العودة الى الصفحة السابقة
شرح سفر القضاة

شرح سفر القضاة

السّنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم

للقس . وليم مارش


List of Tables

1.
2.
3.
4.
5.
6.
7.
8.
9.
10.
11.
12.
13.
14.
15.
16.
17.
18.
19.
20.
21.
22.
23.
24.
25.

Bibliography

السّنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم: شرح سفر القضاة. للقس . وليم مارش . Copyright © 2013 All rights reserved Call of Hope. . صدر عن مجمع الكنائس في الشرق الأدنى بيروت 1973. . English title: . German title: . Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 D - 70007 Stuttgart Germany http: //www.call-of-hope.com .

مقدمة

تفتقر خزانة الأدب المسيحي إلى مجموعة كاملة من التفاسير لكتب العهدين القديم والجديد. ومن المؤسف حقاً أنه لا توجد حالياً في أية مكتبة مسيحية في شرقنا العربي مجموعة تفسير كاملة لأجزاء الكتاب المقدس. وبالرغم من أن دور النشر المسيحية المختلفة قد أضافت لخزانة الأدب المسيحي عدداً لا بأس به من المؤلفات الدينية التي تمتاز بعمق البحث والاستقصاء والدراسة، إلا أن أياً من هذه الدور لم تقدم مجموعة كاملة من التفاسير، الأمر الذي دفع مجمع الكنائس في الشرق الأدنى بالإسراع لإعادة طبع كتب المجموعة المعروفة باسم: «كتاب السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم» للقس وليم مارش، والمجموعة المعروفة باسم «الكنز الجليل في تفسير الإنجيل» وهي مجموعة تفاسير كتب العهد الجديد للعلامة الدكتور وليم إدي.

ورغم اقتناعنا بأن هاتين المجموعتين كتبتا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلا أن جودة المادة ودقة البحث واتساع الفكر والآراء السديدة المتضمنة فيهما كانت من أكبر الدوافع المقنعة لإعادة طبعهما.

هذا وقد تكرّم سينودس سوريا ولبنان الإنجيلي مشكوراً - وهو صاحب حقوق الطبع - بالسماح لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى بإعادة طبع هاتين المجموعتين حتى يكون تفسير الكتاب في متناول يد كل باحث ودارس.

ورب الكنيسة نسأل أن يجعل من هاتين المجموعتين نوراً ونبراساً يهدي الطريق إلى معرفة ذاك الذي قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة».

القس ألبرت استيرو

الأمين العام

لمجمع الكنائس في الشرق الأدنى

المقدمة وفيها خمسة فصول

الفصل الأول: في اسم هذا السفر

اسم هذا السفر في العبرانية شفطيم جمع شفط أي قاض. ولم يأت هذا اللفظ لهذا المعنى في غير العبرانية والفينيقية من اللغات السامية. وشفط في العبرانية تأتي بمعنى قضى وعيّن الأسباب وعدل واستقام وبرهن وأثبت وبرّأ أو برّر وحقق وحامى. ومعناه بالإجمال ساد وحكم ورتّب. ومعنى القضاة هنا الرؤساء الحاكمون الأمة العبرانية من أيام موسى إلى أيام شاول. وكان لهم القضاء والسلطة. فإنهم كانوا ينظرون في الدعاوي ويثبتون ما يثبتون وينفون ما ينفون وينفذون أحكامهم. ويقودون الجيوش إلى الحرب. وكان مرجع ذلك كله إلى الكهنة لأن حكم بني إسرائيل كان حينئذ إلهياً لا ملكياً ولا جمهورياً. فكان الله سبحانه ملكاً والحبر الأعظم الصدر أو الوزير الأول. وكان يخاطب الحبر الأعظم بالأوريم والتميم. وكان لكل سبط رؤساء يدبرون أموره ولكن كانوا إذا عظم الخلاف في أمر ولم يفضّوه يرفعونه إلى القضاة فيحكمون به بمقتضى الشريعة فكان الله يدعو القضاة إلى القضاء أحياناً والشعب يختارهم أحياناً. وكان عدة قضاة في وقت واحد. بعضهم يقود الجنود وبعضهم يتولى القضاء. وقد نشأ عن ذلك بعض الالتباس في التاريخ.

الفصل الثاني: في كاتب هذا السفر وزمان كتابته

اختلفت الأقوال في كاتب هذا السفر حتى تعذّر القطع بكاتبه. فذهب بعضهم إلى أن كاتبه صموئيل وبعضهم إلى أنه حزقيا وبعضهم إلى أنه عزرا وأنه جمعه مما كتبه القضاة في كل زمان ولايته. وهذا أي القول بأن عزرا كاتبه مبني على ما جاء في (ص 18: 30) وهو قوله «وَكَانَ يَهُونَاثَانُ بْنُ جَرْشُومَ بْنُ مَنَسَّى هُوَ وَبَنُوهُ كَهَنَةً لِسِبْطِ ٱلدَّانِيِّينَ إِلَى يَوْمِ سَبْيِ ٱلأَرْضِ» فظن الباحث أنه كُتب بعد سبي بابل. ولكن يظهر مما جاء في (مزمور 78: 60 و61 و1صموئيل 4: 11) إن هذا السبي حدث يوم أخذ الفلسطينيون التابوت. وهذا يدل على أنه كُتب قبل سبي بابل بخلاف الأسفار التي كُتبت بعد ذلك السبي. وأكثر اليهود والمسيحيين على أن كاتبه صموئيل فإن ما فيه موافق لعصره. ولك دليل آخر وهو قول الكاتب إن الأمر كذا وكذا كان قبل أن يكون ملك في إسرائيل فيوم كُتب كان ملك فيه لكنه كُتب على أثر إقامة ملك في إسرائيل أي ليس بعد زمان طويل بدليل ما في (ص 1: 21) وهو أن اليبوسيين كانوا لا يزالون في أورشليم وهؤلاء طُردوا من أورشليم على أثر ملك داود (2صموئيل 5: 6). وما في (ص 9: 53 و2صموئيل 11: 21) يبيّن أن سفر القضاة كُتب قبل سفر صموئيل الثاني وهو موافق كل الموافقة للقول بأن صموئيل هو الكاتب دون غيره. وإن زمان كتابته قرب داود أو في أثناء السنين السبع من ملكه. ومن أحسن النظر في أقوال هذا السفر ظهر له أن كاتبه صموئيل. ولا ريب في أن الحوادث في عصر كل من أولئك القضاة كان القضاة وغيرهم من المؤرخين يكتبونها في أوقاتها وإن صموئيل وقف على تلك المكتوبات وألهمه الله أن يكتب الصحيح لأنه كان من الأنبياء الذين يكلمهم الرب ويوحي إليهم. وبعد هذا التحقيق كله إن عدم معرفة كاتب سفر من أسفار الوحي لا يثلم صحته ولا قانونيته لأن الوحي لم ينقطع عن إسرائيل إلى آخر أنبيائهم فكان الأنبياء والموحى إليهم رقباء الأسفار المقدسة ومصدقيها للشعب. فكان الشعب واثقاً بما فيها يحرص عليها كل الحرص على توالي السنين والأيام.

الفصل الثالث: في قانونية هذا السفر

إن هذا السفر كان من جملة أسفار العهد القديم في العبرانية والمترجمات عنها وفي كتب علماء اليهود منذ كان إلى هذه الساعة. وأجمع الإسرائيليون والمسيحيون على قانونيته وصدقّه أنبياء العهد القديم وكتبة العهد الجديد ورسله وآباء الكنيسة المسيحية وعلماؤها منذ أول عهدهم إلى اليوم.

الفصل الرابع في تاريخ الحوادث في هذا السفر

في تحقيق الزمان الذي شغلته حوادث سفر القضاة صعوبات وآراء كثيرة كثير منها تخيلات وأوهام والمعوّل عليه ما يأتي:

Table 1. 

الحوادثطولهاتاريخها ق.م   
الخروج 1492   
إعطاء الشريعة على جبل سيناء 1491   
التيه في البرية وعند نهايته موت موسى وهارون401453   
افتتاح أرض كنعان71452 - 1445   
من قسمة الأرض إلى تسلّط كوشان رشعتايم101445 - 1435   
موت يشوع 1442   
حروب إسرائيل مع الكنعانيين. بداءتها 1442   
محاربة بنيامين (ص 20) 1436   
تسلط كوشان رشعتايم (ص 3)81435 - 1427   
عثنيئيل ومدة الراحة401427 - 1378   
تسلط الموآبيين181387 - 1369   
أهود ومدة الراحة801369 - 1289   
شمجر وضربة الفلسطينيين     
تسلط يابين (ص 4)201289 - 1269   
دبورة وباراق ومدة الراحة401269 - 1229   
تسلط المديانيين (ص 6)71229 - 1222   
جدعون ومدة الراحة (ص 8)401222 - 1182   
أبيمالك (ص 9)31182 - 1179   
تولع (ص 10)231179 - 1156   
يائير221156 - 1134   
عالي (1صموئيل 1)401145 - 1114   
 _____    
 398    

حوادث في الشرق

Table 2. 

تسلط العمونيين18 سنة1134 - 1116   
يفتاح6 سنين1116 - 1110   
أبصان (ص 22: 8)7 سنين1110 - 1103   
إيلون (ص 12: 11)10 سنين1103 - 1093   
عبدون (ص 12: 13)8 سنين1093 - 1085   

حوادث في الغرب

Table 3. 

تسلط الفلسطنيني وفقد التابوت1134 - 1094    
شمشون 1116 - 1096    
شمشون وهو نبي1114    
صموئيل وهو قاضي 19 سنة1094 - 1075    

Table 4. 

ذكرنا سابقاً مجموع مدات الحوادث من الخروج إلى آخر مدة عالي وهو398 سنة    
ويضاف إليه مدة قضاء صموئيل19    
ومدة ملك شاول20    
ومدة ملك داود40    
ومن جلوس سليمان إلى بناء الهيكل (انظر 1ملوك 6: 1)3    
 _____    
 480    

قيل في (أعمال 13: 21) إن شاول «ملك أربعين سنة» ومن المحتمل أن شاول وصموئيل كانا معاً مدة 19 سنة وبعد موت صموئيل ملك شاول وحده 20 سنة أي 39 سنة وكسور أو 40 سنة. ولا يمكننا أن نعرف تاريح مدة الحوادث بالتحقيق.

الفصل الخامس في مشتملات هذا السفر

يقسم هذا السفر إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول (ص 1: 1 - 2: 5)

نبأ افتتاح أرض كنعان واستلامها

الأسباط في الجنوب أي يهوذا وكالب والقينيون وشمعون وبنيامين (ص 1: 1 - 21).

الأسباط المتوسطة أي منسى وأفرايم (ص 1: 22 - 29).

الأسباط في الشمال أي زبولون وأشير ونفتالي (ص 1: 30 - 33).

سبط دان في الغرب (ص 1: 34 و35).

التخم الجنوبي (ص 1: 36).

توبيخ ملاك الرب لبني إسرائيل لأنهم لم يطردوا جميع سكان الأرض (ص 2: 1 - 5).

القسم الثاني (ص 2: 6 - 16: 31)

تاريخ إسرائيل في أيام القضاة

مقدمة (ص 2: 6 - 3: 6) نبأ إجمالي أن كل ما أصابهم من الضيقات والظلم هو من الرب وعقاب خطاياهم وإنه أشفق عليهم عندما صرخوا إليه وأقام لهم قضاة وخلّصهم. وذكر الأمم الذين تركهم الرب ليمتحن بهم إسرائيل.

نبأ القضاة وأعمالهم الباسلة (ص 3: 6 - 16: 31).

عثنيئيل خلص إسرائيل من كوشان رشعتايم (ص 3: 7 - 11).

أهود قتل عجلون ملك موآب وخلص إسرائيل (ص 3: 12 - 30).

قتل شمجر 600 من الفلطسينيين (ص 3: 31).

خلّص دبورة وباراق إسرائيل من الكنعانيين وموت سيسرا (ص 4).

نشيد دبورة (ص 5).

خلّص جدعون إسرائيل من المديانيين (ص 6 - 8).

ملك أبيمالك بن جدعون في شكيم (ص 9).

نبأ تولع ويائير (ص 10: 1 - 5).

ذكر فوائد يجب أن نستفيدها من تاريخهم (ص 10: 6 - 18).

خلص يفتاح جلعاد من العمونيين ومحاربة أفرايم (ص 11: 1 - 12: 7).

أبصان وإيلون وعبدون (ص 12: 9 - 15).

نبأ شمشون (ص 13 - 16).

القسم الثالث (ص 17 - 21)

حادثتين حدثتا في زمان القضاة

أصنام ميخا ومهاجرة الدانيين وإقامة المعبد في دان (ص 17 و18).

عمل أهل جبعة الفظيع وانتقام إسرائيل منهم وإبادة سبط بنيامين ما عدا قليلين منهم (ص 19 - 21).

ونلاحظ من هذا التاريخ أنه لم يكن الزمان كله زمان حروب فإنه بعد عثنيئيل استراحت الأرض أربعين سنة وبعد أهود ثمانين سنة وبعد دبورة أربعين سنة الخ. وإذا قابلنا أزمنة العبودية بأزمنة الراحة نرى أن أزمنة الراحة نحو ثلاثة أرباع السفر كله وأزمنة الضيق نحو الربع.

كان الإسرائيليون يعملون في مزروعاتهم ومواشيهم ولم يكن عندهم إلا قليل من الصنائع والتجارة والعلوم.

ومن أعظم أمم العالم في زمان القضاة الأمة المصرية وفي هذا الزمان بُنيت مدينة صور وتأسست مملكة اليونان.

وكان بعض القضاة أبطال الإيمان (عبرانيين ص 11) ولكننا لا نستنتج من ذلك أنهم كانوا كاملين فإن هذا السفر يذكر عيوبهم الأدبية وأفكارهم وغاياتهم الجسدية. وكانوا أبطال الإيمان لأنهم رفعوا الرب فوق آلهة الأمم وأطاعوه وصدقوه واتكلوه عليه. وأما معرفتهم وسلوكهم الأدبي فكما يُستنظر من أهل ذلك العصر.

اَلأَصْحَاحُ ٱلأَوَّلُ

السعي في الاستيلاء على ما بقي من أرض كنعان

مشتملات هذا الأصحاح حروب يهوذا وشمعون وانكسار أدوني بازق والاستيلاء على أورشليم (ع 1 - 8). وإخراج يهوذا وكالب العناقيين من حبرون (ع 9 و10). واستيلاء عثنيئيل على دبير (ع 11 - 13). وطلبة عكسة (ع 14 و15). وسكنى بني القيني مع إسرائيل (ع 16) ونجاح يهوذا أيضاً (ع 17 - 20). ونجاح بني بنيامين شيئاً في أورشليم (ع 21). واستيلاء بني يوسف على بيت إيل بخيانة أحد سكانها (ع 23 - 26). ونجاح منسى وأفرايم وزبولون وأشير ونفتالي ودان بعض النجاح (ع 27 - 36).

والغاية في ذكر الأماكن التي لم يطرد الإسرائيليون الكنعانيين منها إيضاح نسبة الإسرائيليين إلى الكنعانيين وسبب الضيقات والحروب التي سيأتي نبأها وكيفية نموّ المملكة الإسرائيلية.

1 «وَكَانَ بَعْدَ مَوْتِ يَشُوعَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلُوا ٱلرَّبَّ: مَنْ مِنَّا يَصْعَدُ إِلَى ٱلْكَنْعَانِيِّينَ أَوَّلاً لِمُحَارَبَتِهِم».

عدد 27: 21 وص 20: 18

وَكَانَ الواو عاطفة هذا الكلام على الكلام المضاف في آخر سفر يشوع أتى بها كاتب سفر القضاة وهو صموئيل على الأرجح وهو الذي أضاف ما في آخر سفر يشوع كذلك. وجاءت هذه الواو في أول سفري صموئيل وسفري الملوك والغاية منها جعل التاريخ المقدس سلسلة متصلة من الخليقة إلى السبي. ولنا من ذلك أن تلك الأسفار قُصد منها علاوة على الشريعة والفرائض والسُنن تاريخ شعب الله على توالي الزمان.

بَعْدَ مَوْتِ يَشُوعَ وليس بعد موته بكثير لأن عثنيئيل كان صهر كالب رفيق يشوع.

سَأَلُوا ٱلرَّبَّ لأن الرب كان ملكهم ولم يكن لهم ملك من الناس ولا خليفة ليشوع. وسألوا بالأوريم والتميم بواسطة الحبر الأعظم وكان هذا الحبر العازار بن هارون (يشوع 14: 1) أو فينحاس بن العازار (يشوع 24: 33) وهذا ما ذهب إليه يوسيفوس (التاريخ القديم). وذُكر الأوريم والتميم في سفر الخروج (انظر خروج 28 - 30) وحاشية التوراة ذات الشواهد والتفسير (وانظر أيضاً عدد 27: 21 والتفسير).

مَنْ مِنَّا أي أيّ الأسباط من أسباطنا.

يَصْعَدُ إِلَى ٱلْكَنْعَانِيِّينَ الخ أي يزحف عليهم للحرب أولاً كأنه قائد لسائر الأسباط على قول بعضهم. أو من يقوم أولاً بتلك الحرب وله أن يطلب مساعدة غيره من الأسباط بعد ذلك.

2 «فَقَالَ ٱلرَّبُّ: يَهُوذَا يَصْعَدُ. هُوَذَا قَدْ دَفَعْتُ ٱلأَرْضَ لِيَدِهِ».

تكوين 49: 8

فَقَالَ ٱلرَّبُّ أي أعلن لرئيس الأحبار بالأوريم والتميم ورئيس الأحبار أعلم الشعب. وهذا الرئيس هو فينحاس على قول يوسيفوس.

يَهُوذَا يَصْعَدُ أي سبط يهوذا يصعد للحرب. وتسمية السبط والقبيلة والجماعة باسم السلف الذي تُنسب إليه كثير في اللغات السامية وهي وافرة جداً في العبرانية والعربية فيقال وائل ويُراد قبيلة وائل ومثل ذلك هُذَبل وتميم وعبس وقضاعة وغيرهم للقبائل المنسوبة إليهم.

وعلة اختيار يهوذا دون غيره من الأسباط كثرته وما كان له من العظمة والقوة كما دل على ذلك كثرته في البرية (عدد 1: 26 و 27) وما شاع عنه من مباركة يعقوب له «يَهُوذَا، إِيَّاكَ يَحْمَدُ إِخْوَتُكَ. يَدُكَ عَلَى قَفَا أَعْدَائِكَ» (تكوين 49: 8 قابل هذا بما في عدد 24: 19 ويشوع 15: 1). فترى أن يهوذا مع عظمته وقوته واسع الأرض مقدماً على سواه من الأسباط. وكانت منزلة يهوذا في محلة الإسرائيليين في الشرق وكان يجاوره يساكر وزبولون وكان يذهب أولاً عند الارتحال وكان شبيه الأسد دلالة على شجاعته (تكوين 49: 9 ورمية 5: 5).

هُوَذَا قَدْ دَفَعْتُ ٱلأَرْضَ لِيَدِهِ أي قد قدّرته على أخذ ما بقي له من أرض الميعاد من الأعداء فلا بد من أن يستولي عليه. وعبّر عن المستقبل بصيغة الماضي للتأكيد.

3 «فَقَالَ يَهُوذَا لِشَمْعُونَ أَخِيهِ: اِصْعَدْ مَعِي فِي قُرْعَتِي لِنُحَارِبَ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ، فَأَصْعَدَ أَنَا أَيْضاً مَعَكَ فِي قُرْعَتِكَ. فَذَهَبَ شَمْعُونُ مَعَهُ».

ع 17

فَقَالَ يَهُوذَا لِشَمْعُونَ أَخِيهِ: اِصْعَدْ مَعِي فِي قُرْعَتِي الخ هذه الآية تدل على وهن القول بأن الإسرائيليين كلهم صعدوا للحرب وإن سبط يهوذا كان مقدمتهم قائداً لهم فإنه ظاهر من نصها أن يهوذا صعد بمقتضى القرعة التي أُلقيت لقسمة أرض الميعاد بين الأسباط.

وبقي هنا أنه طلب يهوذا مساعدة شمعون دون غيره من الأسباط مع ضعفه وقلة عدده حتى كاد يتلاشى ولم يباركه موسى مع الأسباط (تثنية ص 33) فإنه في الإحصاء الأول كان عدده 59300 (عدد 1: 23) وصار في الإحصاء الثاني 22200 (عدد 26: 14) وعلة ذلك ضربه بالوبإ على ذنبه العظيم (عدد 25: 1 - 15). والجواب أن يهوذا وشمعون كانا ابني يعقوب من أم واحدة هي ليئة فكان من مقتضى الطبع أن يساعد أحدهما الآخر وإن شمعون كان ساكناً في أرض يهوذا (يشوع 19: 1) وإنه على ضعفه وقلّة عدده كان في غاية الافتقار إلى من يساعده فرأى يهوذا أن يساعده على أخذ قرعته جزاء على مساعدته له. وهذا مما يقضي به الحب والحكمة.

ثم يظهر مما ظهر من الشمعونيين في عصر حزقيا أن الله غفر لهم وأنعشهم (1أيام 4: 42 و43).

4 «فَصَعِدَ يَهُوذَا. وَدَفَعَ ٱلرَّبُّ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ وَٱلْفِرِزِّيِّينَ بِيَدِهِمْ، فَضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي بَازَقَ عَشَرَةَ آلاَفِ رَجُلٍ».

1صموئيل 11: 8

فَصَعِدَ يَهُوذَا أي ذهب سبط يهوذا لمحاربة الكنعانيين ومعه سبط شمعون والمرجّح أن القائد كان كالب بن يفنة فإنه كان من يهوذا وأمامهم (يشوع 14: 6) وشجاعاً خبيراً في الحرب (يشوع 14: 7 - 11).

ٱلْكَنْعَانِيِّينَ وَٱلْفِرِزِّيِّينَ (انظر تكوين 13: 7 و34: 30 والتفسير) كان الكنعانيون غوريين أي من الأغوار أعني الأرضين المنخفضة على أن بعضهم سكن الجبل (ع 9) إذ كانو ساكنين «عِنْدَ ٱلْبَحْرِ وَعَلَى جَانِبِ ٱلأُرْدُنِّ» (عدد 13: 29) «في الشرق والغرب» (يشوع 11: 3). وقد ذُكر أنهم سكان الجبال ووعورها (يشوع 11: 3 و17: 15). وهم أمة قديمة ذات شأن (تكوين 13: 7 و34: 30 و1ملوك 9: 20). وكانوا أرباب زراعة وقرى (1صموئيل 6: 18 وتثنية 3: 5). ولم يُذكر اسمهم في مختصر أصول الأمم المذكور في الأصحاح العاشر من التكوين (انظر تفسير ما ذُكر من الآيات الكتابية ووصف الكنعانيين والفرزيين في قاموس الكتاب المقدس).

فَضَرَبُوا أي قتلوا بحد السيف (انظر ع 8).

بَازَقَ موقعها مجهول. في (1صموئيل 11: 8) ذُكرت بازق وفيها عدّ شاول الشعب قبل زحفه لإنقاذ يابيش جلعاد وهي على غاية تسعة عشر ميلاً من شكيم فكانت في سهم أفرايم. ويظن البعض أن السبطين المجاورين يعني يهوذا وشمعون زحفا إلى قلب فلسطين ليضرب أقوى جيوش الكنعانيين فضربوهم. وأتوا بملكهم إلى أورشليم. ثم أخذ يهوذا أورشليم وساروا على الكنعانيين فضربوهم وأتوا بملكهم إلى أورشليم. ثم أخذ يهوذا أورشليم وساروا على الكنعانيين الساكنين في الجنوب. والبعض يفرضون أن بازق كانت بقرب أورشليم والبعض أنها اسم قطيعة لا اسم مدينة وإنها بين بحر الجليل وبحر لوط أو على شط بحر لوط الغربي.

5 «وَوَجَدُوا أَدُونِيَ بَازَقَ فِي بَازَقَ، فَحَارَبُوهُ وَضَرَبُوا ٱلْكَنْعَانِيِّينَ وَٱلْفِرِزِّيِّينَ».

وَوَجَدُوا ربما كان ذلك اتفاقاً وهم زاحفون والظاهر أنهم زحفوا فجأة فلم يعلم الأعداء.

أَدُونِيَ بَازَقَ أي رب بازق أي البارق أو البرق أو البزوغ كما أن أدوني صادق رب البرّ وملكي صادق ملك البر. وهذا الملك القوي كما يُعلم من (ع 7) لم يُذكر في سفر يشوع فهو على ما قال أحد العلماء ممن نشأوا على أثر موت يشوع.

وَضَرَبُوا ٱلْكَنْعَانِيِّينَ وَٱلْفِرِزِّيِّينَ أي قتلوهم بحد السيف (ع 8).

6 «فَهَرَبَ أَدُونِي بَازَقَ. فَتَبِعُوهُ وَأَمْسَكُوهُ وَقَطَعُوا أَبَاهِمَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْه».

أَمْسَكُوهُ أي أسروه.

وَقَطَعُوا أَبَاهِمَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ قطعوا إبهامي يديه ليستحيل عليه أن يرمي سهماً أو يستل سيفاً. وقطعوا إبهامي رجليه لكي يمنعوه من سرعة السير. كان بعض الرومانيين يتخلصون من أخذهم جنوداً للحرب بقطع إبهام الأيدي والأرجل. وفي أشعار أوميروس اليوناني أن هذا القطع كان يحرم الملك أو ولي العهد من الملك لأنهم لم يكونوا يحتملون أن يكون في الملك مثل هذا النقص.

7 «فَقَالَ أَدُونِي بَازَقَ: سَبْعُونَ مَلِكاً مَقْطُوعَةٌ أَبَاهِمُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ كَانُوا يَلْتَقِطُونَ تَحْتَ مَائِدَتِي. كَمَا فَعَلْتُ كَذٰلِكَ جَازَانِيَ ٱللّٰهُ. وَأَتَوْا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ فَمَاتَ هُنَاكَ».

لاويين 24: 19 و1صموئيل 15: 33 ويعقوب 2: 13

فَقَالَ أَدُونِي بَازَقَ قول ذكرى إذ ذكره ما جوزي به ما ارتكبه من أمثاله ورأى أن الجزاء من جنس العمل وحكم بأنه مستحق ذلك العقاب على أن مجرد ذكرى الآثام عند الحكيم عقاب شديد فليتأمل أُلوا الألباب.

وظهر من قوله هذا أنه في كل إنسان ضمير يبكته على خطيئة الظلم والقساوة. والكنعانيون الذين كانوا سقطوا إلى أعماق الآثام والنجاسات وكان قد انقطع كل رجاء بإصلاحهم لم يفقدوا كل الفقد الضمير والشعور بالعدل والحق.

سَبْعُونَ مَلِكاً ولعله بالغ في الأمر قصد الافتخار فكان عدد الملوك أقل من سبعين. ونتذكر أيضاً أن فلسطين كانت مقسومة إلى كثير من الممالك الصغيرة بدليل أن كل مدينة استولى عليها يشوع كان لها ملك (انظر يشوع ص 12) ولا ريب في أن كثيراً من أولئك الملوك كانوا ولاة مدن أو قرىً يؤدون الجزية إلى ملوك أكبر منهم فلا بد من أن يكونوا كثيرين. ولم يذكر اسم أدوني بازق في قائمة الملوك (يشوع 12: 7 - 24).

كَانُوا يَلْتَقِطُونَ تَحْتَ مَائِدَتِي جعلهم بمنزلة الهررة أو الكلاب (متّى 15: 27). والالتقاط هنا يشير في الأصل إلى جمع المتفرق واحداً بعد واحد جمعاً بطيئاً كالتقاط السنابل في الحق وراء الحاصدين (راعوث 2: 2 الخ). وكان ذلك دأب الملوك القساة المتكبرين في العصور الخالية لمن هم دونهم حتى ندمائهم. قال بوسبدونيوس إن ملك يرثيا كان يطرح الطعام لجلسائه فيتنازعونه كالكلاب. وأمثال ذلك كثيرة في التاريخ.

كَمَا فَعَلْتُ كَذٰلِكَ جَازَانِيَ ٱللّٰهُ وهذا كقول صموئيل لأجاج «كَمَا أَثْكَلَ سَيْفُكَ ٱلنِّسَاءَ كَذٰلِكَ تُثْكَلُ أُمُّكَ بَيْنَ ٱلنِّسَاءِ» (1صموئيل 15: 33). وقول شمشون في الفلسطينيين «كَمَا فَعَلُوا بِي هٰكَذَا فَعَلْتُ بِهِمْ» (قضاة 15: 11) «لأَنَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهُ مُجَازَاةٍ يُكَافِئُ مُكَافَأَةً» (إرميا 51: 56). وكقول يثرون لموسى في المصريين وسائر أعداء إسرائيل «فِي ٱلشَّيْءِ ٱلَّذِي بَغَوْا بِهِ كَانَ عَلَيْهِمْ» (خروج 18: 11). (انظر أيضاً متّى 7: 2 وغلاطية 6: 7 ويعقوب 2: 13). وهذه القاعدة اشتهرت بين كثير من الأمم ففي العربية (إن الجزاء من جنس العمل. وفي اليونانية العقاب مثل الذنب. ولا يستدل من قول أدوني بازق «جازاني الله» أنه كان يعبد الرب (يهوه) بل اعترف بأن إلهه عاقبه على إثمه بمثله.

قال بولس الرسول «لاَ تُجَازُوا أَحَداً عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ... لاَ تَنْتَقِمُوا... لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِيَ ٱلنَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ» (رومية 12: 17 و19). أي إذا فهمنا أن الإسرائيليين عملوا ما عملوه بأدوني بازق بأمر الرب نقول إن الرب جازاه مجازاة عادلة. وإن لم يكن بأمر الرب لا نقدر أن نبررهم.

وفي العهد الجديد تعليم أوضح من جهة محبة الأعداء والصلاة لأجلهم يرجعون عن طرقهم فيخلصون. وأما بالنظر الإجمالي إلى حروب الإسرائيليين فالأمر واضح أنها كانت بأمر الرب فبأمره قتلوا الكنعانيين وأخذوا منهم مدنهم لأن الكنعانيين كانوا أخطأوا إلى الرب ودنسوا الأرض واستهانوا برحمة الله وطول أناته حتى ثار غضب الله عليهم فلم يكن لهم منقذ.

وَأَتَوْا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ أي مضوا به أسيراً وأبقوه في معسكرهم ودخلوا به أورشليم بعد أن حاربوها واستولوا عليها.

فَمَاتَ هُنَاكَ هذا يدل على أنه مات موتاً طبيعياً وهو في الأسر وإن الإسرائيليين لم يقتلوه ولعله مات ألماً وغماً.

8 «وَحَارَبَ بَنُو يَهُوذَا أُورُشَلِيمَ وَأَخَذُوهَا وَضَرَبُوهَا بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ وَأَشْعَلُوا ٱلْمَدِينَةَ بِٱلنَّارِ».

يشوع 15: 63

وَحَارَبَ بَنُو يَهُوذَا أُورُشَلِيمَ وَأَخَذُوهَا هذا بيان لما ذُكر في آخر الآية السابعة وتفصيل له فإنه قال إن بني إسرائيل «أتو بأدوني بازق إلى أورشليم» وهذا كلام مجمل فبيّنه هنا بالتفصيل بأن الإسرائيليين حاربوا أهل أورشليم واستولوا عليها ودخلوها بذلك الملك فعلم من ذلك أن الملك المذكور كان أسيراً في معسكرهم وهم آخذون في حصار المدينة فافتتحوها ودخلوها بذلك حياً فمات فيها. ونسب الحرب إلى بني يهوذا دون بني شمعون لأنهم هم المختارون لتلك الحرب بحسب مشورة الرب وإعلانه (انظر 1 و2 وتفسيرهما) وإنهم هم سألوا مساعدة الشمعونيين ليساعدوهم هم على امتلاك نصيبهم من الأرض كما ذُكر مفصلاً (انظر تفسير ع 2).

وبقي هنا أنه يرجّح من مقابلة هذه الآية بما في (يشوع 15: 63 و2صموئيل 5: 6 و7) إنه مع أن يهوذا وشمعون أخذا أورشليم وأحرقاها رجع اليابوسيون إلى حصنهم الحصين جبل صهيون فعجز السبطان عن أخذه ثم رجعوا إلى أورشليم وبقي ذلك الحصن لهم إلى أيام داود.

يظن البعض أن يهوذا وشمعون أخذا المدينة ما عدا الحصن فبقي لليابوسيين إلى أيام داود.

ضَرَبُوهَا بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ أي ذبحوا كثيرين من سكانها بدليل أنهم بقوا زماناً طويلاً كما ذُكر في أول هذه الآية. وفي العبرانية «بفم السيف» بدلاً من «حد السيف» كأن حدود السيوف كانت تذهب بهم كما تذهب الأفواه بالأطعمة وهذا كناية عن شدة الحرب.

وَأَشْعَلُوا ٱلْمَدِينَةَ بِٱلنَّارِ أي أحرقوا بعضها من باب المجاز المرسل وهو كثير فتقول احترق الثوب مع أن المحترق جزء صغير منه. والقرينة على ذلك أن أورشليم بقيت وسكنها اليبوسيون مع بني يهوذا وبينامين (ع 21 ويشوع 15: 63) وهذه العبارة في الأصل العبراني «وأرسلوا المدينة إلى النار» ولم يسبق لها نظير فهي دليل على أن هذا السفر مستقل عن سفر يشوع وكاتبه غير كاتب سفر يشوع.

9 «وَبَعْدَ ذٰلِكَ نَزَلَ بَنُو يَهُوذَا لِمُحَارَبَةِ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ سُكَّانِ ٱلْجَبَلِ وَٱلْجَنُوبِ وَٱلسَّهْلِ».

يشوع 10: 36 و11: 21 و15: 13

وَبَعْدَ ذٰلِكَ نَزَلَ يدل هذا على أن أورشليم أعلى من الأراضي الجبلية الواقعة جنوب أورشليم أو أولها. وحبرون أعلى من أورشليم فإن علوّها عن سطح البحر 3040 قدماً وعلو أورشليم 2593 قدماً.

ٱلْجَبَلِ وَٱلْجَنُوبِ وَٱلسَّهْلِ هذه ثلاثة أقسام من بلاد اليهودية الأرض الجبلية في وسط البلاد الجنوبي أورشليم وفيها بيت لحم وحبرون. والجنوب في العبرانية نجب مشتقة من أصل معناه اليبس (والنجب في العربية لحاء الشجر أو قشر عروقها أو القشر الصلب منها والمعنى القشر اليابس لأنه يقال فيها نجب الشجرة قشر نجبها ولا يُقشر إلا ما كان يابساً من لحائها لئلا يضرها). والنجب هذا أي الجنوب يمتد من حبرون جنوباً 70 ميلاً إلى التيه أي القفر ويحده شرقاً بحر لوط وغرباً سواحل البحر.

وقال القس ستنلي (في كتابه في سيناء وفلسطين صفحة 161) في وصف تلك البلاد أنها تلال مستديرة وجواء (أي أودية واسعة) قليلة النبات كثيرة الآبار فهي في كل وادٍ وآثار الأهراء والمعاصر والخرب الكثيرة تشهد بأن تلك الأرض كانت عامرة بكثير من السكان. وفي العبرانية كلمتان معنى الأولى الجنوب أي الجهة المقابلة للشمال ومعنى الثانية وهي نجب المذكورة في هذه الآية وتُرجمت بالجنوب ومعناها في الأصل اليبس والقحط. وهذا ما دل عليه قول عكسة في (ع 15). ولكن الأرض تكون هنا في الأسابيع الأخيرة من فصل الربيع تبسم عن شقيق واقحوان وغيرها من حسان الأزهار. ولكن هذا الجمال يزول سريعاً على أن الأرض لا تكون بعد ذلك قبيحة المنظر لكنها تكون شبيهة بالقفر.

والكلمة العبرانية المترجمة في الآية بالسهل «هشفلة» تعني أرضاً متخطرة تخطر نباتها وأشجارها وهي السهل الممتد من النجب إلى البحر وهي خصبة خلاف معنى النجب وهي بلاد الفلسطينيين.

سعي كالب ونتيجته ع 10 إلى 15

10 «وَسَارَ يَهُوذَا عَلَى ٱلْكَنْعَانِيِّينَ ٱلسَّاكِنِينَ فِي حَبْرُونَ (وَكَانَ ٱسْمُ حَبْرُونَ قَبْلاً قَرْيَةَ أَرْبَعَ) وَضَرَبُوا شِيشَايَ وَأَخِيمَانَ وَتَلْمَايَ».

يشوع 14: 15 و15: 13 و14

وَسَارَ يَهُوذَا أي سار للحرب والقائد كالب كما يعلم من (يشوع 15: 14 - 19) فالحرب هنا هي الحرب التي في سفر يشوع.

حَبْرُونَ (انظر يشوع 10: 36 و37) وهذه المدينة على منتصف الطريق بين أورشليم وبئر سبع وعلى غاية عشرين ميلاً من كل منهما. وهي من أقدم مدن العالم فإنها بُنيت قبل صوعن مصر بسبع سنين (عدد 13: 22). وارتفاعها فوق سطح البحر المتوسط 3040 قدماً. وكان سكانها من الكنعانيين الذين اشتهروا بالبأس وطول القامة وهم العناقيون (عدد 13: 28 و33 وتثنية 9: 2) فكان الانتصار عليهم يقتضي أشجع الإسرائيليين وأشدهم بأساً. وكان أقدم أسمائها ممرا (تكوين 23: 19) وهو اسم رجل من سكانها الأموريين (تكوين 14: 13). ثم استولى عليها بعد قليل من ذلك بنو حثّ أو الحثيون (تكوين 23: 1 الخ). وكانت في أيام القضاة للكنعانيين. ثم سُميت بالخليل ذكرى لإبراهيم خليل الله لأنه ضرب خيامه فيها ودُفن هو وسارة فيها (تكوين 25: 7 - 11) فهي مكان مقدس عند الإسرائيليين. وتواتر عندهم أنها كانت عاصمة مملكة داود قبل الاستيلاء على أورشليم وكانت مدينة حصينة ذات أسوار عالية متينة ويشهد بذلك ما هنالك من عاديات الحجارة الكبيرة فكان يعسر على الإسرائيليين الاستيلاء عليها. وقبر إبراهيم معروف يها إلى الآن وقد أثبت أن القبر المنسوب إليه هو قبره بالتواتر المتصل ويُعرف مقامه اليوم بالحرَم. وكانت حبرون من مدن الملجإ (يشوع 21: 11 - 13).

قَرْيَةَ أَرْبَعَ أو مدينة أربع. ومن احتمال العبراني معنى مدينة أربعة جاء عن بعض الربانيين أي معلمي اليهود أنها سميت مدينة أربعة لأنه دُفن فيها أربعة من الآباء وهم آدم وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وأزواجهم (انظر تكوين 23: 19 و25: 9 و49: 30 و31). وإنه سكن فيها أربعة من المشاهير وهم إبراهيم وعانر وأشكول وممرا. لكن أربع على ما في يشوع 14: 15 هو الرجل الأعظم العناقيين وفي يشوع 15: 13 إنه «أبو عناق» وكل المدن المصدّرة بقرية كقرية أربع المذكورة وقرية سفر وغيرها كانت قبل الاستيلاء على فلسطين.

شِيشَايَ وَأَخِيمَانَ وَتَلْمَايَ وهم آباء ثلاث قبائل من العناقيين سُميت القبائل بأسمائهم جرياً على الاصطلاح الشائع. وقيل صريحاً أنهم «بنو عناق» (انظر تفسر ع 1 وانظر أيضاً عدد 13: 22 و23). وجاء في تقاليد اليهود أن العناقيين اختلطوا بالنفليم أي الجبابرة الذين نشأوا من اقتران أبناء الله ببنات الناس. وقال يوسيفوس إن عظام الجبابرة من هؤلاء كانت تُشاهد في أيامه (التاريخ القديم ليوسيفوس فصل 2 و3). قال الدكتور فارار «لا ريب في أن تلك العظام كانت عظام بهائم منقرضة حُسبت عظام أناس فحمل كبرها يوسيفوس على قوله بأنها عظام جبابرة».

وبقي هنا أنه جاء في هذه الآية أن بني يهوذا «ضربوا شيشاي وأخيمان وتلماي» أي قتلوهم أو ذبحوهم وجاء في يشوع 15: 14 أن كالب طردهم وشتان بين القتل والطرد. والجواب على ذلك أولاً بأن طرد كالب لهؤلاء لا يستلزم نفي قتل بعض رجال يهوذا الذين كالب قائدهم لأولئك المطرودين. ثانياً أن كالب طرد أبناء عناق الثلاثة (راجع الآية في يشوع 15: 14) وإن بني يهوذا قتلوا عشائرهم أي بعض رجال الحرب من تلك العشائر. ثالثاً كما قال العلامة جورج بوش إن طرد الأعداء لا يستلزم قتلهم بالضرورة ولكن قتلهم يستلزم طردهم لأنهم طُردوا من بين الأحياء. رابعاً إن القتل كان على أثر الطرد.

11 «وَسَارَ مِنْ هُنَاكَ عَلَى سُكَّانِ دَبِيرَ (وَٱسْمُ دَبِيرَ قَبْلاً قَرْيَةُ سَفَرٍ)».

يشوع 15: 15

وَسَارَ أي يهوذا.

مِنْ هُنَاكَ أي من حبرون.

دَبِيرَ (انظر يشوع 15: 15 و49). معنى دبير «وحي» على قول الدكتور فارار أو «مقدس» على قول الدكتور بوست في قاموس الكتاب. وتُسمى أيضاً «قرية سفر» أي مدينة كتاب أو الكتاب على ما في الآية نفسها و«قرية سنّة» (يشوع 15: 49) ولعلها مدينة السنة أو الشريعة. ويظهر من تلك الأسماء أنها كانت مركز العلم والدين عند الكنعانيين. ورأى كوندر حديثاً أنها الظهرية. وقال كثيرون من أهل الأسفار أنها كانت مدينة ذات شأن. وكان من جملة أدلتهم أنها ملتقى عدة طرق وأن فيها كثيراً من أطلال المساكن القديمة وإنها قرب عدة ينابيع أو عيون (انظر ع 15). والمتفق عليه أنها قرب حبرون. وكانت هذه المدينة حصناً لبني عناق استولى عليها يشوع (يشوع 10: 38 و39) وأعطاها سبط يهوذا ثم استردها الكنعانيون ثم أخذها الإسرائيليون (يشوع 15: 15 - 17) ثم صارت للاويين (يشوع 2: 15).

12 «فَقَالَ كَالِبُ: ٱلَّذِي يَضْرِبُ قَرْيَةَ سَفَرٍ وَيَأْخُذُهَا، أُعْطِيهِ عَكْسَةَ ٱبْنَتِي ٱمْرَأَةً».

يشوع 15: 16 و17

فَقَالَ كَالِبُ (انظر يشوع 15: 16). كان كالب قنزياً فإنه بن يفنة القنزي وهو أحد الجواسيس الاثني عشر الذين أرسلهم موسى إلى أرض كنعان (عدد 13: 6) فهو من سلالة قنز أو قناز حفيد عيسو (تكوين 36: 9 - 11). وكان رئيس سبط يهوذا على ما يظهر من سفر العدد (انظر عدد 13: 1 - 6) مع أنه ليس منهم فهو على الراجح من اللفيف الذي التصق بالإسرائيليين من الأمم (خروج 12: 38) وهم بنو القيني (ص 4: 11) وكان هو ممن التصقوا بسبط يهوذا وهو مؤمن بإله إسرائيل. وكان حسن السلوك والإيمان ومن أرباب العقول الرفيعة وأصحاب الرأي والتدبير والشجاعة. وربما كان بعض بني يهوذا تبنّاه أو تبنى أحد أسلافه فنُسب إلى سبط يهوذا هو ونسله (انظر يشوع 15: 13).

أُعْطِيهِ عَكْسَةَ ٱبْنَتِي ٱمْرَأَةً قابل بهذا ما في (1صموئيل 17: 25 و18: 17 و1أيام 11: 6). وهذه الآية دلت على عزم كالب وشدة رغبته في الاستيلاء على ما بقي من نصيب يهوذا.

13 «فَأَخَذَهَا عُثْنِيئِيلُ بْنُ قَنَازَ أَخُو كَالِبَ ٱلأَصْغَرِ مِنْهُ. فَأَعْطَاهُ عَكْسَةَ ٱبْنَتَهُ ٱمْرَأَةً».

ص 3: 9

فَأَخَذَهَا عُثْنِيئِيلُ بْنُ قَنَازَ أَخُو كَالِبَ الخ (يشوع 15: 15 - 17) في سفر يشوع أنه «أخو كالب» وزيد هنا «الأصغر» أي أنه أخو كالب الأصغر (انظر أيضاً ص 3: 9). والأصل العبراني يحتمل معنيين الأول أن عثنيئيل هو ابن قناز وأخو كالب فيكون قد تزوج ابنة أخيه والثاني أن قناز هو أخو كالب وعلى ذلك تُترجم العبارة «فَأَخَذَهَا عُثْنِيئِيلُ بْنُ قَنَازَ أَخُو كَالِبَ الخ» فيكون قد تزوج ابنة عمه (انظر حاشية الكتاب المقدس ذي الشواهد) وعلى الترجمة الأولى بعض الترجمات القديمة. على أن معنى «ابن قناز» يحتمل أن يكون من قبيلة قناز لا ابنه حقيقة كما قيل أن المسيح ابن داود بمعنى أنه من عشيرته أو نسله. وكذا يقال على كل إنسان أنه ابن آدم وكل إسرائيلي أنه ابن إبراهيم وذلك كثير في الكتاب وكل اللغات الساميّة (انظر يشوع 14: 6 وعدد 32: 12). وترى أهمية عشيرة عثنيئيل في (1أيام 27: 15).

14 «وَكَانَ عِنْدَ دُخُولِهَا أَنَّهَا غَرَّتْهُ بِطَلَبِ حَقْلٍ مِنْ أَبِيهَا. فَنَزَلَتْ عَنِ ٱلْحِمَارِ، فَقَالَ لَهَا كَالِبُ: مَا لَكِ؟».

يشوع 15: 18 و19

وَكَانَ عِنْدَ دُخُولِهَا أي قرب دخولها بيته عروساً.

غَرَّتْهُ في بعض التراجم الأوربية «حرّكته» أو هاجته أو حملته على الخ. وفي الأصل العبراني ما يفيد الإغراء على طريق الغرور.

حَقْلٍ وفي الأصل العبراني «الحقل» فهو تربة معينة معهودة. وقد جاء في (يشوع 15: 18) منكراً فتنكيره في سفر يشوع لأنها طلبت حقلاً من الحقول وتعريفه في سفر القضاة لأنه تعيّن بحصولها عليه.

فَنَزَلَتْ عَنِ ٱلْحِمَارِ احتراماً كما فعلت رفقة (تكوين 24: 64) وإبيجايل (1صموئيل 25: 23) ولرغبة في شيء والأصل العبراني يدل على ما يماثل ذلك ولهذا جاءت العبارة في السبعينية «فصرخت من على الحمار» وفي الفلغاتا «فتنهدت وهي على الحمار».

فَقَالَ لَهَا كَالِبُ: مَا لَكِ أي ما حملك على النزول أو ما شأنك ولعلها نزلت عن الحمار بسرعة وركعت أو جثت أمام أبيها.

15 «فَقَالَتْ لَهُ: أَعْطِنِي بَرَكَةً. لأَنَّكَ أَعْطَيْتَنِي أَرْضَ ٱلْجَنُوبِ فَأَعْطِنِي يَنَابِيعَ مَاءٍ. فَأَعْطَاهَا كَالِبُ ٱلْيَنَابِيعَ ٱلْعُلْيَا وَٱلْيَنَابِيعَ ٱلسُّفْلَى».

تكوين 33: 11

بَرَكَةً أي هبة (تكوين 33: 11 ويشوع 14: 13 و2ملوك 5: 15).

أَرْضَ ٱلْجَنُوبِ أي الأرض الجدباء فإنها في الأصل العبراني «نجب» (انظر تفسير ع 9).

يَنَابِيعَ مَاءٍ أي أرضاً في الوادي عند سفح الجبل ترويها مياه العيون. وبهذا السؤال أبانت عكسة أنها أشجع من زوجها وأكثر منه سعياً وراء النفع.

ٱلْيَنَابِيعَ ٱلْعُلْيَا وَٱلْيَنَابِيعَ ٱلسُّفْلَى أي الأرض ذات الينابيع من النجد والغور فالينابيع المذكورة عَلَمان كبيت هورون العليا وبيت هورون السفلى المعروفة اليوم ببيتور الفوقى وبيتور التحتى في لغة العامة. وقال المفسر لياس بقول الكتاب «الينابيع العليا والينابيع السفلى» وإنها على غاية ستة أميال ونصف ميل من الظهرية شمالاً أربعة عشر ينبوعاً يرتفع بعضها عن بعض ولا ريب في أنها هي الينابيع العليا والينابيع السفلى المذكورة هنا (انظر تفسير ع 11).

حركات بني القينيّ ع 16

16 «وَبَنُو ٱلْقِينِيِّ حَمِي مُوسَى صَعِدُوا مِنْ مَدِينَةِ ٱلنَّخْلِ مَعَ بَنِي يَهُوذَا إِلَى بَرِّيَّةِ يَهُوذَا ٱلَّتِي فِي جَنُوبِ عَرَادَ، وَذَهَبُوا وَسَكَنُوا مَعَ ٱلشَّعْبِ».

تكوين 15: 19 وص 4: 11 و17 و1صموئيل 15: 6 و1أيام 2: 55 وإرميا 35: 2 تثنية 34: 3 و2أيام 28: 15 عدد 21: 1 عدد 10: 32

ٱلْقِينِيِّ قابل بهذا (تكوين 15: 19 وعدد 21: 1 وانظر ص 4: 11 و1صموئيل 15: 6 و27: 10 و30: 29 و1أيام 2: 55).

كان القينيون فرقة كبيرة أو شعباً عظيماً من قبيلة المديانين وكانوا يسكنون على شواطئ خليج العقبة الصخرية (عدد 24: 21 و1صموئيل 15: 6). والظاهر أنهم نُسبوا إلى زعيم اسمه قين أو قاين (تكوين 15: 19 وعدد 24: 22) وكانوا في أول أمرهم من سكان الكهوف.

وبقي أنه من الصعوبة التفريق بين يثرون ورعوئيل وحوباب (ص 4: 11). قال الدكتور فارار في تفسير سفر القضاة أن يثرون ورعوئيل واحد والاسم الثاني اسمه المحليّ باعتبار أنه كاهن مديان. ومعنى رعوئيل خليل الله أو صديق الله وإنه هو أبو صفورة وحوباب. وإن يثرون أبى أن يبقى مع الإسرائيليين (خروج 18: 27) ولكن حوباب بقي معهم وكان لهم دليلاً.

حَمِي مُوسَى بدل من القيني ويحتمل أنه أبو زوجة موسى وإنه أخوها الثاني هو المراد هنا ولهذا جاء في الترجمة السبعينية «بنو حوباب القيني». فالحمو في العبرانية يطلق على أبي الزوجة وأبي الزوج وأخيهما وغيرهما من أقرباء الأبوين. وكذا هو في العربية ففي القاموس المحيط للفيروزبادي ما نصه «حمو المرأة وحموها وحماها وحمُها وحموّها أبو زوجها ومن كان من قِبله والأنثى حماة وحمو الرجل أبو امرأته أو أخوها أو عمها».

صَعِدُوا من أول الشروع في الحرب على ما يرجّح.

مَدِينَةِ ٱلنَّخْلِ أي أريحا (انظر ص 3: 13 وتثنية 34: 3 و2أيام 28: 15). ولماذا لم يقل صعدوا من أريحا بدلاً من قوله «من مدينة النخل» فالمظنون أن علة ذلك أن أريحا كانت قد أُخربت ولُعنت فاعتزل اليهود ذكرها لما فيه من المؤلمات على ما عُرف من نبأها (انظر يشوع ص 6 و7) ولم يبق من إثرٍ لآجام النخل فيها (انظر ص 3: 13 والتفسير).

بَرِّيَّةِ يَهُوذَا وهي البرية التي بشر فيها يوحنا المعمدان بمجيء المسيح (متّى 3: 1). وليس معنى المراد هنا من برية يهوذا أنها كلها قفر لأن فيها مرعى كثير على أن قسماً كبيراً من برية يهوذا كان شبيهاً بالقفر. وسكن القينيون هناك لأنهم كانوا يكرهون سكنى المدن كسائر أهل البدو (إرميا 35: 6 و7).

عَرَادَ هي مدينة على غاية عشرين ميلاً من حبرون على الطريق إلى العربية الصخرية ولا يزال موقعها يُعرف بتل عراد.

ٱلشَّعْبِ أي الكنعانيين أهل تلك الأرض (عدد 21: 1) ولعلهم سكنوا الكهوف التي في جوار عراد.

حملات أخرى ليهوذا وشمعون ع 17 إلى 21

17 «وَذَهَبَ يَهُوذَا مَعَ شَمْعُونَ أَخِيهِ وَضَرَبُوا ٱلْكَنْعَانِيِّينَ سُكَّانَ صَفَاةَ وَحَرَّمُوهَا، وَدَعَوُا ٱسْمَ ٱلْمَدِينَةِ «حُرْمَةَ».

ع 3 عدد 21: 3 ويشوع 19: 4

صَفَاةَ لم يُذكر هذا الاسم سوى مرتين هنا وفي (2أيام 14: 10) لكن سُميت في سفر الأيام «صفاتة» وكان في واديها الحرب بين زارح الكوشي والملك آسا. والأرجح أنها هي المعروفة اليوم بسبيطة تصحيف صفاتة وهي على غاية عشرين ميلاً من عين قادس. ودعوا اسمها «حرمة» أي خراباً أو دماراً لما قاسوا فيها من البلاء في حرب العمالقة (عدد 14: 45).

18 «وَأَخَذَ يَهُوذَا غَزَّةَ وَتُخُومَهَا وَأَشْقَلُونَ وَتُخُومَهَا وَعَقْرُونَ وَتُخُومَهَا».

يشوع 11: 22 و13: 3

وَأَخَذَ... غَزَّةَ... وَأَشْقَلُونَ... وَعَقْرُونَ وزادت الترجمة السبعينية «أشدود» وهذه المدن الثلاث من عواصم الفلسطينيين الخمس. وفي سفر يشوع أن الإسرائيليين لم يستولوا على هذا المدن الخمس ولهذا جاء في الترجمة السبعينية «لم يأخذ» بدل «أخذ» هنا. وترجم بعضهم ما في السبعينية بقوله «لم يرث» وهو الصواب (يشوع 13: 3). ويوفق بين القولين أن يهوذا أخذ تلك المدن ولكن لم يستطع أن يبقى زماناً طويلاً فلم يرثها وبقي فيها الفلسطينيون إذ لم يستطع أن يطردهم لما يأتي في (ع 19) فترجمة السبعينية معنوية والعمدة الأصل العبراني. و«غزّة» هي مشهد علم شمشون العجيب (ص 16: 3) إذ كانت لم تزل للفلسطينيين ولم يزل اسمها غزة إلى اليوم وهي على غاية ثلاثة أميال من شاطئ البحر وعشرة أميال من جنوبي أشقلون.

و«اشقلون» تٌعرف اليوم بعسقلان وهي مولد هيرودس الأكبر هُدمت السنة 1270 م وفي أطلالها عُمد وحجارة مكتوبة نُقل كثير من حجارتها إلى يافا وغزة.

و«عقرون» أخذها يهوذا واستردها الفلسطينون سريعاً (انظر 1صموئيل 5: 10 و6: 17) ثم استولى عليها الإسرائيليون في ملك داود (1أيام 18: 1). وتسمى اليوم عاقر وهي في هذه الأيام قرية حقيرة على تل يبعد 12 ميلاً من يافا وإلى الجنوب الشرقي منها.

19 «وَكَانَ ٱلرَّبُّ مَعَ يَهُوذَا فَمَلَكَ ٱلْجَبَلَ، وَلٰكِنْ لَمْ يُطْرَدْ سُكَّانُ ٱلْوَادِي لأَنَّ لَهُمْ مَرْكَبَاتِ حَدِيدٍ».

ع 2 و2ملوك 18: 7 يشوع 17: 16 و18

وَكَانَ ٱلرَّبُّ مَعَ يَهُوذَا ولكن يهوذا لم يكن مع الرب كما يجب لضعف إيمانه وإلا لأخذ الوادي كما أخذ الجبل ولم يخش مركبات الحديد وقال قول المرنم «هٰؤُلاَءِ بِٱلْمَرْكَبَاتِ وَهٰؤُلاَءِ بِٱلْخَيْلِ أَمَّا نَحْنُ فَٱسْمَ ٱلرَّبِّ إِلٰهِنَا نَذْكُرُ» (مزمور 20: 7).

فَمَلَكَ ٱلْجَبَلَ الفاء سببية أي لأن الرب كان مع يهوذا ملك الجبل. وأراد بالجبل سكان الأرضين الجبلية على المجاز المرسل ودلّ على ذلك قوله على الأثر «سكان الوادي».

وَلٰكِنْ لَمْ يُطْرَدْ أي لم يطرد يهوذا وعلى ذلك جاء في الترجمة السبعينية «لأنهم لم يقدروا أن يطردوا» وعلى عجزهم عن ذلك ضعف إيمانهم بأن الله الذي وعدهم بالأرض قادر على نصرهم على أرباب مركبات الحديد. أسند الفعل على المفعول فبُني له أو للمجهول ولعل العرض الإيجاز لتفصيل يطول دلت عليه القرينة والمعنى ولكن يهوذا كان ضعيف الإيمان بوعد الرب أو لا إيمان له بأنه «لا يخلف الميعاد» فجبن عن محاربة سكان الوادي لأن لهم مركبات حديد فلم يقدر أن يطردهم.

ٱلْوَادِي أي السهل الواسع المنخفض الذي يمتد غرباً من جبال يهوذا إلى البحر.

مَرْكَبَاتِ حَدِيدٍ تقتل من يقابلها ولا يُستطاع كسرها بسهولة ولعل المراد أنها مغشاة بالحديد. انظر الكلام على المركبات في قاموس الكتاب.

20 «وَأَعْطُوا لِكَالِبَ حَبْرُونَ كَمَا تَكَلَّمَ مُوسَى. فَطَرَدَ مِنْ هُنَاكَ بَنِي عَنَاقَ ٱلثَّلاَثَةَ».

عدد 14: 24 وتثنية 1: 36 ويشوع 14: 9 و13 و15: 13 و14

وَأَعْطُوا لِكَالِبَ حَبْرُونَ (انظر يشوع 14: 2 - 15 و15: 13 و14).

كَمَا تَكَلَّمَ مُوسَى (عدد 14: 24 وتثنية 1: 36 ويشوع 14: 9).

بَنِي عَنَاقَ ٱلثَّلاَثَةَ وهم شيشاي وأخيمان وتلماي (انظر ع 10 والتفسير).

21 «وَبَنُو بِنْيَامِينَ لَمْ يَطْرُدُوا ٱلْيَبُوسِيِّينَ سُكَّانَ أُورُشَلِيمَ، فَسَكَنَ ٱلْيَبُوسِيُّونَ مَعَ بَنِي بِنْيَامِينَ فِي أُورُشَلِيمَ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ».

يشوع 15: 63 و18: 28

وَبَنُو بِنْيَامِينَ لَمْ يَطْرُدُوا ٱلْيَبُوسِيِّينَ سُكَّانَ أُورُشَلِيمَ، فَسَكَنَ ٱلْيَبُوسِيُّونَ مَعَ بَنِي بِنْيَامِينَ قيل هذا على بني يهوذا أيضاً (انظر يشوع 5: 63) وكانت أورشليم على حدود يهوذا (يشوع 15: 8). وعلّة ذلك أن أورشليم كانت مشتركة بين يهوذا وبنيامين وكان القسم الجنوبي ليهوذا والقسم الشمالي لبنيامين وبقي اليبوسيون في أورشليم إلى زمان داود فكانوا فيها زمان كتابة هذا السفر. وهذا دليل قاطع على أن هذا السفر كُتب قبل ملك داود وقبل الاستيلاء على ذلك الجزء من أورشليم.

الاستيلاء على بيت إيل ع 22 إلى 26

22 «وَصَعِدَ بَيْتُ يُوسُفَ أَيْضاً إِلَى بَيْتِ إِيلَ وَٱلرَّبُّ مَعَهُمْ».

ع 19

بَيْتُ يُوسُفَ أي أفرايم ومنسى.

بَيْتِ إِيلَ كان موقعها على منتصف الطريق بين حبرون وشكيم وهما اليوم الخليل ونابلس. وكانت بيت إيل مدينة ذات شأن وكان اسمها لوز وسماها يعقوب بيت إيل إذ رأى هنالك الله الذي هو الكلمة المتجسد (تكوين 28: 11 - 19 و31: 13). وسماها هوشع النبي بعد ذلك «بيت آون» أي بيت الأصنام لأن يربعام أقام فيها العجلين الذهبيين (هوشع 10: 4 و8 و1ملوك 12: 28 - 33). وبيت إيل اليوم قرية حقيرة اسمها بيتين محرّف اسمه الأصلي. وتقدم الكلام عليها مفصلاً في ما مرّ من تفسير الأسفار السابقة (انظر يشوع 16: 2).

23 «وَٱسْتَكْشَفَ بَيْتُ يُوسُفَ عَنْ بَيْتِ إِيلَ (وَكَانَ ٱسْمُ ٱلْمَدِينَةِ قَبْلاً لُوزَ)».

يشوع 2: 1 و8: 2 وص 18: 2 تكوين 28: 19

وَٱسْتَكْشَفَ بَيْتُ يُوسُفَ عَنْ بَيْتِ إِيلَ أي أرسل مراقبين ليكشفوا طريقها ويعرفوا ما يستطيعون من أمورها فكشفوا عن الطريق والمدخل إليها (ع 24) فكانوا مثل الجاسوسين اللذين أرسلهما يشوع لمعرفة أمور أريحا (يشوع 2: 1).

24 «فَرَأَى ٱلْمُرَاقِبُونَ رَجُلاً خَارِجاً مِنَ ٱلْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُ: أَرِنَا مَدْخَلَ ٱلْمَدِينَةِ فَنَعْمَلَ مَعَكَ مَعْرُوفاً».

يشوع 2: 12 و14

فَرَأَى ٱلْمُرَاقِبُونَ وفي بعض التراجم الأجنبية «الجواسيس» والمراقبون هو معنى الأصل العبراني. والمراقبون هنا هم الذين يشاهدون الأمر وينتظرون ماذا يحدث من أحواله لانتهاز الفرصة المناسبة لإدراك المراد منه. وكان غاية هؤلاء المراقبين معرفة الطريق إلى المدينة والمدخل إليها.

رَجُلاً خَارِجاً مِنَ ٱلْمَدِينَةِ أي هو من سكان بيت إيل.

أَرِنَا مَدْخَلَ ٱلْمَدِينَةِ فَنَعْمَلَ مَعَكَ مَعْرُوفاً كان هذا المعروف إنقاذه هو وعشيرته وليس المراد بالمدخل باب المدينة لأن أبوابها لا تخفى بل مكان في أسوارها يمكنهم أن يدخلوا منه ليستولوا على المدينة والأبواب مغلقة.

25 «فَأَرَاهُمْ مَدْخَلَ ٱلْمَدِينَةِ، فَضَرَبُوا ٱلْمَدِينَةَ بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ، وَأَمَّا ٱلرَّجُلُ وَكُلُّ عَشِيرَتِهِ فَأَطْلَقُوهُمْ».

فَأَرَاهُمْ مَدْخَلَ ٱلْمَدِينَةِ لعله اعتنق عبادة الإله الحقيقي كراحاب (يشوع 2: 8 - 14). غير أنه لم ينضم إلى إسرائيل كراحاب بل انطلق إلى أرض الحثيين فالأرجح أنه سلّم المدينة ليخلص نفسه لأنه صدق أن بني يوسف قادرين عليها.

فَضَرَبُوا ٱلْمَدِينَةَ بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ أي فرجعوا وأنبأوا قومهم بما عرفوه فزحفوا على المدينة فضربوها. وحذف مثل هذه الجمل كثير في العبرانية والعربية ففي سورة النمل من القرآن «وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَّزُ» (النمل 27: 10) أي فألقاها فاهتزت فلما رآها الخ. ومعنى قوله «ضربوا المدينة» الخ أي ضربوا رجالها وهذا مجاز مرسل وهو كثير في اللغات السامية.

وَأَمَّا ٱلرَّجُلُ أي الذي أراهم مدخل المدينة.

وَكُلُّ عَشِيرَتِهِ كان جزاءه كجزاء راحاب على معروفها للجاسوسين (يشوع 6: 17).

26 «فَٱنْطَلَقَ ٱلرَّجُلُ إِلَى أَرْضِ ٱلْحِثِّيِّينَ وَبَنَى مَدِينَةً وَدَعَا ٱسْمَهَا «لُوزَ» وَهُوَ ٱسْمُهَا إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ».

