامِيذَهُ يَتَذَمَّرُونَ عَلَى هَذَا، فَقَالَ لَهُمْ: أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ؟».
فِي نَفْسِهِ بالعلم الإلهي المختص به باعتبار كونه ابن الله (يوحنا 2: 25). وما قاله يجاوب على تساؤلاتهم العلنية، والقلبية.
أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ؟ قصد بذلك على الخصوص ما قاله في ع 41 وهو أنه «نزل من السماء» لأنه يخالف ما ظنوه من أنه ابن يوسف نجار الناصرة، وما قاله من «أكل جسده وشرب دمه» (ع 52) لأنه خلاف ما توقعوا من المسيح المنتظر.
62 «ًفَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلا!».
مرقس 16: 10 ويوحنا 3: 13 وأعمال 1: 9 وأفسس 4: 8
فَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً أشار بذلك إلى ما تم فعلاً (مرقس 16: 9 ولوقا 24: 51 وأعمال 1: 9).
حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً صرح يسوع بذلك بوجوده قبل تجسده أي بأزليته. وجواب الشرط هنا محذوف تقديره «فهل تعثرون أيضاً؟». وظن بعضهم أن معنى هذه الجملة: إن رأيتموني صاعداً إلى السماء، كما سيراني بعضكم، فهل يقنعكم ذلك بصحة دعواي وترجعون عن تذمركم؟. والأرجح أن كلام المسيح هنا متعلق بكلامه عن «أكل جسده وشرب دمه». فكأنه قال: «تذمرتم من كلامي بقولكم «كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل؟ وأنا أقول لكم إنه بعد ارتفاعي عن الأرض إلى السماء لا يزال من الواجب الضروري أن تأكلوا جسدي وتشربوا دمي، فإن عثرتم بالأول فكم يكون عثاركم في الثاني؟». فالمسيح لم يدفع ما رأوه من الصعوبة، بل زادها.
63 «اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي. أَمَّا الجَسَدُ فلا يُفِيدُ شَيْئاً. اَلكلامُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ».
قصد المسيح بهذا أن يعلّم السامعين أن يأخذوا كلامه بالمعنى الروحي.
اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي هذا شرح ما قاله في ع 51، 53 وهم لم يفهموه. ومعناه أن جسدي إذا أكلته أجسادكم لا ينفعكم شيئاً، ولكن النافع هو روحي القدوس في قلوبكم، فهذا هو الذي يحييكم. فيجب أن تدركوا المعنى الروحي لكلامي وتقبلوه في أرواحكم بالإيمان وبإرشاد الروح القدس.
أَمَّا الجَسَدُ فلا يُفِيدُ شَيْئاً أي لا يسد احتياجات الإنسان الحقيقية العظمى. وهذا القول يصدق على مادة المن ومادة جسد المسيح. فالمن لم يخلِّص أجسادهم من الموت ولم يفد نفوسهم شيئاً. فلو استطاعوا أكل جسد المسيح حرفياً لا ينفع نفوسهم، لأن ما يناله جسد الإنسان لا يؤثر في نفسه.
ويفيد هذا الكلام أيضاً أن كل ما يتعلق بناسوت المسيح (بقطع النظر عن لاهوته) لا ينفعنا إذا اتكلنا عليه للخلاص، كمجرد نظر وجهه وسماع صوته ولمس هدب ثوبه. لذلك قال الرسول «وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا المَسِيحَ حَسَبَ الجَسَدِ، لَكِنِ الآنَ لا نَعْرِفُهُ بَعْدُ» (2كورنثوس 5: 16). فلو أمكن الخبز أن يستحيل بالصلاة والبركة إلى جسد المسيح حقيقة، لما كان منه فائدة حسب نص هذه الآية.
اَلكلامُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ أي يجب أن تأخذوه بالمعنى الروحي، وتتعلموا من الروح القدس وتقبلوه بأرواحكم وضمائركم. فإذا أخذتموه كذلك كان واسطة للحصول على الحياة الروحية الأبدية. وغاية المسيح بذلك تحويل أفكار الناس من الجسديات العالميات الوقتيات إلى الروحيات السماويات الأبديات، والعدول عن اتخاذهم كلامه حرفياً، وحملهم على التفتيش عن المعنى الروحي.
64 «وَلَكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ. لأنَّ يَسُوعَ مِنَ البَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ».
ع 36 ويوحنا 2: 24، 25 و13: 11
وَلَكِنْ مِنْكُمْ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ هذا سبب عدم إدراكهم المعنى الصحيح لكلام المسيح وتذمرهم عليه ووصفهم كلامه بالصعوبة، لأن الناس استفادوا من المسيح على قدر إيمانهم به فهو كقوله «بِحَسَبِ إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا» (متّى 9: 29) وقول الرسول «الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لا يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللَّهِ» ( 1كورنثوس 2: 14). ولو آمن أولئك التلاميذ بأن يسوع هو المسيح حق الإيمان لطلبوا منه زيادة إيضاح كلامه، ولم يعثروا بما وجدوا إدراكه صعباً.
لأنَّ يَسُوعَ مِنَ البَدْءِ عَلِمَ هذا ركن القول السابق. فيسوع يعرف ما في قلوب الناس بقوته الإلهية. فلو لم يكن هو الله لاستحال أن يعلم ذلك. وقصد بقوله «من البدء» بدء خدمته وإتيان التلاميذ إليه (يوحنا 15: 26 و16: 4).
وَمَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ لم يكن المسيح مخدوعاً بيهوذا الإسخريوطي، وإن أراد بحكمته التي لا تُحد أن ينتخبه رسولاً. وسبق معرفة المسيح بخيانة أحد رسله كانت جزءاً من آلام المسيح التي احتملها على الأرض، وأظهر الصبر العظيم باحتماله من عرف خداعه وظل يعلّمه ويحذّره. وفي ذلك مثال لكل رجال الدين الآن أن لا يمتنعوا من تعليم الناس وتبشيرهم وإن علموا أن بعضهم من المرائين.
65 «فَقَالَ: لِهَذَا قُلتُ لَكُمْ إِنَّهُ لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يُعْطَ مِنْ أَبِي».
ع 44، 45
أشار بهذا الكلام إلى ما قاله في ع 44، 45 من أنه «لا يقدر أن يأتي أحد إليه إن لم يجتذبه الآب». وهذا الاجتذاب يتضمن إتيانه إليه بالإيمان، وأن الآب يهب له نعمة لذلك الإيمان. أما يهوذا وأمثاله فأتوا إلى المسيح بأجسادهم دون قلوبهم، فلم يكن لهم إيمان. والآب لم يعط المسيح إياهم ولم يجتذبهم. والمسيح لم يتعجب من سقوطهم. فإذا لم يكن القلب مستعداً لقبول الحق لم يتأثر بكلام، ولو كان المتكلم هو المسيح نفسه، وبرهن أقواله بالبراهين والمعجزات.
66 «مِنْ هَذَا الوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تلامِيذِهِ إِلَى الوَرَاءِ، وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ».
مِنْ هَذَا الوَقْتِ أي من وقت هذا الخطاب الذي أظهر فيه المسيح روحانية تعليمه. فهذا الإظهار وزن إيمانهم فوُجد ناقصاً.
رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تلامِيذِهِ الذين تبعوه كانوا تلاميذ كثيرين. ومن جملة الذين تركوه بعض الذين ذُكروا في ع 60، فإنهم تيقنوا أنه ليس هو المسيح الذي أرادوه، وهو تحقق أنهم ليسوا التلاميذ الذين أرادهم.
وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ أي لم يرافقوه ليسمعوا تعاليمه. انفصلوا عنه أولاً في الباطن ثم تركوه في الظاهر ورجعوا إلى منازلهم، لأنهم يئسوا من توقع الخيرات الجسدية منه، ونفروا من تعليمه الروحي.
لم يستطع ابن الله أن يجعل كلامه مقبولاً عند سامعيه فلا عجب أن عجز المبشرون اليوم أن يرضوا الناس وهم ينادون بالإنجيل.
67 «فَقَالَ يَسُوعُ لِلاثْنَيْ عَشَرَ: أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟».
للاثْنَيْ عَشَرَ هذا أول ذكر لهم في هذه البشارة. ولم يذكر البشير انتخاب المسيح إياهم، واقتصر على ذكر خمسة منهم إليه. وكلام يوحنا هنا يثبت ما قيل في مرقس 3: 13 - 19 ولوقا 6: 12 - 16.
أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً الخ لم يسألهم ذلك ليعرف قصدهم «لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون» (ع 64) لكن ليمتحن إيمانهم، وليحملهم على الإقرار بأمانتهم له (يوحنا 6: 6) فتتمكن علاقة المحبة بينهم. وأظهر المسيح بما قال أسفه وألمه لأن بعض تلاميذه تركوه، ولرغبته في أن يسمع من أصدقائه الأمناء إقرارهم بخلوص مودتهم، وأمله وثقته بهم أن يثبتوا. وحزنه كغيره من الناس لما تركه أصحابه. وتعزيته كذلك لما تحقق أمانتهم ومحبتهم (لأنه إنسان كما أنه إله) وإرادته أن لا يتبعه أحد كرهاً، وتركه لكل إنسان أن يختار بقاءه معه أو تركه إياه. ولا يزال المسيح يعرض على كل إنسان قوله «ألعلك أنت أيضاً تريد أن تمضي؟». ولا يزال ارتداد البعض عن المسيح تجربة عظيمة على الباقين.
68 «فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: يَا رَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كلامُ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ».
أعمال 5: 20
أجاب بطرس بالنيابة عن الجميع بسرعة وحرارة كما فعل في متّى 16: 16. وكان من عادته أن يسبق الآخرين وينوب عنهم بإظهار مشاعره، ولعله كان أكبر سناً منهم، فناب عنهم.
إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ أي لا نذهب عنك أبداً. قد تركنا كل شيء في سبيل اتباعك ولم نندم، ولا نعرف معلماً مثلك، ولا نود غيرك فقد وجدنا فيك كل ما نحتاج إليه. وتعليمك هو الذي يقودنا إلى الحياة الأبدية لا تعليم الكتبة والفريسيين والصدوقيين. فالذهاب عنك ذهاب إلى الظلمة والشقاء واليأس. وفي هذا القول إقرار بالمحبة والثقة والطاعة.
على الناس حين يعثرون بأسرار المسيحية والضيقات الناتجة عنها أن يسألوا مثل هذا السؤال بمطاليبه، أو: أي دين أفضل من دين المسيح؟ وأية ديانة نتائجها خير من نتائج ديانته؟ وأي رجاء منها في المستقبل خير من مثل ذلك الرجاء في تلك الديانة؟ أو ماذا تكون أحوالهم إذا تركوا كل دين؟
كلامُ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ الطريق الوحيدة لنوال الحياة الأبدية هو الإصغاء إلى كلام المسيح، لأنه «الحق والحياة» يقدر أن يمنح الحياة للناس بتعليمه، وبفعل روحه القدوس ينير العقل بالعلم ويُحيي القلب بمحبته.
لا شك أن بطرس لم يفهم معنى كلام المسيح عن أكل جسده وشرب دمه تمام الفهم، ولم يدرك ذلك إلا بعد موت المسيح وقيامته وصعوده وحلول الروح القدس عليه وعلى سائر التلاميذ، لكنه أقر باعتقاده أن تلك الكلمات معلنات الحياة الأبدية، وأنه يحب أن يسمعها ويهتدي بها.
69 «وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الحَيِّ».
متّى 16: 16 ومرقس 8: 29 ولوقا 9: 20 ويوحنا 1: 49 و11: 27
وَنَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا هذا دليل واضح على أن بطرس كان نائباً عن سائر الرسل بإجابته المسيح. ومضمون تلك الإجابة أنهم تحققوا مما أبصروا وسمعوا أن يسوع هو المسيح، وأن إيمانهم به وطيد ومعرفتهم يقينية، فلا يبالون لو شكَّ البعض في المسيح وتركه، وأنهم ليسوا مثل ذلك البعض.
أَنَّكَ أَنْتَ المَسِيحُ الذي مسحه الله ملكاً ونبياً وكاهناً لشعبه.
ابْنُ اللَّهِ الحَيِّ لقب آخر من ألقاب المسيح اعتاد اليهود أن يلقبوه به، وفيه دليل على لاهوته. أقر بطرس في هذا الكلام إقراراً حسناً عن نفسه وعن سائر الرسل بلاهوت يسوع، وبكونه المسيح الموعود به. لكنه لم يفهم هو ولا غيره من الرسل أن يسوع لا بد أن يموت كفارة عن البشر وذبيحة «لله» (متّى 16: 22، 23).
70 «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، الاثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!».
لو 6: 13 ويوحنا 13: 27
هذا جواب المسيح لقول بطرس في شأن جماعة الرسل كلها فكأنه قال «هل تقول إن الاثني عشر كلهم عرفوا وآمنوا أني المسيح؟» فإني أخبر بما لم تعرفوا، وهو أن ليس الأمر كذلك.
أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ أشار بذلك إلى انتخابه اثني عشر من تلاميذه رسلاً (لوقا 6: 13) فهذا الاختيار غير الاختيار للخلاص كما في 13: 18. وفي هذا إشارة إلى فظاعة إثم مسلِّمه، وأن الذي يرتكب ذلك أحد الاثني عشر المنتخب رسولاً من جمهور التلاميذ حاصلاً على وسائط عظيمة لمعرفة الحق، ومرافقاً ليسوع كل يوم متعلماً من شفتيه، ملزوماً بوظيفته بالأمانة والصداقة.
وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ أي يستحق أن يُلقَّب «بالشيطان» لأنه يظهر نية الشيطان ويعمل إرادته كأحد جنوده، ولأن صفاته كصفاته من البغض والطمع والخداع والرياء. وقال المسيح ذلك قبل أن يسلمه يهوذا بنحو سنة، وهذا دليل على أنه منذ الأول لم يكن تلميذاً أميناً. وما قيل في يوحنا 13: 2 أن الشيطان «أَلقَى فِي قَلبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ» يشير إلى تمام قصده الشرير الذي كان كامناً في قلبه منذ زمان بإغراء الشيطان، وأن الشيطان حركه يومئذ.
وهدف المسيح من هذا القول أن يوقظ ضمير يهوذا ويرشده إلى التوبة، وحث كل التلاميذ على السهر، ومنعهم من الظن أنه يجهل ضمير يهوذا وخُدع به عند خيانته.
71 «قَالَ عَنْ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ، لأنَّ هَذَا كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُسَلِّمَهُ، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاثْنَيْ عَشَرَ».
يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ (متّى 10: 4) أي ابن سمعان. ومعنى «الإسخريوطي» قروي أو رجل قرية. ويحتمل أن يهوذا وُلد في قريوث وهي قرية في نصيب سبط يهوذا (يشوع 15: 25). وأضاف يوحنا يهوذا إلى سمعان في بشارته أربع مرات. ولسنا نعرف شيئاً من أمر سمعان، ولماذا أضاف يوحنا يهوذا إليه إلا أن يكون أراد التمييز بينه وبين يهوذا آخر ذُكر في يوحنا 14: 22 وهو أخو يعقوب وسُمي أحياناً لبّاوس (متّى 10: 3).
لأنَّ هَذَا كَانَ مُزْمِعاً إلخ ذلك تم فعلاً (يوحنا 13: 2). قال يوحنا كذلك بياناً لعلة تسمية المسيح يهوذا شيطاناً، وليظهر الفرق بين وظيفته وفعله.
1 «وَكَانَ يَسُوعُ يَتَرَدَّدُ بَعْدَ هَذَا فِي الجَلِيلِ، لأنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي اليَهُودِيَّةِ لأنَّ اليَهُودَ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ».
يوحنا 5: 16، 18
بَعْدَ هَذَا أي ما ذُكر في يوحنا 5، 6 (ولا سيما ما ورد في يوحنا 5) من أمر شفاء الإنسان يوم السبت. وكانت المدة نحو سبعة أشهر، أي ما بين عيد الفصح وعيد المظال، قضى شهراً منها في اليهودية وستة شهور في الجليل.
فِي الجَلِيلِ كان يتردد فيها للتعليم، ولم يصعد مع غيره إلى عيد الفصح (يوحنا 6: 4) لأن اليهود الذين في منطقة اليهودية طلبوا قتله (يوحنا 5: 16، 18). ولم يذكر يوحنا هذا ليبين الحوادث التي جرت يومها (متّى 15 - 18 و مرقس 7 - 9) بل يكون مقدمة لخبر صعوده إلى أورشليم خفية ليحضر عيد المظال بعد امتناعه عن الذهاب في أول العيد.
اليَهُودَ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ هذا سبب بقائه في الجليل وعدم تردده على اليهودية.
2 «وَكَانَ عِيدُ اٰلْيَهُودِ، عِيدُ الْمَظَالِّ قَرِيباً».
لاويين 23: 34 وتثنية 16: 13 - 17
عِيدُ الْمَظَالّ هذا أحد الأعياد الثلاثة العظمى التي أمر الله كل ذكور اليهود أن يحضروها في أورشليم، وكان يُسمّى عيد الحصاد، وعيد الجمع (خروج 23: 16) وكان يبدأ في يوم 15 من شهر 7 من السنة اليهودية (أكتوبر - ت 1 من سنتنا الميلادية) وكانت مدته 8 أيام، آخرها يُسمى اليوم العظيم (آية 7). (انظر خروج 23: 16 ولاويين 23: 43 وعدد 29: 12 - 38 وتثنية 16: 13 - 18) فرضه الله على بني إسرائيل تذكاراً لسكنهم في الخيام في البرية 40 سنة، وشكراً لله على غلة الأرض من قمح وخمر وزيت. وكانوا يسكنون مدة العيد في مظال يقيمونها على سطوح البيوت وفي الساحات التي بين البيوت وفي أروقة الهيكل. وذُكر خبر حفظ هذا العيد في نح 8: 13 - 18 وهو 12: 9 وزكريا 1: 16 - 19.
3 «فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: انْتَقِل مِنْ هُنَا وَاذْهَبْ إِلَى اليَهُودِيَّةِ، لِكَيْ يَرَى تلامِيذُكَ أَيْضاً أَعْمَالَكَ الَّتِي تَعْمَلُ».
متّى 12: 46 ومرقس 3: 31 وأعمال 1: 14
إِخْوَتُهُ ذُكروا في يوحنا 2: 12 وهم يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا (متّى 13: 55) ولم يكونوا حينئذ قد آمنوا بأنه هو المسيح (ع 5). وميز البشير بينهم وبين تلاميذه (ع 3). وحسبهم المسيح من العالم (ع 7) ولم يذكرهم يوحنا إلا في هذا الأصحاح. وكانوا يعتبرون يسوع صانع معجزات ومعلماً، ولكنهم نسبوا إليه قلة الحكمة في اتخاذه الوسائل التي تجلب له الشهرة، ولم يستطيعوا التوفيق بين عظمة دعواه أنه هو المسيح المنتظر وتواضعه وإبائه أن يكون ملكاً وتثبيت دعواه بمعجزة عظيمة واضحة تنفي كل شك من قلوب الناس.
انْتَقِل مِنْ هُنَا أي من الجليل.
وَاذْهَبْ إِلَى اليَهُودِيَّةِ ولا سيما أورشليم حيث يجتمع الألوف، لا من أهل أورشليم واليهودية فقط بل من أماكن مختلفة أيضاً لحضور العيد. ولا بد أنهم عرفوا أن اليهود كانوا يطلبون قتله، ولكنهم على ما يُرجح ظنوا أنه إن كان هو المسيح فلن يستطيعوا ذلك، وأنه إذا أظهر شيئاً من مجده الإلهي كثر تلاميذه وقابلوه بالفرح وأعلنوه ملكاً في مدينة داود وفي هيكل الله.
لِكَيْ يَرَى تلامِيذُكَ لم يقصدوا تلاميذه في اليهودية فقط مع أنهم كثيرون (يوحنا 2: 23) بل الذين يحضرون من كل الجهات أيضاً. وكلامهم هنا مبني على أنه لم يصعد إلى أورشليم في الفصح الماضي، وبقي تلك المدة الطويلة في الجليل خاملاً. فأخطأوا بأنهم لم يعتبروا خدمته في الجليل كما تستحق، وادَّعوا أنهم أكثر حكمة من يسوع، وأنهم قادرون على نصحه. فلم يخلُ كلامهم من الاستخفاف به.
4 «لأنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْمَلُ شَيْئاً فِي الخَفَاءِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ علانِيَةً. إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ هَذِهِ الأَشْيَاءَ فَأَظْهِرْ نَفْسَكَ لِلعَالَمِ».
لأنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْمَلُ شَيْئاً فِي الخَفَاءِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ علانِيَةً هذا كلام جرى مجرى المثل ذكروه ليسوع بياناً لعدم توافق أقواله مع أفعاله، لأنه قال إنه أتى معلماً ورسولاً وملكاً روحياً ومع ذلك انفرد عن الناس. وصنع كل معجزاته التي أجراها دليلاً على لاهوته أمام قليلين من تلاميذه في منطقة حقيرة، بعيداً عن الهيكل وأورشليم عاصمة اليهودية ومركز الدين والأمة. وحسبوا مثل هذا في غير محله، لأن يسوع إن أراد أن يعرفه كل الناس ويعترفوا بأنه المسيح يجب أن يعلن عن ذاته في أورشليم.
إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ هَذِهِ الأَشْيَاءَ لم ينكروا صحة معجزاته، بل لاموه لأنه عملها أمام أناس غير مهمين.
فَأَظْهِرْ نَفْسَكَ لِلعَالَم أي فأعلن أمرك للجميع. وكانت أورشليم عندهم مركز العالم، وأنه يجب عليه أن يحضر العيد فيها حيث يجتمع كثيرون من اليهود من كل العالم. فالذي يصنعه أمامهم حينئذٍ ينتشر خبره في كل الأرض.
5 «لأنَّ إِخْوَتَهُ أَيْضاً لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِه».
مرقس 3: 21
أي لم يؤمنوا أنه المسيح. ولكنهم بعد أقل من سنة اجتمعوا مع التلاميذ وحُسبوا منهم (أعمال 1: 14). ومن أسباب تغيير أفكارهم ظهور الرب بعد قيامته لأحدهم ( 1كورنثوس 15: 17).
6 «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: إِنَّ وَقْتِي لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ، وَأَمَّا وَقْتُكُمْ فَفِي كُلِّ حِينٍ حَاضِرٌ».
يوحنا 2: 4 وع 8 و30 ويوحنا 8: 20
وَقْتِي لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ طلب إخوة يسوع منه كطلب أمه منه سابقاً، وجوابه لهم كجوابه لها (يوحنا 2: 4). وأبى يسوع في الحادثتين أن يقبل نصيحة البشر، وأبان أنه لا يعمل شيئاً إلا بإرادة أبيه السماوي. ومعنى قوله «وقتي» الوقت المعين لي من الآب الذي عيّن كل أعمالي، فلا أعمل شيئاً إلا بمقتضى تعيينه. وتحتمل لفظة «وقتي» ثلاثة معانٍ: (1) الوقت المناسب لصعوده إلى هذا العيد. (2) الوقت المناسب لإظهار نفسه للعالم كما طلبوا. (3) الوقت المعيّن لذهابه إلى الموت ذبيحة من أجل العالم.
ولم يفسر المسيح مراده بل تركه مبهماً، فإن كان مراده الأول فالمعنى أنه يصعد إلى العيد بعد نحو أربعة أيام. وإن كان الثاني أو الثالث فالمعنى أن وقته يكون بعد ستة أشهر، لأن وقت إظهار نفسه للعالم هو وقت موته.
وَأَمَّا وَقْتُكُمْ فَفِي كُلِّ حِينٍ حَاضِرٌ أي أنكم لا ترون أنفسكم مقيدة بإرادة أبي، وصعودكم إلى العيد لا يهيج حسد الناس أو مقاومتهم. فلكم أن تفعلوا كسائر الناس بلا معارض.
لو صعد يسوع مع الصاعدين إلى العيد لأثار ذلك الجليليين الذين كانوا يميلون إلى الشغب أن ينادوا به ملكاً (يوحنا 6: 15) ولأثار أيضاً حسد الرؤساء وبغضهم له. ولعل بعض أعدائه كانوا ينتظرون مجيئه مع الجموع فكمنوا له في الطريق ليقتلوه (ع 11). ولو شاء يسوع أن يعلن نفسه كما طلب إخوته لاقتضى ذلك أن يموت قبل تتميمه الفداء بالصليب، وهو ما جاء ليفعله.
7 «لا يَقْدِرُ العَالَمُ أَنْ يُبْغِضَكُمْ، وَلَكِنَّهُ يُبْغِضُنِي أَنَا، لأنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ أَعْمَالَهُ شِرِّيرَةٌ».
يوحنا 15: 19 ويوحنا 3: 19
لا يَقْدِرُ العَالَمُ أَنْ يُبْغِضَكُمْ أراد المسيح «بالعالم» غير المؤمنين، وبنى جوابه على قول إخوته «أظهر نفسك للعالم» فكأنه قال: أنتم تظنون العالم مستعداً أن يقبلني ويقر بصحة دعواي، لكني أعلم أنه مستعد أن يقتلني. أما أنتم فلا خطر عليكم لأنكم من العالم «والعالم يحب خاصته» (يوحنا 15: 19). ولستم مضطرين مثلي أن توبخوا العالم وتشهدوا عليه، فيمكنكم أن تذهبوا حيث شئتم غير مبالين بحسد اليهود ولا بحسد الرومان.
وَلَكِنَّهُ يُبْغِضُنِي أي أمري خلاف أمركم، فالعالم يقاومني ويحسبني عدوه، وقد حكم عليّ بأني مخادع يستحق الموت، لذلك يجب أن أستعمل الحكمة ولا أصعد إلا في وقتي.
لأنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ كما في يوحنا 3: 20. أثارت شهادة المسيح على العالم مقاومة العالم له. وهذا علة كل مقاومة العالم لدين المسيح في كل عصر. و «هَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى العَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً» (يوحنا 3: 19). فالذين يحبون الظلمة يبغضون النور، لأن النور يُظهر لهم خطيتهم ويثير ضمائرهم عليهم.
8 «اِصْعَدُوا أَنْتُمْ إِلَى هَذَا العِيدِ. أَنَا لَسْتُ أَصْعَدُ بَعْدُ إِلَى هَذَا العِيدِ، لأنَّ وَقْتِي لَمْ يُكْمَل بَعْدُ».
ع 6 و30 ويوحنا 8: 20
اِصْعَدُوا أَنْتُمْ قال يسوع لإخوته أن يذهبوا إذا أرادوا مع القافلة الصاعدة من الجليل التي تصل في بدء العيد وأن لا ينتظروه لعدم إتيان وقته المعيّن من الآب، فإنه لم يُرد أن يسبقه ولو بدقيقة واحدة.
أَنَا لَسْتُ أَصْعَدُ بَعْدُ ليس معنى قول المسيح أنه لا يذهب أبداً، بل أنه لا يذهب حتى يريد أبوه. فما قاله لا يمنع أنه يذهب إلى العيد في الخفاء كما فعل بعد أربعة أيام. ولا ينفي أنه يُظهر نفسه علانية للعالم كما قصد فعله بعد ستة أشهر لما دخل أورشليم باحتفال الجموع وهم يهتفون «أوصنا! مبارك الآتي باسم الرب».
9 «قَالَ لَهُمْ هَذَا وَمَكَثَ فِي الجَلِيلِ».
الأرجح أنه بقي هناك نحو أربعة أيام لأنه حضر العيد في منتصفه (ع 14) وكانت مدة العيد ثمانية أيام.
10 «وَلَمَّا كَانَ إِخْوَتُهُ قَدْ صَعِدُوا، حِينَئِذٍ صَعِدَ هُوَ أَيْضاً إِلَى العِيدِ، لا ظَاهِراً بَل كَأَنَّهُ فِي الخَفَاءِ».
يوحنا 11: 56
كَأَنَّهُ فِي الخَفَاءِ رفض الذهاب مع القافلة الصاعدة إلى العيد عمداً لئلا يتعذر عليه منع الشعب الذي شاهد معجزاته من المناداة به ملكاً، فأظهر الحكمة باعتزال أسباب الهياج قبل موعد تسليمه. فذهابه خفية لا يستلزم أنه بدا له خلاف ما قاله لإخوته، لأنه صعد في أحوال ووقت غير الأحوال والوقت عند طلب إخوته. وصعوده في الخفاء لا يمنع من مصاحبته بعض تلاميذه، ولا من إرسال رسل أمامه ليجهزوا له منزلاً في الطريق (كما ذُكر في لوقا 9: 51). فالمعنى أنه رفض شهرة الصعود مع تلك القافلة العظيمة.
11 «فَكَانَ اليَهُودُ يَطْلُبُونَهُ فِي العِيدِ، وَيَقُولُونَ: أَيْنَ ذَاكَ؟».
يوحنا 11: 56
اليَهُودُ أي أعداؤه (ع 1، 13، 19).
يَطْلُبُونَهُ ليقتلوه كما يظهر من آية 1. وطلبوه يومئذ لتوقعهم حضوره العيد كسائر اليهود وكعادته غالباً.
أَيْنَ ذَاكَ لا يخلو كلامهم هذا من الاستخفاف بيسوع، ومن الدلالة على أنه لم يأت مع القافلة لحكمة عنده.
12 «وَكَانَ فِي الجُمُوعِ مُنَاجَاةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ نَحْوِهِ. بَعْضُهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ صَالِحٌ. وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: لا بَل يُضِلُّ الشَّعْبَ».
يوحنا 9: 16 و10: 19، متّى 21: 46 ولوقا 7: 16 ويوحنا 6: 14 وع 40
الجُمُوعِ ميّز البشير بين فرقتين من بني إسرائيل هما «اليهود» و «الجموع» وقصد بالأولى رؤساء الشعب الذين جاهروا بعداوتهم ليسوع، وقصد بالثانية «العامة» ومنهم أصحابه الذين عرفوه في الجليل واليهودية وأكرموه وتبعوه.
يَقُولُونَ «إِنَّهُ صَالِحٌ»: يدل على كثرة أعداء يسوع وقوتهم أن أصحابه لم يجسروا على الشهادة بأنه المسيح والملك كما اعتقدوا واكتفوا بمجرد الشهادة بصلاحه.
وَآخَرُونَ.. يُضِلُّ الشَّعْبَ هذا قول أصحاب الرؤساء من العامة. ومعناه أنه يضل الناس بدعواه أنه المسيح.
13 «وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَكَلَّمُ عَنْهُ جِهَاراً لِسَبَبِ الخَوْفِ مِنَ اليَهُودِ».
يوحنا 9: 22 و12: 42 و19: 38
كانت قوة الرؤساء شديدة وتأثيرهم في الشعب عظيماً حتى لم يجسر أصحاب يسوع ولا أعداؤه أن يتباحثوا في دعواه. ولعل الرؤساء لم يكونوا قد حكموا علانية ببطلان دعوى المسيح. ولم يُظهر أعداؤه من العامة كل مقاومتهم له خوفاً من أن يغيِّر الرؤساء رأيهم في رفضه.
14 «وَلَمَّا كَانَ اٰلْعِيدُ قَدِ اٰنْتَصَفَ، صَعِدَ يَسُوعُ إِلَى اٰلْهَيْكَلِ، وَكَانَ يُعَلِّمُ».
اٰلْعِيدُ قَدِ اٰنْتَصَف أي مرّ من أيامه أربعة، وذلك وقت قلّت فيه حركة الشعب ومناقشاتهم في أمر المسيح، ويئس أصحابه وأعداؤه من حضوره.
صَعِدَ يَسُوعُ إِلَى الهَيْكَلِ صعد إلى اليهودية في الخفاء، ودخل هيكل أورشليم علانيةً بغتةً. وكان حضوره كذلك أكثر أمناً له لأن الرؤساء خافوا أن يقاوموه في وسط الجموع لئلا يقع شغب (متّى 21: 46) فكما أن الشعب خاف الرؤساء (ع 13) خاف الرؤساء الشعب. وكان الموضع الذي صعد إليه من الهيكل أحد دوره (انظر شرح متّى 21: 12).
وَكَانَ يُعَلِّمُ لعله شرح لهم الفصل الذي قُرئ يومئذ من الكتاب الإلهي كما كان يفعل الربانيون الذين تعلموا في مدارس اليهود المقدسة، أو أنه فسر لهم بعض النبوات المتعلقة بالمسيح وبيّن لهم أنها تمت به كما سبق وفعل في مجمع الناصرة. وكثرة الحاضرين هناك أعدَّت له أحسن فرصة للتعليم.
15 «فَتَعَجَّبَ اليَهُودُ قَائِلِينَ: كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ الكُتُبَ وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟».
متّى 13: 54 ومرقس 6: 2 ولوقا 4: 22 وأعمال 2: 7
فَتَعَجَّبَ اليَهُودُ هذا ليس تعجُّب الاستحسان لتعليمه الذي يقود إلى التسليم بصحته، بل تعجب الحيرة والدهشة التي أبكمتهم، فلم يستطيعوا إنكار حكمة المسيح وقوة براهينه وصحة معرفته الشريعة مع أنهم أحبوا أن يصرحوا بجهله لو أمكنهم وعدم استحقاقه أن يُسمع له. ومن الواضح أن أحسن ربانييهم الذين شغلوا سنين كثيرة بالدرس والمطالعة لم يبلغوا معرفته.
كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ الكُتُبَ أي مدونات العلوم حسب اصطلاحهم، وهي مما اعتاد الناس أن يتعلموها في المدارس بعد سنين من الدرس بإرشاد أفضل المعلمين. وكانت العلوم التي اشتغلوا بها يومئذ العلوم الدينية خاصة.
والذي حيّر اليهود حينئذ لا بد من أن يحير كل إنسان ينكر أن المسيح ابن الله، فعلى المنكِر أن يبيِّن كيف أن يسوع الذي تربَّى نجاراً في قرية حقيرة في الجليل، وكان رفقاؤه كلهم شبه أميين ولم يحضروا قط مدرسة الفلاسفة، علَّم تعليماً يفوق كل ما علمه فلاسفة العالم حكمة وصواباً، وأسس ديناً أخذ يُبطل غيره من الأديان ويعظم ويدوم. وجواب قولهم «كيف يعرف الكتب وهو لم يتعلم؟»: إنه الله.
16 «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَل لِلَّذِي أَرْسَلَنِي».
متّى 3: 11 و8: 28 و12: 49 و14: 10، 24
تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي مضمون جواب المسيح أنه لا محل للتعجب كأني أبدعت علمي من نفسي. فإنه كان من عادة ربانيي اليهود أن يؤيدوا تعاليمهم بذكر مشاهير معلميهم، وباقتباس أقوالهم إثباتاً لما يقولونه. لكن يسوع أسند تعليمه إلى المعلم الإلهي أي الله، وهذا جواب سؤالهم: «من علمه؟» فكأنه قال: السماء مدرستي، والذي أرسلني هو معلمي، وأنا لم أُبدع شيئاً من نفسي. أو لعل معنى قوله «تعليمي ليس لي» إنّه ليس لي وحدي حتى إذا قبلتموه تكونون قد قبلتم مجرد قولي، وإن رفضتموه رفضتم مجرد كلامي.. لكن تعليمي مما سمعته من الآب (يوحنا 8: 40) وأنا صرحت به بسلطان أبي (يوحنا 12: 49) كما كانت أعمالي (يوحنا 5: 36). فقول المسيح هنا كقوله في يوحنا 5: 18، 30.
بَل لِلَّذِي أَرْسَلَنِي أي الله (ع 27).
17 «إِنْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ مَشِيئَتَهُ يَعْرِفُ التَّعْلِيمَ، هَل هُوَ مِنَ اللَّهِ، أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي».
يوحنا 8: 43
إِنْ شَاءَ أَحَدٌ طلب اليهود من يسوع آية يعرفون بها أن تعليمه من الله، وأبوا أن يؤمنوا به إن لم يعطهم الآية التي طلبوها، فصرح لهم هنا أنهم قادرون أن يعرفوا صحة تعليمه بدون معجزة إذا طابقت مشيئتهم مشيئة الله. فإن كانت قلوبهم مستعدة لقبول الحق فلهم براهين كافية لإقناعهم، وإن مالوا إلى تكذيب الحق هان عليهم أن يروا الحق كذباً.
ومن مبادئ ملكوت المسيح أن ميل القلب إلى الحق يُجهز العقل لإدراكه، فالذي يحب الحق يستعمل كل الوسائط إلى معرفته، وإله الحق يحبه ويهديه سُبُل الحق. وسبب معظم الكفر في العالم ميل القلب إلى الباطل أكثر من ميله إلى الحق. وقد جعل الله ثواب إخلاص النية صفاء البصيرة وفقاً لقوله «إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً» (متّ 6: 22) وقوله «وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ الحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ» (يوحنا 3: 21). وقوله «لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي» (يوحنا 5: 46).
هَل هُوَ مِنَ اللَّهِ أي الذي أمر الله بالتكلم به.
أَمْ أَتَكَلَّمُ أَنَا مِنْ نَفْسِي أي بدون أن يرسلني الله ويتكلم بفمي.
18 «مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَهُوَ صَادِقٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلمٌ».
يوحنا 5: 41 و8: 50
هذا برهان على صحة ما قاله في الآية السابقة. وأعطاهم علامة يميزون بها المعلم المرسَل من الله من المعلم الآتي من نفسه والمتكلم بكلماته.
مَنْ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ يَطْلُبُ مَجْدَ نَفْسِهِ هذه علامة المعلم الآتي من نفسه، فإنه يحب ذاته ويهتم بشرفه وربحه. وغاية مثل هذا المعلم الدنيوية تبيّن أن أصله دنيوي. وقد صدَقَ هذا على الفريسيين معلمي الشعب، لأن كبرياءهم ومحبتهم لأنفسهم منعاهم من معرفة الحق وتعليمه للناس.
وَأَمَّا مَنْ يَطْلُبُ مَجْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُ كان الواضح من أمر المسيح أنه كان في كل كلماته وأعماله لم يطلب مجد نفسه بل مجد الله. فكان عليهم أن يقتنعوا من ذلك بأنه كان يتكلم بالحق لأن المعلم الذي يطلب مجد الله يحفظه الله من كل ميل إلى الضلال. فموافقة مشيئته لمشيئة الله تجعل تعاليمه موافقة لتعاليم الله. ولا يصدق هذا إلا على المسيح الذي طلب مجد الله فقط، وأن تعليمه الحق الخالص، وأنه ليس فيه ظلم.
ولعل هذه إجابة المسيح على قول بعضهم «إنه يضل الشعب» (ع 12) لأنه لا بد للمضل من غاية أنانية. وقد صرح المسيح أن ليس له من غاية كتلك، بل إنه يفعل كل شيء لمجد الله. ولعل ذلك رد على دعواهم أنه تعدى شريعة السبت في زيارته السابقة لأورشليم يوم شفى المقعد عند بركة بيت حِسدا (يوحنا 5: 16).
19 «أَلَيْسَ مُوسَى قَدْ أَعْطَاكُمُ النَّامُوسَ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ النَّامُوسَ! لِمَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي؟».
خروج 24: 3 وتثنية 33: 4 ويوحنا 1: 17 وأعمال 7: 38، متّى 12: 14 ومرقس 3: 6 ويوحنا 5: 16، 18 و10: 31، 39 و11: 53
قال هذا دفعاً لشكواهم أنه نقض شريعة السبت (يوحنا 5: 19).
أَلَيْسَ مُوسَى قَدْ أَعْطَاكُمُ النَّامُوسَ أي وصية السبت. ولو أجابوه لفظاً لقالوا كلهم: نعم. فإذاً هم مضطرون أن يطيعوا تلك الوصية على الدوام.
وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ النَّامُوسَ أي شريعة السبت وبرهن هذه الدعوى في ع 22، 23 أي أثبت أنهم يخالفونها بخدمة الهيكل.
لِمَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي كلامه موجَّه هنا إلى أعدائه رؤساء الشعب، ومبنيٌّ على ما قيل في يوحنا 5: 16. فمعناه: لماذا تخطئونني كأني نقضت شريعة السبت وتطلبون قتلي، بينما أنتم تفعلون ما فعلته أنا، لسبب غير السبب الذي حملني على الفعل؟
(ظن بعض المفسرين أن المسيح أشار إلى الوصية الناهية عن القتل بقوله «أليس موسى قد أعطاكم الناموس» وأنه أثبت عليهم مخالفة تلك الوصية بطلبهم قتله. لكن ما يأتي في ع 20 - 24 يدل على أنه قصد ما قلناه في تفسيرنا).
20 «أَجَابَ الجَمْعُ: بِكَ شَيْطَانٌ. مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَقْتُلَكَ؟».
يوحنا 8: 48 ، 52 و10: 20
الجَمْعُ أي جمهور الشعب ممن حضروا العيد من جهات مختلفة، ولم يعرفوا شيئاً من الحوادث الماضية التي ذُكرت في يوحنا 5 ولا من قصد الرؤساء قتله. وهم يختلفون عن أهل أورشليم (ع 25).
بِكَ شَيْطَانٌ هذا لم يصدر عن حقد كقول الفريسيين «بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِين» (متّى 9: 34) بل عن شفقة. فقد ظنوا أن المسيح اتهمهم بطلب قتله، وهو حسب علمهم ليس صحيحاً. ومن عادة الناس أنهم متى حدث لأحد وهمٌ كهذا نسبوه إلى وسوسة الشيطان. فهم حسبوا قول المسيح مجرد ظن، فحكموا عليه باختلال العقل.
21 «فَقَالَ يَسُوعُ لَهُمْ: عَمَلاً وَاحِداً عَمِلتُ فَتَتَعَجَّبُونَ جَمِيعاً».
لم يجب يسوع الشعب على دعواهم أنه مختل، بل استمر يخاطب اليهود.
عَمَلاً وَاحِداً عَمِلتُ أي في السبت، وأشار بذلك إلى شفائه المقعد يوم السبت (يوحنا 5: 1 - 8). ولم يذكر غيره من كل معجزاته الكثيرة في أورشليم (يوحنا 2: 23، 25 و3: 2). وقيّد عمله في السبت بكونه «واحداً» ليظهر الفرق بين عمله وعملهم، لأنه فعل ذلك مرة واحدة وهم فعلوه مراراً.
فَتَتَعَجَّبُونَ جَمِيعاً لا من المعجزة بل لصنعي إياها في السبت، كأني ارتكبت ذنباً فظيعاً يستحق الموت. فكأن تعجبهم من معجزة عظيمة، وفظاعة عدم إيمان تقشعر منها الأبدان.
22 «لِهَذَا أَعْطَاكُمْ مُوسَى الخِتَانَ، لَيْسَ أَنَّهُ مِنْ مُوسَى، بَل مِنَ الآبَاءِ. فَفِي السَّبْتِ تَخْتِنُونَ الإِنْسَانَ».
لا 12: 3، تكوين 17: 10
لِهَذَا أي لسبب سيأتي، وهو بيان أن عمل الخير الضروري للإنسان في السبت لا يناقض وصية السبت.
أَعْطَاكُمْ مُوسَى الخِتَانَ أي أن الذي أعطاكم ناموس السبت المشار إليه في ع 19 هو نفسه أعطاكم الشريعة الأخرى التي تأمر بالختان في اليوم الثامن، فأمر بذلك كل بني إسرائيل بما يكسر شريعة السبت (لا 12: 3 ولو 2: 21).
لَيْسَ أَنَّهُ مِنْ مُوسَى، بَل مِنَ الآبَاءِ هذه جملة معترضة قُصد بها تفسير «أن موسى أعطاكم الختان». والمعنى أنه أدخل الختان بين ما أمرهم به من الوصايا، مع أن الله أمر الآباء الذين قبل موسى بالختان، وذلك من عهد إبراهيم (تكوين 17). وما قاله في الختان يصح من جهة السبت أيضاً. والخلاصة أن موسى أعطى كلاً منهما، لكنه ليس أول من أعطاهما.
فَفِي السَّبْتِ تَخْتِنُونَ الإِنْسَانَ إن كان الثامن من يوم ولادته. و «الإنسان» هنا الطفل الذكر (يوحنا 16: 21).
23 «فَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ يَقْبَلُ الخِتَانَ فِي السَّبْتِ، لِئلا يُنْقَضَ نَامُوسُ مُوسَى، أَفَتَسْخَطُونَ عَلَيَّ لأنِّي شَفَيْتُ إِنْسَاناً كُلَّهُ فِي السَّبْتِ؟».
يوحنا 5: 8، 9، 16
فَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ يَقْبَلُ الخِتَانَ فِي السَّبْتِ أي إذا كان السبت اليوم الثامن من أيام الولادة. وذكر المسيح ذلك لأنه كان شائعاً بينهم ومقبولاً واشتركوا فيه جميعاً، لكن الختان لم يكن سوى عمل خارجي ورمز يشير إلى التطهير، لا تطهيراً حقيقياً في الباطن.
لِئلا يُنْقَضَ نَامُوسُ مُوسَى الآمر بالختان في اليوم الثامن (تكوين 17: 12 و21: 4 ولاويين 12: 3). أثبت المسيح لليهود في هذا العدد قضيتين: (1) أنه يجوز نقض شريعة السبت لكي لا تُنقض شريعة الختان. (2) يجوز نقض شريعة السبت للأعمال الضرورية وأعمال الرحمة والأعمال المختصة بالعبادة.
أَفَتَسْخَطُونَ عَلَيَّ لأنِّي شَفَيْتُ إِنْسَاناً كُلَّهُ قارن المسيح الختان بشفائه للمقعد. والختان ليس سوى إشارة إلى التطهير، وأما الشفاء فهو إنقاذ جسد الإنسان كله من المرض، وتطهير نفسه من الخطية لخلاصه الأبدي، وهذا يتفق مع قوله «أنت قد برئت، فلا تخطئ أيضاً» (يوحنا 5: 14).
يقول المسيح لليهود: لقد وافقتم على جواز الأعمال في يوم السبت، وأنا عملتُ فيه عملاً واحداً، وأنتم تعملون فيه أعمالاً كثيرة لأقل داعٍ. فإن كان الختان جائزاً في السبت فبالأولى شفائي. وما تعملونه أنتم يرمز إلى التطهير، وما عملته أنا هو التطهير الحقيقي. وأنتم تعملون لخير جزئي وأنا عملت لخير كلي.
24 «لا تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْماً عَادِلاً».
تثنية 1: 16، 17 وأمثال 24: 23 ويوحنا 8: 15 ويعقوب 2: 1
لا تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ الحكم حسب الظاهر هو القضاء بلا إمعان النظر في كل أحوال الأمر. وحسب الظاهر الختان محرم في السبت وكذلك شفائي فيه، وعلى هذا حكمتم عليّ بالخطأ لأني شفيت في السبت، والحق أنه جائز كما جاز الختان.
بَلِ احْكُمُوا حُكْماً عَادِلاً أي قيسوا عملي في السبت بالمقياس الذي تقيسون به عملكم فيه. برروني كما تبررون أنفسكم فتروا أني أستحق المدح على ما لمتموني عليه. انظروا إلى كل أحوال الأمر والأسباب الموجبة له بلا هوىً أو تعصب، وتأملوا في ما تلزم شريعة السبت به، وفي ما تبيحه من الأعمال الضرورية وأعمال الرحمة.
25 «فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ أُورُشَلِيمَ: أَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ؟».
قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ أُورُشَلِيمَ أي من سكان تلك المدينة. قال ذلك ليميزهم عن المذكورين في ع 20 الذين هم من خارج أورشليم، فهؤلاء لم يعرفوا قصد الرؤساء قتل يسوع الذي عرفه أولئك. وقاله أيضاً ليميز بينهم وبين الرؤساء المشار إليهم في هذه الآية والمذكورين في الآية الآتية.
أَلَيْسَ هَذَا هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ أي هذا هو حقيقة فالاستفهام هنا إنكاري. والذين طلبوا قتله هم الرؤساء.
26 «وَهَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جِهَاراً ولا يَقُولُونَ لَهُ شَيْئاً! أَلَعَلَّ الرُّؤَسَاءَ عَرَفُوا يَقِيناً أَنَّ هَذَا هُوَ المَسِيحُ حَقّاً؟».
ع 48
هَا هُوَ يَتَكَلَّمُ جِهَاراً هذا كلام تعجب فكأنهم قالوا: غريبٌ أن هذا الذي طلبوا قتله لم يزل حياً، وفوق ذلك هو حر في أن يفعل ويعلّم كما يشاء.
ولا يَقُولُونَ لَهُ شَيْئاً أي أنهم بدل أن يقتلوه كما قصدوا، لم يمنعوه ولا هددوه ولا اعترضوه بشيء.
أَلَعَلَّ الرُّؤَسَاءَ عَرَفُوا يَقِيناً: المقصود بهؤلاء الرؤساء أعضاء مجلس السبعين من الشيوخ ورؤساء الكهنة. ومضمون سؤالهم أنه: هل غيّر أولئك أفكارهم ومالوا إلى قبول دعواه؟ ولم يظهروا ذلك علانية لسبب لا نعلمه. وهل وقفوا على برهان قاطع يثبت أن يسوع هو المسيح ولذلك تركوه في أمن وحرية؟
27 «وَلَكِنَّ هَذَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَأَمَّا المَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ».
متّى 13: 55 ومرقس 6: 3 ولوقا 4: 22
وَلَكِنَّ هَذَا هذا الاستدراك يدل على أن المتكلمين مائلون بعض الميل إلى التسليم بدعوى المسيح، وأنهم ظنوا أن الرؤساء سلَّموا، ولكن شيئاً ما منعهم من إعلان هذا التسليم.
نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ أي موضع ميلاده ومكان سكنه. وافتكروا أنه لا شك في ولادته في الناصرة، وأن أهله معروفون، أي أنه ابن يوسف النجار. وكان ذلك رأي عامة الناس (يوحنا 6: 42 ومتّى 13: 55، 56). وهذا ما نادى به الشعب يوم دخوله أورشليم إذ هتفوا «هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل» وكما كُتب في العنوان فوق صليبه في ثلاث لغات.
وَأَمَّا المَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ هذا من تقاليد اليهود ورأي العامة حسب أقوال مؤرخي اليهود، وهو أن أصل المسيح يكون سراً مكتوماً. نعم إنهم عرفوا أن الأنبياء تنبأوا بأن يكون المسيح من نسل داود ومن بيت لحم مدينة داود، وكذا أجاب رؤساء الشعب هيرودس (متّى 2: 5) وكذا اعتقدوا (ع 42). ولكنهم لم يجدوا تناقضاً بين تلك النبوات وتقاليدهم، لأنهم اعتقدوا أنه لا يولد كسائر الناس، وأن الأرواح والزوابع تخطفه حالاً بعد ولادته عن نظر الناس، ويبقى متوارياً زمناً عن أبصار الناس، ثم يظهر في الهيكل بغتة، ويمسحه إيليا النبي، ويبدأ يمارس أعمال القوة والمجد. وبنوا هذا الزعم على ما قيل في دانيال 7: 13 وملاخي 3: 1، وذلك قوله «يَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ» (إشعياء 9: 6 و53: 8 وميخا 5: 2 وفي متّى 24: 23، 26) إشارات إلى وجود ذلك الوهم عندهم.. فحسب هذا الرأي ظهر للشعب استحالة أن يكون مسيح الله من قرية معلومة كناصرة الجليل، وأبوه وأمه وإخوته كلهم معروفون، وأن يسكن هناك ثلاثين سنة بدل أن يأتي بغتة.
28 «فَنَادَى يَسُوعُ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الهَيْكَلِ: تَعْرِفُونَنِي وَتَعْرِفُونَ مِنْ أَيْنَ أَنَا، وَمِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ، بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ، الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ».
يوحنا 8: 14 يوحنا 5: 43 و8: 42 ويوحنا 5: 32 و8: 26 ورومية 3: 4 ويوحنا 1: 18 و8: 55
فَنَادَى بناءً على ما قالوا في أمره. وقوله «نادى» يدل على أنه رفع صوته ودعا الجميع إلى الانتباه لقوله.
تَعْرِفُونَنِي وَتَعْرِفُونَ مِنْ أَيْنَ أَنَا اختلف المفسرون كثيراً في شرح هذه العبارة، فحسبها بعضهم استفهاماً إنكارياً، أي: لستم تعرفونني. وحسبها البعض من عبارات التهكم (كما في يوحنا 16: 31). فعلى هذا كأنه قال: ما هذه المعرفة؟ إنها لا تستحق أن تُسمى معرفة! وحسبها بعضهم مجرد تكرير لقولهم، وأن يسوع كرره ليُظهر بطلانه في ما بعد. ورأى بعضهم أنها تسليم بمعرفتهم، أي أنهم يعرفون من أمره ما هو كافٍ لإقناعهم إذا أرادوا الاقتناع، وذلك مما أخبرهم به من أمره ومما شاهدوه من سيرته ومعجزاته وتعليمه. وذلك كله كافٍ لأن يحقق لهم أنه من السماء.
ولعل المعنى: إنكم تعلمون بعض أمري فتعرفونني إنساناً رأيتموه وسمعتموه، وعرفتم أني كنت ساكناً في الناصرة وأني محسوب ابن يوسف، ولكن هذه المعرفة ليست كاملة. فأنتم تجهلون أني من السماء، وأني مرسل من الله. وهذا ما أوضحه في ما بعد. والتفسير الأخير هو المرجح.
وَمِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ علموا هذا بما أنبأهم به قبلاً وبما أخبرهم به هنا فإن كل سيرته على الأرض تدل على أنه لم يطلب شيئاً لنفسه.
بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ أي الله الآب وشهادته لا يمكن إنكارها. وفي هذا الكلام جواب لقول بعضهم «إنه يضل الشعب» (ع 12). ويبطل دعواهم هذه أن مجيئه حقَّق مواعيد الله الذي هو الحق ومصدر الحق، وهو أيضاً شهد له بفم المعمدان، وبصوت مسموع من السماء، وبالمعجزات التي أجراها على يده.
الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أي لا تعرفون حقيقته ولا مقاصده ولا روحانية ملكوته الذي أخذ يؤسسه على الأرض. فجهلوا مقام المسيح المُرسل من الآب، لعدم معرفتهم الآب الذي أرسله.
وفي هذه العبارة توبيخ شديد للذين ادعوا أنهم وحدهم عبدة الله بالحق. وفيها جواب لقول اليهود «فَمَتَى جَاءَ المَسِيحُ لا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ» (ع 27).
29 «أَنَا أَعْرِفُهُ لأنِّي مِنْهُ، وَهُوَ أَرْسَلَنِي».
متّى 11: 27 ويوحنا 10: 15
قارن يسوع هنا معرفته الكاملة بجهلهم الكبير.
أَنَا أَعْرِفُهُ لأنِّي مِنْه أي لأني كلمة الله مساوٍ له في الجوهر (يوحنا 1: 1).
وَهُوَ أَرْسَلَنِي إلى الأرض لأخبر به.
30 «فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلَمْ يُلقِ أَحَدٌ يَداً عَلَيْهِ، لأنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ».
مرقس 11: 18 ولوقا 19: 47 و20: 19 وع 19 ويوحنا 8: 27، ع 44 ويوحنا 8: 20
فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ أي بعض اليهود من أعدائه، وفعلوا ذلك من أنفسهم لأنهم عرفوا قصد الرؤساء، فقصدوا أن يقبضوا عليه ويذهبوا به إليهم. والذي هيّج غضبهم هو قوله «إنهم لا يعرفون الله» ودعواه أنه متحد به كل الاتحاد.
لأنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ أي الوقت المعيّن من الله لموته. فالذي منعهم من القبض عليه هو قوة الله، وهي نفس القوة التي سدت أفواه الأسود عن دانيال.
31 «فَآمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الجَمْعِ، وَقَالُوا: أَلَعَلَّ المَسِيحَ مَتَى جَاءَ يَعْمَلُ آيَاتٍ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الَّتِي عَمِلَهَا هَذَا؟».
متّى 12: 23 ويوحنا 3: 2 و8: 30
فَآمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الجَمْعِ وذكر «الجمع» هنا تمييزاً عن وجوه الشعب. ولم يكن إيمانهم كاملاً، إنما مالوا إلى التسليم بدعوى يسوع أنه المسيح. وأحب يوحنا أنه يذكر قبول بعض الناس له مع رفض البعض الآخر (يوحنا 1: 11 ، 12 و2: 18 ، 23 و3: 32، 33 و6: 66، 68).
أَلَعَلَّ المَسِيحَ.. يَعْمَلُ آيَاتٍ أَكْثَرَ أشاروا بهذا إلى المعجزات التي شاهدوها في اليهودية وسمعوا بعمله مثلها في الجليل. وفي هذا الإقرار تقدُّمٌ عمّا قالوه في ع 12 وهو «أنه صالح». ولكن خوفهم من الرؤساء جعلهم يعترفون به بطريق الاستفهام دون أن يعلنوا أنهم تلاميذه. فعلى كل الذين لا يسلمون بدعوى المسيح أن يتأملوا في هذا السؤال الذي هو في محله. ومضمونه أن ما فعله المسيح برهان قاطع بصحَّة دعواه، ولا يمكن أن يزاد عليه.
32 «سَمِعَ الفَرِّيسِيُّونَ الجَمْعَ يَتَنَاجَوْنَ بِهَذَا مِنْ نَحْوِهِ، فَأَرْسَلَ الفَرِّيسِيُّونَ وَرُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ خُدَّاماً لِيُمْسِكُوهُ».
الفَرِّيسِيُّونَ هم فرقة من اليهود أظهرت يومئذ أشد البغض للمسيح. وكان الصدوقيون بعد موته وقيامته من أشد اليهود مقاومة لتلاميذ المسيح. وفرقة الفريسيين أكثر عدداً وأعظم سلطاناً وقوة من سائر اليهود وأكثر غيرة للديانة اليهودية. وعرفوا تأثير تعاليم يسوع في الشعب مما سمعوه بأنفسهم أو مما بلغهم من الجواسيس الذي أرسلوهم. فخافوا نقص قوتهم من زيادة احترام الناس للمسيح.
فَأَرْسَلَ الفَرِّيسِيُّونَ وَرُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ هم أعضاء مجلس السبعين لأنهم كانوا من الفرقتين المذكورتين هنا. ولولا أنهم كانوا في صفة مجلس ما استطاعوا أن يرسلوا العسكر. وهذه أول مرة ذكر يوحنا في بشارته رؤساء الكهنة، وهم رؤساء الفرق الأربع والعشرين التي قُسم الكهنة إليها، وكل من كان قد تولى مقام الحبر العظيم ثم عُزل. وكانوا في تلك الأيام كثيرين على خلاف ما فرضه موسى. والأرجح أنهم أرسلوا العسكر ليقبضوا على المسيح في فرصة مناسبة، لا كيفما اتفق. والفرق بين طلب مسكه في العدد 30 وطلب مسكه في هذا العدد، أن الأول كان تطوعاً من أفراد، والثاني قانونياً من المجلس.
33، 34 «33 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً يَسِيراً بَعْدُ، ثُمَّ أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي. 34 سَتَطْلُبُونَنِي ولا تَجِدُونَنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا».
يوحنا 13: 33 و16: 16 هوشع 5: 6 ويوحنا 8: 21 و13: 33
فَقَالَ عرف المسيح بمؤامرة اليهود وأن عاقبتها موته بعد قليل، فنبّه السامعين أن يغتنموا الفرصة القصيرة الباقية ليسمعوا تعليمه ويستفيدوا منه.
أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً يَسِيراً قال هذا قبل صلبه بستة أشهر. ووجَّه كلامه إلى كل الجمع من خدام المجلس وغيرهم، بسبب رقة قلبه عليهم وغيرته في خلاصهم. ومعناه للجميع أن هذا هو «يوم افتقادكم» بالرحمة الذي لم تعرفوا به (لوقا 19: 24). وأن ذلك اليوم يعقبه يوم العقاب. ومعناه للعسكر أنهم لا يستطيعون أن يقبضوا عليه حيئنذٍ لأن وقت موته لم يكن قد أتى، بل بقي له وقت قصير للتبشير.
أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي أي أرجع إلى الله بالموت. لم يدرك اليهود هذا المعنى أو ادعوا أنهم لم يفهموه كما يظهر من الآية الآتية. إنما فهموا أنه يعتزلهم حتى لا يراه صاحب ولا عدو.
سَتَطْلُبُونَنِي الأرجح أن المعنى هنا كما في قوله «تَأْتِي أَيَّامٌ فِيهَا تَشْتَهُونَ أَنْ تَرَوْا يَوْماً وَاحِداً مِنْ أَيَّامِ ابْنِ الإِنْسَانِ» (لوقا 17: 22) فراجع التفسير هنالك. وهو وفق ما قيل في (يوحنا 8: 21 و13: 33). ومضمون كلام المسيح في هذه الآية أن اليهود يظلون يتوقعون مجيء المسيح الموعود به، ويشتهونه بغاية الشوق، وينتظرونه ملكاً زمنياً ومنقذاً سياسياً. ولم يعرفوا أن يسوع هو هو، ورفضوه لأنه ملك روحي ومنقذ النفس من سلطان الخطية. وأظهروا غيرتهم بعد في طلب المسيح بقبولهم بسهولة المسحاء الكذبة (متّى 24: 23، 24). وما قاله المسيح يومئذ لليهود يصح أن يقال اليوم لهم.
ولا تَجِدُونَنِي وليس معناه أنكم إن طلبتموني بالتوبة والإيمان لا تجدونني، لأن البعض طلبوه كذلك يوم الخمسين ووجدوه، بل إنّكم تطلبونني لأكون ملكاً زمنياً ولا تجدونني. تطلبون المسيح على الأرض ولا تجدونه لأنه يكون في السماء. وقوله «لا تجدونني» يشير إلى أن الأمة اليهودية تكون متروكة في حال اليأس والخراب والعجز، لأنها تركت ابن الله المرسل إليها (أمثال 1: 23، 24 وميخا 3: 4 وزكريا 7: 13 ومتّى 25: 13).
حَيْثُ أَكُونُ أَنَا أي مع الله كقوله «ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ» (يوحنا 3: 13) فإن المسيح الله فلذلك يكون دائماً مع الله الآب.
لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا وأنتم على ما أنتم فيه. لأنكم لستم أهلاً للحضور أمام الله والوقوف في حضرته، ولستم مستعدين للاشتراك في أفراح السماء الروحية.
35، 36 «35 فَقَالَ اليَهُودُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: إِلَى أَيْنَ هَذَا مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ حَتَّى لا نَجِدَهُ نَحْنُ؟ أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ اليُونَانِيِّينَ وَيُعَلِّمَ اليُونَانِيِّينَ؟. 36 مَا هَذَا القَوْلُ الَّذِي قَالَ: سَتَطْلُبُونَنِي ولا تَجِدُونَنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟».
إشعياء 11: 12 ويعقوب 1: 1 و1بطرس 1: 1
الأرجح أنهم نطقوا بذلك تهكماً واستهزاءً، وادَّعوا عدم فهمهم أن معنى قوله «أمضي إلى الذي أرسلني» (ع 33) أذهب إلى الله، مع أنه فسر ذلك في ع 16، 18، 28، 29. فلو طلبوا حقاً أن يدركوا معناه لسألوه ولم يكتفوا بتذمرهم فيما بينهم.
أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ اليُونَانِيِّينَ أي اليهود المشتتين بين اليونانيين (1بطرس 1: 1) والمعنى: هل يذهب إلى أقاصي الأرض حيث ذهب أولئك المتغربون؟ ظنوا أن المسيح قصد هذا السفر لا الموت.
وَيُعَلِّمَ اليُونَانِيِّينَ أي الأمم الوثنية. كأنهم قالوا لا يقدر أن يقنع اليهود بأنه المسيح، فهل يذهب ليقنع الأمم بذلك؟ ولا شيء يجعل يسوع مكروهاً أكثر من اتهامهم إياه بذلك. ولو أنهم لم يكونوا متأكدين من هذا الافتراض. على أن ما قالوه تهكماً كان نبوة منهم على غير قصد، كنبوة قيافا (يوحنا 11: 51) فإن ذلك تمّ بعد موته وقيامته.
سَتَطْلُبُونَنِي أعادوا قول المسيح كأنهم يبحثون عن معنىً خفي فيه، ولم يجدوا ذلك المعنى فأثبتوا أنه كلام فارغ.
37 «وَفِي اليَوْمِ الأَخِيرِ العَظِيمِ مِنَ العِيدِ وَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَى: إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَليُقْبِل إِلَيَّ وَيَشْرَبْ».
لاويين 23: 36، إشعياء 55: 1 ويوحنا 6: 35 ورؤيا 22: 17
فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ العَظِيمِ أي الثامن من أيام العيد (لاويين 23: 36، 39 وعدد 29: 35 ونحميا 8: 18). وسُمي «عظيماً» لكثرة المحتفلين فيه، ولأنه يوم اعتكاف لا يعملون فيه. كان الكاهن يذهب كل صباح من أيام العيد مع جمع وافر إلى عين سلوام، ويأتي بماء من هناك في إناء من ذهب يسكبه على المذبح مع خمر من إناء آخر، والشعب يهتف هتاف الفرح ويترنم بأغاني التسبيح، والكهنة يبوِّقون وآخرون يعزفون على آلات الطرب. وليس في الشريعة من أمر بذلك إنما فعله اليهود تذكاراً لإخراج موسى الماء من الصخرة في البرية، ووفقاً لقول النبي «فَتَسْتَقُونَ مِيَاهاً بِفَرَحٍ مِنْ يَنَابِيعِ الخلاصِ» (إشعياء 12: 3) وقوله «أَيُّهَا العِطَاشُ جَمِيعاً هَلُمُّوا إِلَى المِيَاهِ» (إشعياء 55: 1). وفعلوه أيضاً إشارة إلى سكب الروح القدس بركاته الروحية على الشعب.
وَقَفَ يَسُوعُ وَنَادَى أي انتصب ليراه الناس، ورفع صوته ليسمعه الألوف المجتمعين هناك.
إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ اعتبر يسوع نفسه بمنزلة الصخرة التي شرب منها عطاش بني إسرائيل في البرية ليُقبل إليه كل عطاش النفوس ويرتووا كما أقبل أولئك إلى الصخرة. ومعنى «العطش» اشتهاء النفس المغفرة وشدة الرغبة في ما يقوم به. وهو الشرط الوحيد الذي سنَّه المسيح لنوال نعمته (إشعياء 55: 1 ومتّى 5: 6 ورؤيا 22: 17) ومناداة المسيح أي دعوته عامة لكل البشر.
فَليُقْبِل إِلَيَّ وَيَشْرَبْ دعوته الألوف الذين كانوا في الهيكل كدعوته المرأة السامرية (يوحنا 4: 12 و14) ودعوته لكل العالم (رؤيا 22: 7). والأرجح أنه بنى كلامه على ما جرى في الهيكل من سكب الماء تذكاراً للصخرة المذكورة. قال الرسول «لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ المَسِيحَ» ( 1كورنثوس 10: 4). وأشار إلى نفسه مبيناً أنه هو ينبوع الحياة، وأنه قادر على القيام بكل حاجات النفس الخالدة. وكما كانت الحال يومئذ باقية اليوم. فإن شعر أحد بعطشه الروحي فليُقبل إلى رئيس الكنيسة الحي، لا إلى وسيط بشري. وفي قوله هنا تصريح بأنه المسيح المنتظر. ولم يقُل قط مثل هذا نبي ولا كاهن ولا رسول. ولم يستطع يسوع نفسه أن يقوله لو لم يعلم أنه هو الله. «والإقبال» إلى يسوع «والشرب» ليسا أمرين مختلفين، بل هما شيء واحد. ومعنى كليهما الإيمان به وقبول نعمته مجاناً.
38 «مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ».
أمثال 18: 4 وإشعياء 12: 3 وحزقيال 47: 1 - 12 وزكريا 14: 8
مَنْ آمَنَ بِي هذا تفسير المسيح لقوله «فليُقبِل إليَّ ويشرب». والمعنى: من أقرَّ بأني المسيح واتكل عليّ للخلاص.
كَمَا قَالَ الكِتَابُ في مواعيد الكثيرة (مثل: مزمور 14: 8 وإشعياء 58: 11 و44: 3، 4 و55: 1 وحزقيال 47: 1 - 1ي2 ويوئيل 2: 23 و3: 1، 8، 23 وزكريا 13: 1 و14: 8).
تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ هذا زيادة على ما قيل في الآية السابقة، ففي الآية تصريح بأن نتيجة الإيمان بالمسيح ارتواء النفس روحياً. وفي هذه تصريح بأن نتيجة ذلك الإيمان أن يصير صاحبه بركة لغيره. وأراد «ببطن الإنسان» داخله أي طبعه الروحي. فشبَّه صدور البركات من روح المؤمن كجريان الماء من جوف الصخرة. وأشار «بالأنهار» إلى وفرة بركات المسيحيين للعالم بواسطة قداستهم وسيرتهم وتعليمهم وسخائهم، وبذلك يقتدون بسيدهم يسوع الذي هو ينبوع النعم الأصلي، والذي أمر: «مجاناً أخذتم مجاناً أعطوا». فإذا اقتصرت فائدة الإيمان على نفس صاحبه شككنا في صحته. وقول المسيح هنا كقوله في يوحنا 4: 14 فراجع الشرح هناك. والماء الحي ما جرى من ينبوع صافٍ بلا انقطاع، وهو إشارة إلى حياة النفس الروحية التي تظهر بالكلام والأعمال كل يوم لنفع الناس عامة.
39 «قَالَ هَذَا عَنِ الرُّوحِ الَّذِي كَانَ المُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ، لأنَّ الرُّوحَ القُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لأنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ».
إشعياء 44: 3 ويوئيل 2: 28 ويوحنا 16: 7 وأعمال 2: 17، 23، 38 ورومية 8: 2 ويوحنا 12: 16 و16: 7
قَالَ هَذَا عَنِ الرُّوحِ هذا تفسير البشير لقول المسيح «تجري الخ». أي أن الماء الحي رمز إلى نعمة الروح القدس التي هي هبة المسيح الخاصة، لأن الإنسان بواسطة فعل الروح القدس يقدر أن يؤمن بالمسيح، ويتجدد قلبه، ويتشبَّه بالمسيح، ويكون واسطة بركة.
لأنَّ الرُّوحَ القُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ كما أُعطي بعد موت المسيح وقيامته يوم الخمسين. نعم كان الروح القدس حاضراً على الدوام في أزمنة العهد القديم في الكنيسة الإسرائيلية، وكان الروح القدس يعلّم الآباء الأتقياء وغيرهم من الصالحين والأنبياء أن يؤمنوا بالمسيح الآتي «تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ القِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ» (2بطرس 1: 21) لكنهم لم يشعروا بحضور الروح بينهم وتأثيره كما شعر الرسل والكنيسة التي أسسوها (أعمال 2 و10: 44، 45). والفرق بين الكنيسة الموسوية والكنيسة المسيحية في ذلك أن الأولى كانت كبئر مختوم مقصور نفع مائه عليه، وأن الثانية كانت كأنهار جارية لنفع العالم كله.
لأنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ أي لم يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين الآب. كان من عهد الفداء بين الآب والابن أن ينال الابن بموته سلطان أن يهب الروح القدس لخاصته، وأن تنفيذ ذلك يكون بعد صعوده (يوحنا 16: 7 و5: 8 - 12 و14: 15، 16، 26 وأفسس 4: 8 - 11).
40 «فَكَثِيرُونَ مِنَ الجَمْعِ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الكلامَ قَالُوا: هَذَا بِالحَقِيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ».
تثنية 18: 15، 18 ويوحنا 1: 21 و6: 14
أجمع الكثيرون على ذلك.
هُوَ النَّبِيُّ الذي أنبأ به موسى في تثنية 18: 15 وذُكر في يوحنا 1: 21 و6: 14 فراجع الشرح هناك.
41، 42 «41 آخَرُونَ قَالُوا: هَذَا هُوَ المَسِيح. وَآخَرُونَ قَالُوا: َلَعَلَّ المَسِيحَ مِنَ الجَلِيلِ يَأْتِي؟. 42 أَلَمْ يَقُلِ الكِتَابُ إِنَّهُ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ، وَمِنْ بَيْتِ لَحْمٍ القَرْيَةِ الَّتِي كَانَ دَاوُدُ فِيهَا يَأْتِي المَسِيحُ؟».
يوحنا 4: 42 و6: 69 ويوحنا 1: 46 وع 52، مزمور 132: 11 وإرميا 23: 5 وميخا 5: 2 ومتّى 2: 5 ولوقا 2: 4 و1صموئيل 16: 1، 4
هَذَا هُوَ المَسِيحُ هذا الإقرار أوضح من الأول وأسمى، لأنهم كانوا يعتقدون أن المسيح كاهن ونبي وملك، ولم يُجمع اليهود على أن النبي هو المسيح نفسه أو سابق له.
أَلَعَلَّ المَسِيحَ مِنَ الجَلِيلِ يَأْتِي عرفوا من النبوات أن المسيح من بيت لحم، وظنوا يسوع من الناصرة، فمنعهم هذا من قبوله مسيحاً. فكأنهم قالوا إن يسوع لا يمكن أن يكون هو المسيح لأن المسيح يخرج من بيت لحم وهذا خرج من الناصرة. وواضح أنهم لم يعرفوا الواقع وهو أن يسوع وُلد في بيت لحم. وقصدوا بقولهم «من الجليل» الناصرة التي هي إحدى قرى تلك المنطقة. وأشاروا بقولهم «ألم يقل الكتاب الخ» إلى ما كُتب في مزمور 89: 36 وإشعياء 11: 1 وإرميا 23: 5 وميخا 5: 1، 2. وقد أوضح متّى تحقيق هذا في متّى 2: 4 - 6.
كَانَ دَاوُدُ فِيهَا (1صموئيل 16: 1 - 4).
43 «فَحَدَثَ انْشِقَاقٌ فِي الجَمْعِ لِسَبَبِهِ».
ع 12 ويوحنا 9: 16 و10: 19
هذا وفق ما أنبأ به المسيح من أمره بقوله «أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سلاماً عَلَى الأَرْضِ؟ كلا أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ انْقِسَاماً» (لوقا 12: 51). وسؤال «ماذا تظنون في المسيح؟» يقسم الناس طوائف.
44 «وَكَانَ قَوْمٌ مِنْهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلَكِنْ لَمْ يُلقِ أَحَدٌ عَلَيْهِ الأَيَادِيَ».
ع 30
قَوْمٌ مِنْهُمْ هم من أهل أورشليم، من أتباع الفريسيين وأنصارهم، عرفوا رغبة الرؤساء في القبض عليه، وأرادوا إظهار غيرتهم لهم بتبرعهم بمسكه وتسليمهم إياه.
وَلَكِنْ لَمْ يُلقِ أَحَدٌ عَلَيْهِ الأَيَادِيَ للسبب المذكور في ع 30. ومنعتهم قوة الله عن مقصدهم. ولعلهم خافوا من ثورة بعض الجمع لأنهم لم يتحققوا قوة أنصاره من الجليل كما كان الأمر بعدئذ (لوقا 22: 2).
45 «فَجَاءَ الخُدَّامُ إِلَى رُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ وَالفَرِّيسِيِّينَ. فَقَالَ هَؤُلاءِ لَهُمْ: لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟».
فَجَاءَ الخُدَّامُ هم المذكورون في ع 32 وهم غير المذكورين في ع 44. ولعلهم جاءوا بعد مرور يومين أو ثلاثة أيام منذ أمروا بأن يمسكوا يسوع.
إِلَى رُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ وَالفَرِّيسِيِّينَ أي إلى المجلس السبعين، فاجتمعوا منتظرين إتيان خدامهم بيسوع حسب أمرهم.
لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ يدل سؤالهم هذا على شدة رغبتهم في القبض على المسيح وانتظارهم وقوع ذلك وغيظهم الشديد على عدم بلوغهم مأربهم.
46 «أَجَابَ الخُدَّامُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هَكَذَا مِثْلَ هَذَا الإِنْسَانِ».
متّى 7: 29
قالوا ذلك بياناً لعلة مسكهم إياه، ولم يعتذروا بخوفهم من الشعب أو عدم سنوح الفرصة. وهذه أعجب شهادة بقوة كلام المسيح قالوها لمعلمي الشعب. شعر الخدام بتأثير كلام المسيح فيهم ووقاره، وتحققوا أنه يمتاز عن كل من شاهدوه من الناس في شخصه وتعليمه وتأثيره في سامعيه. ولا شك أن شهادة هؤلاء الأعداء ليسوع كانت حقاً، فإنه لم يتكلم نبي ولا رسول ولا واعظ ولا نذير كما تكلم هو. فيجب علينا أن نحترم ما وصل إلينا من كلامه، ونخبئه في قلوبنا، ونعمل به، ونبلغه لغيرنا.
47 «فَأَجَابَهُمُ الفَرِّيسِيُّونَ: أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً قَدْ ضَلَلتُمْ؟».
أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً أي خدام المجلس، خاصة الذين يُتوقع أنهم يهتمون بما يهتم به أعضاء المجلس أنفسهم. وهذا يدل على غيظهم وحيرتهم وخيبتهم، وهو كلام توبيخ واستهزاء.
ضَلَلتُمْ حكموا بلا فحص بأن المسيح مُضل، ولم يسألوا الخدام عما رأوا من غرابة تعليمه أو أعماله، ولم يروا سبباً لما قاله الخدام سوى ضلالهم. وقالوا مثل هذا لبيلاطس بعد ذلك، إذ أشاروا إلى المسيح بقولهم «ذلك المضل» (متّى 27: 36). وبقولهم للخدام «ضللتم» اتهام لهم أنهم مالوا إلى التسليم بدعوى المسيح، وشاركوا سائر العامة في ذلك.
48 «أَلَعَلَّ أَحَداً مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الفَرِّيسِيِّينَ آمَنَ بِهِ؟».
يوحنا 12: 42 وأعمال 6: 7 و 1كورنثوس 1: 20 ، 26 و2: 8
مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَوْ مِنَ الفَرِّيسِيِّينَ هذا يشمل أعضاء مجلس السبعين، والفرق المشهورة بالتقوى وحفظ الناموس، فهم رؤساء الدين والسياسة. ويدل كلامهم هنا على أنهم اعتبروا أوامر الرؤساء الحاكم الأعظم في الأمور الدينية، لا صوت الضمير. وادعوا أنه لو كانت دعوى يسوع حقاً لكانوا عرفوا ذلك قبل غيرهم، وجهلوا أن كبرياءهم وغلطهم في صفات المسيح المنتظر وحسدهم أعمى قلوبهم عن الحكم بالصواب. وتناسوا أن أحد رؤساء المجلس أتى إلى المسيح ليلاً وأقر بأنه من الله (يوحنا 2: 2) وأن آخر منهم كان تلميذاً للمسيح خفية (يوحنا 19: 38).
49 «وَلَكِنَّ هَذَا الشَّعْبَ الَّذِي لا يَفْهَمُ النَّامُوسَ هُوَ مَلعُونٌ».
هَذَا الشَّعْبَ الذين أنتم كنتم بينهم وشاركتموهم في آرائهم واعتقادهم أن يسوع هو المسيح.
الَّذِي لا يَفْهَمُ النَّامُوسَ كما نفهمه نحن الذين درسناه في مدارس الربانيين. حكموا أن الشعب لعدم درسه الناموس لم يقدر أن يميز صحة دعوى يسوع أو بطلانها، وأنهم وحدهم مفسرو الناموس وأرباب مفاتيح المعرفة. ولمَّحوا بذلك إلى دعواهم أن في الناموس براهين قاطعة على بطلان دعوى يسوع، لو عرفها الشعب مثلهم لرفضوا دعواه أنه المسيح. «والناموس» هنا بمعنى كل أسفار العهد القديم. وهم فسروا ما يختص بالمسيح في الناموس بخلاف ما ظهر به يسوع، فإنهم فهموا من الناموس أن المسيح يكون ناصراً مجيداً وملكاً زمنياً يفوق داود في غناه وسلطانه.
هُوَ مَلعُونٌ هذه صفة تدل على استهزاء الرؤساء بالشعب واستهانتهم به. وأطلقوا على الشعب هذا الوصف ليبينوا أن آراءهم في المسيح لا قيمة لها، فشفوا غيظهم بلعن الشعب لعدم استطاعتهم أن يمسكوا يسوع، ولأن الخدام والشعب مالوا إليه.
ولا زال أعداء دين المسيح يقاومونه بطريقة رؤساء اليهود، وهو الاستهزاء لا بالبراهين، وبوصفه أنه دين لا يقبله سوى البسطاء أو الجهلاء، ولا يزالون حين يعجزون عن الانتصار بالبينات يلعنون خصومهم الذين هم أتباع الحق. ولم يزل الله يخفي حقائقه عن الحكماء والفهماء ويظهرها للأطفال.
50 «قَالَ لَهُمْ نِيقُودِيمُوسُ، الَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ لَيْلاً، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ».
يوحنا 3: 2
الَّذِي جَاءَ إِلَيْهِ لَيْلاً يوحنا 3: 1 و19: 39 ووصف بما ذُكر ثلاث مرات، وهذا دليل على أنه لم يأت إلى يسوع في الليل اتفاقاً بل خوفاً أو حياءً.
وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أي من أعضاء مجلس السبعين، وكان وجود هذا الإنسان الصالح بين الفريسيين مثل لوط في سدوم، وعوبديا في بيت أخآب، ودانيال في بابل، والقديسين في بيت قيصر.
51 «أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَاناً لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلاً وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ؟».