يشوع 1: 4 و1ملوك 10: 29 و2ملوك 7: 6

أَرْضِ ٱلْحِثِّيِّينَ الظاهر أن سكان بيت إيل كانوا من قبيلة الحثيين وهي إحدى قبائل الكنعانيين. والظاهر من يشوع 1: 4 أن اسمهم أُطلق على كل سكان كنعان والأرجح أنه عنى سكان الشواطئ منهم وكثيراً ما ظن أنهم من سكان كتيم في قبرس. وأول ما عُرفوا ببني حث في (تكوين ص 23) لكن كان يظهر حينئذ أنهم قبيلة صغيرة فإن إبراهيم قصد الأموريين للمحالفة لكن لم يقصد الحثيين إلا للإستيلاء على قبر لامرأته. ولكن الاكتشافات الحديثة أبانت أن الحثيين كانوا أمة قوية وظلوا زماناً طويلاً يبارون المصريين والأشوريين ويفوزون. وكانت عاصمتهم كركميش. وكانوا على جانب عظيم من التقدم في المعارف والزراعة والصناعة كما ثبت مما اكتشف من عادياتهم. وفي السنة 1881 اكتشف كوندر موقع مدينتهم المقدسة على شاطئ بحيرة قدس قرب مخرج نهر العاصي منها وشاهدوا فيها رسوماً ونقوشاً عميقة في بعض الحجارة وصور صفوف المحاربين تجاه قادش. وكانت تلك المدينة المقدسة تُعرف بقدس عند العرب وأُضيفت البحيرة إليها فُعرفت ببحيرة قدس وتُعرف اليوم عند أهل حمص ببحيرة قطينة وبعضهم يقول بحيرة قدينة نسبة إلى قرية في جوار البحيرة ومخرج العاصي ولعلها محرّفة عن قدس وهي قرية حقيرة اليوم.

وَبَنَى مَدِينَةً وَدَعَا ٱسْمَهَا «لُوزَ» جاء في التلمود أن لوز هذه اشتهرت بصبغ الأرجوان ولذلك رأى طمسون أنها قلب لوزة على أمد غير بعيد من أنطاكية. وكان من عادات كثيرين من القدماء إذا هاجروا من مدينة بنوا في الأرض التي هاجروا إليها مدينة وسموها باسم المدينة التي تركوها.

كسل سائر الأسباط ع 27 إلى 36

27 «وَلَمْ يَطْرُدْ مَنَسَّى أَهْلَ بَيْتِ شَانَ وَقُرَاهَا، وَلاَ أَهْلَ تَعْنَكَ وَقُرَاهَا، وَلاَ سُكَّانَ دُورَ وَقُرَاهَا، وَلاَ سُكَّانَ يِبْلَعَامَ وَقُرَاهَا، وَلاَ سُكَّانَ مَجِدُّو وَقُرَاهَا. فَعَزَمَ ٱلْكَنْعَانِيُّونَ عَلَى ٱلسَّكَنِ فِي تِلْكَ ٱلأَرْضِ».

يشوع 17: 11 و12 و13

بَيْتِ شَانَ سُميت بعد ذلك سكيثوبوليس وتُسمى اليوم بيسان وهو محرّف بيت شان وكانت حقولها خصبة حتى دعاها الربانيون الفردوس وهي واقعة على عدوة كلسية عالية يحيط بها مأزق عميق لا يكاد يبلغ إليه فهي تشبه جبل طارق في بعض الوجوه كانت أولاً ليساكر ثم أُعطيت لمنسى لصغر أرضه (يشوع 17: 11). وهي على غاية خمسة أميال من غربي نهر الأردن. ومن الحوادث ذات الشأن المتعلقة بها أن الفلسطينيين سمّروا جسد شاول الملك على سورها.

وَقُرَاهَا وفي العبرانية «وبناتها» وهي القرى الصغيرة التابعة لها كأنها بنات صغار حول أمها.

تَعْنَكَ كانت مدينة ليساكر ثم صارت للاويين واشتهرت بانتصار باراق على سيسرا ولا يزال اسمها تعنك. قال الدكتور بوسب «إنها إحدى مدن منسى وكانت في الأصل ليساكر ثم أعطيت لمنسى ثم للاويين (يشوع 17: 11) وكانت جزاً من دوائر سليمان (1ملوك 4: 12) المعدّة لموازرة مائدة الملك. وكانت تعنك قريبة من مجدّو التي كثيراً ما كانت تُذكر معها وهي على بُعد 4 أميال من لجون أي مجدّو و13 ميلاً من الناصرة و48 ميلاً من القدس».

دُورَ والمرجّح أنها كانت في سهم أشير ثم أخذها منسى وصارت أخيراً لأفرايم (يشوع 11: 2 و17: 11 و1أيام 7: 29). وظلّت زماناً طويلاً ذات شأن (1مكا 15: 11) وهي على شاطئ بحر الروم عند حضيض جبل الكرمل وعلى غاية تسعة أميال من شمالي قيصرية واسمها اليوم طنطورة. وكانت قديماً مُتَّجر الأرجوان.

يِبْلَعَامَ وسُميت أيضاً بلعام (1أيام 6: 70) وكانت مدينة للاويين ويرجّح أنها خربة بلعمة قرب مجدّو في مرج ابن عمير. وعندها عقبة تُعرف بعقبة حور ضُرب عندها أخزيا الملك (2ملوك 9: 27).

مَجِدُّو وتُسمى مجدّون أيضاً وهي قرب تعنك واسمها اليوم لجون اسم لاتيني أصله ليجو لأنها صارت في بعض ما مرّ من الأزمنة مركزاً للجيش الروماني. حصّنها سليمان في أيام ملكه (1ملوك 9: 15). ومنها أُخذ اسم «هرمجدون» مشهد الحرب والويل العظيم (رؤيا 16: 16).

فَعَزَمَ ٱلْكَنْعَانِيُّونَ عَلَى ٱلسَّكَنِ فِي تِلْكَ ٱلأَرْضِ أي فاستمروا على السكن فيها (يشوع 17: 12).

28 «وَكَانَ لَمَّا تَشَدَّدَ إِسْرَائِيلُ أَنَّهُ وَضَعَ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ تَحْتَ ٱلْجِزْيَةِ وَلَمْ يَطْرُدْهُمْ طَرْداً».

وَضَعَ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ تَحْتَ ٱلْجِزْيَةِ (انظر يشوع 17: 13) وكان هذا مما نُهي الإسرائيليون عنه فارتكبوه فصار علة كل مصائبهم (انظر خروج 23: 31 وتثنية 7: 1 - 6).

وَلَمْ يَطْرُدْهُمْ طَرْداً كما هو الواجب وهذا تعبير وتبكيت وإشارة إلى ما يعقبه من الويلات.

29 «وَأَفْرَايِمُ لَمْ يَطْرُدِ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ ٱلسَّاكِنِينَ فِي جَازَرَ، فَسَكَنَ ٱلْكَنْعَانِيُّونَ فِي وَسَطِهِ فِي جَازَرَ».

يشوع 16: 10 و1ملوك 9: 16

جَازَرَ (انظر يشوع 10: 33). صارت هذه المدينة للاويين (يشوع 21: 21 و1أيام 6: 67) لكن بقي الكنعانيون فيها ساكنين مع اللاويين (يشوع 16: 10). ومن لاذّات نتائج التنقيب أنهم اكتشفوا عندما يُعرف اليوم بتلّ الجزر (ولعل الأصل تل جازر فحُرّف) وهو على غاية أربعة أميال من نيكوبوليس بقايا سور أو حدّ حجري لتلك المدينة وعلى بعض الحجارة رسوم عبرانية ويونانية تبين أن ذلك السور أو الحدد بني على أثر سبي بابل. ومن تلك الرسوم اسم المدينة. وهذه المدينة بقيت للكنعانيين إلى أن استولى عليها فرعون ثم وهبها لابنته زوجة سيلمان ( 1ملوك 9: 16) وكانت من المدن الحصينة في عصر المكابيين.

30 «زَبُولُونُ لَمْ يَطْرُدْ سُكَّانَ قِطْرُونَ وَلاَ سُكَّانَ نَهْلُولَ، فَسَكَنَ ٱلْكَنْعَانِيُّونَ فِي وَسَطِهِ وَكَانُوا تَحْتَ ٱلْجِزْيَةِ».

يشوع 19: 15

قِطْرُونَ... نَهْلُولَ لم يُعرف موقع هاتين المدينتين إلى الآن إلا أن نهلول وتُسمى أيضاً نهلال ظُنّ أنها محلول أو عين ماحل على غاية 4 أميال من الناصرة وفي الشمال الشرقي منها. ومما يستحق الاعتبار أن يساكر لم يذكر في هذا الأصحاح مع سائر الأسباط انظر قول إشعياء بجليل الأمم (إشعياء 9: 1 ومتّى 4: 15) الذي يشير إلى وجود أمم كثيرة ساكنين في الجليل مع الإسرائيليين أي أسباط زبولون ويساكر ونفتالي.

31 «وَلَمْ يَطْرُدْ أَشِيرُ سُكَّانَ عَكُّو وَلاَ سُكَّانَ صَيْدُونَ وَأَحْلَبَ وَأَكْزِيبَ وَحَلْبَةَ وَأَفِيقَ وَرَحُوبَ».

يشوع 19: 24 إلى 30

عَكُّو هي عكا وقد اشتهرت في الأزمنة الأخيرة أكثر مما اشتهرت قديماً هي شمالي جبل الكرمل وعلى غاية عشرة أميال منه. وسُميت في عصر الرومانيين بتولمايس لأنه جدد بناءها أحد البطالسة أيام سلطتهم على فلسطين (1مكا 5: 15 و22 و10: 1 الخ انظر أيضاً أعمال 21: 7). واستولى عليها بلدوين في الحرب الصليبية الأولى السنة 1104 للميلاد واستردها صلاح الدين السنة 1187 ثم أخذها ريكرد الأول وبقيت نحو 40 سنة كرسي مملكة أورشليم. وأخذها المسلمون السنة 1291.

صَيْدُونَ هي صيدا ودُعيت في سفر يشوع «صيدون العظيمة» (يشوع 11: 8). وكانت من أشهر المدن التجارية ولم يبق من تجارتها في هذه الأيام إلا ما هو في منزلة العدم. وكانت في أيام هيرودس مشهد الصناعات ومركز التمدن الفينيقي. وفيها كثير من بقايا العصور الخالية من منحوتات الصخور العظيمة لقدماء الفينيقيين إلى بقايا هياكل الرومانيين.

أَحْلَبَ لعلها جسكالا وتُعرف اليوم بالجيش وهو محرّف جسكالا وهي قرب صفد في الشمال الغربي من بحر الجليل.

أَكْزِيبَ وسماها اليونانيون أكديبا أو أكدبّا واسمها اليوم الزيب وهي قرب شاطئ البحر شمالي عكاء وعلى غاية عشرة أميال منها.

حَلْبَةَ مجهولة الموقع.

أَفِيقَ المرجّح أنها هي أفيق المذكورة في (يشوع 13: 4 و19: 30) كان فيها معبد لأفوديت ومناحة تموز أدونيس السوريين (حزقيال 8: 14) وتُعرف اليوم بأفقة أو أفقا وهي على سفح جبل لبنان الشمالي الغربي على التخم الشمالي من كنعان غير بعيدة عن بيروت كثيرة المياه وكان فيها هيكل الزهرة ولم يزل قسم منه إلى الآن. وهدم هذا الهيكل الملك قسطنطين على ما قال أوسابيوس.

رَحُوبَ مدينة للاويين (يشوع 21: 27 - 31 و1أيام 6: 75) والمرجّح أنها كانت قرب صيدا.

32 «فَسَكَنَ ٱلأَشِيرِيُّونَ فِي وَسَطِ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ سُكَّانِ ٱلأَرْضِ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَطْرُدُوهُم».

مزمور 106: 34 و35

فَسَكَنَ ٱلأَشِيرِيُّونَ فِي وَسَطِ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ يظهر من هذا أنه كانت للكنعانيين اليد العليا في سهم أشير وإن أشير بلغ أدنى الانحطاط والذل وإن أسباط إسرائيل اكتفى كل منهم بنفسه ولم يلتفت إلى مساعدة غيره إلا نادراً وعلى الجملة كلهم كسلوا وقلّ إيمانهم وأهملوا ما يجب عليهم ولهذا «لَمْ يَسْتَأْصِلُوا ٱلأُمَمَ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلرَّبُّ عَنْهُمْ، بَلِ ٱخْتَلَطُوا بِٱلأُمَمِ وَتَعَلَّمُوا أَعْمَالَهُمْ وَعَبَدُوا أَصْنَامَهُمْ، فَصَارَتْ لَهُمْ شَرَكاً... وَضَغَطَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ فَذَلُّوا تَحْتَ يَدِهِمْ الخ)» (مزمور 106: 34 - 36 و42).

33 «وَنَفْتَالِي لَمْ يَطْرُدْ سُكَّانَ بَيْتِ شَمْسٍ وَلاَ سُكَّانَ بَيْتِ عَنَاةَ، بَلْ سَكَنَ فِي وَسَطِ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ سُكَّانِ ٱلأَرْضِ. فَكَانَ سُكَّانُ بَيْتِ شَمْسٍ وَبَيْتِ عَنَاةَ تَحْتَ ٱلْجِزْيَةِ لَهُمْ».

يشوع 19: 38 ع 32 ع 30

بَيْتِ شَمْسٍ سُميت هذه المدينة «بيت شمس» لأنه كان فيها هيكل الشمس ومعبدها وكانت الشمس تُسمى البعل أو كان البعل الإله الذي هو الشمس (يشوع 19: 38) وتُعرف اليوم بعين الشمسية على قول كوندر. وسمي في الكتاب المقدس أربع مدن بهذا الاسم فيجب التمييز بينها.

بَيْتِ عَنَاةَ المرجّح أنها المعروفة اليوم بعين آته. وقال الدكتور فارار لم يُعرف شيء من أمر هذه المدينة ولعل معناها بيت الصّدى فرأى بعضهم أنها بانياس فإن فيها مكان مشهور بالصّدى.

34 «وَحَصَرَ ٱلأَمُورِيُّونَ بَنِي دَانَ فِي ٱلْجَبَلِ لأَنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوهُمْ يَنْزِلُونَ إِلَى ٱلْوَادِي».

حَصَرَ ٱلأَمُورِيُّونَ بَنِي دَانَ الخ هم سكان الأرضين الجبلية من فلسطين (يشوع 10: 6 وعدد 13: 29 وتثنية 1: 44). كان سبط دان في قسم صغير من الأرض في الشمال الغربي من يهوذا فكان يضيق بهم (انظر يشوع 19: 47 وقضاة 18: 1). ومع أن الأموريين كانوا سكان الجبل استولوا على السهل فمنعوا الدانيين من النزول إليه. فكان الدانيون في شرّ الأحوال.

35 «فَعَزَمَ ٱلأَمُورِيُّونَ عَلَى ٱلسَّكَنِ فِي جَبَلِ حَارَسَ فِي أَيَّلُونَ وَفِي شَعَلُبِّيمَ. وَقَوِيَتْ يَدُ بَيْتِ يُوسُفَ فَكَانُوا تَحْتَ ٱلْجِزْيَةِ».

يشوع 19: 42

جَبَلِ حَارَسَ في تفسير سفر القضاة للدكتورين كيل ودلتز «إن معنى جبل حارس جبل الشمس وهو اسم آخر لعير شمس أي مدينة الشمس». ويُظن أنها ما يُعرف اليوم بعين شمس. أو لعل جبل حارس جبل كان قرب تلك المدينة وكان عليه هيكل للشمس فكان بمنزلة مقدس لها.

وسُميت الشمس بالحارس في قول أيوب «ٱلآمِرُ ٱلشَّمْسَ فَلاَ تُشْرِقُ» فإنه في الأصل العبراني «الآمر الحارس فلا تشرق» (أيوب 9: 7).

أَيَّلُونَ كانت مدينة على تخم الفلسطينيين (1صموئيل 14: 31) خاضعة لسليمان (1ملوك 4: 9) مدينة الحصار لرحبعام (2أيام 11: 10) اقتحمها الفلسطينيون (2أيام 28: 18) غربي أورشليم وعلى غاية أربعة عشر ميلاً منها وهي اليوم قرية صغيرة اسمها يالو.

شَعَلُبِّيمَ هي اليوم قرية في الجنوب الشرقي من لدّ اسمها سلبيت على المرجّح.

وَقَوِيَتْ يَدُ بَيْتِ يُوسُفَ فَكَانُوا تَحْتَ ٱلْجِزْيَةِ وفي العبرانية «ثقلت» بدل «قويت» ولهذا جاء في الترجمة السبعينية وثقلت يد بيت يوسف على الأموريين ومعنى العبارة أن بيت يوسف أي سبطا أفرايم ومنسى قوي على الأموريين وضرب عليهم الجزية. قال بعضهم يحتمل أن سبطي أفرايم ومنسى لما رأيا مضايقة الأموريين لسبط دان ساعداه عليهم وأذلاهم وفرضوا عليهم الجزية وفي عبارة الأصل إيجاز حسن.

36 «وَكَانَ تُخُمُ ٱلأَمُورِيِّينَ مِنْ عَقَبَةِ عَقْرِبِّيمَ مِنْ سَالِعَ فَصَاعِداً».

عدد 34: 4 ويشوع 15: 3 و2ملوك 14: 7 وإشعياء 16: 1

تُخُمُ ٱلأَمُورِيِّينَ قبل حرب الإسرائيليين. والظاهر أنهم كانوا مملكة مستقلة عن مملكة سيحون والفاصل بين المملكتين مملكتا موآب وعمون.

عَقَبَةِ عَقْرِبِّيمَ جانب من الجبل يفصل غور بحر لوط عن العربة الجنوبية.

سَالِعَ ظن البعض أنها سالع وسماها اليونانيون والرومانيون «بترا» وكلاهما بمعنى صخر وكانت هذه المدينة قصبة أدوم ومن أشهر المدن قديماً. وهي قرب جبل هور على منتصف الطريق بين أريحا وجبل سيناء. وأما الكلمة الأصلية فمعناها صخر وهكذا في الترجمة اليسوعية (من عقبة العقارب من الصخرة إلى ما فوق) فليست الإشارة إلى المدينة المشهورة بل إلى صخرة عُرف بها التخم في تاريخ كتابة هذا السفر ولكنها مجهولة اليوم. ويقال أيضاً أن المدينة سالع كانت في أقصى الشرق والجنوب ولا دلالة على أن مملكة الأموريين انتهت إليها.

فوائد

  1. إنه يجب علينا أن نسأل الله الإرشاد في كل أمر قبل شروعنا فيه (ع 1).

  2. إن وعد الله حق وإنه لا يخلف الميعاد فما يَعِد به لا بدّ من أن يكون كأنه قد كان (ع 2 انظر التفسير).

  3. إنه يجب أن لا نأبى مساعدة من هو أضعف منا فإن الاتحاد قوة وقد شاع في الأقوال ضعيفان يغلبان قوياً (ع 3).

  4. إن النصر لله في الحرب لا لشعبه المحارب (ع 4) وقس على ذلك كل أنواع الفوز والنجاح.

  5. إن الجزاء من جنس العمل (ع 7).

  6. إن الإثم لا يذهب بلا عقاب (ع 5 - 7).

  7. العظمة العالمية تزول فالملك اليوم قد يكون أسيراً غداً (ع 7).

  8. يسرّ الله بمن يسأله أموراً كثيرة وعظيمة لأن ذلك علامة الإيمان. كما طلبت عكسة الينابيع العليا والينابيع السفلى زيادة على ما كانت أخذت. فنسأل الله أن يعطينا من السماء روحه القدوس الذي دونه لا تنفعنا خيراتنا الجسدية (ع 14 و15).

  9. إن الله لا يترك شعبه كل الترك على إثمه بل يؤدبه ليرجع إليه فإنه لم يرفض إسرائيل ويخذله كل الخذلان بل بقي معه مع تأديبه إياه (ع 19 و22).

  10. إن الذي يُحسن إلى شعب الله يُحسن الله إليه (ع 24 و25).

  11. ليست بركات الله محدودة بقدرته ولا بمحبته بل بإيماننا الضعيف فلو آمن الإسرائيليون حق الإيمان بمواعيد الله لاستولوا على كل أرض كنعان لكن ضعف إيمانهم أدّى بهم إلى الجبن فبقي الأمم بينهم فكانوا لهم فخاً وويلاً عظيماً (ع 27).

  12. أهمل الإسرائيليون وصية الله بقرض الكنعانيين وحسب رأي أنفسهم سخروهم. فيجب أن لا نعترض على وصايا الله ولا نزيد عليها ولا ننقص منها (ع 27 - 34).

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي

ملاك الرب وتوبة الشعب ع 1 إلى 5

1 «وَصَعِدَ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ مِنَ ٱلْجِلْجَالِ إِلَى بُوكِيمَ وَقَالَ: قَدْ أَصْعَدْتُكُمْ مِنْ مِصْرَ وَأَتَيْتُ بِكُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أَقْسَمْتُ لآبَائِكُمْ، وَقُلْتُ: لاَ أَنْكُثُ عَهْدِي مَعَكُمْ إِلَى ٱلأَبَدِ».

ع 5 تكوين 17: 7

مَلاَكُ ٱلرَّبِّ اختلف المفسرون في معنى «ملاك الرب» هنا فزعم بعضهم أنه نبي لاستعمال هذه اللفظة للنبي كما في (حجي 1: 13) وتُرجمت هناك «برسول» ونص الآية في ترجمتنا «فقال حجي رسول الرب» وفي العبراني «ملاك يهوه» وأيّد زعمه بأن ذلك مناسب لقول الكاتب أنه «صعد من الجلجال إلى يوكيم». ورأى بعضهم أنه فينحاس الكاهن لاستعمال تلك اللفظة للكهنة أيضاً. ففي نبوءة ملاخي «لأَنَّ شَفَتَيِ ٱلْكَاهِنِ تَحْفَظَانِ مَعْرِفَةً، وَمِنْ فَمِهِ يَطْلُبُونَ ٱلشَّرِيعَةَ لأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ ٱلْجُنُودِ» (ملاخي 2: 7) وفي الأصل العبراني «ملاك رب» الخ. وجاء في الترجوم «نبي أرسله الرب» فأيّد القول الأول. ورجّح كثيرون أنه الملاك الذي هو رئيس جند الرب أي ملاك الذي ظهر ليوشع عند أريحا وبنوا ترجيحهم على ثلاثة أمور:

  • الأول: إن الملاك ما جاء في مثل هذه العبارة إلا بالمعنى المشهور (ص 6: 11 و12 و21 و22 و13: 3 و13 و15).

  • الثاني: إنه جاء في هذه العبارة في غير هذا الموضع بالمعنى عينه (تكوين 16: 7 و22: 11 وخروج 3: 2 و6 و14 وعدد 22: 22).

  • الثالث: إن الملاك قال «قد أصعدتكم» فسند الإصعاد إلى نفسه ولم يقدّم على ذلك قوله «يقول الرب» كعادة الأنبياء.

ٱلْجِلْجَالِ قرية في سهل أريحا (انظر يشوع 4: 19 والتفسير).

كانت الجلجال بين أريحا والأردن على تخم أريحا الشرقي. حلّ الشعب فيها ونصبوا فيها الاثني عشر حجراً التي أخذوها من الأردن. وفي الجلجال اختتنوا وعملوا الفصح. وفي الجلجال مركز عبادة. والقول هنا إن «ملاك الرب صعد من الجلجال إلى بوكيم» يشير إلى انتقال مركز العبادة من الجلجال.

بُوكِيمَ وفي الأصل العبراني «البوكيم» أي الباكين. قال الأستاذ لياس القس اللاهوتي «لم يعرف من أمر بوكيم شيء». وجاء في الترجمة السبعينية «محل البكاء» وزادت «إلى بيت إيل وبيت إسرائيل» فدلّت على أن بوكيم في جوار بيت إيل ولعل الذي حمل المترجم على هذه الزيادة زيادة البيان كون ألّون بكوت أي بلوطة البكاء قرب بيت إيل (اكوين 35: 8) وعلى تسمية المكان «بوكيم» ذُكرت في (ع 4 و5).

وَقَالَ: قَدْ أَصْعَدْتُكُمْ مِنْ مِصْرَ لأن مصر منخفضة عن أرض الميعاد فالخروج من مصر إليها صعود.

وَأَتَيْتُ بِكُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أَقْسَمْتُ لآبَائِكُمْ على أني أعطيكم إياها كما تدل القرينة. وهذا وما بعده لا يجوز أن يقوله مخلوق فقائله الأزلي الواجب الوجود. وقد أخرجهم من مصر بآيات ومعجزات دلت على أنه القادر على كل شيء كما هو مفصل في سفر الخروج والرب أقسم بنفسه أن يعطيهم الأرض لأن ليس في الوجود أعظم منه ولا مثله لكي يقسم به. واستعير القسَم هنا للتأكيد الشديد أي إن الله أكد لآبائهم كل التأكيد إنه يعطيهم الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً.

لاَ أَنْكُثُ أي لا أنقض. استُعير الحبل للعهد أو النقض لإبطاله كما استُعير الإبرام لإثباته (انظر تكوين 17: 7 ومزمور 89: 28 و34 ولوقا 1: 54 و55).

عَهْدِي العهد هنا الوعد المضمون أو التكفل بوفائه وهو أن الله يكون مع شعبه ويورثهم الأرض.

ٱلأَبَدِ أي الدهر أو مدة بقائه على الأرض ويصح أن يكون الزمان الذي لا نهاية له بمعنى أن يكون معهم على الأرض ما داموا عليها وفي السماء بلا انتهاء. ولكن يجب أن يُعلم أن كل عهود الله ومواعيده موقوفة على شرط وهو حفظ وصاياه تعالى (خروج 19: 5) فإن لم يراعَ هذا الشرط كان لله أن لا يفي بوعده إن شاء. فلو آمن بنو إسرائيل الإيمان الحق مدة وجودهم وراعوا على سننه تعالى وحفظوا وصاياه ما صاروا إلى ما صاروا إليه من التشتت والذل وغير ذلك من الأرزاء على أن الباب لا يزال مفتوحاً والطريق ممهداً واضحاً للرجوع إلى ملكهم وربهم رئيس جند الرب ملاك العهد الأبدي.

2 «وَأَنْتُمْ فَلاَ تَقْطَعُوا عَهْداً مَعَ سُكَّانِ هٰذِهِ ٱلأَرْضِ. ٱهْدِمُوا مَذَابِحَهُمْ. وَلَمْ تَسْمَعُوا لِصَوْتِي. فَمَاذَا عَمِلْتُمْ؟».

تثنية 7: 2 تثنية 12: 3 ع 20 ومزمور 106: 34

وَأَنْتُمْ فَلاَ تَقْطَعُوا عَهْداً مَعَ سُكَّانِ هٰذِهِ ٱلأَرْضِ هذا هو شرط عهد الله لهم وهو متضمن توحيدهم لله والابتعاد عن الأوثان وحفظ كل وصاياه والعهد هنا وضع شروط السلام بينهم وبين الأمم والمخالفة وهي تستلزم أن يعترف كل من الفريقين بآلهة الآخر (انظر خروج 23: 32 والتفسير) ويخالط بعضهم بعضاً وهم قد أُمروا أن يستأصلوا الأعداء وأن لا يخالطوهم ما لم يؤمنوا بالإله الحق ويوحدوه ويرجعوا عن معاداتهم لشعبه.

ٱهْدِمُوا مَذَابِحَهُمْ وهي المذابح التي كان الوثنيون يقدّمون عليها الذبائح لآلهتهم الباطلة فأراد الرب هدمها لئلا تكون عثرة للإسرائيليين فتميل قلوبهم إلى عبادة الأوثان ومجاراتهم للوثنيين كما وقع فعلاً (انظر ع 19). وكانت هذه الذبائح تُقام غالباً في الآجام وعلى الأنجاد والتلال والجبال (تثنية 12: 2 و3) فكانت عرضة لنظر شعب الله وكان شعب الله عرضة لنجاستها وعبادتها (ع 3).

وَلَمْ تَسْمَعُوا لِصَوْتِي لم تطيعوني ولم تراعوا شروط العهد كإنكم لم تسمعوا ما أمرتكم به أو شرطته عليكم فتعديتموه (ع 20 ومزمور 106: 34).

فَمَاذَا عَمِلْتُمْ لا يُراد بهذا طلب البيان بل التنبيه على الخطإ والضلال والتوبيخ عليه فكأنه قال لهم انتبهوا لأنكم القطيع فإنكم قد أوجبتم الهلاك على أنفسكم فهو كقوله تعالى لحواء «ما هذا الذي فعلتِ» (تكوين 3: 13).

3 «فَقُلْتُ أَيْضاً: لاَ أَطْرُدُهُمْ مِنْ أَمَامِكُمْ بَلْ يَكُونُونَ لَكُمْ مُضَايِقِينَ، وَتَكُونُ آلِهَتُهُمْ لَكُمْ شَرَكاً».

عدد 33: 55 ويشوع 23: 13 ص 3: 6 خروج 23: 33 و34: 12 وتثنية 7: 16 ومزمور 107: 36

فَقُلْتُ أي فأقول ولكن أتى بصورة الماضي للتأكيد ومعنى «قلت» هنا رأيت أو قصدت.

أَيْضاً لفظة «أيضاً» هنا تدل على أنه قال مثل هذا القول قبلاً (عدد 33: 55 ويشوع 23: 13) فكانت بمنزلة التوكيد لهم أو تكرار القول للتأكيد أي عزمت على ذلك عزماً بعد عزم. ورأى بعضهم أن لا محل للفظة «أيضاً» هنا فترجم الجملة بقوله «فأقول الآن» باء على أن اللفظة العبرانية تحتمل المعنيين.

يَكُونُونَ لَكُمْ مُضَايِقِينَ وفي الأصل العبراني «يكونون لكم في جوانبكم» أي يضغطونكم ويزحمونكم من كل جانب ومعنى هذا المضايقة. وفي الترجمة الإنكليزية «يكونون كأشواك في جوانبكم» كان المترجم رأى في العبارة حذفاً وعيّن المحذوف من وجوده في مثلها من العبارات. فجاء في سفر العدد «وَإِنْ لَمْ تَطْرُدُوا سُكَّانَ ٱلأَرْضِ مِنْ أَمَامِكُمْ يَكُونُ ٱلَّذِينَ تَسْتَبْقُونَ مِنْهُمْ أَشْوَاكاً فِي أَعْيُنِكُمْ وَمَنَاخِسَ فِي جَوَانِبِكُمْ، وَيُضَايِقُونَكُمْ عَلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أَنْتُمْ سَاكِنُونَ فِيهَا» (عدد 33: 55). وعلى هذا كان المناسب أن يُترجم العبارة بقوله «يكونون كمناخس في جوانبك». وفي سفر يشوع «إِنَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكُمْ لاَ يَعُودُ يَطْرُدُ أُولَئِكَ ٱلشُّعُوبَ مِنْ أَمَامِكُمْ، فَيَكُونُوا لَكُمْ فَخّاً وَشَرَكاً وَسَوْطاً عَلَى جَوَانِبِكُمْ وَشَوْكاً فِي أَعْيُنِكُمْ» (يشوع 23: 13). ومفاد العبارات الثلاث المضايقة المؤلمة وعلى هذا جاء في كل من الترجمة الكلدانية والفلغاتا «يكونون لكم خصوماً» (أو منازعين).

وَتَكُونُ آلِهَتُهُمْ لَكُمْ شَرَكاً أي شَرَك شِرك فتعبدونها مع الله أو دونه تعالى (ع 12 و13) والشرك حبائل الصيد.

4 «وَكَانَ لَمَّا تَكَلَّمَ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ بِهٰذَا ٱلْكَلاَمِ إِلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ ٱلشَّعْبَ رَفَعُوا صَوْتَهُمْ وَبَكَوْا».

رَفَعُوا صَوْتَهُمْ وَبَكَوْا رفع الصوت في البكاء يدل على شدة الأسف والألم وكان ذلك لما عرفوه من خسرانهم وما يتلو ذلك من أنواع الأرزاء لما ارتكبوه من المعاصي فأسفوا وبكوا على إثمهم واعترفوا به وسألوا الله المغفرة والإنقاذ وإن كان ذلك إلى حين كما ستعلم.

5 «فَدَعَوْا ٱسْمَ ذٰلِكَ ٱلْمَكَانِ «بُوكِيمَ». وَذَبَحُوا هُنَاكَ لِلرَّبِّ».

فَدَعَوْا ٱسْمَ ذٰلِكَ ٱلْمَكَانِ «بُوكِيمَ» أي لذلك سموا المكان الذي بكوا فيه «بوكيم» وهو في العبرانية جمع بوكي أي باكٍ (انظر ع 1 والتفسير).

وَذَبَحُوا هُنَاكَ لِلرَّبِّ أي ذبحوا ذبائح الخطيئة لأن هذه هي التي اقتضها الحال يومئذ.

لا يستلزم تقديم ذبائح في بوكيم وجود الخيمة أو التابوت فيها فإنه يجوز تقديم ذبائح في أيّ مكان يكون الله فيه (ص 6: 20 و26 و28 و13: 16 و2صموئيل 24: 25 وتثنية 12: 5). ولكن تقديم الذبائح في بوكيم يستلزم إن الذي ظهر وتكلم هو ملاك الرب أي الرب نفسه وليس نبي أو ملاك مخلوق.

حال الإسرائيليين ويشوع قائدهم ع 6 إلى 10

6 «وَصَرَفَ يَشُوعُ ٱلشَّعْبَ، فَذَهَبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مُلْكِهِ لأَجْلِ ٱمْتِلاَكِ ٱلأَرْضِ».

يشوع 22: 6 و24: 28

وَصَرَفَ يَشُوعُ ٱلشَّعْبَ اقتبس الكاتب قوله «وصرف الخ» لبيان حال الإسرائيليين في عصر يشوع وحالهم بعده. والمقتبس بشيء من التصرف.

والظاهر أن هذه الآيات المقتبسة هي مما كتبه كاتب سفر القضاة ذيلاً لسفر يشوع (انظر تفسر يشوع 24: 28 - 33).

فَذَهَبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مُلْكِهِ لأَجْلِ ٱمْتِلاَكِ ٱلأَرْضِ أي ذهب كل فرد من أفراد الأسباط إلى ما امتلكه سبطه لكي يستولي على ما بقي له من ميراثه في أرض كنعان لأنهم لم يستولوا على كل ميراثهم في عصر يشوع.

7 «وَعَبَدَ ٱلشَّعْبُ ٱلرَّبَّ كُلَّ أَيَّامِ يَشُوعَ، وَكُلَّ أَيَّامِ ٱلشُّيُوخِ ٱلَّذِينَ طَالَتْ أَيَّامُهُمْ بَعْدَ يَشُوعَ ٱلَّذِينَ رَأَوْا كُلَّ عَمَلِ ٱلرَّبِّ ٱلْعَظِيمِ ٱلَّذِي عَمِلَ لإِسْرَائِيلَ».

يشوع 24: 31

وَعَبَدَ ٱلشَّعْبُ ٱلرَّبَّ كُلَّ أَيَّامِ يَشُوعَ أي لم يشتركوا بالله ويتنجسوا بعبادة الأوثان كما فعلوا بعد موته وموت من طالت أيامهم من معاصريه.

والمظنون أن يشوع كان في نحو سن الثمانين أو الخامسة والثمانين حين الاستيلاء على أرض كنعان لأن ذلك كان سن تربه ورفيقه كالب (يشوع 14: 7 - 11) فيكون قد عاش نحو ثلاثين سنة أو خمساً وعشرين سنة بعد ذلك الاستيلاء.

وَكُلَّ أَيَّامِ ٱلشُّيُوخِ ٱلَّذِينَ طَالَتْ أَيَّامُهُمْ بَعْدَ يَشُوعَ إن كالب من أولئك الشيوخ فإذا كان الإسرائيليون عبدوا الرب ولم يتنجسوا بعبادة الأصنام كل أيام أولئك الشيوخ فيُظن إنهم لم يعبدوا البعل إلا بعد موت كالب. وقلنا يُظن لأنه لم يقل كل أيام كل الشيوخ بل كل أيام الشيوخ فتأمل.

رَأَوْا كُلَّ عَمَلِ ٱلرَّبِّ ٱلْعَظِيمِ ٱلَّذِي عَمِلَ لإِسْرَائِيلَ من العناية بهم والنصر على الأعداء وما صنعه أمام عيونهم من المعجزات كشق الأردن وإسقاط أسوار أريحا وما أشبه ذلك.

8 «وَمَاتَ يَشُوعُ بْنُ نُونَ عَبْدُ ٱلرَّبِّ ٱبْنَ مِئَةٍ وَعَشَرَ سِنِينَ».

يشوع 24: 29

عَبْدُ ٱلرَّبِّ نُعت بهذا الأنبياء والرسل وكل خدم الرب حتى المسيح نفسه باعتبار كونه إنساناً أطاع الله كل الطاعة وخدمه أحسن الخدمة (انظر تثنية 34: 5 وعنوان مزمور 18 وإشعياء 42: 1 و43: 10 و2تيموثاوس 2: 24).

وَمَاتَ يَشُوعُ... ٱبْنَ مِئَةٍ وَعَشَرَ سِنِينَ فعاش مقدار ما عاش يوسف (تكوين 50: 26). ومن غرائب الاتفاق إن أعمار يشوع وموسى ويعقوب على سلسلة حسابية فضلها 10 سنين وهي 110 و120 و130.

9 «فَدَفَنُوهُ فِي تُخُمِ مُلْكِهِ فِي تِمْنَةَ حَارَسَ فِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ، شِمَالِيَّ جَبَلِ جَاعَشَ».

يشوع 24: 30 يشوع 19: 50 و24: 30

فَدَفَنُوهُ اعتاد الناس من أول عهد التاريخ إلى اليوم أن يذكروا مدافن الملوك والأبطال وغيرهم من المشاهير (تكوين 23: 19 وإرميا 22: 18). قال بعضهم ولعل ذلك الاعتداء بالمدافن كان في أول الأمر لوهن الرجاء إن النفوس خالدة وإنها ستعود إلى الأجسام في اليوم الأخير لأن تعليم القيامة لم يكن أُعلن تمام الإعلان.

تُخُمِ مُلْكِهِ (يشوع 19: 49 و50) وكان ذلك التخم جبل أفرايم فالمدفن في أرض وعرة جرداء. قال بعضهم اختيار يشوع لتلك الأرض وهو الذي قسم الأرض على إسرائيل يدل على أنه أنكر نفسه كل الإنكار.

تِمْنَةَ حَارَسَ وسُميت في سفر يشوع «تمنة سارح» بتبديل أمكنة حروف حارس (يشوع 24: 30). وحارس هو الاسم الأقدم غيره بعض الألسنة كما يقع اليوم بين الناس فاشتهرت المدينة بالاسمين. ومعنى «تمنة حارس» نصيب من الشمس. ومعنى «تمنة سارح» نصيب من الوفرة. وهي مدينة على جبل أفرايم. قال الربانيون سُميت «بتمنة حارس» إيماء إلى توقيف يشوع الشمس وذكرى لذلك وإنه رُسمت صورة الشمس على قبره. «وجيل أفرايم» جنوبي سهل يزرعيل وهو مرج ابن عمير وهو سلسلة هضاب في أرض أفرايم تمتد منها إلى تخوم بنيامين. واختلف العلاماء في موقعها فرأى بعضهم أنها تبنة على الطريق الرومانية بين أورشليم وأنتيباتريس وفيها آثار عدة قبور قديمة وقبر عظيم منفرد. وهي على غاية نحو 15 ميلاً من أورشليم وإلى شمالي الشمال الغربي منها ولم يبق سوى أطلالها. ورأى بعضهم اعتماداً على التقاليد اليهودية إنها كفر حارس وهي على غاية تسعة أميال من نابلس جنوباً. والسمرة يقولون أن يشوع بن نون وكالب مدفونان فيها فاتفق التقليدان تقليد اليهود وتقليد السمرة على أن مدفن يشوع فيها. ولعل هذا هو الصحيح فإن اليهود كانوا شديدي العناية بحفظ مدافن أنبيائهم وآبائهم وأثارهم وهم الذين حفظوا مدفن إبراهيم وبئر يعقوب وغير ذلك.

جَبَلِ جَاعَشَ أي جبل الزلزلة وهو قرب تمنة حارس ولكن لم يتعيّن أي التلال المجاورة لها هو. وذُكر في (2صموئيل 23: 30 و1أيام 11: 32).

10 «وَكُلُّ ذٰلِكَ ٱلْجِيلِ أَيْضاً ٱنْضَمَّ إِلَى آبَائِهِ، وَقَامَ بَعْدَهُمْ جِيلٌ آخَرُ لَمْ يَعْرِفِ ٱلرَّبَّ وَلاَ ٱلْعَمَلَ ٱلَّذِي عَمِلَ لإِسْرَائِيلَ».

خروج 5: 2 و1صموئيل 2: 12 و1أيام 28: 9 وإرميا 9: 3 و22: 16 وغلاطية 4: 8 و2تسالونيكي 1: 8 وتيطس 1: 16

وَكُلُّ ذٰلِكَ ٱلْجِيلِ أَيْضاً ٱنْضَمَّ إِلَى آبَائِهِ أي لحقوا بأبائهم الموتى والمعنى أنهم ماتوا. وهذا كثرت أمثاله في الكتاب المقدس لأنهم كانوا يدفنون الموتى في مدافن أسلافهم أو لأنهم كانوا يذهبون إلى دار الأموات التي سبقهم إليها آباؤهم وتسمى عندهم شأول. ومن أمثال عبارة هذه الآية قوله تعالى ليوشيا «لِذٰلِكَ هَئَنَذَا أَضُمُّكَ إِلَى آبَائِكَ» (2ملوك 22: 20). ومنها قوله تعالى لإبراهيم «وَأَمَّا أَنْتَ فَتَمْضِي إِلَى آبَائِكَ» (تكوين 15: 15 انظر أيضاً 1ملوك 1: 21 وأعمال 13: 36). ومن أمثالها قول الكتاب في إبراهيم إنه «ٱنْضَمَّ إِلَى قَوْمِهِ» (تكوين 25: 8). ومنها قوله تعالى لموسى «هَا أَنْتَ تَرْقُدُ مَعَ آبَائِكَ» (تثنية 31: 16).

جِيلٌ آخَرُ لَمْ يَعْرِفِ ٱلرَّبَّ المراد «بالجيل» هنا أهل زمان واحد فكان الإسرائيليون بعد يشوع يتقدمون من شر إلى شر ويخرجون من ضلال إلى آخر وينسون الله (إرميا 9: 3).

والقول يشير (1) إلى قلة التعليم فالظاهر أن رؤساء الدين أي الكهنة واللاويون تكاسلوا في خدمتهم للشعب الدينية والتهذيبية والشعب تكاسلوا في الاستماع لشريعة الرب والوالدون تكاسلوا في تربية أولادهم. (2) إلى عدم المعرفة القلبية الروحية. ولعلهم عرفوا الرب معرفة عقلية كما يعرف الإنسان أعمال العظماء القدماء ولكنهم لم يعرفوه كإله حي وحاضر وفاديهم يحبهم ويعتني بهم فيحبونه ويحفظون وصاياه.

معصية إسرائيل بعد موت يشوع ع 11 إلى 23

11 «وَفَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ ٱلشَّرَّ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ وَعَبَدُوا ٱلْبَعْلِيمَ».

عدد 25: 3 و5 ويشوع 22: 17 وص 8: 33 و2ملوك 1: 2

وَفَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ ٱلشَّرَّ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ فعل الشر في الكتاب يدل على ترك الله أو الإيمان أو الارتداد عن الله وشريعته (انظر ص 3: 7 - 12 و4: 1 و6: 1 و10: 6 و13: 1). فإنهم تركوا الله وعبدوا الأصنام مع شدة تحذير الله لهم منها (تثنية 4: 15 - 19).

عَبَدُوا ٱلْبَعْلِيمَ أي البعول جمع بعل وهو في العربية يدل على معان منها رب الشيء ومالكه. وفي العبرانية الرب والمالك وهو إله باطل يعنون به الشمس وجمعوه إما للتعظيم كما جمع العبرانيون اسم الله على إلوهيم أي الآلهة وإما لتعدد صوره وتماثيله فكانوا يسمون كلا منها بعلاً. وكان يتعدد اسم البعل عندهم بتعدد أماكن عبادته وأصنامه وسيادته مثل بعل فغور وبعل زبوب أي إله الذُّباب وهو إله عقرون ولعل هذا من أسباب جمعه. وكان عباده الفينيقيين والكنعانيين وغيرهم من أهل المشرق ووصلت عبادته إلى أوربا فعبده قدماء السكندافيين والبريطانيين ولا يزال في استكلندا مكان يسمى تل بألتين أي تل بعلتين ومعناه تل نار البعل لأنهم كانوا يضرمون عليه النار للبعل. وانتشرت عبادته في غير ما ذُكر من البلاد ولا تزال آثاره في بعض أسماء القرطاجنين كحسدر وبعل وحنيبعل وهو المشهور بهنيبال ومهربعل وادهر بعل أو أدحر بعل. والخلاصة أن الأدلة كثيرة على أنه عبده أهل المشرق والمغرب.

وعلّة عبادة الناس للشمس ما رأوه من قوتها ومنفعتها من أنها حياة الحيوان والنبات ونموها وعلة الأبصار والجمال وغير ذلك فقالوا أنها رب الطبيعة ومالكتها وبهاء الكائنات وعبدوها بأجمل ما استطاعوا من الطرق فآثر ذلك في نفوس الإسرائيليين لما هو مشهور من تأثير الحواس في النفس فسقطوا في عبادتها وصاروا بعليين بعد أن كانوا إلهيين فكانت آلهة الأمم لهم شركاً (ع 3). وعلّة علل الوثنية الجهل فاستبدلوا حق الله بالكذب وعبدوا المخلوق دون الخالق ولو علموا لرأوا أن الله هو خالق الشمس ومنافعها وجمالها فعبدوه وحمدوه على إحسانه ونسبوا القدرة إلى القادر على كل شيء لا إلى الشمس التي مع كل عظمتها ليست بشيء إلى ما خلقه من عظام الأجرام السماوية. وكان عبدة البعل يصورون بعلهم بصورة إنسان تحيط بوجهه مُثُل أشعة الشمس كما عُلم من الآثار وكانوا ينقشون رسمه في الحجارة ويجعلون منحوتاته كذلك. وكانت الشمس من أعظم آلهة المصريين القدماء. فكان الإسرائيليون عرضة للسقوط في عبادتها في حالَي العبودية والحرية. ولهذا كان الله يحذّرهم كل التحذير من محالفة الأمم ومخالطتهم ومع ذلك «فعلوا الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم».

12 «وَتَرَكُوا ٱلرَّبَّ إِلٰهَ آبَائِهِمِ ٱلَّذِي أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ وَسَارُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى مِنْ آلِهَةِ ٱلشُّعُوبِ ٱلَّذِينَ حَوْلَهُمْ، وَسَجَدُوا لَهَا وَأَغَاظُوا ٱلرَّبَّ».

تثنية 31: 16 تثنية 6: 14 خروج 20: 5

وَتَرَكُوا ٱلرَّبَّ (تثنية 31: 16 و17) هذا أكثر من الشرك فإن الشرك عبادة الرب وعبادة غيره معه ولكن العبارة نصّ في أنهم عبدوا البعليم وتركوا عبادة الرب وفي العبرانية يهوه وهو الإله الحق فكأنه قال عبدوا الإله الباطل وهجروا عبادة الإله الحق.

إِلٰهَ آبَائِهِمِ أي الإله الذي عبده آباؤهم وأخبروهم بحسن عنايته بهم وما صنعه من العظائم أمام عيونهم الذي هو خلق الشمس ويحكم عليها بالشروق والغروب وقد أوقفها بقدرته. فكان هذا الإله المتسلط على كل جنود السماء يجب أن يُعبد وأن تُترك عبادة كل ما سواه. ولكنهم أتوا ضد ذلك. اتخذوا الذي هو أدنى وتركوا الذي هو أعلى فما أفظع إثمهم وما أفحش جهلهم.

سَجَدُوا لَهَا (انظر تفسير ع 17).

وَأَغَاظُوا ٱلرَّبَّ بفظاعة إثمهم. وفظاعته من وجوه نذكر ثلاثة منها:

  • الأول: عبادة الرب كما عبدوه بواسطة العجل يوم ضلّوا في أيام غياب موسى عنهم (خروج 32: 1 الخ).

  • الثاني: إنهم عبدوا آلهة الفينيقيين والأشوريين دون الله.

  • الثالث: إنهم ارتكبوا في تلك العبادة شّر المحظورات وهو تقديم الذبائح البشرية للبعل أو الشمس لأن ذلك كان من رسوم تلك العبادة (إرميا 19: 5).

13 «تَرَكُوا ٱلرَّبَّ وَعَبَدُوا ٱلْبَعْلَ وَعَشْتَارُوثَ».

ص 3: 7 و10: 6 ومزمور 106: 36

ٱلْبَعْلَ وَعَشْتَارُوثَ جاء «البعل» هنا مفرداً وهو كذلك في الأصل العبراني والمراد به الشمس عينها بقطع النظر عن تعظيمها أو تعددها بتعدد الصور والتماثيل وأمكنة العبادة. و«عشتاروث» جمع مؤنث ويقال في جمعها كما قيل في جمع البعل (انظر تفسير ع 11). وهي إلاهة الصيدونيين (1ملوك 11: 5) وفينس الفينيقيين وهي كوكب الزُّهرة. ورأى كثيرون من العلماء أن عشتاروث هي القمر واستدل على ذلك بعضهم من اسم المدينة عشتاروث قرنايم ومعناه عشتروث ذات القرنين فإن طرفي القمر وهو هلال يشبهان القرنين. وقالوا إن الأمم أرادوا «بالبعل» قوة الطبيعة الذكر و«بعشتاروث» قوتها الأثنى أي هما قوّتا الطبيعة الذكرية والأنثوية وكانوا ينصبون لها سواري على المرتفعات (1ملوك 16: 33 و2ملوك 23: 6). ودُعيت أيضاً «ملكة السماوات» (إرميا 7: 18 و44: 17) واكتُشف عدة هياكل للحثيين حديثاً وجدوا في بعضها منحوتاً على أحد وجهيه صورة رجل تمثل البعل يحيط بوجهه الأشعة وعلى الآخر صورة امرأة تمثل عشتاروث وعلى رأسها صورة الهلال. وشوهد كثير من منحوتات المصريين العادية مثل صورة هذه المرأة وهذا يدلنا على أن المصريين القدماء كانوا يعبدون عشتاروث كما كانوا يعبدون البعل أي الشمس. وجاء في كتابات رعمسيس الثاني في حروبه للحثيين أن عشتاروث من آلهتهم. وكان من عواصم عبادة عشتاروث في أرض كنعان مدينة أفيق وقد ذُكرت في (ص 1: 31 فارجع إليه وإلى تفسيره).

وكثيراً ما اقترنت عبادة البعل بعبادة عشتاروث (انظر ص 10: 6 و1صموئيل 7: 4 و12: 10).

ولنا من كل ما تقدم ما يحملنا على أن الوثنيين الأقدمين ذهبوا إن البعل زوج القمر فإن من معاني البعل زوج المرأة مع معنى السيادة وإنهما ولدا العالمين فأثبتوا إلهين أزليين أحدهما ذكر والآخر أنثى.

14 «فَحَمِيَ غَضَبُ ٱلرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ، فَدَفَعَهُمْ بِأَيْدِي نَاهِبِينَ نَهَبُوهُمْ، وَبَاعَهُمْ بِيَدِ أَعْدَائِهِمْ حَوْلَهُمْ، وَلَمْ يَقْدِرُوا بَعْدُ عَلَى ٱلْوُقُوفِ أَمَامَ أَعْدَائِهِمْ».

ص 3: 8 ومزمور 106: 40 و41 و42 و2ملوك 17: 20 ص 3: 8 و4: 2 ومزمور 44: 12 وإشعياء 50: 1 لاويين 26: 37 ويشوع 7: 12 و13

فَحَمِيَ غَضَبُ ٱلرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ (مزمور 78: 58 و59) والنتيجة المحزنة في سائر هذه الآية لها أمثال في عدة آيات متفرقة في الكتاب المقدس (تثنية 32: 5 الخ و2ملوك 17: 7 - 20 و24: 1 - 4 و2أيام 36: 11 - 21 ومزمور 106: 34 - 45 وإرميا 11: 2 - 14). ومعنى قوله «حمي غضب الرب» عظم كثيراً حتى أوجب الانتقام. شبه الكاتب في نفسه غضب الله من معصية إسرائيل بالنار واثبت له الحموّ دلالة على التشبيه المضمر في النفس ووجه الشبه بين ذلك الغضب والنار الإيلام والإعدام.

ويجب أن يُعلم هنا أن الله لا يتأثر كما يتأثر الناس فيغضب كما يغضبون فالقصد إن الله انتقم منهم انتقام من يتّقد غضبه من الناس ممن كان علة إتقاده.

فَدَفَعَهُمْ بِأَيْدِي نَاهِبِينَ (2ملوك 17: 20) في بعض التراجم «فدفعهم إلى أيدي ناهبين» وفي العبرانية «فدفعهم بيد ناهبين» فالباء على ما في بعض التراجم بمعنى إلى وجمع اليد في الترجمة لمناسبة المضاف إليه وتصحّ إضافة المفرد إلى الجمع وإرادة تعدده إذا فُهم من القرينة كما هنا في اللغتين العبرانية والعربية. وتأتي الباء بمعنى إلى في تينك اللغتين. ولكن إذا قطعنا النظر عن ترجمة الباء بإلى احتمل الكلام أن تكون الباء بمعنى في الظرفية وتضمين الدفع الطرح لأنه من لوازم الدفع فيكون المعنى فدفعهم فطرحهم في أيدي ناهبين أي جعلهم ملكاً لهم. والمعنى على التقديرين إن الله تركهم للأعداء ينهبون أموالهم وأولادهم ونساءهم ورجالهم الصالحين للخدمة فإنهم كانوا يستعبدون بعضهم ويبيعونه بيع الرقيق فيا ويل من حمي غضب الرب عليه.

بَاعَهُمْ بِيَدِ أَعْدَائِهِمْ يكاد هذا يكون تفسيراً للعبارة السابقة ومعناه ملّك الأعداء إيّاهم كما يملّك البائع الشاري ما يبيعه إيّاه. وقد جاء كثير من مثل هذه العبارة في الكتاب المقدس (انظر ص 3: 8 و4: 2 و10: 7 وتثنية 32: 30 ومزمور 44: 12 وإشعياء 50: 1).

وَلَمْ يَقْدِرُوا بَعْدُ عَلَى ٱلْوُقُوفِ أَمَامَ أَعْدَائِهِم أي لم يستطيعوا بعد ذلك أن يثبتوا في حومة القتال فكان كثيرون يقعون قتلى ومن بقوا أحياء يهربون أو يؤسرون (انظر لاويين 26: 17 وتثنية 28: 15 - 68).

15 «حَيْثُمَا خَرَجُوا كَانَتْ يَدُ ٱلرَّبِّ عَلَيْهِمْ لِلشَّرِّ كَمَا تَكَلَّمَ ٱلرَّبُّ وَكَمَا أَقْسَمَ ٱلرَّبُّ لَهُمْ. فَضَاقَ بِهِمُ ٱلأَمْرُ جِدّاً».

لاويين 26 وتثنية 28

كَانَتْ يَدُ ٱلرَّبِّ عَلَيْهِمْ بعد أن كانت معهم (يشوع 1: 9) أي إنه صار يحاربهم بعد أن كان يحارب معهم وينصرهم. وأسند الفعل إلى اليد لأنها هي الآلة التي تضرب بالسيف وتطعن بالرمح وترمي السهام وتضغط الأعداء وتوصل الأضرار.

لِلشَّرِّ لا للبركة فإنها كانت تقترن بوضع اليد ولا للوقاية. والشرّ ضد الخير وعرفوه بعدم ملاءمة الشيء للطبع.

كَمَا تَكَلَّمَ ٱلرَّبُّ (انظر لاويين 26: 17 وتثنية 18: 25 الخ و29: 1 الخ).

وَكَمَا أَقْسَمَ أي أكد لأن القسم للتأكيد.

فَضَاقَ بِهِمُ ٱلأَمْرُ معنى «الأمر» هنا الحادثة أو الشيء الذي أعلنه لهم الرب من نتائج غيظه عليهم فكانوا مضغوطين به كمن هم في مكان ضيق يزحم بعضهم بعضاً ويضغطه ولا مندوحة للتخلُّص. ولفظة «الأمر» ليست في الأصل العبراني إنما زادها المترجم للإيضاح. والضمير في «ضاق» في العبرانية يرجع إلى ما فهموه من عواقب غضب الله عليهم.

جِدّاً يعني بالغ الغاية في العظم أي ضاق بهم الأمر ضيقاً ما وراءه من ضيق. وخلاصة ما ذُكر إن الله صار عدواً لهم ومحارباً وتركهم للعنة التي أنذرهم بها حتى لم يبق لهم من مهرب للنجاة من نتائج غضبه وذلك أشد الضيق.

16 «وَأَقَامَ ٱلرَّبُّ قُضَاةً فَخَلَّصُوهُمْ مِنْ يَدِ نَاهِبِيهِمْ».

ص 3: 9 و10 و15 و1صموئيل 12: 11 وأعمال 13: 20

وَأَقَامَ ٱلرَّبُّ قُضَاةً حكاماً مطلقي السلطة أكثرهم قوّاد لجنود وهم عثنيئيل وأهود وشمجر ودبورة وباراق وجدعون وتولع ويائير ويفتاح وأبصان وإيلون وعبدون وشمشون وعددهم اثنا عشر إذا اعتبرنا دبورة وباراق واحداً لأنهما اتحدا في الحكم على إسرائيل وتركا أبيمالك لأنه اغتصب المملكة ولم يُعيَّن من الله وانتهينا في شمشون لأن عالي كان كاهناً وصموئيل نبياً (انظر 1صموئيل 12: 10 و11 وأعمال 13: 20) وأكثرهم أنقذ إسرائيل من استعباد الأمم (انظر القسم الثاني من الفصل الخامس من المقدمة). وكان أولئك القضاة فوق قيامهم بالأحكام والحروب يؤيدون الشريعة ويحثون الشعب على حفظها ويبتون المخاصمات.

فَخَلَّصُوهُمْ مِنْ يَدِ نَاهِبِيهِمْ أي أيديهم (انظر تفسير ع 14). هذه الرحمة تنافي في الظاهر ما قيل في (ع 14 و15) قلنا فلا شك في أنهم استغاثوا بالرب لما «ضاق بهم الأمر جداً» (انظر ع 18 و1صموئيل 12: 10 و11) فأقام لهم القضاة فخلصوهم. ويدفع المنافاة أيضاً أنه تم ما أنذرهم به الرب من تسليمهم إلى أعدائهم لكنه لم يتركهم إلى الأبد لأنه «رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ ٱلرُّوحِ وَكَثِيرُ ٱلرَّحْمَةِ. لاَ يُحَاكِمُ إِلَى ٱلأَبَدِ وَلاَ يَحْقِدُ إِلَى ٱلدَّهْرِ» (مزمور 103: 8 و9). وإنه أقام لهم القضاة فخلّصوهم من أعدائهم ليسمعوا نصحهم ويرجعوا إليه تعالى فيوحدوه ويعبدوه ويطرحوا أصنامهم التي عبدوها دونه.

17 «وَلِقُضَاتِهِمْ أَيْضاً لَمْ يَسْمَعُوا، بَلْ زَنَوْا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى وَسَجَدُوا لَهَا. حَادُوا سَرِيعاً عَنِ ٱلطَّرِيقِ ٱلَّتِي سَارَ بِهَا آبَاؤُهُمْ لِسَمْعِ وَصَايَا ٱلرَّبِّ. لَمْ يَفْعَلُوا هٰكَذَا».

خروج 34: 15 و16 ولاويين 17: 7

وَلِقُضَاتِهِمْ أَيْضاً لَمْ يَسْمَعُوا أي أقام لهم الله القضاة ليعتنوا بهم ويخلّصوهم ويردوهم إليه تعالى فعصوا القضاة أيضاً لفرط حماقتهم. «إن الحماقة أعيت من يداويها». «دَاوَيْنَا بَابِلَ فَلَمْ تُشْفَ» (إرميا 51: 9).

بَلْ زَنَوْا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى استعار الزنى للسير وراء الآلهة الباطلة فقال «زنوا وراء آلهة أخرى» بدلاً من ساروا وراءها أي استعمل زنوا استعمال ساروا (انظر ع 12). وشُبهت عبادة الأوثان بالزنى لأن إسرائيل بمنزلة عروس لله لأنه اختاره لنفسه وأحبه كما يختار الرجل عروسه ويحبها (انظر إرميا 2: 2) فعبادتهم الأوثان وتركهم لله كحب زوجة لغير زوجها وترك زوجها واقترانها بذاك (حزقيال 16: 2 - 26). على أن إسرائيل زنى بعبادة غير الله مجازاً وحقيقة (انظر خروج 34: 15 و16) وسمى علماء الدين عبادة الأوثان بالزنى الروحي (قابل ما ذُكر بما في إشعياء 54: 5 وإرميا 3: 8 وحزقيال 23: 37 وهوشع 2: 7 و2كورنثوس 11: 2). وقد تبين من (ع 11 و13) بعض تلك الآلهة الأخرى وهو البعليم وعشتاروث.

سَجَدُوا لَهَا السجود في الوضع الخضوع والانحناء. والمرجّح أنه هنا الجثو ووضع الجبهة على الأرض كما هو المشاهد اليوم في سجود العبادة في الشرق.

حَادُوا سَرِيعاً عَنِ ٱلطَّرِيقِ أي طريق الهدى والحق.

آبَاؤُهُمْ إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى ويشوع وغيرهم من أتقياء الرب الذين كانوا قبلهم. وقد ذُكرت طريقهم في (ع 7 فارجع إليه).

لِسَمْعِ وَصَايَا ٱلرَّبِّ أي لطاعتها والسير بمقتضاها.

لَمْ يَفْعَلُوا هٰكَذَا أي كما فعل آباؤهم وهذه العبارة تأكيد لما قبلها بالمعنى وهي قوله «حادوا الخ».

18 «وَحِينَمَا أَقَامَ ٱلرَّبُّ لَهُمْ قُضَاةً كَانَ ٱلرَّبُّ مَعَ ٱلْقَاضِي، وَخَلَّصَهُمْ مِنْ يَدِ أَعْدَائِهِمْ كُلَّ أَيَّامِ ٱلْقَاضِي، لأَنَّ ٱلرَّبَّ نَدِمَ مِنْ أَجْلِ أَنِينِهِمْ بِسَبَبِ مُضَايِقِيهِمْ وَزَاحِمِيهِمْ».

يشوع 1: 5 تكوين 6: 6 وخروج 22: 12 و14 وتثنية 32: 36 ومزمور 106: 44 و45

كَانَ ٱلرَّبُّ مَعَ ٱلْقَاضِي أي إن القاضي لم يستطع أن يخلصهم بقدرة نفسه بل بمساعدة الله إياه أو إن القاضي بالنظر إلى نفسه لم يستطع أن يعمل شيئاً نافعاً لإسرائيل إنما الله أنقذهم به كأنه آلة في يده تعالى (انظر تثنية 8: 17 ومزمور 44: 3).

ٱلرَّبَّ نَدِمَ أي رجع عن المؤاخذة فالكلام كناية أو مجاز لأن الذي ينجم على عمل يرجع عنه لأن الله منزه عن الندم. وجاء في كلام علماء العربية وفي القرآن إسناد التوبة إلى الله مع أن التوبة الندم على الذنب مع الإقرار بعدم العذر على ارتكابه ولكن بمعنى أنه رجع من التشديد إلى التخفيف كما قال بعضهم والأحسن أن يقال رجع من المؤاخذة إلى المغفرة. وفرقوا بين توبة الرب وتوبة العبد بحرف التعدية فقالوا تاب فلان عن ذنب فتاب الله عليه. فبين العبرانية والعربية مشابهة في التعبير عن عفو الله عن المذنبين بما يتنزه الله عنه إذا لم يُقصد المجاز أو الكتابة. ومثل ذلك إثبات اليد والوجه وغيرهما من الأعضاء إليه سبحانه وتعالى. واختير هذا التعبير مراعاة لفهم البشر ومبالغة في المعنى.

وأما الاعتراض بجواز المعنى الحقيقي أو الوضعي في الكناية يصح على المكنيّ عنه إن لم يمنع مانع من الاستحالة بالنظر إلى طبيعته والله يستحيل أن يندم وعلة الاستحالة كماله وعلمه كل شيء قبل أن يكون ومثل ذلك كثير في أفصح الكتب العبرانية والعربية كنسبة القرآن الغضب والمكر وما أشبههما إليه تعالى (سورة النساء وسورة آل عمران) ولهذه العبارة نظائر في الكتاب المقدس (تكوين 6: 6 وخروج 32: 14 و1صموئيل 15: 35 ويوئيل 2: 13 وعاموس 7: 3 ويونان 3: 10). والقرينة على أن الندم من جانب الله تعالى كناية أو مجاز العقل ونص الكتاب. ففي سفر العدد ما نصه «لَيْسَ ٱللّٰهُ إِنْسَاناً فَيَكْذِبَ، وَلاَ ٱبْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَلْ يَقُولُ وَلاَ يَفْعَلُ؟ أَوْ يَتَكَلَّمُ وَلاَ يَفِي» (عدد 23: 19).

مِنْ أَجْلِ أَنِينِهِمْ الخ هذا علة ندمه أي رجوعه عن الانتقام منهم والأنين التوجع والصوت من الألم وهو أنين الأسف على ما ارتكبوه من الآثام وتوجعهم في الصلاة لله. وهو خلاف أنين المعاندين مما يعتريهم من الآلام الناشئة عن معاصيهم.

19 «وَعِنْدَ مَوْتِ ٱلْقَاضِي كَانُوا يَرْجِعُونَ وَيَفْسُدُونَ أَكْثَرَ مِنْ آبَائِهِمْ بِٱلذَّهَابِ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لِيَعْبُدُوهَا وَيَسْجُدُوا لَهَا. لَمْ يَكُفُّوا عَنْ أَفْعَالِهِمْ وَطَرِيقِهِمِ ٱلْقَاسِيَةِ».