تثنية 1: 17 و17: 8 الخ و19: 15
لم ينكر نيقوديموس دعوى المسيح ولم يقر بصحتها، إنما طلب معاملته بقوانين العدل التي تُجرى على سائر الدعاوى. ونبههم أنهم خالفوا الناموس بقضائهم على يسوع بالموت بلا محاكمة ولا شهود حسب الناموس. وما أشار إليه مدوّن في خروج 23: 1 و2 ولاويين 19: 15 و16 وتثنية 1: 17 و17: 8 و19: 15، 18 وإن دعواهم معرفة الناموس لا تنفعهم شيئاً إذا خالفوها. ويتضمن سؤال نيقوديموس لأعضاء المجلس أنه يجب عليهم أن يعتبروا يسوع بريئاً إلى أن يثبت عكس هذا أمام القضاء العادل. فأظهر بذلك شجاعة، لأنه تكلم بما يخالف آراء أعضاء المجلس المجمعين على وجوب قتل يسوع. ومن العجب وجود من يحامي عن يسوع بين أولئك الرؤساء. وقد وجدوا ثلاثة موانع عن بلوغ مقاصدهم: الأول الشعب، والثاني خدامهم، والثالث واحد منهم.
52 «أَجَابُوا: أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضاً مِنَ الجَلِيلِ؟ فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الجَلِيلِ».
إشعياء 9: 1، 2 ومتّى 4: 15 ويوحنا 1: 46
ليس هذا جواباً لما قاله نيقوديموس، ولكنهم لجأوا إليه لأنهم لم يستطيعوا أن يبرروا أنفسهم مما فعلوه، فأخذوا يعاتبون نيقوديموس بكلام ناتج عن الغيظ والهزء. واستنتجوا من طلبه الإنصاف ليسوع أنه من أتباعه.
أَلَعَلَّكَ أَنْتَ أَيْضاً مِنَ الجَلِيلِ قالوا هذا تهكماً لأنهم كانوا يعلمون جيداً أنه ليس كذلك، فكأنهم قالوا «أنت من تلاميذ ذلك الجليلي، ولا أحد يسلم بدعوى يسوع إلا من كان من أهل وطنه وقد أعماه الهوى حتى لا يفرق بين الحق والباطل».
لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الجَلِيلِ استدلالهم هنا كالاستدلال في ع 41. وقصدوا بذلك إبطال دعوى يسوع. وقصدوا «بالنبي» هنا من يستحق أن يدَّعي أنه المسيح، فلا نظن أن مثل هؤلاء المعلمين يجهلون أن يونان النبي كان من تلك البلاد. ولعل منها النبيين هوشع وناحوم أيضاً. وظن البعض أنهم لغيظهم لم يفطنوا للحقيقة.
53 «فَمَضَى كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى بَيْتِهِ».
انصرف أعضاء المجلس خائبين مغتاظين، لم يفعلوا شيئاً إذ عجزوا عن تحقيق مقاصدهم في المسيح. وعلة عجزهم خوفهم من الشعب، وامتناع الخدام عن طاعتهم، ومعارضة نيقوديموس في المجلس. وتم بذلك قصد الله أنهم لا يقبضون على المسيح ما لم تأت ساعته.
1 «أَمَّا يَسُوعُ فَمَضَى إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ».
كان يجب أن يضاف هذا العدد إلى الأصحاح السابع، ويكون جزءاً من عدد 53 منه. ومفادهما أنه بعد انصراف أعضاء المجلس والشعب إلى بيوتهم من أعداء يسوع وأصحابه لم يمض المسيح إلى بيته، إذ ليس له بيت، بل ذهب إلى جبل الزيتون شرقي أورشليم (راجع شرح متّى 21: 1). ولا يلزم من ذلك أنه قضى الليل في الخلاء هناك. ولو أنه قضى ليلته في الخلاء في الصلاة لما كان هذا غريباً (لو 6: 12). ويحتمل أنه ذهب إلى بيت عنيا على السفح الشرقي حيث بيت لعازر وأختيه مريم ومرثا، فقد اعتاد التردّد إليه (يوحنا 11: 1 ولوقا 21: 37). ويحتمل أنه قضى بعض الليل أو كله في بستان جثسيماني غرب الجبل حيث اعتاد التردّد أيضاً (يوحنا 18: 2).
2 «ثُمَّ حَضَرَ أَيْضاً إِلَى الهَيْكَلِ فِي الصُّبْحِ، وَجَاءَ إِلَيْهِ جَمِيعُ الشَّعْبِ فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ».
ثُمَّ حَضَرَ أَيْضاً إِلَى الهَيْكَلِ الأرجح أنه كان ذلك غد اليوم الأخير من العيد.
فِي الصُّبْحِ: أتى المسيح الهيكل باكراً ليعلم الشعب، وأتى الشعب كذلك رغبة في سماع أقواله والاستفادة منها.
جَمِيعُ الشَّعْبِ أي عدد كثير من أهل المدينة وغيرهم ممن أتوا إليها للعيد.
فَجَلَسَ يُعَلِّمُهُمْ كعادة معلمي اليهود وقت التعليم (متّى 5: 1، 2 و26: 55 ومرقس 9: 35 ولوقا 4: 20 و5: 3 وأعمال 16: 13)، ولم يُذكر هنا موضوع تعليم يسوع، والأرجح أنه تحدث عن حقيقة ملكوته وتعليم الكتاب المقدس في شأن المسيح الموعود به.
3 «وَقَدَّمَ إِلَيْهِ الكَتَبَةُ وَالفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي الوَسَطِ».
الكَتَبَةُ لم يذكرهم هذا البشير في إنجيله سوى هذه المرة. وكانوا حفظة الأسفار الإلهية ومفسريها، وحُسبوا علماء الأمة، وكانوا في سمو المقام والسلطة. وأبغضوا يسوع كل البغض فاتفقوا مع الفريسيين عليه. ويشير يوحنا إلى كل أعدائه «باليهود».
امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً قدموا هذه المرأة ليسوع ليوقعوه في ما يشتكون به عليه، وظنوا يسوع يُسرّ بأن يحكم في مثل هذا الأمر ليثبت دعواه أنه المسيح، وأن له حقاً أن يقضي ويدين. وتوهموا أنهم يستطيعون تملقه بطلبهم نصيحته فيخدعونه ويصطادونه.
أَقَامُوهَا فِي الوَسَطِ أتوا بها إلى حيث كان يسوع يعلّم، ثم أحاطوا به هم وأتباعهم.
4 «قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، هَذِهِ المَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الفِعْل».
يَا مُعَلِّمُ هذا من الألقاب العظيمة عند اليهود، ولم يلقبه أولئك العلماء به إكراماً بل خبثاً وخداعاً ليأنس بهم ويُصاد بسهولة.
5 «وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟».
لاويين 20: 10 وتثنية 22: 22
مُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ تُرْجَمُ حكمت الشريعة على الزاني والزانية بالقتل (لاويين 20: 10 وتثنية 22: 22) ولم تعيِّن نوع القتل. وحكم اليهود في عصر المسيح أن يكون بالرجم، وفي أيام حزقيال النبي بالرجم والقطع بالسيف معاً (حزقيال 16: 38، 40) ولكن إذا كانت الزانية بنت كاهن أُحرقت (لاويين 21: 9).
فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ ادعوا أنه ألغى الوصية الرابعة فسألوه حكمه بمقتضى السابعة.
6 «قَالُوا هَذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأَرْضِ».
لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ كما فعلوا بعدئذ في أمر إعطاء الجزية لقيصر (متّى 22: 17، 18). وظنوا أنهم يوقعونه في مخالفة الشريعة اليهودية مهما كان حكمه، فإن حكم بقتل الزانية بمقتضى شريعة موسى شكوه إلى الرومان بأنه اختلس حقوقهم وتصرَّف تصرُّف ملك، لأن سلطان الحكم بالموت لم يكن لأحدٍ من اليهود وقتئذ (يوحنا 18: 31). ولم يكن القتل عقاب الزانية حسب شريعة الرومان. فلو حكم بقتلها خالف شريعتهم. وإن حكم بإطلاقها شكوه إلى الشعب بأنه خالف شريعة موسى والشريعة الأخلاقية، فتكون دعواه بأنه المسيح باطلة.
فَانْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى الأَرْضِ على الغبار الذي يغشي بلاط الهيكل. ومن أتى مثل ما أتاه يسوع أتى ذلك ما اتفاقاً لانشغال باله بأمر من الأمور، وأما قصداً لبيان عدم الاكتراث بالسائلين وعدم إرادته الإجابة. وقصد المسيح هنا بما فعله بيان أنه لم يُرد أن يقوم مقام القاضي ليحكم بذنب تلك المرأة أو ببراءتها، أو نوع عقابها إن كانت مذنبة. فعمله هنا يكون كقوله في موضع آخر «يَا إِنْسَانُ، مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِياً أَوْ مُقَسِّماً؟» (لوقا 12: 14). وأشار أيضاً إلى أنه علم مكرهم، وأنهم لم يسألوه بغية الفائدة، وأنه لا يحترم وجودهم ولا سؤالهم.
7 «وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ، انْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلا خَطِيَّةٍ فَليَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!».
تثنية 17: 7 ورومية 2: 1
وَلَمَّا اسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ لم يُرد الكتبة والفريسيون أن يحسبوا سكوت المسيح وعمله دليلاً على رفضه أن يقوم مقام القاضي، بل قصدوا أن يجبروه على الجواب بإلحاحهم.
بِلا خَطِيَّةٍ تدل القرينة على أنه قصد بالخطية الزنا وما شابهه من مضادات العفّة (لوقا 7: 37).
فَليَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ أشار بذلك إلى أمر الشريعة بأن يبدأ الشهود برجم المذنب (تثنية 17: 7). ومعنى قوله «إني لا أحكم في هذه القضية، فإن كنتم قد تحققتم إثم المرأة كما ادعيتم فأنتم تعلمون ما هو عقابها بمقتضى شريعة موسى، وتعلمون ما تحكم به في شأن الشهود من أنهم هم الذين يبدأون الرجم. فإن كنتم غيورين للشريعة وجب أن تقوموا بما تطلبه. فإذاً حكمي الذي تطلبونه هو أن البريء منكم فكراً أو قولاً أو فعلاً يجب أن يبدأ في رجمها». وحوّل أفكارهم بما قاله عن خطيتها إلى خطاياهم، وأمرهم أن يدينوا أنفسهم أولاً ثم يدينونها. وبهذا الجواب أبكم مجربيه بدون أن يبرر المرأة أو يدينها، وأكرم شريعة موسى باعتبار أنها عادلة لائقة.
ولا يلزم من كلام المسيح أنه ليس للقضاة الشرعيين حق أن يدينوا المذنبين ما لم يكونوا أبرياء من خطايا أولئك، إنما كلامه مقصور على الذين أقاموا أنفسهم مشتكين وقضاة.
8 «ثُمَّ انْحَنَى أَيْضاً إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى الأَرْضِ».
قصد المسيح بهذا أنه لا جواب غير ما ذُكر. فهم كانوا قد أشاروا إلى ما كُتب في شريعة موسى بياناً أنه يجب تطبيقها، وأما هو فأشار إلى الشريعة المكتوبة على صفحات ضمائرهم بإصبع الله، وتركهم يدينون أنفسهم بها، ويدينون المرأة كذلك إن شاءوا.
9 «وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ، خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً، مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَالمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الوَسَطِ».
رومية 2: 22
ما قيل في هذه الآية يظهر قوة الضمير على تبكيت الإنسان على الإثم. وواضح أن ضمائر أولئك الناس شهدت عليهم بأنهم ليسوا أبرياء، وتبيّن لهم أنهم ليسوا أهلاً لأن يكونوا قضاة على تلك المرأة ومعاقبين لها. ولا شك أن المسيح أيقظ ضمائرهم ليحكموا على نفوسهم. فجرى عليهم مثل ما جرى على الجنود الذين ذهبوا ليمسكوا يسوع «رَجَعُوا إِلَى الوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْض» حين قال لهم «إِنِّي أَنَا هُوَ» (يوحنا 18: 6).
خَرَجُوا صار الشاكون مشكوين، وانزعجوا من حضور المسيح لأنه عرف أفكارهم وأعمالهم، وخجلوا من الجمع المشاهد لهم إذ عرف بعدم استقامتهم، فلم يجدوا ملجأً سوى الانصراف. ومن دواعي انصرافهم أن مؤامرتهم كانت عبثاً ولم يبق لهم غرضٌ من بقائهم.
مُبْتَدِئِينَ مِنَ الشُّيُوخِ إِلَى الآخِرِينَ جرياً على عادة سبق الكبير للصغير. والمرجح أن إتيانهم كان كذلك. ولا يلزم من ذلك أن خطايا الكبار كانت أكبر من خطايا الصغار، ولا أن توبيخات ضمائرهم أشد ورغبتهم في التخلّص من نظر المسيح أوفر.
وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ أي لم يبق أحد من المشتكين من الكتبة والفريسيين، لكن بقي التلاميذ وبعض الجمع الذين كانوا يسمعون تعليمه قبل مجيء أولئك.
وَالمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي الوَسَطِ أي وسط التلاميذ والجمع المذكور في عدد 2. لو قصد الكتبة والفريسيون أن تحاكم المرأة بالعدل لكانوا أخذوها وقتئذ إلى المعيّنين للحكم، ولكن إذ لم يكن مقصدهم ذلك تركوها.
10 «فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَداً سِوَى المَرْأَةِ، قَالَ لَهَا: يَا امْرَأَةُ، أَيْنَ هُمْ أُولَئِكَ المُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟».
فَلَمَّا انْتَصَبَ يَسُوعُ أي بعد ما شغل دقائق منحنياً.
لَمْ يَنْظُرْ أَحَداً من الذين أتوا بها.
أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ قال هذا ليسمع الحاضرون من الجمع لكي لا يلوموه بعد.
11 «فَقَالَتْ: لا أَحَدَ يَا سَيِّدُ. فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: ولا أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِي ولا تُخْطِئِي أَيْضاً».
لوقا 9: 56 و12: 14 ويوحنا 3: 17 ويوحنا 5: 14
فَقَالَتْ لا أَحَدَ لم تجبه بغير هذا على سؤاله، وليس فيه شيء من طلب رحمة ولا تقديم عذر. ولم تُظهر شيئاً مما كان في ضميرها. ولكن المسيح عرف أفكارها وعاملها بمقتضى حكمته وشفقته على الخطاة. وإذ لم يبق مشتكٍ ولا شهود ولا إثبات، لم يكن هناك ما يدعو للحكم عليها، فسقطت الدعوى من تلقاء نفسها.
ولا أَنَا أَدِينُكِ عرض المسيح على المشتكين أن يرموها بالحجارة إن كانوا أبرياء فيدينونها بذلك فعلاً فلم يريدوا، وهو لم يرد أن يدينها بالموت. فمعنى قوله للمرأة كمعنى سكوته قبلاً عن جواب الفريسيين، وكقوله لبيلاطس «ملكوتي ليس من هذا العالم» (لوقا 12: 15). أي أنه لم يرد أن يمارس وظيفة القاضي والملك في الأمور الأرضية.
ولم يبررها المسيح بما ذُكر، بدليل قوله «لا تخطئي أبداً». ولم يقل إنها لا تستحق العقاب على إثمها، إنما أبان أنه لا يريد أن يحكم بما تستحقه من قصاص.
وكلامه لهذه الخاطئة ليس ككلامه لواحدة مثلها أظهرت علامات التوبة، فقال لها «مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ.. اِذْهَبِي بِسلامٍ» (لوقا 7: 48، 50). وأما هذه فلم يقل لها ذلك لأنها لم تظهر علامة التوبة. ولكن في كلامه إشارة إلى أنها تقدر أن تنال المغفرة إذا تابت، لأنه لم يقل لها «لا تزني بعد لكيلا يدينك إنسان» بل قال «لا تخطئي لتنالي الرحمة من الله». ولعل كلمات المسيح أثرت فيها أكثر من كل شكاوى الفريسيين وتهديداتهم.
ولم يرد لهذه المرأة ذكر بعد ذلك، ولا نعلم أسمعت من المسيح واستفادت أم لا؟ فقد غابت عن أبصارنا كما غاب الفريسيون عنها منذ «خرجوا واحداً فواحداً». ورجاء الخلاص لتلك الخاطئة طوعاً لأمر المسيح ليس بأقوى من رجاء الخلاص لأولئك المرائين.
أظهر يسوع حكمة عظيمة بأنه لم يقع في الحفرة التي أخفاها له أعداؤه مكراً وبغضاً، وبإكرامه شريعة موسى، وبأنه لم يدن المرأة بموجبها، وبإفحام خصومه وإيقاظ ضمائرهم وإجبارهم على أن يغادروا المكان في خجل، وتوبيخه على الخطايا الخفية والظاهرة المضادة للعفاف، وإعلان كراهيته للإثم الذي ارتكبته المرأة، وأمره بحياة التقوى. ونتعلم من هذا أنه يجب علينا أن ندين أنفسنا أكثر مما ندين غيرنا. وأن نجتهد في حفظ أنفسنا من الخطية أكثر مما نجتهد لنرفع حجراً نرجم به غيرنا.
12 «ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً قَائِلاً: أَنَا هُوَ نُورُ العَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلا يَمْشِي فِي الظُّلمَةِ بَل يَكُونُ لَهُ نُورُ الحَيَاة».
يوحنا 1: 4، 5، 9 و3: 19 و9: 5 و12: 35، 36، 46
ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً نستنتج من ذلك أن وعظ يسوع كان في وقت غير وقت الحادثة المذكورة (في ع 1 - 7) لأنه في تلك كان الفريسيون قد انصرفوا، وفي هذه كانوا حاضرين (ع 13). ولعل الحادثتين كانتا في وقتين مختلفين من يوم واحد.
قال بعضهم (ولعله أصاب) إن كلام المسيح هنا مبني على بعض المناظر التي كانت في عيد المظال، كما قلنا إن قوله «إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب» مبنيّ على سكب الماء في الهيكل نظراً للصخرة التي خرج منها الماء لبني إسرائيل في البرية. فكلامه عن النور مبني على عادتهم أن يوقدوا في دار الهيكل مصابيح كبيرة من ذهب على أربع منارات غير المنارة التي في قدس الأقداس، وكان علو كل واحدة منها نحو 15 متراً لتنشر ضوءها على كل المدينة. وكان الناس يرقصون مسرة في دور الهيكل ويترنمون بالأغاني الروحية ويعزفونها على آلات الطرب تذكاراً لعمود النار الذي كان يتقدم بني إسرائيل في البرية. ويقوّي هذا الظن أن يسوع قال هذا وهو واقف في خزانة الهيكل (ع 20). وكانت الخزانة في دار النساء في المكان الذي كانت فيه المنارات الأربع تضيء في ليالي العيد.
أَنَا هُوَ نُورُ العَالَمِ انظر الشرح في يوحنا 1: 4، 9. «العالم» هنا كل نسل آدم، والمسيح هو نوره الحق، لأنه كان منذ بدء العالم معلّم البشر ومرشدهم إلى السماء. وكان في وقت خطابه يضيء بنوره في الهيكل وهو يعلم حقائق الحياة الأبدية، وكان على وشك أن يضيء بنوره ليس في الهيكل فقط ولا في أورشليم ولا في اليهودية، بل في العالم كله. أعلن يسوع نفسه لليهود بهذا التشبيه أنه هو المسيح الموعود به، فقد تنبأ أنبياء التوراة بصفته هذه (إشعياء 9: 2 و43: 6 و49: 6 وملاخي 4: 2). فكما كان عمود النار لبني إسرائيل زمان غربتهم في البرية، صار المسيح كذلك لشعبه، ويكون لهم كذلك إلى الأبد.
طلب اليهود منقذاً لأمتهم زمنياً، وقدَّم يسوع نفسه مرشداً روحياً لكل الأمم في هذا العالم إلى العالم السماوي.
مَنْ يَتْبَعْنِي أي كل من يؤمن أني المسيح. وليس ذلك فقط بل يتمثل بي ويطيعني دائماً. فالاتباع ليس مرة واحدة، بل هو استمرار الإنسان في كل حياته على ما ذُكر. فكما أن المسيح نورٌ لا ينطفئ أبداً، كذلك يجب أن يتبعه المؤمن بلا انقطاع. وهذا الاتباع هو الشرط للتمتع بفوائد ذلك النور.
بَل يَكُونُ لَهُ نُورُ الحَيَاةِ أي النور الذي يقود إلى الحياة الأبدية. قال قبلاً إنه هو «ماء الحياة» «وخبز الحياة» وهنا قال إنه «نور العالم». فالمؤمن بالمسيح يتخذه كذلك، ويعرف به طريق الحياة، فيحفظه حضور المسيح في قلبه من الخطية، وينقذه من الهلاك، ويقوده إلى سُبُل القداسة والسعادة (يوحنا 12: 46). وهذه الآية ليست مجرد خبر، بل هي وعد أيضاً، وهو أن الذي لا يتكل على حكمة نفسه أو إرشاد غيره من البشر بل ينظر إلى المسيح، يقوده المسيح بكلامه وروحه فينجو من الضلال.
13 «فَقَالَ لَهُ الفَرِّيسِيُّونَ: أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً».
يوحنا 5: 31
انظر شرح يوحنا 5: 31. تطلب الشريعة شاهدين لإثبات القضية، فلهذا رفض الفريسيون أن يسلموا بقوله لمجرد شهادته لنفسه، وأمكنهم أن يقوّوا اعتراضهم بقول المسيح قبلاً «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً» (يوحنا 5: 31).
شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً أي لا تُقبل شرعاً لأنها بلا دليل.
14 «أَجَابَ يَسُوعُ: وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ، لأنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فلا تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي ولا إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ».
يوحنا 7: 28 و9: 29
لا تناقض في ما قاله هنا مع قوله في يوحنا 5: 31 لأنه لا يلزم أن الذي يُطلب مرة من الشهادة يُطلب دائماً، فالمرسَل الذي أثبت صحة إرساليته مرة لا يحتاج لأن يثبتها كلما تكلم عنها. فقوله السابق كان قبل أن أثبت دعواه بشهود، ثم أثبت دعوى أنه رسول الله بشهادة المعمدان وشهادة الآب له بالآيات التي صنعها على يده، وبالنبوات التي تمت فيه. فحقَّ له أن يطلب تصديق دعواه بمجرد قوله. ووضع نفسه أولاً موضع سائر الناس بالنظر إلى الشرع في الأمور الأرضية تنازلاً وتواضعاً. ولكن هنا كانت مقتضيات الحال غير ما كانت سابقاً، لأن دعواه هنا ليست مما يقبل شهادة الغير لأنها مما يقيِّم هو نفسه به. فقوله «أنا هو نور العالم» متوقف على شعور نفسه بنفسه، فلا يستطيع أحد غيره أن يشعر به ليعرفه ويشهد به، ولذلك يُستثنى من قوله «إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقاً» ويبدله بقوله «إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق». ومع ذلك كله رضي أن يضع نفسه تحت ذلك القانون (ع 17، 18) بعد توبيخه إياهم على طلبهم أن يثبت دعواه.
لأنِّي أَعْلَمُ تطلب الشريعة شاهدين لأن واحداً بمفرده قد يخطئ أو يكذب لغرض من الأغراض. فشهادة المسيح ثابتة لأنها ليست شهادة إنسانية بل شهادة إلهية باعتباره الله، فهو لا يخطئ ولا يتكلم بالهوى.
مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ أي من عند الآب (يوحنا 16: 28) وأتيت إلى هذا العالم لأتجسد فيه.
وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ أي السماء بواسطة الموت (يوحنا 7: 33) وهذا جواب لقولهم السابق «ولكن هذا نعلم من هو، وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو». فكأنه قال: معرفتكم بي قاصرة على حياتي الجسدية الأرضية، وهي جزئية ناقصة. وأما حياتي الروحية فلا تستطيعون معرفتها إلا بشهادتي، وسلطاني الذي أخذته من الآب، والأوامر التي أوصاني بها.
15 «أَنْتُمْ حَسَبَ الجَسَدِ تَدِينُونَ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً».
يوحنا 7: 24 ويوحنا 3: 17 و12: 47 و18: 36
أَنْتُمْ حَسَبَ الجَسَدِ تَدِينُونَ أي بقولكم «أنت تشهد لنفسك. شهادتك ليست حقاً». تكلم في ما سبق عن الشهادة ولم يغيّر الموضوع هنا، إلا أنه بدل لفظة الشهادة بالدينونة بناءً على أنها غاية الشهادة ونتيجتها. ومعناه: إنكم تحسبونني كسائر الناس الذين يخطئون ويكذبون، لأنكم تنظرونني في هيئة إنسان وديعاً متواضعاً، ولا شيء من الظواهر يدل على أصلي السماوي. ولكن لو أصغيتم إلى كلامي وأدركتم معناه الروحي وحكمتم بمقتضاه لعرفتم أني المسيح نور العالم. فقوله هنا كقوله سابقاً «لا تحكموا حسب الظاهر بل احكموا حكماً عادلاً». ودانوا حسب الجسد بثلاث طرق: (1) النظر إلى المسيح كمجرد إنسان. (2) حكمهم عليه بأفكار وآراء جسدية لظنهم وجوب أن يكون المسيح ملكاً أرضياً. (3) إرادتهم أن يحكموا في دعواه بمقتضى القوانين الجسدية المعتادة، كطلب شاهدين الخ. وأخطأوا بالطرق الثلاث كالذين حكموا على المسيح أنه يستحق الصلب مع أن الله حكم بأنه يستحق المجد.
أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً انظر شرح يوحنا 3: 17. ويحتمل قوله هنا ثلاثة معان: (1) أنه لا يدين أحداً إلا مع الآب (ع 16). (2) أنه لا يدين الآن كما يدين في مجيئه الثاني، فإنه جاء أولاً فادياً دياناً وسيأتي أخيراً دياناً لا فادياً. (3) أنه لا يدين كما هم يدينون بالجهل والقساوة والظلم والهوى.
16 «وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ، لأنِّي لَسْتُ وَحْدِي، بَل أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي».
ع 29 ويوحنا 16: 32
وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ بيّن سابقاً أنه لم يُرسَل ليدين (يوحنا 3: 17) وصرح هنا بأنه اضطُر أن يدين الذين رفضوا أن يقبلوا خلاصه، كما دان الفريسيين في متّى 23. وكانت دينونته حقاً وصحيحة لأنها ليست كدينونتهم، ولأنه إله لا مجرد إنسان، فلا يخاف ولا يخطئ ولا يظلم.
لأنِّي لَسْتُ وَحْدِي انظر شرح يوحنا 5: 30. أظهر هنا أن كل أعماله في الدينونة موافقة لإرادة الآب وحقه ومقاصده، فلا يمكنهم أن ينكروا صحة حكم الله، ولذلك لا يستطيعون أن ينكروا صحة حكم يسوع لتلك الموافقة.
بَل أَنَا وَالآبُ الخ أي أن ما يفعله الآب يفعله بي لأني كلمته.
17 «وَأَيْضاً فِي نَامُوسِكُمْ مَكْتُوبٌ: أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ».
تثنية 17: 6 و19: 15 ومتّى 18: 16 و2كورنثوس 13: 1 وعبرانيين 10: 28
نَامُوسِكُمْ نسب الناموس إليهم لأنهم ادعوا أنهم مفسرون، واستشهدوا على يسوع ليبينوا أنه مذنب وليشتكوا عليه بأنه مخالف له، مع أنه خضع لناموسهم طوعاً واختياراً، بينما هم مكلفون به ومجبرون عليه، ولذلك لم يقل «ناموسنا» دون أن يقصد بذلك إبطال الناموس أو نقضه (متّى 5: 17).
شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ تثنية 17: 6 و19: 15 معنى الحق هنا الأمر المثبت بمقتضى مطالب الشرع.
18 «أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي».
يوحنا 5: 37
هذا جواب لقول الفريسيين «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً» (ع 13). فالمسيح بعد أن بيّن عدم اضطراره إلى الشهود كالناس، وأن شهادته لنفسه حق وكافية، شاء أن يتنازل إلى إثبات دعواه بالشهود كما يفعل الخطاة الذين هم عُرضة للخطأ، وذلك كما فعل يوم معموديته إذ قال للمعمدان «اسْمَحِ الآنَ، لأنَّهُ هَكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ» (متّى 3: 15) وكما فعل لبطرس في أمر جزية الهيكل (متّى 17: 27).
أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي قال إنه «نور العالم» وشهدت بذلك سيرته وتعليمه. والشمس لا تحتاج إلى دليل على وجودها لأن ضوءها يشهد لها.
وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي أخطأ اليهود بظنهم قول المسيح شهادة شاهدٍ واحدٍ بشريٍ، والحق أن الله هو الذي كان يتكلم بفمه، وكان يجب عليهم أن يروا لاهوته تحت حجاب ناسوته، وأنه نائب عن الآب في كل أعماله.
19 «فَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟ أَجَابَ يَسُوعُ: لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا ولا أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً».
ع 55 ويوحنا 6: 3 ويوحنا 14: 7
أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟ هذا ليس نتيجة الشك، لأن المسيح أوضح لهم مراراً أن الله أبوه، إنما هو استهزاء به وإنكار لدعواه، فكأنهم قالوا: أهذا شاهدك؟ أين هو؟ دعه يأتي ليشهد!
لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا ولا أَبِي أي يدل سؤالكم على جهلكم إيانا، وعدم إرادتكم أن تعرفونا، وعلى جهلكم عماكم الروحي، وإلا لما سألتم ذلك وأنا أمامكم. نعم إن رؤية الله بالمسيح بعين الجسد من المحال، إنما يرى ذلك بعين الإيمان وفقاً لقول المسيح «أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ» (يوحنا 14: 10).
لَوْ عَرَفْتُمُونِي الخ جهل أحد الأقنومين يتضمن جهل الآخر، فعدم معرفة المسيح يستلزم عدم معرفة الآب الذي أعلنه المسيح. وعدم معرفة الله الحقيقية تمنع معرفة الابن. وعلة عدم معرفتهم الأمرين هو عدم إرادتهم الوقوف على البراهين والأدلة على ذلك، لا نقصان تلك البراهين وضعف الأدلة.
20 «هَذَا الكلامُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ، لأنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ».
مرقس 12: 41 ويوحنا 7: 8 ، 30
لشدة أهمية قول المسيح «أنا هو نور العالم» عند يوحنا وتأثيره فيه، ذكر بعد نحو خمسين سنة المكان الذي قاله فيه.
فِي الخِزَانَةِ انظر شرح مرقس 12: 14. كانت الخزانة في أحد أطراف دار النساء، قرب المحكمة الكبيرة التي كان يجتمع فيها أعضاء مجلس السبعين. فإن كانوا مجتمعين حينئذ أمكنهم أن يسمعوا كلامه. وكانت في تلك الدار المنارات التي ذُكرت في شرح ع 12.
فِي الهَيْكَلِ أي في إحدى دوره. فإذاً اختار أنسب مكان في المدينة ليخاطب الجموع.
وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ مع أنه في وسط أعدائه وفي بيتهم وتحت سلطانهم. والذي منعهم من ذلك هيبته، وخوف محاماة الشعب عنه، وقوته الإلهية لأن ساعته لم تكن قد أتت، أي الوقت الذي عيَّنه الله لموته فداء.
21 «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: أَنَا أَمْضِي وَسَتَطْلُبُونَنِي، وَتَمُوتُونَ فِي خَطِيَّتِكُمْ. حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا».
يوحنا 7: 34 و13: 33 ع 24
قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً في وقت آخر، والأرجح أنه لم يكن بعيداً عما ذُكر آنفاً. وكان السامعون من كل صنوف أعدائه لا فرقة واحدة منهم، بدليل تسمية يوحنا إياهم يهوداً (ع 22).
أَنَا أَمْضِي بتسليمي نفسي طوعاً واختياراً إلى الموت.
سَتَطْلُبُونَنِي لا بالتوبة والإيمان بل لشعوركم باحتياجكم إليَّ، وفوات فرصة الحصول عليّ، لأنكم رفضتم أني المسيح. ولا تجدون المسيح العالمي الذي تطلبونه لأنه لم يكن ولا يكون (راجع شرح يوحنا 7: 34).
وَتَمُوتُونَ فِي خَطِيَّتِكُمْ أي في حال الإثم التي أنتم فيها. هذا نتيجة رفضهم إياه لأنه أتى ليخلصهم من خطاياهم فرفضوا واسطة نجاتهم الوحيدة، فبقوا بلا توبة ولا مغفرة ولا تبرير. ولا إشارة هنا إلى خراب أورشليم بل إلى هلاكهم الروحي. ويتبيّن مما قيل هنا أن الموت لا يفصل بين الخطاة وخطيتهم، فإنهم يموتون فيها جسداً، ويقومون فيها، ويقفون قدام الله يوم الدين وهم فيها، ويُعاقَبون عليها في جهنم بالموت الثاني الذي هو المقصود هنا خاصة. ويتبيّن منه أيضاً أن عدم معرفة المسيح والموت في الخطية شيء واحد.
حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا هذا كما في يوحنا 7: 34 و13: 33. فإن المسيح كان ماضياً إلى الله وإلى السماء محل القداسة والنور والسعادة. وعجزهم عن الذهاب إلى هناك هو عدم سماح الله به لهم، لأنه ثواب المؤمنين، ولأنهم هم لا يستحقونه لسوء صفاتهم، ولأن المسيح لا يساعدهم على ذلك، وهو وحده طريق الخلاص. وقول المسيح هنا ينفي كل توبة بعد الموت. وذُكر سبب مضي المسيح في يوحنا 14: 3 و17: 24.
22 «فَقَالَ اليَهُودُ: أَلَعَلَّهُ يَقْتُلُ نَفْسَهُ حَتَّى يَقُولُ: حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟».
أَلَعَلَّهُ يَقْتُلُ نَفْسَهُ هذا تفسيرهم لقوله «حيث أمضي لا تقدرون أنتم أن تأتوا» فكأنهم قالوا له: إن كنت قصدت بذلك أن تمضي إلى دار الموتى فنحن لا نريد أن نأتي إليك هناك، ولا يعلم أحد وقت موته إلا من يقتل نفسه (وقد اعتقد اليهود أن قاتل نفسه يُعاقب في أشر مكان في جهنم، كما جاء في أقوال يوسيفوس المؤرخ اليهودي المشهور، وأن كل أولاد إبراهيم لا بد يذهبون إلى السماء). فإن كنا لا نجتمع بك في العالم الآتي فأنت تقصد قتل نفسك، وهو ما يؤدي بك إلى أشر أماكن جهنم وأبعده عن باقي بني إسرائيل. وهذا استهزاء بالمسيح، كما سبق أن فسروا كلامه بأنه يقصد الذهاب إلى شتات اليونانيين ليبشر الأمم (يوحنا 7: 35). وهو تجديف فظيع.
23 «فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هَذَا العَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هَذَا العَالَمِ».
يوحنا 3: 31 ويوحنا 15: 19 و17: 16 و1يوحنا 4: 5
أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ... أَنْتُمْ مِنْ هَذَا العَالَمِ هاتان الجملتان بمعنىً واحد، والثانية تفسر الأولى. ومعنى «العالم» هنا حال الناس المنفصلين عن الله غير الخاضعين لمشيئته. وأشار المسيح بقوله «هذا العالم» إلى أنهم أرضيون أصلاً وطبعاً، مولودون من أرضيين ورثوا منهم طبيعة أرضية خاطئة، محتاجون أن يولدوا ثانية ليستطيعوا دخول ملكوت الله (يوحنا 3: 5، 6) وأنهم باختيارهم قيدوا أنفسهم بما هو أرضي وفاسد، وسلَّموا بالمبادئ الشريرة المتسلطة على أهل هذه الأرض، وأنهم عرضة للهلاك مع أهل العالم.
أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ.. فَلَسْتُ مِنْ هَذَا العَالَمِ بيّن بهذا الفرق العظيم بينه وبينهم أصلاً وطبعاً وفكراً وفعلاً. وقد مرّ الكلام على مثل هذا في يوحنا 3: 31. وما قاله المسيح في الفرق بينه وبين اليهود حينئذ يصدُق على الفرق بين المؤمنين به وغير المؤمنين الآن وإلى الأبد، لأنهم يختلفون في الطبيعة وهم أحياء، ويختلفون بعد الموت في الطبيعة والحال والمكان.
24 «فَقُلتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ، لأنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُم».
ع 21 مرقس 6: 16
فَقُلتُ لَكُمْ قال ذلك في ع 21 وعلته ما قاله في ع 23 وهو أنهم دنيويّون فاسدون متمسكون بخطاياهم، ولم يتمسكوا بالمسيح لينجوا من الهلاك وينالوا الحياة.
إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا الإيمان بالمسيح هو الواسطة الوحيدة للخلاص فباب السماء لا يزال مفتوحاً لهم بالمسيح.
أَنِّي أَنَا هُو صرح المسيح بهذا أنه هو الله، فهذا معنى «أنا هو» عند اليهود من يوم ظهور الله لموسى ولهم في مصر، إذ قال له «هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ» (خروج 3: 14). وقال في نبوة إشعياء «لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا بِي وَتَفْهَمُوا أَنِّي أَنَا هُوَ» (إشعياء 43: 10). وجاء بهذا المعنى في ع 28، 58. ومعنى العبارة أن يسوع هو المسيح الإله المتجسد، الحي من الأزل، وواهب الحياة للمؤمنين به.
25 «فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَنَا مِنَ البَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ».
مَنْ أَنْتَ؟ قصدوا بهذا الاستهزاء بدعواه وتوقعوا أن جوابه يمكِّنهم من الشكوى عليه إلى المجلس أنه مجدف، ولهذا لم يقل لهم صريحاً: أنا المسيح، لكنه ذكر ما يفيد ذلك.
أَنَا مِنَ البَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ اختلف المفسرون في معنى هذه الجملة، فرأى بعضهم إن معنى «البدء» هنا أول خدمته، فيكون معناها: أنا أشهد لنفسي الآن كما شهدت لها منذ أول تبشيري، فلا غيَّرتها ولا زدتُ عليها، فلم تبق لكم حاجة إلى أن تسألوني ما سألتم، إنما عليكم أن تذكروا ما أوضحته لكم دائماً. ورأى البعض الآخر أن معنى «البدء» هنا الأزل (يوحنا 1: 1). وعلى هذا يكون معناها: أنا منذ الأزل ما صرحتُ به الآن أني «أنا هو». ورأى غيرهم أن معنى «البدء» هنا التمام، فيكون معناها: أوضحتُ لكم الحق تماماً من أول الأمر إلى آخره، فافحصوا شهادتي لنفسي تعلموا من أنا. وأشار بذلك إلى قوله إنه «الماء الحي» وإنه «خبز الحياة» الذي نزل من السماء وإنه «نور العالم». والأرجح أن التفسير الأول هو الصحيح.
26 «إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ، لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ. وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهَذَا أَقُولُهُ لِلعَالَمِ».
يوحنا 7: 28 ويوحنا 3: 32 و15: 15
إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ علاوة على ما قتله إنكم «من أسفل» و «تموتون في خطاياكم» و «حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا» وجواباً على إهانتكم إيّاي ومقاومتكم لي.
وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ فوق ما حكمتُ به قبلاً. ومن تلك الأشياء في ع 34، 37، 40، 41، 43، 44.
لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ أي الله الذي هو الإله الحق أرسلني، فتعليمي منه، فلا بد أنه صادق مهما قلتم عليه.
وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهَذَا أَقُولُهُ لِلعَالَمِ علانية ليعلمه كل إنسان. معنى قوله «ما سمعتم منه» ما أوصاني أن أتكلم به في شأن طريق النجاة من جهنم، ونوال الحياة الأبدية، وما وبختكم به على خطاياكم. وقول المسيح هنا كقوله في يوحنا 5: 30. وتكلم المسيح هنا باعتبار أنه رسول الله إلى البشر فادياً ومخلصاً لا باعتباره ابن الله الأزلي الذي يعرف كل شيء من تلقاء نفسه، ولا يحتاج إلى أن يخبره الآب بشيء.
27 «وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ عَنِ الآبِ».
لم يفهموا من قوله «الذي أرسلني» أن الآب أرسله. ولو شاءوا أن يفهموا لفهموا، فسبب جهلهم أنهم رفضوا أن يؤمنوا به.
28 «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ، وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي، بَل أَتَكَلَّمُ بِهَذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي».
يوحنا 3: 14 و12: 32 ورومية 1: 4 ويوحنا 5: 19، 30 ويوحنا 3: 11
فَقَالَ لأنهم لم يفهموا كرر لهم ما قاله قبلاً وزاد عليه.
مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ أشار بذلك إلى صلبه (يوحنا 12: 32. انظر شرح يوحنا 3: 14) وأنهم هم الذين يصلبونه. ومرَّ الكلام على ابن الإنسان في شرح يوحنا 1: 51.
تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ تنبأ يسوع أنهم سيعرفون بعد صلبه أنه هو المسيح، وأنه لم يتكلم بمجرد سلطانه بل بسلطان الآب، ولم يتكلم إلا بما عيَّن الآب له. ووسائط معرفتهم إياه عند صلبه وبعده هي الظلمة، والزلزلة، وانشقاق حجاب الهيكل، وقيامته، وحلول الروح القدس، والمعجزات التي صنعها الرسل باسمه. وبعض الذين لم يعرفوه بهذه عرفوه يوم خراب أورشليم حين تحققت نبوته. وأما الذين لم يعرفوا بكل ذلك فلا بد سيعرفونه يوم مجيئه الثاني، لأنه «هُوَذَا يَأْتِي مَعَ السَّحَابِ، وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ، وَالَّذِينَ طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ» (رؤ1: 7) ويحتمل قوله «تفهمون» أن يكون خطاباً للسامعين وقتئذ خاصة، أو للأمة اليهودية. والثاني هو الأرجح. والمقصود «بالفهم» هنا إما إدراك ما يقودهم إلى الإيمان به والخلاص، وإما علم ما ينتهي بهم إلى الندامة واليأس على انتهاء يوم الرحمة وفوات فرصة النعمة. ومعنى «أني أنا هو» أي أني المسيح على ما ذُكر في شرح ع 24.
وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي أي أني رسول الله كما في يوحنا 5: 19، 30 وأنه متحد بالآب في كل ما قال وفعل.
كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي قارن هذا بما في ع 7، 16، 26. أشار بذلك إلى الحقائق التي علَّمها منذ الأزل باعتباره كلمة الله الذي كان في البدء عنده، وأتى بها رسالة من الآب ليعلنها للناس متجسداً.
29 «وَالَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي، لأنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ».
يوحنا 14: 10 و1: 1 ع 16 ويوحنا 4: 24 و5: 30 و6: 38
الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي هذا تكرار لما صرّح به من الاتحاد التام بين الآب والابن، والاتفاق الكامل بينهما في الإرادة والقصد، وأن الابن هو من ينفذ قولاً وعملاً ما أراده الآب حتى سُرَّ به كل السرور. نعم إن الإرسال بين الناس يستلزم انفصال الرسول عن مرسِله، وليس كذلك بين الآب والابن بدليل قوله «الذي أرسلني هو معي».
وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي ترك الناس يسوع ورفضوه (يوحنا 16: 32). نعم إن الآب حجب وجهه عن المسيح وقتياً على الصليب، وكان ذلك لأنه حمل على الصليب لعنة الخطية عن البشر.
أَفْعَلُ باعتبار أني ابن الله متجسداً لأُجري على الأرض عمل الفداء. كانت طاعة المسيح للآب كاملة كما كان اتحاده به كاملاً.
مَا يُرْضِيهِ انظر متّى 3: 17 وفي 2: 8، ويوافق ذلك ما قيل في إشعياء 53: 10 - 12 ومتّى 17: 5 ولوقا 3: 22 و2بطرس 1: 17).
30 «وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ».
يوحنا 7: 31 و10: 42 و11: 45
أراد يوحنا أن يبيّن أن بعض الناس آمنوا بيسوع، مع أن كثيرين قاوموه.
بِهَذَا أي بما ذُكر في هذا الخطاب كله، وليس فقط بما قاله في ع 29.
آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ أي اقتنعوا بقوة كلماته كما اقتنع خدام الهيكل (يوحنا 7: 46). ولم يكن إيمانهم كاملاً ليؤول إلى خلاص النفس بل كان تصديقاً عقلياً جزئياً، فإنهم صدقوا أنه نبي أو معلم مرسل من الله، وأنه ربما كان المسيح الذي انتظروه. ويدل على ذلك قول المسيح لهم بعد ذلك.
31 «فَقَالَ يَسُوعُ لِليَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ: إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كلامِي فَبِالحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تلامِيذِي».
فَقَالَ يَسُوعُ لِليَهُودِ قصد يوحنا «باليهود» رؤساءهم، وأكثرهم أعداء للمسيح، وكان بعضهم قد مال إلى تصديق دعواه فوجَّه الكلام إليهم.
الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ ظهر مما يأتي أن إيمانهم كان جزئياً إلى حين وظاهراً لا باطناً.
إِنْ ثَبَتُّمْ جعل المسيح ثبوتهم شرطاً لتتلمذهم (انظر تفسير ذلك في شرح يوحنا 5: 38). والثبوت هو الفضيلة الوحيدة التي لا يُتصف به في الظاهر دون الباطن. ولا ثبوت حيث لا إيمان حقيقي أو تجديد قلب.
فِي كلامِي هذا متعلق بقوله «ثبتم» والمراد تمسكهم بتعليمه وسيرتهم بموجبه (يوحنا 14: 21 و1يوحنا 2: 4 و3: 24 و2يوحنا ع 6).
فَبِالحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تلامِيذِي أشار بذلك إلى أنهم ليسوا كذلك، وأنهم لم يتبعوه إلا لتأثر وقتي بكلامه، وأنه يجب عليهم تقديم برهان أقوى على صحة إيمانهم لكي يوثق به، وذلك استمرارهم على حفظ كلامه وطاعته فهم كالذين ذُكروا في يوحنا 2: 23، 24.
32 «وَتَعْرِفُونَ الحَقَّ وَالحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ».
رومية 6: 14، 18، 22 و8: 2 ويعقوب 1: 25 و2: 12
تَعْرِفُونَ الحَقَّ أي تزيد معرفتكم بأبي، وبحقيقتي، وبعملي، وبملكوتي، وبإنجيلي، وبكل أمور ديني. وذلك كله نتيجة الثبوت فيّ. كانت معرفتهم قاصرة عن كل تلك الحقائق، أما الذي يثبت في المسيح فيعرف بالاختبار ما لم يتعلمه بالسمع أو بالمطالعة.
وَالحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ المقصود بالتحرير هنا الإنقاذ من العبودية الروحية أي من تسلط الشهوات الشريرة والأفكار الرديئة، ومن قوة الشيطان، ومن جرم الخطية وعاقبتها، ومن نير تعليم الفريسيين الثقيل أيضاً.
ويدل على كون الخاطئ عبداً للخطية ما جاء في رومية 6: 16 - 20 و7: 6 و8: 11. والإنسان لا يستطيع أن يدرك شر عبودية الخطية ما لم يعرف الحق. ومتى أدرك أنه مستعبد ينال قوة من فوق ليطرح ذلك النير عنه. وتتقدس النفس نتيجة تصديق الحق بدليل قول المسيح في صلاته «قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كلامُكَ هُوَ حَقٌّ» (يوحنا 17: 17). والحصول على الحرية الروحية هو في المسيح القائل «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ المُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متّى 11: 28). ووفق قوله في مجمع الناصرة «لأُنَادِيَ لِلمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاقِ» كما تنبأ إشعياء (لوقا 4: 18 وإشعياء 42: 1).
انتظر اليهود أن المسيح الموعود به يحررهم من عبودية الرومان ولكن الحرية التي أتى بها المسيح أعظم من ذلك جداً. وتنال النفس الحرية الروحية حيت تكون أفكارها وإرادتها موافقة لأفكار الله وإرادته. وخدمة الله هي الحرية الحقيقية، وتسلط الشهوات على الإنسان هي العبودية الحقيقية وشر من كل عبودية.
33 «أَجَابُوهُ: إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لأحَدٍ قَطُّ. كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: إِنَّكُمْ تَصِيرُونَ أَحْرَاراً؟».
لاويين 5: 42 ومتّى 3: 9 وع 39
أَجَابُوهُ أي اليهود المؤمنون إيماناً غير قلبي (ع 31).
إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لأحَدٍ قَطُّ أي سلالة إبراهيم من إسحاق الوارث. وإبراهيم لم يكن عبداً، إذاً نحن لسنا عبيداً ولسنا أولاد إسماعيل ابن الجارية (غلاطية 4: 21 - 23). وأظهروا بهذا الكلام كبرياءهم التي استولت عليهم كما استولت على سائر اليهود بافتخارهم بنسبتهم الجسدية إلى إبراهيم. ووبخ المعمدان اليهود على ذلك بقوله «ولاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أَباً» (متّى 3: 9). والمفتخرون بذلك هنا أظهروا بكلامهم أنهم ليسوا تلاميذ المسيح بالحق. وكذبوا بقولهم «لم نُستعبد لأحد قط» مع أنهم استُعبدوا لمصر وبابل وأشور واليونان وخضعوا حينئذ للرومان. ومن العجب أنهم قالوا ذلك وجنود الرومان حولهم، وهم يؤدون الجزية لقيصر من العملة التي تحمل صورته وكتابته. نعم إن الرومان سلكوا سبيل الحكمة وتركوا لهم شبه الحرية في أمور دينهم، ولعل هذا سبب قولهم إنهم «لم يستعبدوا قط». ولعلهم أشاروا بذلك أنهم لم يسلّموا بتلك الحال اختياراً، وأنهم لا يعتبرون قياصرة الرومان ملوكهم الشرعيين، وأنهم مستعدون لخلع نيرهم عند أول فرصة.
كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ الخ هذا يعرب عما في قلوبهم من الغيظ، كأنهم قالوا: إن قولك لا يصدق علينا.
34 «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلخَطِيَّةِ».
رومية 6: 16 ، 20 و2بطرس 2: 19
الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ هذا التكرار للتأكيد ولبيان أهمية ما بعده. بيّن المسيح أن قوله حق، وأنهم رفضوه بقولهم إنهم «لم يستعبدوا لأحد قط». وفسّر الحرية التي قصدها وأراد أن يمنحهم إياها ببيان العبودية التي هم فيها، وهي شر من عبودية ملوك الأرض، لأنها عبودية النفس للشهوات والخطية والشيطان.
مَنْ يَعْمَلُ الخَطِيَّةَ أي كل من يعتاد الخطية أو يمارسها من أولاد إبراهيم وغيرهم.
هُوَ عَبْدٌ لِلخَطِيَّةِ لأنه تحت سلطانها كالعبد تحت سلطان سيده، وقد سلّم إرادته للشيطان والشهوات، وهذه عبودية أشر من كل عبودية. وقوله «من يعمل الخطية هو عبد للخطية» مبدأ أخلاقي ذكره بولس في رومية 6: 16 - 20، وذكره بطرس في 2بطرس 2: 19. ونتيجة هذه الآية أن كل الخطاة عبيد باختيارهم. وأعمال الناس تبيّن إن كانوا أحراراً أم عبيداً، فالذين يسيرون في التقوى هم الأحرار، والذين يسيرون في الخطية هم عبيد. وعبيد الخطية لا يمكن أن يكونوا أولاد الله الأحرار.
35 «وَالعَبْدُ لا يَبْقَى فِي البَيْتِ إِلَى الأَبَدِ، أَمَّا الابْنُ فَيَبْقَى إِلَى الأَبَد».
غلاطية 4: 30
ذكر المسيح في هذه الآية أمرين شرعيين معلومين:
العَبْدُ لا يَبْقَى فِي البَيْتِ إِلَى الأَبَدِ أي لا حقوق شرعية له في البيت، وبقاؤه في البيت من الأمور المشكوك فيها، لأن سيده يمكن أن يبيعه أو يطرده من بيته متى شاء، كما طرد إبراهيم هاجر وإسماعيل. ومعنى «البيت» هنا الأهل والمراد بقوله «إلى الأبد» مدة الحياة.
أَمَّا الابْنُ فَيَبْقَى إِلَى الأَبَدِ لأن له حقوقاً شرعية في البيت، فهو من دم السيد وورثته، فلا خوف من أن يُباع أو يُطرد منه (غلاطية 4: 28 - 31). فإذاً بين حال الابن وحال العبد فرق عظيم، فللأول كل الحقوق الشرعية في البيت، وليس للثاني حق فيه.
36 «فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً».
رومية 8: 2 وغلاطية 4: 19 الخ و5: 1
أظهر بما مر أن اليهود في حاجة إلى التحرير، وبيَّن هنا أنه أتى ليبشرهم بالحرية ويمنحهم إياها.
فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ قال في ع 32 «الحق يحرركم» ومعنى القولين واحد لأن المسيح هو الحق وإنجيله كتاب الحق وجوهره الابن يسوع المسيح. وأعلن يسوع هنا أنه هو واهب الحرية ومتمم نبوة إشعياء القائل «الرَّبَّ مَسَحَنِي.. لأُنَادِيَ لِلمَسْبِيِّينَ بِالعِتْقِ، وَلِلمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاقِ» (إشعياء 61: 1).
طلب اليهود منقذاً لأجسادهم من نير الرومان، فقدم يسوع نفسه منقذاً لنفوسهم من نير الشيطان والإثم، لأنه يجعل المؤمنين به إخوة له وورثة معه وأعضاء أهل بيت الله، فهم أولاد الله (يوحنا 14: 1، 3 وأفسس 2: 11 - 22).
فَبِالحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً هذا وفق قول الرسول «لأنَّ نَامُوسَ رُوحِ الحَيَاةِ فِي المَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الخَطِيَّةِ وَالمَوْتِ» (رومية 8: 2). والمسيح حررنا من عقاب الخطية لأنه حمله عنا، ومن عبودية الخطية لأنه كتب شريعته على قلوبنا، وأعطانا سلطاناً أن نصير أولاد الله. وقال «فبالحقيقة» تمييزاً للحرية التي يمنحها عن الحرية التي ادَّعوها لأنفسهم، فدعواه صحيحة ودعواهم كاذبة، وحريته روحية وحريتهم سياسية.
ويحرر المسيح كل المؤمنين به من قيود الجهل والضلال والأوهام، ويعتقهم من سلطان الخطية وجرمها، ومن سلطة الشيطان. وهم متحدون مع الله بالمسيح، ولا يقدر أحد غير المسيح أن يمنحهم الحرية والبنوية.
والعلاقة بين قول اليهود «إننا ذرية إبراهيم» وكلام المسيح في ع 35 و36 هي ظن اليهود أنه لأنهم أولاد إبراهيم هم أحرار أبناء الله ساكنون في بيته وورثة الحياة الأبدية. وأبطل المسيح صحة حكمهم بقوله «لستم أولاد الله بل أنتم عبيد الخطية». فإذاً ليس لكم من حقوق بيت الله إلا الوقتية الخارجية كما للعبيد في بيت أسيادهم. نعم إنكم سلالة إبراهيم كابن الجارية الذي طُرد، لا كإسحاق الذي بقي. فأشير عليكم أن تقبلوا مني البنوة الحقيقية والحرية الصحيحة.
37 «أَنَا عَالِمٌ أَنَّكُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ. لَكِنَّكُمْ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي لأنَّ كلامِي لا مَوْضِعَ لَهُ فِيكُمْ».
يوحنا 7: 19 وع 40
أَنَا عَالِمٌ أَنَّكُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ سلم المسيح بذلك بالمعنى الجسدي وأنكره بالمعنى الروحي، لأن طبيعتهم وأعمالهم ليستا كطبيعة إبراهيم وأعماله، فلم يكونوا مستحقين أن يسموا أولاده. وبيّن الاختلاف بينهم وبين إبراهيم في هذه الآية وآية 39.
تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي (يوحنا 5: 16 و7: 32). لم يصرح المسيح بأن الذين خاطبهم وخاطبوه في ع 30، 31 هم الذين طلبوا قتله، إنما قصد بذلك رؤساء اليهود عامة لأنهم جعلوا أنفسهم في ع 33 شركاء هؤلاء، وأنهم وإيّاهم جماعة واحدة. وأظهر بذلك ضعف إيمانهم، وأن الحق في قلوبهم كالزرع في أرض محجرة لا أصل لها (متّى 13: 21).
لأنَّ كلامِي لا مَوْضِعَ لَهُ فِيكُمْ هذا بمعنى قوله «إنكم إن ثبتم في كلامي» ع 31 بتغيير اللفظ. وقصد «بكلامه» تعليمه الإنجيلي، فإن تأثيره فيهم كان وقتياً ولم يصل إلى قلوبهم وتظهر ثمرته في سيرتهم، خلافاً لتأثير الخميرة التي وُضعت في ثلاثة أكيال الدقيق وخمرت العجين كله (متّى 13: 33).
أخبرهم سابقاً أنهم إن ثبتوا في كلامه كانوا بالحقيقة تلاميذه. وأخبرهم هنا أنه لا موضع لكلامه فيهم، فإذاً هم ليسوا تلاميذه، لأن قلوبهم مملوءة أفكاراً دنيوية وأوهاماً فاسدة من جهته وجهة ملكوته، ولأنهم نفروا من تعليمه فأبغضوه لذلك التعليم وأرادوا قتله.
38 «أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي، وَأَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَا رَأَيْتُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ».
يوحنا 3: 32 و5: 19، 30 و14: 10، 24
أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي هذا كقوله في ع 28. إن المسيح «كلمة الله» وعمله أن يخبر الناس بأمور الله التي رآها هو في مقامه الأزلي مع الآب، وباتحاده التام به (يوحنا 3: 32 و5: 19). ولأن مصدر تعليمه الإله القدوس لزم أن يكون تعليمه مقدساً روحياً نافعاً للجميع.
وَأَنْتُمْ تَعْمَلُونَ في طلب قتلي وفي كل سلوككم.
مَا رَأَيْتُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ أراد بأبيهم هنا من يقتدون به، وتظهر صفاته فيهم، ويعملون أعماله. وقد أظهروا ببغضهم يسوع وطلبهم قتله أنهم ليسوا أولاد إبراهيم بالحقيقة، ولا أولاد إله إبراهيم. فأعمالهم بينت من هو أبوهم، كما بينت تعاليم المسيح من هو أبوه.
وأظهر المسيح أن اختلاف أعماله عن أعمالهم يرجع لاختلاف مصدريهما. وما قاله المسيح هنا عن اليهود يصدق دائماً على كل البشر. فأعمال كل إنسان تبيِّن من هو مصدر أفكاره وأعماله، وهل هو متعلّم من الله وملهَم من ملكوت النور، أو هل هو متأثر من ملكوت الظلمة وجنودها.
39 «أَجَابُوا أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كُنْتُمْ أَوْلادَ إِبْرَاهِيمَ لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ!».
متّى 3: 9 وع 23، رومية 2: 28 و9: 7 وغلاطية 3: 7 و29
أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ كرروا قولهم السابق إنهم ذرية إبراهيم، ورفضوا ما أشار إليه المسيح من تسلسلهم من أصل آخر.
لَوْ كُنْتُمْ أَوْلادَ إِبْرَاهِيمَ سلم في ع 37 أنهم أولاد إبراهيم بالتسلسل الجسدي، وأنكر هنا مماثلتهم لإبراهيم في الروح والعمل.
لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ كالطاعة لله (تكوين 12، 22) واعتبار رسل الله (تكوين 16، 18) وإذ لا مماثلة فلا علاقة حقيقية. فمجرد التسلسل الجسدي من إبراهيم لا يمنح كرامة ولا بركة.
40 «وَلَكِنَّكُمُ الآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي، وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ. هَذَا لَمْ يَعْمَلهُ إِبْرَاهِيمُ».
ع 37، 26
تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي أظهر المسيح هنا الفرق بينهم وبين إبراهيم، وهو أنهم رفضوا رسول الله وطلبوا قتله.
إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالحَقِّ فكان عليكم أن تصغوا إليه وتحبوه وتشكروه.
الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّه أنه رسول الله ويجب أن يُطاع ويُكرم أعظم إكرام. ولأنه تكلم بالحق وجاء من عند الله صارت خطية رافضيه أفظع الخطايا.
هَذَا لَمْ يَعْمَلهُ إِبْرَاهِيمُ فأعمالكم مضادة لكل أعمال إبراهيم، فلا مشابهة لكم به، ونسبتكم إليه باطلة.
41 «أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ أَبِيكُمْ. فَقَالُوا لَهُ: إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِناً. لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ».
تثنية 31: 16 وإشعياء 1: 21 وهوشع 2: 4 إشعياء 63: 16 و64: 8 وملاخي 1: 6
أَعْمَالَ أَبِيكُمْ لم يُذكر اسم هذا الآب بل أشار إليه فقط في ع 38 فترك تسميته لضمائرهم، ومعناه أنهم أصغوا إلى الشيطان وتعلموا منه وتشبهوا به واستحقوا أن يُسموا أولاده.
إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِناً ظنوا المسيح اتهمهم بأنهم نسل أخلاط وثنيين كالسامريين بإنكاره عليهم أنهم أولاد إبراهيم، فردّوا عليه بأن لهم دليلاً من جداول النسب على أن إبراهيم أبوهم. ولعل معنى قولهم «لم نولد من زنا» أنهم ليسوا وثنيين ولم يولدوا هم ولا آباؤهم من وثنيين، لأن الزنا جاء بالمعنى الروحي مراراً في الكتاب المقدس، منها إشعياء 1: 21 و57: 3 وهوشع 1: 2 و2: 4.
لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ عدَل اليهود عن نسبة أنفسهم إلى إبراهيم ونسبوها إلى الله، وقالوا: نحن نعبد الله وحده فنحن أولاده. وكان اليهود يفتخرون كل الافتخار باعتقادهم وحدانية الله واعتبارهم إياه ملكهم.
42 «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كَانَ اللَّهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي، لأنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَأَتَيْتُ. لأنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي، بَل ذَاكَ أَرْسَلَنِي».
1يوحنا 5: 1 ويوحنا 16: 27 و17: 8، 25 ويوحنا 5: 43 و7: 28، 29
نفى أنهم أولاد الآب السماوي بالبرهان الذي نفى به أنهم أولاد إبراهيم حقيقة. نعم إن الله كان أباهم بمعنى أنه خلقهم واختار أمتهم شعباً له، ودعا إسرائيل ابناً (مزمور 80: 15 وهوشع 11: 1) ولم يكن كذلك بالمعنى الروحي الحقيقي، لأنهم لو كانوا أولاده لشابهوه وأحبوا ما يحبه، ولأحبوا بالأكثر ابنه الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره. ولكنهم بدل ذلك طلبوا قتله (ع 40). ولا يزال حب الابن علامة أولاد الله الحقيقيين، ويبقى كذلك إلى الأبد.
لأنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَأَتَيْتُ كان المسيح عند الله منذ الأزل، وأتى من عنده وتجسّد على الأرض. فحضوره هنا نتيجة خروجه من عند الله.
لأنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي الخ أي لم يأت بمشيئته الخاصة، إنما أتى بتعيين الله له رسولاً إلى الناس. وخلاصة كل هذه الآية أن كل أولاد الله الحقيقيين يعرفون الابن ويحبونه لأنه أزلي، وأصله سماوي، وإرساليته إلهية.
43 «لِمَاذَا لا تَفْهَمُونَ كلامِي؟ لأنَّكُمْ لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي».
يوحنا 7: 17
لِمَاذَا لا تَفْهَمُونَ كلامِي؟ هذا توبيخ لهم على تحويلهم كلامه إلى غير معناه في كل هذا الخطاب (من ع 32 - 43) لأنهم أذنبوا بذلك لوضوح معناه. ولم يتوقع جوابه على هذا السؤال، فأجاب عليه من ع 44 - 47.
لأنَّكُمْ لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي هذا سبب عدم فهمهم كلامه، لأنه روحي وقلوبهم جسدية، فلم يُسروا به ولم يؤمنوا ولم يطيعوا. وعدم الاستطاعة نتيجة عدم الإرادة. وكرهوا كلامه لأنه مضاد لكبريائهم وشهواتهم وميولهم، ولأن عدو الحق ملأ قلوبهم بالأهواء الشريرة، فصُمَّت آذانهم عن سماع صوت الله المتكلم بالمسيح.
44 «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالا لِلنَّاسِ مِنَ البَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الحَقِّ لأنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الكَذَّابِ».
متّى 13: 38 و1يوحنا 3: 8 يهوذا 6
أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ أنتم ادعيتم أن إبراهيم أبوكم وأن الله أبوكم، والحق أن إبليس هو أبوكم (وهو الذي أشار إليه في ع 38، 41 وصرح به هنا). فإن الأفكار والأعمال التي أظهرها اليهود يومئذٍ لم تكن إلا من عدو الله والناس. وشابهوه في صفاتهم كما يُشبه الأولاد والديهم.
وكلام المسيح هنا يدل على أن الشيطان ذات، لا معنى متوهَّم، وأن له تأثيراً عظيماً في العالم وقوة شديدة. ويدل على الشركة بين الشيطان والناس الأشرار، فهو أبو الكذبة والقتلة.. وليس الناس أولاد إبليس بنفس معنى أنهم أولاد الله، لأنه ليس للشيطان قوة عليهم إلا باختيارهم وتسليمهم أنفسهم إلى تجاربه، وبارتكابهم الأعمال التي ترضيه وهو يحثهم عليها.
وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ أي ما يسر به ويرغب الناس به وينتج عنه الضلال والإثم والشقاء.
تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا أي تعملونه طوعاً واختياراً وتميلون إليه وتسرون به كالخدام المطيعين. وهذا سبب دينونة كل خاطئ يخطئ باختياره. ولو لم يكن حراً مختاراً ما كان عرضة للدينونة. وذكر المسيح في ما يأتي ثلاثة من أعمال إبليس: وهي القتل، والكذب، وإغراء الغير به.
ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ البَدْءِ أي منذ خلق الإنسان الأول لا من بدء نفسه، لأنه كان في البدء ملاك نور. وهو «قتَّال الناس» لأن بواسطته دخلت الخطية والموت إلى العالم (تكوين 3 ورومية 5: 11 و12). وغايته في قوله «لن تموتا» قتل جنس البشر (تكوين 3: 4) وقد أدرك تلك الغاية. وكان عمله في كل عصور العالم تضليل الناس وإهلاك نفوسهم. وهو المهلك الذي حرض قايين على قتل هابيل (1يوحنا 3: 12) وأثار كثيرين مثله على قتل إخوتهم. وهو يقتل نفوساً كثيرة بتجاربه على الدوام فيستحق أن يسمى «قتَّال الناس» لأنه لا يقتل شخصاً بل جنساً، لأن الموت عمَّ جميع الناس بمعصيةٍ هو سببها. فأظهر اليهود بطلبهم قتل يسوع أنهم مثل إبليس (ع 40). وكانوا قتلة نفوس الناس الذين أضلوهم (متّى 15: 14) والذين جعلوهم أبناء لجهنم أكثر منهم أضعافاً (متّى 23: 15).
وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الحَقِّ المقصود «بالحق» هنا البرّ. وفي هذا الكلام إشارة إلى سقوط الشيطان من الحال التي خلقه الله عليها التي هو فيها الآن. وعدم الثبوت في الحق من صفاته وصفات أتباعه دائماً، لأنه يقاوم الحق فكراً وقلباً وفعلاً، ويُسر بالضلال وبتوزيعه.
لأنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ لا يقدر أحد أن يثبت في الحق ما لم يكن على شيء من حب الحق والمسرة به. لكن الشيطان يميل بكل قواه وغرائزه إلى الكذب، فلا محل في قلبه للحق.
مِمَّا لَهُ أي مما هو وفق صفاته وطبعه وميل قلبه، فيصدُق عليه ما يصدق على الإنسان الشرير وهو أنه «من الكنز الشرير (في القلب) يُخرج الشرور» (متّى 12: 35) وهو مثل قوله «من فضلة القلب يتكلم الفم» (متّى 12: 34). وهذا خلاف ما تكلم به المسيح لأنه كلمة الحق (ع 40) وما يتكلم به الروح القدس كذلك (يوحنا 16: 13).
لأنَّهُ كَذَّابٌ لا شك أن المسيح أشار بهذا إلى كذب الشيطان الأول الفظيع الذي به أضلَّ والدينا الأوَّلين (تكوين 3: 4) وإلى أن عمل الشيطان على الدوام أن يخدع الناس ليهلكهم، وأنه عدو كل حق.
وَأَبُو الكَذَّابِ أي أن كل الكذابين أولاد الشيطان لأنهم يشبهونه ويتكلمون بما يحثهم عليه. وبيّن المسيح هنا فظاعة الكذب بحسبانه مع القتل وصرّح بأن مصدر كليهما الشيطان. رفض اليهود الحق الذي تكلم به المسيح، وسُروا بالكذب، فأظهروا بذلك أنهم أولاد إبليس (ع 45).
45 «وَأَمَّا أَنَا فَلأنِّي أَقُولُ الحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي».
ترك المسيح هنا الكلام على إبليس، وأخذ يتكلم على أولاده، فقال إنهم يشبهون الشيطان لأنهم لم يصدقوا المسيح الذي تكلم بالحق. وقال إنه لو أخفى الحق وكلمهم بالكذب لكانوا صدَّقوه. والغالب أن التكلم بالحق يجلب للمتكلم ثقة السامعين به، لكن أولئك اليهود من كثرة مقاومتهم للحق رفضوه (رومية 1: 21 و2تسالونيكي 2: 11 وأفسس 4: 18).
46 «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ فَإِنْ كُنْتُ أَقُولُ الحَقَّ، فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي؟».
مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ أشار المسيح بذلك إلى استقامته وطهارة سيرته، برهاناً على صدق قوله «أتيت من الله». وطلب من أعدائه أن يشهدوا عليه بخطية إن استطاعوا. وقال المسيح ذلك بناءً على تسليمهم بأن كل مستقيم في أعماله مستقيم في أقواله، وهذا قانون صحيح. ولعله سكت قليلاً ليترك لهم فرصة للجواب.
فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي اتخذ المسيح سكوتهم دليلاً على عجزهم أن يبكتوه على خطية، فسألهم ذلك. فكأنه قال لهم «لا تقدرون أن تنكروا استقامة سيرتي التي أثبتَتْ صدقي، فيجب أن تؤمنوا بي. فلماذا شككتم؟». ولا يقدر إنسان أن يقول ما قاله المسيح من أنه بلا خطية في الفكر والقول والفعل، وأن العالم يعجز عن أن يثبت عليه أدنى زلة أو هفوة. ونحن في حاجة إلى مثل هذا المخلِّص ليكون فادياً لنا ووسيطاً. ويصح أن يقال الآن في الكتاب المقدس ما قاله المسيح في نفسه، فكيف يكون كاذباً وكل تأثيره في الناس حسن. إنه يجعلهم أبراراً طاهرين كالله ويصبح تابعوه كالملائكة، وتصبح الأرض كالسماء.
47 «اَلَّذِي مِنَ اللَّهِ يَسْمَعُ كلامَ اللَّهِ. لِذَلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ، لأنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ اللَّهِ».
يوحنا 10: 26، 27 و1يوحنا 4: 6
اَلَّذِي مِنَ اللَّهِ يَسْمَعُ كلامَ اللَّهِ أي أولاد الله كما دعوتم أنفسكم (ع 41) يسمعون كلام الله بسرور ويصدقونه ويطيعونه. وكل أهل الله مستعدون لقبول الحق قبل إعلانه، وللتسليم بأنه من الله عند إعلانه، ولطاعته، لأن محبة الله تجعل المحب يثق بكلامه. فعدم قبولهم كلام الله من المسيح حقق أنهم ليسوا من الله.
48 «فَقَالَ اليَهُودُ: أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَناً إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟».
يوحنا 7: 20 وع 52 و10: 20
إِنَّكَ سَامِرِيٌّ احتقر اليهود السامريين وأبغضوهم وحسبوهم ضالين، ونسبوا إلى المسيح أنه سامري بغية إهانته والهزء به كالسامريين، وعدوٌ لليهود بدليل قوله إنهم «أولاد إبليس».
وَبِكَ شَيْطَانٌ سبقت هذه التهمة في يوحنا 7: 20 لكنهم أرادوا بها هنالك أنه مختل العقل يستحق الشفقة، وقصدوا بها هنا أنه منقاد بروح الشيطان يستحق التوبيخ، فكلامهم كالكلام في متّى 12: 24. وبيّن اليهود نسبتهم إلى الشيطان بهذا أيضاً، وهو أنهم لما عجزوا عن إجابة المسيح بالبراهين لجأوا إلى اللعن والتجديف شأن معلمهم وأبيهم.
49 «أَجَابَ يَسُوعُ: أَنَا لَيْسَ بِي شَيْطَانٌ، لَكِنِّي أُكْرِمُ أَبِي وَأَنْتُمْ تُهِينُونَنِي».
لَيْسَ بِي شَيْطَانٌ لم يجبهم على شتمهم بغيظٍ وحدّة، وسكت على قولهم إنه سامري. ولكنه ردَّ على قولهم «بك شيطان» بالإنكار، لا بالشتم وفقاً لقول الرسول «الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً» (1بطرس 2: 23). وقدم برهاناً ينفي قولهم إن تأثير تعليمه من عند إبليس، فقال إن ذلك التأثير إكرام لله الآب، لأنه علَّم الناس أن يحبوا الله ويطيعوه. وهذا ما لا يفعله الشيطان ولا يريده.
وَأَنْتُمْ تُهِينُونَنِي أي أنكم بدلاً من أن تسمعوا كلام الله تهينون رسوله الذي كلمكم بكلامه إكراماً له، وبذلك أظهرتم أنكم لستم أولاد الله.
50 «أَنَا لَسْتُ أَطْلُبُ مَجْدِي. يُوجَدُ مَنْ يَطْلُبُ وَيَدِينُ».
يوحنا 5: 41 و7: 18
أَنَا لَسْتُ أَطْلُبُ مَجْدِي لم يبالِ بإهانتهم له لأنه لم يطلب المجد والكرامة من الناس، ورضي بحمل العار، ولم يرغب في تبرير نفسه من تهمتهم، وترك تبريره لله.
يُوجَدُ مَنْ يَطْلُبُ وَيَدِينُ أي الله، وهو يميز بين الذين يقبلون ابنه والذين يرفضونه، ويجازي كلاً بما يستحق. وفي هذا إنذار بالدينونة الآتية عليهم أخيراً (جامعة 5: 8). وفيه تعزية للمؤمنين المهانين والمضطهدين لأجل البر، ووجوب أن يحتملوا العار بصبر وحلم كما احتمله المسيح، وأن يتركوا لله تبريرهم والانتقام لهم (مزمور 37: 6) فلا بد أن الله يحامي عنهم ويُسكت كل معيريهم كذباً.
51 «اَلحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلامِي فَلَنْ يَرَى المَوْتَ إِلَى الأَبَدِ».
يوحنا 5: 24 و11: 26
اَلحَقَّ الحَقَّ هو التكرار المعتاد في الأمور ذات الشأن للتأكيد والتنبيه. والأرجح أنه كان بين الجمهور بعض المؤمنين الحقيقيين أراد المسيح تقوية إيمانهم بما قاله في هذه الآية. ووعدهم في ع 32 بالنجاة من عبودية الخطية، ووعدهم هنا بالنجاة من الموت.
إِنْ كَانَ أَحَدٌ الوعد عام لكل إنسان، يهودياً كان أم يونانياً.
يَحْفَظُ كلامِي هذا كقوله «إن ثبتم في كلامي» (ع 31) ومعناه التمسك الدائم بكلامه والسلوك بموجبه، وليس فقط حفظه في الذاكرة دون تخبئته في القلب وطاعته (مزمور 119: 11). والشرط «إن كان» يدل على موانع من ذلك الحفظ، وهي ميل القلب إلى العصيان، وتجارب الشيطان وجنوده، وارتداد بعض التلاميذ عن الحق. وقصد «بالكلام» هنا تعاليمه أو إنجيله.
فَلَنْ يَرَى المَوْتَ إِلَى الأَبَدِ هذا وعد عظيم يشتمل على إزالة كل نتائج السقوط. «والموت» هنا هو الموت الثاني أي الهلاك الأبدي، وهو الأمر الوحيد الذي يستحق أن يُسمى بالموت، لأن موت المسيحي بالجسد لا يُحسب موتاً، كما أنه لم يحسب حياة جسده الحياة الحقيقية. وقوله هنا كقوله في (يوحنا 3: 36 و5: 24 و6: 47 - 50 و11: 25، 26). ونفي الموت يستلزم ضرورة حياة من يحفظون كلام المسيح. ووفى المسيح بوعده هنا برفعه عن المؤمنين أربعة أمور: (1) الموت الروحي الذي ورثناه من آدم. (2) شوكة الموت التي هي الخطية ( 1كورنثوس 15: 55 - 57). (3) خوف الموت (عبرانيين 2: 15). (4) الموت الثاني الذي هو الهلاك الأبدي.
والحياة هي عطية الله للذي يؤمن بصدق كلام المسيح، لأن له المسيح نفسه، والذي له المسيح يشترك معه في حياته الأبدية. وأظهر المسيح هنا الفرق العظيم بين عمله وعمل إبليس، لأنه هو واهب الحياة (أفسس 2: 11) وذاك قتَّال للناس (ع 44).
52 «فَقَالَ لَهُ اليَهُودُ: الآنَ عَلِمْنَا أَنَّ بِكَ شَيْطَاناً. قَدْ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَالأَنْبِيَاءُ، وَأَنْتَ تَقُولُ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلامِي فَلَنْ يَذُوقَ المَوْتَ إِلَى الأَبَدِ».
زكريا 1: 5 وعبرانيين 11: 13
فَقَالَ لَهُ اليَهُودُ أي غير المؤمنين من الجمع.
الآنَ عَلِمْنَا أَنَّ بِكَ شَيْطَاناً أي ما قلناه أولاً ظناً من أنك مختل العقل (ع 48) تأكدناه هنا من كلماتك.
قَدْ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَالأَنْبِيَاءُ وهم من الأتقياء المحبوبين والمكرمين من الله حفظوا كلام الله ومع ذلك ماتوا.
وَأَنْتَ تَقُولُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كلامِي فهم اليهود أن الموت في كلام يسوع هو الموت الطبيعي، وأنه يمنح تلاميذه امتيازاً لم يحصل عليه أفضل القديسين وأعظمهم، فرأوا أنه لا يقول ما قاله يسوع إلا المجنون.
فَلَنْ يَذُوقَ المَوْتَ إِلَى الأَبَدِ غيروا قول المسيح لفظاً لا معنىً. عبر المسيح عن الموت بكلمات النصرة، إذ قال «لن يرى الموت» وهم عبروا عنه بكأس مُرة إذ قالوا «لا يذوق».
53 «أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي مَاتَ. وَالأَنْبِيَاءُ مَاتُوا. مَنْ تَجْعَلُ نَفْسَكَ؟».
أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ قالوا هذا هزءاً واستخفافاً به فكأنهم قالوا: من أنت حتى تهب لتلاميذك سلطاناً على الموت لم يحصل عليه أعظم الآباء والأنبياء؟ هل تدّعي أنك أعظم من إبراهيم حتى ضمنت لنفسك الخلود؟ وسؤالهم هذا يشبه سؤال المرأة السامرية له: «ألعلك أعظم من أبينا يعقوب؟» (يوحنا 4: 12) لكنها هي قالت ذلك تعجباً وهم قالوه استهزاءً.
مَنْ تَجْعَلُ نَفْسَكَ لم يقولوا ذلك للاستفادة بل للاستخفاف، كأنه ادّعى عظمةً لا حق له فيها.
54 «أَجَابَ يَسُوعُ: إِنْ كُنْتُ أُمَجِّدُ نَفْسِي فَلَيْسَ مَجْدِي شَيْئاً. أَبِي هُوَ الَّذِي يُمَجِّدُنِي، الَّذِي تَقُولُونَ أَنْتُمْ إِنَّهُ إِلَهُكُمْ».
يوحنا 5: 31، 41 و16: 14 و17: 1 وأعمال 3: 13
إِنْ كُنْتُ أُمَجِّدُ نَفْسِي بقولي إن «من يحفظ كلامي لن يرى الموت» كما يستفاد من قولكم «من تجعل نفسك؟». فمضمون جوابه هنا أنه لم يجعل نفسه شيئاً، وأنه لم يدَّعِ لنفسه وحده بحقٍّ وسلطانٍ أو قوة غير ما جعله له الآب وعيّنه.
فَلَيْسَ مَجْدِي شَيْئاً لو أني ادعيت لنفسي مجداً وقوة وسلطاناً. وأنا لم أدّع شيئاً من هذا.
أَبِي هُوَ الَّذِي يُمَجِّدُنِي بإرساله إياي لأجهز تلاميذي بمواعيده، وبوضعه في يدي مفاتيح الموت والحياة. وهو أكرمني بذلك أكثر من إبراهيم والأنبياء، وأثبت دعواي بما أجراه من المعجزات على يدي.
الَّذِي تَقُولُونَ أَنْتُمْ إِنَّهُ إِلَهُكُمْ بقولكم إنه إله إسرائيل وإله آبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فكان يجب أن تعرفوه، وهو الذي مجدني، ولم أمجد نفسي.
55 «وَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. وَأَمَّا أَنَا فَأَعْرِفُهُ. وَإِنْ قُلتُ إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُهُ أَكُونُ مِثْلَكُمْ كَاذِباً، لَكِنِّي أَعْرِفُهُ وَأَحْفَظُ قَوْلَهُ».
يوحنا 7: 28، 29
وَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ ولو عرفتموه أي أدركتم طبيعته وإرادته ومقاصده، لعرفتم العلامات التي شهد بها لي ولم ترفضوني وأنا أتكلم بسلطانه وأعلن إرادته، ولحفظتم أقواله. فكانوا كالذين قال فيهم الرسول «يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ اللَّهَ، وَلَكِنَّهُمْ بِالأَعْمَالِ يُنْكِرُونَهُ» (تيطس 1: 16).
وَأَمَّا أَنَا فَأَعْرِفُهُ ذكر معرفته الله مقارنة بجهلهم إياه. ومعرفة المسيح بأبيه ليست مكتسبة، بل ذاتية كاملة دائمة.
وَإِنْ قُلتُ إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُهُ أَكُونُ مِثْلَكُمْ كَاذِباً أي لا أنكر معرفة أبي لأن إنكاري إياها يوجب الكذب كادعائكم أنكم تعرفونه.
وَأَحْفَظُ قَوْلَهُ اتخذ طاعته لله دليلاً على صحة معرفته إياه ومعرفة إرادته.
56 «أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ».
لوقا 10: 24 عبرانيين 11: 13
ذكر يسوع شهادة إبراهيم له لأن اليهود حسبوا نسبتهم إليه من أعظم صنوف الشرف، وأن كلامه يستحق كل اعتبار، وأعماله مما يجب الاقتداء بها.
أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي سأل اليهود المسيح قائلين «ألعلك أعظم من إبراهيم؟» فقال هذا جواباً على ذلك، وهو أن أباهم إبراهيم سُر بما اغتاظوا به ولعنوه ورفضوه. ودلّ قوله «تهلل» على شدة شوق إبراهيم ورجائه وانتظاره. ولا يستلزم ذلك أن إبراهيم توقع إتيان المسيح في عصره، ولكنه تحقق أنه سيأتي في المستقبل. وكان رجاؤه مبنياً على المواعيد التي وعده الله بها (تكوين 12: 3 و15: 4 و17: 17 و18: 10) وأوضحها قوله «يَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ» (تكوين 22: 18). ومعنى «يومي» وقت مجيئي مسيحاً بركة للعالم وخلاصاً للبشر.
فَرَأَى وَفَرِحَ يحتمل قوله «رأى» معنيين: (1) أنه رآه بالإيمان وهو حي، وفقاً لقول الرسول في إبراهيم وسائر الأنبياء «فِي الإِيمَانِ مَاتَ هَؤُلاءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا المَوَاعِيدَ، بَل مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا» (عبرانيين 11: 13). وأن الله أعلنه له حين بشره بولادة إسحاق (تكوين 18: 10) ووقت عزمه على تقديم إسحاق ذبيحة (تكوين 22: 18) وأنه أراه إياه في رؤيا أو بظهور الرب له في هيئة ملاك وكلامه معه (تكوين 18: 22). (2) أن الله أعلن له وهو في السماء نزول المسيح إلى الأرض ليتجسد فيها. والملائكة عرفوا بولادة المسيح وترنموا بفرح، ويمكن أنه كان كذلك القديسون في السماء.
وعرف موسى وإيليا بخروجه (أي موته) الذي كان عتيداً أن يكمله في أورشليم. ولا مانع من صحة هذا التفسير، لكننا لا نستطيع أن نؤكد أنه ما قصده المسيح هنا، إذ لم يكن من قصده أن يعيّن اليوم الذي رآه إبراهيم فيه، بل أن يبين أنه هو الذي وعد به إبراهيم، وبأنه نسله الذي «يتبارك به كل أمم الأرض» وأنه «تهلل» بذلك الرجاء ورآه من بعيد بالإيمان.
57 «فَقَالَ لَهُ اليَهُودُ: لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ، أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟».
لم يفهم اليهود من المسيح أو ادعوا أنهم لم يفهموه. المسيح قال «إن إبراهيم رأى يومي» وهم فسروه بأنه رأى إبراهيم وإبراهيم رآه.
لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً كان سن الخمسين عند اليهود نهاية كمال البلوغ، وبدء الشيخوخة، فكأنهم قالوا للمسيح: أنت لم تبلغ الشيخوخة بعد، فإنه كان في نحو سن الثالثة والثلاثين، فزادوا عليها حتى لا يبقى وجه للاعتراض، وحتى يُظهروا استحالة دعواه. وخلاصة ذلك أنه يستحيل على من هو أقل من 50 سنة أن يرى من مات منذ نحو 1900 سنة!
58 «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ».
خروج 3: 14 وإشعياء 43: 13 ويوحنا 17: 5 ،24 وكولوسي 1: 17 ورؤيا 1: 8
الحَقَّ الحَقَّ هذا مقدمة لكلام ذي شأن كما ذُكر مراراً.
قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ هذا تصريح بأنه كان قبل إبراهيم. كأنه قال لهم أنتم هزأتم بقولي إذ فهمتم منه أني معاصر لإبراهيم، وأنا أصرّح لكم أني كائن من قبله! وفي هذا تصريح بلاهوته، لأنه بالنظر إلى ناسوته لم يكن إلا منذ أقل من خمسين سنة، فلا يمكن أن يراه إبراهيم في عصره باعتبار أنه إنسان. فإذاً لا بد من أن له طبيعة أخرى أزلية كانت منذ البدء (يوحنا 1: 1). وقوله «أنا كائن» هو نفس الاسم الذي أعلن نفسه به لليهود يوم أرسل موسى إليهم إذ قال «هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ» (خروج 3: 14). وهذا وفق ما في مزمور 90: 2. لم يقل قبل أن يكون إبراهيم أنا كنت، لأنه لو قال كذلك لاحتمل معناه أنه حدث قبل حدوث إبراهيم. واليهود فهموا من قوله أنه ادعى الأزلية، وأنه إله إبراهيم. فهو بالضرورة قبله.
59 «فَرَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى وَخَرَجَ مِنَ الهَيْكَلِ مُجْتَازاً فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى هَكَذَا».
يوحنا 10: 31، 39 و11: 8 لوقا 4: 30
رَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ لم يبق لهم بعد جواب المسيح في الآية السابقة إلا أن يسجدوا معترفين أنه المسيح كما فعل الأعمى الذي أبصر (يوحنا 9: 38) أو أن يرجموه حاكمين أنه مجدف. فاختاروا أن يحسبوه مجدفاً، وأرادوا أن يعاقبوه بمقتضى ما قيل في (لاويين 24: 16). وكان سهلاً عليهم أن يجدوا حجارة يرجمونه بها في دار الهيكل، لأنه كان تحت الترميم الذي بدأه هيرودس الكبير. وكان محظوراً على اليهود أن يقتلوا أحداً لأنهم كانوا تحت سلطة الرومان الذين منعوهم من سلطان القتل الذي كان لهم، فكان ما قصدوه من عقاب المسيح من قبل أنفسهم بمنزلة هيجان الشعب كما فعلوا باستفانوس (أعمال 7: 58).
أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى الخ ليس في هذا نص على أن اختفاءه كان معجزة، ولعله نجا منهم بمثل ما فعل في لوقا 4: 30. وكان في الهيكل جمهور عظيم من الناس، كثيرون منهم من تلاميذه وأصدقائه، وكان سهلاً عليه أن يختفي بين ذلك الجمهور. ولا شك أن الله حماه لأن ساعته لم تكن قد أتت. وانتهى بذلك أشد خصام بين المسيح واليهود في اليهودية.
ومما نراه في هذا الخطاب كثرة المقاومة التي لاقاها المسيح، إذ كان فيه وحده عشر معارضات من التكذيب والشتم (في آيات 19، 22، 39، 41، 48، 52، 53، 57). ومما نراه أيضاً قوة البرهان على صحة تعليم يسوع بأن أعداءه لم يستطيعوا أن يُسكتوه أو يجاوبوه بالأدلة. ولو كان تعليمه لأصحابه دون غيرهم لم يكن للبرهان مثل تلك القوة. ونستفيد من معارضات أعدائه له أنها حملت المسيح على تفسير تعاليمه بأحسن إيضاح. ومن الحقائق العظمى التي أوضحه قوله «إنه نور العالم» وإن أصله «من فوق» (ع 23). وإنه «مانح الحرية للمؤمنين به» (ع 31 - 36). وإنه «بلا خطية» (ع 46). وإنه «واهب الحياة». وإظهار أنه يهوه العهد القديم بقوله «أنا كائن» (ع 58).
1 «وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلاَدَتِهِ».
وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ الأرجح أن ذلك كان في مدخل الهيكل أو على القرب منه حيث كان يجتمع المتسولون (أعمال 3: 2) ولم يتضح لنا أمتعلقة الحوادث التي في الأصحاحين السابقين بحوادث هذه الأصحاح أم منقطعة عنه وذلك ليس من الجوهريات لكن نعلم أن حوادث هذا الأصحاح كانت في يوم السبت (ع 14) من الوقت الذي شغله بهذه الخدمة في اليهودية وأوله من بداءة الأصحاح السابع ونهايته العدد 39 من ص 10 وهو نحو شهرين.
رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى في معجزة شفاء يسوع للأعمى ستة أمور تستحق الاعتبار.
الأول: أنه لم يذكرها أحد من الإنجيليين سوى يوحنا.
الثاني: أنه ذكرها بكل تدقيق.
الثالث: أنها واحدة من المعجزات الثلاث التي ذُكر أن يسوع صنعها في اليهودية (والمعجزات التي ذكرها يوحنا سبع، ثلاث صُنعت في اليهودية وأربع صُنعت في الجليل).
الرابع: أنها إحدى المعجزات التي توقع اليهود أن يصنعها المسيح عند إتيانه بناء على قوله تعالى بلسان إشعياء «يَسْمَعُ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱلصُّمُّ أَقْوَالَ ٱلسِّفْرِ، وَتَنْظُرُ مِنَ ٱلْقَتَامِ وَٱلظُّلْمَةِ عُيُونُ ٱلْعُمْيِ» (إشعياء 29: 18).
الخامس: أنها من الآيات التي أوردها يسوع دليلاً على أنه هو المسيح بقوله «ٱذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ الخ» (متّى 11: 4 و5).
السادس: أنها صُنعت علانية في إنسان معلوم وفي موضع مشهور وأمام كثيرين حتى لا يستطيع اليهود إنكارها. وكانت علة جلوس الأعمى هنالك الاستعطاء ع 9. وشفاه المسيح تبرعاً أي من دون أن يسأله أحد وذلك كشفائه المقعد عند بركة بيت حسدا (ص 5: 6).
مُنْذُ وِلاَدَتِهِ كونه وُلد أعمى لم يُبق من أمل أن يبرأ بواسطة بشرية. وكان إبراؤه في عيون الشعب أعجب من إبرائه لو أنه كان عُمي بعد البصر. ولعل هذا الأعمى كان ينادي بأنه وُلد أعمى تحريكاً لشفقة المارين به فعرف التلاميذ ذلك من مناداته.
2 «فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ: يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هٰذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟».
ع 34
فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ تدل إحاطة تلاميذه به ومخاطبته إياهم باطمئنان على أن الأحوال يومئذ كانت خلاف الأحوال التي عرفناها من آخر الأصحاح التاسع. ولعل المسيح وقف عند الأعمى فوجه بذلك أبصار التلاميذ إليه فأخذوا يسألون عن أموره.
مَنْ أَخْطَأَ: هٰذَا أَمْ أَبَوَاهُ الخ هذا السؤال كان موضوع بحث طويل عند اليهود واختلفت فيه آراء علمائهم كثيراً. ونسبوا كل المصائب الأرضية إلى خطايا مخصوصة (ع 34 انظر شرح لوقا 13: 1 - 4) وصعب عليهم تصحيح ذلك القانون مع مولود أعمى فرفعوا أمرهم وهم في حيرة منه إلى المسيح. ولقولهم «من أخطأ هذا» (أي هذا اخطأ) سند وهو اعتقاد بعض اليهود التناسخ وأن الذي في جسد يعاقب على خطيئته في جسد آخر تنتقل نفسه إليه. واعتقاد آخرين أن الولد يستطيع أن يخطئ قبل ولادته بناء على ما قيل في (تكوين 25: 22 ومزمور 51: 5). ولقولهم «أم أبواه» أي «أخطأ أبواه» سند وهو اعتقاد أكثر اليهود أن علة مصائب الأولاد قبل الولادة خطايا والديهم بناء على ما قيل في (خروج 20: 5 و34: 7 وعدد 14: 18 و33 وإرميا 32: 18). ولا ريب أن في نفس كل إنسان ما يحمله على أن ينسب عموم المصائب في الأرض إلى الخطيئة. ويوافق ذلك شهادة الكتاب المقدس في (تكوين 3: 16 - 19 وفي رومية 5: 12 - 19). وحاصله أن مصائب نسل آدم نتيجة معصيته. وغلط اليهود أنهم جعلوا المصائب نتائج خطايا مخصوصة.
3 «أَجَابَ يَسُوعُ: لاَ هٰذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ، لٰكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ ٱللّٰهِ فِيهِ».
ص 11: 4
لاَ هٰذَا أَخْطَأَ وَلاَ أَبَوَاهُ أي أن عماه ليس نتيجة خطيئة مخصوصة منه ولا من أبويه. ولا يلزم من قول المسيح هنا أن ذلك الأعمى كان بلا خطيئة وأن أبويه كانا كذلك. ولم ينكر المسيح أن خطايا الوالدين قد تجلب على أولادهم الأمراض والموت لأن ذلك من الواقعات المشاهدة (خروج 20: 5). ولم ينكر أنه قد يكون بعض الخطايا علة بعض المصائب أو الأمراض وأشير إلى ذلك في (مرقس 2: 5 ويوحنا 5: 14 ولاويين 26: 16 وعدد 12: 10 وتثنية 28: 22 و2ملوك 5: 27) لكنه نفى أن يكون مصاب ذلك الأعمى من هذا الباب.
لٰكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ ٱللّٰهِ فِيهِ المعنى أن الله سمح بحكمته غير المحدودة أن يصيب هذا الإنسان ذلك المصاب لكي يظهر الله قوته ومحبته بشفائه ولكي يثبت دعوى يسوع أنه المسيح وأنه نور العالم بواسطة إبرائه وليجعله وسيلة إلى نشر التعاليم الروحية في الشعب ولكي يُقاد الأعمى عينه إلى الإيمان بالمسيح لشفاء نفسه وخلاصه الأبدي بواسطة بر جسده.
ولنا في هذه الآية أربع فوائد:
الأولى: وجوب أن نشفق على المصابين وأن لا نلومهم أو نحتقرهم كأن الله قد غضب عليهم.
الثانية: وجوب أن لا ننسب كل مصيبة إلى خطيئة مخصوصة فنغلط بذلك غلط أصدقاء أيوب.
الثالثة: أن هذا يعزينا إذا و قعنا في المصائب إذ نعلم أن الله سمح بها لأسباب اقتضتها حكمته مثل أن تكون وسيلة إلى إظهار رحمته وقوته ومحبته وتمجيده تعالى وواسطة نعمة لنا (أمثال 3: 12 وعبرانيين 12: 6 و11 ورؤيا 3: 19).
الرابعة: أنه يجب على المصابين الصبر لأنه ربما لم يظهر لهم قصد الله من مصائبهم إلا بعد زمان طويل وربما لم يظهر لبعضهم إلا بعد أن يدخل السماء.
4 «يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ».
ص 4: 34 و5: 19 و36 و11: 9 و12: 35 و17: 4
يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ يشير هذا إلى أن المسيح شعر برغبة شديدة في فتح عيني ذلك الأعمى بناء على رغبته في إرضاء الله علاوة على ميله إلى نفع الناس نفوساً وأجساداً. ويشير أيضاً إلى أن إبراءه ذلك الأعمى يهيج اليهود على مقاومته وبغضه. وقوله هنا وفق قوله في وقت آخر «وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟» (لوقا 12: 50).
أَعْمَالَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي أي الأعمال التي أمرني بعملها من إعلان الله للناس وإتمام عمل الفداء وهي تشبه أعمال الآب الذي أرسلني لأنها أعمال القوة والمحبة والرحمة والبركة. ومعلوم أن فتح عيني ذلك الأعمى من تلك الأعمال.
مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ الخ أي كلما سنحت الفرصة المناسبة. وهو مجاز مبني على أن وقت العمل المعتاد هو النهار وأن العمل يعسر في الليل وقد يستحيل. ويعبر بالنهار عن مدة حياة الإنسان التي أعطاه الله إياها للعمل فيها وبالليل عن موته حين ينتهي عمله (جامعة 9: 10). وتكلم هنا المخلص باعبتار كونه إنساناً مدة خدمته على الأرض قصيرة لكي يعلم فيها الناس شفاهاً ويصنع معجزاته. وذكر قصر الوقت لأنه على شدة رغبته في العمل بلا انقطاع. وكانت سنو حياته على الأرض نحو ثلاث وثلاثين ونصف ومدة خدمته نحو ثلاث ونصف. وكان قد بقي من تلك المدة نحو ستة أشهر. وما ذكره من قصر خدمته الأرضية لا يناقض ما مفاده في موضع آخر أنه يجري أعماله في الكنيسة والعالم بروحه بعد ارتفاعه إلى السماء. وفي هذه الآية علتان:
الأولى: علة الإبراء وهي أن يعمل أعمال الله.
الثانية: أن يشفي الأعمى في ذلك اليوم يوم السبت ولا يُبقي شفاءه إلى يوم آخر. ودلّ على ذلك بقوله «يأتي ليل» الخ.
5 «مَا دُمْتُ فِي ٱلْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ ٱلْعَالَمِ».
ص 1: 5 و9 و3: 19 و8: 12 و12: 35 و46
هذا شرح إجمالي لكل أعمال خدمته وبيان أن فتح عيني الأعمى جزء من تلك الأعمال لكونه رمزاً إلى هبته البصيرة لعميان النفوس بالجهل والخطيئة.
فَأَنَا نُورُ ٱلْعَالَمِ انظر شرح ص 8: 12. خلاصة معنى هذا أن المسيح معلم البشر ومرشدهم إلى السماء ومُعلن الله لهم لكي يروا الحق. وفتح عيون العمي بالجسد رمز إلى فعله الروحي في النفوس. وعلى هذا نبوءة إشعياء (إشعياء 29: 18 و35: 5 و42: 7) وهذه الأية موضوع كل ما في هذا الأصحاح من التعليم والعمل.
6 «قَالَ هٰذَا وَتَفَلَ عَلَى ٱلأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ ٱلتُّفْلِ طِيناً وَطَلَى بِٱلطِّينِ عَيْنَيِ ٱلأَعْمَى».
مرقس 7: 33 و8: 23
صنع المسيح معجزات كثيرة في الحال بلا واسطة إنما هنا أتى المعجزة بخلاف ذلك لسبب لم نتحققه ولعله بيان أنه غير مقيّد بطريقة واحدة في إظهار آياته فإنه أبرأ يوماً أحد العميان باللمس (متّى 20: 34) وفتح يوماً آخر عيني غيره بأن تفل في عينيه ووضع يديه عليه (مرقس 8: 23). ولعله قصد بذلك أن ينشئ في الأعمى رجاء للشفاء وإيماناً بالشافي فيعده بذلك لقبول تلك النعمة وأن يجعله ينسب الإبراء إلى المسيح لأنه اقترب منه وتكلم معه وطلى عينيه بالطين حتى أنه لما برئ ورآه عرف أنه هو الذي أبرأه من مجرد سمع صوته.
حسب بعض الناس التفل على العين ووضع الطين عليها علاجاً لبعض أمراضها ونسبوا مثل ذلك إلى ماء بركة سلوام وظنوا أن ذلك على ما فعل المسيح بالأعمى وما أمره به. لكنه معلوم أنه لا شفاء لمولود أعمى من طين أو تفل أو ماء بركة إنما شفاؤه بقوة إلهية فقط.
7 «وَقَالَ لَهُ: ٱذْهَبِ ٱغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ. ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ. فَمَضَى وَٱغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً».
نحميا 3: 15 ولوقا 13: 4 2ملوك 5: 14
ٱذْهَبِ ٱغْتَسِلْ أي اغسل عينيك. ذلك شرطاً لنواله البرء وامتحاناً لإيمانه وطاعته كما امتحن الله نعمان الآرامي أو السرياني (2ملوك 5: 10).
فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ انظر شرح (لوقا 13: 4 ويوحنا 5: 2). وكانت هذه البركة إلى جنوبي الهيكل منخفضة عنه وذُكرت في (نحميا 3: 15 وإشعياء 8: 6) وكان اسمها قديماً «شيلوه» وتسمى اليوم بركة سلوان.
ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ فسر ذلك لإفادة اليونانيين «فمرسل» معنى شيلوه وهي لفظة عبرانية من الفعل شله أو أرسل وجاءت بهذا المعنى في (أيوب 5: 10 وحزقيال 31: 4). ولم تتحقق علة تفسير يوحنا لها هنا لكن ذهب البعض إلى أن المسيح قصد بإرسال الأعمى إلى تلك البركة ليذكره اسمها أن الذي شفاه مرسل من الله. نعم إنّ المسيح كان ينبوع شفاء للعالم كما كانت بركة سلوام لذلك الأعمى ولكن ذهابهم إلى أنه قصد ذلك هنا ضعيف.
فَمَضَى وَٱغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً ذلك مختصر حادث غريب عظيم سارٍ. وأظهر هذا الأعمى بذهابه واغتساله إيماناً وطاعة. والأرجح أنه أبصر وهو يغتسل. ولا عجب من اسطاعته أن يبلغ البركة وهو أعمى لأنه كان في سن الأربعين وقد اعتاد الجولان كثيراً. والأرجح أنه أتى من البركة إلى بيته رأساً لأنه أول من شاهده بصيراً جيرانه. ولا دليل على أنه رجع إلى حيث شفاه المسيح لكي يراه ويشكره.
8 «فَٱلْجِيرَانُ وَٱلَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَهُ قَبْلاً أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى، قَالُوا: أَلَيْسَ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي؟».
فَٱلْجِيرَانُ وَٱلَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَهُ قَبْلاً عرف الجيران كل ما يتعلق به لقربهم منه وكذلك الذين اعتادوا أن يمروا به كل يوم في الأزقة أو عند باب الهيكل وهو يستعطي وكلهم عرفوا أنه أعمى.
أَلَيْسَ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي قالوا ذلك تعجباً وحيرة لأن اختبارهم في الماضي كان خلافاً لمشاهدتهم حينئذ. وكان لهم أمران عرفوه بهما وهما عماه وتسوله. وعدم ذكر تسوله في العدد الأول لا ينافي ما قاله عارفوه هنا لأن العميان يغلب أنهم يسألون الصدقات لعجزهم عن الأعمال.
9 «آخَرُونَ قَالُوا: هٰذَا هُوَ. وَآخَرُونَ: إِنَّهُ يُشْبِهُهُ. وَأَمَّا هُوَ فَقَالَ: إِنِّي أَنَا هُوَ».
آخَرُونَ قَالُوا: هٰذَا هُوَ. وَآخَرُونَ: إِنَّهُ يُشْبِهُهُ اختلف الناس في آرائهم في ذلك الأعمى كاختلاف معرفتهم به. فالذين قالوا «هذا هو» هم الجيران الذين عرفوه من صغره. والذين قالوا «أنه يشبهه» هم الذين لم يروه إلا بعض الأحيان وهو يستعطي. ولا ريب في ان انفتاح عينيه غيّر منظره كثيراً.
10 «فَقَالُوا لَهُ: كَيْفَ ٱنْفَتَحَتْ عَيْنَاكَ؟».
المتكلمون هم الجيران والذين ذُكروا معهم في ع 9 والجماعات الذين أتوا عند سماعهم النبأ الغريب بإبصار الأكمه وعجبوا جميعاً من ذلك رغبوا في معرفة علة برئه.
11 «أَجَابَ: إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يَسُوعُ صَنَعَ طِيناً وَطَلَى عَيْنَيَّ، وَقَالَ لِي: ٱذْهَبْ إِلَى بِرْكَةِ سِلْوَامَ وَٱغْتَسِلْ. فَمَضَيْتُ وَٱغْتَسَلْتُ فَأَبْصَرْتُ».
ع 6 و7
هذا نبأ الواقع بأسلوب بسيط بلا زيادة. ولم يذكر أن المسيح تفل على الأرض لأنه لم يره حينئذ. ولم يذكر من أنبأه بأن شافيه يسوع ولعل بعضهم أخبره به عند ما أمره أن يذهب إلى بركة سلوام وكان هذا الأعمى بسؤاله عن اسم المحسن إليه أفضل من ذلك البصير الذي شفاه المسيح عند بركة بيت حسدا (ص 5: 13).
12 «فَقَالُوا لَهُ: أَيْنَ ذَاكَ؟ قَالَ: لاَ أَعْلَمُ».
أَيْنَ ذَاكَ لعلهم أرادوا أن يروا ذلك الشافي ذا القوة العجيبة أو أن يقبضوا عليه ويذهبوا به إلى الرؤساء لأنه فتح عيني الأعمى في سبت.
لاَ أَعْلَمُ يدل كلامه هذا على أنه لم يرجع إلى حيث كان المسيح عندما أبرأه وإلا لقال تركته هنا والأرجح أنه ليس ببعيد عنا.
13 «فَأَتَوْا إِلَى ٱلْفَرِّيسِيِّينَ بِٱلَّذِي كَانَ قَبْلاً أَعْمَى».
ص 11: 46
الذين أُتي إليهم بالأعمى هم أعضاء مجلس السبعين إذ لا حق لغيرهم أن يخرج أحداً من المجمع كما فعلوا ع 34. وكان من أعضاء المجلس بعض الصدوقيين (أعمال 23: 6) ولكن أكثرهم كان من الفريسيين وهم أشد غيرة ومقاومة للمسيح فقيل للجميع «فريسيون». وعلة إتيان البعض بالأعمى إلى ذلك المجلس ظنهم أن أمراً غريباً كهذا يستحق نظر المجلس فيه. وقصد أكثرهم شكاية المسيح بإبرائه إياه في سبت وكانت عاقبة عملهم تأدية شهادة جديدة بدعوى يسوع أنه هو المسيح على لسان الأعمى الذي برئ وفرصة جديدة لتبيين المسيح صحة تعليمه.
14 «وَكَانَ سَبْتٌ حِينَ صَنَعَ يَسُوعُ ٱلطِّينَ وَفَتَحَ عَيْنَيْهِ».
ذكر البشير هذا لغايتين:
الأولى: بيان أن يسوع اعتاد أن يأتي أعمال الرحمة في السبوت وعلّم اليهود بذلك كيف يجب أن يحفظوا ذلك اليوم خلافاً لتقاليدهم.
الثانية: بيان على بغض اليهود للمسيح ومقاومتهم إياه كما ظهر منهم في هذا الأصحاح. ولم تكن مقاومتهم إياه لغيرتهم على الوصية الرابعة بل لأن يسوع أبطل تقاليدهم وخفض سلطتهم بين الشعب. انظر شرح (ص 5: 16 وشرح متّى 12: 10 وشرح لوقا 12: 11 - 16 و14: 1 - 5).
15 «فَسَأَلَهُ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً كَيْفَ أَبْصَرَ، فَقَالَ لَهُمْ: وَضَعَ طِيناً عَلَى عَيْنَيَّ وَٱغْتَسَلْتُ، فَأَنَا أُبْصِرُ».
أَيْضاً الظاهر أن المجلس سمع النبأ منقولاً عنه على ألسنة العامة فأرادوا أن يسمعوه من لسانه. أو لعل المراد أن المجلس سأله ما سأله الجيران إياه سابقاً ع 10.
فَقَالَ لَهُمْ الخ أجابهم كما أجاب الجيران أولاً إلا أنه ترك اسم يسوع واسم المكان الذي اغتسل به. ولعله لم يذكرهما لأنهما معلومان والأرجح أن علة تركه اسم يسوع معرفته أن أكثر أعضاء المجلس أعداء ليسوع فلم يرد التفصيل دفعاً لتهيجيهم.
16 «فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ: هٰذَا ٱلإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ، لأَنَّهُ لاَ يَحْفَظُ ٱلسَّبْتَ. آخَرُونَ قَالُوا: كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ خَاطِئٌ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ؟ وَكَانَ بَيْنَهُمُ ٱنْشِقَاقٌ».
ص 3: 2 وع 23 ص 7: 12 و43 و10: 19
يتبيّن من هذه الآية أنه كان المجلس حزبين الحزب الأكبر يرغب في الحكم على يسوع بأي وجه كان والأصغر يميل إليه شيئاً.
هٰذَا ٱلإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ أي ليس بنبي أرسله الله ولا بتقيٍّ. قالوا هذا مع تسليمهم بوقوع المعجزة فتكون النتيجة أنه أتاها بقوة الشيطان كما في (متّى 9: 34).
لأَنَّهُ لاَ يَحْفَظُ ٱلسَّبْتَ كان لديهم أمران ونتيجتان الأول الشفاء ونتيجته أن الشافي من الله. والثاني أن الشفاء كان في يوم السبت ونتيجته أن الشافي ليس من الله فأغمضوا عيونهم عن الأول ولم يتلفتوا إلا إلى الثاني. ولم يخطر على بالهم إمكان أن يغلطوا في حكمهم بطريق حفظ السبت فرأوا وجوب تحريم كل الأعمال حتى أعمال الرحمة في يوم السبت ولذلك حكموا أن يسوع خاطئ. ولولا بغضهم المسيح وقصدهم أن يتخلصوا من دعواه ما حكموا ذلك الحكم عليه واتخذوا الدين ستراً لحقدهم ومكرهم.
كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ خَاطِئٌ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ هذا قول الحزب الثاني الذي كان منه أناس كنيقوديموس ويوسف الرامي ويحتمل أن منهم غمالائيل فهم نظروا إلى المعجزة فقط واستنتجوا منها استحالة أن يكون المسيح خادعاً محتالاً بناء على اعتقادهم أن الله لا يهب صنع المعجزات للاثيم الماكر. وهذا وفق قول نيقوديموس سابقاً (ص 3: 2). وقد ظهر من جوابهم أنهم خائفون لأنهم لم يقولوا صريحاً أن أعمال هذا الرجل برهان على أنه نبي لكن أوردوا ما يلزم عنه هذا المعنى على سبيل الاستفهام للبحث فكأنهم قالوا انظروا هل يمكن الخاطئ رفيق الأبالسة أن يأتي عمل الرحمة وقوة كما أتى هذا.
وَكَانَ بَيْنَهُمُ ٱنْشِقَاقٌ حدث مثل هذا الأنشقاق مرتين آخريين (ص 7: 43 و10: 19).
17 «قَالُوا أَيْضاً لِلأَعْمَى: مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ».
ص 4: 19 و6: 14
قَالُوا أَيْضاً لِلأَعْمَى قال ذلك المجلس كله بغية أن يقف كل من الحزبين على ما يسند قوله.
مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ سلموا أن الأعمى الذي شُفي يعلم من أمر شافيه أكثر مما يعلمه غيره وسألوه لعدم معرفتهم ماذا تكون شهادته ولكنهم لما علموا أن شهادته مما يثبت دعوى يسوع أنه المسيح أنكر أكثرهم وقوع المعجزة وطردوا الإنسان هازئين به لتأديته تلك الشهادة. ولعل الأكثر سأل الأعمى ذلك السؤال بغية أن يكون في جوابه ما يوقع الشك في حدوث المعجزة أو ما يدل على كون يسوع أتى ذلك بالسحر.
فَقَالَ إِنَّهُ نَبِيٌّ هذا خلاف قول أكثر المجلس «هذا الإنسان ليس من الله» (ع 16). اقتنع ذلك الإنسان أن قوة الذي أبرأه سماوية وأن الشافي مرسل من الله على أنه لم يكن يعلم أنه المسيح ابن الله إذ لم يقل «النبي» بل «نبي» كأحد الأنبياء مثل إيليا وأليشع. وظهر مما ذُكر أن ذلك الرجل شجاعاً محباً للحق لأنه شهد تلك الشهادة ليسوع أمام المجلس الذي أكثر أعضائه أعداء يسوع علانية.
18، 19 «18 فَلَمْ يُصَدِّقِ ٱلْيَهُودُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى فَأَبْصَرَ حَتَّى دَعَوْا أَبَوَيِ ٱلَّذِي أَبْصَرَ. 19 فَسَأَلُوهُمَا: أَهٰذَا ٱبْنُكُمَا ٱلَّذِي تَقُولاَنِ إِنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى؟ فَكَيْفَ يُبْصِرُ ٱلآنَ؟».
فَلَمْ يُصَدِّقِ ٱلْيَهُودُ اليهود هنا الرؤساء وهم أعضاء المجلس. وعلة عدم تصديقهم عدم إرادتهم التسليم بالشهادة التي نتيجتها تمجيد يسوع. ومن أغرب الأمور أن عدم إرادة التسليم تعمي الذهن عن صحة البراهين.
دَعَوْا أَبَوَيِ ٱلَّذِي أَبْصَرَ عجز اليهود عن أن يروا شيئاً في شهادة الابن الذي كان أعمى تناقض دعوى يسوع فلجأوا إلى سؤال والديه آملين أن يكذبا وينكرا أنه ابنهما أو أنه وُلد أعمى خوفاً منهم أو إكراماً لهم. فسألوهما ثلاث مسائل رجاء أن يجدوا في جواب إحداها ما يبطل دعوى المسيح وهي «هل هذا ولدكما. وهل وُلد أعمى. وبأي واسطة أبصر».
20، 21 «20 أَجَابَهُمْ أَبَوَاهُ: نَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا ٱبْنُنَا وَأَنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى، 21 وَأَمَّا كَيْفَ يُبْصِرُ ٱلآنَ فَلاَ نَعْلَمُ. أَوْ مَنْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ فَلاَ نَعْلَمُ. هُوَ كَامِلُ ٱلسِّنِّ. ٱسْأَلُوهُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنْ نَفْسِهِ».
أظهرا صدقهما بعدم إنكار كونه ابنهما وأنه أبصر وأظهرا الجبن والضعف في ترك جواب المسئلة الثالثة على أبنهما إذ خافا أن يكرما يسوع بجوابهما. أما المجلس فأضر نفسه بهذه المسائل إذ أثبت بشهادة شاهدين آخرين أن ذلك الرجل وُلد أعمى وأبصر.
فَلاَ نَعْلَمُ (ع 21) نتج قولهما هذا عن خوفهما ولعل فيه شيئاً من الصدق إذ لم يعرفا كل أحوال الحادثة ولم يكونا شاهدا عين واستحضرها المجلس حين أبصر ابنهما ولم يكن لهم وقت كاف للاستخبار عما وقع.
هُوَ كَامِلُ ٱلسِّنِّ كان السن الكامل عند اليهود سن الثلاثين.
22 «قَالَ أَبَوَاهُ هٰذَا لأَنَّهُمَا كَانَا يَخَافَانِ مِنَ ٱلْيَهُودِ، لأَنَّ ٱلْيَهُودَ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا أَنَّهُ إِنِ ٱعْتَرَفَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ ٱلْمَسِيحُ يُخْرَجُ مِنَ ٱلْمَجْمَعِ.
ص 7: 13 و12: 42 و19: 38 وأعمال 5: 13 ع 34 وص 16: 2
لأَنَّ ٱلْيَهُودَ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا هذا اتفاق الرؤساء بين أنفسهم ولا ريب في أنهم كانوا قد أعلنوا ذلك حتى عرفه أبو الأعمى. ولم يكن في طاقة الرؤساء أن يخرجوا أحداً من المجمع لأن ذلك كان من حقوق المجلس وإنما تعاهدوا على أمل أن يقنعوا المجلس ليحكم بما أرادوا.
يُخْرَجُ مِنَ ٱلْمَجْمَعِ اي يُحرم من الحقوق الدينية والاجتماعية. وكان عند اليهود ثلاثة أصناف من الحرم.
الأول: أن يمنع المحروم ثلاثين يوماً من كل مخالطة لأقربائه.
الثاني: أن يمنع من ذلك مدة حياته ومن مخالطة كل واحد من اليهود إلا لمقتضيات الحياة الضرورية.
الثالث: فصله التام عن كل واحد من الشعب وقتله إن أمكنهم. ولم يُعلم أي صنف أرادوا هنا ولكن لا ريب في أنه كان حرماً هائلاً.
23 «لِذٰلِكَ قَالَ أَبَوَاهُ: إِنَّهُ كَامِلُ ٱلسِّنِّ، ٱسْأَلُوهُ».
هذا علة تركهما جواب المسئلة الثالثة لابنهما لأنهما لو جاوبا بشيء في شأن الشفاء لحسبه اليهود اعترافاً بصحة دعوى يسوع وأخرجا من المجمع.
24 «فَدَعَوْا ثَانِيَةً ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي كَانَ أَعْمَى، وَقَالُوا لَهُ: أَعْطِ مَجْداً لِلّٰهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ خَاطِئٌ».
يشوع 7: 19 و1صموئيل 6: 5 ع 16
الظاهر أن الرؤساء أخرجوا الأعمى من موضع الاستنطاق بعد سؤالهم أبويه «أهذا ابنكما» ع 19 وهنا استدعوه ثانية ليحملوه بالتجديف على النطق بما يفسد شهادته أو على إنكارها.
أَعْطِ مَجْداً لِلّٰهِ أي اذكر أنك في حضرة الله وتكلّم بالحق. وهذا ضرب من استحلاف الشاهد اعتاده اليهود كما يظهر من قول يشوع لعاخان «فَقَالَ يَشُوعُ لِعَخَانَ: يَا ٱبْنِي، أَعْطِ ٱلآنَ مَجْداً لِلرَّبِّ إِلٰهِ إِسْرَائِيلَ، وَٱعْتَرِفْ لَهُ» الخ (يشوع 7: 19) ومثله ما في (1صموئيل 6: 5 وإرميا 13: 6). والاستحلاف بهذا اللفظ مبنيٌّ على اعتقاد أن الله يتمجد بإظهار الحق لأنه إله الصدق والقوة والسلطان يثبت الصادقين ويعاقب الكاذبين. ومطلوب الرؤساء مع ذلك أن يكذب وينكر شهادته الاولى.
نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ خَاطِئٌ أي نحن أرباب المعرفة القادرون على تمييز الحق من الباطل اتفقنا في المجلس أنه يستحيل أن الله يهب قوة الشفاء لمن يتعدى الشريعة ع 16 فإذاً أنت كاذب فاعترف بكذبك.
25 «فَأَجَابَ: أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَٱلآنَ أُبْصِرُ».
أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ لم يسلم بأن يسوع خاطئ ولم ينكر ذلك بياناً أنه غير ملزم به.
إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً انزل هذا الأمر منزلة كل ما يعلمه لشدة أهميته حتى أنه لا أهمية لغيره من معلوماته بالنسبة إليه وهو كقول المسيح للشاب «يعوزك شيء واحد» (مرقس 10: 21 ولوقا 10: 42) وهو بالحقيقة صرح بأمرين الأول أنه كان أعمى والثاني أنه أبصر. وترك لهم الحكم بأن يسوع خاطئ فأعطى مجداً لله بثبوته على الشهادة الأولى والصدق.
يستعير الناس قول الأعمى هنا لتغيّر قلب الخاطئ عندما يؤمن. فيصح أن يقول كنت أعمى والآن أبصر أي كنت أجهل الروحيات والآن أعلمها بالاختبار.
26 «فَقَالُوا لَهُ أَيْضاً: مَاذَا صَنَعَ بِكَ؟ كَيْفَ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟».
لم ينل أعضاء المجلس مقصودهم أي حمل الأعمى على إنكار شهادته فأمروه أن يعيد القصة من أولها أملاً أن يجدوا فيها شيئاً من التناقض أو يقفوا على شيء يخطئون المسيح به أو يتخلصون به من حيرتهم. ثم أنهم رجعوا عن سؤالهم عن الواقع وأخذوا يسألونه عن الكيفية.
27 «أَجَابَهُمْ: قَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَلَمْ تَسْمَعُوا. لِمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تَسْمَعُوا أَيْضاً؟ أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تَلاَمِيذَ؟».
استثقل ذلك الرجل تكريرهم سؤاله وعرف سوء غايتهم أنها ليست الوقوف على الحق بل التشفي من المسيح بجعلهم إياه ينكر الحق الذي تحققه بالمشاهدة والاختبار.
وَلَمْ تَسْمَعُوا أي لم تصدقوا.
أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تَلاَمِيذَ قال هذا على سبيل التهكم فكأنه قال ألعل غايتكم من تكرير السؤال والفحص أن تؤمنوا به لأن فعلكم يستلزم ذلك.
28 «فَشَتَمُوهُ وَقَالُوا: أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا تَلاَمِيذُ مُوسَى».
فَشَتَمُوهُ وشتمهم ما جاء بعد هذا أي قولهم أنه تلميذ ليسوع المحتال.
أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ، وَأَمَّا نَحْنُ قابلوا يسوع بموسى وقابلوا أنفسهم بالأعمى بأنهم تلاميذ موسى وبأنه تلميذ يسوع بناء على غيرتهم في حفظ السبت الذي أمر موسى بتقديسه وبأن يسوع دنس السبت بشفائه فيه. وعلى ذلك رأوا استحالة أن يكون كلاهما (يسوع وموسى) نبيّين وأنه لا بد من أن يكون أحدهما كاذباً.