ص 3: 12 و4: 1 و8: 33

وَعِنْدَ مَوْتِ ٱلْقَاضِي كَانُوا يَرْجِعُونَ وَيَفْسُدُونَ أَكْثَرَ مِنْ آبَائِهِمْ أي يرجع الإسرائيليون نسل الذين تابوا في حياة النبي واقتدى ذلك النسل بهم. فالذين تابوا في حياة النبي كانوا قد رجعوا عن الله إلى البطل والفساد ثم لما ذاقوا شرّ العاقبة رجعوا إليه تعالى وأنّوا واستغاثوا به واقتدى بهم أولادهم وهؤلاء الأولاد رجعوا عنه تعالى وفسدوا أكثر من آبائهم قبل التوبة فالآباء هنا هم الآباء المحدثون لا القدماء كإبراهيم وإسحاق ويعقوب. ومعنى الفساد هنا ضد الصلاح فإنهم صاروا بعد الصلاح أشراراً أو الفساد التغيُّر من الصلاح إلى الطلاح.

بِٱلذَّهَابِ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى أي بسبب عبادتهم غير الله من الأصنام والكواكب وغيرها من المخلوقات.

لَمْ يَكُفُّوا عَنْ أَفْعَالِهِمْ فظلوا يرجعون عن الله بعد التوبة سريعاً كعادتهم أو لم يرجعوا عن عبادة الأوثان وسائر ضلالهم.

طَرِيقِهِمِ ٱلْقَاسِيَةِ وهي طريق الضلال وقساوة القلب والعناد والمعصية. «وطريقهم القاسية» على وفق العبارة العبرانية (دركم هقشة) وهي بمنزلة قول الله عليهم «شعب صلب الرقبة» (خروج 32: 9 قابل هذا بما في تثنية 10: 16 وأعمال 7: 51). على ذلك يكون إسناد القساوة إلى الطريق مجاز عقلي لأن القساوة هي قساوة قلوبهم في الحقيقة. ويصح أن يكون النعت حقيقي للطريق فإن طريق الشر قاسية صعبة لما يترتب على السير فيها من التعب والأضرار فتكون الطريق القاسية استعارة لمقصدهم ارتكاب المعاصي المؤدي إلى سوء العواقب.

20 «فَحَمِيَ غَضَبُ ٱلرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَقَالَ: مِنْ أَجْلِ أَنَّ هٰذَا ٱلشَّعْبَ قَدْ تَعَدَّوْا عَهْدِيَ ٱلَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ آبَاءَهُمْ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِي».

ع 14 يشوع 23: 16

فَحَمِيَ غَضَبُ ٱلرَّبِّ (انظر تفسير ع 14). والكلام من هذه الآية بسط وتفسير لقول الملاك من (ع 1 - 3).

هٰذَا ٱلشَّعْبَ وفي الأصل العبراني «هذه الأمة» (هغوي أو هجوي والجيم تُلفظ كالجيم في مصر). وهذا اللفظ يُستعمل لغير الإسرائيليين فأنزلهم الله منزلة الأمم لا منزلة الشعب المختار لأنهم صاروا كأمة وثنية لعبادتهم الأوثان فكان المناسب أن تترجم العبارة بهذه الأمة. واللفظة العبرانية المستعملة لشعب إسرائيل في الكتاب المقدس في غير هذه الحال (عم). وجاء العم في العربية بمعنى الجماعة الكثيرة.

تَعَدَّوْا عَهْدِيَ أي تركوا وصيتي لهم لأنهم لا يعبدون سواي (يشوع 23: 16).

آبَاءَهُمْ أي أسلافهم.

وَلَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِي أي لم ينتبهوا لكلامي ولم يطيعوا أوامري.

21 «فَأَنَا أَيْضاً لاَ أَعُودُ أَطْرُدُ إِنْسَاناً مِنْ أَمَامِهِمْ مِنَ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ تَرَكَهُمْ يَشُوعُ عِنْدَ مَوْتِهِ».

يشوع 23: 13

فَأَنَا أَيْضاً لاَ أَعُودُ أَطْرُدُ إِنْسَاناً مِنْ أَمَامِهِمْ أي أعود (أي أصبر) لا أطرد الخ أو لا أعود إلى أن أطرد الخ كما كنت أطرد أعداءهم من أمامهم. وفي بعض التراجم الأجنبية فأنا أيضاً لا أطرد بعد ذلك الخ وهو المعنى المقصود. وهذا إذا استمروا على معاصيهم وإلا فإذا تابوا يعود إلى مساعدتهم ونصرهم وحسن عنايته بهم. وهذا شرط معهود لا حاجة إلى ذكره دائماً.

مِنَ ٱلأُمَمِ الكنعانية.

ٱلَّذِينَ تَرَكَهُمْ يَشُوعُ عِنْدَ مَوْتِهِ ولو بقي حياً ما تركهم ولكن منعه الموت من ذلك.

22 «لأَمْتَحِنَ بِهِمْ إِسْرَائِيلَ: أَيَحْفَظُونَ طَرِيقَ ٱلرَّبِّ لِيَسْلُكُوا بِهَا كَمَا حَفِظَهَا آبَاؤُهُمْ، أَمْ لاَ».

تثنية 8: 2 و16 و13: 3 وص 3: 1 و4

لأَمْتَحِنَ بِهِمْ إِسْرَائِيلَ لكي يعرفوا ضعفهم ويرجعوا إليّ ويتدربوا (انظر تفسير ص 3: 1) فإن الله يقصد بتجربة شعبه وامتحانهم الخير لهم لا مجرد الانتقام فيمزج الدينونة بالرحمة ويترك للتجربة منفذاً (1كورنثوس 10: 13). فإن هذه التجربة قد قصد بها الخير الحالي أو القريب كما قصد الخير المستقبل أو البعيد (انظر خروج 23: 29 و30 وتثنية 7: 22 وص 1: 1 - 3).

أَيَحْفَظُونَ طَرِيقَ ٱلرَّبِّ لِيَسْلُكُوا بِهَا استعار «الطريق» هنا للشريعة من الأوامر والنواهي بجامع التأدية إلى المقصود. وقال «أيحفظون» الخ لا أن يحفظوا توبيخاً لهم لأنهم صاروا بمنزلة من يُشك في توبته ويُظن بقاؤه في المعصية لكثرة تقلباتهم وعنادهم المتواتر وإلا فالله منزّه عن أن يجهل العواقب.

آبَاؤُهُمْ هم من ذُكروا في (ع 7) ويصحّ أن يراد معهم سائر أسلافهم الأتقياء.

23 «فَتَرَكَ ٱلرَّبُّ أُولَئِكَ ٱلأُمَمَ وَلَمْ يَطْرُدْهُمْ سَرِيعاً وَلَمْ يَدْفَعْهُمْ بِيَدِ يَشُوعَ».

فَتَرَكَ ٱلرَّبُّ أُولَئِكَ ٱلأُمَمَ ترك الرب الأمم (1) لأنه لو طردهم في سنة واحدة لصارت الأرض خربة وكثرت الوحوش لأن الأرض واسعة وكان عدد بني إسرائيل قليل بالنسبة إلى اتساع الأرض (خروج 23: 29 و30). (2) لتتعلم العصور القادمة من بني إسرائيل الحرب ويتعلموا أن النجاح في الحرب من الرب ويتعلموا أيضاً أن الخيرات التي يتعبون في تحصيلها أثمن من التي يأخذونها بلا تعب (ص 3: 1 و2) وذلك كله لخير إسرائيل ومن رحمة الرب لهم.

ولكن إذا تكاسل الإسرائيليون وضعف إيمانهم وتركوا الرب واتحدوا بالأمم وسجدوا لآلهتهم يتركهم الرب ولا يطرد الأمم أمامهم مطلقاً ليكونوا لهم مضايقين وذلك على سبيل عقاب خطيئة إسرائيل.

وَلَمْ يَدْفَعْهُمْ بِيَدِ يَشُوعَ أي إلى يده أو في يده (انظر تفسير ع 14) لعلمه بما يأتيه إسرائيل في المستقبل.

فوائد

  1. كلام الله. الرب يكلم شعبه في هذه الأيام (1) بالكتاب المقدس فلا يحتاجون إلى أنبياء ولا إلى كلام مسموع. (2) بالذاكرة والضمير. (3) بتربية المرشدين والمعلمين والوالدين ومشورة الإخوة الأتقياء (ع 1).

  2. سبب الخطيئة (1) الاتكال على أنفسنا فنظن أننا قادرون أن نسكن مع الأشرار وننتفع منهم ونمتنع عن خطاياهم وننسى أن الإنسان ولو أراد لا يقدر أن يخلص تماماً من تأثير المعاشرات

    عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي

    فلينتبه الغافل ويتأمل العاقل. (2) العمل حسب استحساننا وليس حسب أوامر الرب. فإن الإسرائيليون لم يستحسنوا طرد الكنعانيين طرداً كاملاً. (3) ميل القلب الفاسد إلى الخطيئة. ولكن ليس عذر حقيقي للخطيئة وليس جواب لسؤال الملاك «فماذا عملتم» (ع 2 انظر متّى 22: 12).

  3. للبكاء مكان وزمان فإنه يدل على ضمير حيّ والحزن على الخطيئة (متّى 26: 75) ولكن البكاء وحده لا يكفي بل يلزم أيضاً العمل (ع 5).

  4. تأثير الرجل الصالح. كان تأثير يشوع في الإسرائيليين عظيماً جداً (1) لأنه خدمهم ولم يطلب الربح ولا المجد لنفسه. (2) لأنه خدم الرب أولاً فإن جميع الناس يعتبرون من لا يخاف منهم بل يخاف الرب. (3) لأنه كان شجاعاً ونشيطاً وثابتاً في العمل. ويمكن كل واحد منا أن يؤثر في أبناء عصره متى كان فيه روح يشوع. والكل من الرب (ع 7).

  5. الجهل يهدي إلى الخطيئة. إذا تكاسل الوالدون والمعلمون والمرشدون في التعليم من الكتاب المقدس سيترك القرن القادم الرب.

  6. منافع الخطيئة زهيدة ووقتية وعواقب الخطيئة مرة جداً (ع 14).

  7. رحمة الرب إلى الأبد فيغفر للذين يرجعون إليه بتوبة حقيقية ويخلصهم (ع 16).

  8. لا يتم الخلاص دفعة واحدة بل يلزم الإنسان أن يسهر ويجاهد كل أيامه وإلا سقط في الخطيئة (ع 17).

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ

تأثير الأمم الباقية في أرض كنعان ع 1 إلى 7

1 «فَهٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلأُمَمُ ٱلَّذِينَ تَرَكَهُمُ ٱلرَّبُّ لِيَمْتَحِنَ بِهِمْ إِسْرَائِيلَ، كُلَّ ٱلَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا جَمِيعَ حُرُوبِ كَنْعَانَ».

ص 2: 21 و22

فَهٰؤُلاَءِ هُمُ ٱلأُمَمُ بيان هؤلاء الأمم في (ع 3) وهو قوله «أقطاب الفلسطينيين الخمسة» الخ.

تَرَكَهُمُ ٱلرَّبُّ (انظر تفسير ص 2: 23).

لِيَمْتَحِنَ بِهِمْ إِسْرَائِيلَ الامتحان عمل يتبين به الصحيح من الباطل والصواب من الخطإ والصالح من الشرير إلى غير ذلك من الأضداد والمختلفات. وبالإيجاز إنه عمل تتميز به الأحكام المختلفة. ومعناه هنا كمعناه في (ع 4 وص 2: 22) ففيه زيادة التمحيص والتدريب. والمراد «بإسرائيل» هنا الإسرائيليون الذين بعد يشوع ومن عاصره من الشيوخ (ص 2: 7 - 10).

جَمِيعَ حُرُوبِ كَنْعَانَ أي محاربات الرب للكنعانيين وكسرهم بواسطة الإسرائيليين ولذلك عُرفت تلك الحروب «بحروب الرب» (عدد 21: 14). والمراد بقوله «لم يعرفوا» نفي المعرفة عن جميع الحروب فكأنه قال جهلوا جميع حروب الخ. وهذا يدل فوق عدم مشاهدتهم إياها على عدم سمعهم أنبائها لإهمالهم كل ما يتعلق بأعمال الرب. ويتبين مما يأتي أنهم لم يحاربوا شيئاً وإنهم كانوا يجهلون أساليب الحرب كل الجهل (ع 2).

2 «إِنَّمَا لِمَعْرِفَةِ أَجْيَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِتَعْلِيمِهِمِ ٱلْحَرْبَ. ٱلَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوهَا قَبْلُ فَقَطْ».

إِنَّمَا لِمَعْرِفَةِ أي ما ترك الرب الأمم في أرض كنعان إلا لمعرفة أجيال إسرائيل الخ.

أَجْيَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أي أهل كل عصر منهم على التوالي.

لِتَعْلِيمِهِمِ ٱلْحَرْبَ بمقاومة الأمم لهم ومضايقتهم إياهم فإنهم بذلك يضطرون إلى محاربتهم فيتعلمون الحرب.

ٱلَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوهَا قَبْلُ الصفة هنا لبيان الواقع لا للتمييز لأن كل الإسرائيليين كانوا حينئذ يجهلون الحرب.

فَقَطْ أي لما ذُكر فقط لا لأنه سُرّ بسلامة الأمم ومقاومتهم لشعبه.

والعبارة الأصلية بردّ المحذوف ما يأتي (وقد أشرنا إلى الكلمات الأصلية بعلامات الاقتباس) «إنما» ترك الرب الأمم في كنعان «لمعرفة أجيال بني إسرائيل» و«لتعليمهم الحرب» إنهم «الذين لم يعرفوها قبل» ولهذه الغاية «فقط» تركهم.

وبهذا البيان لم يبقَ من منافاة بين هذه الآية والآيتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين من الأصحاح الثاني.

ولا ريب أن الإسرائيليين كانوا مضطرين إلى معرفة الحرب لأنهم لا يستطيعون بدونها أن يملكوا أرض ميعادهم لأن الله وعدهم بأن يملكوها بالحرب وبأنه يساعدهم على ذلك بشرط توحيده وعبادته وحفظ وصاياه وإطاعته. وإن أعداءهم كانوا كثيرين من الكنعانيين وغيرهم من أمم فلسطين وهم بمضايقتهم للإسرائيليين يحملونهم على النهوض للحرب فلو بقوا جاهلين إياها قرضتهم الأمم ولم تبق لهم بقية. فعلى توالي المضايقة او الحروب تعلموا القتال وقهروا الفلسطينيين واستولوا على أرض ميراثهم حتى صارت مملكتهم بعدئذ من البحر إلى النهر أي من ذلك الحبر إلى نهر الفرات. على أنه لولا أن الرب كان معهم وعلمهم لابتلعتهم الأمم وترك الشعب إله إسرائيل واستخفوا به وعظموا آلهة الأمم الباطلة. ويأبى الله إلا أن يرفع شعبه ويرفع دينه على كل أديان البرايا.

3 «أَقْطَابُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ ٱلْخَمْسَةُ وَجَمِيعُ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ وَٱلصَّيْدُونِيِّينَ وَٱلْحِوِّيِّينَ سُكَّانِ جَبَلِ لُبْنَانَ مِنْ جَبَلِ بَعْلِ حَرْمُونَ إِلَى مَدْخَلِ حَمَاةَ».

يشوع 13: 3

أَقْطَابُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ ٱلْخَمْسَةُ وفي العبرانية «حمشة سرَني فلشتيم» أي خمسة أقطاب الفلسطينيين واصل سِرَني سِرَنيم حُذفت منها الميم لأن ميم الجماعة في العبرانية تحذف بالإضافة كما تحذف نون جمع السالم بها في العربية. وترجمها بعضهم بأرباب أو أسياد وفي الترجمة السبعينية مرازبة أو حكام وكذا في الفلغاتا وفي غيرها أمراء. قال بعضهم والظاهر أنه كلمة اصطلاحية يلقب بها الحكام أو لقب موضعي لهم وأصلها فينيقي ولفظة سِرِن مدار والمرجّح إنه سيد القوم الذي يدور عليه أمرهم وهذا من معاني القُطب في العربية. وأقطاب الفلسطينيين هم أرباب المدن الخمس جتّ وأشدود وغزّة واشقلون وعقرون أو حكامها (انظر يشوع 13: 3 و1صموئيل 6: 17). والظاهر أن الفلسطينيين ليسوا تحت حكم ملكي كما كانوا في زمان صموئيل وداود. وقوله «أقطاب الفلسطينيين» بيان لقوله في أول الأصحاح «هؤلاء هم الأمم».

والفلسطينيون كسلوحيّون أي مصريون وكفتوريون أي كريتيون في الأصل ولعل اسم فلسطين يشير على أنهم ليسوا من سكان الأرض المقدسة في الأصل فإن معناها بلاد المتغربين (تكوين 10: 14 وتثنية 2: 23 و1أيام 1: 12) والكلام على فلسطين والفلسطينيين بالتفصيل في قاموس الكتاب.

وَجَمِيعُ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ هم سلالة كنعان وهو ابن حام الرابع ابن نوح (تكوين 10: 6) والمراد بهم هنا على ما يظهر قسم منهم وهم سكان فينيقية أو السهول البحرية التي قاعدتها صيدون المعروفة اليوم بصيداء سُميت باسم صيدون بن كنعان الأكبر (تكوين 10: 15) وهؤلاء لم يخضعوا لإسرائيل كل الخضوع قط.

ٱلصَّيْدُونِيِّينَ سكان صيدون وقراها. وهؤلاء بقوا مستقلين إلى النهاية.

وَٱلْحِوِّيِّينَ وهم أمة من نسل كنعان (تكوين 10: 17).

سُكَّانِ جَبَلِ لُبْنَانَ وفي سفر يشوع إن الحويين كانوا يسكون تحت حرمون في أرض المصفاة (يشوع 11: 3) وربما هي بقعة مصفاة ويظن أنها البقاع بين لبنان والجبل الشرقي. واسمهم منسوب إلى حوّة وتُلفظ في العبرانية حُقة أي محلة أو قرية مستديرة. وفي العربية صفّ حوله أحدق به واستدار. ونُسبوا إلى ذلك لأنهم كانوا يسكنون في قرى مستديرة في مركزها حظائر الغنم والبقر. وظن إوَلد إن معنى الكلمة سكان داخل البلاد. وقال جسينيوس إن معناها القرويون. والحوي هو ابن كنعان السادس (تكوين 10: 17). وكان الحويون في الشمال الأقصى من أرض كنعان عند جبعون وشكيم في أيام يعقوب (تكوين 34: 2).

جَبَلِ بَعْلِ حَرْمُونَ قيل هو جبل حرمون عينه وإنما قيل له «بعل حرمون» لأنه كان فيه معبد للبعل أو لأن سكانه كانوا يعبدون البعل. وقيل إنه أخد قنن جبل حرمون وكان عليها هيكل للبعل (انظر تفسير ص 2: 11). وجبل حرمون هو المعروف اليوم بجبل الشيخ وله في الكتاب اسمان آخران سريون وسنير (تثنية 3: 9 انظر التفسير). وهو جزء من لبنان الشرقي وعلى القرب منه ينابيع نهر الأردن.

مَدْخَلِ حَمَاةَ هو أول الوادي المؤدي إلى حماة وكان حدّ أرض كنعان الشمالي.

ورد في (يشوع 13: 2 - 6) ذكر الجشوريين والعوّيين الذين سكنوا جنوبي أرض الفلسطينيين والجبليين أي سكان جبيل المعروفة اليوم وموقعها بين بيروت وطرابلس على شط البحر. وسكن بعض الكنعانيين فيما بين مدن إسرائيل (ص 1: 27 - 36) وليس لهم ذكر هنا بالتفصيل لأن ليس لهم أهمية وحدهم.

4 «كَانُوا لامْتِحَانِ إِسْرَائِيلَ بِهِمْ، لِيُعْلَمَ هَلْ يَسْمَعُونَ وَصَايَا ٱلرَّبِّ ٱلَّتِي أَوْصَى بِهَا آبَاءَهُمْ عَنْ يَدِ مُوسَى».

ص 2: 22

كَانُوا لامْتِحَانِ إِسْرَائِيلَ الخ (انظر تفسير ع 1 وص 2: 22 و23).

5 «فَسَكَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ وَٱلْحِثِّيِّينَ وَٱلأَمُورِيِّينَ وَٱلْفِرِزِّيِّينَ وَٱلْحِوِّيِّينَ وَٱلْيَبُوسِيِّينَ».

مزمور 106: 35

فَسَكَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ ٱلْكَنْعَانِيِّينَ الخ هذا يدل على أن سكان أرض كنعان كانوا من أمم مختلفة اتخذوا لغة واحدة سامية. وكان الحامل لهم على سكنى تلك الأرض ثلاثة أسباب (1) سهولة الاتجار بواسطة الشطوط البحرية. (2) خصب سهول الأرض وأوديتها. (3) حصانة جبالها وزيادة الأمن فيها. وكان هؤلاء الأمم يحبون السلم ويرغبون في الثراء فلا يلتفتون إلا إلى ما يعيق زراعتهم وتجارتهم. ومعنى «الكنعانيين» سكان الأغوار «والأموريين» سكان الأنجاد «والفرزيين» سكان السهول «والحويين» سكان القرى «واليبوسيين» الدارسون (من درس الحبوب كالحنطة ونحوها) على ما يرجّح. فالحثيون وحدهم من أولئك الأمم بقوا محافظين على نسبتهم إلى أصلهم وهو حث بن كنعان وثاني أبنائه. هاجروا إلى أرض كنعان من مملكتهم الطورانية ذات الشأن وهي في خارج تخوم فلسطين (انظر تفسير ص 1: 4 وتكوين 10: 15 - 18 وخروج 33: 2 و34: 11 ويشوع 9: 1 و24: 11). وسكنى بني إسرائيل بين هؤلاء الأمم عصيان لأمر الله (انظر تفسير ص 1: 32).

6 «وَاتَّخَذُوا بَنَاتِهِمْ لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً وَأَعْطُوا بَنَاتِهِمْ لِبَنِيهِمْ وَعَبَدُوا آلِهَتَهُمْ».

خروج 34: 16 وتثنية 7: 3

وَاتَّخَذُوا بَنَاتِهِمْ الخ هذا أكبر علل الضلال وعبادة الأوثان وبه صار نسل إسرائيل خليطاً من الوثنيين وكانت الأجيال غير الجيل الذي كان في عصر يشوع ولهذا نهى الله الإسرائيليين عن الاقتران بنساء الأمم وعن تزويج بناتهم رجال الأمم (انظر خروج 34: 16 وتثنية 7: 3 و4).

7 «فَعَمِلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ ٱلشَّرَّ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ، وَنَسَوْا ٱلرَّبَّ إِلٰهَهُمْ وَعَبَدُوا ٱلْبَعْلِيمَ وَٱلسَّوَارِيَ».

ص 2: 11 ص 2: 1 و13 خروج 34: 13 وتثنية 7: 5 و12: 3 و16: 21 وص 6: 25 و2ملوك 17: 15

ٱلْبَعْلِيمَ جمع بعل في العبرانية وهو الشمس فجمعوه باعتبار تعدُّد صوره وتماثيله أو باعتبار تعدُّد طلوع الشمس (انظر تفسير ص 2: 11 و13).

وَٱلسَّوَارِيَ وفي العبرانية «الأشروت» وكانت سواري أي أعمدة من خشب عليها صورة الإلاهة التي هي الطبيعة. وترجمها مترجمو السبعينية بالأدغال لأن عبادة الأعمدة المذكورة كانت على الغالب في الأدغال وتبعهم جماعة من المترجمين كمترجمي الإنكليزية القديمة. والسواري هي الترجمة الصحيحة (انظر 2ملوك 23: 6 و15 وتثنية 12: 3). وكانت سواري البعل من الحجر (خروج 34: 13 وتثنية 7: 5).

8 «فَحَمِيَ غَضَبُ ٱلرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ، فَبَاعَهُمْ بِيَدِ كُوشَانَ رِشَعْتَايِمَ مَلِكِ أَرَامِ ٱلنَّهْرَيْنِ. فَعَبَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كُوشَانَ رِشَعْتَايِمَ ثَمَانِيَ سِنِينَ».

ص 2: 14 حبقوق 3: 7 تكوين 24: 10 وتثنية 23: 4 وع 10

فَحَمِيَ غَضَبُ...فَبَاعَهُمْ (انظر تفسير ص 2: 14).

كُوشَانَ رِشَعْتَايِمَ فسرّه بعضهم بكوشان ذي الشرّين. وجاء في الترجوم «كوشان الشرير ملك آرام على الفرات». وفي الترجمة السريانية ما يشبه ذلك ولا نعرف عنه إلا المذكور هنا. ونرى هنا يد الرب في تاريخ الأمم فإنه لما عمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب ونسوا الرب إلههم وعبدوا البعليم والسواري أتاهم ذلك الملك الظالم من بلاد بعيدة واستعبدهم وكان آلة بيد الرب لتأديب شعبه غير أن ذلك الملك لم يعرف الرب وظن أنه عمل ما عمله بمجرد إرادته.

مَلِكِ أَرَامِ ٱلنَّهْرَيْنِ أي الأرض التي بين دجلة والفرات أو الأرض المرتفعة بين هذين النهرين.

فَعَبَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كُوشَانَ الخ أي أطاعوه وخضعوا وذلوا له وخدموه.

9 «وَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ، فَأَقَامَ ٱلرَّبُّ مُخَلِّصاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَلَّصَهُمْ. عُثْنِيئِيلَ بْنَ قَنَازَ أَخَا كَالِبَ ٱلأَصْغَرَ».

ع 15 وص 4: 3 و6: 7 و10: 10 و1صموئيل 12: 10 ونحميا 9: 27 ومزمور 22: 5 و106: 44 و107: 13 و19 ص 2: 16 ص 1: 13

وَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ أي استغاثوا به أو طلبوا عونه ونصره لهم بأصوات عالية دلالة على شدة ضيقهم وآلامهم من العبودية القاسية. وهذا من فوائد تأديب الله لشعبه.

فَأَقَامَ ٱلرَّبُّ مُخَلِّصاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ سمع صلاة شعبه المستغيث به المعترف بخطاياه (ص 10: 10). وهو إله رحيم يسمع دعاء من أتى إليه بقلب سليم وأسف على ما ارتكب من الإثم وآمن بأنه قادر على أن يجيب الدعاء.

فَخَلَّصَهُمْ أي لم يكتف سبحانه بإقامة المخلّص وتركه لقوة نفسه بل كان معه وأعانه على تخليص شعبه.

عُثْنِيئِيلَ بْنَ قَنَازَ بدل من «مخلصاً» وابن قناز صفة لعثنيئيل فمعناه مولود قناز. ومعنى عثنيئيل أسد الله أي بطل الله الشجاع كالأسد.

أَخَا كَالِبَ بيان لعثنيئيل ويحتمل الأصل أنه بيان لقناز فتقرأ العبارة أخي كالب (انظر تفسير ص 1: 13). ولننظر هنا إلى مدة حياته فنقول إذا فرضنا أنه كان ابن خمس وعشرين سنة حين أخذ دبير وهي قرية سفر وهذا أقل سن مناسب لأن يكون فيه قائداً وزوجاً لابنة كالب (ص 1: 11) ولنفرض إنه مرّ عشرون سنة من أخذها إلى استعباد كوشان رشعتايم كما يترجح من القرائن وإذا أضفنا إلى ذلك مدة الاستعباد وهي ثماني سنين على ما في آية التفسير هنا لم يكن سنه حينئذ إلا 53 سنة. وذُكر في ع 11 إنه مات بعد أن استراحت الأرض أربعين سنة فتكون مدة حياته 93 سنة.

ويظهر لك من (ص 1: 11) ومن هذه الآية وما بعدها أن عثنيئيل كان من الحكماء والقواد المتدربين والأبطال المجربين وإنه كان ممن يتقون الله في ذلك الجيل الملتوي وإن لله رجالاً في كل عصر لم يجثوا ركبة لبعل.

10 «فَكَانَ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلرَّبِّ، وَقَضَى لإِسْرَائِيلَ. وَخَرَجَ لِلْحَرْبِ فَدَفَعَ ٱلرَّبُّ لِيَدِهِ كُوشَانَ رِشَعْتَايِمَ مَلِكَ أَرَامَ، وَٱعْتَزَّتْ يَدُهُ عَلَى كُوشَانِ رِشَعْتَايِمَ».

عدد 27: 18 وص 6: 34 و11: 29 و13: 25 و14: 6 و19 و1صموئيل 11: 6 و2أيام 15: 1 عدد 23: 7

فَكَانَ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلرَّبِّ روح الرب أي الروح القدس مصدر الحياة باختلاف أنواعها الجسدية والعقلية والروحية (انظر تكوين 1: 2) «وَرُوحُ ٱللّٰهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ ٱلْمِيَاهِ» أي روح الله أدخل في الكون المادي النظام والترتيب وحياة النبات والحيوان والإنسان. حلّ روح الرب على شمشون (ص 15: 14) أي أعطاه قوة غير اعتيادية فضرب الفلسطينيين. وروح الله أعطى بصلئيل (خروج 35: 30 - 35) الحكمة والفهم والمعرفة لعمل خيمة الاجتماع وآنيتها. وأقام الرب أناساً لأجل خدمة خصوصية لشعبه كما احتاجوا وأعطاهم على نوع خاص المواهب المطلوبة لهذه الخدمة. وهكذا عثنيئيل وجدعون (ص 6: 34) ويفتاح (ص 11: 29) وغيرهم من القضاة.

وروح الرب مصدر الحياة الروحية أيضاً فبإرشاده نفهم معنى الكتب المقدسة الروحي. وهو يجدد القلب ويرشد المؤمنين إلى كل معرفة روحية ويُميل الإنسان إلى حفظ وصايا الله فيجعلها في داخلهم ويكتبها على قلوبهم (إرميا 31: 32) وبإلهامه الخصوصي كتب كتّاب الأسفار المقدسة. والمفهوم هنا أن روح الرب أي الروح القدس أعطى عثنيئيل ما احتاج إليه من الشجاعة والحكمة والقوة ليخلص إسرائيل من ظالمهم.

واليهود أنزلوا عثنيئيل منزلة عالية بين القضاة وقالوا في قول نشيد الأناشيد «كُلُّكِ جَمِيلٌ يَا حَبِيبَتِي لَيْسَ فِيكِ عَيْبَةٌ» (نشيد الأناشيد 4: 7) لأنه هو وحده من القضاة خلا من كل لوم على عمل أو خطإ. وعلى كل حال يجب أن ننسب مآثره وصفاته الحسنة إلى روح الرب ليكون الفضل لله لا للإنسان الضعيف (انظر تفسير ص 2: 18).

وَقَضَى لإِسْرَائِيلَ فسّر بعض الربانيين الإسرائيليين «قضى» وهي في العبرانية «يشفط» بانتقم. وقد جاءت بهذا المعنى في قول المرنم «اِقْضِ لِي يَا اَللّٰهُ وَخَاصِمْ مُخَاصَمَتِي» (مزمور 43: 1) فإنها هنا بمعنى انتقم لي.

وَخَرَجَ لِلْحَرْبِ كان يقضي ويحارب مدة قضائه عند الحاجة إلى الحرب.

فَدَفَعَ ٱلرَّبُّ لِيَدِهِ أي إلى يده. وجاء في عدة مواضع مثل هذه العبارة بالباء بدلاً من اللام (انظر ص 1: 4 و2: 14 و23 وانظر التفسير).

كُوشَانَ رِشَعْتَايِمَ (انظر تفسير ع 18).

وَٱعْتَزَّتْ يَدُهُ أي قويت وغلبت.

عَلَى كُوشَانِ رِشَعْتَايِمَ لم يقل عليه اعتماداً على سبق ذكره فوضع المظهر مكان المضمر لزيادة البيان والتأكيد لأن ذلك الملك الشرير كان قوياً جداً حتى وقع الشك في أنه يُغلب.

11 «وَٱسْتَرَاحَتِ ٱلأَرْضُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَمَاتَ عُثْنِيئِيلُ بْنُ قَنَازَ».

وَٱسْتَرَاحَتِ ٱلأَرْضُ أَرْبَعِينَ سَنَةً أي استراح سكان أرض كنعان بعضها ولا سيما العبرانيين من أتعاب الحرب تلك المدة. وفسر أحد الربانيين ذلك بقوله «استراحت الأرض أربعين سنة بعد موت يشوع».

وَمَاتَ عُثْنِيئِيلُ بْنُ قَنَازَ المرجّح أنه مات في أثناء السنين الأربعين لا بعدها ولا في نهايتها. والواو لا توجب أنه مات بعدها أو في نهايتها لأنها ليست للترتيب فإذا قلت جاء زيد وعمرو وجاز أن يكون عمرو قد جاء بعد زيد وأن يكون قد جاء قبله وأن يكونا جاءا معاً. وعلى هذا طول عُمر عثنيئيل إلى الحدّ غير المعتاد غير محقق.

ولم يبق ذكر لشيء من سبط يهوذا من هذا الوقت إلى أيام داود.

العبودية للموآبيين وإنقاذ أهود منها ع 12 إلى 30

12 «وَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ ٱلشَّرَّ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ، فَشَدَّدَ ٱلرَّبُّ عَجْلُونَ مَلِكَ مُوآبَ عَلَى إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُمْ عَمِلُوا ٱلشَّرَّ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ».

ص 2: 19 و1صموئيل 12: 9

وَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ ٱلشَّرَّ (انظر ص 2: 19) كانت توبة الإسرائيليين إلى حين. وهذا شأن سائر الناس إذا كانوا في الرخاء فإنهم يهتمون بلّذاتهم وينسون الرب ولذلك كان الله يجرب شعبه لأنه يؤدب كل من يحبه ليرده إليه. والشر الذي عملوه هو عبادة الأوثان.

فَشَدَّدَ ٱلرَّبُّ عَجْلُونَ لكي يعرفوا وهن الأصنام التي عبدوها وإنها لا تستطيع نصرهم وتعجز عن وقايتهم من الأعداء. ومعنى عجلون العجل السمين أو شبيه بعجل سمين ولعله لقب له كلقب رشعتايم أي الشرير لكوشان. فهو لقب يدل عل قوّته وحربه بغضب وحشي. وكان عجلون خليفة بالاق (عدد 22: 4).

كل قوّة من الله حتى قوّة الأشرار أيضاً. وهو يقوّي عقول الناس كما يقوّي أجسادهم فيعطيهم الحكمة في التدبير والشجاعة في العمل. وإذا أراد يشدد شعبه ويعطيهم القوة والحكمة والشجاعة ويعطي الضعف والجبانة لأعدائهم. وإذا أراد تأديب شعبه لسبب خطاياهم يشدد أعداءهم فيكونوا آلة بيد الرب غير أنهم لا يعرفون الرب بل ينسبون نجاحهم لأنفسهم أو لآلهتهم. فالشعب كان أخطأ وعبد الأوثان كغيره من الأمم فهو خاطئ جداً وشر من خاطئ من الأمم لأنهم لم يعرفوا من أمور الرب كما عرف الإسرائيليون فسمح لملك خاطئ أن يغلب هو وقومه الخطأة شعباً خاطئاً.

مَلِكَ مُوآبَ وهو ابن لوط من ابنته البكر.

لأَنَّهُمْ عَمِلُوا ٱلشَّرَّ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ كرر السبب للتأكيد بياناً لكون الله عادلاً فهو لم يظلمهم بل هم ظلموا أنفسهم فاستحقوا العقاب للتأديب والتنبيه ليرجعوا إليه بالتوبة والأسف العظيم. وقوله «في عيني الرب» دلّ على وقاحتهم وفظاعة إثمهم وإن الله يرى أعماله ولا يخفى عليه شيء منها ويعلم ما يسرّون كما يعلم ما يُعلنون أنه فاحص القلوب والكلي وعالم ما في أعماق النفس.

13 «فَجَمَعَ إِلَيْهِ بَنِي عَمُّونَ وَعَمَالِيقَ، وَسَارَ وَضَرَبَ إِسْرَائِيلَ وَٱمْتَلَكُوا مَدِينَةَ ٱلنَّخْلِ».

ص 5: 14 ص 1: 16

فَجَمَعَ إِلَيْهِ بَنِي عَمُّونَ أي بني أخي موآب وهو ابن لوط من ابنته الصغرى. وكان بنو موآب وبنو عمون متجاورين. فكانت أرض موآب شرقي القسم الجنوبي من بحر لوط وكانت أرض سبط رأوبين شرقي القسم الشمالي منه وكان النهر أرنون الفاصل بينهما. فكانت أرض رأوبين إلى جهة الشمال من النهر وأرض موآب إلى جهة الجنوب منه غير أن الموآبيين تعدوا على الرأوبينيين وأخذوا من أرضهم. وكان العمونيون إلى جهة الشرق من موآب ورأوبين فكان من الضرورة أن يتحالفوا ليقووا على الأعداء (انظر ص 11: 13 - 16 و25 و27 والتفسير). ومن ذلك أنهم تحالفوا وكانوا يداً واحدة على يهوشافاط (2أيام 20: 1).

وَعَمَالِيقَ أي العمالقة وهم قبائل بدوية متوحشة ولا يُعرف أصلهم فهم ليس أولاد عماليق بن أليفاز لأنهم كانوا قبله (تكوين 14: 7) وكانوا من أول أمرهم أعداء لبني إسرائيل وكانت منازلهم بين أرض كنعان ومصر في برية سيناء وتيه بني إسرائيل (تكوين 14: 7 وخروج 17: 8 وعدد 13: 29 و14: 25).

ضَرَبَ إِسْرَائِيلَ حاربهم بضرب السيف وقتل كثيرين من المحاربين.

وَٱمْتَلَكُوا أي امتلك أو استولى جنود القبائل الثلاث من المحاربين.

مَدِينَةَ ٱلنَّخْلِ هي أريحا (ص 1: 16) وقول يشوع «مَلْعُونٌ قُدَّامَ ٱلرَّبِّ ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي يَقُومُ وَيَبْنِي هٰذِهِ ٱلْمَدِينَةَ أَرِيحَا الخ» (يشوع 6: 26) يستلزم النهي عن بنائها فهو ليس بنبوءة بأنها لا تُبنى. ولعل النهي كان عن تحصين المدينة فتجدد بناؤها بعد خرابها في زمان يشوع ولكنها لم تتحصن. وأتت لعنة يشوع على حيئيل الذي حاول تحصينها في زمان آخاب (1ملوك 16: 34). ولعل معنى «مدينة النخل» هنا المكان الذي كانت فيه أريحا وما يجاوره فإن الطلل يسمى باسم المدينة أو القرية التي هو أثرها.

14 «فَعَبَدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَجْلُونَ مَلِكَ مُوآبَ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ سَنَةً».

تثنية 28: 48

عَبَدَ أي صاروا عبيداً. والظاهر أن ما استولى عليه الموأبيون لم يتجاوز حدود أفرايم.

15 «وَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ، فَأَقَامَ لَهُمُ ٱلرَّبُّ مُخَلِّصاً إِهُودَ بْنَ جِيرَا ٱلْبِنْيَامِينِيَّ، رَجُلاً أَعْسَرَ. فَأَرْسَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِيَدِهِ هَدِيَّةً لِعَجْلُونَ مَلِكِ مُوآبَ».

ع 9 ومزمور 78: 34 ص 20: 16

وَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ (انظر تفسير ع 9).

فَأَقَامَ لَهُمُ ٱلرَّبُّ مُخَلِّصاً إن اليد التي أقامت عجلون على إسرائيل هي التي أقامت ذلك المخلص لهم لكن تركت اتخاذ الوسائل لاختياره وقوّى الرب هذا المخلص كما شدّد عجلون.

إِهُودَ بْنَ جِيرَا جاء في سفر التكوين ما يفيد أن جيرا ابن بنيامين (تكوين 46: 21) وفي سفر الأيام الأول ما يفيد أنه ابن يالع بن بنيامين (انظر 2صموئيل 19: 18 و1أيام 8: 1 - 7). وكثيراً ما نُسب الإنسان في الكتاب المقدس إلى جده القريب وجده البعيد وهو مجاز شائع في كل اللغاب الساميّة. وفي العربية كما في العبرانية يُنسب الإنسان إلى آدم فيقال اليوم لكل إنسان ابن آدم فنسب جيرا في موضع إلى أبيه وفي آخر إلى جده. ويسمى أهود أبيهود أيضاً (1أيام 8: 1 - 8).

رَجُلاً أَعْسَرَ أي يعمل بشماله. وهذه العبارة تحتمل ثلاثة معانٍ الأول إن أهود كانت يده اليمنى فدعاء أو مقطوعة أو مصابة بما يمنعه من استعمالها فاستعمل اليد اليسرى. والثاني أنه كان أعسَر يَسَر أو أضبط أي يعمل بكلتا يديه. والثالث أنه عوّد يسراه العمل وأهمل يمناه فصارت اليسرى بمنزلة اليمنى التي اعتاد جمهور الناس أعمالها أكثر من اليسرى. ولهذا جاء في السبعينية وفي الفلغاتا «رجلاً أضبط». وقال يوسيفوس إن أهود كان ماهراً في استعمال اليسرى وكان فيها كل قوته. وفي الأصل العبراني «رجلاً مغلق اليد ليمنى» وهذا لا يدل على أنه أضبط والمرجّح أنه كان قد عوّد اليسرى العمل أكثر من اليمنى. ومن غريب الاتفاق إن سبط بنيامين ومعنى بنيامين ابن اليمين كان كثيرون من رجالهم عُسراً (انظر ص 20: 16).

ولكن بعضهم ظنّ أن يد أهود اليمنى كانت مصابة وإن الله أقامه ليُري الناس أن القدرة له لا للواسطة. وظن ذلك بناء على احتمال العبارة العبرانية ذلك وعلى ما جاء في الترجمتين الكلدانية والسريانية. ففي الأولى «مصاب» أو «ممنوع اليمنى» وفي الثانية «يده اليمنى جامدة» أو خدرة أو ثقيلة أو ضعيفة.

هَدِيَّةً وفي الأصل العبراني «منحة» أي عطية أو جزية أو هدية كما في ترجمتنا. وجاءت في سفر اللاويين بمعنى تقدمة (لاويين 2: 1) والظاهر أنهم أرادوا بهذه الهدية أحد أمرين الأول أنهم على الطاعة والخضوع. والثاني أنهم مقيمون على الصداقة والوداد ويريدون استعطافه (تكوين 32: 18 و2صموئيل 8: 2 و6). وبعض المفسرين رجّح أن تلك المنحة الجزية التي ضربها عليهم عجلون وقد جاءت بمعنى الجزية في غير هذا الموضع (1صموئيل 8: 6 و1ملوك 4: 21 ومزمور 72: 10). وأرسلوا هذه الهدية «بيده» إما لأنه كان أحد رؤساء بيوت إسرائيل (1أيام 8: 3 و6) وإما لأنه هو الذي أشار عليهم بتلك الهدية.

16 «فَعَمِلَ إِهُودُ لِنَفْسِهِ سَيْفاً ذَا حَدَّيْنِ طُولُهُ ذِرَاعٌ، وَتَقَلَّدَهُ تَحْتَ ثِيَابِهِ عَلَى فَخْذِهِ ٱلْيُمْنَى».

سَيْفاً ذَا حَدَّيْنِ... وَتَقَلَّدَهُ تَحْتَ ثِيَابِهِ هذا السيف يُسمى بالعربية المشملة والمِشمل وهو سيف صغير نصله مستقيم له حدّان كأنه أُلف من نصلين أُلصق أحدهما بالآخر وقد يكون في وسطه ناتئ من الوجهين وقد يكون مستوي الوجهين ويُعرف عند عامة السوريين اليوم بالشاكرية. والظاهر أن الموآبيين أخذوا أسلحة الإسرائيلين ومنعوهم من حمل السلاح ومشتراه حتى اضطر أهود أن يصنع مشملاً أو سيفاً صغيراً يستره بثيابه. على أن السيوف الأشورية الكبيرة أي غير المشامل كانت كذلك كما ظهر من الآثار.

طُولُهُ ذِرَاعٌ عبرانية وهي نحو شبرين أي طول ما بين المرفق (المعروف عند العامة بالكوع) إلى طرف الإصبع الوسطى.

عَلَى فَخْذِهِ ٱلْيُمْنَى العادة أن يعلّق السيف على الجانب الأيسر ولكن علّقه أهود على الأيمن لأنه كان أعسر (ع 15).

17 «وَقَدَمَّ ٱلْهَدِيَّةَ لِعَجْلُونَ مَلِكِ مُوآبَ. (وَكَانَ عَجْلُونُ رَجُلاً سَمِيناً جِدّاً)».

وَقَدَمَّ ٱلْهَدِيَّةَ شبّه يوسيفوس في ترجمته هذه القصة ما أٰتاه أهود مع عجلون بما أتاه هرميديوس مع رستوجيتون من المهارة والذكاء في المداخلة وجذب المودّة لنفسه ودعا أهود شاباً آلف عجلون وكسب مودته وإكرامه بتكرار الهدايا له.

وَكَانَ عَجْلُونُ رَجُلاً سَمِيناً كاسمه فإن معنى عجلون عجل سمين.

18 «وَكَانَ لَمَّا ٱنْتَهَى مِنْ تَقْدِيمِ ٱلْهَدِيَّةِ صَرَفَ ٱلْقَوْمَ حَامِلِي ٱلْهَدِيَّةِ».

صَرَفَ ٱلْقَوْمَ حَامِلِي ٱلْهَدِيَّةِ (أو الجزية) هذا يدل على أن الهدية كانت كبيرة وافرة حتى حملها كثيرون وإنما كثّرها أهود لكي يسرّ بها عجلون ويستعطفه كثيراً. قال يوسيفوس أنه كان مع أهود خادمان وهو مخالف للنص فإن «القوم» لجماعة من الرجال وتدخله النساء على تبعية. وسُموا بذلك لقيامهم بعظائم الأمور.

19 «وَأَمَّا هُوَ فَرَجَعَ مِنْ عِنْدِ ٱلْمَنْحُوتَاتِ ٱلَّتِي لَدَى ٱلْجِلْجَالِ وَقَالَ: لِي كَلاَمُ سِرٍّ إِلَيْكَ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ. فَقَالَ: ٱسْكُتْ. وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ جَمِيعُ ٱلْوَاقِفِينَ لَدَيْهِ».

يشوع 4: 20

أَمَّا هُوَ فَرَجَعَ وذلك لثلاث غايات:

  1. صون غايته والأمن على نيلها في وقت مناسب لأنه كان صعباً عليه أن يدركها على مرأى من جنود الملك وحَرَسه الذين كانوا حاضرين لحراسة الملك عند تقديم الهدية.

  2. اتقاء وقوع الخطر على قومه حملة الهدية.

  3. إعداد السبيل للهرب إذا اقتضت الحال لأنه لم يخلُ من الريبة من الملك وظنه أن الملك لم تخلُ نفسه من الريبة منه.

ٱلْمَنْحُوتَاتِ وفي الأصل العبراني «هفيسيليم» (والهاء حرف التعريف) جاءت في الترجوم «مقالع الحجارة» أو مقاطع الحجارة وفي حاشية ترجمتنا في النسخة ذات الشواهد «أو مقالع الحجارة» وفي السبعينية «المنحوتات» وفي السريانية كذلك وفي الفلغاتا «الأصنام» وتُرجمت في سفر التثنية «بالتماثيل» (تثنية 7: 5 وكذا في 2ملوك 17: 41). وترجم فيسيل مفرد فيسيليم في (مزمور 97: 7) بتمثال. والذين ترجموها «بمقالع الحجارة» اتبعوا الترجمة الكلدانية وقول أحد رباني اليهود والمرجّح أنها الأصنام أو المنحوتات منها.

ٱلَّتِي لَدَى ٱلْجِلْجَالِ أي التي عند الجلجال وهي قرية قرب أريحا على غاية ما يقرب من أربعة أميال من الأردن وفي موقعها اليوم قرية اسمها جلجلية كانت مقراً لخيمة الشهادة معبد الرب الذي فيه تابوت العهد فجعلها الوثنيون معبداً للأصنام فكان شأن الأمم الغالبة أن يحولوا معابد الأمم المغلوبة معابد لهم وبقي هذا شأنهم إلى الأزمنة الحديثة.

وَقَالَ: لِي كَلاَمُ سِرٍّ إِلَيْكَ أَيُّهَا ٱلْمَلِكُ قال له هذا على أثر رجوعه من عند المنحوتات وقد صرف قومه فكان هذا القول تمهيداً لمقصده ووسيلة إلى معرفة ثقة عجلون به واطمئنانه بالانفراد معه. ولا يخفى ما للسير من القيمة عند الملوك. ولعل عجلون لما رأى ما أتاه أهود من الاحترام له وتقديم الهدايا الكثيرة ظنه يريد أن يُعلن له أسرار اليهود وأنه يخون شعبه لغاية في نفسه يساعده الملك على إدراكها فيزيد بأسه وسلطته على قومه. وقد جرى مثل ذلك كثيراً بين الأقوام كما يعرف مطالعو التاريخ. ورآى يوسيفوس إن ذلك السر حُلم ادعى أهود أنه يريد أن يقصه على عجلون.

فَقَالَ: ٱسْكُتْ وفي العبرانية «هَس» أي أسكت ومنها قول العامة هُس بمعنى اسكت وهذا معنى صه في العربية. خاف عجلون أن يعرف الناس ما بينهما ولو لفظة سرّ.

وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ الخ أي من حضرته أي مكان حضوره فلا يلزم الكلام أنه كان في بيت.

20 «فَدَخَلَ إِلَيْهِ إِهُودُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي غُرْفَةٍ صَيْفِيَّةٍ كَانَتْ لَهُ وَحْدَهُ. وَقَالَ إِهُودُ: عِنْدِي كَلاَمُ ٱللّٰهِ إِلَيْكَ. فَقَامَ عَنِ ٱلْكُرْسِيِّ».

عاموس 3: 15

فَدَخَلَ إِلَيْهِ إِهُودُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي غُرْفَةٍ صَيْفِيَّةٍ أي بعد أن أخرج الواقفين لديه ذهب إلى عليته وجلس فدخل أهود الخ ففي الكلام إيجاز الحذف. ويظن البعض أن الملك كان جالساً في علّيته من الأول ولما رجع أهود من عند المنحوتات التي لدى الجلجال أرسل إلى الملك وقال بواسطة المرسَل «لي كلام سر الخ» فخرج من عند الملك جميع الواقفين ودخل إليه أهود وتلك العلّية كان يجلس فيها ليتبرد من الحرّ وهي في الأصل العبراني «علّية التبريد». وترجمها لوثر «بمظلة صيفية». والعلّية متعرضة للهواء وكثيراً ما تكون للانفراد والمسارّة لأنها تكون فوق مساكن الدار. وكانت علّية التبريد لسمع الأسرار أيضاً بديل قوله «كانت له وحده».

وَقَالَ إِهُودُ: عِنْدِي كَلاَمُ ٱللّٰهِ إِلَيْكَ الخ الله هنا في الأصل العبراني «إلوهيم» ومعناه آلهة والله فهو اسم مشترك كإله في العربية. فعجلون ظنه إلهه كموش أو آلهته لأن الوثنيين آمنوا بعدة آلهة. ورأى بعض المفسرين أن أهود أراد إله إسرائيل وأن عجلون فهم مراده. ولكن من البعيد أن يقوم عجلون احتراماً لإله غلب شعبه واعتقد ضعفه لأنه لم يحمِ عبّاده الإسرائيليين. وقال آخر إن الإيمان بإله يعتني بالمخلوقات كان إيمان كل الأمم فعجلون قام إكراماً لذلك الإله بقطع النظر عن كونه إله بني إسرائيل أو كونه إله غيره. ورأى يوسيفوس أنه قال له إنه رأى حلماً أمره الله أن يقصه عليه. وترجم بعضهم «كلام الله» برسالة الله بناء على أن تلك الرسالة سيفه الذي أدخله في بطنه ولكن الذي في الأصل العبراني «كلام» لا رسالة. ورأى بعض علماء اليهود أن أهود أراد تعليم عجلون وصايا الرب ولو قبل كلام الله وردّ الحرية إلى الإسرائيليين لزالت العداوة. وعلى هذا يكون قيامه عن كرسيه كرهاً لسمع كلام أهود. وقال بعض المفسرين المسيحيين الظاهر أن أهود كان من المشهورين بالصلاح ولعل كثيرين اعتقدوا نبوءته وأن عجلون حسب أنه أوحى إليه بما يقصه عليه فأكرم أهود وقام احتراماً لله الذي اعتقد إنه رب البرايا. وهذا كلام مقبول قلنا وكان قيامه فرصة لأهود أن يضربه بسيفه. قال يوسيفوس إنه قام عن كرسيه وطفر فرحاً بأن يسمع الحلم السماوي.

21 «فَمَدَّ إِهُودُ يَدَهُ ٱلْيُسْرَى وَأَخَذَ ٱلسَّيْفَ عَنْ فَخْذِهِ ٱلْيُمْنَى وَضَرَبَهُ فِي بَطْنِهِ».

فَمَدَّ إِهُودُ يَدَهُ ٱلْيُسْرَى لأنه كان أعسر (ع 15).

وَأَخَذَ ٱلسَّيْفَ عَنْ فَخْذِهِ ٱلْيُمْنَى (انظر ع 16 والتفسير).

ولا ريب في أن أهود كذب إن كان قد قال ما قاله لعجلون مما اخترعه ليتمكن من قتله ولم يكن من تدريب الرب له فهو قد أخطأ وإن اختاره الرب لإنقاذ إسرئيل لأنه لم يرفع عن التكليف واختار الشخص ولم يختر كل أعماله كما اختار شاول وداود وغيرهما من ملوك إسرائيل وكان منهم ما كان من المحظورات.

22 «فَدَخَلَ ٱلْمِقْبَضُ أَيْضاً وَرَاءَ ٱلنَّصْلِ، وَطَبَقَ ٱلشَّحْمُ وَرَاءَ ٱلنَّصْلِ لأَنَّهُ لَمْ يَجْذِبِ ٱلسَّيْفَ مِنْ بَطْنِهِ. وَخَرَجَ مِنَ ٱلْحِتَارِ».

فَدَخَلَ ٱلْمِقْبَضُ أي مقبض السيف.

وَرَاءَ ٱلنَّصْلِ أي شفرة السيف (والشفرة ما عرض من الحديد وحُدد) وهي حديدة دون المقبض.

ٱلْحِتَارِ ما بين الدّبر القبُل (انظر حاشية هذه الآية في الكتاب ذي الشواهد).

23 «فَخَرَجَ إِهُودُ مِنَ ٱلرِّوَاقِ وَأَغْلَقَ أَبْوَابَ ٱلْعُلِّيَّةِ وَرَاءَهُ وَأَقْفَلَهَا».

ٱلرِّوَاقِ الرواق مقدّم البيت وهو هنا مقدّم العلّية ورأى بعضهم على ما في الكلدانية أنه المدخل المزّين بالأعمدة.

أَبْوَابَ ٱلْعُلِّيَّةِ كانت هذه العليّة متعددة الأبواب لدخول الهواء من كل جهة لأنها كانت علّية التبريد (ع 20).

24 «وَلَمَّا خَرَجَ، جَاءَ عَبِيدُهُ وَنَظَرُوا وَإِذَا أَبْوَابُ ٱلْعُلِّيَّةِ مُقْفَلَةٌ، فَقَالُوا: إِنَّهُ مُغَطٍّ رِجْلَيْهِ فِي ٱلْغُرْفَةِ ٱلصَّيْفِيَّةِ».

1صموئيل 24: 3

مُغَطٍّ رِجْلَيْهِ كناية عن كونه يتغوّط (1صموئيل 24: 3).

فِي ٱلْغُرْفَةِ ٱلصَّيْفِيَّةِ أي الكنيف في عليّة التبريد أو كنيف التبريد.

25 «فَلَبِثُوا حَتَّى خَجِلُوا وَإِذَا هُوَ لاَ يَفْتَحُ أَبْوَابَ ٱلْعُلِّيَّةِ. فَأَخَذُوا ٱلْمِفْتَاحَ وَفَتَحُوا وَإِذَا سَيِّدُهُمْ سَاقِطٌ عَلَى ٱلأَرْضِ مَيِّتاً».

فَلَبِثُوا أي انتظروا.

خَجِلُوا من خيبتهم وعدم اكتراث الملك بهم لاشتغاله بما لا يحسن بيانه.

فَأَخَذُوا ٱلْمِفْتَاحَ وَفَتَحُوا تجاسروا على ذلك لأنهم صار لهم أن يعتذروا لو كان حياً بأنهم أتوا ذلك خوفاً عليه من مرض أو عارض أصابه. وهذا يدل على أن أهود ترك المفاتيح عند الأبواب بعد أن أوصدها لغفلته عنها بغية الإسراع في الهرب أو لعلمه أن أتباعه لا يتجاسرون أن يفتحوا بدون إذنه وإلا فلا يتصور أن الملك يعطيهم مفاتيح علّيته الخاصة.

وَإِذَا سَيِّدُهُمْ سَاقِطٌ... مَيِّتاً (قابل هذا بما في ص 4: 22).

26 «وَأَمَّا إِهُودُ فَنَجَا إِذْ هُمْ مَبْهُوتُونَ، وَعَبَرَ ٱلْمَنْحُوتَاتِ وَنَجَا إِلَى سَعِيرَةَ».

ع 19

ٱلْمَنْحُوتَاتِ (انظر تفسير ع 19).

سَعِيرَةَ وفي العبراني «السعيرة» ولعلها الأجمة ليتوارى بالأشجار عن الأعداء. وفي حاشية الكتاب ذي الشواهد «الحَرَجة» وهي مجتمع الشجر وكانت بين جبال أفرايم فانتهى منها إلى أرض أفرايم وراء الجلجال فأمن إدراكهم إياه.

27 «وَكَانَ عِنْدَ مَجِيئِهِ أَنَّهُ ضَرَبَ بِٱلْبُوقِ فِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ، فَنَزَلَ مَعَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَنِ ٱلْجَبَلِ وَهُوَ قُدَّامَهُم».

ص 5: 14 و6: 34 و1صموئيل 13: 3 يشوع 17: 15 وص 7: 24 و17: 1 و19: 1

ضَرَبَ بِٱلْبُوقِ أي ضرب البوق بنفخه أي نفخ فيه شديداً. وكان البوق قرناً أو كهيئة القرن من المعدنيات.

جَبَلِ أَفْرَايِمَ أي أرض أفرايم الجبلية لا جبل بعينه كقولك جبل لبنان وهو عدة جبال وأودية وسهول. وكانت أرض أفرايم حصن الحرية الإسرائيلية وأمن الإسرائيليين وقوّتهم (ص 4: 5 و10: 1 و1صموئيل 1: 1 وقابل 13: 6 بِ 14: 22 وقابل هذا بما في ص 6: 2).

وَهُوَ قُدَّامَهُمْ لأنه القائد وهذا شأن القوّاد الأبطال.

28 «وَقَالَ لَهُمُ: ٱتْبَعُونِي لأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ دَفَعَ أَعْدَاءَكُمُ ٱلْمُوآبِيِّينَ لِيَدِكُمْ. فَنَزَلُوا وَرَاءَهُ وَأَخَذُوا مَخَاوِضَ ٱلأُرْدُنِّ إِلَى مُوآبَ، وَلَمْ يَدَعُوا أَحَداً يَعْبُرُ».

ص 7: 9 و15 و1صموئيل 17: 47 يشوع 2: 7 وص 12: 5

ٱتْبَعُونِي متوقعين النصر.

لأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ دَفَعَ أَعْدَاءَكُمُ ٱلْمُوآبِيِّينَ لِيَدِكُمْ أي إنه ملككم إياهم. وعبّر عن المستقبل بصورة الماضي للتأكيد فكان النصر بمنزلة الواقع. وخلاصة العبارتين اتبعوني واثقين بالفوز لأن الله لا بد أن ينصركم على أعدائكم فكونوا على يقين أنكم تنتصرون (قابل هذا بما في ص 7: 9 - 15).

فَنَزَلُوا وَرَاءَهُ وَأَخَذُوا مَخَاوِضَ ٱلأُرْدُنِّ اي وثقوا بقوله وشجعوا وتبعوه واثقين واستولوا على مخاوض الأردن هي أجزاء منه رقيقة الماء يقطعها الناس مشاة وركباناً بلا جسر وكانت متعددة متوالية ظن بعضهم أنها كانت قليلة بين ثمانٍ وعشر وقد تبيّن أنها تبلغ الخمسين. وباستيلائهم على تلك المخاوض لم يتركوا مهرباً للأعداء ولا طريقاً إلى المدد من خارج. فصار لهم ما كانوا يظنونه رحباً وفردوساً من أرضهم ضيقاً وسجناً موصد الأبواب.

وذُكرت تلك المخاوض في (يشوع 2: 7) ولم تزل إحداها إلى هذا اليوم قرب أريحا وهي على غاية نحو ثلاثة أميال من بحر لوط.

إِلَى مُوآبَ أي أرض موآب. وهذا الجارّ متعلق بنعت محذوفة لمخاوض الأردن تقديره المؤدية أو ما هو بمعناها. والغاية أن أهود استولى على تلك المخاوض التي هي واسطة الاتصال بين أريحا والعبر الآخر من الأردن ليمنع الموآبيين من الهرب من أريحا إلى ذلك العبر الذي هو بدء الطريق إلى أرضهم.

وَلَمْ يَدَعُوا أَحَداً يَعْبُرُ فتمكنوا من قتل الأبطال كلهم كأنهم قد جُمعوا في قفص (انظر ع 29).

29 «فَضَرَبُوا مِنْ مُوآبَ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ نَحْوَ عَشَرَةِ آلاَفِ رَجُلٍ، كُلَّ نَشِيطٍ وَكُلَّ ذِي بَأْسٍ، وَلَمْ يَنْجُ أَحَدٌ».

فَضَرَبُوا أي قتلوا.

فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ أي وقت مفاجئتهم إياهم.

نَشِيطٍ النشيط في العربية الذي طابت نفسه للعمل والسريع الخفيف. وفي الترجمة الانكليزية القوّي البنية. وفي العبرانية السمين (ع 17). والأرجح أنه هنا لجسم القوي أو الضليع. وقال بعضهم المختار (مزمور 78: 31) والظاهر على هذا أن السمين هنا في العبرانية كناية عن المختار لأن الناس يختارون السمين من الغنم والبقر وغيرهما من البهائم التي تؤكل لحومها.

بَأْسٍ شجاعة وشدّة.

لَمْ يَنْجُ أَحَدٌ من الشجعان الأقوياء. والمعنى أن الموآبيين الحالّين في أريحا وجوارها كانوا كلهم ذوي بأس فإنهم كانوا على هيئة عساكر وليس على هيئة فلّاحين أو رعاة أو غيرهم من السكان المستوطنين.

30 «فَذَلَّ ٱلْمُوآبِيُّونَ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ تَحْتَ يَدِ إِسْرَائِيلَ. وَٱسْتَرَاحَتِ ٱلأَرْضُ ثَمَانِينَ سَنَةً».

ع 11

فَذَلَّ ٱلْمُوآبِيُّونَ أي صاروا إلى الهوان والضعة بعد أن كانوا أعزّاء متكبرين.

وَٱسْتَرَاحَتِ ٱلأَرْضُ ثَمَانِينَ سَنَةً أي استراح أهلها من الحرب. والمرجّح أن هذه الأرض أرض الأسباط الجنوبية واستراحتها كل هذه المدة تدلّ على أن قوة الموآبيين قد تلاشت في تلك الواقعة كل الملاشاة.

إنقاذ شمجر الإسرائيليين ع 31

31 «وَكَانَ بَعْدَهُ شَمْجَرُ بْنُ عَنَاةَ، فَضَرَبَ مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ سِتَّ مِئَةِ رَجُلٍ بِمِنْساس ٱلْبَقَرِ. وَهُوَ أَيْضاً خَلَّصَ إِسْرَائِيلَ».

ص 5: 6 و8 و1صموئيل 13: 19 و22 و1صموئيل 17: 47 و50 ص 2: 16 ص 4: 1 و3 الخ و10: 7 و17 و11: 4 الخ و1صموئيل 4: 1

وَكَانَ بَعْدَهُ أي بعد أهود. وهذا لا يستلزم أن أهود كان قد مات.

شَمْجَرُ بْنُ عَنَاةَ جاء في قاموس الكتاب أنه قاضٍ من قضاة إسرائيل. وقال الأستاذ لياس أنه لم يُذكر في موضع أنه قضى لإسرائيل وإنه قام بأمور الحرب وأهود في الحياة وإن محاربته كانت موضعية وكان غيره من المحاربين في موضع آخر وكلهم حاربوا لإنقاذ إسرائيل (انظر ص 5: 6). وليس في الكتاب ما يدلنا على السبط الذي منه شمجر ولا على مدة عمله. وكونه ابن عناة لا يفيدنا شيئاً من ذلك فإن هذا الاسم لم يُذكر إلا هنا. نعم ذُكر في (ص 1: 33 ويشوع 19: 38) «بيت عناة» (انظر ص 1: 33) وهي بلدة في أرض نفتالي ولكن شمجر يصعب الظن أنه كان من أحد الأسباط في الشمال. وليس بين الأسماء اليهودية يومئذ شمجر أو عناة فظُنّ أنه كنعاني هاد ويؤيد ذلك أن معنى اسمه «اسم غريب» وهو مركّب من «شم» أي اسم و «جر» أي «غريب». وفسره صاحب قاموس الكتاب بحامل كاس. وقال بعضهم لا ريب في أن شمجر كان من سبط يهوذا أو سبط دان وفعله كفعل شمشون في أنه موضعيّ لا عامّ.

فَضَرَبَ أي قتل.

ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ (انظر تفسير ع 3).