29 «نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ ٱللّٰهُ، وَأَمَّا هٰذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ».
ص 8: 14
مُوسَى كَلَّمَهُ ٱللّٰهُ وذلك يثبت أنه نبّي أخذ سلطانه ورسوليته من الله سبحانه وتعالى. وهذا من الأمور المعلومة المحققة فلا بد من أننا نحن تلاميذ موسى نُرضي الله الذي أرسله.
وَأَمَّا هٰذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ أي لا برهان على أن الله أرسله وكل أمره مجهول ولا ندري أمجنون هو أرسله إبليس أم عاقل تكلم من نفسه. وعذرهم على رفضهم المسيح هنا عكس العذر الذي أوردوه سابقاً وهو قولهم «هٰذَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَأَمَّا ٱلْمَسِيحُ فَمَتَى جَاءَ لاَ يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ أَيْنَ هُوَ» (ص 7: 27). وقولهم «من أين هو» مبني على أن أصل الإنسان دليل على طبيعته كسؤال اليهود عن معمودية يوحنا (متّى 21: 25) وكسؤال بيلاطس ليسوع «من أين أنت» (ص 19: 9).
30 «أَجَابَ ٱلرَّجُلُ: إِنَّ فِي هٰذَا عَجَباً! إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَقَدْ فَتَحَ عَيْنَيَّ».
ص 3: 10
أظهر الأعمى في هذا الجواب حكمة وشجاعة عظيمة.
إِنَّ فِي هٰذَا عَجَباً الأمر العجيب هنا أن رؤساء الشعب الروحيين الذين وظيفتهم أن يفحصوا في دعاوي المدّعين النبوءة ويحكموا بصدق الواحد وبكذب الآخر يعترفون أنهم لم يعرفوا يسوع من أين هو ومن أين سلطانه وهو أتى بمعجزة لا يستطيع أن يفعلها أحدٌ من البشر.
31، 32 «31 وَنَعْلَمُ أَنَّ ٱللّٰهَ لاَ يَسْمَعُ لِلْخُطَاةِ. وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَّقِي ٱللّٰهَ وَيَفْعَلُ مَشِيئَتَهُ فَلِهٰذَا يَسْمَعُ. 32 مُنْذُ ٱلدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَداً فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى».
أيوب 27: 9 و35: 12 ومزمور 18: 41 و34: 15 و16 و 66: 18 وأمثال 1: 28 و15: 29 و28: 9 وإشيعاء 1: 15 وإرميا 11: 11 و14: 12 وحزقيال 8: 18 وميخا 3: 4 وزكريا 7: 13
نَعْلَمُ أي نحن البشر. هذا العلم محصل غريزة الإنسان واختباره.
لاَ يَسْمَعُ أي لا يجيب السؤال ولا سيما سؤال القوة على صنع المعجزات.
لِلْخُطَاةِ أي المصرّين على خطاياهم فهو كقول داود «إِنْ رَاعَيْتُ إِثْماً فِي قَلْبِي لاَ يَسْتَمِعُ لِيَ ٱلرَّبُّ» (مزمور 66: 18 انظر أيضاً مزمور 50: 16 و109: 7 وأمثال 1: 28 و15: 8 و28: 9 وإشعياء 1: 15 و59: 1 و2 وإرميا 11: 11 و14: 12 وحزقيال 8: 18 وميخا 3: 4).
وفي استدلال الأعمى هنا ثلاث قضايا:
الأولى: المبدأ العام وهو أن الله لا يسمع للخطاة أي الأنبياء الكذبة المحتالين.
الثانية: أن الله قد سمع ليسوع لأن الذي فعله لا يمكن أن يُفعل إلا بقوة إلهية.
الثالثة: نتيجة تينك القضيتين اللتين هما مقدمتا قياس حمليّ وهي أن يسوع ليس بخاطئ بل هو من الله.
لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَداً فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى ميز فتح عيني مولود أعمى عن غيره من الآيات والعجائب التي يمكن أن تكون بوسائط بشرية ففضل بذلك يسوع على موسى وسائر الأنبياء لأنه ليس في كل أنباء الكتاب المقدس خبر أن أحداً منهم فتح عيني مولود أعمى.
33 «لَوْ لَمْ يَكُنْ هٰذَا مِنَ ٱللّٰهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً».
ع 16
مِنَ ٱللّٰهِ أي من أتقياء الله ورسله.
لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً من مثل ما صنعه من المعجزات. ومثل ذلك سمع الله لإيليا النبي في جبل الكرمل وعدم سمعه لكهنة البعل. فهذا الأعمى الجاهل أظهر بقوله حكمة في الدين أكثر من الحكمة التي أظهرها فيه رؤساء الدين الحكماء وهذا وفق قول المسيح «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ» (متّى 11: 25).
34 «قَالُوا لَهُ: فِي ٱلْخَطَايَا وُلِدْتَ أَنْتَ بِجُمْلَتِكَ، وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا! فَأَخْرَجُوهُ خَارِجا».
ع 2 وع 22
عجز الرؤساء أن يحملوا الأعمى على الكذب بالتهديد وبالتملق وخجلوا بعجزهم عن دفع حجته وشهادته الواضحة للحق وغضبوا من تجاسره على تعليمهم وتعجبه من جهلهم فانتقموا منه قولاً وفعلاً وشفوا به غيظهم من المسيح أيضاً.
فِي ٱلْخَطَايَا وُلِدْتَ أشاروا بذلك إلى عماه منذ خليقته واتخذوا ذلك دليلاً على خطيئته المخصوصة وحلول غضب الله عليه كأنه دخل العالم ولعنة الله على وجهه وهذا نقض لإنكارهم أنه وُلد أعمى ع 18.
وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا حسبوا ما قاله الأعمى في ع 31 و32 تعليماً لهم فأنِفوا وغضبوا شديداً لأنه أميّ جاهل ادّعى أنه لا يعلم ما لا يعلمه معلمو الشريعة. وأن المولود وعليه علامات الخطيئة يأخذ يعلم الفريسيين الذين هم أقدس البشر (على زعمهم).
فَأَخْرَجُوهُ خَارِجاً أي طردوه من المجلس وقطعوه من الشعب كما سبق في شرح ع 22 وكان ذلك عند اليهود مخيفاً كأنه الموت. وقدر أرباب المجلس على هذا الحكم بأكثر الأصوات وإن اعترض البعض او سكتوا. ولم يزل أعداء الحق الروحي منذ أيام الفريسيين يقاومون أهله بالشتم والحرم.
35 «فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجاً، فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ؟».
متّى 14: 33 و16: 16 ومرقس 1: 1 وص 10: 36 و1يوحنا 5: 13
الأرجح أنه مضت مدة ما بين هذه الآية والآية التي قبلها لأن شيوع خبره كذلك يقتضي مرور شيء من الزمان.
فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ سمعه ذلك باعتبار كونه إنساناً لا ينفي أنه علم ما كان بلاهوته وعرف أيضاً علة إخراجه وهي ثبوته في الاعتراف بالحق من جهة شفائه والإقرار بأن يسوع نبي.
فَوَجَدَهُ لم يذكر متى وجده ولا أين وجده لا ريب في أن المسيح طلبه لكي يعزي قلبه ويقوي إيمانه ويعلمه ويشفع شفاءه الجسدي بشفائه الروحي. وفي هذا وفق ما اختبره داود أوضحه بقوله «إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي وَٱلرَّبُّ يَضُمُّنِي» (مزمور 27: 10). وما وعد المسيح بقوله «طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ ٱلنَّاسُ، وَإِذَا أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ، وَأَخْرَجُوا ٱسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ» (لوقا 6: 22).
أَتُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ أي بالمسيح الموعود به. عبّر اليهود عن المسيح «بابن الله» بناء على ما قيل في مزمور 2: 7 و89: 27 لكنهم فضلوا أن يسموه بابن داود متوقعين أن يجلس في كرسي داود كملك أرضي (متّى 22: 42). لكن يسوع أراد أن يُظهر أن ملكوته روحي لا أرضي فسمى نفسه «بابن الله».
36 «أَجَابَ: مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟».
لم يقل ذلك لشكه بل لرغبته في المعرفة إذ لا يقر بأكثر مما يعرف. فكأنه قال نعم أني أؤمن بالمسيح المنتظر لكن لا أعرف أحداً له حق أن يُسمى بهذا الاسم. فإنه لم يرَ المسيح قبل هذا إنما سمع صوته قبل أن أبصر وعرفه أن هو الذي أبرأه إما بصوته أو بوصف الناس إيّاه له. واعتقد أنه نبي فهو قادر أن يصف له المسيح ويعلمه من هو. ويشبه سؤاله هذا سؤال شاول الطرسوسي وهو قوله «من أنت يا سيد» (أعمال 9: 5).
37 «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: قَدْ رَأَيْتَهُ، وَٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ».
ص 4: 26
صرّح المسيح بجوابه كما صرح بجوابه للمرأة السامرية (ص 4: 26) وذلك لأنه كان مستعداً لقبول كلامه.
قَدْ رَأَيْتَهُ، وَٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ أي تشاهد المسيح الآن بعينيك وتسمع صوته بأذنيك.
38 «فَقَالَ: أُومِنُ يَا سَيِّدُ. وَسَجَدَ لَهُ».
أُومِنُ يَا سَيِّدُ لا بد من أنه كان مستعداً لهذا الإيمان بفعل الروح القدس في قلبه وبتأمله في المعجزة وفي قوة الذي صنعها.
وَسَجَدَ لَهُ أي عبده باعبتار أنه ابن الله كما فعل توما بعد قيامة يسوع إذ قال «ربي وإلهي». ولم يظهر أحد مثل إيمان الأعمى سوى قليلين قبل قيامة المسيح. وبلغ ذلك الإيمان في درجات (1) أنه ذكره بقوله «إنسان يقال له يسوع» ع 11. و(2) أنه نبي ع 17. و(3) أنه من الله ع 33. و(4) أنه المسيح كما هنا.
نرى مما قيل في هذه الآية أن يسوع باعتبار كونه «نور العالم» أوضح كونه كذلك بما فعله لهذا الأعمى وهو أنه مكنه من رؤية ضوء الشمس الحقيقي بعيني جسده ورؤية شمس البر بعيني نفسه.
ولا نسمع شيئاً بعد من أمر هذا الإنسان والعجب من أن الفريسيين لم يطلبوا قتل يسوع لإبرائه ذلك الأعمى يوم السبت كما فعلوا عندما أبرأ المقعد عند بركة بيت حسدا في ذلك اليوم (ص 5: 16).
39 «فَقَالَ يَسُوعُ: لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هٰذَا ٱلْعَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ ٱلَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى ٱلَّذِينَ يُبْصِرُونَ».
ص 3: 17 و5: 22 و27 و12: 48 متّى 13: 13
لا مناقضة بين ما قيل هنا وما قيل في ص 3: 17 و12: 47 حيث قال يسوع أنه لم يأت للدينونة لأن الدينونة المذكورة هنا غير الدينونة المذكورة هناك. وعاقبة التي هنا عمى قلوبهم لأنهم أبوا أن ينظروا الحق. وعاقبة التي هنالك هلاك الأشرار في جهنم فالمسيح أتى أولاً للخلاص لا للدينونة لكن أعمال الناس أوجبت الدينونة عليهم طبعاً وهو يأتي ثانية للدينونة لا للخلاص. فقوله هنا متعلق بقوله «أنا هو نور العالم» وهو بيان نتيجة إيمان البعض به ورفض البعض إياه. فالمتسول الأعمى آمن به فانتقل من الظلمة الجسدية أولاً إلى النور الجسدي ثم من الظلمة الروحية إلى النور الروحي.
لِدَيْنُونَةٍ أي لتمييز أناس عن أناس وإعلان ما في قلوب الفريقين. وكان إتيانه امتحاناً لباطن كل إنسان. وهذا كقول سمعان الشيخ لمريم «إِنَّ هٰذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ الخ» (لوقا 2: 43 و35). وقول الرسول أن المسيح «صار رأس الزاوية» للبعض «وحجر صدمة وصخرة عثرة» لآخرين (1بطرس 2: 6 - 8) وكذا قول بولس في (2كورنثوس 2: 16). وحين أتى إلى العالم اجتمع إليه كل أبناء النور ذوي الأفكار الروحية وأما الجسدانيون أبناء هذا الدهر فانضموا إلى أعدائه من جنود ملكوت الظلمة.
حَتَّى يُبْصِرَ ٱلَّذِينَ لاَ يُبْصِرُونَ أي الذين يحسبهم الفريسيون عمياناً وهم الذين سماهم يسوع «بالأطفال» (متّى 11: 25 ولوقا 10: 21) وهم المتواضعون البسطاء الجهلاء الذين يطلبون المعرفة كالمرأة السامرية والأعمى الذي فتح عينيه. ومعنى قوله «يبصر الخ» ينالون البصيرة الروحية النيرة ويرون طريق الحق والواجبات والخلاص (ص 10: 9).
وَيَعْمَى ٱلَّذِينَ يُبْصِرُونَ أي الذين يحسبون أنفسهم من أهل النظر وهم الفريسيون المتكبرون المبررون أنفسهم الذين يظنون أن لهم كمال النور الروحي وأنهم لا يحتاجون إلى النور الذي من فوق يدعون أن لهم مفتاح المعرفة (لوقا 11: 52) وأنهم هم الحكماء والفهماء المذكورون آنفاً (متّى 11: 25 انظر أيضاً رومية 2: 17 و 1كورنثوس 1: 21 و3: 18) وهذا يصدق على أكثر الأمة اليهودية. ومعنى قوله «يعمي» يتبين لهم عماهم ويؤخذ منهم من النور ما يظهر أنه لهم ويًُتركون إلى الظلمة التي اختاروها وذلك قصاص كاف لهم لأنهم يأكلون من ثمر أعمالهم إذ أحبوا الظلمة أكثر من النور. وما قاله يسوع هنا يصدق على كل فرد وأمة. والقسم الأول من هذه الآية يصدق بالأكثر على الأمم والقسم الثاني يصدق بالأكثر على اليهود.
40 «فَسَمِعَ هٰذَا ٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا لَهُ: أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً عُمْيَانٌ؟».
رومية 2: 19
أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً عُمْيَانٌ هذا الاستفهام ضرب من التهكم كأنهم قالوا نحن علماء الشريعة فكيف تخاطبنا بمثل ذلك أتحسبنا عمياً بالروح. وهو إنكار أيضاً فكأنهم قالوا لسنا بالعميان.
41 «قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ، فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ».
ص 15: 22 و24
لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ العميان هنا إما عمي البصيرة وإما الشعور بالعمى الروحي. فإن كان قصد المسيح الأول كان المعنى أنكم لو كنتم عمي البصيرة حقيقة لا نور عقل لكم ولا نور الضمير أو نور الوحي لم تُحسب عليكم مسؤولية ولا خطيئة لأن المسؤولية على قدر الإدراك والمعرفة فالذي لا واسطة له لمعرفة الحق ولا قدرة على التمييز بين الحلال والحرام لا يدينه الله على عمايته. فكان خيراً لكم لو كنتم كما ذُكر إذ لا يكون عليكم حساب. وإن كان قصده الثاني فالمعنى لو شعرتم بجهلكم واعترفتم به لكنتم بلا خطيئة بالنسبة إلى خطيئتكم الآن لأنه يُرجى حينئذ أنكم تبصرون في المستقبل إذ أنا أشفيكم ولكن ما دمتم تظنون أنكم تبصرون أكثر من غيركم وتغمضون عيونكم عن الحق والإعلان السماوي ولا تسألون شفائي فلا رجاء فيكم.
وَلٰكِنِ ٱلآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ أي أنتم أنفسكم تقرون أن لكم وسائط معرفة الحق فإذاً لا حجة لكم إن ادعيتم أنكم رفضتموني لجلهكم أني المسيح إذ لكم النبؤات المتعلقة بي ومعجزاتي وكلماتي ونور العقل ونور الضمير ومع كل هذه الوسائط والبراهين أمام عيونكم حولتم نظركم عن الحق أني أنا المسيح.
فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ لأنه ثبت أن عمايتكم اختيارية وأنكم جنيتموها على أنفسكم فلم تُشف. وذلك لأنكم لم تؤمنوا بالمسيح وتطلبوا الشفاء منه وهو الطبيب الوحيد لهذا الداء. وإنما كانت خطيئة هؤلاء اليهود باقية لأنها هي التجديف على الروح القدس الذي لا مغفرة له لأنه إنكار الحق الواضح. ومعنى بقائها أنه لا مغفرة لها ولا فداء ولا شفاعة.
لا تزال الحال حال الأمة اليهودية إلى هذا اليوم إذ لم تزل الخطيئة العظيمة باقية عليهم وهي رفضهم يسوع الناصري مسيحهم.
1 «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ٱلَّذِي لاَ يَدْخُلُ مِنَ ٱلْبَابِ إِلَى حَظِيرَةِ ٱلْخِرَافِ، بَلْ يَطْلَعُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَذَاكَ سَارِقٌ وَلِصٌّ».
إرميا 23: 1 إلى 4 وحزقيال 34 وزكريا 11: 4 إلى 17
لم يتحقق هل من علاقة بين هذا الأصحاح والذي قبله أولاً. وإن كان هنالك علاقة فهي أن المسيح وصف الفريسيين الذين هم رؤساء الشعب بأنهم «قادة عميان» في الأصحاح التاسع. وأخذ يصفهم في هذا الأصحاح بأنهم رعاة لرعية الله يهملون واجباتهم ويظلمون الرعية. ولا يبعد عن الظن أن المسيح تكلم بذلك وهو خارج أورشليم وأمامه حظيرة غنم والرعاة. ولا يلزم أن هذا الفرض هو الداعي إلى ضرب المثل لأنه كثيراً ما عبر في العهد القديم عن الله وشبعه بالراعي والغنم وعن رؤساء إسرائيل بالرعاة. وكان أعظم مشهوري الإسرائيليين وأبطالهم رعاة كإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وداود (انظر مزمور 23 وإشعياء 40: 11 الخ).
ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ ذكر الحق مكرراً كذلك في هذه البشارة أربعاً وعشرين مرة وقصد بها دائماً بيان أهمية الكلام وتأكيده.
ٱلَّذِي لاَ يَدْخُلُ مِنَ ٱلْبَابِ إِلَى حَظِيرَةِ ٱلْخِرَافِ الخ المقصود «بالحظيرة» هنا كنيسة الله المنظورة وكانت يومئذ الشعب اليهودي. كما يظهر من (إرميا 23: 1 - 4 وحزقيال 34: 1 - 19 و37: 24 وزكريا 11: 4 - 17). والذين لم يدخلوا من الباب بل طلعوا من مكان آخر هم رؤساء الكهنة والفريسيون الذين استولوا يومئذ على شعب الله ولم يتصرفوا بسلطانهم كما يقتضيه خير الشعب. دعوا أنفسهم رعاة وأدخلوا إلى الحظيرة من أرادوا وطردوا منها من شاؤوا وادعوا انهم مفسروا كلام الله وأنهم يغذون به رعية الله لكنهم كانوا بالحقيقة متكبرين محبين لأنفسهم لا يسألون عن حاجات الشعب. فأظهروا حقيقتهم بمعاملتهم الأعمى الذي شفاه المسيح بأن طردوه من المجمع (ص 9: 34) فوجد المسيح هذا الخروف الضال واعتنى به.
فَذَاكَ سَارِقٌ وَلِصٌّ قصد المسيح بذلك الفريسيين لأن أعمالهم في رعية الله كانت أعمال سراق ولصوص في حظيرة الغنم. والفرق بين السارق واللص هنا أن الأول يدخل الحظيرة بالمكر خفية والآخر يدخل إجباراً وعلانية. وكان أولئك الرؤساء يشبهون الاثنين وهم لا يستحقون وظائفهم مضرون ظالمون أهل خداع وجور. وليس مقصود المسيح أن ينكر عليهم حق الرئاسة بناء على أن الكهنة منهم لم يكونوا من أولاد هارون الذين عينهم الله كهنة وعلى أنه ليس للفريسيين منهم حقوق سياسية لكنه قصد أن صفاتهم لا تؤهلهم لأن يكونوا مرشدي الشعب الروحيين ومعلميهم ورؤسائهم. والمقصود هنا «بالموضع الآخر» غير باب الحظيرة الذي يدخل منه الراعي وهو ما فوق الجدران. والمقصود بالذي يطلع من ذلك «الموضع الآخر» هو من لم يدع دعوة روحية إلى أن يرأس الشعب إنما اتخذ الرئاسة بالميراث أو حباً بالربح والسلطان والكرامة والراحة.
2 «وَأَمَّا ٱلَّذِي يَدْخُلُ مِنَ ٱلْبَابِ فَهُوَ رَاعِي ٱلْخِرَافِ».
وَأَمَّا ٱلَّذِي يَدْخُلُ مِنَ ٱلْبَابِ ظن بعضهم أن المقصود «بالذي يدخل من الباب» المسيح نفسه لكن المسيح قال «أنا هو الباب» ع 9 فلنا من ذلك أن المقصود بذلك الداخل المعلم الصادق الأمين. وإيمانه بالمسيح ومحبته إياه وطاعته له وحده تؤهله لوظيفته فمثل هذا يدعوه المسيح إلى وظيفته ويعينه ويُعده لممارستها.
فَهُوَ رَاعِي ٱلْخِرَافِ هذه إحدى العلامات التي يُميز بها الراعي عن السارق واللص.
3 «لِهٰذَا يَفْتَحُ ٱلْبَوَّابُ، وَٱلْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ، فَيَدْعُو خِرَافَهُ ٱلْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ وَيُخْرِجُهَا».
أعمال 14: 27 و16: 6 و7 و 1كورنثوس 16: 9 و2كورنثوس 2: 12 وكولوسي 4: 3 ورؤيا 3: 8
لِهٰذَا يَفْتَحُ ٱلْبَوَّابُ بواب الحظيرة إما أحد الرعاة الذين يرعون الغنم نهاراً ويحرسونها ليلاً في نوبتهم أو مستأجر لتلك الخدمة خاصة. فهو يعرف الراعي عند قدومه ويُدخله. وعلى ذلك يكون البواب ليس من ضروريات المثل إنما هو تكملة له لكونه الواقع. والدليل على ذلك أن المسيح لم يتكلم بعد على البواب كما تكلم على الباب والراعي. وذكر «البواب» هنا لأنه من جملة المميزات للراعي الحقيقي أنه لا يحتاج إلى دخول الحظيرة مكراً أو إجباراً بل أنه صديق وله حق أن يدخل. وفسر بعضهم «البواب» بالروح القدس الذي يدعو الرعاة الحقيقيين ويفتح قلوب الناس لقبول تعليمهم كما جاء في (أعمال 17: 27 و2كورنثوس 2: 12) وفسره بعضهم بالآب.
وَٱلْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ عندما يدعوها للخروج إلى المرعى وللرجوع منه إلى الحظيرة. والمعنى الروحي أن الشعب يقبلونه معلماً روحياً أميناً لاعتبارهم أن تعليمه من الله وأنه موافق لحاجاتهم وأنه محب لنفوسهم وأنه أمينٌ في وكالته. ويتضمن سمع صوته الإصغاء والطاعة.
فَيَدْعُو خِرَافَهُ ٱلْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ هذا دليل على أنه هو الراعي لأنه لو لم يكن كذلك ما عرف تلك الأسماء. والمعنى الروحي أن المعلم الديني يعرف كل الشعب الذي هو راعيه واحتياجاته المخصوصة لكي ينصحه أو يوبخه أو يعزيه أو يأتي غير ذلك مما تقتضيه الأحوال. وأشار بقوله «الخاصة» إلى الحصة الموكل بإرشادها من رعية المسيح الجامعة.
وَيُخْرِجُهَا إلى المرعى والماء على وفق الراعي الحقيقي في (حزقيال 3: 1) وعلى وفق الراعي الروحي في (مزمور 23: 2). والمراد «بالإخراج» هنا فعل المعلم بغية نفع جماعته بتحصيلها المعرفة الدينية والبركة السماوية. وما قيل هنا من صفات الراعي الأمين يوافق ما قاله موسى للرب «لِيُوَكِّلِ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ أَرْوَاحِ جَمِيعِ ٱلْبَشَرِ رَجُلاً عَلَى ٱلْجَمَاعَةِ يَخْرُجُ أَمَامَهُمْ وَيَدْخُلُ أَمَامَهُمْ وَيُخْرِجُهُمْ وَيُدْخِلُهُمْ، لِكَيْلاَ تَكُونَ جَمَاعَةُ ٱلرَّبِّ كَٱلْغَنَمِ ٱلَّتِي لاَ رَاعِيَ لَهَا» (عدد 27: 16 و17 انظر أيضاً 1صموئيل 17: 34 - 37 و2صموئيل 12: 3).
4 «وَمَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ ٱلْخَاصَّةَ يَذْهَبُ أَمَامَهَا، وَٱلْخِرَافُ تَتْبَعُهُ، لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَه».
وَمَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ إما بصوته وإما بيده كل ما لم يسمع صوته منها.
يَذْهَبُ أَمَامَهَا هذا عمل الراعي الحقيقي دائماً وهو يقود الغنم إلى المرعى. كذلك رعاة النفوس الأمناء يقودون النفوس إلى المسيح وإلى كلامه لإفادتهم وذلك بواسطة تعليمه إياهم وكونه قدوة لهم. ويتمثل بذلك بالمسيح الراعي العظيم الذي ذهب أمام شعبه في طريق التواضع وإنكار الذات والطاعة لأبيه وبجولانه يعمل خيراً وفي حمل صليبه ودخوله القبر ثم صعوده إلى السماء.
وَٱلْخِرَافُ تَتْبَعُهُ أي يثق الشعب بتعليمه ويعتقد صحة تفسيره لكلام الله وأنه شاهد أمين بكل مشورة الله.
لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ هذا زيادة على ما قيل قبلاً أنها تسمع صوته ع 3 وفي ذلك إشارة إلى اختبار الخراف لأمانته.
5 «وَأَمَّا ٱلْغَرِيبُ فَلاَ تَتْبَعُهُ بَلْ تَهْرُبُ مِنْهُ، لأَنَّهَا لاَ تَعْرِفُ صَوْتَ ٱلْغُرَبَاء».
ع 1
وَأَمَّا ٱلْغَرِيبُ أي المعلم الخادع. ولا فرق بينه وبين السارق واللص المذكورين (آنفاً ع 1) إلا في درجات الضرر.
فَلاَ تَتْبَعُهُ هذا عادة الغنم بالطبع كما نعلم ذلك بالاختبار. والمعنى أن رعية المسيح المتعلمة بكلامه وروحه تميز غالباً المرشد الحقيقي من المرشد المحتال. وذلك وفق قول الرسول «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَكُمْ مَسْحَةٌ مِنَ ٱلْقُدُّوسِ وَتَعْلَمُونَ كُلَّ شَيْءٍ» (1يوحنا 2: 20).
بَلْ تَهْرُبُ مِنْهُ أي لا تصغي إلى قوله خوفاً من الضلال لتحققها أن قصده بدعوتها قصد اللص في الليل.
لأَنَّهَا لاَ تَعْرِفُ صَوْتَ ٱلْغُرَبَاءِ أي لا تعتبر صوتهم صوت الأصحاب. وقصد المسيح «بالغرباء» هنا الفريسيين المتكبرين محبي الذات غير المحبين للحق فإنه كان للفريسيين أتباع كثيرة من أمثالهم لكنهم لم يكونوا من خراف المسيح.
6 «هٰذَا ٱلْمَثَلُ قَالَهُ لَهُمْ يَسُوعُ، وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مَا هُوَ ٱلَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُمْ بِهِ».
هٰذَا ٱلْمَثَلُ الكلام هنا غير جار على سنن المثل تماماً. وإنما سمي مثلاً لأنه مستعار لمعنى روحي.
فَلَمْ يَفْهَمُوا الخ كلامه في الرعاة والخراف واضح في نفسه والذين لم يفهموه منه أنه قصدهم «بالسارق» و «اللص» و «الغرباء» لظنهم أنه ما ساقه إلى ذلك إلا ما يحدث عادة للرعاة والخراف فإن كبرياءهم أعمت أذهانهم عن إدراك معناه.
7 «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَنَا بَابُ ٱلْخِرَاف».
فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضا لأن هذا القول مكرر القول السابق وأبسط إيضاح لما لم يفهموه منه وأظهر بذلك طول أناته وتنازله.
إِنِّي أَنَا بَابُ ٱلْخِرَافِ معنى المسيح بذلك أن الإيمان به واسطة دخول الكنيسة الحقيقية لمعلمي الديانة واتباعها كما أن باب الحظيرة واسطة دخول الخراف والرعاة إليها. وقوله هنا يتضمن أنه الوسيط بين الله والناس بناء على استحقاقه وعمله وشفاعته وتعيين الله إياه. وسترى شرح ذلك أيضاً في ع 9.
8 «جَمِيعُ ٱلَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ وَلُصُوصٌ، وَلٰكِنَّ ٱلْخِرَافَ لَمْ تَسْمَعْ لَهُمْ».
ص 8: 44
جَمِيعُ ٱلَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ وَلُصُوصٌ ليس معناه أن كل الأنبياء والمعلمين من إبراهيم وموسى إلى يوحنا المعمدان هم كذلك بل أن أولئك هم الذين أتوا قبله معلمين في الدين وادعوا أنهم باب الخراف ولم يدخلوا بواسطته كالفريسيين وأمثالهم من رؤساء الشعب. ووصفهم بالسرقة واللصوصية لأن غايتهم أن يمجدوا أنفسهم ويظلموا الشعب. جلسوا على كرسي موسى ليبطلوا وصية الله بتقاليدهم ومنعوا الشعب من قبول يسوع المسيح الذي هو غاية الناموس فصدق عليهم قوله تعالى «وَيْلٌ لِلرُّعَاةِ ٱلَّذِينَ يُهْلِكُونَ وَيُبَدِّدُونَ غَنَمَ رَعِيَّتِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ الخ» (إرميا 23: 1 - 4). وقوله «وَيْلٌ لِرُعَاةِ إِسْرَائِيلَ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَرْعَوْنَ أَنْفُسَهُمْ. أَلاَ يَرْعَى ٱلرُّعَاةُ ٱلْغَنَمَ؟ تَأْكُلُونَ ٱلشَّحْمَ وَتَلْبِسُونَ ٱلصُّوفَ وَتَذْبَحُونَ ٱلسَّمِينَ وَلاَ تَرعَوْنَ ٱلْغَنَمَ الخ» (حزقيال 34: 2 - 6).
ويشمل قوله «الذين أتوا قبلي» كل من ادعى أنه المسيح.
ٱلْخِرَافَ أي شعب الله من الأتقياء المتواضعين كسمعان الشيخ وحنة النبية ووالدي المعمدان نعم إن أكثر الشعب كان قد فسد لكن بقي منه بقية من الأمناء (رومية 11: 3 و4) وجه الشبه بين المسيحيين والخراف بيّن في شرح (ع 27).
لَمْ تَسْمَعْ لَهُمْ أي لم تقبل تعليم أولئك المرائين ولم تسلك بمقتضى أوامرهم ولا يلزم من ذلك أن الضلال لا يدخل الكنيسة أو أن شعب الله لا يسقط وقتاً بخداع الرؤساء بل أنه إذا ضل أو سقط يرجع إلى الحق. فكما أن الولد يعرف صوت أبيه كذلك أولاد الله يعرفون صوت الله الذي يخاطبهم بروحه وبكلامه ويخدم دينه ويميّز بين المدعين منهم كذباً أنهم يتكلمون باسم الرب والأمناء الصادقين.
9 «أَنَا هُوَ ٱلْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعى».
ص 14: 6 وأفسس 2: 18 عدد 27: 16 و17
أَنَا هُوَ ٱلْبَابُ هذا كقوله «أنا نور العالم» «وأنا خبز الحياة» و «أنا الطريق والحق والحياة» وهو من معلنات المسيح العظيمة من جهة نفسه قصد به على الخصوص أن الرعاة الصادقين يدخلون كنيسته بواسطته وحده ويقامون للخدمة الدينية فيختارون ذلك محبة له ويخدمون الرعية إكراماً له بالروح الذي هو خدمها به فيسألونه دائماً الإرشاد في أعمالهم.
ويتضمن قوله هذا أن المسيح هو الواسطة الوحيدة التي بها يستطيع الخطأة أن يأتوا إلى الله والسماء وينالوا الأمن والراحة وكل ما يحتاجون إليه.
إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ بسمعه صوتي الذي يدعوه وتأثير روحي القدس في قلبه وبحفظه تعليمي وباقتدائه بي وباتكاله على بري وفدائه بدمي. وهذا وفق قول الرسول «لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى ٱلآبِ» (أفسس 2: 18).
فَيَخْلُصُ انظر 5: 24.
وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ غاية الخراف في الدخول إلى الحظيرة الأمن من الخطر خارجاً وغايتها في الخروج المرعى. ومعنى الفعلين كلهيما الحصول على الأمن والتمتع بالحرية والشبع. والمعنى الروحي أن شعب الله يجد في كنيسة الله الاتحاد بالمسيح والتمتع بمحبته والصيانة من أعداء النفس والحصول على الحرية الدينية والاطمئنان وبالإجمال النجاة من كل نتائج الخطيئة.
وَيَجِدُ مَرْعىً أي تعليماً روحياً وتعزية وتقوية إيمان وفقاً لقول النبي «ٱلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ. فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ ٱلرَّاحَةِ يُورِدُنِي الخ» (مزمور 23: 1 - 4).
وما قاله المسيح هنا في خدمته للكنيسة لا يزال يأتيه الآن بواسطة روحه القدوس ورعاتها القسوس الذين يرسلهم. فيجب عليهم أن يتمثلوا به لأنه هو الراعي الصالح.
10 «ٱلسَّارِقُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ، وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ».
لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ وصف المسيح الفريسيين سابقاً بأنهم سراق ولصوص وأوضح هنا مقصودهم في الترأس على الشعب وهو نفع أنفسهم وتسلطهم وتحصيل الكرامة والغنى فيضرون بذلك الشعب لأن سيرتهم وتعليمهم من مهلكات نفوس الرعية وأشبهوا بأعمالهم الشيطان اللص الكبير الذي دخل فردوس الله خفية وسرق من الإنسان قداسته وحياته وتركه عرضة للخطيئة والموت.
وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ أظهر المسيح الفرق العظيم بينه وبين رؤساء الدين عند اليهود بمقابلة مقصوده من مجيئه إلى العالم بمقصودهم من ترأسهم على الشعب. فهم أتوا ليميتوا الناس وهو أتى ليحييهم. والحياة التي منحها للعالم هي الحياة الروحية على هذه الأرض والحياة الأبدية في السماء (ص 5: 24 وص 6: 50 و51). وأكمل يسوع ذلك المقصود بأربعة أمور:
الأول: إعلانه أن الحياة التي أتى ليمنحها حياة روحية وأن الناس في أشد الاحتياج إليها.
الثاني: اشتراؤه تلك الحياة للناس بموته على الصليب.
الثالث: دعوته الناس إلى الإتيان إليه وقبول الحياة منه.
الرابع: هبته تلك الحياة للمؤمنين به.
وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ هذا كقوله «مِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ» (ص 1: 16). ومعنى الجملة أن المسيح لا يكتفي بأن يهب لنا ما هو ضروري للنجاة من جهنم والحصول على الحياة الأبدية بل يعطينا ما يجعل تلك الحياة في أعلى درجات السعادة ويتضمن ذلك راحة الضمير التامة وتأكيد مغفرة الخطايا ومصالحة الله والتبرير التام والوقاية من السقوط بالتجربة والتقديس الذي يُقبل عند بلوغ السماء.
فالحياة الروحية التي وهبها المسيح للمؤمنين به أفضل من الحياة التي وهبها قبل مجيئه للأتقياء كإبراهيم وموسى وداود وأمثالهم وأفضل من الحياة التي فقدها آدم بمعصيته لانها كانت قابلة الفقدان. وأما الحياة التي وهبها المسيح فأبدية لا تُفقد ولأن الحياة التي ينالها المؤمن بإيمانه بالمسيح أعظم من الحياة التي ينالها باستحقاقه لو استطاع أن يثبت في القداسة الأصلية.
11 «أَنَا هُوَ ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ، وَٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ ٱلْخِرَافِ».
إشعياء 40: 11 وحزقيال 34: 12 و23 و37: 24 وعبرانيين 13: 20 و1بطرس 2: 25 و5: 4
أَنَا هُوَ ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ أي لي كل الصفات المختصة بالراعي الصالح فأحب رعيتي وأنا مستعد أن أفعل كل شيء تحتاج إليه من الخير والصيانة وأنا رئيس كل الرعاة الروحيين الأمناء فيجب عليهم أن يقتدوا بي. وأكد المسيح أنه يكون لشعبه كما يكون الراعي الأمين لخرافه وهذا يتضمن ثلاثة أشياء:
الأول: أنه يعتني بإعداد كل ما يحتاج إليه.
الثاني: أنه حنون وشفوق بسياسته لها.
الثالث: أنه حريص على حمايتها ووقايتها من الخطر.
يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ ٱلْخِرَافِ هذه العلامة المميزة للراعي الصالح من غيره وهي أنه مستعد أن يخاطر بحياته لكي يحمي غنمه كما فعل داود في وقاية خرافه من الدب والأسد (1صموئيل 17: 34 و35). وكما قال يفتاح في خدمته لشعب إسرائيل «لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّكُمْ لاَ تُخَلِّصُونَ، وَضَعْتُ نَفْسِي فِي يَدِي وَعَبَرْتُ الخ» (قضاة 12: 3). فالمسيح قال أنه أتى لكي ينجي رعيته الروحية من الموت الأبدي بوضع حياته من أجلها ع 15 وبذلك أكمل النبوءة القائلة «أَمَّا ٱلرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِٱلْحُزْنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ» (إشعياء 53: 10). وقال المسيح مثل قوله هنا في (ع 15 و17 و18 وص 13: 37 و38 وص 15: 13).
12، 13 «12 وَأَمَّا ٱلَّذِي هُوَ أَجِيرٌ، وَلَيْسَ رَاعِياً، ٱلَّذِي لَيْسَتِ ٱلْخِرَافُ لَهُ، فَيَرَى ٱلذِّئْبَ مُقْبِلاً وَيَتْرُكُ ٱلْخِرَافَ وَيَهْرُبُ، فَيَخْطُفُ ٱلذِّئْبُ ٱلْخِرَافَ وَيُبَدِّدُهَا. 13 وَٱلأَجِيرُ يَهْرُبُ لأَنَّهُ أَجِيرٌ، وَلاَ يُبَالِي بِٱلْخِرَافِ.
زكريا 11: 16 و17
قابل المسيح في هاتين الآيتين عمل الراعي الذي يرعى الغنم بالأجرة بعمل الذي يرعاها وهي له. فالأجير لا ينفق شيئاً على الرعية إنما يعتني بها لمجرد أجرته وإن فقد منها شيء لا يخسر فإذا أتى ذئب ليخطف لا يعرض نفسه للخطر بمقابلته بل يهرب خوفاً من الموت ورغبة في الحياة ويترك الغنم تتبدد وتُفترس. وهذا الوصف يصدق على أكثر الأجراء وأما يعقوب وإن كان أجيراً فحفظ خراف لابان بكل أمانة واعتناء (تكوين 31: 38 - 40). والمعنى أن الذين يرعون شعب الله بغية الربح الدنيوي ليسوا بمستعدين أن ينكروا أنفسهم ويخاطروا بوظائفهم وراحتهم وصيتهم وكسبهم وحياتهم لحفظ الكنائس من أعدائها الروحية. فأمثال هؤلاء لم يدعهم الروح القدس إلى خدمة كنيسته ولم يخدموا الرعية حباً أن يخلصوا نفوسهم فأزمنة الخطر تمتحنهم وتظهر جبنهم.
وكان الفريسيون ورؤساء الكهنة كالأجراء رغبوا في نفع أنفسهم فقط ولم يبالوا بنفوس الشعب ولم يريدوا أن يحموها من تجارب إبليس وغيرها من الأخطار الروحية فلذلك كان الشعب الإسرائيلي عند مجيء المسيح كرعية بلا راع (مرقس 6: 34). فإن قيل ما الفرق بين الأجير في هذه الآية والسارق واللص في الآية الأولى قلنا الفرق في درجة الشر والمراد بكليهما الفريسيون فإن بعض الفريسيين بمنزلة الأجير يحبون أنفسهم فيخدمون الشعب للربح الدنيوي وهم جبناء زمن الخطر وبعضهم بمنزلة السارق واللص في أنهم مضرون محتالون ظالمون.
فَيَرَى ٱلذِّئْبَ مُقْبِلاً اقتصر على ذكر الذئب دون سائر المفترسات لأنه العدو المشهور للغنم. واستُعير هنا لكل الأعداء الروحيين الذين يضرون النفوس بتعاليمهم الفاسدة ويهلكونها. وصف المسيح الأنبياء الكذبة بأنهم كذئاب خاطفة (متّى 7: 15). وقال في الأثني عشر «هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ» (متّى 10: 16) وقال في الرسل السبعين «هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلاَنٍ بَيْنَ ذِئَابٍ» (لوقا 10: 3). وقال بولس لقسوس كنيسة أفسس «إَنِّي أَعْلَمُ هٰذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذَهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى ٱلرَّعِيَّةِ» (أعمال 20: 29). ولا يلزم من قول المسيح هنا أنه لا يجوز قط للراعي الروحي أن يهرب لحفظ حياته لأنه قد يجب عليه ذلك في بعض الأوقات فإن المسيح قال لرسله «مَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ فَٱهْرُبُوا إِلَى ٱلأُخْرَى» (متّى 10: 23). وبولس هرب من دمشق خفية (أعمال 9: 25) وهرب هو وبرنابا من أيقونية (أعمال 14: 6). ولكن يجب على الراعي الأمين أن يستعد لاحتمال الخطر إذا كان ذلك ضرورياً لخير الرعية. وهذا كان من صفات بولس وبرنابا بشهادة كنيسة أورشليم وهي قولها «مَعَ حَبِيبَيْنَا بَرْنَابَا وَبُولُسَ رَجُلَيْنِ قَدْ بَذَلاَ نَفْسَيْهِمَا لأَجْلِ ٱسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (أعمال 15: 25 و26).
فَيَخْطُفُ ٱلذِّئْبُ ٱلْخِرَافَ وَيُبَدِّدُهَا أي يخطف البعض ويفرق الباقي.
14 «أَمَّا أَنَا فَإِنِّي ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ، وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي».
2تيموثاوس 2: 19
أَمَّا أَنَا فَإِنِّي ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ هذا مكرر ما قيل في الآية الحادية عشرة بياناً لأهمية وظيفة المسيح الراعوية مع ذكر شيء من الأعمال المختصة بها مما لم يذكره قبلاً وزيادة إيضاح الفرق بينه وبين الفريسيين رعاة الشعب الطالحين.
أَعْرِفُ خَاصَّتِي من صفات الراعي الأمين أن يعرف كل فرد من غنمه كذلك المسيح يعرف كل شخص من شعبه. وفي كلامه هنا دلالة على كمال اتحاده برعيته بناء على محبته واتخاذه طبيعة بشرية كطبيعتهم فإنه يعرف المؤمنين به أصدقاء ويعرف ضيقاتهم وتجاربهم وضعفهم وقصدهم اتباعه واحتياجاتهم كل يوم إلى مساعدته لهم على القيام بما يجب عليهم وعلى احتمال مصائبهم. وهذا وفق ما قاله المسيح لكل من كنائس آسيا السبع (رؤيا ص 2 و3). وهذا خلاف ما يقوله لمن ليسوا من خاصته فإنه يقول لهم «إني لم أعرفكم قط» (متّى 7: 23).
وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي المؤمنون بالمسيح يعرفون المسيح صديقاً ومخلصاً ويعرفون احتياجهم إليه ورأفته عليهم بناء على اختبارهم عنايته وحمايته وسمعه صلواتهم وعلى هذا الاختبار قال بولس الرسول «إَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ، وَمُوقِنٌ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي» (2تيموثاوس 1: 12).
15 «كَمَا أَنَّ ٱلآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ ٱلآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ ٱلْخِرَافِ».
متّى 11: 27 ص 15: 13
كَمَا أَنَّ ٱلآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ ٱلآبَ هذا تفسير لما قيل في ع 14 وتقرير له. قابل المسيح معرفته بالمؤمنين ومعرفة المؤمنين به بمعرفته بالآب ومعرفة الآب به. وقوله هنا بمعنى ما قال في (متّى 11: 27 ولوقا 10: 22). وهذه الحقيقة من الحقائق التي لا يستطيع العقل البشري إدراك كنهها.
وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ ٱلْخِرَافِ لكي تنجو من الموت. هذه صفة أخرى من صفات المسيح باعتبار راعويته فإنه علاوة على معرفته المؤمنين به مستعد أن يموت عنهم فلذلك أتى إلى العالم وهو على وشك أن يأتي ذلك حينئذ. وأشار بقوله هنا إلى عزمه على أن يسفك دمه على الصليب كفارة عن الناس وفداء لهم من الخطيئة والموت وذلك أعظم برهان على محبته لهم بدليل قوله «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هٰذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ» (ص 15: 13).
16 «وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِد».
إشعياء 56: 8 وص 11: 52 وأعمال 18: 10 حزقيال 27: 22 وأفسس 2: 14 وعبرانيين 13: 20 و1بطرس 2: 25
وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ أي الذين هم أعضاء كنيستي وأصدقائي وشعبي. قال المسيح أن أولئك الخراف له لأن الآب أعطاه إياها منذ الأزل في عهد الفداء فهو يحسبها له وإن لم تكن قد آمنت به أو سمعت باسمه وهي تعبد الأوثان حينما تكلم المسيح. وبهذا المعنى قول المسيح لبولس في أمر أهل كورنثوس وهم لم يزالوا وثنيين «إَنَّ لِي شَعْباً كَثِيراً فِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةِ» (أعمال 18: 10).
لَيْسَتْ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحَظِيرَةِ أي ليست من اليهود. وأشار بذلك إلى من قصد خلاصهم من الأمم. وهذه الحظيرة الثانية أكبر من الحظيرة الأولى كثيراً. وقد جاءت النبوءة بدعوة الأمم في بعض أسفار العهد القديم (إشعياء 53: 13 وميخا 4: 2). وتمت هذه النبوءة بإيمان ألوف وربوات من الأمم منذ يوم قوله ذلك إلى هذه الساعة.
يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً قال «ينبغي» لوجوب أن يتمم مقاصد الآب ونبوءات العهد القديم ويدرك رغبة قلبه في ذلك. ويأتي بتلك الخراف إلى كنيسته على الأرض ثم إلى ملكوته في السماء. ولا يأتي بها بتبشيره بنفسه بل بواسطة رسله ومبشريه وسائر خدم دينه وبإنجيله وروحه.
يمكننا أن نتخذ كلام المسيح هنا جواباً لقول اليهود «إِلَى أَيْنَ هٰذَا مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ... أَلَعَلَّهُ مُزْمِعٌ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى شَتَاتِ ٱلْيُونَانِيِّينَ» (ص 7: 35).
فَتَسْمَعُ صَوْتِي هذا نبوءة بإيمان الوثنيين به وتتلمذهم له. إن اليهود وهم في الحظيرة أبوا أن يسمعوا المسيح ويتبعوه (متّى 8: 11 ورومية 11: 17) فهل تتوقع من الوثنيين أن يتركوا أوثانهم ويسمعوا كلام المسيح في الإنجيل ويؤمنوا به ومع ذلك أكد المسيح أنهم سوف يسمعون ويؤمنون ويطيعون. وهذه النبوءة تمت فعلاً وهو وعد ايضاً يُشجع به المبشرين بالإنجيل للأمم بأن تعبهم لا يكون عبثاً لأن الله بينهم شعباً وللمسيح خرافاً خاصة تسمع وتؤمن.
تَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ اي أن الحقوق التي خُصت أولاً باليهود باعتبار كونهم شعب الله الخاص تعم المؤمنين من كل أمم الأرض ويُبطل التمييز بين اليهود وغيرهم من الناس وفقاً لقول الرسول «لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلاَثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ ٱلسِّيَاجِ ٱلْمُتَوَسِّطَ» (أفسس 2: 14 انظر أيضاً رومية 10: 12).
وَرَاعٍ وَاحِدٌ أي الرب يسوع المسيح الذي يعترف به المؤمنون في كل أرض رباً ومخلصاً. فحسب قول المسيح أن المؤمنين به في كل زمان ومكان ليسوا سوى كنيسة واحدة تُظهر للناس أن حظيرة الرب مقسومة إلى حظائر صغيرة كثيرة لأن لها أسماء مختلفة وطقوساً متنوعة وسياسات شتى وبعضها لا يعرف بعضاً وتنكر هذه أن تلك للمسيح. وأما المسيح فيحسب ما في جميعها قطيعاً واحداً. فوحدة الكنيسة قائمة بأن رأسها واحد هو المسيح وحياة كل فرد في تلك الكنيسة من مصدر واحد هو يسوع الذي اسمه «الحياة» ولها شريعة واحدة هي الكتاب المقدس ولها غاية واحدة هي أن تتبع المسيح وتخدمه وموضوع رجاء واحد هو موت المسيح على الصليب وقيامته فكان يجب أن يكون أعضاؤها في رأي واحد وحس واحد.
وتظهر وحدة رعية المسيح المذكورة هنا عند مجيئه الثاني لا محالة وهل يتم ذلك قبله أولاً ذلك لا نعلمه لكن يجب أن نجتهد جميعنا في ذلك لأن ظهور تلك الوحدة من أعظم أسباب مجد المسيح ونفع العالم ولأن لا شيء يعوق الإنجيل أكثر من انقسام المسيحيين.
17 «لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً».
إشعياء 53: 7 و8 و112 وفيلبي 2: 8 و9 وعبرانيين 2: 9
لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ أحب الله ابنه منذ الأزل وما ذُكر هنا من جملة الأسباب الكثيرة التي أحب بها الآب ابنه وهو رضاه أن يتجسد ويأتي إلى هذا العالم ليموت عن البشر. ونرى من ذلك رغبة الله في خلاص الخطأة لأنه أحب ابنه كل هذه المحبة الخاصة لموته من أجل الأثمة. وعلامة هذه المحبة قول الآب في الابن «هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (متّى 3: 17). وإثابته له على اتضاعه (فيلبي 2: 9 وإشعياء 53: 12).
لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي أي حياتي الجسدية كفارة عن شعبي وبدلاً من موتهم وإنشاء لسبيل خلاصهم.
لآخُذَهَا أي لأقوم من الموت لا لأتركها إلى الأبد. وأخذ المسيح حياته البشرية بعد الموت ذُكر هنا من أسباب زيادة محبة الآب له كأنه إنكار المسيح لذاته. وهذا بخلاف ما يصدق عليه لو كان إنساناً فقط لأن وضع الإنسان حياته وقتاً قصيراً مما يخفف مرارة الموت. وأما المسيح فلو ترك حياته الجسدية إلى الأبد وعاد إلى كونه إلهاً محضاً لكان ذلك أشرف له لكنه ما اكتفى بأن يأخذ الطبيعة البشرية إلى أن يوفي بها دين الناس لله حتى أخذها أيضاً. ولا يزال متسربلاً بها إلى الأبد لكي يهب لشعبه كل فوائد موته (رومية 4: 25 و14: 9 وعبرانيين 7: 25 ورؤيا 7: 17). وبهذا امتاز المسيح على أفضل الرعاة لأن خدمتهم للرعية تنتهي عند موتهم.
18 «لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي».
لوقا 23: 46 وص 2: 19 ص 6: 38 و12: 49 و15: 1 وأعمال 2: 24 و32
لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي أي لا أحد يغتصبها مني أو يجبرني على وضعها إنما أنا اخترت أن أضعها. فإن كل مؤامرة الفريسيين عليه ذهبت عبثاً حتى أتت ساعة موته. وأنه أخبر بيلاطس بأنه ليس له عليه من سلطان إلا بإذن الله (ص 19: 11) وأن الجنود الذين أتوا ليمسكوه وقعوا في أول الأمر على الأرض (ص 18: 6).
أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي من أجل خلاص العالم. أبان يسوع بذلك أن محبته للخطاة علة موته لا قوة رؤساء اليهود ولا جند بيلاطس. وكان له حق أن يضع نفسه لأنه الله. وكون موت يسوع اختياراً نفى نسبة كل ظلم إلى الله في قبوله موت البار بدلاً من الأثمة.
مما يوجب علينا شدة المحبة للمسيح أنه بذل نفسه عنا مجاناً واختار أشد الميتات عاراً وألماً.
لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا باعتبار كوني المسيح المتجسد لما لي من السلطان الذاتي أي القوة وللسلطان الذي أخذته من أبي. فإن المسيح لعدم كونه خاطئاً لم يكن مُجبراً على أن يموت بحكم الله وحين كان بين أعدائه لو طلب نجدة الآب لأرسل إليه ربوات من الملائكة تنقذه من أيديهم.
لِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً بعد الموت. وهذا يظهر أنه إله إذ ليس لبشر مثل هذه القوة وهي أن يقيم نفسه وهو ميت فهي قوة مختصة بالله.
نُسبت قيامة المسيح هنا وفي ص 2: 19 إلى الابن نفسه ونُسبت إلى الآب في أعمال 2: 24 و32 ونُسبت إلى الروح القدس في 1بطرس 3: 18 ونتيجة كل هذه الشواهد أن الأقانيم الثلاثة كانت تعمل معاً في قيامته.
هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي حين شرعت في عمل الفداء. وهذه الوصية هي إذن الآب للمسيح في أن يموت ويقوم من تلقاء إرادته أي قول الله الآب له لما دخل العالم «لك أن تموت كمشيئتك». وسماه المسيح «وصية» تواضعاً لأنه لم يكن بالحقيقة سوى إذن. وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالوصية كل ما ذكره المسيح في هذا الخطاب بالنظر إلى كونه راعياً ووضع حياته من أجل الخراف وإدخال خراف أُخر إلى الحظيرة لكي تكون رعية واحدة وراع واحد. ولا شيء في أخذ الابن وصية من الآب ينفي مساواة الأقنوم الثاني للأقنوم الأول لأنه كان جزءاً من عمل الفداء تنازل إليه يسوع لينقذ الإنسان من الخطيئة وعقابها.
19 «فَحَدَثَ أَيْضاً ٱنْشِقَاقٌ بَيْنَ ٱلْيَهُودِ بِسَبَبِ هٰذَا ٱلْكَلاَمِ».
ص 7: 43 و9: 16
كانت نتيجة خطابه هنا كسائر نتائج خطبه (ص 7: 12 و30 و31 و40 و41 و43 وص 9: 8 و9 و16). وهذا وفق البنوءة القائلة أنه يكون علّة انقسام (إشعياء 8: 14 ولوقا 2: 34).
20 «فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ: بِهِ شَيْطَانٌ وَهُوَ يَهْذِي. لِمَاذَا تَسْتَمِعُونَ لَهُ؟».
ص 7: 20 و8: 48 و52
هذا كلام أعدائه من الجمع الذين غضبوا من تأثير كلامه على الباقين. وقولهم مثل ما قيل في ص 7: 20 و8: 48 والمعنى أنه مختل العقل لا معنى لكلامه ولا علاقة لبعضه ببعض. وحسبوا دعوى ذلك الجليلي الأمي أنه الراعي الصالح لشعب إسرائيل وأن له سلطاناً أن يضع حياته وأن يأخذها هذياناً.
21 «آخَرُونَ قَالُوا: لَيْسَ هٰذَا كَلاَمَ مَنْ بِهِ شَيْطَانٌ. أَلَعَلَّ شَيْطَاناً يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ أَعْيُنَ ٱلْعُمْيَانِ؟».
خروج 4: 11 ومزمور 94: 9 و146: 8 وص 9: 6 و7 و32 و23
هذا كلام بعض الذين مالوا إلى يسوع من الفريسيين ولعله كلام غمالائيل ونيقوديموس ويوسف الرامي وأمثالهم. ودافعوا عن المسيح بشهادة كلامه وأعماله.
هٰذَا كَلاَمَ مَنْ بِهِ شَيْطَانٌ لأنه كلام ذو شأن وتقىً وحكمة.
أَلَعَلَّ شَيْطَاناً يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ الخ هذا مبني على المبدإ المشهور وهو أن صفة العمل تبين مصدره. فالشيطان لا يريد الأعمال الخيرية لأنه لا يقصد سوى الضرر. فمن شأن الشيطان أن يعمي البصير لا أن يفتح عيني الأعمى.
22 « وَكَانَ عِيدُ ٱلتَّجْدِيدِ فِي أُورُشَلِيمَ، وَكَانَ شِتَاء».
الأرجح أنه مضى نحو شهرين بين زمن المخاطبة السابقة في هذا الأصحاح والوقت المذكور في هذه الآية فكانت تلك المخاطبة في عيد المظال الذي يقع في منتصف تشرين الأول وعيد التجديد المذكور هنا كان في منتصف كانون الأول. والأرجح أن المسيح لم يبق تلك المدة في أورشليم لأن اليهود كانوا يطلبون قتله بل رجع إلى الجليل وشرع يجول من هناك في بيرية كما ذُكر في (متّى 19: 1 ومرقس 10: 1 ولوقا 9: 51 - ص 18: 18).
عِيدُ ٱلتَّجْدِيدِ عيّن هذا العيد يهوذا المكابي سنة 161 ق. م تذكاراً لتطهير الهيكل بعد أن نجسه أنطيخوس أبيفانس سنة 164 ق .م فإن أنطيخوس أخذ أورشليم وأخربها وقتل أربعين ألفاً من أهلها وباع أربعين ألفاً من الأسرى وذبح خنزيرة على مذبح الهيكل. وكانت بداءة ذلك العيد في 15 كانون الأول وكانت أيامه ثمانية تحتفل فيها المدينة كما تحتفل في عيد المظال بكل علامات الفرح من الأغاني والرقص وما شاكل ذلك. وسُمي أيضاً «بعيد الأنوار» لكثرة المصابيح التي كانوا يوقدونها في تلك الأيام. وكان حضور ذلك العيد اختيارياً لا فرضاً.
23 «وَكَانَ يَسُوعُ يَتَمَشَّى فِي ٱلْهَيْكَلِ فِي رِوَاقِ سُلَيْمَانَ».
أعمال 3: 11 و5: 12
الأرجح أن إقامة يسوع في أورشليم وقتئذ قصيرة جداً بعد أن أرسل السبعين أمامه في بيرية (لوقا 10: 1). ولعله زار حينئذ بيت عنيا كما ذُكر (لوقا 10: 38 - 42).
فِي ٱلْهَيْكَلِ أي في إحدى أدوره.
فِي رِوَاقِ سُلَيْمَانَ هو ممشى مسقوف على جانب الهيكل الشرقي يشرف على وادي يهوشافاط (أعمال 3: 11 و5: 12 وانظر شرح متّى 21: 12). قال يوسيفوس المؤرخ أنه هو الجزء الوحيد الباقي مما بناه سليمان. ولا بد من أن زربابل وهيرودس الكبير أصلحاه وبنيا عليه. وعلة ذكر تمشيه في الرواق ما ذُكر في ع 22 وهو أنه كان شتاء أي وقت البرد والمطر.
24 «فَٱحْتَاطَ بِهِ ٱلْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا؟ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ فَقُلْ لَنَا جَهْراً».
فَٱحْتَاطَ بِهِ ٱلْيَهُودُ أي أعداؤه ع 31.
إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا أي تتركنا في الريب. وأشاروا بذلك إلى أنه ادعى دعاوي سامية ولم يزل علة الشك فيها. فمن ذلك تسمية نفسه «راعياً» فالنتيجة أنه ادعى أنه المسيح. وهو صنع بعض الآيات وهذا من الأدلة المصدقة لدعواه ولكنهم مع ذلك لم يقتنعوا لأنه من الجليل والمسيح الموعود به ليس كذلك (ص 7: 52) وأنه فقير مهان وهذا خلاف ما توقعه اليهود لأنهم انتظروه ملكاً مجيداً وناصراً جليلاً. وعلى الجملة أنه هيّج آمال الأمة أنه المنقذ المنتظر ولكنه لم يأت أمراً مجيداً يليق بدعواه.
إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ الخ المرجّح أنهم لم يقولوا ذلك عن إخلاص لأن يسوع كان قد أوضح أنه هو المسيح ولم يترك في ذلك مدخلاً للشك ولأنهم اعتمدوا أن لا يقبلوه مسيحاً فكان غرضهم أن يقول أنه هو المسيح صريحاً لكي يشتكوا عليه بأنه مجدف. وسألوا مثل هذا السؤال في لوقا 22: 67 لذلك الغرض أو الخداع عينه.
25 «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. ٱلأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِٱسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي».
ص 5: 19 و8: 36 و56 و58 ص 3: 2 و5: 36 وع 38
لم يجبهم المسيح على ذلك تصريحاً كما أجاب المرأة السامرية والإنسان المولود أعمى لأنهما سألاه بإخلاص بل أجابهم ضمناً كما في ص 8: 25. فلو قال أنا المسيح لأنكر عليه ذلك بعضهم وجعل كلامه موضوعاً للهزء وعلى الشكاية إلى الرؤساء. وحمل البعض كلامه على غير مقصوده لأن معنى «المسيح» عندهم ناصر أرضي وملك دنيوي وهو ليس كذلك. ولو أنكر أنه المسيح الذي هم انتظروه لاستنتجوا أنه ليس هو المسيح الذي أنبأ به الأنبياء وأنه ليس برسول الله ولا بالمنقذ الروحي مع أنه هو كذلك.
إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ أي أنبأتكم بما سألتموني عنه. وأنبأهم بذلك تلميحاً كافياً للإفهام لو أرادوا (انظر ص 5: 19 و8: 36 و56). وسمى نفسه «نور العالم» «والراعي الصالح» وكثيراً ما قال أنه «ابن الله» وعلموا أنه قصد بذلك بيان أنه المسيح.
وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ ادعوا أنهم بين الشك واليقين أما هو فحقق لهم أنهم ليسوا كذلك إنما هم منكرون.
ٱلأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا أشار إلى معجزاته وأنها دليل كاف على أنه المسيح بدعوى أن الله لا يهب للخادع قوة على فعل المعجزات أي أن الله لا يثبت الكذب. وأورد مثل هذا البرهان في (ص 3: 2 و5: 36 و7: 31 و9: 33 و34).
بِٱسْمِ أَبِي اي بسلطانه وبكوني رسوله. وذكر اليهود بأنه لا يفعل شيئاً مستقلاً عن الآب.
26 «وَلٰكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ خِرَافِي، كَمَا قُلْتُ لَكُمْ».
ص 8: 47 و1يوحنا 4: 6
وَلٰكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ لا تؤمنون بأقوالي ولا بأعمالي.
لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ خِرَافِي من صفات الخراف أنها تعرف صوت راعيها فالذي لا تعرف صوته ليست من رعيته. فاليهود الذين لم يؤمنوا بالمسيح أظهروا أنهم ليسوا من شعبه. فخراف المسيح شعبه المتواضع المحب لتعاليمه والمصدق لها. وكبرياء اليهود وتعصبهم وسوء آرائهم في شأن المسيح المنتظر منعتهم من قبول أن يسوع هو المسيح كما شهدت بذلك أقواله وأعماله. ولم يريدوا أن يؤمنوا بأن مثل هذا الشخص الوديع يكون هو المسيح ولولا ذلك اقتنعوا بالبيّنات.
كَمَا قُلْتُ لَكُمْ ص 8: 47 وص 3: 10
27 «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي».
ع 4 و14
خِرَافِي أي شعبي الحقيقي. وأوجه الشبه بين المؤمنين بالمسيح حق الإيمان والخراف خمسة:
الأول: عدم الأذى.
الثاني: الوداعة.
الثالث: الضعف والاحتياج إلى راعٍ والتعرض للضلال والعجز عن الرجوع ومقاومة الأعداء.
الرابع: النفع.
الخامس: الطاعة وقبول التعليم.
ونسبهم المسيح إليه بقوله «خرافي» لستة أسباب:
الأول: محبته لهم.
الثاني: أنهم عطية أبيه له.
الثالث: أنه فداهم واشتراهم بموته.
الرابع: أنه اختارهم ودعاهم.
الخامس: أنه يرعاهم ويحميهم ويعتني بكل حاجاتهم.
السادس: أنهم سلموا أنفسهم إليه طوعاً واختياراً.
تَسْمَعُ صَوْتِي كما جاء في ع 3 و4 وهذا من علامات الخراف. والصوت الذي تسمعه هو قوله «تعالوا إلي» و «توبوا عن خطاياكم» و «آمنوا بي» و «التجئوا إليّ» و «أنكروا أنفسكم» و «كونوا شهوداً لي» و «بشروا بإنجيلي» و «اقبلوا كلامي مصدقين أنه حق وأطيعوه». ولم نزل قادرين على سمع صوت المسيح بإنجيله وبروحه في قلوبنا.
وَأَنَا أَعْرِفُهَا كما جاء في ع 14 و15. وتتضمن هذه المعرفة رضاه إياهم ومحبته لهم وسروره بهم. وأنه يعلم رغبتهم في رضاه وطاعته ويعرف حاجاتهم وتجاربهم وأحزانهم وخطاياهم وجودة مقاصدهم. ومعرفته إياهم الآن تتضمن أنه يعترف بهم قدام أبيه في السماء. والذين يعرفهم المسيح لا يعرفهم العالم ولا يبالي بهم بل كثيراً ما يحتقرهم ويضطهدهم (1يوحنا 3: 1).
فَتَتْبَعُنِي كما تتبع الخراف راعيها ع 3. ويتبع المؤمنون المسيح معلماً لهم بأن يطيعوه ويتكلوا عليه ويسيروا في أثره. ويجدوا فيه قوتاً لنفوسهم. ويتبعوه للعمل في كرم الرب. ويتخذوه مخلصاً وقائداً من الظلمة إلى النور ومن الخطيئة إلى القداسة ومن الأرض إلى السماء.
28 «وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي».
ص 6: 37 و17: 11 و12 و18: 9
وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً تكلم في الآيات السابقات على صفات الخراف وتكلم هنا على حقوقها وامتيازاتها. وهبة الحياة الأبدية تتضمن المغفرة وراحة الضمير والمصالحة لله والسرور في هذه الدنيا وفي الآخرة مع المجد. وحصَّل تلك الحياة لهم بموته وشفاعته ويهبها لهم بروحه القدوس. وبيّن العلاقة بين أتباعه ونوال الحياة في (ص 8: 12) وليس لأحد غير المسيح أن يقول «أنا أعطي الحياة الأبدية» وهذا من الأدلة على لاهوته ونعمته.
لَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ كما يهلك الأشرار في جهنم حيث يعاقبون على آثامهم (متّى 10: 28 و18: 14 ويوحنا 3: 15). وهذا الوعد توكيد للمسيحيين أنهم يكونون مصونين من الأخطار الداخلية كشهوات الجسد وفساد القلب وضعف الطبيعة ومن الأخطار الخارجية وهي تجارب الشيطان والعالم.
وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي أي لا يجذبها إلى خدمة الخطيئة وترك المسيح. ولا يقدر على ذلك إنسان بفصاحته وخداعه وقوته وتخويفه ولا يستطيع الشيطان ذلك بحيله واقتداره ومهارته في التجربة. والخطف إما أن يكون في الخفاء كما يفعل السارق وإما في العلانية كما يفعل اللص المغتصب. ولا خوف على نفس المؤمن التي في يد المسيح من شيء منهما.
وهذا الوعد من الأدلة على ثبوت المؤمنين في النعمة وهو أن كل من آمن الإيمان الحق لا يمكن أن يسقط من النعمة ويهلك (رومية 8: 38 و39). وهو ليس بوعد لكل المعترفين بيسوع المسيح ولا لكل المعتمدين بل للذين يسمعون صوت المسيح ويتبعونه قلباً وسيرة. وهذه الصيانة ليست ناتجة عن قوة عزمهم على اتباع المسيح وشدة تمسكهم به بل عن مسك المسيح إيّاهم وقصده الأزلي في أمرهم. وعلتها محبة المسيح لهم وقد برهن ذلك بموته عنهم ولا يزال يبرهنه بحفظه إياهم. ولا يلزم مما قيل أن المؤمن لا يُجرب ولا يخطئ ولا يسقط مدة في ضلال بل المعنى أن الله لا يتركه في الضلال إلى أن يسقط في هاوية الهلاك.
وأسباب صيانة المؤمنين بالحق أربعة:
الأول: كون الله أعطى يسوع إياهم.
الثاني: تحصيل يسوع الحياة الأبدية لهم ومنحهم إياها.
الثالث: تعهد الآب والابن معاً بوقايتهم من الهلاك.
الرابع: أنه ليس من قوة في العالم تقاوم قوة الله ومقاصد يسوع الخيرية لهم.
وقد ذُكر ثلاثة أمور هنا لكل منها وافر البركات وهي معرفة المسيح لخرافه ومنحه إيّاها الحياة الأبدية وصيانته لها من الهلاك.
29 «أَبِي ٱلَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ ٱلْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي».
ص 14: 28 و17: 2 و6 الخ
غاية هذه الآية بيان أمن شعب المسيح.
أَبِي ٱلَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا (ص 6: 37). كان ذلك الإعطاء قبل تأسيس العالم (أفسس 1: 14). وهو من علل تسمية المؤمنين خرافه وما يؤكد لهم حفظه إياهم وعدم سماحه أن يخطفهم أحدٌ من يده.
هُوَ أَعْظَمُ مِنَ ٱلْكُلِّ أي كل من يريد أن يخطف خرافي من يدي من الناس والأبالسة. وكونه أعظم من الكل يمنع إمكان خطفها من يده فالله قادر أن يحفظها ويريد ذلك فالمؤمنون في أمان.
وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي قال مثل هذا سابقاً في شأن يده هو فإذاً للمسيحيين سندان لأمنهم الأول عظمة محبة المسيح لهم والثاني عظمة قدرة الآب المحيطة بهم. وما ذُكر علة بقاء كنيسة المسيح كل تلك القرون مع شدة الاضطهادات التي وقعت عليها والضلالات الفظيعة التي طرأت فيها وكذا يكون في المستقبل.
ولعل في ما قاله المسيح هنا تلميحاً إلى الأعمى الذي أبرأه وهو أنه وإن كان اليهود قد أخرجوه من مجمعهم وحرموه حقوق الشعب اليهودي لم يُخطف من يد الله أي لم يستطيعوا أن يحرموه الخلاص.
30 «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ».
ص 7: 11 و22
غاية المسيح من كلامه هنا أمن الخراف وإثباتاً لذلك قال أن الآب والابن واحد في القصد والمشيئة والشعور والفعل في شأن الخراف. فالآب يحفظ كل ما للابن والابن يحفظ كل ما للآب. وهذا يتضمن أن الآب والابن واحد في الجوهر والمجد والمقام والقوة. وكذا فهم اليهود معنى المسيح كما يظهر من قولهم في ع 33 والمسيح لم يخطئهم على هذا الفهم. ووحدة الآب والابن لا تمنع من التمييز بينهما في الأقنومية والوظيفة. وما قيل في هذه الآية ينفي ضلال سباليوس في قوله ليس في اللاهوت سوى أقنوم واحد وينفي بدعة آريوس وهي قوله المسيح دون الآب لأنه يستحيل كونهما واحداً بدون المساواة.
وفي هذه الآية جواب لقول اليهود في ع 24.
31 «فَتَنَاوَلَ ٱلْيَهُودُ أَيْضاً حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ».
لاويين 24: 10 الخ وص 8: 59
أَيْضاً أي كما فعلوا سابقاً لما قال يسوع «قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (ص 8: 58) وفعلوا ذلك لأنهم حسبوا كلامه تجديفاً (ع 33) وأرادوا أن يعاقبوه بمقتضى الناموس (لاويين 24: 14 - 16 وعدد 15: 36) ولم يقدروا أن يجروا ذلك شرعاً لمنع الرومانيين لهم لكنهم قصدوا أن يفعلوه على سبيل الهياج والشغب كما فعلوا باستفانوس (أعمال 7: 57 و58).
32 «فَقَالَ يَسُوعُ: أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي بِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟».
مرقس 7: 27
فَقَالَ يَسُوعُ على فكرهم وقصدهم. والظاهر أن إجابته لهم أوقفتهم وقتاً عن رجمهم إياه. وخلاصة قوله أنه لا يجيز العقل ولا الشرع أن ترجموا أحداً قبل بيان ارتكابه الذنب الموجب لذلك.
أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أي نافعة جيدة. ولم يذكر يوحنا في إنجيله كثيراً من تلك الأعمال بل أشار إلى أنها كثيرة (ص 2: 23 و3: 2 و5: 36 و20: 30). ومن تلك الأعمال شفاء المرضى وفتح عيون العمي.
أَرَيْتُكُمْ أي فعلتها أمام عيونكم برهاناً على أني من الله.
مِنْ عِنْدِ أَبِي أي التي عيّنها الآب لكي أفعلها كما عيّن الأقوال التي قلتها وأقولها. علم المسيح أنهم اغتاظوا من كلامه فقال لهم ماذا وجدتم من الشر في أعمالي لأن القصد في كليهما واحد وهو بيان أنه المسيح ابن الله. فبيّن في هذه الآية أنه بريء من كل ذنب يوجب رجمهم إياه.
33 «أَجَابَهُ ٱلْيَهُودُ: لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَلٍ حَسَنٍ، بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ، فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلٰهاً».
ص 5: 18
يظهر من هذا أن المسيح ادعى مساواته لله في ع 30 بقوله «أنا والآب واحد» لأنه كذا فهم اليهود معناه والمسيح لم ينكر أنه عنى ذلك. وقد أعلنوا بجوابهم عجزهم عن أن يبينوا عملاً واحداً شريراً من كل أعمال يسوع مع أن المسيح دعاهم إلى ذلك وهذا مثل ما في (ص 8: 46).
لَسْنَا نَرْجُمُكَ أي ما عزمنا على رجمك.
بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ انظر شرح (متّى 9: 3 ويوحنا 5: 18). وهذا على وفق الشريعة في (لاويين 29: 10 - 16). وفسروا في هذه الآية ما اعدوا أنه تجديف.
وَأَنْتَ إِنْسَانٌ نعم لو كان المسيح إنساناً فقط لكان كلامه تجديفاً واستحق أن يُرجم بموجب شريعتهم ولكنه مع كونه إنساناً هو الله فكان يستحق الإيمان به والسجود له. فما بقي في المسئلة إلا أحد الأمرين وهو إما أن يعبدوا يسوع إلهاً وإما أن يرجموه مجدفاً.
تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلٰهاً أي تدعي الألوهية. ادعى اليهود الغيرة العظيمة لله وأنهم مكلفون بالمحاماة عن مجد اسمه والحق أنه لم يحركهم إلى ذلك إلا الحسد والبغض.
34 «أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: أَلَيْسَ مَكْتُوباً فِي نَامُوسِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ؟».
مزمور 82: 6
دفع المسيح اتهامهم إياه بالتجديف بوجهين:
الأول: أنه لو كان مجرد إنسان فتسميته نفسه ابن الله ليس بتجديف (ع 34 - 36).
الثاني: أن أعماله تبيّن أنه الله فله حق أن يعلن أنه كذلك بأسمى معناه (ع 37 و38).
فِي نَامُوسِكُمْ في كتبكم الإلهية. جاء الناموس في العهد الجديد بثلاثة معانٍ:
الأول: أسفار موسى الخمسة (لوقا 24: 24).
الثاني: العهد القديم سوى أسفار الأنبياء (متّى 22: 40).
الثالث: كل العهد القديم كما في هذه الآية وفي (ص 7: 49 و12: 34 و15: 25 ورومية 3: 19 و 1كورنثوس 14: 21).
ونُسب الناموس إليهم لاعتبارهم إياه مقدساً ليس فيه من تجديف.
أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ هذه الآية السادسة من المزمور الثاني والثمانين. والمتكلم هو الله قاضي القضاة. والمخاطبون هم القضاة ودعاهم الله آلهة لأنهم رؤساء الشعب ومنزلتهم أرفع من منزلة غيرهم من الناس وعليهم مسؤولية عظيمة في سياسة الشعب والله نفسه عيّنهم لوظيفتهم وهم أخذوا سلطانهم منه وقضوا بالنيابة عنه بدليل قول حزقيال «وَقَالَ لِلْقُضَاةِ: ٱنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ فَاعِلُونَ لأَنَّكُمْ لاَ تَقْضُونَ لِلْإِنْسَانِ بَلْ لِلرَّبِّ، وَهُوَ مَعَكُمْ فِي أَمْرِ ٱلْقَضَاءِ» (2أيام 19: 6). وقول موسى «لاَ تَنْظُرُوا إِلَى ٱلْوُجُوهِ فِي ٱلْقَضَاءِ. لِلصَّغِيرِ كَٱلْكَبِيرِ تَسْمَعُونَ. لاَ تَهَابُوا وَجْهَ إِنْسَانٍ لأَنَّ ٱلْقَضَاءَ لِلّٰهِ» (تثنية 1: 17). وسمي الرئيس النائب عن الله إلهاً في (خروج 4: 16 و7: 1). وكان كل الذين سموا آلهة رموزاً إلى يسوع المسيح الذي هو إله وإنسان.
35 «إِنْ قَالَ آلِهَةٌ لأُولٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ ٱلْمَكْتُوب».
رومية 13: 10
إِنْ قَالَ آلِهَةٌ أي ناموسكم.
لأُولٰئِكَ أي الرؤساء أو القضاة وهم ليسوا سوى أناس عينهم الله نواباً عنه في سياسة الشعب.
ٱلَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ ٱللّٰهِ أي الذين أعطاهم الله سلطاناً أن يأمروا باسمه ويقضوا.
وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ ٱلْمَكْتُوبُ انظر شرح (متّى 5: 18). والمراد هنا بالمكتوب الناموس. ومعناه أنه ليس لأحد أن ينسخ الناموس أو يستهين به أو يذمه بل يجب على نفس كل إنسان أن تقبله باحترام وتحسبه قاطع كل جدال لأنه كلام الله كُتب بوحي الروح القدس. ومقصود المسيح بما اقتبسه هنا من المزامير أنه إذا كان الناموس سمى الرؤساء بالآلهة فذلك دليل قاطع على جواز تسميتهم بذلك وما جاز في كتاب الله ليس بتجديف وهذا دفع كاف لأتهامهم المسيح بالتجديف بما نسبه إلى نفسه.
وما عنى المسيح بذلك أنه مثل أحد أولئك الرؤساء المخلوقين إنما جاءه على سبيل الفرض.
36 «فَٱلَّذِي قَدَّسَهُ ٱلآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، أَتَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُجَدِّفُ، لأَنِّي قُلْتُ إِنِّي ٱبْنُ ٱللّٰهِ؟».
ص 6: 27 ص 3: 17 و5: 36 و37 و8: 42 ص 5: 17 و18 و1: 35 وص 9: 35 و37
فَٱلَّذِي قَدَّسَهُ ٱلآبُ جاءت لفظة «قدس» في مواضع كثيرة من الكتاب بمعنى عيّن للخدمة الإلهية ومن ذلك ما جاء في (خروج 28: 41 و29: 1 و44 ولاويين 8: 30) والمعنى هنا أن الله عيّن ابنه منذ الأزل مسيحاً. ومعنى التقديس هنا كمعنى الختم في (ص 6: 27).
وَأَرْسَلَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ كان في السماء فأرسله إلى الأرض ليخلص البشر. وفي هذا إشارة إلى تجسده (ص 3: 17 وعبرانيين 3: 1 و1يوحنا 4: 14). واختلف المسيح بذلك عن الرؤساء الذين دعاهم آلهة لأنهم كانوا في الأرض وصارت إليهم كلمة الله.
لأَنِّي قُلْتُ إِنِّي ٱبْنُ ٱللّٰهِ لم يقبل ذلك صريحاً بل لزم عن قوله في (ع 29 و30)، واليهود فهموا ذلك بدلالة الالتزام ع 33. فإذاً كان المسيح أولى منهم بالإنصاف بالألوهة وأن لا سبيل لهم إلى اتهامهم أياه بالتجديف وحجته عليهم لفظ ناموسهم بعينه.
37 «إِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي فَلاَ تُؤْمِنُوا بِي».
ص 15: 24
ما قاله المسيح آنفاً كاف لتبرئة نفسه من التجديف إذ أبان لهم أن ناموسهم نسب الألوهة إلى المخلوقات الذين هم دونه ولكنه لم يقتصر على التخلص من تهمة التجديف بل أراد أيضاً أن يبين لهم كل الحق في تسمية نفسه إلهاً بدليل أن ما فعله لا يستطيع فعله إلا الله.
أَعْمَالَ أَبِي أي أعمالاً مثل أعمال أبي (ص 5: 17) وهي الأعمال التي لا يستطيع أن يعملها إلا الله. ومراد المسيح هنا أنه لعمله مثل أعمال الله أثبت لنفسه قوة كقوة الله. فإذاً هو مساوٍ له ويحق له أن يعلن ألوهته لفظاً فليس في كلامه شيء من التجديف.
فَلاَ تُؤْمِنُوا بِي أي فلا تصدقوا أني المسيح وأني ابن الله. لم يسألهم التسليم بدعواه بلا برهان بل سألهم أن يحكموا هل الأعمال التي عملها كأعمال الله أو لا فإذا كانت كأعمال الله وجب أن يؤمنوا به وإلا فتهمتهم صحيحة. وكلامه هنا وفق كلامه في (ع 32 وص 5: 17 و36 و9: 3 و14: 10).