سِتَّ مِئَةِ رَجُلٍ بِمِنْساس ٱلْبَقَرِ المراد بالمنساس هنا عصا في طرفها حديدة حادة يُساق بها وكثيرون من العامة يسمّونها بالمسّاس اسم مبالغة من المس. وأثبت المترجم المنساس بناء على أنه اسم آلة من النسّ وهو السوق والزجر على ما في قاموس الفيروزبادي. وجاء في القاموس المهمزة عصا في رأسها حديدة ينخس بها الحمار وهذه هي المترجمة بالمنساس والتي يسميها العامة المسّاس سيق بها الحمار أو سيقت بها البقرة وكثيرون من الحراثين يحملونها لسوق البقر التي يحرثون عليها ولتمهيد مسلك السكة إذا أُعيقت. وهي تقوم في الحرب مقام الرمح ولذلك اتخذها شمجر أداته في القتال والظاهر أن أعداء الإسرائيليين لم يسمحوا لهم باقتناء أسلحة كرماح وسيوف. وقتله ست مئة رجل لم ينص أنه كان في واقعة واحدة فلا غرابة فيه فبعض الفلاحين الأسوجيين قتل في ليلة واحدة ثلاث مئة رجل في حرب موويجاه على أنه يصح أن يُنسب إليه قتل من قتله جنوده الذين يقودهم وإن لم تكن أدواتهم الحربية مناسيس على سبيل المجاز. ومنه قول المغنيات «ضَرَبَ شَاوُلُ أُلُوفَهُ وَدَاوُدُ رَبَوَاتِهِ» (1صموئيل 18: 7).

وَهُوَ أَيْضاً خَلَّصَ إِسْرَائِيلَ ولكن لم يكن ما أتاه كافياً لتعميم الأمن لأن الطرُق قُطعت في أيامه كما تبين من أغنية دبورة (ص 5: 6).

فوائد

  1. إن الله يعلّم الجهلاء غير المعذورين بالمحنة والبلاء فيجب معرفة الواجبات والسعي في إدراكها (ع 1 و2).

  2. إنه يجب أن نعلم ما فعله الرب لشعبه من حسن العناية فيزيدنا ذلك إيماناً وثقة وإلا فإن جهلنا صرنا إلى الذلّ والهوان والآلام والأحزان (ع 1).

  3. إن امتحان الرب للناس يُقصد به نفعهم وسعادتهم (ع 4).

  4. إن مخالطة الأشرار تقود إلى الشرور والوقوع تحت غضب الله (ع 5 - 8).

  5. إن الرب يستجيب صلاة المتذللين له المعترفين بافتقارهم إلى مساعدته وإن لم يكونوا مستحقين الإجابة (ع 9 - 11).

  6. إن الإنسان لفساد طبعه لا يذكر الله إلا عند الشدة فإذا صار إلى الرخاء نسي الله وعاد إلى آثامه. فيجب أن نلتفت إليه تعالى في السرّاء والضرّاء (ع 12).

  7. إن الله إذا كفّ الضربة عن الأثيم عند توبته إليه يعيد الضربة له عند تركه إياه وقد تكون الضربة الثانية أشد من الأولى (ع 12 - 14 قابل آخر الآية 8 بآخر 14).

  8. إن الرب لوفرة رحمته يرحم الاثيم إذا التجأ إليه لو تكررت معاصيه (ع 15 قابل ع 5 - 7 ب ع 12) فباب التوبة والقبول مفتوح أبداً ولكن ليس كل وقت وقت توبة فاليوم هو الزمان المناسب.

  9. إن الله قادر أن يخلص الضعفاء من الأقوياء بواسطة ضعيف لأن قوته في الضعف تكمل (ع 15 و17).

  10. إن الله إذا أقام منقذاً لشعبه وخلّصه ذلك المنقذ بوسائل تخالف الشريعة لم تكن تلك الوسائل مما يرضاها سبحانه وتعالى (ع 18 - 24).

  11. إن النصر لا يقوم بحسن السلاح بل بقوة الله (ع 31 قابل هذا بما في ص 15: 15 و16 و1صموئيل 17: 44 - 50).

  12. أيام الراحة في حياة الإنسان أكثر من أيام التعب والبركات أكثر عدداً من المصائب. فنذكر الشدائد والحروب لأنها غير اعتيادية ولكن يجب أن نذكر أيضاً أيام الراحة والبركات الاعتيادية ونرنم الترنيمات 11 و30 و421 «بركات الرب عدد شاكراً».

اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ

مضايقة يابين للإسرائيليين وانتصار باراق عليه

وبسط ذلك ارتداد بني إسرائيل ومضايقة يابين (ع 1 - 3). ودبورة النبية (ع 4 و5). ودعوتها باراق لإنقاذ بني إسرائيل (ع 6 - 9). وجيش باراق (ع 10). وحابر القيني (ع 11). وجمع سيسرا الجنود (ع 12 و13). وانكسارهم (ع 14 - 16). وهرب سيسرا (ع 17). وقتل باعيل إياه (ع 18 - 22). والنصر التام (ع 23 و24).

1 «وَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ ٱلشَّرَّ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ بَعْدَ مَوْتِ إِهُود».

ص 2: 19

وَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ ٱلشَّرَّ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ تكرر ذلك كثيراً فدل على فساد قلوبهم الشديد بمخالطة الوثنيين (انظر ص 2: 11 و17 و3: 5 - 7 و12 وص 6: 1 و8: 33 و10: 6 و7 و13: 1 ومزمور 78: 57).

بَعْدَ مَوْتِ إِهُودَ هذا يصح أن يُستدل به على أن شمجر حارب وأهود حيٌّ.

2 «فَبَاعَهُمُ ٱلرَّبُّ بِيَدِ يَابِينَ مَلِكِ كَنْعَانَ ٱلَّذِي مَلَكَ فِي حَاصُورَ. وَرَئِيسُ جَيْشِهِ سِيسَرَا. وَهُوَ سَاكِنٌ فِي حَرُوشَةِ ٱلأُمَمِ».

ص 2: 14 يشوع 11: 1 و10 و19: 36 و1صموئيل 12: 9 ومزمور 83: 9 ع 13 و16

بَاعَهُمُ (انظر تفسير ص 2: 14).

يَابِينَ معناه حكيم أو نبيه وهو لقب أو اسم لكل ملك من ملوك حاصور كفرعون لكل من ملوك مصر (انظر يشوع 11: 1).

مَلِكِ كَنْعَانَ أي ملك أمة كبيرة من الكنعانيين فكان كأنه ملك الجميع. ففي (يشوع 11: 1) أنه أرسل رسائل إلى سائر ملوك كنعان كأنه رأسهم.

مَلَكَ فِي حَاصُورَ أي كانت حاصور عاصمة ملكه ودُعي ملك حاصور (يشوع 11: 1) وكانت حاصور في أرض نفتالي (يشوع 19: 32 - 36). وكانت تشرف على مياه ميروم وعلى ما قال يوسيفوس. وقد عُرف من كتابات رعمسيس الثاني أحد ملوك مصر الأقدمين أنها كانت مدينة عظيمة في العصور الخالية. ولأنها كانت ذات شأن حصنها سليمان (1ملوك 9: 15). وفي أيام فقح ملك إسرائيل سبى تغلث فلاسر أهلها إلى أشور (2ملوك 15: 29). وآخر كتاب ذُكرت فيه سفر المكابيين الأول (1مكا 9: 27). وقد اكتشف سلسي أطلالاً قديمة من كبار الأطلال شمالي ميروم هي أطلال حاصور.

قال يوسيفوس في كلامه على حرب حاصور كعادته في المبالغة أن مشاة الكنعانيين كانوا 300000 وفرسانهم 10000 ومركباتهم 3000.

قال بعضهم إن معنى حاصور محاط أي مُسوّر فكانت بمنزلة معقل أو حصن. وإن الباحثين وقفوا على أطلالها وإن يشوع ويوسيفوس اتفقا على أن موقعها قرب بحيرة ميروم المعروفة اليوم ببحيرة الحولة (يشوع 11: 1 - 5). وفي قاموس الكتاب رأى بعضهم أنها ما تُعرف اليوم بتل الخريبة. ورأى آخر أنها ما يُعرف بحضيرة. وآخر أنها خربة صرّة.

رَئِيسُ جَيْشِهِ سِيسَرَا يراد برئيس الجيش رئيس قوّاد الجيش لا مجرد القائد. وسيسرا اسم سمّى اليهود به (عزرا 2: 53) وهو سلف قديم لبعض النثينيم وهم خدَمة صغار من اللاويين (عزرا 2: 43 - 53) وهم كنعانيون أصلاً فتهودوا (2صموئيل 21: 2 وعزرا 2: 43 و1أيام 9: 2). وادعى عدة من ربانيي اليهود أنهم من نسل سيسرا ومنهم الرباني أكيوا أو أكيبا الذي قُتل أو مات في عصيان بركوكب في ملك هدر بان فهذا قال أنه من أبٍ من نسل سيسرا وأم يهودية.

حَرُوشَةِ ٱلأُمَمِ أي لفيف الأمم أو خليطهم والحرش في العربية الجماعة ولعلها الحباشة. وفي قاموس الكتاب «حروشة الأمم اسم مكان في شمالي فلسطين سُمي بهذا الاسم نظراً لاختلاف أجناس سكانه». وقال بعض المفسرين «معنى حروشة الأمم لفيف من أمم مختلفة اختلطت فصارت كأنها أمة واحدة ونشأت مملكة مستقلة». وموقع حروشة الأمم مجهول لكن رأى الدكتور طمسن أنها كانت في الممر بين سهل يزرعيل وعكا عند سفح جبل الكرمل حيث يجري نهر قيشون المعروف اليوم بالمقطّع (ع 13). وظنّ كُندر أنها الحارثية وهي قرية صغيرة غربي الناصرة وعلى غاية 11 ميلاً منها.

3 «فَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ، لأَنَّهُ كَانَ لَهُ تِسْعُ مِئَةِ مَرْكَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَهُوَ ضَايَقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِشِدَّةٍ، عِشْرِينَ سَنَةً».

ص 1: 19 ص 5: 8 ومزمور 106: 42

صَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ كعادتهم عند البلاء (انظر ص 3: 9 و15 ومزمور 107: 13).

لَهُ تِسْعُ مِئَةِ مَرْكَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ قال يوسيفوس كان له 3000 مركبة فإن صحّ قوله كان غير التسع المئة منها ليست بمركبات من حديد (انظر ص 1: 19 ويشوع 17: 16). ويجب أن يُعلم أن تلك المركبات لم تكن من الحديد الخالص المُصمَت ولعلها كانت مغشاة بالحديد كالسفن المدرّعة اليوم. وقد تقدّم الكلام على هذه المركبات في تفسير ص 1: 19).

ضَايَقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِشِدَّةٍ، عِشْرِينَ سَنَةً كان الإسرائيليون لمعاصيهم ينهضون من هاوية بلاء فيقعون في أخرى أعمق منها فإنهم عبدوا كوشان رشعتايم ثماني سنين (ص 3: 8) وملك عجلون ثماني عشرة سنة (ص 3: 14) وهنا استعبدهم يابين وشدّد مضايقتهم. وأخيراً استعبدتهم الأمم منذ دهور إلى هذه الساعة واحتملوا آلاماً وقاسوا أتعاباً شديدة واضطُهدوا اضطهاداً ما عليه مزيد كما أنبأهم موسى بإنذاره في مواضع لا سيما سفر التثنية (تثنية 28: 15 - 68) غير أنه كان بين مدّات المضايقة مدّات راحة. فكان بين كوشان رشعتايم وعجلون راحة 40 سنة (ص 3: 11) وبين عجلون ويابين راحة 80 سنة (ص 3: 30).

4 «وَدَبُورَةُ ٱمْرَأَةٌ نَبِيَّةٌ زَوْجَةُ لَفِيدُوتَ، هِيَ قَاضِيَةُ إِسْرَائِيلَ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ».

دَبُورَةُ معنى هذا الاسم نحلة بالحاء المهملة لا بالخاء المعجمة كما وقع في قاموس الكتاب سهواً وأوهم تأكيده ذلك أنها كانت تجلس تحت نخلة تُعرف باسمها والصواب أنها تُنسب إلى اسمها وهي «نخلة دبورة» (ع 5). وكان اليهود كثيراً ما يسمون نساءهم بأسماء الحيوانات والنباتات والمواد الطبيعية كراحيل (ورسمها في العبراني (رَحِل) كرَخِل في العربية وهي الأنثى من أولاد الضأن. وفسرها صاحب قاموس الكتاب بالشاة وهي الواحدة من الغنم للذكر والأنثى. وتامار (ورسمها في العبرانية تمر) أي تمر أو تمرة أو نخلة وجاءت في الترجمة العربية ثامار بالثاء (تكوين 38: 6). قال بعضهم وربما كانت دبورة أي نحلة لقباً لها باعتبار أنها نبية كما كانت كاهنات دلفي تلقب بالنحلات. ولقد أجاد بعضهم بقوله «لُقبت بالنحلة لأنها كانت حمةً للأعداء وعسلاً للأصدقاء».

ٱمْرَأَةٌ نَبِيَّةٌ كمريم أخت هارون (خروج 15: 20). وخلدة امرأة شلوم (2ملوك 22: 14). ونوعدية (نحميا 6: 14). وحنة بنت فنوئيل (لوقا 2: 36). وهي المرأة الوحيدة بين قضاة إسرائيل وإليها وحدها من أولئك القضاة نُسبت النبوءة. قال أحد المفسرين إنها كانت تشبه مريم أخت هارون في كونها كانت قاضية وإن مريم لم تكن إلا من أيّمة الحمد ودبورة أنها كانت قائدة حرب ورئيسة بإلهام. وتختلف عن خلدة في أن خلدة كان ميلها كاهنياً وكانت مقيمة في مدرسة الهيكل المقدس وكان كلامها في التوبة والخشوع. وإن دبورة كانت تتغنى بأغنية المجد والنصر قدّام الرجال والنبي له معان في الكتاب منها الأول من يبلّغ الناس أقوال الله ويبينها لهم بمساعدته تعالى (خروج 7: 1 و1كورنثوس 14: 1 الخ). والثاني من ينبئ بالآتيات كإشعياء ودانيال وغيرهم من كتبة الأسفار المقدسة.

زَوْجَةُ لَفِيدُوتَ معنى «لفيدوت» مصابيح أو سُرج أو مشاعل أو الهاب أي ألسنة النار أو أبهّات جمال وجلال. وفسر راسي العبارة بامرأة مصابيح وقال دُعيت «امرأة مصابيح» لأنها كانت تصنع الفتائل لسُرُج القدس. وترجم آخرون العبارة بقوله «امرأة مواهب مضيئة وروح نشيطة نارية» أي كأنها نار وهذا موافق لما في (إشعياء 62: 1). وبعض الربانيين رأى أنها زوجة باراق إذ معناه بُرق أو بارق وذُكرت معه (ص 5: 1) والأرجح أن لفيدوت اسم زوجها كما يظهر في الترجمة العربية. ولم يتحقق أمن سبط أفرايم هي أم من سبط يساكر (ع 5 وص 5: 15).

هِيَ قَاضِيَةُ إِسْرَائِيلَ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ إنها مع اهتمامها بإنقاذ إسرائيل من الأعداء ومحاربة المستعبدين والانتصار عليهم كانت تنظر في دعاوي الشعب وتبث الخصام بين المتخاصمين فعل القضاة وتجري الأحكام الشرعية كما يظهر من الآية التالية (انظر ع 5 وتفسير ص 2: 16).

5 «وَهِيَ جَالِسَةٌ تَحْتَ نَخْلَةِ دَبُورَةَ بَيْنَ ٱلرَّامَةِ وَبَيْتِ إِيلَ فِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ. وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَصْعَدُونَ إِلَيْهَا لِلْقَضَاءِ».

إشعياء 28: 6 تكوين 35: 8

وَهِيَ جَالِسَةٌ تَحْتَ نَخْلَةِ دَبُورَةَ جاءت هذه الآية وما قبلها في بعض الترجمات الأوربية «ودبورة نبية زوجة لفيدوت قضت لإسرائيل في ذلك الوقت وهي سكنت تحت نخلة دبورة بين الرامة وبيت إيل في جبل أفرايم وبنو إسرائيل صعدوا إليها للقضاء». وهذا يفيد أن مسكنها ومجلس قضائها أي محكمتها تحت تلك النخلة. وهذا المعنى يستلزمه جلوسها تحت تلك النخلة فالمعنى أنها كانت قاضية إسرائيل وهي في مجلسها تحت النخلة المنسوبة إليها لأنه لو لم يكن مسكنها ومجلس قضائها هناك ما كان من داعٍ لجلوسها تحت تلك النخلة ولا إشارة إلى سبب لذلك في الكتاب. والعبارة تدل على الاستمرار ولعل هذا علة نسبة النخلة إليها. على أن الجلوس كثيراً ما جاء كناية عن المُقام أي محل الإقامة وكان بعض المشهورين من الرؤساء والحكام يسكنون قرب الأشجار. فكان مسكن إبراهيم عند بلوطات ممرا (تكوين 13: 18 و14: 13) وفي بعض الترجمات تحت بلوطة ممرا. وكان مسكن شاول تحت الرمانة التي في مغرون (1صموئيل 14: 2).

بَيْنَ ٱلرَّامَةِ وَبَيْتِ إِيلَ هاتان المدينتان على التخم بين بنيامين وأفرايم (انظر يشوع 18: 25 و16: 2). والرامة على تلّ مستدير شرقي جبعون وعلى غاية خمسة أميال منها. وعلى مقربة منها شمالاً وادٍ عميق بينها وبين بيت إيل فيه نخلة دبورة ومدفن مرضعة رفقة على ما قال ترسترام (انظر تكوين 35: 8).

كان اسم مرضعة رفقة دبورة لكن النخلة نُسبت إلى دبورة النبية لا إليها لأن مجلس النبية كان تحتها ومدفن دبورة المرضعة كان تحت بلوطة لا نخلة. وسُميت تلك البلوطة «ألّون باكوت» أي بلوطة البكاء. و«بيت إيل» مرّ الكلام عليها في تفسير (ص 1: 22).

جَبَلِ أَفْرَايِمَ أي أرض أفرايم الجبلية وهي أحصن أرض في فلسطين وأكثرها أمناً (انظر تفسير ص 3: 27). وجاء في الكلدانية ما معناه أن دبورة النبية كانت ساكنة في عطاروت (يشوع 16: 2) ولها وسائل الاستقلال ونخل في أريحا وبساتين في الرامة وزيتون في الوادي وسقي في بيت إيل وصلصال أبيض في جبل الملك (والكلدانية مزيج من المتن والتفسير).

وَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَصْعَدُونَ إِلَيْهَا في العبرانية والعربية يعبّرون عن الذهاب إلى مقام الأعلين في القدر بالصعود ولو كان في بطن أعمق الأودية. ومعنى الصعود في الآية هنا الذهاب إلى دبورة الرفيعة القدر والشأن (انظر عدد 16: 12 وتثنية 25: 7) فلا ينافي ذلك أن النخلة التي كانت تجلس تحتها للقضاء في غور أو وادٍ. وإن كانت في نجدٍ وافق الصعود إليها حقيقة ومجازاً.

6 «فَأَرْسَلَتْ وَدَعَتْ بَارَاقَ بْنَ أَبِينُوعَمَ مِنْ قَادِشِ نَفْتَالِي، وَقَالَتْ لَهُ: أَلَمْ يَأْمُرِ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ: اِذْهَبْ وَٱزْحَفْ إِلَى جَبَلِ تَابُورَ، وَخُذْ مَعَكَ عَشَرَةَ آلاَفِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي نَفْتَالِي وَمِنْ بَنِي زَبُولُونَ».

عبرانيين 11: 32 يشوع 19: 37

بَارَاقَ معنى هذا الاسم برق أو بارق فهو يقرب من معنى لفيدوت (ع 4) ولذلك رأى بعض الربانيين أن دبورة امرأة باراق (انظر تفسير ع 4). ولعله لُقب بذلك لنشاطه وسرعته في الحرب وسائر الأعمال ذات الشأن. فإن الإسرائيليين كثيراً ما كانوا يسمون الإنسان بما يدل على شيء من أمره.

أَبِينُوعَمَ معناه أبو نعيم أو أبو أُنس.

قَادِشِ نَفْتَالِي أُضيفت قادش إلى نفتالي لأنها كانت مدينة حصينة لهذا السبط ولتمييزها عن قادشين أُخريين إحداهما في أرض يساكر والآخرى في أرض يهوذا (يشوع 12: 22 و1أيام 6: 72 وعدد 20: 16). وهي اليوم قرية اسمها قادس وهي في الشمال الغربي منها وهي على قنة قُفّ أي أكمة صخرية تشرف على مرج عيون والحولة وحولها كثير من الأطلال ورموس وتوابيت حجرية قديمة محكمة الصنع موضوعة على قواعد من المرمر. وجدران بعض الأطلال لم تزل كاملة. ورسم قادش في العبرانية قدش ومعناها قدس أو مدينة مقدسة. وكانت مدينة ملجإ للاويين (يشوع 20: 7 و21: 32). وهذه العبارة وما ذكر في أول الآية دليل على أن باراق من سبط نفتالي.

أَلَمْ يَأْمُرِ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ الاستفهام هنا إنكاري أُريد منه إثبات أن الرب أمر. ولم يتبين من سياق الحديث مَن المأمور ولكن العقل يدل على اثنين إما إسرائيل لأنه أُمر بمحاربة الأمم وطردهم من كنعان وإما هي نفسها لأنها كانت نبية وقائدة الجنود. وفي بعض الترجمات ما يفيد أن المأمور باراق إذ فيها «أما أمر الرب قائلاً اذهب الخ» ولكن لفظة «قائلاً» ليست في الأصل فزيدت لهذا البيان.

اِذْهَبْ وَٱزْحَفْ أي وامش بجيش وافر. ففي بعض كتب اللغة العربية الزحف مصدر (زحف أي مضى قليلاً فقليلاً) والجيش يزحف إلى العدوّ تسمية بالمصدر لأنه لكثرته وثقل حركته كأنه يزحف زحفاً.

جَبَلِ تَابُورَ هو جبل في الجليل اسمه اليوم جبل الطور يشرف على سهل يزرعيل وهو مرج ابن عامر محيطه نحو ميل وعلوه 1375 قدماً فوق السهل و1843 قدماً فوق سطح البحر وهو منفرد عن الجبال ومستدير كهيئة الثدي. وكان صالحاً لأمرين الحراسة والتحصن. وكان في أرض يساكر وهو في الجنوب الشرقي من الناصرة وعلى غاية ستة أميال منها. وكان يحسب أنه جبل التجلي ولكن المحققين نفوا ذلك وأثبتوا أن جبل التجلي حرمون المعروف اليوم بجبل الشيخ.

عَشَرَةَ آلاَفِ رَجُلٍ وهذا جيش كبير يضطر أن يكون مشية زحفاً كما ذُكر في تفسير الجزء الثاني من هذه الآية.

مِنْ بَنِي نَفْتَالِي وَمِنْ بَنِي زَبُولُونَ هما سبطان في الشمال فلا بد أنهما كانا في شديد الألم من ظلم يابين وإنهما كانا يميلان كل الميل إلى محاربته. والذي يتبين لنا من الكتاب أنه كان على حدود جبل تابور ثلاثة أسباط زبولون ويساكر ونفتالي (يشوع 19: 12 و22 و34) فذكر هنا الاثنان الأول والآخر دون الثاني. ولكن ظهر لنا من (ص 5: 15) أنه كان في تلك الحرب الرؤساء من يساكر فالظاهر أنهم تطوعوا للمساعدة. على أن حروب إسرائيل في زمان القضاة لم تكن إلا محلية ينهض فيها المظلوم للحرب وسائر الشعب لا يتلفت إليه إلا ما ندر فغيرة إسرائيل القديمة خمدت يومئذ. قال بعض المفسرين وكان غير رؤساء يساكر في تلك الحرب من أفرايم وبنيامين ومنسى كما يظهر من (ص 5: 14 - 23) يساعدون رجال زبولون ونفتالي ولكنهم قليلون بالنسبة إلى ذينك السبطين ولأن ذينك السبطين في أشد الإيلام من أعدائهم لأنهما كانا الأقربين فأعرض الكاتب هنا عن ذكر المساعدين. ولا ريب في أن باراق إذ كان من سبط نفتالي كان أخبر من غيره بأبطالهم فلا بد من أنه اختار أكثر جيشه أو قواده من أبطالهم المجرّبين.

7 «فَأَجْذِبَ إِلَيْكَ إِلَى نَهْرِ قِيشُونَ سِيسَرَا رَئِيسَ جَيْشِ يَابِينَ بِمَرْكَبَاتِهِ وَجُمْهُورِهِ وَأَدْفَعَهُ لِيَدِكَ؟».

خروج 14: 4 ص 5: 21 و1ملوك 18: 40 ومزمور 83: 9 و10

فَأَجْذِبَ إِلَيْكَ بطريق من طرق قدرته وعنايته كما فعل غير مرة (انظر خروج 14: 4).

نَهْرِ قِيشُونَ وفي العبرانية «نهل قيشون» ومعناه مسيل أو وادي وهو موافق لنهر قيشون لأنه في وادي يزرعيل (أي مرج ابن عامر) منبعه قرب حضيض جبل تابور المعروف اليوم بجبل الطور يجري إلى الغرب في منحنيات كثيرة في مرج ابن عامر ثم يصب في البحر المتوسط تحت جبل الكرمل بين حيفا وعكا ويُسمى اليوم المقطّع وجريانه في تلك المنحنيات يوافق معنى قيشون أي منحنِ.

قال أحد المسافرين رأيت ينابيع قيشون ثلاثة أو أربعة متجاورة في مسافة لا تزيد على ثُمن ميل يسمونها هنالك رأس القيشون أي منبعه أو مخرجه وهذا استعمال شائع بين العامة لمخارج الأنهر وأول الينابيع التي تجري منها ويسمون واحدها رأس النبع. وهذا الاستعمال قديم عند المتكلمين في العربية كرأس العين في سورية وغيرها. وهذه التسمية المحفوظة إلى اليوم تحقق أن المقطع هو نهر قيشون القديم. وسهل يزرعيل المشهور اليوم بمرج ابن عامر الذي يجري فيه كان في كل العصور حومة القتال في فلسطين.

سِيسَرَا رَئِيسَ جَيْشِ يَابِينَ (انظر تفسير ع 2).

بِمَرْكَبَاتِهِ وَجُمْهُورِهِ (انظر ع 13 والتفسير).

8 «فَقَالَ لَهَا بَارَاقُ: إِنْ ذَهَبْتِ مَعِي أَذْهَبْ، وَإِنْ لَمْ تَذْهَبِي مَعِي فَلاَ أَذْهَبُ».

إِنْ ذَهَبْتِ مَعِي أَذْهَبْ هذا يدل على أن الحرب كانت مخيفة فرأى باراق أن ذهاب النبية معه من أحسن وسائل التشجيع له ولجنوده لثقته أن الله مع نبيته فإن كانت معهم كان معهم. إن هذا يدل على أن باراق لم يكن شجاعاً كجدعون وإن عُدّ معه ومع شمشون ويفتاح وداود وهذا أوضح بيان أن النصر كان فعل الله وإنه كان له بواسطة الإيمان وإن كان ضعيفاً لأن النبية أنبأته بأنه ينتصر فتقوّى من ضعف (عبرانيين 11: 32 - 34).

9 «فَقَالَتْ: إِنِّي أَذْهَبُ مَعَكَ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ لَكَ فَخْرٌ فِي ٱلطَّرِيقِ ٱلَّتِي أَنْتَ سَائِرٌ فِيهَا. لأَنَّ ٱلرَّبَّ يَبِيعُ سِيسَرَا بِيَدِ ٱمْرَأَةٍ. فَقَامَتْ دَبُورَةُ وَذَهَبَتْ مَعَ بَارَاقَ إِلَى قَادِشَ».

ص 2: 14

أَذْهَبُ مَعَكَ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ لَكَ فَخْرٌ أي النصر لا بد منه فإن ذهبت أنا وإني ذاهبة لا يُنسب إليك فلا تُمجد به.

لأَنَّ ٱلرَّبَّ يَبِيعُ سِيسَرَا (انظر تفسير ص 2: 14).

بِيَدِ ٱمْرَأَةٍ لا بطل من أبطال الرجال فلا يبقى لك شيء من الشرف والمدح. ومعلوم أن المرأة مشهورة بالضعف وكانت في منزلة سافلة عند أكثر أهل الشرق ولا تزال كذلك في أكثر البلاد الشرقية. فكيف تكون نفسك يا باراق إذا نُسب هذا الفخر إلى امرأة ضعيفة وحُرمته أنت ولا يخفى ما في هذا الكلام من التوبيخ على أسلوب لطيف. وقال بعضهم أن دبورة لم تعنِ بالمرأة نفسها بل غيرها ولعل باراق ظن أنها عنت نفسها فلم يصعب عليه الأمر لأنها نبية وأما هي فأرادت ياعيل امرأة حابر القيني (ع 17 - 21).

10 «وَدَعَا بَارَاقُ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيَ إِلَى قَادِشَ، وَصَعِدَ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلاَفِ رَجُلٍ. وَصَعِدَتْ دَبُورَةُ مَعَهُ».

ص 5: 18 و1ملوك 20: 10

دَعَا بَارَاقُ إلى الحرب (2صموئيل 20: 4 و5).

زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيَ أي القوّاد وهو والقوّاد اختاروا الجنود.

وَصَعِدَ وَمَعَهُ وفي الأصل العبراني «وعند رجليه» واختلف المفسرون بمعناه فرأى بعضهم أنه ماش على رجليه وعنى بذلك أن جيشه كانوا مشاة لا فرساناً. والذي يصح بمقتضى بيان اللغتين العبرانية والعربية أن كون الجنود عند رجليه كناية عن كونهم تابعين له ومقتفين طريق قدميه أو إنهم ذاهبون وراءه حيث انتقلت رجلاه إذ كان قائدهم وهذا يؤيده قوله «فَنَزَلَ بَارَاقُ مِنْ جَبَلِ تَابُورَ وَوَرَاءَهُ عَشَرَةُ آلاَفِ رَجُلٍ» (ع 14). وكان صعوده إلى جبل تابور (ع 12) وهو المعروف بالطور كما ذُكر في تفسير (ع 6).

وَصَعِدَتْ دَبُورَةُ مَعَهُ قال أحد المفسرين إن هذه الحادثة بُني تذكاراً لها قرية عند حضيض جبل تابور اسمها دبورة مع حفظ تذكارها في الكتاب. وهل «صعدت دبورة معه» ماشية وهل مشت وراءه أو أمامه ذلك لم يُبين والأرجح أنها سارت أمامه لتشجعه وتشجع الجيش كله.

11 «وَحَابِرُ ٱلْقِينِيُّ ٱنْفَرَدَ مِنْ قَايِنَ مِنْ بَنِي حُوبَابَ حَمِي مُوسَى وَخَيَّمَ حَتَّى إِلَى بَلُّوطَةٍ فِي صَعْنَايِمَ ٱلَّتِي عِنْدَ قَادِشَ».

ص 1: 16 عدد 24: 21 و22 عدد 10: 29 يشوع 19: 33 ع 6

حَابِرُ ٱلْقِينِيُّ (انظر ص 1: 16) ونبأ حابر القيني هنا كلام معترض أُتي به تمهيداً للكلام على ياعيل امرأته ودفعاً لإياهم الاختلاف بين قوله قبلاً «بنو القيني... صعدوا من مدينة النخل مع بني يهوذا إلى برية يهوذا» وقوله في ياعيل ما يلزم منه أنها كانت وهي قينية في أرض نفتالي فأبان في نبإ حابر علة وجودها هناك وهو انفراد حابر عن إخوته كما يأتي. ومعنى «حابر» محالفة. ومعنى «ياعيل» وَعل أو وعلة.

ٱنْفَرَدَ مِنْ قَايِنَ أي العشيرة المنسوبة إلى قاين ورسمه في العبرانية «قين» وهم القينيون.

مِنْ بَنِي حُوبَابَ حوباب بدل من قاين (أو قين) بدل بعض من كل إعادة حرف الجر وهو «من» والمعنى أن حابر انفرد عن بني حوباب الذين هم قسم من القينيين.

حَمِي مُوسَى أي أخي امرأته فإن حما الرجل يُطلق على أبي امرأته وأخيها وغيرهما من الأقرباء (انظر تفسير ص 1: 16).

وَخَيَّمَ أي نصب خيمته ويُراد بالخيمة هنا بيت من منسوجات شعر المعزى كبيوت أهل البادية من إطلاق الخاص على العامّ وإلا فالخيمة على ما نقل رواة اللغة العربية كل بيت مستدير أو ثلاثة أعواد أو أربعة يُلقى عليها التمام (وهو نبت له مثل الخوص تُسدّ به خصاص البيوت ونحوها). وقال ابن الأعرابي «الخيمة عند العرب لا تكون إلا من أربعة أعواد ثم تُسقف بالثمام ويُستظلُّ بها في الحرّ ولا تكون من ثياب». قلنا ثم تجوز الناس بها فأطلقوها على كل بيت يُنقل من عيدان وثياب وجلد. وكان حابر مثل عرب البادية ينقل بيته من مكان إلى آخر أو يخيّم حيث أراد.

حَتَّى إِلَى بَلُّوطَةٍ فِي صَعْنَايِمَ أي كان يخيّم في مكان ثم في آخر حتى وصل إلى بلوطة في صعنايم وخيّم عندها أو تحتها. وفي السبعينية والترجوم وتلمود أورشليم «حتى بلوطة صعنايم» بإضافة بلوطة إلى صعنايم فالعبارة فيها علم مركب إضافي أي اسم موضع معيّن. وفي الأصل العبراني «بلوطة في صعنايم» كما في ترجمتنا. وصعنايم أو بلوطة صعنايم (على ما في السبعينية والترجوم وتلمود أورشليم) رأى بعضهم أنه اسم مكان ورأى آخر أنه السهل الذي على غاية نحو ثلاثة أميال من بحيرة الحولة غرباً. وطول هذا السهل ميلان وعرضه ميل تحيط بها تلال يغطيها شجر البلوط. وقال كُندر أن صعنايم هي بسّوم شرقي تابور.

ٱلَّتِي عِنْدَ قَادِشَ (انظرع 6). قال بعضهم ولا يزال البلوط كثيراً في جوارها ولذلك كانت تلك الأرض من أحسن المخيمات للكنعانيين.

12 «وَأَخْبَرُوا سِيسَرَا بِأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ بَارَاقُ بْنُ أَبِينُوعَمَ إِلَى جَبَلِ تَابُورَ».

وَأَخْبَرُوا سِيسَرَا... صَعِدَ بَارَاقُ هذه الآية تابعة للآية العاشرة والآية بينهما كلام معترض لما علمت. وسيسرا هو قائد جيش يابين ورئيس قواده (ع 1).

جَبَلِ تَابُورَ (انظر تفسير ع 6). وصعد باراق إلى ذلك الجبل للوقاية والأمن لأنه يصعب على سيسرا بل يتعذر عليه أن يصعد إليه بالمركبات التي كان يخشاها الإسرائيليون (ص 1: 19).

13 «فَدَعَا سِيسَرَا جَمِيعَ مَرْكَبَاتِهِ، تِسْعَ مِئَةِ مَرْكَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَجَمِيعَ ٱلشَّعْبِ ٱلَّذِي مَعَهُ مِنْ حَرُوشَةِ ٱلأُمَمِ إِلَى نَهْرِ قِيشُونَ».

فَدَعَا سِيسَرَا بواسطة رسل أو منادين.

جَمِيعَ مَرْكَبَاتِهِ أي جنود المركبات بقرينة أن الدعوة للناس لا للجماد. ومُحصل المعنى أنه دعا رجال المركبات المحاربين أن يجتمعوا إليه بمركباتهم.

مِنْ حَرُوشَةِ ٱلأُمَمِ وهي التي كان سيسرا ساكناً فيها (انظر ع 2 والتفسير). وحرف الجر «من» متعلق بقوله «دعا» فليس المعنى أن جميع الذين كانوا معه كانوا منتشرين من حروشة الأمم إلى نهر قيشون.

إِلَى نَهْرِ قِيشُونَ (انظر تفسير ع 7). وحرف الجر «إلى» متعلق بقوله «دعا» ودعا سيسرا كل جنوده من مركبيين وغيرهم لأنه عند سمعه ذلك النبأ البغتي حسب أن باراق جمع جنوداً كثيرة يخشى بأسها فلجأ إلى دعوة كل جيشه ليتمكن من إخراج باراق وجنوده من متحصنهم في جبل تابور.

14 «فَقَالَتْ دَبُورَةُ لِبَارَاقَ: قُمْ، لأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي دَفَعَ فِيهِ ٱلرَّبُّ سِيسَرَا لِيَدِكَ. أَلَمْ يَخْرُجِ ٱلرَّبُّ قُدَّامَكَ؟ فَنَزَلَ بَارَاقُ مِنْ جَبَلِ تَابُورَ وَوَرَاءَهُ عَشَرَةُ آلاَفِ رَجُلٍ».

تثنية 9: 3 و2صموئيل 5: 24 ومزمور 68: 7 وإشعياء 52: 12

فَقَالَتْ دَبُورَةُ لِبَارَاقَ وكَلّ باراق الأمر كله إلى دبورة فكان لا يأتي شيئاً إلا بأمرها. وهذا دل على أنه كان قليل التدبير والمعرفة العسكرية. ولا ريب بأن دبورة علمت ذلك فكانت تدربه وتعلمه وتبين له العمل بمقتضى إلهام الرب. وهذا دليل أيضاً على أن الإسرائيليين انحطوا عما كانوا عليه فلم يكن لهم حبر أعظم يقف أمام مذبح الله ويعلم إرادته بالأوريم والتميم كما كانوا في أيام يشوع بل في أيام فنحاس أيضاً فلذلك كان عمدة باراق قول دبورة النبية.

قُمْ أمر من قام بالأمر أي تولاه أو من قام بمعنى انتصب الذي هو ضد قعد وإن كان الأصل هذا فمعناها تولّ الحرب وخذ فيها.

لأَنَّ هٰذَا هُوَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي دَفَعَ فِيهِ ٱلرَّبُّ سِيسَرَا لِيَدِكَ هذا تعليل لقولها لباراق «قم» فكأنها قالت يا باراق هذا يوم الظفر الذي عيّنه الرب لنصرك على جيش سيسرا فتولّ الحرب واثقاً كل الثقة بالفوز. وقولها «دفع» معناه لا شك في أن يدفع وعبّرت عن المستقبل بالماضي للتأكيد ونفي الشك لأن الماضي لا يُشكّ في وقوعه. وأرادت بدفع الرب سيسرا ليد باراق ودفع جيشه ليده لأن سيسرا لم يُدفع ليد باراق بل ليد باعيل (ع 17 - 21).

ولا نرى من دليل هنا قول بعض المعترضين أن اليهود ونبيّتهم كانوا كالأمم يحسبون بعض الأيام أيام سعد وبعضها أيام نحس وإن دبورة شجعت باراق بأن هذا اليوم من أيام السعد والتوفيق. قلنا إن هذا باطل لأن دبورة كانت تتكلم بإلهام الرب ووحي والله لا يقول قول الأمم الوثنية. والثاني إن النص يبين أن هذا اليوم هو الذي عيّنه الرب لنصر باراق على جيش سيسرا.

أَلَمْ يَخْرُجِ ٱلرَّبُّ قُدَّامَكَ الاستفهام إنكاري أرادت به أن الرب خرج أمامك للقتال فإن من العناية الإلهية بالشعب أنه يقويه «فَيَخْرُجُ ٱلرَّبُّ وَيُحَارِبُ تِلْكَ ٱلأُمَمَ كَمَا فِي يَوْمِ حَرْبِهِ يَوْمَ ٱلْقِتَالِ» (زكريا 14: 3). هذه العبارة ترك أكثر المفسرين الكلام عليها لصعوبة البيان لأن الكلام يدل على أمر مضى إلا أن يقال أن مراد النبية أن الرب يخرج قدامك للقتال بلا شك فكيف تشك في ذلك وعبّر عن المستقبل بالماضي للتحقيق. والذي يقتضيه المقام أنت علمت يقيناً أن الرب خرج قدامك للقتال أفلا تتبعه وتقاتل معه. قال الرب «فَأَجْذِبَ إِلَيْكَ إِلَى نَهْرِ قِيشُونَ سِيسَرَا رَئِيسَ جَيْشِ يَابِينَ بِمَرْكَبَاتِهِ وَجُمْهُورِهِ وَأَدْفَعَهُ لِيَدِكَ» (ع 7) فإن وعده حق كأمر وقع وقد أعد له كل الوسائل الممكنة من إنجاز هذا الوعد. وبقي هنا ما نرجحه وهو أن الرب خرج أمامه بإظهار حضوره في نبيته دبورة فكانت تسير أمام باراق والجيش كالتابوت أمام بني إسرائيل إذ كان التابوت آية حضوره فكان إذا حُمل يقول موسى «قُمْ يَا رَبُّ فَلْتَتَبَدَّدْ أَعْدَاؤُكَ وَيَهْرُبْ مُبْغِضُوكَ مِنْ أَمَامِكَ» (عدد 10: 35).

فَنَزَلَ بَارَاقُ مِنْ جَبَلِ تَابُورَ ونزلت دبورة قدامه كما نرجّح لأنها هي كانت قائدته وهو كان قائد الجيش. وهذا وما قالته دبورة هو الذي شجعه على النزول من متحصنه ومأمنه في تابور إلى ملاقاة الجيش العظيم ومركبات الحديد التي كانت رهبة إسرائيل (ص 1: 19). ولا ريب في أنه كان قد قوي إيمانه إذ ترك الحصن المنيع ولا فرسان معه ولا مركبات فغلب بذلك الإيمان (عبرانيين 11: 32). قال الدكتور فرار إن كان ابتداء الحرب عند تعنك فالإسرائيليون ساروا 13 ميلاً على طريق القافلة. والمرجّح أن الكنعانيين شاهدوا جسارة الإسرائيليين وحركتهم غير المنتظرة بحيرة لا توصف كما رأى جيش الفرس العظيم شرذمة قليلة من الأثينيين نازلة إليه من سفح الأكمة إلى سهل مرثون.

إنه لا شيء يشجع الإنسان على المخاطر التي لا بدّ منها مثل تيقنه أن الرب قدّامه.

وَوَرَاءَهُ عَشَرَةُ آلاَفِ قلنا ذلك جيش وافر ولكنه قليل بالنسبة إلى جيش الأعداء ومع ذلك إن باراق من الذين أخذوا في أن يتعلموا الحرب لا من المتدربين فيها (انظر ص 3: 2).

15 «فَأَزْعَجَ ٱلرَّبُّ سِيسَرَا وَكُلَّ ٱلْمَرْكَبَاتِ وَكُلَّ ٱلْجَيْشِ بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ أَمَامَ بَارَاقَ. فَنَزَلَ سِيسَرَا عَنِ ٱلْمَرْكَبَةِ وَهَرَبَ عَلَى رِجْلَيْهِ».

يشوع 10: 10 ومزمور 83: 9 و10

فَأَزْعَجَ ٱلرَّبُّ سِيسَرَا وَكُلَّ ٱلْمَرْكَبَاتِ... بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ أي أقلق الرب سيسرا وكل جنود المركبات وقلعهما من مكانهما بحدود السيوف. والظاهر أن الأعداء لما رأوا جيش الإسرائيليين اندفع إليهم بغتة اضطربوا ولم يستطيعوا أن يتدبروا أمرهم لحيرتهم فهربوا مركبة تصدم مركبة حتى تكسرت مركبات الحديد واغتنم الإسرائيليون الفرصة فأعملوا السيوف في أقفية أعدائهم وما كان الفضل في ذلك لباراق بل لله لأنه هو الذي ألقى الرعب في قلوب الجود اليابينية وشوّش أمورهم ومكّن شعبه من قتلهم فكانوا غنيمة باردة للإسرائيليين.

قال يوسيفوس في ارتباك الأعداء «إنهم لما وقعت الحرب وقع عليهم من السماء مطر غزير وبرَد عظيم وضربت الرياح بالمطر والبرَد وجوههم وأغلقت عيونهم فمنعتهم من الإبصار فلم يبق لهم نفع من قسيّهم ومقاليعهم ومنع البرد الشديد الجنود من استعمال سيوفهم. ولم يصب الإسرائيليون ضررٌ من ذلك إذ كانوا وراءهم وزادوا شجاعة ونشاطاً لتيقنهم أن الله مساعد لهم على أعدائهم فذبحوا كثيرين ومن لم يذبحوهم وطئتهم الخيل وحطمتهم المركبات». قال بعض المفسرين المرجّح أن ما قاله يوسيفوس من الواقعات في تلك الواقعة. وما أحسن هنا قول المرنم «هٰؤُلاَءِ بِٱلْمَرْكَبَاتِ وَهٰؤُلاَءِ بِٱلْخَيْلِ أَمَّا نَحْنُ فَٱسْمَ ٱلرَّبِّ إِلٰهِنَا نَذْكُرُ» (مزمور 20: 7 قابل هذا بما في مزمور 33: 16 و17 وأمثال 21: 31).

فَنَزَلَ سِيسَرَا الخ لماذا لم يهرب بالمركبة بل على رجليه. ذلك لأسباب الأول إن مركبة القائد معروفة وقد قرب الإسرائيليون منها والقائد هو أكبر الغنائم. والثاني إنها كانت على وشك أن تنكسر به. والثالث إنه أسهل عليه وهو على رجليه أن يجد مخبأ من أن يجده وهو على مركبته. وبقي احتمالات كثيرة مثل أن تكون المركبة أُعيقت عن الجري لوقوعها في مستنقع أو وهدة والسهل كله مستوحل لسبب المطر الكثير. وهكذا علّمه الله بُطل ما كان اتكل عليه وافتخر به.

16 «وَتَبِعَ بَارَاقُ ٱلْمَرْكَبَاتِ وَٱلْجَيْشَ إِلَى حَرُوشَةِ ٱلأُمَمِ. وَسَقَطَ كُلُّ جَيْشِ سِيسَرَا بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ. لَمْ يَبْقَ وَلاَ وَاحِدٌ».

لَمْ يَبْقَ وَلاَ وَاحِدٌ أي لم يبقَ أحد من الجيش والواو ولا زائدتان للتأكيد. والتركيب الفصيح في العربية «حتى لم يبق أحدٌ».

قال يوسيفوس إنه كان عدد الجنود التي قادها سيسرا في هذه الواقعة ثلاث مئة ألف راجل وعشرة آلاف فارس وثلاثة آلاف مركبة تسع مئة منها من حديد كما قال المؤرخون المقدسون.

17 «وَأَمَّا سِيسَرَا فَهَرَبَ عَلَى رِجْلَيْهِ إِلَى خَيْمَةِ يَاعِيلَ ٱمْرَأَةِ حَابِرَ ٱلْقِينِيِّ، لأَنَّهُ كَانَ صُلْحٌ بَيْنَ يَابِينَ مَلِكِ حَاصُورَ وَبَيْتِ حَابِرَ ٱلْقِينِيِّ».

وَأَمَّا سِيسَرَا فَهَرَبَ عَلَى رِجْلَيْهِ إِلَى خَيْمَةِ يَاعِيلَ (انظر تفسير ع 11) هرب إلى خيمة ياعيل لكي لا يصل إليه أحد من المنتصرين لأن القبائل في تلك الأيام كانوا يأنفون أن يدخلوا مخادع النساء كما هي العادة اليوم بين العرب وكثيرين من أمم المشرق. وكانت النساء تجير اللاجئ إليها إذ التجاؤه إليها لطلب النجاة لا لشيء آخر. ولم يخشَ بطش زوجها حابر القيني «لأنه كان صلح بين يابين ملك حاصور وبيت حابر القيني» ولكنه خاف أن يكون أحد ظن أنه لجأ إلى مخدع نساء فيحتالون على أخذه فعلّم ياعيل ما يدفع عنه ذلك (انظر ع 20).

لأَنَّهُ كَانَ صُلْحٌ الخ أي لم تكن حرب بينهما لا إنهما كانا متحالفين. فإن القينيين وإن كانوا من المهتدين لعابدين الإله الحق ما كان لهم أن يدّعوا ميراثاً في أرض الموعد فكانوا دخلاء وغرباء فاضطروا إلى الاعتصام بالسلم بين سكان كنعان على اختلاف صنوفهم وأديانهم فكانوا مسالمين للإسرائيليين وللأمم معاً وعلى هذا لم يتعرض لهم يابين بأذىً فلم يرَ سيسرا من بأس أن يلجأ إلى بعض مقاصير نسائهم. وغاب عنه أنهم يريدون نجاح إسرائيل لأن شعب الإله الحق الذي هم يعبدونه أيضاً. ولا ريب في أنه قطع شقة طويلة إلى الخيمة التي لجأ إليها ووصل إليها جائعاً معيياً والخوف ملء فؤاده.

18 «فَخَرَجَتْ يَاعِيلُ لاسْتِقْبَالِ سِيسَرَا وَقَالَتْ لَهُ: مِلْ يَا سَيِّدِي، مِلْ إِلَيَّ. لاَ تَخَفْ. فَمَالَ إِلَيْهَا إِلَى ٱلْخَيْمَةِ وَغَطَّتْهُ بِٱللِّحَافِ».

فَخَرَجَتْ يَاعِيلُ لاسْتِقْبَالِ سِيسَرَا لعلها كانت قد عزمت على إجراء مقصدها قبل أن يدخل سيسرا خيمتها. وإذ لم يُذكر شيء من أمر زوجها نرجّح أنه كان غائباً أو أنه توارى حتى تتم ياعيل مقصدها. وعلى الفرض الثاني نقطع بأن حابر كان واثقاً بمقدرة امرأته على إجراء ما قصدته وحدها وإنها كانت من أقوياء النساء.

مِلْ يَا سَيِّدِي، مِلْ إِلَيَّ عرفت ياعيل أنه عدوّ من أعداء إسرائيل وإنه كان هارباً من خطر من زيه المختلف عن زي إسرائيل وإمارات وجهه وإنه قائد جيش الأعداء من علامات معروفة عندهم يومئذ كما يُعرف قوّاد العسكر اليوم من ملبوساتهم وكان نبأ الحرب بين الإسرائيليين قد بلغ القينيين. ولا ريب في أن سيسرا لما سمع كلماتها اللطيفة اطمأن ووثق بها. إن عرب البادية ما كانت نساؤهم تتحجب عن الرجال الأجانب ولا يزالون كذلك إلى هذا اليوم وإن كان لهنّ موضع مخصوص في الخيمة لا يدخل غريب إليه إلا بإذن ما لم يكن هارباً من خطر ولكن كان لا بد له من أن ينبّه على أمره برفع صوته والاستغاثة إذا مكنته الفرصة كان يقول لاجئ مقصورة الكرائم أو ما أشبه ذلك لئلا ترهب النساء بدخوله بغتة أو تكون عارية لأمر من الأمور المختصة بها. فياعيل بخروجها لاستقباله أغنته عن ذلك. على أنه كان من عادة البدو رجالاً ونساءً أن يقوا من دخل بيوتهم ويجعلوه في آمن ما دام نزيلاً ولذلك مال سيسرا إلى خيمة ياعيل.

فَمَالَ إِلَيْهَا إِلَى ٱلْخَيْمَةِ أي فمال إلى ياعيل سائراً إلى خيمتها.

لاَ تَخَفْ من أن يدخل إليك من هربت منه أو أن يُوقع فيك أذًى.

وَغَطَّتْهُ بِٱللِّحَافِ اللحاف كل ثوب يغطى به فربما كان اللحاف الذي غطته به نسيجاً من شعر المعزى أو وبر الإبل. وفي السبعينية «غطته بجلد» ويحتمل الأصل العبراني معنى البساط أو الطنفسة. ولماذا غطته أن أمنه بدخوله الخباء لا بالغطاء فلا ريب أن في الكلام إيجاز الحذف يعين المحذوف به قرينة الحال والعقل وتتمة القصة فتكون العبارة فمال... إلى الخيمة معيياً ناعساً (ع 1) فاضطجع على الأرض للراحة والنوم وغطته الخ.

19 «فَقَالَ لَهَا: ٱسْقِينِي قَلِيلَ مَاءٍ لأَنِّي قَدْ عَطِشْتُ. فَفَتَحَتْ قِرْبَةَ ٱللَّبَنِ وَأَسْقَتْهُ ثُمَّ غَطَّتْهُ».

ص 5: 25

ٱسْقِينِي قَلِيلَ مَاءٍ وكان سيسرا قد جرى طويلاً حتى بلغ الخيمة. وقوله «قليل ماء» يدل على أنه لم يُرد أن يكلفها بذل ثمين أو ما فيه مشقة وأن إيواءها له هو كل ما أراده من معروفها.

فَفَتَحَتْ قِرْبَةَ ٱللَّبَنِ وهو ظرف من جلد يوضع فيه اللبن ويقال له سقاء اللبن وهو هنا اللبن الرائب على ما يظن. ومن عادة عرب البادية أن يسقوه من اشتد عطشه دفعاً لضرر زيادة شرب الماء ولا يزالون يأتون هذا إلى اليوم وفعلت ذلك لتزيده أمناً لأن ما أتته دليل حرصها على صحته وإكرامها له.

وَأَسْقَتْهُ أي سقته فقد يجيء أسقى بمعنى سقى قال لبيد:

Table 5. 

سقى قومي بني مجدٍ وأسقىنميراً والقبائل من هلالِ    

ولعل المترجم أراد المبالغة بناء على أن الزيادة في الصيغة للزيادة في المعنى. كأنه رأى مقصود الكاتب أن يبين أن سيسرا طلب قليلاً من الماء فسقته كثيراً من اللبن.

ورأى بعض الربانيين ما معناه إن اللبن كان قد اختمر وصار مسكراً فسقته كثيراً منه ليسكر ويستغرق في النوم فلا يستطيع الدفاع عندما تضرب الوتد في صدغه أو لكي لا يشعر بها عند دنوها منه لتقتله بذلك. ولعل الوطب المذكور في هذه الآية هو المعروف عندهم بالمُؤتَبَثة وهو وطب يُملأُ لبناً ويُترك فينتفخ باختمار ما فيه. ولكن لا ضرورة تلجئ إلى القول أنه سكر فإن ما اعترى سيسرا من الإعياء كافٍ لأن يجعل نومه كالموت.

ثُمَّ غَطَّتْهُ لما نهض من مضجعه ليشرب نُحي اللحاف عنه ثم اضطجع لشدة نعاسه غير ملتفت إلى اللحاف فغطته ثانية. فانظر كم كان لنساء البدو من الاختيار المعروف بالحرية في أيامنا. ولا يزال هذا شأن البدويات إلى هذا اليوم مع أن رجال البدو من أشد الناس عقاباً للزوجة إذا خانت زوجها.

20 «فَقَالَ لَهَا: قِفِي بِبَابِ ٱلْخَيْمَةِ، وَيَكُونُ إِذَا جَاءَ أَحَدٌ وَسَأَلَكِ: أَهُنَا رَجُلٌ؟ أَنَّكِ تَقُولِينَ لاَ».

قِفِي بِبَابِ ٱلْخَيْمَةِ لئلا يدخلها أحد.

إِذَا جَاءَ أَحَدٌ من الرجال.

وَسَأَلَكِ أَهُنَا رَجُلٌ أَنَّكِ تَقُولِينَ لاَ أي لم يدخل أحد خيمتها أو لأنه إذا عرف أن لا رجل في الخيمة امتنع من دخولها بناء على عادة البدو ولكن إذا كان فيها رجل كان له أن يدخلها إلا ما ندر. وقال سيسرا ذلك لتيقنه أنه لا بد من أن أعداءه يطلبونه ويفتشون عنه لأنه قائد جيش يابين.

وهنا لم يذكر ما يدل على أن ياعيل أظهرت له أنها تفعل ما أوصاها به على أن مثل هذا الكذب كان جائزاً عند الأمم لأن به نجاة من الموت بل أجازه كثيرون من المسيحيين بناء على القاعدة الفلسفية المشهورة «إذا وقع الإنسان بين شرّين فليختر أصغرهما» لأنهم رأوا أن الكذب أصغر من تسليم نفس للقتل.

وللناس قاعدة أخرى وهي أن بعض الأحوال يجيز الكذب كما أن بعضها يجيز القتل فيقولون إن الضرورات تبيح المحظورات. ولكن الذين يتبعون هذه القواعد يخفى عليهم أن خطيئة الكذب لا تضر بالمكذوب عليه فقط بل بالمتكلم أيضاً فالكاذب ينجس نفسه بكذبه ويغفلون أيضاً عن أن قتل القاتل والحماية عن النفس هما من خصائص الولاة لا الأفراد. وأعظم الشرور هو مخالفة الله وإهمال شريعته التي تنهي عن الكذب. فعلينا أن نصدُق في جميع أقوالنا وفي جميع الأحوال والله ينجي المتكلمين عليه. وما أحسن قول أحد الشعراء هنا:

Table 6. 

عليك بالصدق ولو أنهأحرقك الصدق بنار الوعيد    
واكسب رضا المولى فاشقى الورىمن أسخط المولى وأرضى العبيد    

21 «فَأَخَذَتْ يَاعِيلُ ٱمْرَأَةُ حَابِرَ وَتَدَ ٱلْخَيْمَةِ وَالميتدة (ٱلْمِطْرَقَةَ) فِي يَدِهَا، وَقارت (سَارَتْ) إِلَيْهِ بِهُدُوءٍ وَضَرَبَتِ ٱلْوَتَدَ فِي صُدْغِهِ فَنَفَذَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَهُوَ مُتَثَقِّلٌ فِي ٱلنَّوْمِ وَمُتْعَبٌ فَمَاتَ».

ص 5: 26

فَأَخَذَتْ عندما تيقنت أنه استغرق في النوم كما يظهر من آخر الآية.

وَتَدَ ٱلْخَيْمَةِ الوتد ما رُزّ في الأرض أو الحائط من خشب ويختارون أوتاد الخيمة من الخشب الصلب المحدد أحد الطرفين ليدخل في ما رُزّ فيه بسهولة فيشبه محدّد الحديد. قال بعض المفسرين قد يكون وتد الخيمة من الحديد أو الخشب الصلب ورأى يوسيفوس أنه كان من حديد.

الميتدة (ٱلْمِطْرَقَةَ) آلة يُضرب بها الوتد ليُرزّ.

قارت (سَارَتْ) أي مشت على أطراف قدميها لئلا يُسمع وقعهما فينتبه سيسرا من نومه.

ضَرَبَتِ ٱلْوَتَدَ فِي صُدْغِهِ الصدغ ما بين العين والأذن. كأنها وضعت طرف الوتد المحدد على صدغه وضربته بكل قوتها خوفاً من أن ينتبه قبل أن تنجز عملها. وقد يضرب الضعيف الحَذِر ضربة لا يأتيها القوي الآمن.

Table 7. 

وضعيفة فإذا أصابت فرصةقتلت كذلك فرصة الضعفاء    

فَنَفَذَ إِلَى ٱلأَرْضِ أظن لهذا قال يوسيفوس إن الوتد كان من حديد. وحمله بعضهم على المبالغة الشعرية.

وَهُوَ مُتَثَقِّلٌ فِي ٱلنَّوْمِ قال بعضهم في تفسير هذا إن الله ألقى على سيسرا سباتاً كالذي ألقاه على آدم حين أخذ أحد أضلاعه وجعله امرأة. وهذا ممكن ولكنه غير ضروري إذ العبارة حال من فاعل «قارَت» لا فاعل «نفذ» على أن الكلمة المستعملة هنا كالكلمة المستعملة لسبات آدم عند خلق حواء وهو ما يرجّح ما قاله ذلك البعض (انظر أيضاً دانيال 8: 18 و10: 9).

وَمُتْعَبٌ أو مغشيٌ عليه على ما يحتمله الأصل العبراني (انظر حاشية الكتاب ذي الشواهد) هذا مؤيد لقول بعضهم بأن نوم سيسرا الثقيل كان كسبات آدم يوم أُخذت منه حواء.

فَمَاتَ قبل أن يتمكن من الدفاع لأن الوتد نفذ دماغه إلى الأرض. نمدح ياعيل (ص 5: 24) على شجاعتها وميلها إلى شعب الله دون الميل إلى الكنعانيين ولكننا لا نقدر أن نبررها في كل ما فعلته فإنها قبلت سيسرا في خيمتها (ع 18) ومن عادة البدو ومن واجبات الضيافة عند جميع الناس وقاية الضيف وجعله في أمن ما دام نزيلاً. ثم خدعته وقتلته غدراً وهو مستغرق بالنوم. إن الله يستعمل آلات بشرية ولكن هذه الآلات ليست كاملة وأحياناً تعمل ما ليس بحسب إرادته. فلا شك أن الرب يقدر أن يخلّص شعبه من تسلط يابين وسيسرا بلا خطيئة الخديعة ونكث عهود الضيافة.

22 «وَإِذَا بِبَارَاقَ يُطَارِدُ سِيسَرَا، فَخَرَجَتْ يَاعِيلُ لاسْتِقْبَالِهِ وَقَالَتْ لَهُ: تَعَالَ فَأُرِيَكَ ٱلرَّجُلَ ٱلَّذِي أَنْتَ طَالِبُهُ. فَجَاءَ إِلَيْهَا وَإِذَا سِيسَرَا سَاقِطٌ مَيِّتاً وَٱلْوَتَدُ فِي صُدْغِهِ».

وَإِذَا بِبَارَاقَ يُطَارِدُ سِيسَرَا أي كان حاملاً عليه ليلحقه ويقتله. وقد رأته ياعيل فجأة.

وَإِذَا سِيسَرَا سَاقِطٌ مَيِّتاً وَٱلْوَتَدُ فِي صُدْغِهِ فعلم باراق حينئذ تمام ما أنبأته به دبورة من أنه لا يكون له فخر وإن الرب باع سيسرا قائد جيش يابين بيد امرأة (ع 9) ولا ريب في أن باراق دهش من ذلك المشهد من أن جباراً عنيداً وبطلاً مشهوراً قتلته امرأة قتلة لا يستطيعها على ما ظهر له في أول الأمر عدة رجال متأزرين على ذلك العمل. وتيقّن أن العزّة والقدرة والنصر لله لا للإنسان.

23 «فَأَذَلَّ ٱللّٰهُ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ يَابِينَ مَلِكَ كَنْعَانَ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ».

مزمور 18: 47

فَأَذَلَّ ٱللّٰهُ... مَلِكَ كَنْعَانَ وفي العبرانية يكنع... ملك كنعان. ففي العبارة نوعان بديعيان الجناس والاتفاق فإن معنى «كنعان» ذليل أو ذلك فكأنه قال أذلّ الله... ملك الذلّ أي أذله الله حسب اسم قومه.

24 «وَأَخَذَتْ يَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَتَزَايَدُ وَتَقْسُو عَلَى يَابِينَ مَلِكِ كَنْعَانَ حَتَّى قَرَضُوا يَابِينَ مَلِكَ كَنْعَانَ».

وَأَخَذَتْ يَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَتَزَايَدُ وَتَقْسُو أي أخذت قوة الإسرائيليين تزيد على توالي الأوقات فكانوا يفتكون بالكنعانين بلا رفق ولا رحمة. ويُفهم من ذلك أن واقعة قيشون كانت بداءة إنقاذ إسرائيل من نير الكنعانيين الإنقاذ التام. عبّر عن القوة باليد لأنها آلة العمل والحرب وأسند إليها القسوة مجازاً والمراد قسوة أصحابها.

حَتَّى قَرَضُوا يَابِينَ أي أبادوا قومه وأبادوه جميعاً.

فوائد

  1. إن الله يستخدم آلات ضعيفة فعندما أراد تخليص شعبه من تسلط يابين استخدم امرأتين ورجلاً ضعيف الإيمان. وشمجر خلّص إسرائيل وبيده منساس البقر (ص 3: 31). وجدعون انتصر على المديانيين بواسطة الجرار والأبواق والمصابيح ومعه 300 رجل فقط (ص 7: 16). وشمشون ضرب ألفاً من الفلسطينيين بلحي حمار (ص 15: 15). فلا ننظر إلى ضعفنا وضعف البشر فنخاف بل إلى الرب القادر على كل شيء فنتشجع.

  2. على الإنسان أن يستنظر وقت الرب ويستغنم الفرصة. إن الرب جذب جيش سيسرا إلى نهر قيشون وأعدّ الرياح والأمطار والبرَد لإهلاكهم فاستغنم باراق هذه الفرصة وأطاع الرب للوقت فصار عاملاً معه فنجح في عمله.

  3. إن المرأة عند الله كالرجل لأنه أقام منهم نبيات كما أقام من الرجال أنبياء. فنفس المرأة ثمينة عند الله كنفس الرجل والمؤمنات كالمؤمنين في ميراث الملكوت السماوي.

اَلأَصْحَاحُ ٱلْخَامِسُ

أغنية دبورة النصرية

1 «فَتَرَنَّمَتْ دَبُورَةُ وَبَارَاقُ بْنُ أَبِينُوعَمَ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ قَائِلَيْنِ».

خروج 15: 1 ومزمور 18 عنوان

فَتَرَنَّمَتْ دَبُورَةُ ذكر الكاتب هذه المترنمة باسمها مجرداً عن كل ألقاب الشرف والنعوت العظيم فدلّ على أنه مؤرخ يذكر الواقع بلا هوىً. ولو كان الكاتب من كتبة هذا العصر لقال فترنمت خير النبيات وأبلغ البلغاء وحاملة لواء الشعراء إلى غير ذلك من الأوصاف التي تستحقها.