38 «وَلٰكِنْ إِنْ كُنْتُ أَعْمَلُ، فَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي فَآمِنُوا بِٱلأَعْمَالِ، لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا أَنَّ ٱلآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيه».
ص 5: 36 و14: 10 و11 و17: 21
كان عليهم أن يقتنعوا بكلامه لما فيه من الأدلة على أنه تكلم بالحق وأن كلامه كلام الله ولكنهم إذ لم يقتنعوا بذلك أورد لهم شهادة أعماله بصحة دعواه كما أورده لرسولي يوحنا المعمدان إذ قال لهما «ٱذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: ٱلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَٱلْعُرْجُ يَمْشُونَ الخ» (متّى 11: 4 و5). انظر شرح (ص 5: 36).
أَنَّ ٱلآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هذا كقوله «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (ع 30). وهو إيضاح للاتحاد الكلي بينه وبين الآب ومساواة أحدهما للآخر وأن تصريحه بذلك ليس بتجديف.
39 «فَطَلَبُوا أَيْضاً أَنْ يُمْسِكُوهُ فَخَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ».
ص 7: 30 و44 و8: 59
الظاهر أنهم لم يقتنعوا ببرهانه من ناموسهم ولا بشهادة معجزاته بل ظلوا مصرين على قصدهم قتله (ع 31 وص 7: 30 و32 و34). ولعلهم عدلوا عن قصدهم الأول وهو أن يرجموه في الهيكل (ع 31) وعزموا على ذلك في موضع آخر.
فَخَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ كان سهلاً عليه أن يفعل ذلك بدون معجزة ظاهرة إذ جعل كل اجتهادهم عبثاً كما فعل قبلاً (ص 8: 59 ولوقا 4: 30).
40 «وَمَضَى أَيْضاً إِلَى عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ إِلَى ٱلْمَكَانِ ٱلَّذِي كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِيهِ أَوَّلاً وَمَكَثَ هُنَاكَ».
ص 1: 28
وَمَضَى أَيْضاً إِلَى عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ أي إلى الشرق ذلك النهر إلى البلاد المسماة بيرية وشغل أكثر الستة الأشهر الأخيرة من زمن خدمته على الأرض هنالك.
إِلَى ٱلْمَكَانِ ٱلَّذِي كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ كما ذُكر في (ص 1: 28) واسم المكان بيت عبرة. وقال مضى أيضاً لأنه عُمّد هنالك وابتدأ خدمته. ولم يذكر أنه عاد إليه غير هذه المرة في كل زمن خدمته على الأرض. ولا بد من أن مصيره إلى هنالك ذكر تلاميذه بشهادة يوحنا له في ذلك المكان.
وَمَكَثَ هُنَاكَ من عيد التجديد إلى عيد الفصح الذي صُلب فيه وما بينهما نحو أربعة أشهر. ولا يلزم من الكلام هنا أنه بقي في مكان واحد والأرجح أنه كان يجول في أرض بيرية. وذلك يوافق كلام لوقا في إنجيله على خدمة المسيح في بيرية.
41 «فَأَتَى إِلَيْهِ كَثِيرُونَ وَقَالُوا: إِنَّ يُوحَنَّا لَمْ يَفْعَلْ آيَةً وَاحِدَةً، وَلٰكِنْ كُلُّ مَا قَالَهُ يُوحَنَّا عَنْ هٰذَا كَانَ حَقّاً».
ص 3: 3
فَأَتَى إِلَيْهِ كَثِيرُونَ ممن أرادوا الاستفادة من تعاليمه. وكان موضعه موافقاً لذلك إذ كان قريباً من أورشليم فهان على الناس أن يذهبوا إليه وكان بمعزل عن اضطهاد الفريسيين. ولا بد من أنه ذكرهم بمناداة يوحنا بالتوبة هنالك وشهادته للمسيح.
وَقَالُوا إِنَّ يُوحَنَّا لَمْ يَفْعَلْ آيَةً الخ في قولهم هنا شهادتان إحداهما ليوحنا والأخرى للمسيح. فصدقوا أولاً أن يوحنا كان نبياً بدون معجزة وتحققوا حينئذ أنه كذلك لأنه قد ثبت صدق نبوءته بشأن المسيح. وشهدوا ليسوع بأنه المسيح بناء على شهادة يوحنا بأن يسوع هو «الآتي» أي المسيح وبناء على اختبارهم بما شاهدوا وسمعوا من معجزاته وتعاليمه.
42 «فَآمَنَ كَثِيرُونَ بِهِ هُنَاك».
ص 8: 30 و11: 45
هذا كما قيل في (ص 8: 30 و11: 45) ولا شيء يدل على أن إيمانهم لم يكن قلبياً ثابتاً. فمقاومة أهل أورشليم للمسيح كانت فائدة لأهل بيرية.
1 «وَكَانَ إِنْسَانٌ مَرِيضاً وَهُوَ لِعَازَرُ، مِنْ بَيْتِ عَنْيَا مِنْ قَرْيَةِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا أُخْتِهَا».
لوقا 10: 38، 39
لا نعرف لماذا لم يذكر أحد من البشيرين هذه المعجزة سوى يوحنا، لكننا نعلم أن الروح القدس ألهم كل بشير أن يكتب ما كتبه، ونعلم أن البشيرين متّى ومرقس ولوقا سجلوا بالأكثر خدمة المسيح في الجليل وتركوا ما حدث في اليهودية، ويوحنا سجَّل ما حدث في اليهودية. وظن بعضهم أنهم لم يذكروا إقامة لعازر خوفاً من اضطهاد اليهود لبيت لعازر (ص 12: 10، 11). وأما يوحنا فكتب بعد خراب أورشليم وقد زال كل خوف من وقوع مثل ذلك الاضطهاد. والأرجح أن ما ذُكر في هذا الأصحاح كان في آخر خدمة يسوع في بيرية.
لِعَازَرُ هو في اليونانية كذلك، ولكنه في العبرانية «ألعازر» ومعناه «الرب عون» ولا نعرف من أمره إلا أنه كان من بيت غني، ونستنتج ذلك من الوليمة التي أُعدت في بيته ليسوع (ص 12) ومن الطيب الذي أتت به أخته إلى المسيح فإنه لا يقدر على تقديم مثله سوى الأغنياء، ومن كثرة الأصحاب الذين أتوا ليعزوهم عن وفاة لعازر، وأن لعازر دُفن في قبر منحوت في الصخر.
مِنْ بَيْتِ عَنْيَا انظر شرح متّى 26: 2. وتسمى اليوم اللعازرية.
قَرْيَةِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا أُخْتِهَا أي القرية التي كانتا تسكنان فيها (لوقا 10: 28). والأرجح أن مرثا هي الكبرى (لوقا 10: 38). وذُكرت مريم أولاً لأنها اشتهرت أكثر من مرثا لسبب دهنها جسد يسوع بالطيب.
2 «وَكَانَتْ مَرْيَمُ، الَّتِي كَانَ لِعَازَرُ أَخُوهَا مَرِيضاً، هِيَ الَّتِي دَهَنَتِ الرَّبَّ بِطِيبٍ، وَمَسَحَتْ رِجْلَيْهِ بِشَعْرِهَا».
متّى 26: 7 ومرقس 14: 3 ويوحنا 12: 3
انظر شرح متّى 26: 6 - 13.
هِيَ الَّتِي دَهَنَتِ الرَّبَّ قيل ذلك لتمييزها عن غيرها من المريمات، إذ ذُكر أربع منهن في البشائر، وهن مريم أم يسوع، ومريم امرأة كلوبا، ومريم المجدلية، ومريم هذه. وميّزها يوحنا بدهنها جسد الرب لأنه كان أمراً مشهوراً، ذُكر أيضاً في يوحنا 12: 3. ويجب أن نميّز بينها وبين المرأة المذكورة في لوقا 7: 37، لأن أخت لعازر دهنته في بيت عنيا، وتلك دهنته في الجليل، وأن أخت لعازر كانت تقية وشهد لها المسيح بأنها «اختارت النصيب الصالح» وأما تلك فكانت خاطئة.
3 «فَأَرْسَلَتِ الأُخْتَانِ إِلَيْهِ قَائِلَتَيْنِ: يَا سَيِّدُ، هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ».
فَأَرْسَلَتِ الأُخْتَانِ إِلَيْهِ كان يسوع حينئذٍ في عبر الأردن على نحو سفر يوم أو أكثر من بيت عنيا، وأرسلتا إليه بسبب ما كان بينهم من الصداقة، ولأن المسيح كان يتردد إلى بيتهما حين كان يأتي إلى أورشليم (لوقا 10: 38 ويوحنا 12: 1، 2).
هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ لا بد من أن غايتها من ذلك مجيء المسيح ليشفي أخاهما، أو أن يشفيه بكلمة من على بُعد، كما شفى غيره. ولم تسألاه الشفاء بل اكتفتا بإخباره بالمرض، فأظهرتا بذلك التواضع والإيمان بقوته ومحبته. وما فعلته الأختان بواسطة إرسال الرسول يمكننا أن نفعله الآن بالصلاة عند مرض أحد أقربائنا أو أصحابنا، مع اتخاذ الوسائل البشرية النافعة. ولا يجوز أن نغفل عن أحد الأمرين.
4 «فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ، قَالَ: هَذَا المَرَضُ لَيْسَ لِلمَوْتِ، بَل لأجْلِ مَجْدِ اللَّهِ، لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللَّهِ بِهِ».
يوحنا 9: 3 ،40
فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ، قَالَ الأرجح أن الرسول حمل الخبر إلى المسيح شفاهاً لا كتابة، وأجابه المسيح شفاهاً على مسمع من التلاميذ. ولم يوضح المسيح مراده تمام الإيضاح، بل قصد بجوابه تعزية الأختين وإنشاء الرجاء في قلبيهما.
هَذَا المَرَضُ لَيْسَ لِلمَوْتِ قال المسيح هذا بناءً على معرفته العاقبة، وعلى قصده أن يقيمه. فلم يقل إن لعازر لا يموت، بل إن عاقبة هذا المرض ليست للموت المعتاد المستمر. فكأنه قال: هذا المرض لموت وقتي، لا للموت العادي. فهو كقوله في بنت يايرس إنها لم تمت بل هي نائمة لأنه قصد أن يحييها.
بَل لأجْلِ مَجْدِ اللَّهِ أي لإظهار مجده. وتم ذلك الإظهار بإقامة لعازر. فإكرام يسوع بسبب ذلك، وإيمان الناس به، وزيادة إيمان لعازر وسائر بيته من وسائط إظهار مجد الله، لأنها حملت الناس على تمجيده بألسنتهم وقلوبهم. ويجب أن يكون موت كل مسيحي لمجد الله بالإيمان الذي يُظهره عند احتضاره، وبإيمان أقربائه وأصحابه وصبرهم على وفاته.
5 «وَكَانَ يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ».
الحب هنا بمعنى الحنو وإرادة الخير على ما يفيد الأصل اليوناني، وهو ترجمة الكلمة التي تُرجم عنها حب الله العالم. وأما الحب في ع 3 فهو ترجمة لفظة تفيد المحبة الشخصية الطاهرة. ويحسُن أن ننتبه لأن محبة يسوع للعازر لم تمنع عنه المرض والموت، ولم تمنع أختيه من الحزن على ذلك. فالمرض والموت ليسا دليلاً على غضب الله أو بغضه أو إهماله. وذكر يوحنا محبة المسيح لهؤلاء الأشخاص لئلا يتوهم القارئ أن إبطاء المسيح المذكور في الآية الآتية نتج عن عدم اكتراثه بهم.
6 «فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي المَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمَيْنِ».
يوحنا 10: 40
مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي المَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ أي في بيت عبرة في بيرية يوحنا 1: 28 و10: 40
يَوْمَيْنِ قصد المسيح أن يمكث هذين اليومين بدلاً من أن يسرع إلى بيت عنيا لأسباب اقتضتها حكمته. ولولا ذلك لشفاه بكلمة أو أدركه قبل أن يموت، ودفع عنه ألم الموت وعن أختيه مرارة الحزن، كما فعل بابن خادم الملك (يوحنا 4: 50). ومن تلك الأسباب أنه كان عليه عملٌ في بيرية لم يكن قد أجراه. وأنه لو أتى وشفاه ما حدثت تلك المعجزة التي هي أعظم معجزاته (ما عدا قيامته هو)، وما سمعنا منه هذا التعليم الذي ألقاه بمناسبة إحياء لعازر. فخسارة أهل ذلك البيت كانت ربحاً عظيماً لكل مسيحي. ولنا من خبر موت لعازر أن الله يسمح بالمصائب الجسدية للخيرات الروحية، وأن إبطاءه عن إجابة الصلاة ليس دليلاً على أنه يرفضها أو أنه لا يحب السائلين.
7 «ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ لِتلامِيذِهِ: لِنَذْهَبْ إِلَى اليَهُودِيَّةِ أَيْضاً».
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أي بعد يومين من وصول الرسول إليه ورده الجواب. والمسافة بين بيت عنيا وبيت عبرة سفر يوم. فإذا فرضنا أن لعازر مات يوم مجيء الرسول إلى يسوع، فذلك اليوم مع اليومين اللذين مكث فيهما يسوع في بيت عبرة، واليوم الذي سار فيه مع تلاميذه إلى بيت عنيا أربعة أيام (ع 39).
لِنَذْهَبْ إِلَى اليَهُودِيَّةِ قال هذا لأنه كان في بيرية (يوحنا 10: 40) وبيت عنيا في اليهودية.
8 «قَالَ لَهُ التّلامِيذُ: يَا مُعَلِّمُ، الآنَ كَانَ اليَهُودُ يَطْلُبُونَ أَنْ يَرْجُمُوكَ، وَتَذْهَبُ أَيْضاً إِلَى هُنَاكَ».
يوحنا 10: 31
كَانَ اليَهُودُ يَطْلُبُونَ أَنْ يَرْجُمُوكَ أشار التلاميذ بذلك إلى ما حدث في أورشليم يوم عيد التجديد منذ بضعة أسابيع حين طلب الكتبة والفريسيون أن يقتلوه (يوحنا 10: 31، 39).
وَتَذْهَبُ أَيْضاً إِلَى هُنَاكَ أظهر التلاميذ بذلك تعجبهم من ذهاب المسيح إلى اليهودية وخوفهم على حياته وحياتهم، ورغبتهم في عدوله عن قصده.
9، 10 «9 أَجَابَ يَسُوعُ: أَلَيْسَتْ سَاعَاتُ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ؟ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي النَّهَارِ لا يَعْثُرُ لأنَّهُ يَنْظُرُ نُورَ هَذَا العَالَمِ. 10 وَلَكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي اللَّيْلِ يَعْثُرُ، لأنَّ النُّورَ لَيْسَ فِيه».
يوحنا 9: 4 يوحنا 12: 35
لم يشجع المسيح تلاميذه الخائفين بقوله: لا تخافوا، بل ضرب لهم مثلاً مناسباً لكل مسافر يستطيعون أن يستنتجوا منه ما يطمئن قلوبهم.
أَلَيْسَتْ سَاعَاتُ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ أخذ اليهود قسمة النهار اثني عشر جزءاً عن البابليين أيام سبيهم إلى بابل، وظلوا على ذلك إلى يومنا هذا. والكلام هنا خبر بصورة الاستفهام، ومعناه أنتم تعلمون أن ساعات النهار إلخ.
لا يَعْثُرُ لأنَّهُ يَنْظُرُ نُورَ هَذَا العَالَمِ لأن النهار مدة إضاءة الشمس، فيكون فيه ما يكفي المسافر من الضوء ليرى طريقه ويتجنب العثرات، فيكون آمناً فيه. ولذلك لا داعي لخوفه. وسمى الشمس «بنور هذا العالم» لأنه يضيء بها.
ِإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَمْشِي فِي اللَّيْل حال المسافر في الليل خلاف حاله في النهار، إذ لا نور في سبيله، فيكون عرضة للتعثر والسقوط، فلا بد من أن يخاف لأسباب وجيهة. وقد أشار المسيح «بساعات النهار الاثنتي عشرة» إلى كل زمن خدمته على الأرض الذي عيّنه الله (يوحنا 9: 4، 5). وأن ذلك الوقت لم ينته بعد، ولذلك لا يخشى أن يؤذيه أحد حتى ينتهي نهاره وتأتي ساعة موته (يوحنا 7: 6، 8 ،30 و8: 20). وصرّح بأنه مثل مسافر في ضوء الشمس لا يخشى خطراً من عثرة أو سقوط، فطمأنهم بحفظه إياهم من الخطر. فحفظهم منه وهم معه وأنه يجب أن يُجري عمله حتى وسط الأعداء الذين يطلبون قتله. وفي ما ذُكر تلميح إلى أن زمن الأمن الذي عبر عنه «باثنتي عشرة ساعة» على وشك النهاية، وأن ليلة موته قريبة.
11 «قَالَ هَذَا وَبَعْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لَكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ».
تثنية 31: 16 ودانيال 12: 2 ومتّى 9: 24 وأعمال 7: 60 و1كورنثوس 15: 18، 51
هَذَا أي ما ذُكر من كلام على نهار الأمن وليل الخطر.
حَبِيبُنَا أشار بذلك إلى أن التلاميذ كانوا يحبون لعازر، كما كان هو يحبه. فكان يجب أن يُسروا بالذهاب إليه. وتسمية يسوع لعازر «حبيبه» يدل على محبته لكل مؤمن، إذ لم يكتف بتسميته تلميذاً أو عبداً. فخيرٌ للمؤمن أن يكون حبيباً للمسيح من أن يكون حبيباً لكل ملوك الأرض، لأنه يحبنا في الحياة والموت وبعد الموت وإلى الأبد.
نَامَ أشار بذلك إلى موت لعازر بأسلوب لطيف جداً. ومن صدَّق أن يسوع إله كما أنه إنسان لا يتعجب من معرفته وهو في بيت عبرة ما حدث في بيت عنيا. وكثيراً ما عبّر الكتاب المقدس عن الموت بالنوم أو الرقاد، ومن ذلك ما في تثنية 31: 16 ودانيال 12: 2 ومتّى 9: 24 و27: 52 وأعمال 7: 60 و13: 36 و 1كورنثوس 7: 39 و11: 30 و15: 6 - 18، 51 و1تسالونيكي 4: 13، 14 و5: 10.
وأوجه الشبه بين الموت والنوم ثلاثة: (1) المنظر. (2) رجاء قيام كل من الميت والنائم، فالموت ليس نهاية الإنسان لأنه لا بد من أن يستيقظ يوم القيامة. (3) الراحة لأن في النوم راحة من أتعاب النهار، وفي الموت راحة من أتعاب الحياة.
أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ لم يذكر غايته من الذهاب أولاً (ع 7) إنما أعلنها هنا، وهي إقامة إنسان ميت. فالمخادع لا يعلن غايته لئلا ينتبه المشاهدون لكشف خداعه.
إن إيقاظ النائم العادي من أسهل الأمور، وأما إيقاظ الميت فيحتاج إلى قوة إلهية. وأظهر المسيح بهذه العبارة ثقته بسلطانه على تلك القوة الخارقة الطبيعة.
12 «فَقَالَ تلامِيذُهُ: يَا سَيِّدُ، إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يُشْفَى».
لعل علة جهلهم ما قصده المسيح بكلامه في آية 4 أنهم فهموا أن مرض لعازر ليس مميتاً، فاتخذوا المجاز حقيقة، وحكموا أن نوم لعازر عادي، وأنه علامة النقاهة بعد المرض. ولا عجب من خطئهم فإنه سبق لهم مثل ذلك في أمر الخميرة (متّى 16: 6) وفي أمر السيف (لوقا 22: 38) وفي أمر الطعام (يوحنا 4: 32). ونتيجة زعمهم أنه لم تبق هناك حاجة للذهاب إلى بيت عنيا.
13 «وَكَانَ يَسُوعُ يَقُولُ عَنْ مَوْتِهِ، وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ رُقَادِ النَّوْمِ».
هذا تفسير يوحنا لكلام المسيح. كان يجب على التلاميذ أن يذكروا قول يسوع في بنت يايرس (وقد ماتت) «إنها نائمة» (متّى 9: 24).
14 «فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ حِينَئِذٍ علانِيَةً: لِعَازَرُ مَاتَ».
أعدّ قلوبهم بما قال من المجاز إلى الخبر الحقيقي. ولو لم يكن المسيح إلهاً يعلم كل شيء ما استطاع معرفة موت لعازر.
15 «وَأَنَا أَفْرَحُ لأجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ، لِتُؤْمِنُوا. وَلَكِنْ لِنَذْهَبْ إِلَيْهِ».
وَأَنَا أَفْرَحُ لأجْلِكُمْ إِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ، لِتُؤْمِنُوا في هذا تلميح إلى أنه لو كان في بيت عنيا عندما مرض لعازر لشفاه لا محالة. ولا شك أن التلاميذ استغربوا كلامه هذا إذ لم يتوقعوا إقامة لعازر، فكانوا يعتقدون أنه كان عليه أن يفرح لو كان هناك لينقذه من مرضه الشديد. ومعنى كلام المسيح هنا أن موت لعازر كان نتيجة غيابه من بيت عنيا، وأن المسيح سيقيمه لأنه مات، وأن تقوية إيمان تلاميذه بأنه المسيح من جملة فوائد تلك الإقامة.
ولم يقل المسيح إنه فرح بموت لعازر، بل قال إنه فرح بفوائد الإحياء الناتجة عن موته. فموت أصحابنا وإن كان محزناً في ذاته، ربما كان علة فرح لمن استفادوا منه استفادة روحية وآل إلى تمجيد الله.
ولنا من ذلك أن تقوية إيمان التلاميذ كانت من أعظم الأمور ذات الشأن عند المسيح، وإلا لما سمح بكل ذلك المصاب العظيم لأجلها.
لِنَذْهَبْ إِلَيْهِ لم يقل: لنذهب إلى حيث كان أو إلى قبره، بل «إليه». وهذا دليل على قصده إقامته، وإلا لم صحَّ ذهابهم إليه أو اجتماعهم به.
16 «فَقَالَ تُومَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ لِلتّلامِيذِ رُفَقَائِهِ: لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضاً لِكَيْ نَمُوتَ مَعَهُ».
تُومَا ذُكر أيضاً في يوحنا 14: 5 و20: 24 - 27 وما ذُكر من أمره يدل على أنه كان يميل إلى التساؤل والشك.
لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضاً لِكَيْ نَمُوتَ مَعَهُ أي مع المسيح لأنه لم يسمع لنصحنا أو توسلاتنا أن لا يذهب إلى اليهودية محل الخطر. فالظاهر من كلامه أن قول المسيح إنه يذهب ليوقظه لم يؤثر فيه شيئاً، ولم يتوقع أن المسيح سيقيم لعازر، وأنه ينتظر أن يقتل اليهود يسوع ويقتلوهم معه. ومع كل ذلك قصد لحبه إياه أن لا يتركوه، بل أن يُقْدم على الخطر معه. والأرجح أن كل التلاميذ شاركوا توما في أفكاره وعزمه.
17 «فَلَمَّا أَتَى يَسُوعُ وَجَدَ أَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ فِي القَبْرِ».
فَلَمَّا أَتَى يَسُوعُ من بيت عبرة في بيرية (وهي في عبر الأردن) إلى بيت عنيا نحو مسيرة يوم. ولعل المسيح قضى في ذلك السفر أكثر من يوم، فبلغ بيت عنيا في غد اليوم التالي ليكون له وقت من النهار كافٍ لإقامة لعازر وما تعلق بها. ولم يدخل يسوع القرية عند وصوله إليها بل بقي خارجها (ع 20، 30). ولعل سبب ذلك أن اليهود الذين كانوا في بيت لعازر لم يكونوا من أصدقاء يسوع، وأنه لم يحب أن يشاهد مظاهر الحزن ويسمع الضجيج (مرقس 5: 40)، وأنه رغب في أن يرى أصحابه الحزانى بمعزل عن الجمع. والأرجح أنه أرسل إليهم نبأ وصوله.
لَهُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ فِي القَبْرِ لو عرفنا الوقت الذي شغله الرسول بذهابه من بيت لعازر إلى حيث كان يسوع، وعرفنا الوقت الذي شغله يسوع بذهابه من بيت عبرة إلى بيت عنيا، لعرفنا الوقت الذي بقي فيه لعازر حياً بعد ذهاب الرسول من بيته إلى يسوع. فإن الرسول قد صرف يوماً بذلك الذهاب، وصرف يسوع يوماً بالمجيء، وكان موت لعازر في يوم انطلاق الرسول إلى يسوع، وجملة ذلك مع اليومين اللذين مكث فيهما يسوع أربعة أيام. والأرجح أن المسيح صرف ما يزيد على اليوم، وإلا ما بقي وقتٌ من النهار لإقامته، فيكون موت لعازر بعد يوم من انطلاق الرسول. ومرور أربعة أيام على لعازر في القبر يدفع توهّم أنه كان قد أُغمي عليه ولم يمت حقيقة. وقوله في هذه الآية «وجد أنه قد صار له الخ» لا ينفي معرفته ذلك قبلاً، فإنه كان قد أخبر تلاميذه بذلك قبل أن يجيء (ع 14). فالمعنى أن الناس هناك شهدوا له بذلك.
18 «وَكَانَتْ بَيْتُ عَنْيَا قَرِيبَةً مِنْ أُورُشَلِيمَ نَحْوَ خَمْسَ عَشَرَةَ غَلوَةً».
وَكَانَتْ قال «كانت» لأنه حين كتب إنجيله كانت أورشليم وكل القرى التي حولها خرباً.
قَرِيبَةً مِنْ أُورُشَلِيمَ وذكر ذلك دليل على أنه لم يكتب إنجيله لسكان الأرض المقدسة. وذكر هنا قرب بيت عنيا من أورشليم بياناً لمجيء المعزين من أورشليم إليها.
خَمْسَ عَشَرَةَ غَلوَةً أي نحو ميلين أو ثلثي ساعة (انظر شرح متّى 21: 1).
19 «وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ اليَهُودِ قَدْ جَاءُوا إِلَى مَرْثَا وَمَرْيَمَ لِيُعَزُّوهُمَا عَنْ أَخِيهِمَا».
كان من عوائد اليهود أن يعزوا أهل الميت سبعة أيام بعد موته. واعتاد يوحنا أن يعني باليهود رؤساء الشعب الذين كان أكثرهم من أعداء يسوع. ولا دليل أنه لم يقصد ذلك هنا. وأتوا لتعزية ذلك البيت إما لأنهم من أقربائه، أو لأن وظيفتهم اقتضت ذلك.
20 «فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرْثَا أَنَّ يَسُوعَ آتٍ لاقَتْهُ، وَأَمَّا مَرْيَمُ فَاسْتَمَرَّتْ جَالِسَةً فِي البَيْتِ».
لَمَّا سَمِعَتْ مَرْثَا الأرجح أن مرثا كانت أكبر من مريم، ومن المعلوم أنها كانت مدبرة البيت (لوقا 10: 40) عرفت بقدوم المسيح إما من رسول أرسله يسوع، أو لأنها رأته من بعيد، فأسرعت إليه إلى خارج القرية. ولم تخبر أختها بما كان، وإلا لم تقل لأختها بعد ذلك «المعلم قد حضر» (ع 28).
وَأَمَّا مَرْيَمُ فَاسْتَمَرَّتْ جَالِسَةً كأنها قد غرقت في الحزن (أيوب 2: 8 وحزقيال 8: 14). وظهرت من الأختين الصفات التي ظهرت منهما يوم الوليمة التي ذُكرت في لوقا 10: 39 - 42، إذ كانت مريم جالسة عند قدميه، ومرثا مهتمة بأمور البيت.
21 «فَقَالَتْ مَرْثَا لِيَسُوعَ: يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي».
لم تقصد مرثا أن تلوم المسيح على غيابه بل أن تظهر أسفها على ذلك. ولم تتعجب من أنه لم يشفِه بكلمة وإن كان غائباً، كما تعجب غيرها من المعزين. ويفيد كلامها أنها كانت تعتقد أن المسيح لو كان حاضراً عند مرض أخيها لشفاه، لأن محبته له كانت تمنعه من أن يسمح بموته، وأن رئيس الحياة لا يسمح للموت أن يفترس أحداً أمام عينيه. ويفيد أيضاً اعتقادها أنه قد مضت الفرصة النافعة للعازر، وأنه انقطع الأمل بانتهاء حياته. وأن حضور المسيح بشخصه كان ضرورياً لشفاء المريض ودفع الموت. وفي كلام مرثا دليل على ثقتها بمحبة المسيح وقوته الفائقة الطبيعة على شفاء المريض، بشرط حضوره قبل موته، وتمنيها عدم غيابه فكأنها قالت: يا ليتك كنت هنا!
22 «لَكِنِّي الآنَ أَيْضاً أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ يُعْطِيكَ اللَّهُ إِيَّاهُ».
يوحنا 9: 31
كلامها هنا مبهم، لكنه أظهر أن مجيء المسيح نبَّه إيمانها وبشرها بالمعونة والبركة بطريق لم تعرفه، ومع ذلك لم تتوقع أن يُحيي أخاها كما يُستدل من أقوالها وأعمالها بعد ذلك. وقولها: «ما تطلب من الله يعطيك الله إياه» يدل على أنها لم تعتبر يسوع سوى نبي، لا قوة له من ذاته على المعجزات، إنما ينال القوة على ذلك من الله بصلواته كما نالها إيليا وأليشع، وأنها نسيت كيف فعل المسيح المعجزات سابقاً.
23 «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: سَيَقُومُ أَخُوكِ».
سَيَقُومُ أَخُوكِ لم يقل لها متّى ولا كيف يقوم، وكان هذا امتحاناً لقدر إيمانها به ليزيدها إيماناً. وهي لم تحسب كلامه وعداً بإقامته في الحال.
24 «قَالَتْ لَهُ مَرْثَا: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي القِيَامَةِ، فِي اليَوْمِ الأَخِيرِ».
لوقا 14: 14 ويوحنا 5: 29
كانت مرثا تعتقد بالقيامة العامة بناءً على أقوال التوراة إن الصالحين يقومون في يوم الدين، ففهمت من كلام المسيح تلك القيامة ولم تتوقع غيرها. وكان ذلك الانتظار في المستقبل البعيد تعزية قليلة في مثل ذلك الحزن الوافر.
25 «قَالَ لَهَا يَسُوعُ: أَنَا هُوَ القِيَامَةُ وَالحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا».
يوحنا 5: 21 و6: 39، 40، 44 ويوحنا 1: 4 و6: 35 و14: 6 وكولوسي 3: 4 و1يوحنا 1: 1، 2 و5: 11 ويوحنا 3: 36 و1يوحنا 5: 10 الخ
علَّمها يسوع هنا ما لم تعلم من أمر عظمته وقوته، وهو أنه غير مفتقر إلى غيره، وليس محتاجاً أن يصلي للآب لينال قوة ليفعل ما يريد.
أَنَا هُوَ القِيَامَةُ أي أنا علة القيامة الجسدية والقيامة الروحية ومصدرهما، علاوة على أني مُعلنهما، فأنا غالب موت وكل نتائجه. والمسيح هو القيامة الآن، وليس فقط في اليوم الأخير، لأنه هو القيامة، فهي ممكنة حيث كان. فلا يلزم أن تتوقع مرثا قيام أخيها في اليوم الأخير فقط. ومثل وصف يسوع نفسه بكونه القيامة وصف الرسول إياه بأنه «صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللَّهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً» ( 1كورنثوس 1: 30).
وَالحَيَاةُ انظر شرح يوحنا 1: 4. أي هو ينبوع كل حياة جسدية وروحية، وهذا يتضمن أنه القيامة أيضاً لأن مُبدئ الحياة الذي يقدر أن يعيدها، فقد أبدع حياة المخلوقات الحية من العدم. وأن كل من نال الحياة الروحية من البشر إنما نالها منه. وهو يحفظها دائماً، وأن كل الذين يقومون من الموت إنما يقومون به، وأنه لا حياة لأحد من الناس بدونه. فالمسيح صرح هنا بأنه «القيامة والحياة» وأثبت ذلك بالمعجزة وهي إقامته لعازر، وفتح لنا سبيلاً إلى ذلك بموته وقيامته. وحياته عربون قيامتنا وحياتنا، وهو يُجري كل ذلك بقوته.
مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ كما مات لعازر. فالموت هنا موت جسدي فقط لأن إيمان المؤمن دليل على أنه حي بالحياة الروحية، فلا يمكن أن يكون الإنسان ميتاً بالروح ومؤمناً معاً. ولنا من ذلك أن انفصال الروح عن الجسد لا يؤثر شيئاً في حياة الروح، وأن المؤمنين لا بد من أن يقوموا من الموت ويحيوا فيشاركونه في تلك الحياة إلى الأبد. نعم إن المؤمن يموت كما مات لعازر ويُدفن جسده في القبر، لكن ذلك تسلط الموت على الجسد وقتياً. وأما نفسه فهي متحدة بالمسيح دائماً، فلن يتسلط الموت عليها. وما صحَّ على المسيح الذي هو الرأس يصح على جميع المؤمنين الذين هم أعضاء جسده، فإن الموت استولى عليه وقتياً وقام غالباً للموت، وكذلك كل المؤمنين به يقومون بواسطته. وفي كلامه هنا تسليم بأن الإيمان لا يقي الإنسان من الموت الجسدي، وفيه استخفافٌ بذلك الموت لأنه إلى حين وتليه حياة أبدية.
فَسَيَحْيَا أي تعود إليه الحياة الجسدية يوم القيامة. والموت للمؤمن باب للحياة الأبدية، ويوافق ما قيل في أعمال 7: 59 ورومية 14: 8 و1تسالونيكي 5: 10 و2تيموثاوس 4: 8 و2بطرس 1: 11.
26 «وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا؟».
وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً بالجسد كما كانت مرثا حينئذ. فما أثبته المسيح للمؤمنين الموتى أثبته للمؤمنين الأحياء (يوحنا 6: 50، 51، 54، 58).
فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ موتاً روحياً، فالموت الثاني لا سلطة له على المؤمن، والموت الجسدي لا يأتيه كعدو بل كصاحب لينقله من هذا العالم إلى عالم أفضل منه، لأن المسيح نزع شوكة الموت التي هي الخطية، وأنه يقيمه بعد قليل من القبر ويدخله إلى المجد، فلن يموت أيضاً لأنه يكون مثل المسيح «فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ المَسِيحِ، نُؤْمِنُ أَنَّنَا سَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ. عَالِمِينَ أَنَّ المَسِيحَ بَعْدَمَا أُقِيمَ مِنَ الأَمْوَاتِ لا يَمُوتُ أَيْضاً. لا يَسُودُ عَلَيْهِ المَوْتُ بَعْدُ» (رومية 6: 8، 9). وهنا دليل قاطع على قوة الإيمان لأنه ينتصر على الموت.
أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا علاوة على إيمانك بأن أخاك يقوم في اليوم الأخير. فهل تصدقين أني علة القيامة وينبوع الحياة، وأن لي مفاتيح الموت والهاوية؟ فإن اقتصرتِ على تصديق أني نبي فذلك لا يكفي. فعلى كل مسيحي أن يسأل نفسه عن إيمانه بالمسيح، ليرى هل هو موافق لما قيل هنا؟ وإلا فليجتهد في إكماله بما شهد به المسيح لنفسه.
27 «قَالَتْ لَهُ: نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، الآتِي إِلَى العَالَمِ».
متّى 16: 16 ويوحنا 4: 42 و6: 14، 69
سلمت بمعنى قول المسيح على قدر إدراكها إياه. والنتيجة تدل على أنها لم تفهم كل مضمون قوله إنه هو القيامة والحياة. والظاهر أنها حسبت اعتقادها أنه المسيح فصدقت كل ما قاله.
آمَنْتُ قال الأعمى الذي شُفي «أومن يا سيد» (يوحنا 9: 38) لأن إيمانه كان في الحاضر. وقالت مرثا «آمنت» لإيمانها في الماضي وفي الحاضر أيضاً.
المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، الآتِي إِلَى العَالَمِ في هذا الإقرار ثلاثة أمور: (1) أن يسوع هو المسيح أي الممسوح من الله ملكاً وكاهناً ونبياً. (2) أنه ابن الله أي إله. (3) أنه الفادي الموعود بمجيئه إلى العالم. فهذا مثل إقرار بطرس (متّى 16: 16) وأكمل منه.
28 «وَلَمَّا قَالَتْ هَذَا مَضَتْ وَدَعَتْ مَرْيَمَ أُخْتَهَا سِرّاً، قَائِلَةً: المُعَلِّمُ قَدْ حَضَرَ، وَهُوَ يَدْعُوكِ».
مَضَتْ وَدَعَتْ مَرْيَمَ الأرجح أن يسوع أمرها بذلك بدليل قولها «وهو يدعوك». ولا بد من أن حبها لأختها حملها أيضاً على دعوتها إلى يسوع لتتعزى به كما تعزت هي بمشاهدته وبكلامه.
سِرّاً أي بدون أن تُعلم أحداً غيرها من اليهود الذين في بيتها. وعلة ذلك أنهم لم يكونوا من أصحابه، وأن اجتماع الناس يمنعهما من الحديث المفيد معه، وأن الحزانى يكرهون أن يشاهد الناس علامات حزنهم إذا كان حقيقياً.
المُعَلِّمُ اصطلح التلاميذ ومعارف يسوع أن يشيروا إليه بهذه اللفظة (متّى 26: 18 ويوحنا 13: 13).
وَهُوَ يَدْعُوكِ هذا يدل على أن المسيح أمر مرثا بأن تدعو أختها وإن لم يُذكر ذلك.
29 «أَمَّا تِلكَ فَلَمَّا سَمِعَتْ قَامَتْ سَرِيعاً وَجَاءَتْ إِلَيْهِ».
تركت المعزّين الكثيرين لتذهب إلى المعزي الحقيقي. كانت جالسة حزينة يائسة، فقيامها بسرعة يدل على نشوء الأمل في قلبها.
30 «وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ جَاءَ إِلَى القَرْيَةِ، بَل كَانَ فِي المَكَانِ الَّذِي لاقَتْهُ فِيهِ مَرْثَا».
هذا كما استُدل عليه في آية 20 بقوله «لاقته». وعلة بقائه خارج القرية أنه أتى ليقيم لعازر لا ليزور بيته (والأرجح أن القبور كانت خارج القرية) وأن اليهود الذين كانوا ينوحون معهما كانوا من أعدائه كما يُستدل من عمل بعضهم (ع 46).
31 «ثُمَّ إِنَّ اليَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهَا فِي البَيْتِ يُعَزُّونَهَا، لَمَّا رَأَوْا مَرْيَمَ قَامَتْ عَاجِلاً وَخَرَجَتْ، تَبِعُوهَا قَائِلِينَ: إِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى القَبْرِ لِتَبْكِيَ هُنَاكَ».
ع 19
تَبِعُوهَا المرجح أنهم كانوا كثيرين، ولم يسمعوا دعوة مرثا لها، وخرجوا وراءها احتراماً لها ولأختها، وبياناً لمشاركتهم لهما في الحزن. ولم يتبعوا مرثا عند ذهابها لأن مريم كانت باقية، ولكن لما ذهبت الاثنتان تبعوهما كما أوجبت العادة.
إِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى القَبْرِ لِتَبْكِيَ هُنَاكَ جرياً على العادة اليهودية وغيرها ليمنعوها من الحزن الشديد المضر لجسمها، لأن مشاهدة القبر تهيج أسفها. وكانت نتيجة ذلك كثرة شهود المعجزة. ولعلهم لو عرفوا أن يسوع هناك ما خرجوا.
32 «فَمَرْيَمُ لَمَّا أَتَتْ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَسُوعُ وَرَأَتْهُ، خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً لَهُ: يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي».
ع 21
كان كلام مريم حين وصلت إلى يسوع مثل كلام مرثا (ع 21) مما يدل على أنهما كررتاه كثيراً بينهما في غيبة يسوع، وأن أمل مريم كان مثل أمل أختها، وهو أن المسيح لو كان حاضراً قبل موت أخيهما لشفاه، وأنه انقطع ذلك الأمر عند موته. وقيل فيها ما لم يُقل في مرثا وهو أنها «خرّت عند رجليه». وهذا دليل على أن الحزن قد اشتد عليها أكثر مما اشتد على مرثا، وأنه سحق روحها. وليس في كلامها مثل ما كان في كلام مرثا مما دل على نشوء الرجاء في قلبها بقدوم المسيح.
33 «فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ تَبْكِي، وَاليَهُودُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ، انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ».
يحقق لنا ما في هذه الآية ناسوت المسيح التام، كما حققت لنا معجزته لاهوته التام، وأنه يشارك المؤمنين به في أحزانهم. فمعلومٌ أن