والأغنية التي ترنمت بها أو القصيدة التي أنشدتها بالغناء هي ناظمتها خلافاً لبعضهم وقد قال بذلك الأكثرون. وتُسمى هذه القصيدة بنشيد النصر وأغنية المسرّة وهي ثلاثة أقسام كل قسم منها تسع آيات فآيات الأقسام الثلاثة 27 آية والأصحاح 31 آية ولكن آيتين منه وهما الأولى والثانية مقدمة القسم الأول والآية الثانية عشرة مقدمة القسم الثاني. والآية الحادية والثلاثون تنفرد ببيان النتيجة أو العاقبة. وكل قسم من الأقسام الثلاثة يُقسم إلى ثلاثة أقسام.

إن هذه القصيدة من أشد أشعار الكتاب تهييجاً للعواطف وتأثيراً في القلوب. إنها أغنية النصر أو نشيد الظفر. بذل بعضهم الجهد في أن يبين أنها ليست لدبورة وإنها من أشعار المتأخرين عنها لأنها تشتمل على صور من صور كلام المتأخرين ولكن المحققين رأوها من أساليب الأقدمين ولم يقفوا على أثر يؤيد دعوى القاتل بتأخرها عن زمان النبية والذي حمل ذلك القائل على هذا انها لم يسبق لها نظير في البلاغة. ولكن هذا ليس بدليل على أنها بعد عهد دبورة فأحد شعراء العصر الواحد قد ينظم قصيدة تتفرد في بلاغتها ولم يسبق لها نظير في أسلوبها وحسنها.

وَبَارَاقُ ذُكرت دبورة أولاً لأنها النبيّة والناظمة وقائدة القائد الأكبر وسائر القوّاد والشخص الأول الذي يقتدي به الإسرائيليون. وذُكر باراق على أثرها لأنه قائد الجيش الأعلى. ولا يلزم من الاقتصار على ذكرهما أنه لم يغنِّ غيرهما بل أنهما غنّيا أولاً وتبعهما سائر المغنيين المعروفين يومئذ في جماعة الرب. وكان غناء دبورة هنا كغناء مريم أخت هارون في زمن الخروج من مصر والخلاص من عبودية المصريين. إلا أن القصيدة التي ترنمت بها مريم نظمها موسى لا مريم. ولا ريب في أن قصيدة دبورة نُشرت قبل الترنم بها وحفظها باراق والمغنون وربما حفظها غيرهم من الإسرائيليين. وهل كان شأن دبورة وباراق في هذا الغناء كشأن مريم وموسى في أنها تغنت قدّام النساء وباراق تغنى قدام الرجال. فهذا لا يبعد عن أن يكون هو الواقع. ولكن في قصيدة الخروج تقدّم موسى على مريم وفي قصيدة النصر تقدّمت دبورة على باراق.

2 «لأَجْلِ قِيَادَةِ ٱلْقُوَّادِ فِي إِسْرَائِيلَ، لأَجْلِ طَاعَةِ ٱلشَّعْبِ، بَارِكُوا ٱلرَّبَّ».

2أيام 17: 16 ومزمور 18: 47

لأَجْلِ قِيَادَةِ ٱلْقُوَّادِ فِي إِسْرَائِيلَ أي من أجل أن الله أقام قوّاداً لإسرائيل وقدّرهم على حسن تصرفهم. وفي الترجمة السريانية والكلدانية «لأجل انتقام إسرائيل» أي من أجل أن الله قدّر للإسرائيليين على أن ينتقموا من أعدائهم أو لأجل انتقام الله للإسرائيليين من ظالميهم. والذي في ترجمتنا هو الموافق للأصل العبراني. والكلمة العبرانية «فرعوت» في هذه الآية لم تأت إلا هنا وفي (تثنية 32: 42) ومعناها هناك القوّاد كمعناها هنا. وفرعوت جمع فرع وهو في العبرانية والعربية الشعر ويستعمل في اللغتين لشريف القوم ومقدمهم. وجاءت العبارة في السبعينية «قيادة القواد في إسرائيل» فهي مثل ما في ترجمتنا تماماً.

لأَجْلِ طَاعَةِ ٱلشَّعْبِ الانتداب مطاوعة الندب يُقال ندب الأمير الناس للحرب فانتدبوا أي أجابوه لها وانقادوا. والظاهر أن المعنى على ما فُهم من بعض التراجم إنهم ذهبوا للحرب طوعاً فالانتداب هنا بمعنى ما يُعرف عندنا بالتطوّع (انظر مزمور 110: 3).

3 «اِسْمَعُوا أَيُّهَا ٱلْمُلُوكُ وَٱصْغُوا أَيُّهَا ٱلْعُظَمَاءُ. أَنَا، أَنَا لِلرَّبِّ أَتَرَنَّمُ. أُزَمِّرُ لِلرَّبِّ إِلٰهِ إِسْرَائِيلَ».

تثنية 32: 1 و3 ومزمور 2: 10

اِسْمَعُوا أَيُّهَا ٱلْمُلُوكُ لم يكن حينئذ من ملوك ولا أمراء في إسرائيل فالنداء لملوك الأرض كما في (مزمور 2: 10) وفسرت الكلدانية هؤلاء الملوك بالملوك المحالفين ليابين. ورأى بعضهم أنه أرادت بالملوك الرؤساء والعظماء المتسلطين كأنهم ملوك. ومثل هذا قول بعضهم أن النبيّة نادت ملوك كنعان لكي يسمعوا كلمات النشيد فيتحدوا بشعب الله ويؤمنوا بالرب.

وَٱصْغُوا أَيُّهَا ٱلْعُظَمَاءُ غلب في الشعر العبراني أن تلي عبارة منه عبارة بمعناها (انظر مزمور 8: 4 و19: 1 و2 و7 - 10) فعلى ذلك ليس «العظماء» هنا إلا «الملوك» في العبارة التي قبلها.

أَنَا، أَنَا لِلرَّبِّ أَتَرَنَّمُ أكدت الضمير بالتكرار لتفهم ملوك كنعان أن الرب الذي ترنم له إله قادر على كل شيء ينصر الضعفاء على الأقوياء والقليلين على الكثيرين. فكأنها قالت اسمعوا يا ملوك كنعان وقوّاد جيوشهم وعظمائهم أنا أنا دبورة عينها المرأة الضعيفة نصر الله بواسطتي شعب إسرائيل علكيم وعلى جيوشكم الكثيرة فانتبهوا لجلهكم وضلالكم وآمنوا بإله إسرائيل القدير ودوسوا أصنامكم التي لا تستطيع أن تنفع عابديها شيئاً. وقولها «للرب أترنم» معناه إني لا أغني ولا أسبح إلا للرب الإله المعبود الحق الأزلي الأبدي القدوس العظيم الذي لا إله إلا هو.

أُزَمِّرُ لِلرَّبِّ إِلٰهِ إِسْرَائِيلَ هذا تذييل لقولها «للرب أترنم» وتأكيد له وإيضاح والظاهر أنها كانت تترنم بالأغنية التي نظمتها لفظاً فيكرر المغنون ما تقوله وفي أثناء ذلك تترنم بالمزمار وإلا فيمتنع أن تتكلم وتزمر معاً. والمترجم يضع لفظة «الرب» موضع «يهوه» وهو عَلَم لإله إسرائيل فقولها «إله إسرائيل» تفسير «ليهوه» جلّ وعلا وتقدّس. ولا يخفى ما في هذه الآية النفيسة البليغة من التوبيخ لملوك الأمم الذين يعبدون آلهة تضرّ ولا تنفع ولا تقدر على شيء لأنها من صور الخيال لا وجود لها إنما الموجود تماثيلها الجمادية أي التي لا حياة لها.

4 «يَا رَبُّ بِخُرُوجِكَ مِنْ سَعِيرَ، بِصُعُودِكَ مِنْ صَحْرَاءِ أَدُومَ، ٱلأَرْضُ ٱرْتَعَدَتِ. ٱلسَّمَاوَاتُ أَيْضاً قَطَرَتْ. كَذٰلِكَ ٱلسُّحُبُ قَطَرَتْ مَاءً».

تثنية 23: 2 ومزمور 68: 7 و2صموئيل 22: 8 ومزمور 68: 8 وإشعياء 64: 3 وحبقوق 3: 3 و10

يَا رَبُّ بِخُرُوجِكَ مِنْ سَعِيرَ (انظر مزمور 68: 7 - 9 وحبقوق 3: 3 - 12). ذهب كثيرون من قدماء المفسرين ومحدثيهم أن المراد هنا ما كان عند إعلان الشريعة على طور سيناء كما فُصل في (خروج 19: 16 - 18) لكن ذكر سعير وأدوم يدل على أن المراد غير ذلك والقرينة تمنع من هذا المراد وتدل على حادث عجيب غير زلزال سيناء ورعوده. فالنبية غايتها بعد إيجاب المباركة لله أن تُعلن للإسرائيليين وغيرهم أن مساعدة الرب لهم في حرب سيسرا وما أتاه فيها من الغرائب سبق له أمثال من عناية الله بشعب إسرائيل منذ سيرهم في البرية وأحاط الإسرائيليون بأرض أدوم في ذلك السير (عدد 20: 22 و21: 4) ثم استولوا على ما يجاورها وهنالك كان ما ذُكر من ارتعاد الأرض وانصباب الغيث. وقد عرفت النبية ذلك بإعلان الله إذ لم يُذكر في الأسفار الخمسة لأن موسى اكتفى بذكر بعض معجزات الله الذي فيه كثير من أمثال ما ذكرته النبية وفي كلامه ما يشير إلى أعماله العجيبة غير التي ذكرها دون تفصيل. وذكرت النبية مع ذلك زلزال سيناء فهي ذكرت أعمال الله العجيبة في ما سبق على سبيل الإيجاز.

وقولها «بخروجك من سعير» خروجه مع شعبه لما انطلق من سعير. وسعير أرض في البرية بين بحر لوط وخليج العقبة شرقيها البرية العربية وغربيها وادي العربة وقنتها العالية جبل هور استولى عليها عيسو وخلفاؤه (تكوين 32: 3 و33: 14 و16 و36: 8 و9 وتثنية 2: 4 و22) ولهذا كثير ما يراد بسعير أرض أدوم.

بِصُعُودِكَ مع شعبك.

مِنْ صَحْرَاءِ أَدُومَ هي برية في أرض أدوم وهي أرض كانت وطناً للحوريين واقعة جنوبي بحر لوط على تخوم موآب وهي تشمل كل تخوم كنعان الجنوبية من بحر لوط إلى خليج البحر الأحمر الشرقي.

ٱلأَرْضُ ٱرْتَعَدَتِ وهذا مع ما قبله نص صريح على أن هذا الارتعاد غير ارتعاد جبل سيناء. وربما قصدت ارتعاد أهل أرض كنعان لأن خشية الإسرائيليين وقعت حينئذ على كل أمم كنعان فخافوا خوفاً شديداً وارتعدوا وبهذا لم يبق من صعوبة في الأمر (انظر خروج 15: 14 - 16 وقابل بما في يشوع 2: 9 - 11) أو تمثيل الأرض ترتعد قدام الله تمثيلاً شعرياً. أو الارتعاد حقيقة وحوادثه في الكتاب كثيرة.

ٱلسَّمَاوَاتُ أَيْضاً قَطَرَتْ أي سالت مياهها قطرات متوالية والمعنى أنها أمطرت.

كَذٰلِكَ ٱلسُّحُبُ قَطَرَتْ مَاءً «كذلك» هنا و«أيضاً» في العبارة السابقة أصلهما واحد في العبرانية فالعبارة هنا تفسير وتأكيد للعبارة السابقة لأن معنى قطور السماء وقوع سحابها ماء. وهذا التذييل كثير في الأشعار العبرانية.

5 «تَزَلْزَلَتِ ٱلْجِبَالُ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ، وَسِينَاءُ هٰذَا مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِ إِسْرَائِيلَ».

تثنية 4: 11 ومزمور 97: 5 خروج 19: 18

تَزَلْزَلَتِ ٱلْجِبَالُ وفي العبرانية «نزلت» أي نزلت حجارتها وأتربتها على جوانبها وهذا من لوازم التزلزل فتُرجمت بتزلزلت. وهذا الذي فسرها به النبي إشعياء بقوله الله «حِينَ صَنَعْتَ مَخَاوِفَ لَمْ نَنْتَظِرْهَا، نَزَلْتَ. تَزَلْزَلَتِ ٱلْجِبَالُ مِنْ حَضْرَتِكَ» (إشعياء 64: 3). والكلام هنا في حوادث سيناء يوم إعلان الشريعة الأدبية وجمع لأن سيناء جبل من عدة جبال مجتمعة. وجاء في بعض الترجمات الأوربية ذابت الجبال إذ فهم المترجم أن نار سيناء أذابت الصخور فجرت على السفوح. ورأى بعضهم أن السيول نزلت على عروض الجبل المذكور ولكن هذا لم يُذكر إنه حدث يومئذ على سيناء.

وَسِينَاءُ هٰذَا مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ هذا الكلام مؤكد لتزلزل الجبال والعطف للتفسير.

6 «فِي أَيَّامِ شَمْجَرَ بْنِ عَنَاةَ، فِي أَيَّامِ يَاعِيلَ، ٱسْتَرَاحَتِ ٱلطُّرُقُ، وَعَابِرُو ٱلسُّبُلِ سَارُوا فِي مَسَالِكَ مُعْوَجَّةٍ».

ص 3: 31 ص 4: 17 لاويين 26: 22 و2أيام 15: 5 وإشعياء 33: 8 ومراثي إرميا 1: 4 و4: 18

فِي أَيَّامِ شَمْجَرَ بْنِ عَنَاةَ (انظر تفسير ص 3: 31).

فِي أَيَّامِ يَاعِيلَ هذا بيان لأيام شمجر يُفهم منه أن شمجر وياعيل كانا متعاصرين.

قال بعضهم إن ياعيل هذه هي قاضية لإسرائيل وإنها غير ياعيل التي قتلت سيسرا وليس لها ذكر إلا هنا والأرجح أنها ياعيل المذكورة. وذكرتها دبورة هنا مع ذكر شمجر لأنها كانت معروفة وغيورة لخلاص إسرائيل قبلما قتلت سيسرا غير أنها لم تتجاسر أن تعمل شيئاً حتى قامت دبورة.

ٱسْتَرَاحَتِ ٱلطُّرُقُ من السائرين عليها وهذا كناية عن انقطاعها لعدم الأمن (انظر حاشية الكتاب ذي الشواهد على هذه العبارة) وأُنبئ بذلك في سفر اللاويين (لاويين 26: 22) وهذا كقوله «خلت السكك» (إشعياء 33: 8) وقول زكريا «فَخَرِبَتِ ٱلأَرْضُ وَرَاءَهُمْ، لاَ ذَاهِبَ وَلاَ آئِبَ» (زكريا 7: 14).

وَعَابِرُو ٱلسُّبُلِ سَارُوا فِي مَسَالِكَ مُعْوَجَّةٍ أي عدلوا عن طريق السفر المستقيم إلى تلك المسالك خوفا من اللصوص والقتلة.

7 «خُذِلَ ٱلْحُكَّامُ فِي إِسْرَائِيلَ. خُذِلُوا حَتَّى قُمْتُ أَنَا دَبُورَةُ. قُمْتُ أُمّاً فِي إِسْرَائِيلَ».

إشعياء 49: 23

خُذِلَ ٱلْحُكَّامُ وأصل الحكام في العبرانية «فرَزون» واختلف المترجمون في معناها فترجمها بعضهم ساكنو القرى جرياً على الترجمة الكلدانية وبناء على أنها جاءت بمعنى القرى في سفر التثنية (تثنية 3: 5) لكن هذا مخالف لمعناها في (ع 11). وجاءت في السبعينية بمعنى الأمراء. ورجّح بعضهم أن معناها المحاربون بناء على أن معنى الخَذل ترك النصرة والعون. ولكن القرينة في كلام دبورة تدل على أن معناها الحكام والأرجح أنهم قضاة عصرها. ومعنى «خُذل» هنا أمّا تركت مساعدة الحكام أو أُضعفوا من قولهم خذله الله أي لم يعصمه وأضعفه.

خُذِلُوا حَتَّى قُمْتُ أَنَا دَبُورَةُ هذا يرجّح أن معنى خُذل الحكام أضعف قضاة عصرها ولم يكن لهم من مساعد كباراق نفسه فإنه لم يجسر أن يخرج للحرب إلا بخروج دبورة معه.

أُمّاً فِي إِسْرَائِيلَ استعارة جاء أمثالها في مواضع من الكتاب (انظر تكوين 45: 8 و2صموئيل 20: 19 وأيوب 29: 16). والمعنى أن دبورة كانت مثل الأم لإسرائيل في محبتها لهم وحرصها على راحتهم وسلامتهم ودفعها عنهم كل أذًى.

8 «اِخْتَارَ آلِهَةً حَدِيثَةً. حِينَئِذٍ حَرْبُ ٱلأَبْوَابِ. هَلْ كَانَ يُرَى مِجَنٌّ أَوْ رُمْحٌ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفاً مِنْ إِسْرَائِيلَ؟».

تثنية 32: 16 و17 وص 2: 12 و17 و1صموئيل 13: 19 و22 وص 4: 3

اِخْتَارَ إسرائيل أي فضّل ما يأتي من الآلهة الباطلة على الإله الحق.

آلِهَةً حَدِيثَةً أي مُحدثة بدلاً من الإله الأزلي أي القديم الذي لا بداءة له. «ذَبَحُوا لأَوْثَانٍ لَيْسَتِ ٱللّٰهَ. لآلِهَةٍ لَمْ يَعْرِفُوهَا أَحْدَاثٍ قَدْ جَاءَتْ مِنْ قَرِيبٍ» (تثنية 32: 17).

حِينَئِذٍ حَرْبُ ٱلأَبْوَابِ أي وفي تلك الأيام كانت حرب الأبواب وفي العبرانية «لحم شعريم» أي حينئذ ملحمة الأبواب والملحمة الواقعة التي يكثر فيها القتل. والمراد «بحرب الأبواب» هجوم الأعداء على الأبواب لقتال الجنود عندها ووصولهم حتى الأبواب التي كانت مجالس الرؤساء والحكام.

هَلْ كَانَ يُرَى مِجَنٌّ أَوْ رُمْحٌ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفاً مِنْ إِسْرَائِيلَ «المجن» الترس. والاستفهام هنا إنكاري. كان عدد جيش باراق عشرة آلاف (ص 4: 10) والظاهر أن لهم أسلحة (ص 4: 15 و16). ولعل معنى قول دبورة هنا أنه كان في إسرائيل أناس قادرون على الحرب لم يُنتدبوا لها فلم تُرَ أتراسهم ورماحهم. والعدد «أربعون ألفاً» ليس عدداً مدققاً بل عدداً جامعاً أي كان كثيرون لم يُنتدبوا للحرب.

9 «قَلْبِي نَحْوَ قُضَاةِ إِسْرَائِيلَ ٱلْمُتَطَوِّعِينَ فِي ٱلشَّعْبِ. بَارِكُوا ٱلرَّبَّ».

ع 2

قَلْبِي نَحْوَ قُضَاةِ إِسْرَائِيلَ ٱلْمُتَطَوِّعِينَ أي شكر قلبي موجّه إلى قضاة إسرائيل الذين نُدبوا للحرب فانتدبوا أي أطاعوا. يُقال ندب فلان فلاناً لأمر فانتدب له أي دعاه له فأجاب (انظر تفسير ع 2). المعنى أن إسرائيل وإن كان البعض قاعداً عن الحرب كان فيه رجال تطوّعوا للحرب وهم القضاة فوجب على دبورة أن تحمد الله وتشكر لهم فعلهم.

فِي ٱلشَّعْبِ فيقتدي بهم فيتبعهم حيث توجهوا.

بَارِكُوا ٱلرَّبَّ على إبقائه مثل أولئك الرجال المنتدبين وإنقاذه الشعب بواسطتهم.

10 «أَيُّهَا ٱلرَّاكِبُونَ ٱلأُتُنَ ٱلصُّحْرَ، ٱلْجَالِسُونَ عَلَى طَنَافِسَ، وَٱلسَّالِكُونَ فِي ٱلطَّرِيقِ، سَبِّحُوا!».

ص 10: 4 و12: 14 مزمور 107: 32 مزمور 105: 2 و145: 5

أَيُّهَا ٱلرَّاكِبُونَ ٱلأُتُنَ ٱلصُّحْرَ الأُتن جمع أتان وهي الحمارة والصُحر جمع الصحراء. وهي من الأتن الغبراء في حمرة خفية إلى بياض قليل وهي نادرة ولذلك تقتنيها العظماء والأغنياء. وكان الكبراء يختارون ركوب الحمير كيف كان لونها (انظر ص 10: 4 و12: 14).

ٱلْجَالِسُونَ عَلَى طَنَافِسَ الطنافس هنا البسط وكانت مما يقعد عليه الكُبراء.

وَٱلسَّالِكُونَ فِي ٱلطَّرِيقِ أي الفقراء الماشون الذين لا مطية لهم سوى أقدامهم.

سَبِّحُوا اي احمدوا الرب ورنموا له بأغاني التسبيح. وخلاصة الآية يا أغنياء ويا فقراء سبحوا للرب أو رنموا له بأغنية النصر. كان على الأغنياء أن يسبحوا لله لأنه وهب لهم النفائس وليس الأطالس والجلوس على الطنافس وآمّنهم على أموالهم بالانتصار على الأعداء السالبين. وعلى الفقراء كذلك لأنه قدّرهم على السير على أقدامهم بما منحهم من الصحة والقوة والأمن في الطُرق التي كانت مملوءة بالمخاوف قبل أن ينصرهم الله على الكنعانيين.

11 «مِنْ صَوْتِ ٱلْمُحَاصِّينَ بَيْنَ ٱلأَحْوَاضِ هُنَاكَ يُثْنُونَ عَلَى حَقِّ ٱلرَّبِّ حَقِّ حُكَّامِهِ فِي إِسْرَائِيلَ. حِينَئِذٍ نَزَلَ شَعْبُ ٱلرَّبِّ إِلَى ٱلأَبْوَابِ».

1صموئيل 12: 7 ومزمور 145: 7 ع 8

مِنْ صَوْتِ ٱلْمُحَاصِّينَ أي من غناء المحاصين. والمحاصون هم الذين يقسمون المال حصصاً. واللفظة في العبرانية «محاصيم» أي محاصين فالأصل واحد والفرق في علامة الجمع فهي في العربية الياء والنون وفي العبرانية الياء والميم واختلف المفسرون فيها لاختلافهم في الأصل المشتقة منه. فذهب بعضهم أنها من حص بتخفيف الصاد وهو السهم في العبرانية ففسروه بالرماة أي رماة السهام عن القسيّ. ورأى آخر أنها مشتقة من حصّ بتشديد الصاد وهو القسمة فترجمها بالمتقاسمين وهي معنى المتحاصّين في العربية. ثم اختلفوا بالمراد من المحاصّين أي المتقاسمين فرأى بعضهم أنهم المتقاسمون الغنائم التي آبوا بها من ديار الأعداء وهو الأرجح عندنا. ورأى آخرون أنهم الرعاة الذين يتقاسمون الرعية ويعتني كلٌ منهم بقسمة في الرعاية والإيراد أي السير بها إلى الماء لتشرب والحماية من الوحوش المفترسة والدفع عنها وما أشبه ذلك. و«من» في قولها «من صوت» سببية متعلقة «بيثنون» في ما يأتي.

بَيْنَ ٱلأَحْوَاضِ جمع حوض وهو مجمع الماء. وهذا الذي حمل بعضهم على تفسير المحاصّين بالرعاة والأحواض موارد البهائم غالباً ولكن ذلك لا يمنع أنها موارد الناس في البرية ولا سيما الآيبين بالغنائم وقد تعبوا وعطشوا. وأحسن مكان يستريحون فيه ويروون عطشهم ويتقاسمون غنائمهم مكان بين الأحواض على أن في ذلك معنى زائد على هذا قصدته النبيّة وهو عموم الأمن. فإن موارد الماء في البرية مكامن اللصوص لأنه لا بد للمسافرين العطاش من قصدها فيكونون بذلك غنيمة باردة للسالبين والقتلة ولكن لما انتصر الإسرائيليون على الأمم الأشرار وقتلوا من قتلوا منهم واستولوا على الأرض قطعوا اللصوص فأمن المسافرون ووردوا الماء لا يخشون ضرراً وقسم هنالك الغانمون غنائمهم لا يخافون سالباً وإلا ما أَمنوا أن يأتوا بغنائمهم إلى أماكن لا يأمن فيها الإنسان على ثوبه ولا على حياته.

هُنَاكَ يُثْنُونَ عَلَى حَقِّ ٱلرَّبِّ «هناك» بدل من «بين الأحواض» والواو في «يثنون» لجماعة الشعب و«حق الرب» ما فعله من إنصاف شعبه بانتقامه من أعدائهم وتوطيد الأمن لهم والثناء عليه المدح له.

حَقِّ حُكَّامِهِ فِي إِسْرَائِيلَ هذا بيان «لحق الرب» والمعنى أن حق الرب هو الحق الذي أجراه بواسطة قضاة إسرائيل فالفاعل هو سبحانه وتعالى والقضاة آلات لفعله. ومعنى الكلام من أول الآية إلى هنا أن ترنُّم المتقاسمين الغنائم في مواطن الخوف هناك إذ صارت مواطن الأمن على أن يثني الشعب على الرب الذي أنصفهم من أعدائهم بواسطة من أقامهم قضاة عليهم.

حِينَئِذٍ نَزَلَ شَعْبُ ٱلرَّبِّ إِلَى ٱلأَبْوَابِ إذ خلصوا من أخطار الذين هجموا عليهم وحاربوهم عندها (انظر تفسير ع 8) أي رجعوا إلى عادتهم زمان الأمن.

12 «اِسْتَيْقِظِي ٱسْتَيْقِظِي يَا دَبُورَةُ! ٱسْتَيْقِظِي ٱسْتَيْقِظِي وَتَكَلَّمِي بِنَشِيدٍ! قُمْ يَا بَارَاقُ وَٱسْبِ سَبْيَكَ، يَا ٱبْنَ أَبِينُوعَمَ!».

مزمور 57: 8 مزمور 68: 18

اِسْتَيْقِظِي ٱسْتَيْقِظِي يَا دَبُورَةُ نبّهت نفسها بالنداء المكرر تنشيطاً لها وإغراء بإكمال النشيد فيما يشجع الشعب ويزيده ابتهاجاً من عرض الأسرى أو غيره كما يأتي. ومخاطبة الإنسان نفسه من بديع اللغات الساميّة وهو يكثر في أشعارها وهو وافر في أشعار القدماء والمحدثين وعدّه البديعيون نوعاً من التجريد وهو أن يجرد الإنسان من نفسه شخصاً آخر يخاطبه كأنه يخاطب غيره ويكون الخطاب في أغراض مختلفة.

ٱسْتَيْقِظِي ٱسْتَيْقِظِي جاءت «باستيقظي» أربع مرات وهذا العدد غاية ما بلغه التوكيد بتكرار اللفظ على ما عُرف في الأشعار العربية ويغلب أن لا يتجاوز الاثنتين. قال الشيخ ناصيف اليازجي في شرحه نار القرى وأكثر ما ينتهي تكرار اللفظ إلى ثلاث مرات كقول الشاعر:

Table 8. 

ألا حبّذا حبّذا حبّذاحبيب تحمّلتُ فيه الأذى    

وربما تجاوز إلى الأربع كقول الآخر:

Table 9. 

فقلتُ يا سيدتينَعَمْ نَعَمْ نَعَمْ نَعَمْ    

فنبهت دبورة نفسها بأعظم أنواع التأكيد لتنشط وتهيج لبيان ما يأتي لأنه أمرٌ ذو شأن عظيم.

وَتَكَلَّمِي بِنَشِيدٍ أي بشعر يُتغنى به. إن الأغاني الشعرية أوقع في النفس من النثرية. والشعر ما كان إلا لزيادة الترغيب أو الترهيب وتحريك الهمة وتنشيط النفس وأمثال ذلك من الأغراض. ولهذا ترى الأمم المتمدنة والمتوحشة إذا أرادت الترغيب في أمر والإغراء به أتت بالكلام شعراً فالشعر هو مولّدات الطبع. ولعل دبورة رأت من نفسها فتوراً عن الشعر بعد إنشاد ما مرّ فنبهت نفسها ونشطتها لتقوى على إكمال القصيدة. وهذا هو الجزء الثاني من النشيد.

قُمْ يَا بَارَاقُ وَٱسْبِ سَبْيَكَ أي اعرض المسبيين على الشعب الذي كان مهاناً فعزّ ومظلوماً فأُنصف لتزيده بهجة بنصرة الرب على الأعداء. أرادت النبيّة بالسبي المسبيين على سبيل المبالغة وعبّرت عن أعرض بٱسبِ لتنزيلها عرض المسبيين على الشعب منزلة سبي ثانٍ على سبيل الاستعارة البليغة. ولهذا جاء في حاشية الكتاب ذي الشواهد على قولها اسبِ «أو ابرز» أي أخرج المسبيين إلى الظاهر أو أعرضهم على أبصار الشعب.

13 «حِينَئِذٍ تَسَلَّطَ ٱلشَّارِدُ عَلَى عُظَمَاءِ ٱلشَّعْبِ. ٱلرَّبُّ سَلَّطَنِي عَلَى ٱلْجَبَابِرَةِ».

مزمور 49: 14

حِينَئِذٍ تَسَلَّطَ ٱلشَّارِدُ عَلَى عُظَمَاءِ ٱلشَّعْبِ الشارد هنا الشريد أي المطرود أو الهارب من الجور والمراد به شعب إسرائيل أي تسلّط شعب إسرائيل على عظماء شعب الكنعانيين.

ٱلرَّبُّ سَلَّطَنِي عَلَى ٱلْجَبَابِرَةِ أي سلّط الرب دبورة على جبابرة الكنعانيين لأن دبورة هي التي أنهضت باراق وإسرائيل للحرب. انظر ما في حاشية الكتاب ذي الشواهد وهو «أو سلّط الشارد أو حينئذ (قلت) انزل يا شارد على العظماء. يا شعب الرب انزلوا على الجبابرة أو على عظماء الشعب. يا رب انزل الخ». فإن الكلمة الأصلية المترجمة بتسلّط يحتمل أن تُترجم بانزل.

14 «جَاءَ مِنْ أَفْرَايِمَ ٱلَّذِينَ مَقَرُّهُمْ بَيْنَ عَمَالِيقَ، وَبَعْدَكَ بِنْيَامِينُ مَعَ قَوْمِكَ. مِنْ مَاكِيرَ نَزَلَ قُضَاةٌ، وَمِنْ زَبُولُونَ مَاسِكُونَ بِقَضِيبِ ٱلْقَائِدِ».

ص 3: 27 ص 3: 13 و12: 15 عدد 32: 39 و40 ص 4: 6 و2ملوك 25: 19 و2أيام 26: 11

جَاءَ مِنْ أَفْرَايِمَ ٱلَّذِينَ مَقَرُّهُمْ بَيْنَ عَمَالِيقَ أخذت النبية تذكر هنا الأسباط الذين ساروا تحت علم باراق وتراجع نبأهم فقالت جاء من أرض أفرايم إلى الحرب الأفرايميون الذين كانوا ساكنين بين العمالقة. فإن أفرايم كان ساكناً في الأرض التي كانت حصن الإسرائيليين من عماليق وغيرهم (انظر ص 3: 13 و27 و12: 15 والتفسير). والعمالقة شعب قويٌّ قديم (تكوين 14: 7).

وَبَعْدَكَ بِنْيَامِينُ مَعَ قَوْمِكَ أي وجاء بعد أفرايم بنيامين واختلط برجال أفرايم وكان مقتضى الظاهر أن تقول وجاء بعده بنيامين مع قوم أفرايم ولكنها اختارت الالتفات وهو نوع من البديع. وهو الانتقال من كل التكلم والخطاب والغيبة إلى صاحبه على غير ما يقتضيه سياق الكلام افتناناً في الحديث وحمل السامع على فضل الإصغاء إليه. وكان بنيامين أصغر أولاد يعقوب وكان نصيب نسله من أرض الميعاد ما بين أفرايم ويهوذا وكان البنيامينيون أشداء البأس أقوياء البنية واشتهروا بأحكام الرمي بالمقلاع. ولا بد من أنهم أبلوا في تلك الحرب بلاء حسناً. وإذ كانوا مجاورين لأفرايم اختلطوا بهم (انظر تفسير ص 1: 21 و22). وكان هذا السبط قليل العدد حتى كادت قوته تضيع بين جيرانه فلا بد من أن يكون المحاربون مئة مع باراق قليلين ولكنهم أقوياء (انظر ص 20: 21).

مِنْ مَاكِيرَ نَزَلَ قُضَاةٌ أي من قبيلة ماكير أو نسل ماكير وهو ابن منسى (تكوين 50: 23 وعدد 32: 39 و40 و36: 1) وهؤلاء من نصف منسى الغربي فإن النصف الشرقي كان مع جاد ورأوبين. والسكوت هنا عن يهوذا مما يستحق التأمل والمظنون أنه كان هو وشمعون مشغولَين بدفع الفلسطينيين أو إنهما اهتما بوقاية أرضيهما ولم يلتفتا إلى إخوتهما في حرب باراق فآثرا أنفسهما على سائر الإسرائيليين. وأصل «قضاة» هنا في العبرانية «محققون» ولعل المراد بهم قوّاد فرق في الجيش ممن سمت مداركهم وحققوا أمور الحرب وحكموا بما ينفع وما يضرّ من أمرها وكان أحسنهم من ماكير. ورأى بعضهم أن المراد بهم علماء الشريعة أو المفتون وهو مما يحتمله الكلام.

وَمِنْ زَبُولُونَ مَاسِكُونَ بِقَضِيبِ ٱلْقَائِدِ يحتمل هذا الكلام عدة معان منها أنهم يتبعون إشارة قضيب القائد كأنهم ماسكون بها. و«القائد» هنا في العبرانية «شفر» أي الكاتب أو الحاسب و«القضيب» هنا العصا. وكان الكاتب أو الحاسب يرفع العصا فوق البهائم وكل ما يعبر تحتها يكون العاشر منه قدساً للرب (انظر لاويين 27: 32 والتفسير) ولأن الكلام هنا في الحرب فهو كاتب الجنود أو الذين يعدّهم. ورأى بعضهم ترجيح أن معناها القائد وهو الذي يقود الجنود إلى الحرب بإشارته بعصا الرياسة وتلك العصا تُعرف بعصا القوة أو السيادة فهي تشبه صولجان الملك. وهذا الذي رجّحه مترجم كتابنا المقدس حتى ترجمها بالقائد. وكُتب في الحاشية أو بعصا الكاتب (انظر لاويين 27: 32). وقولها «ماسكون بقضيب القائد» أي قابضون إياه إما كناية عن القواد أو عن إطاعة الجنود. وقولها على الاحتمال الثاني «ماسكون بعصا الكتاب» كناية عن الكتبة الذين يعدُّون الجند ويكتبون عدده. ولا يبعد أن يراد بهم الذين كانوا يأخذون بعض الغنائم للرب من البهائم. و«زبولون» هنا نسل زبولون أحد أسباط إسرائيل وأرضهم بين بحيرة طبرية وبحر الروم.

15 «وَٱلرُّؤَسَاءُ فِي يَسَّاكَرَ مَعَ دَبُورَةَ. وَكَمَا يَسَّاكَرُ هٰكَذَا بَارَاقُ. اِنْدَفَعَ إِلَى ٱلْوَادِي وَرَاءَهُ. عَلَى مَسَاقِي رَأُوبَيْنَ أَقْضِيَةُ قَلْبٍ عَظِيمَةٌ».

ص 4: 14

وَٱلرُّؤَسَاءُ فِي يَسَّاكَرَ مَعَ دَبُورَةَ أي وكان الرؤساء من يساكر الذين جاءوا للحرب مع دبورة أي مصاحبين إياها في حومة القتال وهو الأرجح أو من حزبها وناصريها وهو محتمل. وهذا من الأدلة على أن النبيّة كانت في حومة القتال تشجع رجال إسرائيل ولكن شتان بين تشجيع النساء البدويات وبين تشجيع النبيّة. فالنبيّة كانت تقول ما معناه احملوا على الأعداء واغلبوهم فإن الله سائر أمامكم واوفوا بعهودكم لملك الملوك ورب الأرباب الذي وعدكم بالنصر والله لا يخلف الميعاد. وقول دبورة إن رؤساء يساكر كانوا معها مدح لهم على مرؤتهم وحميتهم.

وَكَمَا يَسَّاكَرُ هٰكَذَا بَارَاقُ قلبت النبيّة هنا طرفي التشبيه لزيادة المدح لأبطال يساكر ورؤساءهم وسياق الكلام يقتضي أن تقول وكان رجال يساكر كباراق في الشجاعة والإقدام فقالت ما معناه وكان باراق كيساكر فزادت مدح يساكر لأن وجه الشبه في المشبه به أقوى منه في المشبّه.

اِنْدَفَعَ إِلَى ٱلْوَادِي وَرَاءَهُ أي اندفع يساكر وراء باراق من جبل تابور (ص 4: 14) إلى الوادي أي السهل الذي فيه مشاة الأعداء وفرسانهم ومركباتهم غير خائف من مركبات الحديد.

عَلَى مَسَاقِي رَأُوبَيْنَ أَقْضِيَةُ قَلْبٍ عَظِيمَةٌ المساقي هنا مواضع السقي من حياض وسواقي وجداول وغيرها من الأنهار والمراد بها هنا مساقي البقر والغنم وغيرهما من البهائم الداجنة. وتُرجمت في المزمور الأول «بالمجاري» (مزمور 1: 3). وفي سفر أيوب «بالجداول» وهي الأنهار الصغيرة (أيوب 20: 17). و«الأقضية» الأحكام و«عظيمة» نعت لها. إن رأوبين خذل إخوته أي ترك مساعدتهم في الحرب. فأخذت هنا النبيّة توبخه وتهزأ به كما يتضح جلياً مما يأتي. والظاهر أن رجال رأوبين اجتمعوا على روافد نهر يبوق وأخذوا يتآمرون في الخروج للحرب مع إخوتهم فأجمعوا أن يبقوا بعد أحكام كثيرة خلاصتها أن البقاء في أرضهم والتلذذ بما لهم من الخيرات في تلك الأرض الخصبة هو الأفضل. فقالت دبورة إن تلك الأحكام «أحكام قلب عظيمة» على سبيل التهكم والتوبيح المؤلم إذ معناها إنها أحكام سافلة يُهزأ بها وتدل على دناءة أهلها وعدم مروءتهم وجبنهم. ولا تخفى شدة توبيخ امرأة شهدت حومة القتال لرجال قعدوا عن حرب أوجبها الله عليهم. فكانت عرضة للسيوف والرماح والسهام وهم قعود بين الحظائر ليطربوا أسماعهم بصفير الرعاة للقطعان (ع 16).

16 «لِمَاذَا أَقَمْتَ بَيْنَ ٱلْحَظَائِرِ لِسَمْعِ ٱلصَّفِيرِ لِلْقُطْعَانِ. لَدَى مَسَاقِي رَأُوبَيْنَ مَبَاحِثُ قَلْبٍ عَظِيمَةٌ».

تكوين 49: 14 وعدد 32: 1 و16

لِمَاذَا أَقَمْتَ بَيْنَ ٱلْحَظَائِرِ هنا التفات وهو نوع من البديع كما سبق (انظر تفسير ع 14) والخطاب لرأوبين و«الإقامة» هنا البقاء في المكان. و«الحظائر» جمع حظيرة وهي موضع للماشية يقيها البرد والريح والمطر وغير ذلك من الآثار الجوية وهي من الحظر أي المنع لأنها تمنع الأضرار عن البهائم. والاستفهام هنا للتعجب لا لطلب الفهم فكأنها تقول أتعجب يا رأوبين من إقامتك بين الحظائر وإخوتك قيام في حومة الوغى يقابلون الموت دفعاً عن شعب الرب ورغبة في الاستيلاء على ما بقي له من أرض الميعاد. وهذا التعجب يتضمن التوبيح الشديد.

لِسَمْعِ ٱلصَّفِيرِ لِلْقُطْعَانِ الصفير التصويت بالنفخ من الشفتين أو في الأصابع المشبكة عليها أو في آلة نفخ تُعرف بالصفارة يسميها بعض العامة بالصيفرة وبعضهم بالضافورة تأتيه الرعاة لدعاء البهائم إلى الشرب. قال طويس الدلّال:

Table 10. 

فلا تشرب بلا طرب لأنيرأيت الخيل تشرب بالصفير    

وقيل المراد به هنا صوت مزمار الرعاة أو نايهم وهو المعروف عند المولدين بالشبّابة وعند بعض العامة بالمنجيرة وكثيراً ما يستعملها الرعاة.

و«القطعان» جمع قطيع وهو الطائفة من الغنم وغيرها من الماشية. والمعنى أقمت يا رأوبين بين الحظائر لتسمع صفير الرعاة للقطعان بدلاً من أن تسمع صوت يوم القتال وتذهب لخوض غمرات الموت في حومة الحرب وتآزر إخوتك.

لَدَى مَسَاقِي رَأُوبَيْنَ مَبَاحِثُ قَلْبٍ عَظِيمَةٌ هذا تذييل لقولها «على مساقي رأوبين أقضية قلب عظيمة» أفادت به أنهم حكموا بالقعود عن الحرب بعد البحث المتوالي الذي هو من أدنى المباحث. ونعتها المباحث بالعظيمة تهكم ملؤه التعنيف الشديد الأليم. وكأن النبيّة كانت في نفسها من رأوبين مرارة لا توصف فكررت عبارة الذم والتهكم. وذكرت «القلب» في العبارتين بدلاً من العقل أو الفكر لأنه محل الانفعالات ولأنه كثيراً ما يعبر عن العقل المقترن بالإحساس الباطن.

17 «جِلْعَادُ فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ سَكَنَ. وَدَانُ، لِمَاذَا ٱسْتَوْطَنَ لَدَى ٱلسُّفُنِ؟ وَأَشِيرُ أَقَامَ عَلَى سَاحِلِ ٱلْبَحْرِ، وَفِي شَاطِئِهِ سَكَنَ».

يشوع 13: 25 و31 يشوع 19: 29 و31

جِلْعَادُ فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ سَكَنَ أي شعب جلعاد أو أرض جلعاد. وجلعاد حفيد منسى لأنه ابن ماكير بن منسى. ورأى بعضهم أن جلعاد هنا يُطلق على جاد كما يُطلق على نصف سبط منسى لأن المراد بجلعاد هنا شعب الأرض المعروفة بأرض جلعاد. وهذا المجاز كثير في العبرانية والعربية. ومعنى «سكن» هنا أقام براحة واطمئنان أي دون قلق. وجاء معنى هذه الكلمة كذلك في قول المرنم و«أسكن» (مزمور 55: 6 أنظر أيضاً مزمور 16: 9). أي أقام مستريحاً فلم يخرج للحرب. ولا يخفى ما في ذلك من التعبير والتوبيخ.

وَدَانُ، لِمَاذَا ٱسْتَوْطَنَ لَدَى ٱلسُّفُنِ الاستفهام هنا للتعجب والتوبيخ معاً ومعنى النبيّة أعجب لبني دان من أنهم بقوا في تجارتهم البحرية وأعمالهم العادية غير ملتفتين إلى الانتصار لإخوتهم القليليين الذين حملت عليهم جيوش الأعداء الكثيرة. فإن دان كان من الأسباط المجاورة للبحر وحدودهم تحيط بمرفإ يافا والشاطئ الجنوبي. وكانت يافا من مرافئ فلسطين القليلة التي نالها سبط دان (يشوع 19: 40 - 48 و2أيام 2: 11 - 16 وعزرا 3: 7).

وَأَشِيرُ أَقَامَ عَلَى سَاحِلِ ٱلْبَحْرِ كان أشير من أسباط إسرائيل البحرية أي المجاورة البحر (يشوع 19: 24 - 30) وحاله هنا كحال دان في خذلان إخوته والعلل متماثلة والتعجب منه والتوبيخ له مثلان.

شَاطِئِهِ (فرضه) الفرض جمع فرضة وهي من البحر محط السفن. وكانت فرضة عكاء في سهم أشير وفيه اكزيب وصور (يشوع 19: 24 - 30). والكلمة العبرانية المترجمة بالفرض هنا «مقرصيم» ومعناها قطوع وخروق وشقوق من فعل لفرص ومعناه في العبرانية والعربية واحد ففي كتب اللغة العربية «فرص الشيء يفرصه فرصاً قطعه وخرقه وشقه» فترجموها بالخلجان والفرض.

18 «زَبُولُونُ شَعْبٌ أَهَانَ نَفْسَهُ إِلَى ٱلْمَوْتِ مَعَ نَفْتَالِي عَلَى رَوَابِي ٱلْحَقْلِ».

ص 4: 10

زَبُولُونُ شَعْبٌ أَهَانَ نَفْسَهُ إِلَى ٱلْمَوْتِ المقام يقتضي أن يُقال خاطر بنفسه إلى الموت وهي في الأصل العبراني «حرف نفسه إلى الموت» فإذا كانت بمعنى حرف العربية أي صرف كان المعنى عدل بنفسه من الحياة إلى الموت وهو معنى مناسب لكن المحققين فسروا حرف العبرانية باحتقر وأهان. وإذا كان هذا هو المعنى الصحيح فيكون المراد لازم المعنى وهو عدم الاكتراث بالحياة لفرط الشجاعة. ومن الغريب أن مثل هذا المعنى لا يزال أبطال العرب يستعملونها في حوران وما جاورها عند الشروع بالنزول إلى حومة القال فيرفع الرجل سيفه بيده ويقول «أنا فلان ابن فلان لا راحم ولا مرحوم رخيص الروح أبو فلان أو أبو فلانة». وعلى هذا فمراد دبورة أن الزبولونيين شجعان رخصوا أرواحهم ولم يكترثوا بالحياة رغبة في نصر شعب الله.

مَعَ نَفْتَالِي كان رجال الحرب هذه عشرة آلاف من بني نفتالي وبني زبولون والظاهر أن الذين عرضوا أنفسهم للموت أو أهانوها فيه في الحرب أولاً هم بنو نفتالي واقتدى بهم بنو زبولون (انظر ص 4: 6).

عَلَى رَوَابِي ٱلْحَقْلِ الروابي جمع رابية وهي ما ارتفع من الأرض. والحقل الأرض التي تُزرع. ولكن الذي علمناه أن باراق صعد بالمحاربين من نفتالي وزبولون إلى جبل تابور فهل المراد أنهم خاطروا بالحياة على ربى حقل على ذلك الجبل هذا ما رآه كثيرون من المفسرين. ورأى بعهضم أن مراد النبيّة أن هؤلاء حاربوا في الأماكن التي عرّضوا بها نفوسهم للخطر إذ الواقف على رابية يهون رميه ويظهر كل الظهور للأعداء وعلى هذا يكون الحقل في السهل. ولكن الكلام شعر وفي الشعر تكثير التخيلات والاستعارات فالمرجّح أن النبيّة استعارت الربى لمواقف الخطر والحق لحومة القتال لأنها تشبه الحقل في أنها محصد الأرواح كما أن الحقل محصد الزروع.

19 «جَاءَ مُلُوكٌ. حَارَبُوا. حِينَئِذٍ حَارَبَ مُلُوكُ كَنْعَانَ فِي تَعْنَكَ عَلَى مِيَاهِ مَجِدُّو. بِضْعَ فِضَّةٍ لَمْ يَأْخُذُوا».

ص 4: 16 وع 30 ومزمور 44: 12

جَاءَ مُلُوكٌ هذا يدل على أنه كان بين يابين عدة ملوك آزروه على تلك الحرب (انظر يشوع 11: 1 - 5).

فِي تَعْنَكَ عَلَى مِيَاهِ مَجِدُّو تعنك إحدى مدن منسى وكانت ليساكر ثم صارت لمنسى ثم صارت للاويين (انظر ص 1: 27 ويشوع 12: 21 و17: 11 و21: 25) وهي قريبة من مجدّو. ومجدّو مدينة لمنسى ضمن تخوم يساكر افتتحها يشوع (يشوع 12: 21 و17: 11) ذهب الأكثرون إلى أنها لُّجون التي يمر بها أكبر فروع نهر قيشون المعروف اليوم بالمقطّع فهذا الفرع على ذلك هو مياه مجدّو.

بِضْعَ فِضَّةٍ لَمْ يَأْخُذُوا رجوا أن يأخذوا كثيراً من الغنائم والفضة فداء عن الأسرى الذين توقعوا أن يأخذوهم ثمناً لمن يبيعون منهم ولكنهم هم ذهبوا أسرى الهلاك وغنيمة السيوف والرماح والسهام. وهذه من أمثلة عواقب الظالمين.

20 «مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ حَارَبُوا. ٱلْكَوَاكِبُ مِنْ حبكها (أَفْلاَكِهَا) حَارَبَتْ سِيسَرَا».

يشوع 10: 11 ومزمور 77: 17 و18 ص 4: 15

مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ حَارَبُوا موازي هذه العبارة أو تذييلها «الكواكب من حُبكها حاربت» والمعنى عند الأكثرين أن قوّات الطبيعة بظواهرها الجوية حاربت سيسرا كأن الكواكب كانت جنوداً أسلحتها تلك القوات على سنن التخيلات الشعرية وأسند الفعل إلى تلك الظواهر مجازاً من إسناد الفعل إلى آلته كقولك فتح المفتاح الباب وذبحه السيف وطعنه الرمح وما شاكل هذا (انظر يشوع 10: 11 ومزمور 77: 17 و18). ولعل المترجم أنزل ما لا يعقل منزلة العاقل لأن ما أُسند إليه من أفعال العقلاء وله أمثال في العربية.

حبكها (أَفْلاَكِهَا) الحُبُك جمع حباك وحبيكة وهي من السماء طريقة الكوكب من مدار حقيقي أو مجازي كطُرق الثوابت التي تظهر أنها تسير فيها والسائر هو الأرض.

21 «نَهْرُ قِيشُونَ جَرَفَهُمْ. نَهْرُ وَقَائِعَ نَهْرُ قِيشُونَ. دُوسِي يَا نَفْسِي بِعِزٍّ».

ص 4: 7

نَهْرُ قِيشُونَ جَرَفَهُمْ تقدم الكلام على نهر قيشون في تفسير (ص 4: 7). والعبارة تدل على أن ذلك النهر كان حينئذ طامياً حتى جرف القتلى والأحياء فساعدت شعب الله في تلك الحرب قوّات السماء وقوّات الأرض. وعلى فيضانه العظيم أن السيول على أثر المطر تجري إليه من الجبال والربى فيستطيع بذلك أن يجرف ألوفاً من الأحياء.

نَهْرُ وَقَائِعَ نَهْرُ قِيشُونَ لأنه كان حومة القتال في فلسطين على توالي العصور كما ذكرنا (انظر تفسر ص 4: 7). وجاءت هذه العبارة في بعض التراجم «نهر قديم نهر قيشون». وفي الترجمة اليونانية «مجرى قديمات (أو عاديات) نهر قيشون». وفي الكلدانية «النهر الذي فيه حدث آيات وعجائب لإسرائيل منذ الأزمنة القديمة الخ». فكأن النيبّة أرادت أن نهر قيشون جرف الأعداء ولطالما جرف أمثالهم في الوقائع منذ العصور الخالية فلحقوا بأسلافهم الهالكين.

دُوسِي يَا نَفْسِي بِعِزٍّ وفي بعض التراجم «قد دست يا نفس الأقوياء» أي قد ظهرت ظفراً عظيماً وفي حاشية ترجمتنا ما يفيد أن اللفظ الأصلي يحتمل معنى «دوسي يا نفس الأعزاء» ومثل هذا في الفلغاتا. ونصّ العبارة العبرانية «تدركي نفسي عزّ» دوسي يا نفسي على جثث القتلى معتزة بما أوليت من النصر العظيم. وهذه الآية معترضة بين (ع 20 و22).

22 «حِينَئِذٍ ضَرَبَتْ أَعْقَابُ ٱلْخَيْلِ مِنَ ٱلسَّوْقِ، سَوْقِ أَقْوِيَائِهِ».

تكوين 49: 17

حِينَئِذٍ ضَرَبَتْ أَعْقَابُ ٱلْخَيْلِ أي حين حاربت قوّات الطبيعة مع الإسرائيليين وتمّ لهم النصر ضربت أي أسرعت أو ضربت الأرض حوافز الخيل من شدة سوق أقوياء سيسرا أو أبطاله المجربين طلباً للنجاة من الهلاك فيشير القول إلى وقوع الهول العظيم في قلوب أعداء الله حتى أهلكوا الخيل بشدة السوق لسرعة الفرار من سيوف شعب الرب ولكن «خلاص الفرس كاذب» فمن أفلتوا من فم السيف بلعهم فم قيشون. ومن يستطيع الهرب من الله.

23 «اِلْعَنُوا مِيرُوزَ قَالَ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ. اِلْعَنُوا سَاكِنِيهَا لَعْناً، لأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا لِمَعُونَةِ ٱلرَّبِّ، مَعُونَةِ ٱلرَّبِّ بَيْنَ ٱلْجَبَابِرَةِ».

ص 21: 9 و10 ونحميا 3: 5 و1صموئيل 17: 47 و18: 17 و25: 28

اِلْعَنُوا مِيرُوزَ اللعن الطرد والإبعاد من الخير والإخزاء. وميروز مدينة لا أثر لها اليوم فكأن لعنة الله محتها من صفحة الوجود كما محت كثيراً من البلاد والعباد. والمرجّح أنها كانت قريبة من نهر قيشون ورأى أهلها الكنعانيين هاربين من جنود الرب ولم يتصدوا لهم بشر ولم يخرجوا لمساعدة إسرائيل.

قَالَ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ الله أمر بلعن ميروز لا إنسان. وهذا الملاك هو ملاك الرب الذي صعد من الجلجال إلى يوكيم ووبخ الإسرائيليين على معاصيهم (انظر ص 2: 1) وقال الربانيون إن هذا الملاك هو ملاك العهد (خروج 14: 19 و23: 20).

اِلْعَنُوا سَاكِنِيهَا لَعْناً هذا تذييل لقوله العنوا من ميروز فهو تأكيد وبيان إنه ذكر ميروز المحل وأراد الحالين به من باب المجاز المرسل أو بيان أن المراد الأمر يلعن المكان والسكان. وأكد اللعن هنا بقوله «لعناً» وهو أوضح إعلان لغضب الله على خاذلي شعبه.

لأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا لِمَعُونَةِ ٱلرَّبِّ أي لمعونة شعب الرب لأن الله يحسب المعونة لشعبه معونة له وإن كان غنياً عن كل خلقه لأن المراد أنه يجزي من يحسن إلى شعبه كأنه أحسن إليه. والدليل على ذلك العقل والواقع فإنه استأصل الأعداء بلا معونة أهل ميروز وغلب الأقوياء بالضعفاء وقائدهم الذي لم يجسر للخروج للحرب إلا بأن سارت معه المرأة النبيّة.

بَيْنَ ٱلْجَبَابِرَةِ ترجمها بعضهم بالشجعان. والجبابرة على ما في كتب اللغة العربية الذين يقتلون على الغضب ويقاتلون بغير حق والعتاة الذين يجبرون الناس على ما يريدونه وعلى هذا فهم جنود الأعداء. و«بين» متعلقة بحال من الرب أي من شعبه. فعلَة لعن أهل ميروز أمران عدم تصديهم للأعداء وهم هاربون وعدم إعانتهم لجنود الرب وهم محاطون بجبابرة الأعداء. وعلى الترجمة بالأبطال أو الشجعان يحتمل أن يكونوا رجال إسرائيل أو رجال كنعان.

24 «تُبَارَكُ عَلَى ٱلنِّسَاءِ يَاعِيلُ ٱمْرَأَةُ حَابِرَ ٱلْقِينِيِّ. عَلَى ٱلنِّسَاءِ فِي ٱلْخِيَامِ تُبَارَكُ».

ص 4: 17 لوقا 1: 28

تُبَارَكُ عَلَى ٱلنِّسَاءِ يَاعِيلُ (ص 4: 17) انظر ما في هذه المقابلة بين لعنة أهل ميروز ومباركة المرأة ياعيل. وقولها «على النساء» في العبرانية «من النساء» فعلى ما في المتن العربي أنها تبارَك مفضّلة على النساء وعلى ما في العبرانية تبارَك مختارة أو مخصوصة من النساء.

عَلَى ٱلنِّسَاءِ فِي ٱلْخِيَامِ تُبَارَكُ أي أن ياعيل تبارَك وتفضّل على نساء الخيام في كل قبيلة مساكنها الخيام أو بيوت البادية المنتقلة. ومعنى أنها تبارَك لها الخير السماوي والسعادة والنموّ.

25 «طَلَبَ مَاءً فَأَعْطَتْهُ لَبَناً. فِي قَصْعَةِ ٱلْعُظَمَاءِ قَدَّمَتْ زُبْدَةً».

ص 4: 19

طَلَبَ مَاءً فَأَعْطَتْهُ لَبَناً فاعل «طلب» ضمير مستتر يعود إلى سيسرا (ع 20). والقصة ذُكرت في (ص 4: 19 فارجع إليه وإلى تفسيره).

فِي قَصْعَةِ ٱلْعُظَمَاءِ قَدَّمَتْ زُبْدَةً القصعة إناء كبير يُتناول منه الطعام ويوضع أكبرها أمام العظماء على المائدة. والزبدة ما يخرج من اللبن بالمخض وهي معروفة. أتت ذلك إظهاراً لإكرامه واعتباره عظيماً.

26 «مَدَّتْ يَدَهَا إِلَى ٱلْوَتَدِ وَيَمِينَهَا إِلَى مِضْرَابِ ٱلْعَمَلَةِ، وَضَرَبَتْ سِيسَرَا وَسَحَقَتْ رَأْسَهُ، شَدَّخَتْ وَخَرَّقَتْ صُدْغَهُ».

ص 4: 21

مَدَّتْ يَدَهَا إِلَى ٱلْوَتَدِ أي مدت يدها اليسرى وأخذت بها وتد الخيمة (ص 4: 21 والتفسير).

وَيَمِينَهَا إِلَى مِضْرَابِ ٱلْعَمَلَةِ ذُكر في (ص 4: 21) أنها «جعلت الميتدة في يدها» وهي الآلة التي يُضرب بها الوتد «والمضراب» آلة الضرب للوتد وغيره. «والعملة» الصنّاع.

سَحَقَتْ رَأْسَهُ كسّرته قطعاً صغيرة حتى أشبه الشيء المسحوق.

شَدَّخَتْ أي كسرت.

27 «بَيْنَ رِجْلَيْهَا ٱنْطَرَحَ، سَقَطَ ٱضْطَجَعَ. بَيْنَ رِجْلَيْهَا ٱنْطَرَحَ سَقَطَ. حَيْثُ ٱنْطَرَحَ فَهُنَاكَ سَقَطَ مَقْتُولاً».

بَيْنَ رِجْلَيْهَا ٱنْطَرَحَ، سَقَطَ ٱضْطَجَعَ رأى بعضهم أن سيسرا كان مضطجعاً على سرير مرتفع فلما ضُرب الوتد في صدغه تحرّك فسقط بين رجليها. ورأى آخر أنه لما شعر بالألم قام للدفاع فلم يستطع فسقط إلى حيث كان وكلاهما مقبول. والذي أراه أنه كان قتيلاً وهو بين رجليها فإنها لما أتت وضربت الوتد في صدغه كانت قدماها على جانبيه. وفي الكلام هنا استعارة بديعة ومشاكلة غريبة فإنه انطرح وسقط على الأرض واضجع للراحة من شدة تعبه ونعسه فساقه ذلك إلى حتفه. وجاء كثير من مثل هذه الاستعارة في العربية. ومنها في نبإ موسى «فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً» وإنما هم التقطوه ليكون لهم ابناً فكان عدواً. والخلاصة بالإيجاز أن اضطجاع سيسرا للراحة كأنه اضطجاع للقتل وإن التقاط آل فرعون لموسى ليكون لهم ابناً كأنه التقاط ليكون لهم عدواً. وبيان المشاكلة الزائدة على الاستعارة في كلام دبورة أنها قالت «انطرح» الخ بدلاً من قُتل لوقوع القتل في صحبة الانطراح والاضطجاع. وجاءت المشاكلة كثيراً في الكلام العربي ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم التغلبي:

Table 11. 

ألا لا يجهلن أحدٌ علينافنجهل فوق جهل الجاهلينا    

أي فنعاقبه جزاء على جهله أكثر مما يقتضيه جهله من الجزاء.

28 «مِنَ ٱلْكُوَّةِ أَشْرَفَتْ وَوَلْوَلَتْ أُمُّ سِيسَرَا مِنَ ٱلشُّبَّاكِ: لِمَاذَا أَبْطَأَتْ مَرْكَبَاتُهُ عَنِ ٱلْمَجِيءِ؟ لِمَاذَا تَأَخَّرَتْ خَطَوَاتُ مَرَاكِبِهِ؟».

مِنَ ٱلْكُوَّةِ أَشْرَفَتْ وَوَلْوَلَتْ أُمُّ سِيسَرَا مِنَ ٱلشُّبَّاكِ هذا التمثيل الشعري من أبدع ما رُسم على خيال شاعر وهو لا شك مما وقع من أم سيسرا فإنها كانت تتوقع بطشه بالإسرائيليين وعوده إليها سريعاً بالسبايا والغنائم وإنها كانت عارفة بقلّة الإسرائيليين وكثرة جنود ابنها قائد الكنعانيين فكان غير ما انتظرت إذ طال الوقت وملّت الانتظار ثم قلقت بعد الصبر الطويل ورأت أنه لا بد لذلك البطوء من خطب عظيم فتمثل لها ابنها يتشحّط بدماه وهي تشرف من الكوّة والشباك على أمل أن تراه عائداً إليها والبُشر على محيّاه فما كان منها إلا أن هالتها تخيلاتها فولولت أي أعولت أو رفعت صوتها بالبكاء والصراخ فعل الأم فوق ابن لها قد قُتل أو مات. وهل تكون أحوال الأم على ابن هلك إلا كذلك.

لِمَاذَا أَبْطَأَتْ مَرْكَبَاتُهُ عَنِ ٱلْمَجِيءِ الخ أي لا سبب لذلك إلا أنه قُتل وتكسرت مركباته وهلكت جنوده وثكلت ابنها ومجدها وكل آمال حياتها ولذّاتها. ولا بدّ أن هذا القلق عرا سائر من في بيت سيسرا من النساء لكن النبيّة مثلت أحوال أمه لأنها أحبّ له وانفعالاتها لأنها أشدّ من انفعالات صاحباتها.

29 «فَأَجَابَتْهَا أَحْكَمُ سَيِّدَاتِهَا، بَلْ هِيَ رَدَّتْ جَوَاباً لِنَفْسِهَا».

فَأَجَابَتْهَا أَحْكَمُ سَيِّدَاتِهَا «لماذا أبطأت مركباته الخ» (ع 28). وأرادت «بسيداتها» أزواجه وإخواته وكرائم بيته وإن التي أجابتها منهم أعظمهن عقلاً وحكمة وإنها قالت ما قالته وهي تعتقده تسكيناً لروع أمّ سيسرا وهذا من أغرب أساليب التهكم كما يأتي.

بَلْ هِيَ رَدَّتْ جَوَاباً لِنَفْسِهَا «بل» في مثل هذا الموقع تدل على أن ما بعدها هو الأولى فتجعل ما قبلها مسكوتاً عنه لعدم أهميته بالنسبة إلى ما بعدها فكأنها أرادت أن أحكم سيدات القصر أجابتها بما لم يغرب عنها وهي الأولى بأن تطلب مسكناً لقلقها وخوفها.

30 «أَلَمْ يَجِدُوا وَيَقْسِمُوا ٱلْغَنِيمَةَ! فَتَاةً أَوْ فَتَاتَيْنِ لِكُلِّ رَجُلٍ! غَنِيمَةَ ثِيَابٍ مَصْبُوغَةٍ لِسِيسَرَا! غَنِيمَةَ ثِيَابٍ مَصْبُوغَةٍ مُطَرَّزَةٍ! ثِيَابٍ مَصْبُوغَةٍ مُطَرَّزَةِ ٱلْوَجْهَيْنِ غَنِيمَةً لِعُنُقِي!».

خروج 15: 9

أَلَمْ يَجِدُوا وَيَقْسِمُوا ٱلْغَنِيمَةَ هذا هو جواب أحكم السيدات وجواب أم سيسرا لنفسها. أي وجد سيسرا وجنوده غنيمة وافرة شُغلوا بقسمتها فأبطأوا فإن الجنود كثيرة كالغنيمة فقسمتها تشغل وقتاً طويلاً. وكل ذلك تهكم أتته النبيّة هزءاً بأعداء الله وإبهاجاً لشعبه. فإن الله كان قد أهلك سيسرا وجنوده وجعلهم غنيمة الوحوش المتفرسة والبلى.

فَتَاةً أَوْ فَتَاتَيْنِ لِكُلِّ رَجُلٍ وهذا مما زاد التهكم قوة فإنه لم يكن من الفتيات الإسرائيليات عند الإسرائيليين الذين حاربوا ما يصيب العشرة واحدة لو أمكنهم أن يسبوا. وهذا دليل واضح على جهل أم سيسرا ومن دُعيت أحكم سيداتها. على أن رئيس السابين سبت روحه من جسده فتاة هي المرأة ياعيل.

غَنِيمَةَ ثِيَابٍ مَصْبُوغَةٍ لِسِيسَرَا ما أشد هذا التهكُّم إيلاماً. مسكين سيسرا إن غنيمته ما كانت إلا حلة حمراء من دمه وتاجاً من دماغه.

غَنِيمَةَ ثِيَابٍ مَصْبُوغَةٍ مُطَرَّزَةٍ نعم إنه لبس ثوباً من تراب أرض خيمة ياعيل مطرّزاً بدم رأسه.

مُطَرَّزَةِ ٱلْوَجْهَيْنِ صدقت في غير معناها فإن دمه جرى عليه فطرّز ثوبه من وجه وجرى تحته فطرّزه من الوجه الآخر.

غَنِيمَةً لِعُنُقِي أو لأعناق أصحاب الغنيمة أو الغانمين على ما في الحاشية. وفي السبعينية «لعنقه» أي لعنق سيسرا. فعلى ما في المتن أن من تلك الأثواب المطرّزة التي غنمها سيسرا أثواب لأمه كانت تلفها على عنقها أو تلبسها لبس الوشاح. وعلى الثاني أن تلك الأثواب كانت تحملها السبايا على أعناقها. وعلى الثالث أن الغانمين يزينون بها أعناقهم. وعلى الرابع أن سيسرا يزين بها عنقه. والظاهر على هذا أنه كان لتلك الأثواب أطواق جميلة كالتي تُعرف عند العامة بالقبّات. وهذا آخر التمثيل البديع والتهكّم البليغ.

31 «هٰكَذَا يَبِيدُ جَمِيعُ أَعْدَائِكَ يَا رَبُّ. وَأَحِبَّاؤُهُ كَخُرُوجِ ٱلشَّمْسِ فِي جَبَرُوتِهَا. وَٱسْتَرَاحَتِ ٱلأَرْضُ أَرْبَعِينَ سَنَةً».

مزمور 83: 9 و10 و2صموئيل 23: 4 ومزمور 19: 5

هٰكَذَا يَبِيدُ جَمِيعُ أَعْدَائِكَ يَا رَبُّ وهذا خاتمة القصيدة وغايتها ويظهر منه أن روح النبية كانت طربة بأعمال الرب ببيانه أنه هو الإله الحق وأنه يعين المتوكلين عليه وأنه بأعماله حقّر أعداءه المتكبرين وبيّن لهم عجز آلهتهم الباطلة. وتهكمت بهم بياناً لجهلهم إنذاراً لغيرهم من معاداة شعب الله والاتكال على الآلهة الكاذبة. ووجّهت الخطاب إلى الله بياناً لاعتقادها أنه هو إلهها وأنه هو الذي نصر الإسرائيليين وأنه هو مع أوليائه على أعدائه أبداً.

وَأَحِبَّاؤُهُ هنا التفات بديعي فإن سياق الكلام يقتضي أن تقول وأحباؤك. وقُرئ في بعض النسخ «وأحباؤك» والقراءة التي في المتن هي المعوّل عليها. والالتفات كثير في كلام البلغاء (انظر تفسير ع 14). والأحباء جمع حبيب وهو المُحب والمحبوب والمراد هنا المحب على ما في بعض التراجم غير العربية.

كَخُرُوجِ ٱلشَّمْسِ فِي جَبَرُوتِهَا في العبارة حذف والمحذوف «يخرجون» أي أن محبي الله يخرجون كخروج الشمس الخ. ومعنى التشبيه هنا (1) إن أحباء الله يظهرون في مجد وبهاء يزيدان على توالي الأوقات فإن الشمس تطلع أولاً وضوءها قليل ثم يأخذ بالزيادة على توالي خروجها من تحت الأفق إلى أن يملأ ضياؤها الأرض التي كان الظلام يغطيها. و(2) إنهم يكونون رشداً ونفعاً لكل من يرونهم فإن الشمس بطلوعها تشرق وتضيء فيستطيع الناس الإبصار والسير على الطريق المقصودة والانتفاع بضوئها وحرارتها من جهة صحتهم وصحة بهائمهم ونمو نباتاتهم إلى غير ذلك مما يكاد لا يحصى. وهذا يسمى بالتمثيل وهو أسمى أنواع التشبيه. وخلاصة وجه الشبه فيه هو الحالة المؤلفة من الزيادة المتوالية في البهاء والقوة وعموم النفع (قابل بهذا ما في مزمور 19: 4 و5 و6 ودانيال 12: 3 ومتّى 13: 43).

«والجبروت» على ما في كتب اللغة العربية العظمة والجلال والكبر والقدرة والسلطة وكلها مراد هنا ما عدا الكبر إلا إذا كان معناه الشرف.

وَٱسْتَرَاحَتِ ٱلأَرْضُ اي واستراح سكانها من الحرب وشعب الله فيها من الجور والضيق والعبودية. والجملة هنا مقطوعة على جملة «قرضوا» في (ص 4: 24) وترنيمة دبورة معترضة بينهما.

فوائد

  1. يجب أن نبارك الرب ونحمده على إحسانه ونشكر له فضله في يوم الخلاص (ع 2).

  2. إن الله يمدح من يبذل نفسه في سبيل نفع الشعب. ونفع العموم أولى من نفع الفرد (ع 2).

  3. إن خدمة الرب يجب أن تكون بسرور وباختيار (ع 2).

  4. الشكر للرب. وهو الذي أنهض دبورة وباراق والرؤساء والشعب وجعل الخوف والجبانة في قلوب أعدائهم (ع 3 - 5).

  5. من أعمال الأم الصالحة حضّ أولادها على الخدمة الفاضلة والثبات والشجاعة في يوم الضيق والخطر. وهذا ما تفعله المرأة الصالحة لشعبها (ع 7).

  6. إن عبادة الأوثان تسبب الانحطاط. وهكذا في كل قرن تسبب ترك الدين وتحبب الناس بالمال والمجد العالي (ع 8).

  7. إن الراحة الجسدية كثيراً ما تُبعد الناس عن خدمة الله والوطن (ع 16 و17).

  8. إن جميع القوى الطبيعية بيد الله فيستعملها لخلاص شعبه وإبادة أعدائه (ع 20 و21).

  9. إن لجميع مقاومي الرب خيبة الآمال (ع 21 و28 - 30).

  10. من ليس مع الرب فهو عليه (ع 23).

  11. سبيل الصديق كنور مشرق يتزايد وينير إلى النهار الكامل (ع 31).

اَلأَصْحَاحُ ٱلسَّادِسُ

مضمون هذا الأصحاح عشر حوادث:

  1. ارتداد بني إسرائيل ودفع الله إياهم إلى يد مديان عقاباً لهم على ارتدادهم (ع 1 - 6).

  2. توبيخ نبيٍّ لهم (ع 7 - 10).

  3. ظهور ملاك لجدعون وأمره إياه بإنقاذ إسرائيل (ع 11 - 20).

  4. إزالة الملاك شكوك جدعون (ع 11 - 18).

  5. تقدمة جدعون للملاك وتواري الملاك عن عينيه (ع 19 - 23).

  6. بناء جدعون مذبح «يهوه شلُّوم» (24).

  7. هدم جدعون مذبح البعل الذي لأبيه وقطع السارية عنده (ع 25 - 27).

  8. طلب أهل المدينة من يوآش تسليم ابنه جدعون وفصله الخطاب بأن البعل ينتقم لنفسه (ع 28 - 32).

  9. دعوة جدعون منسى وأشير وزبولون ونفتالي إلى مؤازرته في الحرب (ع 33 - 35).

  10. آية الجزّة (ع 36 - 40).

إذلال مديان للإسرائيليين ع 1 إلى 6

1 «وَعَمِلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ ٱلشَّرَّ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ، فَدَفَعَهُمُ ٱلرَّبُّ لِيَدِ مِدْيَانَ سَبْعَ سِنِينَ».

ص 2: 19 حبقوق 3: 7

وَعَمِلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ ٱلشَّرَّ بعد أن استراحوا أربعين سنة (ص 5: 31) حملتهم الراحة على نسيان الرب فارتكبوا الشر وهو قلة ثقتهم بالله والالتفات إليه وخوفهم آلهة الأمم الباطلة (ع 10). وقد تضرّ الراحة بالدنيويين والأمن بقليلي الإيمان. وكان هذا دأب الإسرائيليين يُضايَقون فيتوبون ويرحّب لهم فيرتدون فأشبهوا نبتة في مهب الريح متقطعة (ص 2: 11 و3: 12 و4: 1). وهذا شأن أكثر الناس لا يذكرون ربهم إلا عند حلول البلاء. وعبّر عن مخالفة الله «بالشر» لأنها تجلب الشر على المخالفين. والشر هنا نقيض الخير ولهذا جاء بمعنى الإثم والرذيلة والفساد والظلم.

فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ «لأَنَّ طُرُقَ ٱلْإِنْسَانِ أَمَامَ عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ» (أمثال 5: 21). ولأنه «فِي كُلِّ مَكَانٍ عَيْنَا ٱلرَّبِّ مُرَاقِبَتَيْنِ ٱلطَّالِحِينَ وَٱلصَّالِحِينَ» (أمثال 15: 3).

فَدَفَعَهُمُ ٱلرَّبُّ تأديباً لهم وتنبيهاً على خطاياهم وعبادتهم الأصنام والشهوات لكي يرجعوا إليه ويحصلوا على رضاه ونعمه الوافرة فهو لوفرة رحمته لا يُمرض إلا للشفاء ولا يجرح إلا للبرء لا لشفاء الغيظ كآلهة الأمم القاسية الشريرة فإن «ٱلرَّبَّ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ» (مزمور 106: 1).

مِدْيَانَ أي بني مديان وهو أحد أبناء إبراهيم من قطورة (تكوين 25: 1 و2) ونسله عدة قبائل من عرب البادية شغلت السهول التي شرقي موآب وكانوا كثيري العدد والبهائم (انظر عدد 31: 1 الخ). والراجح أن المديانيين المذكورين هنا القبائل التي كانت في الجنوب الشرقي من خليج العقبة (1ملوك 11: 18). وعاش موسى بين المديانيين أربعين سنة (خروج 3: 1). وقيل في (خروج 3: 1) إن موسى ساق الغنم إلى جبل حوريب فنستنتج أن المديانيين رعوا مواشيهم شرقي خليج العقبة وغربيه أيضاً وأحياناً يُطلق الاسم مديانيون على قبائل أخرى (قضاة 8: 24). والإسرائيليون مُنعوا من مصادقتهم لأنهم ضلوا عن الإله الحق وعبدوا بعل فغور بإغواء بلعام وكان ما كان من أمر المديانية (عدد 25: 1 - 18). والعرب يسمون مديان مِدين. وكان موسى قد استأصل قسماً منهم منذ 200 سنة قبل زمان هذه الحادثة (عدد 31: 1 - 12) لكنهم بعد مدة نشطوا وأصحلوا شؤونهم ورجعوا إلى أرضهم بعد أن هجروا وأقاموا بها ونموا وصاروا من أهل القوة والثراء فقووا على جيرانهم الإسرائيليين لضعفهم بما ارتكبوه من الآثام وعاهدوا العمالقة لينتقموا لنفوسهم من غالبيهم القدماء وأقاموا بحدود البحر الأحمر الشرقية وجعلوا عاصمتهم أرنون. وظنّ بعضهم أن البدويين في تلك الأرض بقية منهم. أما قول بعضهم إن البدويين محرّف المديانيين فخطأ أظهر من أن يبين فإن البدويين منسوبون إلى البدو وهو البرية أو الصحراء لأنهم يسكنون البرية في بيوت الشعر والجلود والخيام وينتقلون من بقعة إلى أُخرى كما هو المشاهد اليوم من عرب البادية ويسمون سكان القرى والمدن بالحضريين نسبة إلى الحضر وهو ضدّ البدو.

2 «فَٱعْتَزَّتْ يَدُ مِدْيَانَ عَلَى إِسْرَائِيلَ. بِسَبَبِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ عَمِلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لأَنْفُسِهِمِ ٱلْكُهُوفَ ٱلَّتِي فِي ٱلْجِبَالِ وَٱلْمَغَايِرَ وَٱلْحُصُونَ».

1صموئيل 13: 6 عبرانيين 11: 38

فَٱعْتَزَّتْ يَدُ مِدْيَانَ عَلَى إِسْرَائِيلَ أي لأن الرب دفع الإسرائيليين إلى يد المديانيين اعتزت يد المديانيين على الإسرائيليين فالفاء سببية. ومعنى اعتزت على إسرائيل غلبتهم وأسند الفعل إلى اليد لأنها هي التي يُحمل بها السلاح في القتال وهي الآلة الأولى للمحراب. وعلى هذا جاءت بمعنى القدرة والسلطة واستعمالها هنا مجاز مرسل من استعمال الجزء بمعنى الكل.

بِسَبَبِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ عَمِلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لأَنْفُسِهِمِ ٱلْكُهُوفَ ٱلَّتِي فِي ٱلْجِبَالِ الكهوف جمع كهف وهو المغارة. والكهوف قسمان طبيعية وصناعية فالطبيعية ما أحدثته السيول والنيران الأرضية وغيرها من الحوادث الطبيعية والصناعية ما صنعته الناس والبهائم. والظاهر من نص الآية أن الكهوف المذكورة من صنع الإسرائيليين ما لم يكن معنى العمل هنا إعداد الكهوف ملاجئ لهم مع عمل شيء فيه من توسيع أو ترتيب وأحداث بعضها ولعل هذا هو الأرجح لأن الملتجئ إذا وجد الملجأ لا يكلف نفسه عمل غيره. وكانت الكهوف ملاجئ المظلومين والمضطهدين في كل عصر (1ملوك 18: 4 و19: 9 وعبرانيين 11: 38). وقوله «في الجبال» يدل على أن الإسرائيليين هربوا من السهول (1صموئيل 13: 6) إليها بعد أن كانوا فيها أربعين سنة.

وَٱلْحُصُونَ الحصون هنا أماكن منيعة يتعسر الوصول إلى جوفها.

وكان الإسرائيليون يلجأون إلى تلك المخابئ زمن الجور والاضطهاد ويجمعون فيها بعض الغلال خوفاً من أن ينهبها المديانيون والعمالقة كما يدل عليه الكلام الآتي.

3 «وَإِذَا زَرَعَ إِسْرَائِيلُ كَانَ ٱلْمِدْيَانِيُّونَ وَٱلْعَمَالِقَةُ وَبَنُو ٱلْمَشْرِقِ يَصْعَدُونَ عَلَيْهِمْ».

ص 3: 13 تكوين 29: 1 وص 7: 12 و8: 10 و1ملوك 4: 30 وأيوب 1: 3

وَإِذَا زَرَعَ إِسْرَائِيلُ ونبت زرعهم ونما وأحصد كله أو بعضه أي حان أن يُحصد. «وإذا» متعلقة بقوله «كان» بعد هذه العبارة.

كَانَ يَصْعَد ٱلْمِدْيَانِيُّونَ أي كانوا يهجمون عليهم ويقصدون زروعهم في السهول المجاورة للجبال لأنهم تركوا السهول خوفاً من أولئك ومن حالفهم. وتقدّم الكلام على المديانيين في تفسير (ع 1).

وَٱلْعَمَالِقَةُ (انظر تفسير ص 3: 13).

وَبَنُو ٱلْمَشْرِقِ هم قبائل من عرب البادية آزروا المديانيين والعمالقة بغية السلب والسبي وهم سلالات أبناء إبراهيم من هاجر وقطورة وسلالة لوط فهم خليط من الإسماعيليين والموآبيين والعمونيين وكانوا في شرقي فلسطين وجنوبيها وأكثرهم في المشرق وذُكروا في عدة مواضع من الكتاب (انظر ص 7: 12 و8: 10 و11 وتكوين 29: 1 وأيوب 1: 3 وحزقيال 25: 4). وكانوا منتشرين من فلسطين إلى تهامة وغيرها من بلاد العرب. وكانوا كالوحوش لا يهمهم شيء كالنهب والسلب على أن قليليين منهم كانوا يخافون الله في العصور الخالية قبل هذه الحادثة كأيوب وأقربائه.

4 «وَيَنْزِلُونَ عَلَيْهِمْ وَيُتْلِفُونَ غَلَّةَ ٱلأَرْضِ إِلَى مَجِيئِكَ إِلَى غَزَّةَ، وَلاَ يَتْرُكُونَ لإِسْرَائِيلَ قُوتَ ٱلْحَيَاةِ، وَلاَ غَنَماً وَلاَ بَقَراً وَلاَ حَمِيراً».

لاويين 26: 16 وتثنية 28: 30 و33 و51 وميخا 6: 15

وَيَنْزِلُونَ عَلَيْهِمْ إلى أرض الزروع السهلية لا قصد الحرب بل قصد النهب والسلب كعادة عرب البادية إلى هذا اليوم لكن كانوا يقتلون من تصدى لدفعهم أو منعهم.

وَيُتْلِفُونَ غَلَّةَ ٱلأَرْضِ بحصد ما يحصدون وبترك جمالهم وحميرهم في الحقول.

إِلَى مَجِيئِكَ إِلَى غَزَّةَ أي من الأردن إلى غزة. والظاهر أن المديانيين وأحلافهم كانوا يدخلون أرض إسرائيل من مخاوض الأردن قرب بيت شان المعروفة اليوم ببيسان ويقصدون السهول الخصبة المجاورة الجبال وشاطئ البحر وينهبون ويسلبون إلى أن يصلوا إلى غزّة وهي الحد الأقصى لأرض إسرائيل (1ملوك 4: 24).

وَلاَ يَتْرُكُونَ لإِسْرَائِيلَ قُوتَ ٱلْحَيَاةِ أي لا يتركون لهم ما هو ضروري لحياتهم من الغلال أو ما يمسكون به الرمق. فكانوا إن مانعوهم قتلوهم سريعاً وإن تركوهم ماتوا جوعاً أو عاشوا عيشة هي بين الموت والحياة.

وَلاَ غَنَماً وَلاَ بَقَراً وَلاَ حَمِيراً لأن عرب البادية ينتفعون بهذه البهائم كثيراً كما ينتفعون بالجمال. وهذا شأنهم إلى اليوم مع أهل الزراعة حيث لا رادع لهم. فلا يبقون للإسرائيليين خبزاً ولا لبناً ولا لحماً ولا ما لا يستطيعون الحرث بدونه. فقد وقع على الإسرائيليين ما أنذورا به (انظر لاويين 26: 16 و17 و26 وتثنية 28: 33 و51).

5 «لأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْعَدُونَ بِمَوَاشِيهِمْ وَخِيَامِهِمْ وَيَجِيئُونَ كَٱلْجَرَادِ فِي ٱلْكَثْرَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ وَلِجِمَالِهِمْ عَدَدٌ، وَدَخَلُوا ٱلأَرْضَ لِيُخْرِبُوهَا».

ص 7: 12

لأَنَّهُمْ كَانُوا أي المديانيون والعمالقة وبنو المشرق (ع 4).

يَصْعَدُونَ بِمَوَاشِيهِمْ المواشي جمع ماشية وهي المقتنيات من الجمال والغنم وبعضهم أطلقها على الغنم والإبل والبقر والظاهر أن المراد بها هنا كل ما يقتنى من البهائم.

وَخِيَامِهِمْ بيوت البدو كالبيوت المعروفة عند أهل البادية اليوم والمقتنى ما يجمعه الإنسان لنفسه ومعظم مقتنى أهل البادية المواشي من الجمال والبقر والغنم.

كَٱلْجَرَادِ فِي ٱلْكَثْرَةِ ذكر وجه الشبه إذ لم يرد من التشبيه سوى الكثرة ليُري ضعف اليهود عن دفعهم أولئك الظالمين وإلا فهم كانوا كالجراد في الكثرة وفي الإتلاف كما ذُكر في الآية الرابعة. وأحياناً الجراد يحجب ضوء الشمس كأنه غيم مطبق. وفي حمص السنة 1908 غطى الجراد وجه نهر العاصي والأرضين هناك وقد ترك الأشجار عارية من الأوراق فيبس كثير منها وأخلى الأرض من الأعشاب حتى صارت المروج كالفلوات. وعمل الجراد أكثر من هذا في كل سورية السنة 1915.

وَلَيْسَ لَهُمْ وَلِجِمَالِهِمْ عَدَدٌ أي يتعسر عدهم أو يتعذر للكثرة وعرب البادية يكثرون من الجمال لأنها مراكبهم في الأسفار وهم يغتذون بألبانها ولحومها وينتفعون بأوبارها. وهي تصبر على العطش في الفلوات ومنافعها كثيرة لهم. وفلسطين لم تكن موطن الجمال فكانوا يأتون بها من المشرق بالغزو والنهب.

6 «فَذَلَّ إِسْرَائِيلُ جِدّاً مِنْ قِبَلِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ. وَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ».

ص 3: 15 وهوشع 5: 15

فَذَلَّ إِسْرَائِيلُ جِدّاً مِنْ قِبَلِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ الذل ضد العزّ أي فصاروا من العزّ إلى الذل والهوان فافتقروا وساء عيشهم ولهذا جاء في الترجمة السبعينية «فرد إسرائيل إلى الفقر». وقوله «من قِبَل المديانيين» في العبرانية «من وجه المديانيين» من أعمالهم التي يواجهونهم بها من إهانة ونهب وسلب وإتلاف.

وَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ وفي العبرانية «زعق بنو إسرائيل» أي صرخوا صراخاً عالياً دليلاً على شدة بؤسهم وهذا دأبهم عند نزول البلاء ودأب أكثر الناس (انظر ص 3: 9 و15 و4: 3).

7، 8 «7 وَكَانَ لَمَّا صَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ بِسَبَبِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ 8 أَنَّ ٱلرَّبَّ أَرْسَلَ نَبِيّاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُمْ: هٰكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ: إِنِّي قَدْ أَصْعَدْتُكُمْ مِنْ مِصْرَ وَأَخْرَجْتُكُمْ مِنْ بَيْتِ ٱلْعُبُودِيَّةِ».

نَبِيّاً لم يسمه الكتاب لكن اليهود يقولون إنه فينحاس بن العازار بن هارون.

إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ولعلهم كانوا حينئذ مجتمعين للاحتفاء ببعض الأعياد.

أَصْعَدْتُكُمْ (قابل بما في ص 2: 1 - 3 و2ملوك 17: 36 - 38).

مِنْ بَيْتِ ٱلْعُبُودِيَّةِ الإشارة هنا إلى ما في (خروج 20: 2 قابل هذا بما في مزمور 44: 1 و2).

9 «وَأَنْقَذْتُكُمْ مِنْ يَدِ ٱلْمِصْرِيِّينَ وَمِنْ يَدِ جَمِيعِ مُضَايِقِيكُمْ، وَطَرَدْتُهُمْ مِنْ أَمَامِكُمْ وَأَعْطَيْتُكُمْ أَرْضَهُمْ».

مزمور 44: 2 و3

طَرَدْتُهُمْ مِنْ أَمَامِكُمْ الخ أي سقتهم أمامكم والمعنى أن الله هو الذي دفع الأمم عن إسرائيل وملكهم الأرض لا هم (مزمور 44: 2 و3).

10 «وَقُلْتُ لَكُمْ: أَنَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُكُمْ. لاَ تَخَافُوا آلِهَةَ ٱلأَمُورِيِّينَ ٱلَّذِينَ أَنْتُمْ سَاكِنُونَ أَرْضَهُمْ. وَلَمْ تَسْمَعُوا لِصَوْتِي».

2ملوك 17: 35 و37 و38 وإرميا 10: 2

لاَ تَخَافُوا آلِهَةَ ٱلأَمُورِيِّينَ معنى الأموريين الجبليين لأنهم كانوا في الأرض الجبلية بين نهر الأردن والبحر المتوسط قبل دخول الإسرائيليين أرض كنعان لكنهم لم يكتفوا بتلك الأرض فاختاروا أخصب الأرضين في كنعان وهي الأرض التي بين نهر أرنون ونهر يبوق والأردن وكانوا أكثر الكنعانيين عداوة للإسرائيليين وأشدهم بغضاً لهم. واشتهروا بطول القامة (عاموس 2: 9). وهم أمة من الكنعانيين. وقد يُطلق اسمهم على كل الكنعانيين (يشوع 24: 15). وعلى هذا يصح أن المراد بآلهة الأموريين آلهة الكنعانيين.

وقوله «لا تخافوا» دلّ على أنهم اتقوها كما يتقي المخلوق الخالق وهذا الجهل كله وما يؤدي إلى شر العواقب. «وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ، وَأَبْدَلُوا مَجْدَ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ ٱلْإِنْسَانِ... لِذٰلِكَ أَسْلَمَهُمُ ٱللّٰهُ الخ» (رومية 1: 22 - 26). وأرسل الله إليهم نبياً وبخهم على عملهم وبيّن لهم فظاعة إثمهم ليتوبوا إلى الله ولم يبشرهم بالإنقاذ إذ لا إنقاذ بلا توبة. فكانت غاية الله من تسليمهم إلى الأعداء وإذلالهم وتوبيخهم بواسطة نبي جذبهم إليه لكي يخلصهم. وهذه العناية من مسببات الحكمة الأزلية والرحمة الأبدية ولكن كثيرون من الناس لا يعقلون ويتذمرون على الله وهو يحسن إليهم بتدبيره الأمور.

لَمْ تَسْمَعُوا لِصَوْتِي أي لم تطيعوني وتحفظوا وصاياي لتدوم لكم النعم.

11 «وَأَتَى مَلاَكُ ٱلرَّبِّ وَجَلَسَ تَحْتَ ٱلْبُطْمَةِ ٱلَّتِي فِي عَفْرَةَ ٱلَّتِي لِيُوآشَ ٱلأَبِيعَزَرِيِّ. وَٱبْنُهُ جِدْعُونُ كَانَ يَخْبِطُ حِنْطَةً فِي ٱلْمِعْصَرَةِ لِيُهَرِّبَهَا مِنَ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ».

يشوع 18: 23 يشوع 17: 2 عبرانيين 11: 32

وَأَتَى مَلاَكُ ٱلرَّبِّ ظن بعضهم أن المراد «بملاك الرب» هنا الرجل النبي الذي ذُكر في (ع 8) وهو خطأٌ فإن ما في الآية الثامنة في العبراني «إيش نبياً» أي رجلاً نبياً وما في الآية الحادية عشرة فيه «ملاك يهوه» أي ملاك الرب. نعم إن ملاك الرب ظهر بصورة بشرية كعادة الله في إعلان الملائكة للخلق وإلا ما استطاع الناس أن يروهم (انظر تكوين 18: 2 ويشوع 5: 13). وكان المسيحيون القدماء يرون أن هذا الملاك ابن الله ملاك العهد (خروج 23: 2 و23 و33: 2) ولما ظهر مذهب آريوس عدل الآباء المسيحيون عن تفسير ذلك الملاك بالمسيح خوفاً من أن ذلك يُضعف الإيمان بلاهوت المسيح. ثم رجع إليه اللاهوتيون المحدثون. وسُمي أيضاً «ملاك العهد» (ملاخي 3: 1) و«ملاك الحضرة» (إشعياء 63: 9). وأشار إلى هذا الاسم يوحنا الرسول بقوله «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا 1: 18) لأن قوله «في حضن الآب» يلزم منه أنه في حضرته. والخلاصة أن ذلك الملاك ليس بإنسان ولا بروح مخلوق لكنه ابن الله نفسه الكلمة الأزلية رب الملائكة الذي سجدت له كل ملائكة الله (عبرانيين 1: 6) ظهر يومئذ في صورة بشرية ثم ظهر في ملء الزمان إنساناً كاملاً مولوداً من امرأة تحت الناموس (غلاطية 4: 4) ومن البراهين على ذلك ما جاء في (ع 14 - 16) من أنه هو الرب «يهوه» وإنه قال لجدعون «إني أكون معك».

جَلَسَ تَحْتَ ٱلْبُطْمَةِ البطم شجر من الفصيلة السماقية يكثر في سورية وفلسطين ويعمر وقد يكثر كثيراً. وهو سبط الأوراق وثمره حب كحب الفلفل وله عناقيد كعناقيده. وكانت هذه البطمة يومئذ معهودة للجميع على جانب المذبح في عفرة.

عَفْرَةَ قرية كانت ليوآش الأبيعزري في نصيب منسى الغربي قرب شكيم المعروفة اليوم بنابلس.

لِيُوآشَ ٱلأَبِيعَزَرِيِّ نُسب إلى أبيعزر لأنه من نسله وكان رأس أسرة من ذلك النسل. وأبيعزر هو ابن جلعاد بن ماكير بن منسى (عدد 26: 30 ويشوع 17: 2). وسُمي في سفر العدد «إيعزر» وفي سفر يشوع «أبيعزر» وجاء في (1أيام 7: 18) اسم «أبيعزر» وفيه أنه ابن همولكة أخت جلعاد. ولعل همولكة سمت ابنها باسم ابن أخيها كما يكثر ذلك بين الأقرباء. فيوآش كان من سبط منسى ومسكنه بينهم.

وَٱبْنُهُ جِدْعُونُ كَانَ يَخْبِطُ حِنْطَةً فِي ٱلْمِعْصَرَةِ أي كان يضرب سنابل الحنطة بالعصا ضرباً شديداً ليخلّص الحب منها. كان هذا يأتيه الفقراء الذين لا بهائم لهم ولا أدوات للدراس وسنابلهم من أرض صغيرة يزرعونها أو سنابل يلتقطونها وراء الحاصدين والظاهر من الحديث في هذا الأصحاح أن هذه السنابل كانت بقية مما نهبه أهل البدو الكنعانيين من غلال الإسرائيليين (انظر ع 3 و4) والمعصرة المكان الذي يُداس فيه العنب لإخراج عصيره والمرجّح أن هذه المعصرة كانت في كهف أو غار أتى ذلك فيها لكي لا يراه الناهبون فيقصدونه وينهبون ما بين يديه. فانظر إلى الحال التي صار إليها الإسرائيليون من تركهم الرب. إنهم صاروا إلى جهد البلاء وهي الحال التي يؤثر فيها الموت على الحياة تنبيهاً لهم على ضلالهم ليرجعوا إلى ربهم الذي أنقذهم من أرزاء كثيرة في ما سلف من الدهر. ولكن خطأ الإسرائيليين ليس بعذر للأمم التي ظلمتهم من الكنعانيين وغيرهم كالمديانيين هنا فإن أولئك ظلموهم لا حباً لله ولا بغية تأديبهم بل طمعاً في أموالهم وبغضاً لهم والله يضربهم وضربهم أكثر مما ضرب الإسرائيليين. ومعنى جدعون مُحَطَّب وسمي أيضاً «يربَّعل» أي يقاتل بعل (ع 32). وكان شجاعاً مكرماً وتقياً متواضعاً (انظر ع 14 و15) وهو القاضي الخامس للإسرائيليين.

لِيُهَرِّبَهَا مِنَ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ خبط جدعون السنابل في الخفاء ليذهب بها خفية ويخبأها في غار أو المخابئ. وكان يهون على جدعون أن يهرب بتلك الحنطة ليحفظها من المديانيين لأنها مقدار قليل. إن ضربة الشعب لكثرة ما فيه من الأشرار تلم بالأخيار فضربة أهل سدوم خسّرت لوطاً البار وأتعبته. وضربة الله للإسرائيليين هنا عذّبت جدعون التقي وكلفته مشقات وأخطاراً كثيرة. فالأثيم يسيء إلى نفسه وإلى غيره ويغيظ الله بالإساءتين.

12 «فَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ وَقَالَ لَهُ: ٱلرَّبُّ مَعَكَ يَا جَبَّارَ ٱلْبَأْسِ!».

ص 13: 3 ولوقا 1: 11 و28 يشوع 1: 5

فَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ بهيئة إنسان فإن الملائكة كثيراً ما تحضر ولا تظهر لأنهم أرواح لا تدركهم الأبصار إلا يلبسهم صورة مرئية (انظر عدد 22: 31 و2صموئيل 24: 17 و2ملوك 6: 17).

ٱلرَّبُّ مَعَكَ هذه عبارة تحية لا تزال في الشرق إلى هذا اليوم. وتُرجمت العبارة في الكلدانية «كلمة الرب معك» وما في ترجمتنا على وفق الأصل العبراني «يهوه عمك» ويصح أن تكون الجملة خيرية لا دعائية والمعنى أنه هو الرب وهو معه حينئذ ليساعده ويرشده كا يظهر من جواب جدعون له (ع 13).

يَا جَبَّارَ ٱلْبَأْسِ هذا يدل على أن جدعون كان قبل هذه الحادثة مشهوراً بالشجاعة والقوة. والله كثيراً ما يختار مَن هم أهلٌ للأمر الذي يختارهم له على أنه تعالى قد يختار الضعفاء لما لا يستطيعه إلا الأقوياء لكنه يمنحهم القوة عليه. والأمر الذي اختار له جدعون وهو إنقاذ الإسرائيليين من عبودية المديانيين وظلمهم يقتضي القوة والشجاعة.

13 «فَقَالَ لَهُ جِدْعُونُ: أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، إِذَا كَانَ ٱلرَّبُّ مَعَنَا فَلِمَاذَا أَصَابَتْنَا كُلُّ هٰذِهِ، وَأَيْنَ كُلُّ عَجَائِبِهِ ٱلَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا آبَاؤُنَا قَائِلِينَ: أَلَمْ يُصْعِدْنَا ٱلرَّبُّ مِنْ مِصْرَ؟ وَٱلآنَ قَدْ رَفَضَنَا ٱلرَّبُّ وَجَعَلَنَا فِي كَفِّ مِدْيَانَ».

مزمور 89: 49 وإشعياء 59: 1 و63: 15 مزمور 44: 1 و2أيام 15: 2

إِذَا كَانَ ٱلرَّبُّ مَعَنَا فَلِمَاذَا أَصَابَتْنَا كُلُّ هٰذِهِ أي هذه النوازل أو المصائب وهذا يُقال جواباً لخبر لا لدعاء. وجدعون لم يشك في أن الرب قادر ولكنه شك في أنه معه واعتقد أنه رفض شعبه وإلا ما ترك الإسرائيليين لما وقع عليهم من الأعداء والملاك قال هل «الرب معك» لا معكم. فقال جدعون «إذا كان معنا» لا معي لأن المصاب وقع عليه وعلى كل إسرائيل فلو كان معه لكان مع كل شعبه لأن الضربة على الجميع فالبركة على الجميع وقد حسب جدعون نفسه وسائر إسرائيل واحداً أو كأنه قال إذا كان شعبي في هذا المصاب فالرب ليس معي ولا مع شعبي لأن مصابه مصابي.

أَيْنَ كُلُّ عَجَائِبِهِ ٱلَّتِي أَخْبَرَنَا بِهَا آبَاؤُنَا لم يكذب جدعون أخبار الآباء بعجائب الرب لإسرائيل سابقاً بل نفى وقوع مثلها له ولشعبه ليثبت أن الرب رفض شعبه فكأنه قال إن الله على كل شيء قدير وقد صنع العجائب للشعب حين كان معه واليوم لم يصنع منها شيئاً فما علة ذلك إلا أنه تعالى رفض شعبه.

أَلَمْ يُصْعِدْنَا ٱلرَّبُّ مِنْ مِصْرَ أي قد أصعدنا من مصر بقوّة وأنقذنا من عبودية الظالمين لأنه كان معنا واليوم لم ينقذنا من عبودية المديانيين.

ٱلآنَ قَدْ رَفَضَنَا هذه هي الدعوى وقد أقام جدعون على إثباتها الأدلة القاطعة لأن الرب تركهم حقيقة لكي يؤدبهم وينبههم على ضلالهم ليرجعوا إليه.

وَجَعَلَنَا فِي كَفِّ مِدْيَانَ أي سلّط علينا المديانيين فصرنا ملكاً لهم يتصرفون بنا كما يتصرف الإنسان بما في يده. لم يتكلم جدعون إلا بالحق والواقع ولم يلُم الله على ذلك فالظاهر أنه كان يعلم إن آثامهم فرّقت بينهم وبين ربهم والملاك لم يكذبه بشيء لأنه صدق بكل ما قاله. نعم يُلام جدعون على أنه شك في قول ملاك العهد الرب لكن يُعتذر عنه بأنه لم يعرفه في أول الأمر وظنه واحداً من الناس كما يدل عليه ما يأتي من الآيات (انظر ع 17 - 22).

14 «فَٱلْتَفَتَ إِلَيْهِ ٱلرَّبُّ وَقَالَ: ٱذْهَبْ بِقُوَّتِكَ هٰذِهِ وَخَلِّصْ إِسْرَائِيلَ مِنْ كَفِّ مِدْيَانَ. أَمَا أَرْسَلْتُكَ؟».

1صموئيل 12: 11 وعبرانيين 11: 32 و34 يشوع 1: 9 وص 4: 6

فَٱلْتَفَتَ إِلَيْهِ ٱلرَّبُّ في الأصل العبراني «يهوه» وهو لا يطلق على غيره تعالى فدلّ ذلك على أن ذلك الملاك هو ملاك العهد وملاك الحضرة الذي لما جاء ملء الزمان ظهر في صورة بشرية دائمة أخذها من عذراء قدّسها وطهّرها وباركها. نعم قُرئ في بعض النسخ «فالتفت إليه ملاك الرب» لكن تلك قراءة لا تضر بالمعنى لأن يهوه قبل التجسد كان حين يظهر بالهيئة البشرية يُسمى «ملاك الرب» و«ملاك العهد» و«رئيس جند الرب» ولأنه دُعي «الرب» في عدة مواضع من هذا الأصحاح باتفاق كل النسخ العبرانية. ولعل التفاته إلى جدعون كان حينئذ كالتفاته بعد التجسد إلى بطرس في التأثير (لوقا 22: 61). ولكن التفاته إلى بطرس كان التفات توبيخ والتفاته إلى جدعون كان التفات تنشيط وتشجيع أزال خوفه ومنحه حياة جديدة وثقة قويّة.

ٱذْهَبْ بِقُوَّتِكَ هٰذِهِ أي اذهب لمحاربة الأعداء بقوتك الطبيعية. فشجعه بتنبيهه على أنه قوي البنية والقلب بحسب فطرته. وهذا لا يلزم منه أنه أمره بمجرد الاتكال على هذه القوة لما ذكر بأن الله معه ولما يذكر من أنه هو أرسله. ولكن قوة البنية والقلب مما يحمل على الثقة بالفوز طبعاً. على أن تلك القوة كلها منحة إلهية. فالفضل لله على كل حال (انظر تفسير ع 12).

وَخَلِّصْ إِسْرَائِيلَ مِنْ كَفِّ مِدْيَانَ هذا مبني على قول جدعون «وجعلنا في كف مديان» (ع 13) فكأنه قال له إن الذي جعل إسرائيل في كف مديان أرسلك لتخلّصه من تلك الكفّ فاذهب وخلّصه منها.

أَمَا أَرْسَلْتُكَ أي أنا الرب قد أرسلتك لتخليص إسرائيل فلا بد من أن أنصرك. ومن يستطيع أن يقول هذا عن ثقة إلا الرب. ولعل جدعون إلى هنا لم يعلم أنه الرب أو ملاك الرب وربما ظنها رجلاً إسرائيلياً من أهل الرأي والتدبير رآه قوياً شجاعاً فأخذ يهيج حميته ليقود رجال إسرائيل إلى الحرب ويخلص الشعب. فأصغى إلى مشورته وأظهر له ما في نفسه من ذلك الأمر واحترمه وأكرمه إكرام التلميذ للمعلم. وما زال كذلك حتى قال له «إني أكون معك» (ع 16) فانتبه لما كان غافلاً عنه مع شيء من الشك في نفسه. ثم لما أتى الملاك أو الرب ما أتاه (ع 21) زال الشك كله من نفس جدعون (ع 22). وكان الله والملائكة يظهرون للأنبياء والرسل بصورة بشرية ليأنسوا بهم ولا يخافوا. وقول الرب هنا لجدعون «أما أرسلتك» كقوله ليشوع «أما أمرتك» (يشوع 1: 1 و9).

15 «فَقَالَ لَهُ: أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، بِمَاذَا أُخَلِّصُ إِسْرَائِيلَ؟ هَا عَشِيرَتِي هِيَ ٱلذُّلَّى فِي مَنَسَّى، وَأَنَا ٱلأَصْغَرُ فِي بَيْتِ أَبِي».

خروج 18: 21 و25 و1صموئيل 9: 21 وميخا 5: 2

فَقَالَ لَهُ أي قال جدعون للملاك.

أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي قوله «يا سيدي» يدل على أنه إلى الآن لم يعرف إن الذي يخاطبه الرب غير ان الكلمة العبرانية «أدوناي» تحتمل أيضاً معنى «يهوه» وهو الاسم المخصص بالرب. وأما الفرق بين أدوناي بمعنى سيد وبينها بمعنى يهوه فهو بالحركات فقط.

بِمَاذَا أُخَلِّصُ إِسْرَائِيلَ أي لا واسطة لي ولا وسيلة إلى إنقاذ إسرائيل لا أهبة ولا أدوات ولا مركبات ولا جنود وأنا وقومي ضعفاء. وهذا دل على تواضع جدعون وعدم اعتداده بقوته وشجاعته وإنه مفتقر إلى عون الله الذي ترك إسرائيل. فانظر إن الله يعين الضعفاء ليخزي الأقوياء (انظر خروج 4: 1 - 12 و1صموئيل 9: 21 وإشعياء 6: 5 - 7 وإرميا 1: 56 و7).

هَا عَشِيرَتِي هِيَ ٱلذُّلَّى فِي مَنَسَّى وفي الأصل العبراني ألفي الأذلّ أو الأقلّ أو الأفقر. إذا رجعنا آخر الأصحاح الثامن عشر من سفر الخروج نرى أن الإسرائيليين كانوا أقساماً عشرات وخماسين ومئات وألوفاً وأشار إلى هذا ميخا بقوله «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا» (ميخا 5: 2) ومعلوم أن الألف يشتمل على بيوت ومجموع هذه البيوت عشيرة. فمعنى جدعون أن الألف الذي بيته منه مع أنه قليل العدد بالنسبة إلى غيره من العشائر الكبيرة فقير وذلك فلا يتوقع أنهم يثبتون تجاه المديانيين في حومة القتال.

وَأَنَا ٱلأَصْغَرُ فِي بَيْتِ أَبِي قوله «الأصغر» الخ يحتمل أنه أصغر إخوته في السن أو أصغرهم في القدر والوجاهة. ولعل قوله هذا يدل على تواضعه فلم يكن صغيراً أو حقيراً كما قال عن نفسه. ونستنتج من بقية قصته أنه كان لبيته نوع من الاعتبار والسلطة.

16 «فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ، وَسَتَضْرِبُ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ».

خروج 3: 12 ويشوع 1: 5 عدد 14: 15

فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ وهو نص على أن ذلك الملاك هو ملاك العهد الأزلي (انظر خروج 3: 12 ويشوع 1: 5). وهذا يرفع كل الموانع من سبيل جدعون لأن من كان الرب معه لا يقدر عليه الأعداء مهما كثروا وقووا ووفرت عدد الحرب عندهم فلم يبق لجدعون من حاجة إلا أن يعرف المتكلم ليكون على يقين في ما أنبأه به. وقد تبين من هنا أن جدعون كان قليل الثقة بنفسه لفرط تواضعه.

وَسَتَضْرِبُ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ أي كأنهم رجل واحد أو تقوى عليهم كما تقوى على رجل واحد. إن الرب قادر على أن يجعل لجدعون وكل من رجاله بعنايته قوة جماعة حتى يصير مجموع قواتهم عظيماً فتُعد عنده قوات المديانيين قوة رجل واحد والخلاصة أنه ينتصر عليهم بسهولة. وهذا أقوى مشجع لا جبن الجبناء فكم يشجع جدعون «جبار البأس» (ع 12 انظر عدد 14: 15).

17 «فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَٱصْنَعْ لِي عَلاَمَةً أَنَّكَ أَنْتَ تُكَلِّمُنِي».

خروج 4: 1 إلى 8 وع 36 و37 و2ملوك 20: 8 ومزمور 86: 17 وإشعياء 7: 11

فَٱصْنَعْ لِي عَلاَمَةً أَنَّكَ أَنْتَ تُكَلِّمُنِي قد جاء ما يشبه هذه العبارة في قول إبراهيم لعفرون «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ إِيَّاهُ» (تكوين 23: 13) فالمعنى في قول إبراهيم «إنك الرجل الذي يهب» وهنا «إنك أنت الذي يكلمني ذات حقه لا خيال وإنك الرب» لأن الكلام الذي قلته لا يتوقّع إلا من الرب «فاصنع لي علامة» إنك موجود حقاً وإنك أنت الرب. فجدعون فهم هنا من كلامه إنه الرب ولكن شك في ذلك لأنه رأى الذي يكلمه إنساناً وخشي أنه كان يرى صورة خيالية ويسمع كلاماً خيالياً فإن مثل هذا قد يحدث لعوارض عصبية أو دماغية فيرى الإنسان صور الخيال في الخارج ويسمع كلاماً لا متكلم به. ومن ثم أخذ في ما يوصله إلى اليقين من الامتحان. وهو ما ذُكر في (ع 18 - 21).

18 «لاَ تَبْرَحْ مِنْ هٰهُنَا حَتَّى آتِيَ إِلَيْكَ وَأُخْرِجَ تَقْدِمَتِي وَأَضَعَهَا أَمَامَكَ. فَقَالَ: إِنِّي أَبْقَى حَتَّى تَرْجِعَ».

تكوين 18: 3 و5 وص 13: 15

لاَ تَبْرَحْ مِنْ هٰهُنَا أي لا تفارق مكانك الذي تحت البطمة (ع 11 و19). خاف جدعون أن يذهب عنه قبل أن يتحقق من هو ويتيقن ما أنبأه به بالطريقة المألوفة قديماً وهي تقديم الطعام للزائر ولا تزال هذه العادة في كثير من أنحاء سورية وغيرها من أرض المشرق (انظر تكوين 18: 3 و5).

حَتَّى آتِيَ إِلَيْكَ أي أرجع إليك بعد ذهابي عنك وإن طال انتظارك شيئاً.

وَأُخْرِجَ تَقْدِمَتِي وَأَضَعَهَا أَمَامَكَ وفي العبرانية «اخرج منحتي» وهي في العربية العطية ومعناها في الآية ما يقدم للضيف أو لله وترجمها بعضهم بالقربان اتباعاً للسبعينية والفلغاتا وقال هو القربان لله بناء على فهمه من قوله «أما أرسلتك» وقوله «إني أكون معك» إنه الرب ليرى من ذلك آية تزيل كل الريب من نفسه. ويؤيد ذلك إن الذي قدمه كان مما يقرّب لله بمقتضى الشريعة من الفطير والمعزى (لاويين 3: 4 - 6 و12).

19 «فَدَخَلَ جِدْعُونُ وَعَمِلَ جَدْيَ مِعْزىً وَإِيفَةَ دَقِيقٍ فَطِيراً. أَمَّا ٱللَّحْمُ فَوَضَعَهُ فِي سَلٍّ، وَأَمَّا ٱلْمَرَقُ فَوَضَعَهُ فِي قِدْرٍ وَخَرَجَ بِهَا إِلَيْهِ إِلَى تَحْتِ ٱلْبُطْمَةِ وَقَدَّمَهَا».

تكوين 18: 6 و7 و8 خروج 16: 36

فَدَخَلَ جِدْعُونُ أي دخل مسكنه ولعله كان كهفاً قرب المعصرة.

جَدْيَ مِعْزىً وَإِيفَةَ دَقِيقٍ فَطِيراً أي طبخ جدي معزى وعجن إيفة دقيق وخبزها فطيراً أي غير مختمرة للسرعة ولا ريب في أنه خبزها على الطاجن (الصاج) ولا يزال عرب البادية وأهل بعض القرى يخبزون عليه إلى هذا اليوم. و«الإيفة» نحو ثماني أُقات أو أربعة أرطال شامية. وكان العمر أي عُشر الإيفة كافياً للرجل الواحد (خروج 16: 16) لو أراد مجرد تقدمة الطعام على سبيل الضيافة فضلاً عن أن غلة الإسرائيليين كانت قليلة (انظر ع 3 - 5). وقال بعض المفسرين هنا. كان العمر كافياً ولكن الشرقيين لا يحسبون كثرة النفقة في قرى الضيف إسرافاً. وأبان بهذا أن التقدمة كانت تقدمة الطعام للضيف لا قرباناً لله. وهذا مذهب كثيرين في تفسير المنحة في هذه الآية على ما في الأصل.

وَقَدَّمَهَا (انظر ص 13: 19) وفي نسخة الفاتيكان السبعينية «تزلّف بها» أي تقرّب بها إلى الرب أو ملاك العهد. وفي بعض النسخ «تعبّد بها». وفسّر ذلك من رأى التقدمة طعام الضيافة إنه وضع الطعام أمام ضيفه باحترام وإكرام. وقال أحد أيمة الدين أن جدعون أتى بتلك التقدمة ما يدلّ على الأمرين القرى والعبادة للامتحان فكان يرى أنه إن أكل الطعام كان إنساناً عالماً أو نبياً وإلا فهو الرب. قلنا وفي هذا ما فيه (انظر تكوين 18: 6 - 8). والذي نراه أن ذلك كان امتحاناً ليرى علامة أو آية قبول التقدمة المعهود من إنشاء نار تحرقها (انظر ع 21 ولاويين 9: 24 و1ملوك 18: 38 و1أيام 21: 26 و2أيام 7: 1) فيتيقن أنه الرب ظهر له بصورة إنسان.

20 «فَقَالَ لَهُ مَلاَكُ ٱللّٰهِ: خُذِ ٱللَّحْمَ وَٱلْفَطِيرَ وَضَعْهُمَا عَلَى تِلْكَ ٱلصَّخْرَةِ وَٱسْكُبِ ٱلْمَرَقَ. فَفَعَلَ كَذٰلِكَ».

ص 3: 19 و1ملوك 18: 33 و34

تِلْكَ ٱلصَّخْرَةِ صخرة قرب البطمة أقامها مقام المذبح (انظر ص 13: 19).

وَٱسْكُبِ ٱلْمَرَقَ على اللحم والفطير. أمره بذلك تأكيداً للآية لأن المرق كالماء يمنع من الاحتراق (انظر 1ملوك 18: 33 - 35).

21 «فَمَدَّ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ طَرَفَ ٱلْعُكَّازِ ٱلَّذِي بِيَدِهِ وَمَسَّ ٱللَّحْمَ وَٱلْفَطِيرَ، فَصَعِدَتْ نَارٌ مِنَ ٱلصَّخْرَةِ وَأَكَلَتِ ٱللَّحْمَ وَٱلْفَطِيرَ. وَذَهَبَ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ عَنْ عَيْنَيْهِ».

لاويين 9: 24 و1ملوك 18: 38 و2أيام 7: 1

فَمَدَّ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ طَرَفَ ٱلْعُكَّازِ ٱلَّذِي بِيَدِهِ يظهر من هذه العبارة أن الرب ظهر لجدعون في هيئة رجل مسافر على قدميه يحمل عصا يتوكأ عليها استعانة على السير وقد تعب واشتد عليه الحر فأوى إلى ظل البطمة وقعد فيه ليتبرد ويستريح مما عراه من التعب. وهذا ما أوقع الشك في نفس جدعون فلم يتيقن أنه الرب عندما فهم من كلامه إنه الرب فسأله الآية وأتى الامتحان بالتقدمة.

فَصَعِدَتْ نَارٌ مِنَ ٱلصَّخْرَةِ وَأَكَلَتِ ٱللَّحْمَ أي أحرقت اللحم فلم يبق له من أثر كأنها أكلته وبلعته. وهذه علامة وآية لا يستطيعها بشر فدل بذلك دلالة اليقين على أنه هو الرب فلم يبق في نفس جدعون ريب في أن ضيفه الرب كما لم يبق للتقدمة من أثر. ودل ذلك على أن الرب قبل تقدمته.

وَذَهَبَ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ عَنْ عَيْنَيْهِ أي خلع الصورة البشرية وأخفاها مع الثياب والعصا وتوارى عنه فجأة ولم ينتقل من مكانه كالناس. وهذه آية أخرى على أنه الرب أو ملاك الرب الذي هو ملاك العهد الأزلي.

22 «فَرَأَى جِدْعُونُ أَنَّهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ، فَقَالَ جِدْعُونُ: آهِ يَا سَيِّدِي ٱلرَّبَّ! لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَلاَكَ ٱلرَّبِّ وَجْهاً لِوَجْهٍ!».

ص 13: 21 تكوين 16: 13 و32: 30 وخروج 33: 20 وص 13: 22

فَرَأَى جِدْعُونُ أَنَّهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ أي فعلم جدعون علم اليقين أن الذي رآه تحت البطمة كان ملاك الرب.

آهِ يقول الإنسان آه وآهٍ وآهاً الخ عند الشكاية أو التوجع.

لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَلاَكَ ٱلرَّبِّ وَجْهاً لِوَجْهٍ اللام في «لأني» متعلقة بما في «آه» من معنى التوجع. كان اعتقاد القدماء أنه لا أحد يعاين الرب ويحيا وهذا حقٌ أثبته الرب بقوله لموسى «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ ٱلْإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ» (خروج 33: 20) ولكن رؤيته في صورة إنسانية ما كانت تميت لأنه رآه كثيرون من عبيده كذلك ولم يموتوا إلا أن الخوف من رؤيته تعالى جعل الناس يحسبون أن رؤيته تميت الإنسان لأنه خاطئ على أي صورة كانت.

23 «فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ: ٱلسَّلاَمُ لَكَ. لاَ تَخَفْ. لاَ تَمُوتُ».

دانيال 10: 19

فَقَالَ لَهُ ٱلرَّبُّ هل ظهر له ثانية وخاطبه أم أسمعه الكلام ولم يظهر له أم أوحى ذلك إلى نفسه فشعر به لم يبيّن الكتاب لنا شيئاً من ذلك والمرجّح أنه أوحى إليه ذلك بلا ظهور ولا صوت.

ٱلسَّلاَمُ لَكَ أي سلامة وحياة وأمنٌ لك.

لاَ تَخَفْ من أن تموت وإن رأيتني بصورة بشرية.

لاَ تَمُوتُ تعليل لقوله «لا تخف» (انظر تفسير ع 22) والمعنى اطمئن ولا تخف لأنك لا تموت. فالرب لم يترك جدعون في اضطرابه. ومن آلائه أنه يسكّن قلق خائفيه (انظر دانيال 10: 7 - 12 وحزقيال 1: 28 - 2: 1 ومرقس 16: 1 - 8 ولوقا 1: 12 و13 و2: 9 و10 ورؤيا 1: 17).

24 «فَبَنَى جِدْعُونُ هُنَاكَ مَذْبَحاً لِلرَّبِّ وَدَعَاهُ «يَهْوَهَ شَلُومَ». إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ لَمْ يَزَلْ فِي عَفْرَةِ ٱلأَبِيعَزَرِيِّينَ».

تكوين 22: 14 وخروج 17: 15 وإرميا 33: 16 وحزقيال 48: 35 ص 8: 32

فَبَنَى جِدْعُونُ هُنَاكَ مَذْبَحاً لِلرَّبِّ ليكون ذكرى لتلك الحادثة العجيبة لا لتقدم عليه القرابين في مذبح خيمة الشهادة وهيكل سليمان. وقد بُنيت عدة مذابح لهذا المقصد (تكوين 26: 24 و25 ويشوع 8: 30).

وَدَعَاهُ «يَهْوَهَ شَلُومَ» أي الرب سلام وهو مبنيٌ على قول الرب لجدعون «سلام لك».

إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ أي يوم كتابة هذا الآية.

فِي عَفْرَةِ ٱلأَبِيعَزَرِيِّينَ وفي العبرانية «أبي العزريين» والمراد المنسوبون إلى أبيعزر ولذلك تُرجمت منسوبة إليه (انظر ص 8: 32). و«عفرة» تقدّم الكلام عليها في تفسير (ع 11).

الأمر بهدم مذبح البعل وقطع السارية والائتمار به ع 25 إلى 32

25 «وَكَانَ فِي تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَالَ لَهُ: خُذْ ثَوْرَ ٱلْبَقَرِ ٱلَّذِي لأَبِيكَ، وَثَوْراً ثَانِياً ٱبْنَ سَبْعِ سِنِينَ، وَٱهْدِمْ مَذْبَحَ ٱلْبَعْلِ ٱلَّذِي لأَبِيكَ وَٱقْطَعِ ٱلسَّارِيَةَ ٱلَّتِي عِنْدَهُ».

خروج 34: 13 وتثنية 7: 5

تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ أي الليلة التي كانت على أثر مخاطبة ملاك الرب إياه. وذكر بناء المذبح مقدماً. وجاء في هذه الآية وما بعدها بتفصيل النبأ فهو لم يبنٍ المذبح قبل قول الرب له فيها.

خُذْ ثَوْرَ ٱلْبَقَرِ ٱلَّذِي لأَبِيكَ المظنون أن هذا الثور كان أبو جدعون يعلفه ويسمنه قرباناً عن نفسه أو عنها وعن أهل بيته فأمره بأخذه منه يتصرّف به كيف شاء. ولعله استخدمه لحمل مواد المذبح والحطب.

وَثَوْراً ثَانِياً ٱبْنَ سَبْعِ سِنِينَ وفي العبرانية «الثور الثاني» فهو ثور معهود وهو من ثيران أبيه الموقوفة للبعل. قال أحد المفسرين ولعل كونه ابن سبع سنين إشارة إلى المدة التي استعبد فيها المديانيون الإسرائيليين.

وَٱهْدِمْ مَذْبَحَ ٱلْبَعْلِ ٱلَّذِي لأَبِيكَ الظاهر أن أباه كان قد بنى للبعل مذبحاً يقدّم عليه القرابين للبعل أي الشمس وأباح للجميع أن يقربوا عليه إكراماً للبعل.

وَٱقْطَعِ ٱلسَّارِيَةَ ٱلَّتِي عِنْدَهُ السارية العمود وكانت السواري من الخشب وكانت تُنصب على محل مرتفع تُعبد عليه ويُعبد عندها البعل. وتُعرف السارية بالنصب أيضاً وكانت كثيرة عند الكنعانيين والعرب قال المهلهل وهو عدّي بن ربيعة أخو كليب وائل:

Table 12. 

كلّا وأنصاب لنا عاديةمعبودة قد قُطعت تقطيعا    

والمرجّح أنه كان على السواري صور عشتروت أو تماثيلها فكانوا يعبدون البعل وعشتروت معاً على المرتفعات (1ملوك 16: 31 - 33) وهما كما ذكرنا الشمس والقمر. وهدم مذابح الأوثان وكسر الأصنام وقطع السواري مما أمر الله به في التوراة (انظر خروج 34: 13 وتثنية 7: 5).

26 «وَٱبْنِ مَذْبَحاً لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ عَلَى رَأْسِ هٰذَا ٱلْحِصْنِ بِتَرْتِيبٍ، وَخُذِ ٱلثَّوْرَ ٱلثَّانِيَ وَأَصْعِدْ مُحْرَقَةً عَلَى حَطَبِ ٱلسَّارِيَةِ ٱلَّتِي تَقْطَعُهَا».

تكوين 22: 9 ولاويين 1: 7 و1ملوك 18: 33

وَٱبْنِ مَذْبَحاً هذا هو المذبح الذي ذُكر في (ع 24) ذكره سابقاً وأتى بتفصيل نبإه هنا.

لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ الحق بدلاً من مذبح البعل الإله الباطل.

عَلَى رَأْسِ هٰذَا ٱلْحِصْنِ أي قلعة المدينة عفرة ليراه الجميع.

بِتَرْتِيبٍ بمراعاة النسبة في أجزائه وكل ما يتعلق به (تكوين 22: 9 ولاويين 1: 7 - 9 و1ملوك 18: 33).

وَخُذِ ٱلثَّوْرَ ٱلثَّانِيَ الذي وُقف للبعل.

وَأَصْعِدْ مُحْرَقَةً عَلَى حَطَبِ ٱلسَّارِيَةِ هذا إذلال للبعل لأن الثور كان موقوفاً له على ما يرجّح ولعشتروث إلاهة القمر عند الأكثرين وإلاهة الزُهرة عند بعض الوثنيين وإلاهة الطبيعة عند آخرين فأحرق ثور البعل على خشب عشتاروث.

وهنا عدة اعتراضات (1) إن القربان لم يقدّم في شيلون. (2) إنه لم يقدّمه كاهن. (3) إنه قُدّم ليلاً (ع 27). (4) إن وقود النار المقدسة كان خشب السارية النجسة. (5) إن الثور المقدّم كان نجساً لأنه كان وقفاً للبعل على ما رجّحنا.

وندفع ذلك بأن المذبح لم يبنَ لتقديم الذبائح العبادية بل بُني تذكاراً لإحسان الله إلى جدعون. وتقديم الثور لم يكن كتقدمات خيمة الشهادة بل كان إذلالاً للبعل وعشتروث وبيان أن لا قوة لهما. هذا وإن الإسرائيليين كانوا يومئذ عبيداً وكان الكهنة يختبئون في الكهوف خوفاً من العذاب والقتل. والقيام بالفروض الموسوية مهملاً لضلال الشعب ولما هم فيه من الضيق فإن كانت تقدمة المحرقة حينئذ عبادية فللضرورة ولم يكن جواز تقدمتها من استحسان جدعون بل بإجازة الرب نفسه وشتان بين استحسان البشر واستحسان الرب. فالعمل على ذلك من النوادر والوقتيات.

27 «فَأَخَذَ جِدْعُونُ عَشَرَةَ رِجَالٍ مِنْ عَبِيدِهِ وَعَمِلَ كَمَا كَلَّمَهُ ٱلرَّبُّ. وَإِذْ كَانَ يَخَافُ مِنْ بَيْتِ أَبِيهِ وَأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ أَنْ يَعْمَلَ ذٰلِكَ نَهَاراً فَعَمِلَهُ لَيْلاً».

فَأَخَذَ جِدْعُونُ عَشَرَةَ رِجَالٍ مِنْ عَبِيدِهِ هذا يدل على أن جدعون كان مستقلاً عن أبيه وإنه كان يبذل جهده في منع أهل بيته من العبادة الوثنية ومخالطة الضاليّن.

وَإِذْ كَانَ يَخَافُ مِنْ بَيْتِ أَبِيهِ أي الأبيعزريين لأنهم كانوا يعبدون البعل وعشتاروث.

فَعَمِلَهُ لَيْلاً هدم في ذلك الليل بمساعدة عبيده العشرة مذبح البعل وقطع السارية وبنى مذبحاً للرب وأحرق عليه الثور الموقوف للبعل. ولا ندري ماذا فعل بثور أبيه الخاصّ.

وقد ترجم بعضهم الآية الخامسة والعشرين كما يأتي «خذ ثور البقر الذي لأبيك أي الثور الثاني ابن سبع سنين الخ» والمفهوم من العبارة أنه كان لأبيه ثوران وأمر الرب جدعون أن يأخذ أحدهما وهو الثور الثاني من جهة العمر لان ابن سبع سنين يوافق المقصود أكثر من الثور الآخر.

28 «فَبَكَّرَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ فِي ٱلْغَدِ وَإِذَا بِمَذْبَحِ ٱلْبَعْلِ قَدْ هُدِمَ وَٱلسَّارِيَةُ ٱلَّتِي عِنْدَهُ قَدْ قُطِعَتْ، وَٱلثَّوْرُ ٱلثَّانِي قَدْ أُصْعِدَ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ ٱلَّذِي بُنِيَ».

فَبَكَّرَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ فِي ٱلْغَدِ ليسجدوا للشمس عند طلوعها.

وَٱلسَّارِيَةُ ٱلَّتِي عِنْدَهُ قَدْ قُطِعَتْ أي والعمود الخشب المنصوب لعشتاروث في جوار مذبح البعل قد قُطع. كان هذا كافياً ليبين لهم أن إلههم لم يقدر أن يحمي مذبحه وإلاهتهم لم تستطع أن تقي نصبها. نعم إن الله كان يسمح بهدم مذبحه لكن لا لعجزٍ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً بل تأديباً لبني إسرائيل على خطاياهم وأما المديانيون والكنعانيون والضالون من الإسرائيليين فكانوا مجتهدين في عبادة الشمس والقمر فلو كانا إلهين لأبانا ألوهيتهما بوقاية المذبح والنصب تشديداً لإيمان عبدتهما. ودليل إخلاص المذكورين العبادة لهما أنهم بكروا للسجود للبعل وعشتاروت لأن نصبها قرب مذبح البعل.

وَٱلثَّوْرُ ٱلثَّانِي قَدْ أُصْعِدَ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ ٱلَّذِي بُنِيَ هذا يدل على أن ذلك الثور كان معهوداً ومشهوراً وما على اشتهاره على المرجّح إلا أنه كان موقوفاً للبعل. فإن قيل كيف عرفوا إن الثور الثاني أُصعد على المذبح الجديد. قلنا المرجّح إن مكانه ومعلفه كانا قرب المذبح وكانوا يفتقدونه كل صباح ولما وصلوا إلى المذبح افتقدوه فلم يجدوه ورأوا على المذبح الجديد حمم عظام ثور فحكموا بأنها عظام الثور الثاني. ولعله نُعت بالثاني تمييزاً له عن ثور أبي جدعون الخاص. وقد ظن بعضهم أن الثور الخاص كان للتقدمة عن أبي جدعون وحده أو عنه وعن أهل بيته.

29 «فَقَالُوا ٱلْوَاحِدُ لِصَاحِبِهِ: مَنْ عَمِلَ هٰذَا ٱلأَمْرَ؟ فَسَأَلُوا وَبَحَثُوا فَقَالُوا: إِنَّ جِدْعُونَ بْنَ يُوآشَ قَدْ فَعَلَ هٰذَا ٱلأَمْرَ».

إِنَّ جِدْعُونَ بْنَ يُوآشَ قَدْ فَعَلَ هٰذَا ٱلأَمْرَ استدلوا بأنه هو الفاعل ذلك الأمر لما اشتهر من أمره إنه كان يحرّم عبادة البعل وينهي عنها وينادي بوجوب عبادة الرب.

30 «فَقَالَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ لِيُوآشَ: أَخْرِجِ ٱبْنَكَ لِنَقْتُلَهُ، لأَنَّهُ هَدَمَ مَذْبَحَ ٱلْبَعْلِ وَقَطَعَ ٱلسَّارِيَةَ ٱلَّتِي عِنْدَهُ».

فَقَالَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ لِيُوآشَ: أَخْرِجِ ٱبْنَكَ لِنَقْتُلَهُ أي اخرج ابنك من مخبأه وسلمه إلينا لنقتله. وهذا يؤيد ما قلناه قبلاً إن القوم كانوا شديدي العبادة للبعل والاحترام لمذبحه. فانظر إلى أي حد يصل الناس من الجهل بتركهم الرب.

لأَنَّهُ هَدَمَ مَذْبَحَ ٱلْبَعْلِ وَقَطَعَ ٱلسَّارِيَةَ ٱلَّتِي عِنْدَهُ هذا هو الذنب الذي أوجبوا به الموت على جدعون مع أن شريعة الله أمرت بهدم المذابح الوثنية وكسر الأصنام وقطع السواري أو الأنصاب. قال بعضهم وأهل المدينة هنا الوثنيون الذين كثيرون منهم كنعانيون لا اليهود على ما يظن.

31 «فَقَالَ يُوآشُ لِجَمِيعِ ٱلْقَائِمِينَ عَلَيْهِ: أَنْتُمْ تُقَاتِلُونَ لِلْبَعْلِ، أَمْ أَنْتُمْ تُخَلِّصُونَهُ؟ مَنْ يُقَاتِلْ لَهُ يُقْتَلْ فِي هٰذَا ٱلصَّبَاحِ. إِنْ كَانَ إِلٰهاً فَلْيُقَاتِلْ لِنَفْسِهِ لأَنَّ مَذْبَحَهُ قَدْ هُدِمَ».

فَقَالَ يُوآشُ لِجَمِيعِ ٱلْقَائِمِينَ عَلَيْهِ الأصل يحتمل معنى القائمين لديه أو الواقفين حوله.

أَنْتُمْ تُقَاتِلُونَ لِلْبَعْلِ، أَمْ أَنْتُمْ تُخَلِّصُونَهُ الخ الكلام استفهام إنكاري أي أنتم ما من شأنكم أن تقاتلوا لإلاهكم فهو أقوى منكم فإن كان إلهاً فليقاتل عن نفسه وإن كان ليس بإلهٍ فمن الخطإ أن يُقتل مَن هدم مذبحه ويجب قتل من يقاتل للبعل وذلك سريعاً.

قلنا الظاهر من هذا أن يوآش ضعف إيمانه بالبعل بل استخفّ به إذ لم يقتصّ لنفسه. ولا ريب في أنه أعجب بشجاعة ابنه ورأى أنه مصيب بتحريم عبادة البعل. وإنه رأى من العار والحطّة لإسرائيل أن يقتل الأمم ابن كبير فيهم.

32 «فَدَعَاهُ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ «يَرُبَّعْلَ» قَائِلاً: لِيُقَاتِلْهُ ٱلْبَعْلُ لأَنَّهُ قَدْ هَدَمَ مَذْبَحَهُ».

1صموئيل 12: 11 و2صموئيل 11: 21 وإرميا 11: 13 وهوشع 9: 10

فَدَعَاهُ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ «يَرُبَّعْلَ» الخ قال بعض العلماء الأولى على مقتضى الأصل العبراني أن يُقال فدُعي في ذلك اليوم أي اشتهر بهذا الاسم «يربعل» لا إن أباه دعاه به. وأصل «يربعل» يرب بعل أي يحارب أو يقاتل البعل أو الذي بينه وبين البعل قتال. وفي (2صموئيل 11: 21) يقال «يربوشث» أي يقاتل بوشث ومعنى بوشث الخزي. وهكذا إيشبوشث في (2صموئيل 2: 8) أي أصله أشبعل والتغيير في الاسم بقصد الاحتقار للبعل.

لِيُقَاتِلْهُ ٱلْبَعْلُ هل هذا دعاء عل ابنه أم دعاء للبعل المرجّح الثاني كإنه أراد إن كان البعل إلهاً فليقاتله لانه هدم مذبحه.

الاستعداد للحرب وإعلان الله آيتين لجدعون ع 33 إلى 40

33 «وَٱجْتَمَعَ جَمِيعُ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ وَٱلْعَمَالِقَةِ وَبَنِي ٱلْمَشْرِقِ مَعاً وَعَبَرُوا وَنَزَلُوا فِي وَادِي يَزْرَعِيلَ».

ع 3 يشوع 17: 16

وَٱجْتَمَعَ جَمِيعُ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ وَٱلْعَمَالِقَةِ وَبَنِي ٱلْمَشْرِقِ لنهب غلال الإسرائيليين كعادتهم (انظر تفسير ع 3).

وَعَبَرُوا أي عبروا الأردن في المخاوض قرب بيت شان فإن هناك يمكن خوض النهر من عدة مواضع.

وَنَزَلُوا فِي وَادِي يَزْرَعِيلَ كما فعل الفلسطينيون بعد ذلك (1صموئيل 29: 1 و11). وهذا الوادي بين جلبوع وحرمون أي جبل الشيخ. والظاهر أن الوادي نُسب إلى يزرعيل وهي مدينة كانت ذات شأن وهي اليوم قرية حقيرة تُسمى زرعين.

ووادي يزرعيل أو سهل يزرعيل سهل في فلسطين يمتد من البحر المتوسط إلى الأردن ومن الكرمل وجبال السامرة إلى جبال الجليل وطوله من الشرق إلى الغرب 25 ميلاً وعرضه 12 ميلاً ويُعرف بمرج ابن عامر.

34 «وَلَبِسَ رُوحُ ٱلرَّبِّ جِدْعُونَ فَضَرَبَ بِٱلْبُوقِ، فَٱجْتَمَعَ أَبِيعَزَرُ وَرَاءَهُ».

ص 3: 10 و1ايام 12: 18 و2أيام 24: 20 وأيوب 29: 14 ولوقا 24: 49 عدد 10: 3 وص 3: 27

وَلَبِسَ رُوحُ ٱلرَّبِّ جِدْعُونَ وفي بعض الترجمات «حل على جدعون» والمفهوم هنا أنه حلّ فيه لأن جدعون كان بمنزلة كساء عليه. وفي معنى الحلول فيه قوة ليست بالحلول عليه كما لا يخفى على نبيه (انظر تفسير ص 3: 10). والمعنى أن أفعال جدعون في ما انتُدب له كانت بإرشاد الروح القدس وتحريكه له حتى كأن ذلك الروح العظيم قام مقام روحه في إحيائه وتدبيره.

فَضَرَبَ بِٱلْبُوقِ الفاء سببية أي بسبب أن روح الرب لبس جدعون ضرب بالبوق أي نفخ فيه كأنه يضربه بنفسه ليأتيه قومه. وكان النفخ بالبوق في مثل تلك الحال دعوة للاجتماع.

فَٱجْتَمَعَ الفاء سببية أيضاً إذ النفخ بالبوق كان سبب الاجتماع.

أَبِيعَزَرُ أي عشيرة أبيعزر أو رجال تلك العشيرة.

وَرَاءَهُ أي كانوا جنوداً هو يقودهم للقتال. إن الذي كان يخاف من هدم مذبح نهاراً ويخبط حنطته في المعصرة لكي لا يراه أحد ويسلبه إياها دعا قومه إلى القتال ومشى أمامهم. فهذا التغيّر العظيم في وقت قصير ليس من العادات ولا الحوادث الطبيعية إنما هو فعل روح الرب الذي لبسه.

35 «وَأَرْسَلَ رُسُلاً إِلَى جَمِيعِ مَنَسَّى، فَٱجْتَمَعَ هُوَ أَيْضاً وَرَاءَهُ، وَأَرْسَلَ رُسُلاً إِلَى أَشِيرَ وَزَبُولُونَ وَنَفْتَالِي فَصَعِدُوا لِلِقَائِهِمْ».

وَأَرْسَلَ رُسُلاً إِلَى جَمِيعِ مَنَسَّى إن إخلاص عشيرته الأبيعزرية له وتجندهم معه جعلت له الحق أن يدعو سائر سبط منسى إلى القتال.

فَٱجْتَمَعَ هُوَ أَيْضاً وَرَاءَهُ أي سبط منسى فعل فِعل عشيرة جدعون في زحفهم وراءه للحرب.

أَشِيرَ أي سبط أشير أو الأشيرين. فهؤلاء الذين عيّرتهم دبورة في قصيدتها على خذلهم إخوتهم والتهائهم بتجارتهم (ص 5: 17) دفعوا عنهم ذلك التعبير والعار الذي لحقهم بإجابتهم دعوة جدعون إلى الحرب.

وَزَبُولُونَ وَنَفْتَالِي هذان السبطان ممن امتازوا في حرب يابين ومدحتهم دبورة النبية في قصيدتها البليغة (ص 5: 18). ولم يُذكر يساكر مع أنه كان في حرب سيسرا (ص 5: 15) وكانت أرضه موقع الحرب أي في سهل يزرعيل. والأرجح أنه كان مع إخوته في القتال وإن لم يُذكر اسمه.

فَصَعِدُوا لِلِقَائِهِمْ أي صعد أشير وزبولون ونفتالي للقاء إخوتهم بني منسى ومساعدتهم والظاهر من هذا أن بني منسى نزلوا حومة القتال قبل أن يصل إليهم أولئك الأسباط الثلاثة كانوا في الشمال ومنسى في جنوب سهل يزرعيل وهو المعروف بين العامة اليوم بمرج ابن عامر وفي كتب مؤرخي العرب بمرج ابن عمير وكانت جيوش المديانيين في وادي يزرعيل وكانت فاصلة بين زبولون ونفتالي في شمالي هذا الوادي وبين منسى في الجنوب منه فلا بد من أنهم عاقوا الأسباط الثلاثة فلم يمكنهم الوصول قبل زحف منسى ليمشوا وراء جدعون كما فعل رجال عشيرته.

36 «وَقَالَ جِدْعُونُ لِلّٰهِ: إِنْ كُنْتَ تُخَلِّصُ بِيَدِي إِسْرَائِيلَ كَمَا تَكَلَّمْتَ».

إِنْ كُنْتَ تُخَلِّصُ بِيَدِي إِسْرَائِيلَ كَمَا تَكَلَّمْتَ جواب الشرط محذوف يدل على معناه ما يأتي في بقية الآيات من هذا الأصحاح. ومعناه فأظهر لي ما أطلبه وهو آيتان كما يأتي. ومثل هذا الحذف للدلالة كثير في اللغات الساميّة.

ومن العجب أنه بقي في نفس جدعون شك ولكن الإنسان ضعيف جداً فإنه لما شاهد كثرة الأعداء وعددهم وقلة رجاله بالنسبة إليهم خاف أنه مخدوع فطلب الآيتين. فالإنسان في حاجة إلى تقوية إيمانه في الشدائد والأهوال.

37 «فَهَا إِنِّي وَاضِعٌ جَزَّةَ ٱلصُّوفِ فِي ٱلْبَيْدَرِ. فَإِنْ كَانَ طَلٌّ عَلَى ٱلْجَزَّةِ وَحْدَهَا، وَجَفَافٌ عَلَى ٱلأَرْضِ كُلِّهَا، عَلِمْتُ أَنَّكَ تُخَلِّصُ بِيَدِي إِسْرَائِيلَ كَمَا تَكَلَّمْتَ».

خروج 4: 3 إلى 7

فَهَا إِنِّي وَاضِعٌ جَزَّةَ ٱلصُّوفِ فِي ٱلْبَيْدَرِ الجزّة ما يجز أو يُقطع من صوف النعجة ويجمع بعضه إلى بعض. والبيدر له معنيان (1) الموضع الذي تدرَس فيه السنابل ويخرج الحب من العصافة والتبن. (2) الكدس الموضوع للدرس وهذا هو المراد هنا إن كان المراد بالطلّ في العبارة الآتية الندى وفي بعض كتب العربية «وضع البيدر في البيدر أي الكدس في موضعه الذي يُداس فيه».

فَإِنْ كَانَ طَلٌّ عَلَى ٱلْجَزَّةِ وَحْدَهَا، وَجَفَافٌ عَلَى ٱلأَرْضِ كُلِّهَا للطلّ معانٍ منها المطر الضعيف وأخف المطر وأضعفه والندى وما فوق الندى ودون المطر. فإن كان المراد به المطر فيكون الحادث معجزة لأن من عادة المطر أن يقع على الصوف والتراب والحجارة وعلى ذلك يكون معنى الأرض على ظاهره. وإن كان المراد «بالطل» الندى «وبالأرض» التراب والحجارة كان وجود الندى على الجزّة دون ما جاورها من الأرض أمراً عادياً لا معجزة ولم يكن وجوده على الجزّة دون ما جاورها آية فيلزم حينئذ أن المراد بالأرض ما غطاها من السنابل من ذكر المكان وإرادة ما يشغله وهو كثير في الكلام فإنها من المواد الكثيرة الإشعاع للحرارة والقليلة الإيصال لها كالصوف فيكون وجود الندى على الجزّة دون الكدس أو السنابل المكدوسة معجزة لأنه خارق العادة. وقوله «الأرض كلها» المراد به كل أرض البيدر. وإن قيل إن جدعون طلب الآية على وجهين كما سيأتي فإن كان الأول طبيعياً كان الثاني على خلاف الطبيعة. فمن المحتمل على هذا الفرض أن جدعون لما طلب الآية على الوجه الأول خطر على باله إنه ربما كان على سبيل العادة فطلب نقيضه فلم يبق بوقوعه شيء من الشك في نفسه. فعلى كل فرض وتقدير حصلت العلامة المزيلة للريب.

38 «وَكَانَ كَذٰلِكَ. فَبَكَّرَ فِي ٱلْغَدِ وَضَغَطَ ٱلْجَزَّةَ وَعَصَرَ طَلاًّ مِنَ ٱلْجَزَّةِ، مِلْءَ قَصْعَةٍ مَاءً».

وَكَانَ كَذٰلِكَ أي كان الطلّ على الجزّة وحدها وجفاف على الأرض كلها (ع 37). فأجاب الله صلاة جدعون لأنه طلب الآية لتقوية إيمانه لا امتحاناً لربه.

مِلْءَ قَصْعَةٍ مَاءً أي ملء صحفة وهي ما تسع من الطعام ما يُشبع خمسة رجال فلا ريب في أن ملؤها كان لا يقل عن أربع أقق إن لم يكن أكثر من ذلك. وهذا المقدار من جزّة واحدة يدل على أن المراد «بالطل» المطر فالآية هنا معجزة لأنه لا يمكن أن تكون الأرض جافة مع ذلك وإن كان الطل يبقى على الجزة أكثر مما يبقى على الأرض على أن جدعون بكّر للمشاهدة فلم تكن الشمس قد أرسلت أشعتها إلى الأرض ولا اشتدّ حرُها عليها.

39 «فَقَالَ جِدْعُونُ لِلّٰهِ: لاَ يَحْمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ فَأَتَكَلَّمَ هٰذِهِ ٱلْمَرَّةَ فَقَطْ. أَمْتَحِنُ هٰذِهِ ٱلْمَرَّةَ فَقَطْ بِٱلْجَزَّةِ. فَلْيَكُنْ جَفَافٌ فِي ٱلْجَزَّةِ وَحْدَهَا وَعَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ لِيَكُنْ طَلٌّ».

تكوين 18: 32

لاَ يَحْمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ (انظر تكوين 18: 30 و32). قال ذلك لعلمه أن هذا الطلب دلّ على ضعفه إيمانه بالرب ولكن الرب رحيم لا يرفض المؤمن وإن كان إيمانه ضعيفاً.

فَلْيَكُنْ جَفَافٌ فِي ٱلْجَزَّةِ وَحْدَهَا وَعَلَى كُلِّ ٱلأَرْضِ لِيَكُنْ طَلٌّ هذا أمر خارق العادة سواء أكان الطلّ مطراً أم كان ندىً وسواء أكان المراد بالأرض التراب والحجارة أم ما كان عليها من السنابل بل الأولى إن كان ندى أن يكون على الجزّة دون الأرض.

40 «فَفَعَلَ ٱللّٰهُ كَذٰلِكَ فِي تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ. فَكَانَ جَفَافٌ فِي ٱلْجَزَّةِ وَحْدَهَا وَعَلَى ٱلأَرْضِ كُلِّهَا كَانَ طَلٌّ».

فَفَعَلَ ٱللّٰهُ كَذٰلِكَ أي فأجاب الرب طلبته بأن انفردت الجزّة بالجفاف وغطى الطل كل الأرض وأصل الطل في العبرانية طل بالرسم نفسه ومعناه في العبرانية كمعناه في العربية فجاء بمعنى المطر الخفيف في قول صاحب النشيد «لإَنَّ رَأْسِي ٱمْتَلَأَ مِنَ ٱلطَّلِّ» (نشيد الأناشيد 5: 2). وهو ما يسميه بعض العامة بالصحرة. وما كانوا يفرقون بين الندى والمطر الخفيف في الزمن القديم ولكن الفلاسفة أخيراً خصصوا الندى بما يجتمع من رطوبة الهواء على وجه الأرض إذا برد فيستحيل البخار المائي في ما يمسه من الهواء ماء ويجتمع قطرات على الأعشاب والأزهار وغيرهما ولهذا جاء الطل بمعنى الندى في كثير من الآيات ونُسب إليه النزول كما ينسب إلى المطر. وعلى ذلك قول المرنم «مِثْلُ نَدَى حَرْمُونَ ٱلنَّازِلِ عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ» (مزمور 133: 3) وفي العبرانية «مثل طل حرمون النازل» الخ. وفي كتب اللغة العربية «الندى المطر وما أصاب من بلل». وانظر في الآيات الماضية نظر لغوي لا نظر فيلسوف على أنك إذا راعيت فيها مصطلح الفلاسفة لم يلحق الوحي غبار منه كما ذكرناه مفصلاً.

فوائد

  1. إننا عديمو الشكر لأننا نتضرّع إلى الرب في الضيق وننساه بعد ما ينقذنا منه (ع 1).

  2. أعظم مصيبة للإنسان هي أن يتركه الرب الذي هو مصدر الحياة والبركة.

  3. يلزمنا التأديب (ع 2) والتعليم (ع 8) والإنذار (ع 10) والتوبة والاعتراف والرجوع إلى الرب ليرجع إلينا وينقذنا.

  4. الرب يدعو للخدمة من له المواهب اللازمة وإيمان وطاعة وقلب مستعد لقبول الروح.

  5. الرب يعدّنا للخدمة أولاً بجذبه نظرنا إليه لأن قوتنا منه فيعطينا كل ما نحتاج إليه. وثانياً بزيادة الثقة بنفوسنا كمدعوين ومرسلين منه (ع 12).

  6. إذا دعانا الرب لخدمةٍ فمن كل بُدٍّ يعطينا كل ما يلزمنا لتلك الخدمة (ع 16).

  7. إن طلب الآيات ليس بخطيئة إن كانت غايتنا تقوية إيماننا (ع 18 و36 - 40) فأعطى الرب آية لجدعون ولم يعط المسيح آية للفريسيين.

  8. السلام من الله (ع 24) وسلام الله يحتوي على (1) سلامة الضمير «فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِٱلْإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ ٱللّٰهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (رومية 5: 1). (2) السلام مع الناس فيكون في البيت وفي المجتمع وفي المملكة.

  9. إننا قبلما نباشر خدمة الرب يلزمنا التطهير من الكبرياء والاتكال على النفس وعلى الناس ونزع كل ما أقمناه مكان الله في قلوبنا (ع 25).

  10. إن الأصنام التي نسجد لها إن كانت بعل أو المال أو المجد العالميين لا تقدر أن تشبع النفس أو تنقذنا في يوم الضيق (ع 32).

  11. الإنسان الممتلئ من الروح القدس يجذب العالم إلى نفسه (ع 34 و35).

  12. علينا أن نجتهد في إزالة الوثنية في كل الأرض بالحرب الروحية الجسدية ولا نستخدم لذلك سوى سيف كلمة الله.

  13. الطلّ على الجزّة والجفاف على الأرض يشبه بني إسرائيل لأنهم لما كانوا شعب الله المختار كان عليهم نعمة خصوصية دون غيرهم من شعوب الأرض. والطل على الأرض والجفاف في الجزة يشبه بني إسرائيل كما هم اليوم إذ رفضهم الله وقتياً وسكب نعمته على الذين ليسوا من نسل إبراهيم.

اَلأَصْحَاحُ ٱلسَّابِعُ

مشتملات هذا الأصحاح ثمانية حوادث:

  1. الجيشان والمعسكران (ع 1).

  2. أمر جدعون بصرف الخائفين من الجنود (ع 2 و3).

  3. اختيار ثلاث مئة من عشرة الآلاف الباقين للحرب بطريق الشرب من عين حرود (ع 4 - 8).

  4. تشجيع الله لجدعون بتمكينه من سمع قصة الحلم في معسكر المديانيين (ع 9 - 14).

  5. خدعة جدعون بالمصابيح (ع 15 - 18).

  6. الهول والاضطراب والقتل في جيش المديانيين (ع 19 - 21).

  7. هرب المديانيين وتباع الإسرائيليين إياهم (ع 22 و23).

  8. أسر غراب وذئب وقتلهما (ع 24 و25).

اختيار المحاربين ع 1 إلى 8

1 «فَبَكَّرَ يَرُبَّعْلُ (أَيْ جِدْعُونُ) وَكُلُّ ٱلشَّعْبِ ٱلَّذِي مَعَهُ وَنَزَلُوا عَلَى عَيْنِ حَرُودَ. وَكَانَ جَيْشُ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ شِمَالِيَّهُمْ عِنْدَ تَلِّ مُورَةَ فِي ٱلْوَادِي».

ص 6: 32

يَرُبَّعْلُ (أَيْ جِدْعُونُ) يربّعل لقب جدعون لُقب به بسبب هدمه مذبح البعل (ص 6: 32). وكان مثل هذا كثيراً بين العبرانيين والعرب وغيرهم من أهل المشرق فكان لكثيرين إسمان أو عدة أسماء لكل واحد منهم ومن الذين سُموا بإسمين من العبرانيين إبراهيم وسارة ويعقوب ويوسف وأستير ودانيال وبولس وبطرس. وممن سُمي من العرب بعدة أسماء عديّ بن ربيعة وعُرف بالزير والمهلهل وهما لقبان له وسليمان بن حجر الشاعر ويُعرف بامرء القيس والملك الضليل وأمثالهما كثيرون.

عَلَى عَيْنِ حَرُودَ أي في الأرض المجاورة لعين حرود المرتفعة عنها وهي جبل جلبوع أي جبل جلعاد (ع 3). وكانت تلك العين قريبة من جلبوع وعلى تخم منسى، ومعنى «حرود» اضطراب أو قلق فالظاهر أنها سميت كذلك من الاضطراب الذي نشأ في معسكر المديانيين (ع 19 - 22). وسمي كثير من الناس والأماكن في الكتاب بما يُذكر بالحوادث ذات الشأن. في حضيض ذلك الجبل اليوم عين غزيرة الماء تسمى عين جالود أو جالوت وهو اسم جليات عند العرب ولعل العامة توهمت أن جدعون جالوت فنسبوها إليه أو لعلهم حرّفوا حرود فقالوا جلود ثم جالود عن غير عمد أو لخطإ السمع فنُقل عن السامع فشاع الاسم بحسب ما أوهمه سمعه أو لغير ذلك من الأسباب.

عِنْدَ تَلِّ مُورَةَ أي قرب هذا التلّ والأصح أنه جبل الدوخي شمالي وادي يزرعيل وعلوه عن سطح البحر 1815 قدماً وهو بين جبل تابور المعروف اليوم بالطور وجبل جلبوع المعروف اليوم بجبل فرقوع. ولا ريب في أن العامة حرّفت الإسمين فجعلت تابور الطور وجلبوع فرقوع حتى غلب المحرّف على أصله.

فِي ٱلْوَادِي أي وادي يزرعيل (انظر ص 6: 33 والتفسير).

2 «وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِجِدْعُونَ: إِنَّ ٱلشَّعْبَ ٱلَّذِي مَعَكَ كَثِيرٌ عَلَيَّ لأَدْفَعَ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ بِيَدِهِمْ، لِئَلاَّ يَفْتَخِرَ عَلَيَّ إِسْرَائِيلُ قَائِلاً: يَدِي خَلَّصَتْنِي.

تثنية 8: 17 وإشعياء 10: 13 و1كورنثوس 1: 29 و2كورنثوس 4: 7

وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِجِدْعُونَ: إِنَّ ٱلشَّعْبَ ٱلَّذِي مَعَكَ كَثِيرٌ لا ريب في أن هذا كان امتحاناً لإيمان جدعون شديداً فجعل الله امتحان إيمان عبده على قدر البيّنات التي طلبها. فإن رجال الحرب المديانين كانوا 135000 (ص 8: 1) ورجال جدعون لم يكونوا أكثر من 32000 (ع 3). قال الأسقف هول «لما رأى إسرائيل أنهم قليلون بالنسبة إلى الأعداء قال الرب إنكم كثيرون» أراد أن قوة الله لا تحتاج إلى الكثرة فهي تغلب الأكثرين بأقلّ من القليلين.

لِئَلاَّ يَفْتَخِرَ عَلَيَّ إِسْرَائِيلُ كان الإسرائيليون عرضة للافتخار بنفوسهم فالله كان يكثر من الأمور التي تدلهم على ضعفهم لكي ينتبهوا لوهنهم ويعرفوا أن القوة والمجد لله وحده وإن لا فضل لهم في شيء (انظر تثنية 8: 17).

3 «وَٱلآنَ نَادِ فِي آذَانِ ٱلشَّعْبِ: مَنْ كَانَ خَائِفاً وَمُرْتَعِداً فَلْيَرْجِعْ وَيَنْصَرِفْ مِنْ جَبَلِ جِلْعَادَ. فَرَجَعَ مِنَ ٱلشَّعْبِ ٱثْنَانِ وَعِشْرُونَ أَلْفاً. وَبَقِيَ عَشَرَةُ آلاَفٍ».

تثنية 20: 8

مَنْ كَانَ خَائِفاً وَمُرْتَعِداً فَلْيَرْجِعْ هذا على وفق قول الرب في سفر تثنية الاشتراع «مَنْ هُوَ ٱلرَّجُلُ ٱلْخَائِفُ وَٱلضَّعِيفُ ٱلْقَلْبِ؟ لِيَذْهَبْ وَيَرْجِعْ إِلَى بَيْتِهِ لِئَلاَّ تَذُوبَ قُلُوبُ إِخْوَتِهِ مِثْلَ قَلْبِهِ» (تثنية 20: 8). فداء الجبن يعدي والجبان الواحد في الجيش يجعل الكثيرين جبناء.

مِنْ جَبَلِ جِلْعَادَ الأرجح أنه هو الاسم القديم لجبل جلبوع ولعله نُسب إلى جلعاد بن ماكير بن منسى لأنه على تخم منسى. ولنا جبل آخر يُعرف بجبل جلعاد وهو جنوبي يبوق. وجبل جلعاد في الآية هو غربي الأردن وفي الجنوب من يزرعيل ويُعرف اليوم بجبل فرقوع. وتسمية موضعين أو مواضع باسم واحد كثير في الكتاب المقدس وغيره ولا يزال ذلك إلى هذا اليوم كالمعرة وعرمون وغيرهما.

فَرَجَعَ مِنَ ٱلشَّعْبِ ٱثْنَانِ وَعِشْرُونَ أَلْفاً فكان الخائفون أكثر من ثلثي الجيش كله فالظاهر أنه قد جبن أكثر الإسرائيليين من توالي الجور والذلّ عليهم سبع سنين وقد عرفوا أن المديانيين كثيرو العدد وهم بالنسبة إليه كالعدم على أن هؤلاء ربما رجعوا إلى الجيش للنهب حين خُدع المديانيون وقتل بعضهم بعضاً وفرّ الباقون بغية النجاة.

4 «وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِجِدْعُونَ: لَمْ يَزَلِ ٱلشَّعْبُ كَثِيراً. اِنْزِلْ بِهِمْ إِلَى ٱلْمَاءِ فَأُنَقِّيَهُمْ لَكَ هُنَاكَ. وَيَكُونُ أَنَّ ٱلَّذِي أَقُولُ لَكَ عَنْهُ: هٰذَا يَذْهَبُ مَعَكَ فَهُوَ يَذْهَبُ مَعَكَ. وَكُلُّ مَنْ أَقُولُ لَكَ عَنْهُ: هٰذَا لاَ يَذْهَبُ مَعَكَ فَهُوَ لاَ يَذْهَبُ».

وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِجِدْعُونَ: لَمْ يَزَلِ ٱلشَّعْبُ كَثِيراً أي لم يزل المحاربون من شعب إسرائيل كثيرين. وهذا امتحان ثانٍ لإيمان جدعون. وقوله حق لأنهم مع عنايته ومحاربته معهم كثيرون وإن كانوا بالنسبة إلى قوتهم البشرية ووفرة الأعداء كلا شيء. إن جدعون ومن بقي من جنوده كانوا قليلين والله كان يراهم كثيرين وأمره بتقليلهم لئلا يتوهموا أن القوة لهم.

اِنْزِلْ بِهِمْ إِلَى ٱلْمَاءِ أي إلى عين حرود (ع 1).

فَأُنَقِّيَهُمْ لَكَ أي أختار لك أحسنهم. أو أصفيهم كما يُصفى الذهب من الغواشي.

5، 6 «5 فَنَزَلَ بِٱلشَّعْبِ إِلَى ٱلْمَاءِ. وَقَالَ ٱلرَّبُّ لِجِدْعُونَ: كُلُّ مَنْ يَلَغُ بِلِسَانِهِ مِنَ ٱلْمَاءِ كَمَا يَلَغُ ٱلْكَلْبُ فَأَوْقِفْهُ وَحْدَهُ. وَكَذَا كُلُّ مَنْ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ لِلشُّرْبِ. 6 وَكَانَ عَدَدُ ٱلَّذِينَ وَلَغُوا بِيَدِهِمْ إِلَى فَمِهِمْ ثَلاَثَ مِئَةِ رَجُلٍ. وَأَمَّا بَاقِي ٱلشَّعْبِ جَمِيعاً فَجَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ لِشُرْبِ ٱلْمَاءِ».

كُلُّ مَنْ يَلَغُ بِلِسَانِهِ مِنَ ٱلْمَاءِ وَلغَ الماء أخذه باللسان كما يفعل الكلب. وكان ولوغ الرجال الوالغين أخذهم الماء بألسنتهم من أكفهم أو برميه به بأكفهم إلى ألسنتهم كما شوهد ذلك من بعض أهل البادية لا من العين رأساً كما صرّح في الآية التالية (ع 6) وهؤلاء هم الذين اختارهم الرب.

قال أحد المفسرين إن الأقرب إلى العقل إن الذين لعقوا الماء من أيديهم أعظم ضبطاً لنفوسهم ممن جثوا وانحنوا وعبّوا الماء من مجراه العين مما هو عادة الظمآن الذي لا صبر عنده على العطش. وعلى هذا يكون المختارون من رجال جدعون هم الأشد صبراً واحتمالاً وهم الشجعان. وهذا موافق لعناية الله باختياره لإنفاذ مقاصده من هم أهل للإنقاذ وإن كان غنياً عنهم.

ثَلاَثَ مِئَةِ رَجُلٍ هؤلاء هم المختارون لمحاربة المديانيين والعمالقة وبني المشرق. «الذين كانوا حَالِّينَ فِي ٱلْوَادِي كَٱلْجَرَادِ فِي ٱلْكَثْرَةِ» (ع 12). فهل كان أشد من هذا الامتحان لإيمان جدعون. ولكن إيمانه كان حينئذ وطيداً وقد أذهب الله من نفسه كل شك من الطاعة بلا سؤال ولا اعتراض ومع ذلك لم يتركه الله بلا تشجيع ولم يقطع عنه الآيات. إن الله يعلم ضعف البشر ويعين الذين له ويزيدهم ثقة وإيماناً ما داموا ملتصقين به (انظر ع 9 - 15).

بَاقِي ٱلشَّعْبِ أي الباقون بعد الثلاث المئة وهم 9700. إن الله اختار من جنود جدعون أولاً نحو الثلث ثم اختار من هذا الثلث 300. ولم يعترض جدعون بشيء لثقته بحسن عناية الرب وحكمته وقدرته وتيقنه مما رأى من الآيات أن الله لا بد من أن ينصره على الأعداء وينقذ شعبه الصارخ إليه بالتوبة والأسف من عبودية المديانيين. إن رحمة الله أكبر من معاصي الراجعين إليه عن معاصيهم.

7 «فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِجِدْعُونَ: بِٱلثَّلاَثِ مِئَةِ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِينَ وَلَغُوا أُخَلِّصُكُمْ وَأَدْفَعُ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ لِيَدِكَ. وَأَمَّا سَائِرُ ٱلشَّعْبِ فَلْيَذْهَبُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَكَانِهِ».

1صموئيل 14: 6

بِٱلثَّلاَثِ مِئَةِ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِينَ وَلَغُوا أُخَلِّصُكُمْ أي أخلّص بني إسرائيل من عبودية المديانيين الذي هم وأنصارهم كالجراد في الكثرة وهم على أحسن الأهبة والعِدد ليظهر أن النصر لله لا لجنود إسرائيل فيعرفوا أن الرب هو قوتهم ومنقذهم وأن العبادة تجب له وحده وإنه يخلّص بالقليل كما يخلص بالكثير (1صموئيل 14: 6 و2أيام 14: 11).

فَلْيَذْهَبُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَكَانِهِ أي إلى وطنه من بيت أو قرية أو مدينة أو إلى أين شاء من الأمكنة. ودعاه «مكانه» لأنه يكون محلّه متى حلّ به.

8 «فَأَخَذَ ٱلشَّعْبُ زَاداً بِيَدِهِمْ مَعَ أَبْوَاقِهِمْ. وَأَرْسَلَ سَائِرَ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ كُلَّ وَاحِدٍ إِلَى خَيْمَتِهِ، وَأَمْسَكَ ٱلثَّلاَثَ مِئَةِ ٱلرَّجُلِ. وَكَانَتْ مَحَلَّةُ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ تَحْتَهُ فِي ٱلْوَادِي».

فَأَخَذَ ٱلشَّعْبُ أي الرجال الثلاث المئة المختارون لا كل شعب إسرائيل. وهذا من باب تسمية الجزء باسم الكل وهو نوع من أنواع المجاز المرسل أو سموا شعباً لانفرادهم جماعة مستقلة وذلك على سبيل التشبيه.

زَاداً بِيَدِهِمْ أي ما تيسر لهم من الزاد قوت يومهم.

مَعَ أَبْوَاقِهِمْ فإن قلت إن تلك الأبواق ثلاث مئة لكل واحد بوق فمن أين أتوا بها في جبل جلبوع. قلنا بعضها وهو القليل كان معهم وسائرها وهو الكثير أخذوه ممن رجع عنهم وهم 31700 وهذه الأبواق ليست بكثيرة على 32000 جندي إذ يكون بوق واحد لأكثر من مئة وعلى هذا جاء في السبعينية والكلدانية والفلغاتا «وأخذوا (أي الثلاث المئة) بأيديهم». وقوله إنهم أخذوا «بيدهم» يدل على أنهم تناولوه من غيرهم ولو دلالة خفية وإضافة اليد على الجمع والمراد الأيدي تصويراً للمتعدد في صورة الواحد لاتحادهم في العمل. وجاء مثل هذا كثير في اللغات السامية وغيرها. وكان أبواق القوم من قرون الكباش. وكانت محلة المديانيين في وادي يزرعيل.

الحلم وتشجُّع جدعون به ع 9 إلى 14

9 «وَكَانَ فِي تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَالَ لَهُ: قُمِ ٱنْزِلْ إِلَى ٱلْمَحَلَّةِ، لأَنِّي قَدْ دَفَعْتُهَا إِلَى يَدِكَ».

تكوين 46: 2 و3

فِي تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ أي مساء يوم التنقية أو اختيار 300 من 10000.

قُمِ ٱنْزِلْ إِلَى ٱلْمَحَلَّةِ أي انزل أنت ومن معك إلى محلة المديانيين في الوادي وادي يزرعيل فإن الخطاب لقائد الجيش كثيراً ما يكون له ولجيشه لأنه مع الجيش كواحد. ولم ينبئ الكتاب بأن جدعون توقف عن ذلك أو خاف. ولكن لما كان ترك 31700 من الجيش مما يجعل جدعون عرضة للخوف أو تزعزع الثقة أمره الله بما يأتي في الآية التالية زيادة لأمنه واطمئنانه.

لأَنِّي قَدْ دَفَعْتُهَا إِلَى يَدِكَ أي دفعت المحلة والمراد جنودها وسائر ما فيها من الأهبة والعدة. والدفع إلى اليد كناية عن التمكين من الاستيلاء وهو تقدير الدافع ومؤازرته. والكلام هنا تعليل لأمره بالنزول إلى المحلة وقوله تعالى هذا كاف لأن ينزل إلى المحلة بكل أمن وثقة بالفوز ولكن الله يعلم أن الإنسان ضعيف مهما كان قوي الإيمان في مثل أحوال جدعون ولهذا شجعه بالآية الآتية.

10 «وَإِنْ كُنْتَ خَائِفاً مِنَ ٱلنُّزُولِ، فَٱنْزِلْ أَنْتَ وَفُورَةُ غُلاَمُكَ إِلَى ٱلْمَحَلَّة».

وَإِنْ كُنْتَ خَائِفاً «إن» هنا للشكّ بوقوع الخوف والله لا يعتريه شك لكنه جاء بها بياناً لكون حال جدعون بما كان له من الآيات البيّنات والتشجيع الكامل مما يحمل الناس على الشك في أنه يخاف من أن ينزل إلى محلة المديانيين. وفي هذا الأسلوب من الخطاب تشجيع آخر لجدعون كما لا يخفى على المتأمل.

والذي كان به جدعون عرضة للخوف أمور:

  1. إنه كان عليه بمقتضى أمر الله أن يهجم لا أن يدفع.

  2. إنه كان الهجوم في السهل حيث لا متاريس ولا موانع من سهام العدوّ.

  3. إن جيشه ثلاث مئة نفس والأعداء كالجراد في الكثرة.

  4. إن أسلحتهم دون أسلحة المديانيين وكلهم مشاة لأنهم كانوا أذلاء ضعفاء نهب المديانيون كل ما عندهم ولم يبق لهم إلا ما تمكنوا من تخبئته في الكهوف وشقوق الصخور (ص 6: 1 - 6).

  5. إنهم كانوا يجهلون الحرب بالنسبة إلى المديانيين إذ كانوا لم يأتوا حرباً ولم يتعلموا حرباً مدة سبع سنين. فهذا وغيره مما لم نذكره يجعل الإنسان عرضة للخوف ولو كان من أشد الناس إيماناً لأن الجسد ضعيف وإن كان الروح نشيطاً.

فَٱنْزِلْ أَنْتَ وَفُورَةُ غُلاَمُكَ إِلَى ٱلْمَحَلَّةِ متنكرين ومتواريين كإنكما جاسوسان كما تدل القرينة فإن نزول فورة معه يقلل خوفه ويكونان به شاهدين لسائر رجاله بما سمعاه فيتشجعون. و«فورة» اسم الغلام ومعناه غصنٌ و«الغلام» الفتى أو الذي طلع شاربه ويستعار للعبد والأجير ولذلك جاء في بعض الترجمات «أنت وفورة خادمك» والمرجّح أن المراد به هنا حامل سلاح جدعون فإنه كان من عادة القواد أن يكون لهم حامل سلاح (انظر 1أيام 10: 4 و5).

11 «وَتَسْمَعُ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ، وَبَعْدُ تَتَشَدَّدُ يَدَاكَ وَتَنْزِلُ إِلَى ٱلْمَحَلَّةِ. فَنَزَلَ هُوَ وَفُورَةُ غُلاَمُهُ إِلَى آخِرِ ٱلْمُتَجَهِّزِينَ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَحَلَّةِ».

تكوين 24: 14 وع 13 و14 و15 و1صموئيل 14: 9 و10 خروج 13: 18

وَتَسْمَعُ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ أي وتسمع ما يتكلم به بعض المديانيين أنت وغلامك فورة وهو مما يشجعك ويزيل كل خوف من نفسك ونفوس جنودك ويجعلكم شديدي الثقة بالفوز والنصر.

وَبَعْدُ أي بعد ما تسمع ما يتكلم به المديانيون أي بعضهم.

تَتَشَدَّدُ يَدَاكَ أي تتقويان بعد ضعف (عبرانيين 11: 34) وقوّة اليد كناية عن الشجاعة والعزم على إمضاء العمل لأن قويّ اليدين يسهل عليه العمل بهما.

وَتَنْزِلُ إِلَى ٱلْمَحَلَّةِ أي أنت وجنودك وإلا فهو يكون قد نزل إلى المحلة وسمع ما سمع فلا داعي إلى أن ينزل وحده أيضاً. وهذا دليل على أن أمر الله له بالنزول في الآية التاسعة كان أمراً له ولجنوده.

إِلَى آخِرِ ٱلْمُتَجَهِّزِينَ وفي العبرانية «ال قصه هخشيم» أي إلى قصا الأخمسة جمع خميس وهو الجيش. وسُمي الجيش بالخميس لأنه خمس فرق المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساقة. والمراد بالقصا هنا الساقة لانها تكون في آخر الجيش ولا يكون الجيش خميساً ما لم يكن مترتباً ومتجهزاً أي متهيأ للحرب بما تقتضيه من الأسلحة وغيرها. ولهذا جاء في بعض الترجمات إلى «آخر الكماة» أو المتسلحين. ولا شك في أنه أمره بالنزول إلى هناك خفية بدليل أنه أمره أن ينزل ليلاً لئلا يُرى (ع 9).

12 «وَكَانَ ٱلْمِدْيَانِيُّونَ وَٱلْعَمَالِقَةُ وَكُلُّ بَنِي ٱلْمَشْرِقِ حَالِّينَ فِي ٱلْوَادِي كَٱلْجَرَادِ فِي ٱلْكَثْرَةِ، وَجِمَالُهُمْ لاَ عَدَدَ لَهَا كَٱلرَّمْلِ ٱلَّذِي عَلَى شَاطِئِ ٱلْبَحْرِ فِي ٱلْكَثْرَةِ».

ص 6: 5 و33 و8: 10

وَكَانَ ٱلْمِدْيَانِيُّونَ الخ قابل هذه الآية بما في (ص 6: 5 و33 وعدد 22: 4 و5 ويشوع 11: 4 وراجع التفسير).

13 «وَجَاءَ جِدْعُونُ فَإِذَا رَجُلٌ يُخَبِّرُ صَاحِبَهُ بِحُلْمٍ وَيَقُولُ: هُوَذَا قَدْ حَلُمْتُ حُلْماً، وَإِذَا رَغِيفُ خُبْزِ شَعِيرٍ يَتَدَحْرَجُ فِي مَحَلَّةِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ وَجَاءَ إِلَى ٱلْخَيْمَةِ وَضَرَبَهَا فَسَقَطَتْ، وَقَلَبَهَا إِلَى فَوْقٍ فَسَقَطَتِ ٱلْخَيْمَةُ».

فَإِذَا رَجُلٌ يُخَبِّرُ صَاحِبَهُ بِحُلْمٍ كان الله يُعلن ما يريد إعلانه للناس أو لبعضهم بأربع وسائل الأنبياء والأحلام والأوريم والصوت وسمّى اليهود الرابع «بت قول» أي بنت قول أو بنت صوت ولكنهم لم يعرّفوه تعريفاً يجمع عليه. ورأى بعضهم أنه صدى صوت الله وسُمي ببنت الصوت لأنه يصدر عن الصوت. ورأى بعض المسيحيين أنه الصوت الذي يسمعه الإنسان ولا يُرى قائله لا لحاجز للنظر بل أنه غير مرئي. وقالوا إن الله كثيراً ما أعلن إرادته بالصوت للأنبياء كإبراهيم ومن بعده من الأنبياء.

وكان الله يعلن بعض الأمور بالأحلام سواء أأراها لنبي أو لصالح أو لشرير كما أرى يعقوب ويوسف وساقي فرعون وخبازه وسليمان ونوخذنصر وغيرهم وكان كثيراً ما يقصد بها التشجيع والإنذار والحلم في آية التفسير إنذار للمديانيين وتشجيع للإسرائيليين.

وَإِذَا رَغِيفُ خُبْزِ شَعِيرٍ يَتَدَحْرَجُ أي يدور على محيطه منحدراً من التل إلى الوادي ومعلوم أن جدعون ورجاله كانوا على تل مورة والمديانيين كانوا في الوادي فبالضرورة يحكم بأنه من موضع جدعون. وكان رغيف الشعير إشارة إلى بطش الضعيف بالقوي لأنه لو قال وإذا صخر عظيم يتدحرج وفعل ما فعل كما يأتي لدل على قوة وما كان في الحادث شيء من العجب. وقد علم المديانيون أن أولئك الإسرائيليين جدعون ورجاله على غاية الضعف بالنسبة إلى كثرتهم وعددهم وقوتهم. ومما دل عليه خبز الشعير فقر جدعون ورجاله فإن ذلك الخبز كان خبز الفقراء والبائسين وكان الإسرائيليون يومئذ في حضيض البؤس والمسكنة.

وَجَاءَ إِلَى ٱلْخَيْمَةِ وَضَرَبَهَا «اللام» أما للعهد فيكون المراد خيمة القائد وهو الأرجح وأما للجنس فتكون غير مقصورة على واحدة. والمعنى على هذا أن الرغيف ضرب كل خيمة في سبيله. ورأى يوسيفوس أن اللام للعهد الذهني وإن الخيمة المقصودة هي الخيمة الملكية أي خيمة زبح وصلمناع وقال باحتمال المعنى السابق.

فَسَقَطَتْ، وَقَلَبَهَا إِلَى فَوْقٍ أي جعل أسفلها أعلاها.

فَسَقَطَتِ ٱلْخَيْمَةُ هذه الجملة مؤكدة لما قبلها أي كرر الكلام للتأكيد.

14 «فَأَجَابَ صَاحِبُهُ: لَيْسَ ذٰلِكَ إِلاَّ سَيْفَ جِدْعُونَ بْنِ يُوآشَ رَجُلِ إِسْرَائِيلَ. قَدْ دَفَعَ ٱللّٰهُ إِلَى يَدِهِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ وَكُلَّ ٱلْجَيْشِ».

لَيْسَ ذٰلِكَ أي ذلك الرغيف أو معنى الحلم والأول هو الأرجح لموافقته النص فإن تدحرّج ذلك الرغيف كان إشارة إلى تقلّب سيف جدعون.

سَيْفَ جِدْعُونَ كنى بالسيف عن الانتصار لأنه آلة الحرب والظفر. فترى هنا أن الله أرى أحد الأعداء الحلم وقدر الآخر على تفسيره ليفهم جدعون ما يشجعه ويحمله على تيقُّن انتصاره.

قَدْ دَفَعَ ٱللّٰهُ إِلَى يَدِهِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ وَكُلَّ ٱلْجَيْشِ أي قوّاه الله على المديانيين وكل جيشهم يتصرف بهم كيف شاء كأنهم شيء في يده. كان المديانيون يعبدون البعل وعشتاروث أو الشمس والقمر ولكنه أراد بالله إله العبرانيين كأنه قال إن إله العبرانيين نصر جدعون ورجاله.

انكسار المديانين ع 15 إلى 25

15 «وَكَانَ لَمَّا سَمِعَ جِدْعُونُ خَبَرَ ٱلْحُلْمِ وَتَفْسِيرَهُ أَنَّهُ سَجَدَ وَرَجَعَ إِلَى مَحَلَّةِ إِسْرَائِيلَ وَقَالَ: قُومُوا لأَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ دَفَعَ إِلَى يَدِكُمْ جَيْشَ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ».

لَمَّا سَمِعَ جِدْعُونُ خَبَرَ ٱلْحُلْمِ وَتَفْسِيرَهُ أي قصه وبيان معناه. وتفسيره في الأصل العبراني «شبرو» أي كسره مستعار من كسر الجوزة ونحوها لإخراج لبها.

سَجَدَ احتراماً لله وعبادة له وشكراً على تشجيعه إياه بما سمعه من الحلم وتفسيره.

16 «وَقَسَمَ ٱلثَّلاَثَ مِئَةِ ٱلرَّجُلِ إِلَى ثَلاَثِ فِرَقٍ، وَجَعَلَ أَبْوَاقاً فِي أَيْدِيهِمْ كُلِّهِمْ، وَجِرَاراً فَارِغَةً وَمَصَابِيحَ فِي وَسَطِ ٱلْجِرَارِ».

قَسَمَ ٱلثَّلاَثَ مِئَةِ أي رجاله الثلاث المئة الذين بقوا معه من الاثنين والثلاثين ألفاً (ع 3 - 8) ثلاث فرق كل فرقة مئة (ع 19).

أَبْوَاقاً من قرون الكباش (انظر تفسير ع 8).

وَجِرَاراً فَارِغَةً من أين أتى بهذا الجرار كلها في ذلك المكان والجواب إن الجيش كان أول أمره 32000 ألفاً رجع منهم 31700 فهؤلاء لا يستغنون عن آنية كثيرة للماء فلما رجعوا تركوا جرارهم أو أكثرها في المعسكر.

وَمَصَابِيحَ فِي وَسَطِ ٱلْجِرَارِ الجرار في العبرانية «كديم» أي كدود جمع كدّ والكدّ في العربية ما يدق فيه كالهاون وفسره بعضهم بالبرنية وهو إناء من الخزف يشبه الجرّة ولا يزال بعض العامة يسميه بالبرنية وبعضه يسميه بالزلعة. فهذا الإناء يقي المصباح من أن تُطفئه الريح ويحجب لهبه عن الأبصار. وترجم كثيرون المصابيح بُلُهب المواد المحترقة المكسوة بالزفت كالمعروفة عند العامة بالمشاعل بناء على أن الريح لا تقوى عليها بخلاف المصابيح التي موادها المشتعلة الفتائل والزيت. ولعل هذا هو المراد باللفظة العبرانية «لفاديم» وهي التي تبقى مضيئة إذا كُسرت الجرار الموضوعة هي فيها. وهي يصح أن تسمى بالمصابيح بحسب وضعها اللغوي.

والمقصود من النفخ بالقرون وكسر الجرار دفعة وظهور الأضواء بغتة كما سيأتي إقلاق المديانيين وعربستهم.

17 «وَقَالَ لَهُمُ: ٱنْظُرُوا إِلَيَّ وَٱفْعَلُوا كَذٰلِكَ. وَهَا أَنَا آتٍ إِلَى طَرَفِ ٱلْمَحَلَّةِ، فَيَكُونُ كَمَا أَفْعَلُ أَنَّكُمْ هٰكَذَا تَفْعَلُونَ».

ٱنْظُرُوا إِلَيَّ وَٱفْعَلُوا كَذٰلِكَ أي انظروا إليّ وافعلوا كما أفعل. وفي العبرانية «انظروا مني الخ» أي انظروا ما يكون منى وافعلوا مثله. وقال هذا بعدما أوضح لهم كل أجزاء العمل. وفسر هذه العبارة ببقية الآية. ووأتوا ذلك ليلاً (ع 19) منفرداً كل منهم عن الآخر ليوهموا الأعداء أنهم كثيرون وأعطاهم علامة ليفعلوا فعله دفعة واحدة لتكون أصوات الأبواق كثيرة والأضواء وافرة للنظر في ظلام الليل وكانت علامة الآخذ في العمل الأخير النفخ بالأبواق والقول على أثر ذلك «للرب ولجدعون» (ع 18).

18 «وَمَتَى ضَرَبْتُ بِٱلْبُوقِ أَنَا وَكُلُّ ٱلَّذِينَ مَعِي فَٱضْرِبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً بِٱلأَبْوَاقِ حَوْلَ كُلِّ ٱلْمَحَلَّةِ، وَقُولُوا: لِلرَّبِّ وَلِجِدْعُونَ».

لِلرَّبِّ وَلِجِدْعُونَ «اللام» متعلقة بنعت لمنعوت محذوف هو فاعل فعل محذوف والتقدير أتاكم أيها المديانيون سيف لله ولجدعون تنبيهاً للأعداء على أن هذا السيف هو الذي فسر به مفسر الحلم رغيف الشعير المتدحرج (ع 13 و14) ويدل على هذا المعنى إتيانهم ذلك وذكرهم لفظ السيف (ع 20) وعلى ذلك جاء في الترجمتين الكلدانية والسريانية «قولوا سيف للرب ولجدعون».

19 «فَجَاءَ جِدْعُونُ وَٱلْمِئَةُ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِينَ مَعَهُ إِلَى طَرَفِ ٱلْمَحَلَّةِ فِي أَوَّلِ ٱلْهَزِيعِ ٱلأَوْسَطِ، وَكَانُوا إِذْ ذَاكَ قَدْ أَقَامُوا ٱلْحُرَّاسَ، فَضَرَبُوا بِٱلأَبْوَاقِ وَكَسَّرُوا ٱلْجِرَارَ ٱلَّتِي بِأَيْدِيهِمْ».

خروج 14: 24 و1صموئيل 11: 11 ومراثي 2: 19

وَٱلْمِئَةُ (انظر ع 16).

فِي أَوَّلِ ٱلْهَزِيعِ ٱلأَوْسَطِ قسم اليهود الليل قديماً إلى ثلاثة أقسام كل قسم أربع ساعات فالهزيع الأوسط القسم الثاني وأوله بدء الساعة الخامسة من الليل ثم اتبعوا الرومانيين في قسمته إلى أربعة أقسام كل ثلاث ساعات. وكان ذلك الوقت وقت النوم فكان الأعداء في مضاجعهم والجدعونيين متهيئون للعمل وهذا مما زاد ارتباك المديانيين.

إِذْ ذَاكَ أي حين جاء جدعون والمئة الذين معه.

قَدْ أَقَامُوا ٱلْحُرَّاسَ أي قد أقام الأعداء الحراس. وتدل لفظة «قد» على اتصال زمن إقامتهم حراسهم بالزمن الحال. ولعل المراد أن جدعون أتى بفرقته المئة والمديانيون يبدلون الحراس وهذا أيضاً مما يزيد ارتباك الأعداء وقلقهم عند النفخ في الأبواق وتكسير الجرار وارتفاع الهتاف وإضاءة المصابيح المتفرقة ليلاً التي توهم كثرة جيش جدعون. والخلاصة أن رجال جدعون كانوا مستعدين تمام الاستعداد للقيام بما أُمروا به والأعداء بين نيام وبين مشتغلين بإقامة الحراس فكانوا عرضة للتشوش والاضطراب لأقل الفواجئ والطوارئ.

فَضَرَبُوا بِٱلأَبْوَاقِ أي نفخوا فيها فضرب الهواء أجوافها فكان المناسب أن يقال فضربوا في الأبواق وهذا يحتمله الأصل العبراني فالباء الداخلة على الأبواق في العبارة العربية بمعنى «في» وهي كثيراً ما تجيء بهذا المعنى في اللغتين العبرانية والعربية.

وَكَسَّرُوا ٱلْجِرَارَ ٱلَّتِي بِأَيْدِيهِمْ لم يبين الكاتب طريق كسرهم الجرار لأن غايته مجرد كسرها وكثرة الطقطقة. ولكن رغبتهم في السرعة والمفاجأة ترجح لنا أن كلاً منهم ضرب بجرته جرة جاره فكُسرت الجرار دفعة بأسرع ما يمكن وأسهل طريق.

20 «فَضَرَبَتِ ٱلْفِرَقُ ٱلثَّلاَثُ بِٱلأَبْوَاقِ وَكَسَّرُوا ٱلْجِرَارَ، وَأَمْسَكُوا ٱلْمَصَابِيحَ بِأَيْدِيهِمِ ٱلْيُسْرَى وَٱلأَبْوَاقَ بِأَيْدِيهِمِ ٱلْيُمْنَى لِيَضْرِبُوا بِهَا، وَصَرَخُوا: سَيْفٌ لِلرَّبِّ وَلِجِدْعُونَ».

فَضَرَبَتِ ٱلْفِرَقُ ٱلثَّلاَثُ بِٱلأَبْوَاقِ هذا تفسير وتفصيل لما في (ع 19) وهو أن النفخ بالأبواق كان من الفرق الثلاث في وقت واحد.

وَكَسَّرُوا ٱلْجِرَارَ في وقت واحد.

وَأَمْسَكُوا ٱلْمَصَابِيحَ بِأَيْدِيهِمِ ٱلْيُسْرَى ليتركوا الأيدي اليمنى متفرغة للأبواق لأنها تحتاج إلى إحكام المسك والحركة بخلاف المصابيح.

وَصَرَخُوا: سَيْفٌ لِلرَّبِّ وَلِجِدْعُونَ أي هتفوا بأصوات عالية قائلين هذه العبارة. والسيف إما فاعل لفعل محذوف تقديره «أتى» أو بما هو في معناه أو خبر لمبتدإ محذوف تقديره «هذا» أو الرغيف الذي رآه بعضهم في الحلم وفسره آخر بسيف جدعون. أو مبتدأ لخبر محذوف أي عندنا أو لنا سيف الخ. والمعنى أن ذلك السيف سيف الله قلده جدعون فالمحارب هو الله بواسطة جدعون ورجاله. واختصر الكلام بالحذف لضيق المقام واغتنام فرصة التبليغ بسرعة كما اقتضت الحال.

21 «وَوَقَفُوا كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَكَانِهِ حَوْلَ ٱلْمَحَلَّةِ. فَرَكَضَ كُلُّ ٱلْجَيْشِ وَصَرَخُوا وَهَرَبُوا».

خروج 14: 13 و14 و2أيام 20: 17

وَوَقَفُوا كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَكَانِهِ حَوْلَ ٱلْمَحَلَّةِ أي وقف كل رجل من رجال جدعون في مكانه لم يتحول عنه وهم متفرقون حول المحلة التي هي محلة المديانيين فكان الأعداء يسمعون الأصوات من كل جهة فتوهموا أن جيشاً عظيماً أحاط بهم والذي أوهمهم ما سمعوه من الأبواق الكثيرة وما رأوه من كثرة المصابيح وسعة المكان التي رأوها فيه وكانوا قد نهضوا فجأة من مضاجعهم فلم يدركوا حق الإدراك ولم يبق لهم الخوف وقتاً للتأمل والتدبر وظنوا أن الأعداء وصلوا إليهم وصاروا بينهم.

فَرَكَضَ كُلُّ ٱلْجَيْشِ أي جيش المديانيين.

وَصَرَخُوا وَهَرَبُوا خوفاً من سيف الله وجدعون.

22 «وَضَرَبَ ٱلثَّلاَثُ ٱلْمِئِينَ بِٱلأَبْوَاقِ، وَجَعَلَ ٱلرَّبُّ سَيْفَ كُلِّ وَاحِدٍ بِصَاحِبِهِ وَبِكُلِّ ٱلْجَيْشِ. فَهَرَبَ ٱلْجَيْشُ إِلَى بَيْتِ شِطَّةَ إِلَى صَرَدَةَ حَتَّى إِلَى حَافَةِ آبَلَ مَحُولَةَ إِلَى طَبَّاةَ».

يشوع 6: 4 و16 و20 و2كورنثوس 4: 7 مزمور 83: 9 وإشعياء 9: 4 و1صموئيل 14: 20 و2أيام 20: 23

وَضَرَبَ ثانية أو استمروا يضربون في الأبواق لتأكيد ما توهمه الأعداء وتمكين الرعب من قلوبهم وزيادته إلى غاية الإمكان.

وَجَعَلَ ٱلرَّبُّ سَيْفَ كُلِّ وَاحِدٍ بِصَاحِبِهِ أي جعل كل واحد من الأعداء يدخل سيفه في صاحبه لتوهمه أنه من الأعداء لقلقهم وعدم تأملهم لما كانوا عليه من الحيرة والخوف المفاجئ ولأن الأضواء البعيدة تعمي ليلاً طريق من يرى أشعتها وتُضعف بصره فلا يميز القريب منه وزد على ذلك إن الله أعمى الأعداء وزادهم تلبالاً وهولاً حتى لم يستطيعوا الاستدلال والانتباه لما يفعلون فجعل الذين عزموا على قتل شعبه يقتل بعضهم بعضاً فكانت سيوفهم سيف الله وجدعون.

Table 13. 

إذا كان غير الله في عدة الفتىأتته الرزايا من وجوه المطالب    

وَبِكُلِّ ٱلْجَيْشِ أي جعل سيف كل واحد من الجيش يدخل في كل من في قربه فاعمل السيف في كل واحد من الجيش (انظر 2أيام 20: 20 - 23).

فَهَرَبَ ٱلْجَيْشُ إِلَى بَيْتِ شِطَّةَ وفي العبرانية «بيت هشطه» أي بيت السنط. والسنط شجر شوهد حول بحر لوط في غور الأردن في بادية التيه وسيناء وهو ثقيل الخشب صلبه كثير القوة طويل البقاء قلبه أسمر ضارب إلى الحمرة شائك الأغصان ريشي الأوراق صغير الأزهار أبيضها يحمل قروناً وصمغه يُعرف بالصمغ العربي. والظاهر أنها قرية سميت بذلك لكثرة ما فيها وحولها من أشجار السنط وهي في الوادي أو سهل يزرعيل. وفي قاموس الكتاب ربما هي قرية شطة شرقي يزرهيل.

إِلَى صَرَدَةَ هي في سهل أفرايم في غور الأردن. والمظنون أنها هي صرتان وهي مدينة في وادي الأردن. ومعنى صردة مُبرَّد. في العربية الصَّرد البَرد.

إِلَى حَافَةِ آبَلَ مَحُولَةَ قوله «حافة» يدل على أن «آبل محولة» كانت قرب حافة وادٍ. وفي قاموس الكتاب أنها موضع في وادي الأردن بين بحر طبرية وبحر لوط. ورأى أحدهم أنها عين حلوة. وهي موطن أليشع (1ملوك 19: 16) ورأى كل من أوسابيوس وجيروم إنها جنوبي بيت شان (المعروفة اليوم ببيسان) وعلى غاية عشرة أميال منها ومعنى «آبل محولة» مرج الرقص. ورسم آبل في العبرانية أبل والأبل في العربية الشعب الأخضر.

إِلَى طَبَّاةَ وهي اليوم مجهولة.

23 «فَٱجْتَمَعَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ مِنْ نَفْتَالِي وَمِنْ أَشِيرَ وَمِنْ كُلِّ مَنَسَّى وَتَبِعُوا ٱلْمِدْيَانِيِّينَ».

فَٱجْتَمَعَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ مِنْ نَفْتَالِي الخ لا ريب في أن هؤلاء المجتمعين كانوا بعض الذين تركوا معسكر جدعون قبل هذا الانتصار. ولعل الذين تبعوا المديانيين من نفتالي وأشير تبعوهم من الشمال والذين تبعوهم من منسى تبعوهم من الجنوب إلى المخاوض السفلى.

24 «فَأَرْسَلَ جِدْعُونُ رُسُلاً إِلَى كُلِّ جَبَلِ أَفْرَايِمَ قَائِلاً: ٱنْزِلُوا لِلِقَاءِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ وَخُذُوا مِنْهُمُ ٱلْمِيَاهَ إِلَى بَيْتِ بَارَةَ وَٱلأُرْدُنِّ. فَٱجْتَمَعَ كُلُّ رِجَالِ أَفْرَايِمَ وَأَخَذُوا ٱلْمِيَاهَ إِلَى بَيْتِ بَارَةَ وَٱلأُرْدُنِّ».

ص 3: 27 ص 3: 28 يوحنا 1: 28

فَأَرْسَلَ جِدْعُونُ رُسُلاً إِلَى كُلِّ جَبَلِ أَفْرَايِمَ أي إلى كل أرض أفرايم الجبلية فليس المراد بالجبل جبل بعينه ولكن سُميت أرض أفرايم بالجبل لأنها كثيرة الجبال أو لأنها أرض جبلية (انظر تفسير ص 3: 27). وكان رجال أفرايم أشداء البأس ومن نخبة الأبطال. ولهذا لم يجسر أن يدعوهم جدعون قبل هذه النصرة لأن الله أراد أن يغلب الكثيرين بالقليلين والأقوياء بالضعفاء إلى قوتهم فيتحققوا ضعفهم وشدة افتقارهم إلى الرب (انظر ع 2 والتفسير).

خُذُوا مِنْهُمُ ٱلْمِيَاهَ إِلَى بَيْتِ بَارَةَ وَٱلأُرْدُنِّ الخ أي استولوا على المخاوض من المياه التي في سبيل المديانيين إلى مخاوض بيت بارة والأردن. ويُظن أن مخاضة بيت بارة في الشمال الشرقي من مدينة أورشليم وعلى غاية ثلاثين ميلاً منها والغاية من أخذ المياه أن يمنعوهم من الهرب.

وبقي هنا أن بعض المفسرين رأى إن بيت بارة هي بيت عبرة لأن معناها بيت المخاضة والصحيح أن بيت عبرة غيرها وأبعد منها إلى الجنوب. ومعنى بيت بارة بيت البور أي الأرض الخراب التي لم تُزرع ولم تُعمر. وإن بعضهم رأى أن المياه قبل بيت بارة والأردن المستنقعات المتجمعة من سيول جبل أفرايم أو تلاله. وترجم بعضهم الآية بقوله «اشغلوا كل المخاوض التي في الطريق إلى أن تصلوا إلى بيت بارة ولا سيما مخاوض الأردن». وأتى الإسرائيليون مثل هذا في حرب الموآبيين (انظر ص 3: 28).

25 «وَأَمْسَكُوا أَمِيرَيِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ غُرَاباً وَذِئْباً، وَقَتَلُوا غُرَاباً عَلَى صَخْرَةِ غُرَابٍ، وَأَمَّا ذِئْبٌ فَقَتَلُوهُ فِي مِعْصَرَةِ ذِئْبٍ. وَتَبِعُوا ٱلْمِدْيَانِيِّينَ وَأَتَوْا بِرَأْسَيْ غُرَابٍ وَذِئْبٍ إِلَى جِدْعُونَ مِنْ عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ».

ص 8: 3 ومزمور 83: 11 إشعياء 10: 26 ص 8: 4

وَأَمْسَكُوا أَمِيرَيِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ أي قائدَيهم الأكبرين.

غُرَاباً وَذِئْباً وفي العبرانية «عورب وزيب» ومعناهما غراب وذئب والتسمية باسم الطيور والوحوش كثيرة في كل لغة ولا يزال السوريون ولا سيما أهل القرى منهم يسمون بذئب ونمر وأسد وسبع وفهد وسقر وشاهين وباز إلى هذا اليوم.

وَقَتَلُوا غُرَاباً عَلَى صَخْرَةِ غُرَابٍ الظاهر أنه اختبأ في كهف تحت صخرة أو بين الصخرة فأخرجوه منه وقتلوه على صخرة فسموها لذلك صخرة غراب وكانت معروفة عند كتابته هذا السفر. وهذا يدل أنه كُتب بعد هذه الحادثة وانتشار نبأها.

وَأَمَّا ذِئْبٌ فَقَتَلُوهُ فِي مِعْصَرَةِ ذِئْبٍ والظاهر أن هذا اختبأ في معصرة فدخلوها وقتلوه فيها وسموها معصرة ذئب. ويقال في كتابة هذا السفر ما قيل في تفسير العبارة السابقة.

وَتَبِعُوا ٱلْمِدْيَانِيِّينَ لأنه لم يبق من خوف منهم لأنهم قلّوا بأن قتل بعضهم بعضاً وتشتت الباقون خوفاً وربما ألقوا سلاحهم في الطريق لئلا يعيقهم عن الجري وسرعة الهرب.

وَأَتَوْا بِرَأْسَيْ غُرَابٍ وَذِئْبٍ إِلَى جِدْعُونَ مِنْ عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ تحقيقاً قتلهم إياهما وإبهاجاً لجدعون وتنكيلاً بهما. ومثل هذا لا يزال بين عرب البادية وغيرهم وجاء نبأ مثله في الكتاب. فداود قطع رأس جليات ولعله قصد أن يذهب به إلى شاول والفلسطينيون قطعوا رأس شاول وأرسلوه إلى بلادهم. ولكن الديانة المسيحية أزالت هذا لأن ذلك مغاير التمدن كل المغايرة.

فوائد

  1. يجب أن لا ننظر إلى الكثيرين لنتحد معهم بل إلى الحق لنتحد مع الرب (ع 2).

  2. إن الله يمتحن الناس بوضعه أمامهم صعوبات لكي يظهر إيمانهم وثباتهم (ع 3 - 7).

  3. إن الله يفضل القليلين وهم أقوياء في الإيمان على الكثيرين وهم خائفون.

  4. قد تكون أعمال الناس الزهيدة دليلاً على ما فيهم من السجايا (ع 7).

  5. إنه يجب النظر إلى قوة العدو لكي نستعد لمقاومته ومعرفة مبادئه الباطلة لكي تُظهر بطلها (ع 9).

  6. يجب على عبيد الرب الطاعة له وللذين اختارهم مرشدين لهم (ع 17).

  7. لا نجاح بلا ثقة والثقة أولاً بالله ثم بنفوسنا لكوننا خدامه (ع 18).

  8. يجب استخدام حكمتنا واستعمال الوسائل البشرية وإن كانت النصرة من الرب (ع 16 - 18).

  9. إن الأشرار جبناء وإن كانوا كثيرين (ع 21).

  10. ليس للأشرار اتحاد حقيقي بعضهم مع بعض (ع 22).

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّامِنُ

مشتملات هذا الأصحاح:

  1. جواب جدعون اللطيف لرجال أفرايم (ع 1 - 3).

  2. عدم إيمان أهل سكّوت وفنوئيل (ع 4 - 9).

  3. الانتصار على زبح وصلمنّاع (ع 10 - 12).

  4. قصاص جدعون لأهل سكوت وأهل فنوئيل (ع 13 - 17).

  5. قتل جدعون لزبح وصلمنّاع (ع 18 - 21).

  6. عرض الإسرائيليين الملك على جدعون (ع 22 و23).

  7. طلب جدعون الأقراط من الغنائم (ع 24 - 26).

  8. صنع جدعون من الأقراط أفوداً كان عثرة للإسرائيليين وفخاً له ولبنيه (ع 27).

  9. أيام جدعون الأخيرة وأولاده وموته (ع 28 - 32).

  10. ارتداد إسرائيل بعد موت جدعون (ع 33 - 35).

شكوى أفرايم وجواب جدعون ع 1 إلى 3

1 «وَقَالَ لَهُ رِجَالُ أَفْرَايِمَ: مَا هٰذَا ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فَعَلْتَ بِنَا، إِذْ لَمْ تَدْعُنَا عِنْدَ ذَهَابِكَ لِمُحَارَبَةِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ؟ وَخَاصَمُوهُ بِشِدَّةٍ».

ص 12: 1 و2صموئيل 19: 41

رِجَالُ أَفْرَايِمَ كان أفرايم أحد الأسباط الأثني عشر وكان سبطه في أجمل أرض الميعاد. وكانت حدود سهمه من الغرب البحر المتوسط ومن الشرق الأردن ومن الشمال قسم من سهم منسى ومن الجنوب أجزاء من سهمي دان وبنيامين. وكانت مدينة شيلوه داخل تخومه. وكانت عاصمة مملكة الأسباط العشرة التي عُرفت بمملكة إسرائيل داخل تلك التخوم حتى دُعيت تلك المملكة بأفرايم (إرميا 31: 9 و18 و20). والظاهر أن سبط أفرايم كان متسلطاً على سائر الأسباط قبل انقسام المملكة. ولعل علة تعظمهم وكبريائهم أمران الأول قوتهم وتقدمهم على سائر الأسباط فإنهم كانوا كثيري العدد أبطالاً أشداء. والثاني ما يذكرونه مما كان لأبيهم يوسف من المجد والنعمة على كل بني إسرائيل. ومن أن كان له نصيب اثنين إذ كان واحداً خرج منه سبطان. ومن أن يعقوب فضل أفرايم عل منسى في البركة مع أن أفرايم أصغر من منسى. وكانت هذه الكبرياء بلاء عليهم أخيراً (ص 12: 1 - 6) لأنه «تَأْتِي ٱلْكِبْرِيَاءُ فَيَأْتِي ٱلْهَوَانُ» (أمثال 11: 2). والمرجّح أن شكواهم وتذمرهم على جدعون كان عند إتيانهم إليه برأسي غراب وذئب من عبر الأردن (ص 7: 25) وإظهارهم قوتهم وأمانتهم للشعب وغايتهم من ذلك أن تعترف سائر الأسباط بفضلهم.

وَخَاصَمُوهُ بِشِدَّةٍ لأنهم اعتقدوا أن الواجب كان يدعوهم إلى محاربة المديانيين قبل سائر الأسباط لشجاعتهم وقوتهم وفضلهم على الجميع ولعلهم وبخوه وتهددوه كما فعلوا مع يفتاح (ص 12: 1).

وأما تقدُّم أفرايم على غيره من الأسباط فظاهر مما في (يشوع 17: 17) وأما كثرة نفوس هذا السبط فلم تكن قديماً (عدد 1: 33 و26: 37) لكن أرضهم الحصينة وقَتهُم زماناً طويلاً غزو الغزاة وقتهلم وسبيهم حتى صاروا كثيرين في زمن هذه الحادثة وغيره وسادوا. ولكن هذه السيادة نُزعت منهم وصارت إلى يهوذا بعد حين. وما زادهم عظمة وقوة كون أرضهم جبلية اضطرتهم إلى الجِد والنشاط في العمل.

2 «فَقَالَ لَهُمْ: مَاذَا فَعَلْتُ ٱلآنَ نَظِيرَكُمْ؟ أَلَيْسَ خُصَاصَةُ أَفْرَايِمَ خَيْراً مِنْ قِطَافِ أَبِيعَزَرَ؟».

لاويين 19: 10 وتثنية 24: 21

مَاذَا فَعَلْتُ ٱلآنَ نَظِيرَكُمْ أي لم أفعل شيئاً من الأفعال ذات الشأن مثلما فعلتم. كأنه قال الفخر الذي حصلتم عليه من حجزكم المخاوض والاستيلاء على المياه ومنعكم العدو من الهرب وإتيانكم برأسي غراب وذئب وتسهيل إهلاك المديانيين بما أتيتم لا فخر مثله وهو عمل عظيم لا يعد عملي شيئاً بالنسبة إليه.

أَلَيْسَ خُصَاصَةُ أَفْرَايِمَ خَيْراً مِنْ قِطَافِ أَبِيعَزَرَ «الخصاصة» ما يبقى في الكرم بعد قطافه وهي ما تسميه العامة بالعفارة. و«القطاف» وقت القطف والمراد به هنا ما يُقطف من العنب في القطاف. شبّه جدعون عمل أفرايم بالخصاصة وعمل جنوده بالقطاف وفضّل عمل أفرايم مع أنه بمنزلة الخصاصة على ما قطفه هو ورجاله أي كان إتيان الأفرايميين برأسي القائدين الأكبرين غراب وذئب وأخذ المخاوض أعظم من قتل الأبيعزريين للألوف من جنود ذينك القائدين (ع 3) والعبارة مثلٌ في تفضيل القليل على الكثير. وفي الترجمة الكلدانية «أليس ضعف بيت أفرايم خيراً من قوة بيت أبيعزر» والمؤدى واحد. وما في ترجمتنا هو الذي على وفق الأصل العبراني. وما جاء جدعون في هذا شيئاً من التمليق إنما تكلم بالحق (إشعياء 10: 26) والحكمة بألطف سبيل فأزال عتب رجال أفرايم وغيظهم. وشتّان بين جواب جدعون لرجال أفرايم وجواب يفتاح لهم (ص 12: 2 - 6).

وبقي أن جدعون دعا رجال أفرايم للجُلّى أي المحاربة العظمى لأن رجاله ما أتوا إلا النفخ في الأبواق وكسر الجرار وحمل المصابيح والهتاف وكان مَن قُتل من الأعداء قتلى سيوف الأعداء نفوسهم فعمل جدعون ورجاله ليس شيئاً بالنظر إلى عمل رجال أفرايم على أن الفضل كله للرب الذي جعل سيف كل واحد من الأعداء بصاحبه (ص 7: 19 - 22).

3 «لِيَدِكُمْ دَفَعَ ٱللّٰهُ أَمِيرَيِ ٱلْمِدْيَانِيِّينَ غُرَاباً وَذِئْباً. وَمَاذَا قَدِرْتُ أَنْ أَعْمَلَ نَظِيرَكُمْ؟. حِينَئِذٍ ٱرْتَخَتْ رُوحُهُمْ عَنْهُ عِنْدَمَا تَكَلَّمَ بِهٰذَا ٱلْكَلاَمِ».

ص 7: 24 و25 وفيلبي 2: 3 أمثال 15: 1

ٱرْتَخَتْ رُوحُهُمْ عَنْهُ عِنْدَمَا تَكَلَّمَ بِهٰذَا ٱلْكَلاَمِ روحهم في العبرانية «روحم» وهي هنا الريح المندفعة من الأنف أو الفم عند هياج الغضب بشدة وارتخاؤها كناية عن زوال الغيظ والمعنى أنه زال غضبهم بجوابه اللطيف و«اَلْجَوَابُ ٱللَّيِّنُ يَصْرِفُ ٱلْغَضَبَ» (أمثال 15: 1). وجاءت الروح بهذا المعنى في العربية ففي كليّات أبي البقاء الروح الريح المترددة في مخارق البدن ومنافذه ومن معانيها في المعجم «النفخ». ويجوز أن يكون معنى الروح هنا الريح الخارجة من الفم عند التكرُّه والتضجُّر بلفظة أُفٍّ أو إحدى أخواتها ويكون معنى العبارة انصرَف تكرههم وتضجرهم. وما التكّره والتضجر إلا من مواليد الغضب.

مطاردة الأعداء ع 4 إلى 12

4 «وَجَاءَ جِدْعُونُ إِلَى ٱلأُرْدُنِّ وَعَبَرَ هُوَ وَٱلثَّلاَثُ مِئَةِ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِينَ مَعَهُ مُعْيِينَ وَمُطَارِدِينَ».

وَجَاءَ جِدْعُونُ إِلَى ٱلأُرْدُنِّ هذا تابع للآية الثالثة والعشرين من الأصحاح السابع وما بينهما كلام معترض.

مُعْيِينَ وَمُطَارِدِينَ الواو هنا عاطفة حالاً على حال أي عبروا النهر وهم معيون من الجري ومطاردون الأعداء أي ظلوا يطاردون الأعداء مع إعيائهم. والإعياء هو التعب الشديد دون العجز. وجاء في الترجمة السبعينية «معيين وجائعين» كأن المترجم نظر إلى أن الإعياء مع المطاردة من لوازم الجوع واختاره لمناسبة ما في (ع 5). وفي الفلغاتا «وللإعياء عجزوا أن يدركوا الهاربين» والذي في ترجمتنا هو الذي على وفق الأصل العبراني. ولا ريب في أن ذلك الإعياء من لوازم الجوع المؤدي إلى العجز عن المطاردة وإدراك الهاربين.

5 «فَقَالَ لأَهْلِ سُكُّوتَ: أَعْطُوا أَرْغِفَةَ خُبْزٍ لِلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ مَعِي لأَنَّهُمْ مُعْيُونَ، وَأَنَا سَاعٍ وَرَاءَ زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ مَلِكَيْ مِدْيَانَ».

تكوين 33: 17 ومزمور 60: 6

فَقَالَ لأَهْلِ سُكُّوتَ أَعْطُوا أَرْغِفَةَ معنى سكوت مظال وهو موضع شرقي الأردن في أرض جاد سُمي بذلك من بناء يعقوب فيه مظال لمواشيه (تكوين 33: 17) وسماه التلمود «درالا» وقد وجد الدكتور مرل الأميركي موضعاً يسمى تل درالا شمالي نهر الزرقاء وعلى غاية ميل منه فرجّح أنه هو سكوت. ووجد على ذلك التل كثيراً من عاديات الخزف. وجدعون لم يكلف أهل سكوت أمراً كبيراً فالمراد من قوله لهم «أعطوا أرغفة» لا اسألكم إلا قليلاً من الخبز لهؤلاء الرجال القليلين المطاردين لأعداء إسرائيل مع أنه كان عليهم أن ينصروا إخوتهم ويمدوهم بكل ما يستطيعونه.

لأَنَّهُمْ مُعْيُونَ من المطاردة والجوع فيحتاجون إلى الطعام ليشتدوا به.

وَأَنَا سَاعٍ مع هؤلاء الشرذمة القليلة.

وَرَاءَ زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ معنى «زبح» ذبيحة والظاهر أنه سمى بذلك لكونه كان نذيراً لآلهة المديانيين. ومعنى «صلمنّاع» الذي لم يقدَّم له ملجأ.

مَلِكَيْ مِدْيَانَ كان المديانيون شعبين لكل منهما ملك وكانا متحالفين وذهب يوسيفوس إلى أنهما قائدان لا ملكان وأن غراباً وذئباً كانا الملكين. ولكن الذي في الأصل العبراني يفيد أنهما ملكا المديانيين. وأما غراب وذئب ففي العبرانية أن رجال أفرايم أمسكوا «شني سري مدين» مثنى سري أي سربّي مديان. ومعنى السري في العربية الشريف والسيد والرئيس وتُرجم في ترجمتنا بالأمير والمراد به أمير العسكر وهو من كبار القواد أو أكابرهم. وهذا اللقب لُقب به سيسرا ولم يكن ملكاً بل كان قائداً (انظر ص 4: 2). ولقب به رؤساء سكوت (ع 6 و14). وجاء في التركية السر بمعنى القائد ومنه سر عسكر. والأسوار عند الفرس القائد.

6 «فَقَالَ رُؤَسَاءُ سُكُّوتَ: هَلْ أَيْدِي زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ بِيَدِكَ ٱلآنَ حَتَّى نُعْطِيَ جُنْدَكَ خُبْزاً؟».

1ملوك 20: 11 و1صموئيل 25: 11

رُؤَسَاءُ سُكُّوتَ وفي العبرانية «سري سكوت» (راجع تفسير ع 5).

هَلْ أَيْدِي زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ بِيَدِكَ لنأمن شرهما ونتوفر غلالنا. وكون أيديهما بيده كناية عن أسره إياهما وشد أيديهما بالكتاف وهو حبل تُشد به اليدان إلى الوراء. أي أنت لا تستطيع أن تمسكهما وتأخذ أيديهما بيديك وتكتفهما. فهم علموا أن جيش المديانيين عرمرم فرأوا من المحال أن يقدر عليهم جدعون بتلك الشرذمة المعيية وإن زبح وصلمنّاع ينتقمان منهم إن علما أنهم أمدوه بالطعام فأبانوا بذلك أنهم جبناء لا إيمان لهم وبلا شفقة ولا إنسانية وعارون من حبّ الإخوة والوطن.

7 «فَقَالَ جِدْعُونُ: لِذٰلِكَ عِنْدَمَا يَدْفَعُ ٱلرَّبُّ زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ بِيَدِي أَدْرُسُ لَحْمَكُمْ مَعَ أَشْوَاكِ ٱلْبَرِّيَّةِ بِٱلنَّوَارِجِ».

ع 16

لِذٰلِكَ أي لما قلتموه وفعلتموه من الهزء والبخل وعدم الثقة بنا.

عِنْدَمَا يَدْفَعُ ٱلرَّبُّ زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ بِيَدِي أوجز الكلام لدلالة العادة في مثل قولهم وجوابه. ومراده إن الله لا بد من أن يدفع هذين الملكين إلى يدي ويبيّن صدق نبيه وعبده ويبين أنكم قاومتم الله بما فعلتم وحيئنذ يحسن عقابكم على كفركم. وهذا دليل على شجاعة جدعون وقوة إيمانه.

أَدْرُسُ لَحْمَكُمْ مَعَ أَشْوَاكِ ٱلْبَرِّيَّةِ بِٱلنَّوَارِجِ كان جدعون قاضياً لبني إسرائيل وهو بمنزلة ملك فكان له أن يعاقب المذنبين بمقتضى شريعة موسى على أن عقابه لهم شديد ولكنه لم يكن سوى إنسان عرضة للخطإ في الأعمال وكان زمانه زمان القسوة والخشونة والتنكيل الفظيع. ولا نعتب من إتيان جدعون هذا إذا تذكرنا بأن داود الذي بلغ من العلم والتمدن درجات فوق جدعون أتى مثل ذلك التنكيل الفظيع بل شراً منه (2صموئيل 12: 31). إلا أن جدعون نكّل بالإسرائيليين وداود نكّل بالعمونيين. وزمان الجميع من إسرائيليين وأمم كانوا زمان الغلظة والقساوة. ولم يزل كثيرون من أهل البادية والبلاد غير الراقية في درجات التقدم يأتون أمثال ذلك ومعنى قوله أنه «يدرس لحمهم مع أشواك البرية» أنه يعرّيهم ويطرحهم ويغطيهم بالأشواك ويدوسهم بالنوارج. والنوارج جمع نورج (مورج) وهو ما تداس به الأكداس من سنابل الحنطة والشعير وغيرهما لإخراج الحبوب من سنابلها ويكون من خشب ومن حديد. إن الإساءة لا تترك لعقل المُساء إليه وقتاً للتأمل ما لم يكن حكيماً كامل التهذيب وكذلك يسبق فعله نظره في حقيقة ما يعمله وعاقبته. وأين لطف جدعون برجال أفرايم من قسوته على رجال سكّوت على أن الفرق عظيم بين الفريقين.

8 «وَصَعِدَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى فَنُوئِيلَ وَكَلَّمَهُمْ هٰكَذَا. فَأَجَابَهُ أَهْلُ فَنُوئِيلَ كَمَا أَجَابَ أَهْلُ سُكُّوتَ».

تكوين 32: 30 و1ملوك 12: 25

وَصَعِدَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى فَنُوئِيلَ وتُسمى أيضاً فنيئيل ومعنى فنوئيل وفنيئيل وجه الله سميت بذلك تذكاراً لرؤيا يعقوب (تكوين 32: 30). وكانت أرض جاد على نجد فرق نهر الأردن وادي الأردن على الشاطئ الجنوبي من نهر يبوق المعروف اليوم بنهر الزرقاء. قال مرل إن موضع فنوئيل هذه عند طبول الذهب على الزرقاء وعلى غاية أربعة أميال شرقي الأردن. وكانت مدينة حصينة على ما يظنّ.

وَكَلَّمَهُمْ هٰكَذَا أي قال لهم «اعطوا أرغفة خبز للقوم الذين معي» (ع 5).

فَأَجَابَهُ أَهْلُ فَنُوئِيلَ كَمَا أَجَابَ أَهْلُ سُكُّوتَ أي قالوا له «هل أيدي زبح وصلمنّاع بيدك الخ» (ع 6).

9 «فَقَالَ أَيْضاً لأَهْلِ فَنُوئِيلَ: عِنْدَ رُجُوعِي بِسَلاَمٍ أَهْدِمُ هٰذَا ٱلْبُرْجَ».

1ملوك 22: 27 ع 17

عِنْدَ رُجُوعِي بِسَلاَمٍ لم يقل إن رجعت بسلام كأنه يشك في ذلك لأنه كان على يقين أنه يرجع صحيحاً سالماً منتصراً لقوة إيمانه وثقته بالله.

أَهْدِمُ هٰذَا ٱلْبُرْجَ الظاهر أنهم حين أجابوه بالرفض أشاروا له إلى برج لهم حصين وقالوا له وهم يشيرون إليه قولاً مهيناً دلالة على أنهم لا يخشونه وأنه يقصر باعاً عن تأديبهم إذا تحصنوا بذلك البرج فأنذرهم بهدمه. أو كان معلوماً عنده أن أهل فنوئيل يفتخرون بذلك البرج وإنهم يتحصنون به من العدو ويعتقدون أنه لا يمكن أن يؤخذ.

10 «وَكَانَ زَبَحُ وَصَلْمُنَّاعُ فِي قَرْقَرَ وَجَيْشُهُمَا مَعَهُمَا نَحْوُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفاً، كُلُّ ٱلْبَاقِينَ مِنْ جَمِيعِ جَيْشِ بَنِي ٱلْمَشْرِقِ. وَٱلَّذِينَ سَقَطُوا مِئَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ رَجُلٍ مُخْتَرِطِي ٱلسَّيْفِ».

ص 7: 12 ص 20: 2 و 15 و17 و25 و2ملوك 3: 26

قَرْقَرَ مدينة قرب تخم جاد الشرقي غير بعيدة عن منبع يبوق أي نهر الزرقاء ولم يُعيّن موقعها إلى الآن ولم تُذكر إلا هنا.

بَنِي ٱلْمَشْرِقِ المديانيين ومن معهم من سكان البادية من اليهودية وسورية.

خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفاً أي تسع جيشهم لأنه كان 135 ألفاً.

مُخْتَرِطِي ٱلسَّيْفِ أي سالّي السيف والمعنى أنهم ضُرّاب بالسيوف.

11 «وَصَعِدَ جِدْعُونُ فِي طَرِيقِ سَاكِنِي ٱلْخِيَامِ شَرْقِيَّ نُوبَحَ وَيُجْبَهَةَ، وَضَرَبَ ٱلْجَيْشَ وَكَانَ ٱلْجَيْشُ مُطْمَئِنّاً».

عدد 32: 35 و42 ص 18: 27 و1تسالونيكي 5: 3

طَرِيقِ سَاكِنِي ٱلْخِيَامِ المرجّح أنه سار في طريق غير عادية وغير مظنون السّير فيها على محاذاة أماكن غرب الخيام. وجاء في الترجمة الكلدانية «وذهب جدعون في طريق منازل العرب الذين يسكنون الخيام في البرية».

نُوبَحَ مدينة في جلعاد لنصف سبط منسى موقعها غير معروف والظاهر من القرينة أنها كانت عند تخم جاد الشرقي وقرية من يجبهة. ونوبح هذه غير المذكورة في (ع 32: 42) التي كانت لمنسى وبعيدة عن طريق جدعون.

يُجْبَهَةَ مدينة في أرض جاد (عدد 32: 35). قال أحد المفسرين لم يُعرف موقعها اليوم. وقال آخر يمكن أنها جُبيبة وهي اليوم طلل شمالي عمان وعلى غاية أربعة أميال منها.

وَضَرَبَ ٱلْجَيْشَ وَكَانَ ٱلْجَيْشُ مُطْمَئِنّاً أي ضربه بالسيف. وكان جيش المديانيين مطمئناً لأن الطريق إليه كانت ممنوعة وكان مانعوهم أحلافهم من العرب وأهل البادية. وجدعون أتى في طريق لم يتوقع المديانيون أن الإسرائيليين يأتون فيها لأنها غير معتادة ولا مطروقة فحمل عليهم جدعون ومن معه بغتة فاضطربوا وتشوشت أمورهم كما حدث لهم في وادي يزرعيل وهذه خدعة ثانية. ومن أسباب اطمئنان الجيش على ما رآه بعضهم استبعادهم أن شرذمة قليلة من الإسرائليين يتبعونهم إلى ذلك المكان البعيد.

12 «فَهَرَبَ زَبَحُ وَصَلْمُنَّاعُ، فَتَبِعَهُمَا وَأَمْسَكَ مَلِكَيْ مِدْيَانَ زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ وَأَزْعَجَ كُلَّ ٱلْجَيْشِ».

مزمور 83: 11

فَهَرَبَ زَبَحُ وَصَلْمُنَّاعُ ومن معهما. إن الله الذي أخافهم وضربهم وجعلهم يركنون إلى الفرار كما جعل سيف كل منهم بصاحبه وهم في وادي يزرعيل وإن أحسن جدعون التدبير. ويريك مقدار سرعة هربهم قول المرنم «كَنَارٍ تُحْرِقُ ٱلْوَعْرَ، كَلَهِيبٍ يُشْعِلُ ٱلْجِبَالَ. هٰكَذَا ٱطْرُدْهُمْ بِعَاصِفَتِكَ، وَبِزَوْبَعَتِكَ رَوِّعْهُمُ» (مزمور 83: 14 و15).

أَزْعَجَ كُلَّ ٱلْجَيْشِ أي جعله في قلق ورعبة فهرب.

عقاب سكوت وفنوئيل ع 13 إلى 17

13 «وَرَجَعَ جِدْعُونُ بْنُ يُوآشَ مِنَ ٱلْحَرْبِ مِنْ عِنْدِ عَقَبَةِ حَارَسَ».

ص 1: 35

وَرَجَعَ... مِنْ عِنْدِ عَقَبَةِ حَارَسَ وفي العبرانية «من عقبة الحارس». ويحتمل الأصل معنى «قبل طلوع الشمس» وكذا جاءت في الترجمة الكلدانية وفي كلام بعض رباني اليهود ولكن الشمس في العبرانية شمس كما في العربية إلا إذا أُريد بالحارس الشمس على سبيل المجاز. والعقبة ترجمة «معله» في العبرانية ومعناها المصعد أو المرتقى إلى الجبل. والحارس هنا اسم جبل (انظر ص 1: 35) ولكنه ليس الجبل المذكور في ذلك المكان بل جبل آخر.

14 «وَأَمْسَكَ غُلاَماً مِنْ أَهْلِ سُكُّوتَ وَسَأَلَهُ، فَكَتَبَ لَهُ رُؤَسَاءَ سُكُّوتَ وَشُيُوخَهَا، سَبْعَةً وَسَبْعِينَ رَجُلاً».

أَمْسَكَ غُلاَماً لمجرد السؤال والاستفهام منه (انظر ص 1: 24) ومعنى الغلام هنا الفتى.

فَكَتَبَ لَهُ رُؤَسَاءَ سُكُّوتَ أي كتب الفتى لجدعون أسماء رؤساء سكوت. وقد تقدم الكلام على سكوت في تفسير (ع 5). والرؤساء هنا في العبرانية «سريم» حُذفت منه ميم الجمع للإضافة وهو جمع «سر» (راجع تفسير ع 5).

وَشُيُوخَهَا عطف تفسير على «رؤساء» على قول بعضهم ولعل الرؤساء هنا غير الشيوخ كما سيأتي. والشيوخ هنا في العبرانية «ذقني» والذقن في العربية الشيخ الهم أي الفاني أو الذي أفناه الكبر فأريد بها الأكبر هنا في المنزلة.

سَبْعَةً وَسَبْعِينَ رَجُلاً والظاهر أن الرؤساء والشيوخ معاً كان عددهم سبعة وسبعين.

15 «وَدَخَلَ إِلَى أَهْلِ سُكُّوتَ وَقَالَ: هُوَذَا زَبَحُ وَصَلْمُنَّاعُ ٱللَّذَانِ عَيَّرْتُمُونِي بِهِمَا قَائِلِينَ: هَلْ أَيْدِي زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ بِيَدِكَ ٱلآنَ حَتَّى نُعْطِي رِجَالَكَ ٱلْمُعْيِينَ خُبْزاً؟».

ع 6

وَدَخَلَ إِلَى أَهْلِ سُكُّوتَ أي إلى مجمع الرؤساء والشيوخ من أهلها.

عَيَّرْتُمُونِي بِهِمَا أي عيرتموني بعجزي عن أسرهما واستخففتم بي فمنعتم الخبز عن رجالي وأعلنتم أنكم بلا إيمان بالله فقد ظهر وفاء الله بوعده وإثمكم العظيم فما بقي إلا أن أقوم بما أنذرتكم به (ع 7).

16 «وَأَخَذَ شُيُوخَ ٱلْمَدِينَةِ وَأَشْوَاكَ ٱلْبَرِّيَّةِ وَٱلنَّوَارِجَ وَعَلَّمَ بِهَا أَهْلَ سُكُّوتَ».

ع 7 عاموس 1: 3

وَأَخَذَ شُيُوخَ ٱلْمَدِينَةِ أي أكابر أهلها.

وَأَشْوَاكَ ٱلْبَرِّيَّةِ وَٱلنَّوَارِجَ فجعل الشوك على لحوم الشيوخ وداسهم بالنوارج.

عَلَّمَ بِهَا أَهْلَ سُكُّوتَ أي علّم أهل سكوت بوضع الأشواك على لحوم شيوخهم ودوسهم بالنوارج وقتلهم شر قتلة عبرة ومثالاً لما يقع على القساة الخاذلين إخوتهم العارين من الإيمان بالله لكي لا يأتوا ما أتاه شيوخهم ما عاشوا. والخلاصة أنه أدّب الباقين من أهل تلك المدينة بما فعله بشيوخهم. ضرب الكبار فأدّب الصغار.

17 «وَهَدَمَ بُرْجَ فَنُوئِيلَ وَقَتَلَ رِجَالَ ٱلْمَدِينَةِ».

1ملوك 12: 25

وَهَدَمَ بُرْجَ فَنُوئِيلَ (انظر ع 9) وجدّد بناء هذه المدينة يربعام ولا ريب في أنه جدّد بناء البرج لأنه حصن ذو شأن (1ملوك 12: 25).

وَقَتَلَ رِجَالَ ٱلْمَدِينَةِ أي مدينة فنوئيل وقد تقدم الكلام على هذه المدينة في تفسير (ع 8).

قتل زبح وصلمناع ع 18 إلى 21

18 «وَقَالَ لِزَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ: كَيْفَ ٱلرِّجَالُ ٱلَّذِينَ قَتَلْتُمَاهُمْ فِي تَابُورَ؟ فَقَالاَ: مَثَلُهُمْ مَثَلُكَ. كُلُّ وَاحِدٍ كَصُورَةِ أَوْلاَدِ مَلِكٍ».

ص 4: 6 ومزمور 89: 12

وَقَالَ لِزَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ إن جدعون أبقاهما حيين ليُري شيوخ سكوت الجبناء الخالين من الإيمان إياهما وإن «أيديهما بيده» (ع 6). ولم يذكر الكتاب أين قتلهما أفي سكوت قتلهما كما رأى يوسيفوس أم في عفرة مدينته (ع 27). ولعله قتلهم حيث كان يسكن هو وإخوته الذين قتلاهم كما سيأتي.

كَيْفَ ٱلرِّجَالُ ٱلَّذِينَ قَتَلْتُمَاهُمْ فِي تَابُورَ أي ما صنعة الرجال الخ. وتابور جبل في الجليل يعرف اليوم بالطور. وهذه الحادثة أي قتل زبح وصلمنّاع لإخوة جدعون لم تذكر قبلاً وجاء ذكرهما هنا لبيان أنهما كانا قد استحقا القتل قبل هذه الحرب فلم يقتلهما جدعون بلا محاكمة. وحكم بقتلهما لأنه كان قاضي إسرائيل ولم يحكم بسوى الحق. وسؤاله إياهما للتقرير لا لطلب الفهم لأنه كان قد عرف أنهما قتلا إخوته. وذُكر في الآية مكان قتلهم ولكنها لم تذكر زمانه والمرجّح أنه كان في أثناء سني استعباد المديانيين للإسرائيليين. ولعل زبح وصلمناع قتلا إخوة جدعون في السنة السابعة التي على أثرها دعاه الرب للانتقام من المديانيين وإنقاذ الإسرائيليين. وقتلهما إياهم في جبل تابور يدل على شدة ظلمهما حتى كان يصعدان إلى الجبال ومخابئ الإسرائيليين فيها وينهبان ويقتلان.

فَقَالاَ: مَثَلُهُمْ مَثَلُكَ أي يشبهونك في الصورة وهذا يدل شيئاً على أنهم إخوته لأنه يغلب أن يتشابه الإخوة في الصورة.

كُلُّ وَاحِدٍ كَصُورَةِ أَوْلاَدِ مَلِكٍ يغلب الجمال في أولاد الملوك ولهذا كان الناس يضربون المثل في جمالهم ولا يزالون يأتون ذلك إلى هذا اليوم. ولا يخلو هذا الكلام من شيء من الشجاعة أو من التملّق والمداهنة لجدعون ليخففا غضبه إن كانا قد علما أن الذين قتلاهم إخوته وإلا فهما وصفاهم كما شاهدا وأفادانا أن جدعون كان حسن الصورة. ولكن سؤاله العام وجوابهما الخاص يدل على أنهما علما أن جدعون سألهما عن إخوته. وكلاهما يدل على أنهما قتلا ولم يظهرا خوفاً فهما وصفا قتلاهما بالواقع.

19 «فَقَالَ: هُمْ إِخْوَتِي بَنُو أُمِّي. حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ لَوِ ٱسْتَحْيَيْتُمَاهُمْ لَمَا قَتَلْتُكُمَا!».

فَقَالَ: هُمْ إِخْوَتِي بَنُو أُمِّي كان الإسرائيليون يجيزون الاقتران بزوجتين أو أكثر وكان الحب بين الإخوة من أب واحد وأم واحدة أشد من الحب بينهم ومن أب واحد وأُميّن أو أمهات (انظر تكوين 43: 29 و30) وكان يظهر الأخ هذا الحب الشديد بقوله لأخيه يا ابن أمي.

حَيٌّ هُوَ ٱلرَّبُّ كانت هذه العبارة قَسماً عند الإسرائيليين.

لَوِ ٱسْتَحْيَيْتُمَاهُمْ أي تركتماهم أحياء.

لَمَا قَتَلْتُكُمَا له أن يعفو عنهما لمجرد المحاربة ولكنهما قتلا إخوته وشهدا على نفسيهما.

20 «وَقَالَ لِيَثَرَ بِكْرِهِ: قُمِ ٱقْتُلْهُمَا. فَلَمْ يَخْتَرِطِ ٱلْغُلاَمُ سَيْفَهُ، لأَنَّهُ خَافَ، بِمَا أَنَّهُ فَتىً بَعْدُ».

وَقَالَ لِيَثَرَ بِكْرِهِ: قُمِ ٱقْتُلْهُمَا الخ أمر جدعون لابنه بقتلهما كان ضرباً من الإهانة التي يعدّون الموت أهون منها. وكان من غاية جدعون بذلك شيء آخر فوق الإهانة وهو أن يشجع بكره على قتل أعداء إسرائيل ويعوّده الغلظة على الأعداء.

21 «فَقَالَ زَبَحُ وَصَلْمُنَّاعُ: قُمْ أَنْتَ وَقَعْ عَلَيْنَا، لأَنَّهُ مِثْلُ ٱلرَّجُلِ بَطْشُهُ. فَقَامَ جِدْعُونُ وَقَتَلَ زَبَحَ وَصَلْمُنَّاعَ، وَأَخَذَ ٱلأَهِلَّةَ ٱلَّتِي فِي أَعْنَاقِ جِمَالِهِمَا».

مزمور 83: 11 إشعياء 3: 18

قُمْ أَنْتَ وَقَعْ عَلَيْنَا كانوا يكنون بالوقوع عن الضرب بالسيف وغيره لانحناء الضارب على المضروب كأنه يقع عليه إذ كانت العادة أن يكون المضروب جاثياً أو مطروحاً على الأرض أو سافلاً عن الضارب في حال من الأحوال. وسألاه ذلك أنفة من أن يقتهلما صبي لا يجسر على القتل. وهذا يدل على أنهما لم يخشيا القتل وإنهما ماتا موت الأبطال لا موت الجبناء.

لأَنَّهُ مِثْلُ ٱلرَّجُلِ بَطْشُهُ أي إن بطش الرجل بالنسبة إلى ما هو عليه من السن والشجاعة ومزاولة القتال. والمراد أن الصبي صغير السن لم يمارس حرباً ويخاف من أن يقتل وأما أنت فرجل كامل الرجولية شجاع مجرّب وبطل مدرّب فالأجدر أن تقتلنا أنت لا هذا الصبي. قال أحد المفسرين سألاه ذلك أنفة من العار وتخلصاً من شدة الألم لأن ضرب الجبان ضعيف فيحتاج إلى أن يضربهما مراراً كثيرة فيطول عذابهما وتألمهما. والظاهر أن العبارة مثلٌ.

وَأَخَذَ ٱلأَهِلَّةَ ٱلَّتِي فِي أَعْنَاقِ جِمَالِهِمَا الأهلّة حُلى من الفضة أو الذهب على صورة الأهلّة وهي جمع هلال وهو القمر من أول ظهوره بعد المحاق إلى ليلتين أو ثلاث أو سبع منه وليلتين آخر الشهر أي حين يكون شكله كالقوس كانت هذه الآهلة تعلّق بالأعناق أعناق البهائم والناس (انظر إشعياء 3: 18). وقد تعلّق على الرؤوس ولا يزال بعض أهل البادية يحلّون بها النساء والأولاد الصغار والجمال. ولعلها كانت في الأصل تمائم للحفظ من الأضرار لأنهم كانوا يعبدون القمر فصاغوها على شكله وهو هلال.

مشورة جدعون ووفاته ع 22 إلى 32

22 «وَقَالَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ لِجِدْعُونَ: تَسَلَّطْ عَلَيْنَا أَنْتَ وَٱبْنُكَ وَٱبْنُ ٱبْنِكَ، لأَنَّكَ قَدْ خَلَّصْتَنَا مِنْ يَدِ مِدْيَانَ».

هذه الآية أوضح دليل على أن جدعون كان شريف النفس مع عدم الاعتداد بنفسه وإنه كان أميناً لله ومحباً لشعبه ومتيقناً أن كل الفضل في انتصاره على المديانيين لله وإنه لم يكن له عرض مما أتاه إلا الطاعة لأمر الله والنفع لإسرائيل ولم يخطر في باله السيادة والتسلط على الشعب.

وَقَالَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ أي وجوههم ورؤساءهم لا كل رجال إسرائيل والأرجح أن لفظة «إسرائيل» هنا لا تشير إلى جميع الأسباط بل إلى الذين كانوا في جهة الشمال فكانوا عرضة أكثر من غيرهم لتعديات المديانيين.

تَسَلَّطْ عَلَيْنَا أَنْتَ وَٱبْنُكَ وَٱبْنُ ٱبْنِكَ أي كن علينا ملكاً يظل المُلك في نسلك يرثه الابن عن أبيه. قالوا ذلك لما نالوه بواسطته من الخلاص والتحرر من عبودية المديانيين والانتصار عليهم وتوقعهم أن يدوم لهم العزّ بملكه وملك سلالته وطيب العيش وصفاء الزمان.

لأَنَّكَ قَدْ خَلَّصْتَنَا مِنْ يَدِ مِدْيَانَ أي لأنك قد أنقذتنا من عبودية المديانيين وظلمهم ونهبهم لنا وإذلالهم إيانا وقتلهم كثيرين منا وضيق من نجا من سيفهم وسكناهم في الكهوف وشقوق الصخور فبتسلطك علينا نعز ونستريح ونسعد. كان على الإسرائيليين أن يقولوا لأن الله قد خلّصنا من يد مديان بواسطتك ثم يمدحوا جدعون على اجتهاده وبذله الوسع في إنقاذهم.

23 «فَقَالَ لَهُمْ جِدْعُونُ: لاَ أَتَسَلَّطُ أَنَا عَلَيْكُمْ وَلاَ يَتَسَلَّطُ ٱبْنِي عَلَيْكُمُ. اَلرَّبُّ يَتَسَلَّطُ عَلَيْكُمْ».

1صموئيل 8: 7 و10: 19 و12: 12

لاَ أَتَسَلَّطُ أَنَا عَلَيْكُمْ وَلاَ يَتَسَلَّطُ ٱبْنِي عَلَيْكُمُ نسي الإسرائيليون أن جدعون قبل القاضوية والقائدية لأن الرب دعاهما إليهما (ص 6: 11 - 24) فهو رفض الملك وأن يكون ميراثاً لنسله لأن الرب لم يدعه إليه ولو دعاه إليه لقبله لمجرد الطاعة للرب لا حباً للملك كما قبل القاضوية لتلك الطاعة لا حباً للرياسة والإمارة.

اَلرَّبُّ يَتَسَلَّطُ عَلَيْكُمْ هذا توبيخ لهم على أنهم لم ينسبوا كل المجد لله ويعترفوا بإحسانه ولم يريدوا أن يبقوا الله ملكاً عليهم ونصحٌ لهم وإرشاد إلى ما فيه كل النفع والخير. وقوله «الرب يتسلط عليكم» خبر بمعنى الأمر أي اتخذوا الرب سلطاناً لا العبد. وهذا يشبه قول الرب لصموئيل في شأن إسرائيل حين طلبوا ملكاً «إِيَّايَ رَفَضُوا حَتَّى لاَ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ» (1صموئيل 8: 7). وقال أحد المفسرين إن قول جدعون كان ذكرى لمن قضى بعده لإسرائيل وبها ساء صموئيل طلب إسرائيل إليه أن يقيم لهم ملكاً (1صموئيل 8: 5 و6).

24 «ثُمَّ قَالَ لَهُمْ جِدْعُونُ: أَطْلُبُ مِنْكُمْ طِلْبَةً: أَنْ تُعْطُونِي كُلُّ وَاحِدٍ أَقْرَاطَ غَنِيمَتِهِ. لأَنَّهُ كَانَ لَهُمْ أَقْرَاطُ ذَهَبٍ لأَنَّهُمْ إِسْمَاعِيلِيُّونَ».

تكوين 25: 13 و37: 25 و28

أَنْ تُعْطُونِي كُلُّ وَاحِدٍ أَقْرَاطَ غَنِيمَتِهِ أي الأقراط مما غنمه من الأعداء وهي جمع قرط وهو الشنف الذي يُعلّق بشحمة الأذن وهذه الأقراط هي المعروفة عند العامة بالحلَق.

لأَنَّهُ كَانَ لَهُمْ أي للأعداء المديانيين بدلالة القرينة.

لأَنَّهُمْ إِسْمَاعِيلِيُّونَ أي مثل الإسماعيليين في أسلوب المعاش واللباس والزينة. وليس المديانيين من نسل إسماعيل بل من نسل مديان بن إبراهيم من قطورة والإسماعيليون من نسل إسماعيل بن إبراهيم من هاجر. ولكنهم كانوا أعظم قبائل بلاد العرب فأُطلق اسمهم على قبائل أخرى لكونها متحدة أو أقل منهم شهرة (انظر تكوين 37: 25 و28).

25 «فَقَالُوا: إِنَّنَا نُعْطِي. وَفَرَشُوا رِدَاءً وَطَرَحُوا عَلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ أَقْرَاطَ غَنِيمَتِهِ».

فَقَالُوا: إِنَّنَا نُعْطِي أي لا شك في أننا نعطي فالذين عرضوا عليه أن يملك ويتسلط عليهم لا يتوقفون عن تقديم شيء زهيد من الغنائم وهي الأقراط.

وَفَرَشُوا وفي السعبينية وفرش.

رِدَاءً أي ملحفة أو الثوب الذي يُلبس فوق سائر الثياب.

26 «وَكَانَ وَزْنُ أَقْرَاطِ ٱلذَّهَبِ ٱلَّتِي طَلَبَ أَلْفاً وَسَبْعَ مِئَةِ شَاقِلٍ ذَهَباً، مَا عَدَا ٱلأَهِلَّةَ وَٱلْحَلَقَ وَأَثْوَابَ ٱلأُرْجُوَانِ ٱلَّتِي عَلَى مُلُوكِ مِدْيَانَ، وَمَا عَدَا ٱلْقَلاَئِدَ ٱلَّتِي فِي أَعْنَاقِ جِمَالِهِمْ».

ع 21

وَكَانَ وَزْنُ أَقْرَاطِ ٱلذَّهَبِ... أَلْفاً وَسَبْعَ مِئَةِ شَاقِلٍ ذَهَباً وذلك يزيد على 26 أقة من الذهب. وقدّر ذلك بعض المفسرين بنحو 3400 ليرة إنكليزية. ودلّ ذلك على أن المديانيين كانوا كثيري الغنى.

مَا عَدَا ٱلأَهِلَّةَ وَٱلْحَلَقَ التي كانت حلياً للناس من أمثال الهلال والدائرة من المصوغات الذهبية. طلب جدعون الأقراط فزادوا على ذلك الأهلة والحلق وما يأتي بياناً لأنهم بذلوا ذلك مسرورين.

وَأَثْوَابَ ٱلأُرْجُوَانِ ٱلَّتِي عَلَى مُلُوكِ مِدْيَانَ هذا أول ما ذُكر في الكتاب المقدس أن الأرجوان كان لون أثواب الملوك. والأرجوان مما عرفه الناس منذ العصور الخالية وذُكر في سفر الخروج في عدة مواضع (خروج 25: 4 و35: 6 و39: 29). وكان يُستخرج صبغ الأرجوان من نوع من الصفد واشتهرت به صور وصيداء ولا يزال أكام من أصدافه التي أُخذ منها خارج باب صيداء الجنوبي. وأطلق العرب الأرجوان على الأحمر من الصفد وغيره.

ٱلْقَلاَئِدَ ٱلَّتِي فِي أَعْنَاقِ جِمَالِهِمْ كان أهل الشرق ولا يزالون يحلون أعناق الإبل والخيل بالقلائد المنظومة من قطع الفضة والذهب وكثيرون اليوم من الكبراء يحلون رؤوس الخيل وصدورها بمثل القلائد الفضية والذهبية.

27 «فَصَنَعَ جِدْعُونُ مِنْهَا أَفُوداً وَجَعَلَهُ فِي مَدِينَتِهِ فِي عَفْرَةَ. وَزَنَى كُلُّ إِسْرَائِيلَ وَرَاءَهُ هُنَاكَ، فَكَانَ ذٰلِكَ لِجِدْعُونَ وَبَيْتِهِ فَخّاً».

ص 17: 5 و18: 17 و20 و1صموئيل 23: 6 وهوشع 3: 4 ص 6: 24 مزمور 106: 39 تثنية 7: 16

فَصَنَعَ جِدْعُونُ مِنْهَا أَفُوداً ترى هنا أن جدعون لم يأخذ الأقراط الذهبية وغيرها من المصوغات لنفسه حتى يُنسب إليه الطمع أو السُّفول إنما أخذها ليصنع منها أفوداً. وكان الأفود من ثياب الكهنة الدينية وتُرجم في سفر الخروج «بالرداء» وكان مصنوعاً من نقيّ الكتان لكن أفود الكاهن العظيم كان مطرزاً بألوان مختلفة. وكان أفود الكاهن قطعة منه للظهر وأخرى للصدر تتصلان في أعلى كل من الكتفين بحجر من الجزع على أحدهما ستة من أسماء أسباط إسرائيل وعلى الآخر الستة الأسماء الأخرى وعلى القطعة الصدرية الصُّدرة وهي مرصعة باثني عشر حجراً من الحجارة الكريمة عليها أسماء أسباط إسرائيل الاثني عشر. وكان حول ذيوله زنار من ذهب واسمانجوني وقرمز وبوص مبروم. وكان الأفود البسيط يلبسه غير الكهنة كصموئيل وداود (1صموئيل 2: 18 و1أيام 15: 27). وفُصّل الكلام على الأفود أو الرداء والصدرة في (خروج 28: 4 - 35).

وَجَعَلَهُ فِي مَدِينَتِهِ فِي عَفْرَةَ (ص 6: 11 و24) لعل غايته بذلك أن يسأل الرب بواسطته. والأفود الذي صنعه جدعون لم يكن الأفود البسيط الذي كان الكهنة يلبسونه (1صموئيل 12: 18) وتمنطق داود به (2صموئيل 6: 14) بل أفود مثل أفود رئيس الكهنة. وكانت غاية جدعون أن يجعل نفسه في مقام رئيس كهنة إسرائيل وذلك بناء على ظهور الرب له واختيار الرب له ليكون مخلصاً لإسرائيل من المديانيين. ولكن كان في ذلك خطاء لأن الرب لم يدعُه ليكون كاهناً بل كان الكاهن المعيّن من الرب من نسل هارون وكان مركز العبادة في شيلوه في سبط أفرايم. ونرى أن جدعون لم يسقط في التجربة الأولى أي أن يصير ملكاً ولكنه سقط في الثانية أي طلب أن يكون رئيس كهنة.

وَزَنَى كُلُّ إِسْرَائِيلَ وَرَاءَهُ هُنَاكَ أي وراء الأفود لا وراء جدعون (انظر ع 33). والمراد «بالزنى» هنا ترك الله واتباع الأوثان. شبّه الراجع عن الله إلى الأوثان بالمرأة التي تخون زوجها أو تصير إلى آخر على غير السنّة الإلهية. فمعنى قوله «وزنى... وراءه» تركوا الله واتبعوا الأفود وعبدوه.

هُنَاكَ أي في عفرة مدينة جدعون.

فَكَانَ ذٰلِكَ لِجِدْعُونَ وَبَيْتِهِ فَخّاً الفخ آلة يُصاد بها استعاره هنا لما كان من عاقبة وضع الأفود في عفرة وهو عبادة إسرائيل إياه وعدولهم عن شيلوه مقدس الرب إلى عفرة. وكونه صار لجدعون وبيته فخاً أنه أدّى بهم إلى الرزايا والخراب فأدى بجدعون إلى الأسف على صنعه ذلك الأفود ووضعه إياه هناك وتألمه الشديد من أنه كان سبب ضلال الإسرائيليين وأدى ببيته إلى الدمار كما سيُذكر في الأصحاح الآتي وأُشير إليه في (ع 35) من هذا الأصحاح. ولعل جدعون عرف هنا أن استحسان البشر لبعض البدع في الدين كثيراً ما يؤدي إلى الضلال وأن عبادة الله بواسطة المرئيات يؤدي إلى العبادة الوثنية. فالعبارة لم يُرد بها أن جدعون سقط في عبادة الأفود فإنه بقي أميناً للرب ومات بشيبة صالحة (ع 32) وتفسير الفخ يؤدي إلى البلاء والخراب يؤيده ما في (خروج 10: 7).

28 «وَذَلَّ مِدْيَانُ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَعُودُوا يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ. وَٱسْتَرَاحَتِ ٱلأَرْضُ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي أَيَّامِ جِدْعُونَ».

ص 5: 31

وَذَلَّ مِدْيَانُ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أي صاروا إلى الهوان والضعة بعد أن كانوا أعزّاء متكبرين (انظر ص 3: 30 والتفسير) وخضعوا لبني إسرائيل.

وهذه الآية خاتمة الجزء الكبير من ترجمة جدعون والآيات الباقية بيان لحوادث الجزء الثالث والأخير من حياته.

وَلَمْ يَعُودُوا يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ رفع الرأس كناية عن العزّ والفخر وخفضه كناية عن الذلّ والهوان. فالمديانيون بعد ذلك الانكسار العظيم ذُّلوا وهانوا ولم يستطيعوا أن يعودوا إلى عزهم وافتخارهم.

وَٱسْتَرَاحَتِ ٱلأَرْضُ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي أَيَّامِ جِدْعُونَ أي استراح أهل الأرض أربعين سنة وجدعون في قيد الحياة.

29 «وَذَهَبَ يَرُبَّعْلُ بْنُ يُوآشَ وَأَقَامَ فِي بَيْتِهِ».

وَذَهَبَ يَرُبَّعْلُ أي جدعون (انظر ص 6: 28 - 32).

وَأَقَامَ فِي بَيْتِهِ لم يُفهم من هذا أنه ترك القضاء والمرجّح أنه استمر يقضي لهم.

30 «وَكَانَ لِجِدْعُونَ سَبْعُونَ وَلَداً خَارِجُونَ مِنْ صُلْبِهِ، لأَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ».

ص 9: 2 و5

وَكَانَ لِجِدْعُونَ سَبْعُونَ وَلَداً خَارِجُونَ مِنْ صُلْبِهِ أي كان له سبعون ولداً حقيقياً دفعاً لتوهم أن بعضهم مُتبنّى أو من أولاد أقاربه اعتنى بهم كما يعتني بأولاده. والصُّلب السلسلة الفقرية أي العظم الممتد في الظهر المؤلف من فقرات.

لأَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ قال هذا بياناً لعلة كثرة أولاده. وكان عدد النساء الذي يجوز للإسرائيلي أن يقترن بها شرعاً غير معيّن وكان الحكام والمتسلطون منهم كثيري النساء كجدعون هنا ويائير (ص 10: 3 و4) وداود وسليمان وغيرهم. على أن إكثار النساء لم يكن ممدوحاً بل نهى الملوك عنه (تثنية 17: 17).

31 «وَسُرِّيَّتُهُ ٱلَّتِي فِي شَكِيمَ وَلَدَتْ لَهُ هِيَ أَيْضاً ٱبْناً فَسَمَّاهُ أَبِيمَالِكَ».

ص 9: 1

وَسُرِّيَّتُهُ الخ هي ثاني الزوجة الحرة في المقام لأن أولادها لا يرثون مع أولاد الحرّة فكان مقامها كمقام هاجر بالنسبة إلى سارة. أصلها أَمة وكانوا يتزوجونها سراً عن الزوجة الحرّة فُسميت سرّية نسبة إلى السرّ. وشكيم هي المدينة المعروفة اليوم بنابلس.

32 «وَمَاتَ جِدْعُونُ بْنُ يُوآشَ بِشَيْبَةٍ صَالِحَةٍ، وَدُفِنَ فِي قَبْرِ يُوآشَ أَبِيهِ فِي عَفْرَةِ أَبِيعَزَرَ».

تكوين 25: 8 وأيوب 5: 26 ص 6: 24 وع 27

وَمَاتَ جِدْعُونُ... بِشَيْبَةٍ صَالِحَةٍ أي كان إنساناً سعيداً صالحاً إلى يوم وفاته (تكوين 25: 8) لكن نسله كان شقياً شريراً.

ارتداد الإسرائيليين أي رجوعهم إلى العبادة الوثنية ع 33 إلى 35

33 «وَكَانَ بَعْدَ مَوْتِ جِدْعُونَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجَعُوا وَزَنَوْا وَرَاءَ ٱلْبَعْلِيمِ، وَجَعَلُوا لَهُمْ بَعْلَ بَرِيثَ إِلٰهاً».

ص 2: 19 ص 2: 17 ص 9: 4 و46

وَكَانَ بَعْدَ مَوْتِ جِدْعُونَ كان جدعون باجتهاده وتقواه يمنع الناس من عبادة البعل فلما مات زاغوا وانحرفوا إلى عبادته. فترى الإنسان الصالح يصلح كثيرين فخميرة صغيرة تخمر العجين كله.

رَجَعُوا عن الله إلى أباطيلهم وخرافات الأمم وشركهم.

وَزَنَوْا وَرَاءَ ٱلْبَعْلِيمِ أي تركوا الله واتّبعوا البعل أي الشمس فإنها كانت إله كثيرين من الأمم. ولعل بني إسرائيل مالوا إلى عبادة البعل منذ عبدوا الأفود الذي صاغه جدعون من أقراط المديانيين. فالانحراف القليل عن كتاب الله يؤدي إلى الضلال الكثير. فإن جدعون صنع ذلك من الأفود من مجرد استحسانه لا بأمر الرب ولا مشورته.

وَجَعَلُوا لَهُمْ بَعْلَ بَرِيثَ إِلٰهاً جعلوا هنا بمعنى صيّروا أو اتخذوا واعتقدوا. ومعنى بعل بريث «سيد العهد أو رب الميثاق» سمّاه البعليون بهذا لاعتقادهم أنه أخذ على نفسه أن يصون عبدته وينتقم لهم من أعدائهم وأخذوا على نفوسهم أن يعبدوه. ورأى بعضهم أنه لُقب «برب العهد» لأن الإسرائيليين عاهدوا الكنعانيين على عبادته.

34 «وَلَمْ يَذْكُرْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ٱلرَّبَّ إِلٰهَهُمُ ٱلَّذِي أَنْقَذَهُمْ مِنْ يَدِ جَمِيعِ أَعْدَائِهِمْ مِنْ حَوْلِهِمْ».

مزمور 78: 11 و42 و106: 13 و21

وَلَمْ يَذْكُرْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ٱلرَّبَّ إِلٰهَهُمُ نسوا الإله الحق الذي أحسن إليهم وخلّصهم من عبودية الأمم مراراً ونصرهم على الأعداء وأبان لهم قدرته ورحمته بآيات كثيرة واتخذوا بدل الرب إلههم الحي القادر على كل شيء بعض مخلوقاته إلهاً وعبدوا تماثيله التي لا حياة لها. ما أكفر الإنسان بالإحسان وما أقل من يذكر الحسنات كما يذكر السيئآت.

35 «وَلَمْ يَعْمَلُوا مَعْرُوفاً مَعَ بَيْتِ يَرُبَّعْلَ (جِدْعُونَ) نَظِيرَ كُلِّ ٱلْخَيْرِ ٱلَّذِي عَمِلَ مَعَ إِسْرَائِيلَ».

ص 9: 16 و17 و18 وجامعة 9: 14 و15

يَرُبَّعْلَ جِدْعُونَ الخ جدعون عطف بيان ليربعل والمعنى يربعل هو جدعون وقد مرت علة تسميته بيربعل (ص 6: 32). ولعل الكاتب ذكر لقبه هنا لأنه يذكر بهدمه مذبح البعل الذي أخذ الإسرائيليون يبنونه بعد موته. قال الكاتب إن الإسرائيليين لم يعملوا معروفاً لأولاد جدعون جزاء على إحسان جدعون إليهم. وهذا لا نعجب منه فإنهم نسوا إحسان الرب ولم يذكروه (ع 34) فقليل أن ينسوا إحسان أحد عبيده إليهم.

فوائد

  1. إن الجواب الليّن يصرف الغضب (ع 1 - 3).

  2. إن التواضع من صفات العظمة الحقيقية مهما كانت الصعوبات (ع 4).

  3. إنه يجب الثبات إلى النهاية في كل عمل صالح مهما كانت الصعوبات (ع 4).

  4. إنه يجب العمل مع كل من يعمل للرب (ع 5).

  5. إنه يجب النظر إلى الغاية العظمى وتأجيل الغايات الثانوية - كما أجلّ جدعون تأديب أهل سكّوت وفنوئيل إلى بعد رجوعه من الحرب.

  6. إنه يجب أن لا نتمثل بكل ما يعمله رجال الله. وأمثلة ذلك قساوة جدعون في التأديب وتزوجه نساء كثيرات وعمله الأفود.

  7. قد يكون من يستعفي من الرئاسة أفضل ممن يطلبها لنفسه (ع 23).

  8. إن تجارب النجاح أعظم من تجارب الضيق. فإن جدعون أطاع الرب وحارب بالشجاعة والأمانة ولكنه سقط في بعض الخطايا في وقت الراحة والارتقاء.

  9. إنه يجب أن تكون عبادة الله كما رسم في كتابه وليس كما يستحسن الناس. فكان عمل الأفود خطاء (ع 27).

  10. إن الناس يميلون إلى عدم الشكر. كما عمل بنو إسرائيل مع بيت جدعون ولم يذكروا الرب (ع 34 و35).

اَلأَصْحَاحُ ٱلتَّاسِعُ

محتويات هذا الأصحاح:

  1. استمالة أبيمالك لأهل شكيم (ع 1 - 4).

  2. قتله إخوته (ع 5 و6).

  3. مثَل يوثام في طلب الأشجار أن تمسح عليها ملكاً (ع 7 - 15).

  4. مضرب المثل أو بيان لما ضُرب فيه (ع 16 - 20).

  5. هرب يوثام من وجه أبيمالك أخيه (ع 21).

  6. نفرة أهل شكيم من أبيمالك وغدرهم به (ع 22 - 25).

  7. حماية جَعَل لأهل شكيم ووثوقه بهم (ع 26 - 29).

  8. أخبار زبول لأبيمالك بمؤامرة جَعَل وأهل شكيم (ع 30 - 33).

  9. انكسار جَعَل وهربه من قدام أبيمالك (ع 34 - 40).

  10. قيام أبيمالك على أهل شكيم وأخذه شكيم وهدمها وقتله شعبها (ع 41 - 45).

  11. إحراق أبيمالك الصرح والبرج بمن فيه (ع 46 - 49).

  12. محاصرة أبيمالك لتاباص (ع 50 - 52).

  13. موت أبيمالك قتلاً (ع 53 - 55).

  14. تذييل أدبيٌّ (ع 56 و57).

اغتصاب أبيمالك للسلطة ع 1 إلى 6

1 «وَذَهَبَ أَبِيمَالِكُ بْنُ يَرُبَّعْلَ إِلَى شَكِيمَ إِلَى أَخْوَالِهِ، وَقَالَ لِجَمِيعِ عَشِيرَةِ بَيْتِ أَبِي أُمِّهِ».

ص 8: 31

وَذَهَبَ أَبِيمَالِكُ هذا الذهاب أول الاستدراج إلى عقاب الله العادل على الخطائين اللذَين ارتكبهما جدعون وهما إكثار النساء وعمل الأفود دون مشورة الله فوقع الانتقام على بيته. فليحذر الوالدون من الخطاء لئلا يجلبوا به الشرّ على أولادهم.

إِلَى شَكِيمَ مدينة قديمة في أرض كنعان سمّاها اليونانيون نيابوليس أي المدينة الجديدة ثم نحتها العرب فقالوا نابلس وهي شمالي أورشليم وعلى غاية 32 ميلاً منها.

إِلَى أَخْوَالِهِ (انظر ص 8: 31). والمراد بهم أقرباء أمه وأصدقاؤها وأولاد قبيلتها لا مجرد إخوتها. ولا ريب في أنه كان لهم السطوة على كل سكان شكيم. وهذا خطأ ثالث ارتكبه جدعون وهو اقترانه بامرأة كنعانية. وكانت ثمرة هذا الاقتران ذلك الابن الشرير. إن معظم صلاح الأولاد وشرهم متوقف على الوالدات.

وجَمِيعِ عَشِيرَةِ بَيْتِ أَبِي أُمِّهِ العطف هنا عطف تفسير. ويظهر منه أن أهل أمه كان لهم الأمرة على سائر السكان ويؤيد ذلك ما يأتي من طلبه.

2 «تَكَلَّمُوا ٱلآنَ فِي آذَانِ جَمِيعِ أَهْلِ شَكِيمَ. أَيُّمَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ: أَأَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْكُمْ سَبْعُونَ رَجُلاً، جَمِيعُ بَنِي يَرُبَّعْلَ، أَمْ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ؟ وَٱذْكُرُوا أَنِّي أَنَا عَظْمُكُمْ وَلَحْمُكُمْ».

ص 8: 30 تكوين 29: 14

تَكَلَّمُوا ٱلآنَ فِي آذَانِ جَمِيعِ أَهْلِ شَكِيمَ أي اسمعوهم الكلام حسناً واحترسوا من أن تتجاوز كلمة منه أسماعهم. وأهل شكيم هنا في العبرانية «بعلي شكم» أي أسياد شكيم أو أربابها لأنه إذا بلغ هؤلاء ما يأتي بلغوه كل من يسودونهم فيسمعه كل أهل شيكم.

أَأَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْكُمْ سَبْعُونَ رَجُلاً على دعوى أبيمالك أن أبناء جدعون كانوا يدّعون إرث السلطة عن أبيهم جدعون مع أنه أبى التسلط لنفسه ولأولاده وقال للشعب «الرب يتسلط عليكم» والظاهر هذا من مظنوناته أو من معرفته أن الشعب يولي عليه كل هؤلاء الأبناء أو أن ذلك احتيال منه لجذب الجميع إلى نفسه.

أَنَا عَظْمُكُمْ وَلَحْمُكُمْ يريد بذلك أنه مولود امرأة منهم وهذا الخطاب لأخواله على أنه يجوز أن يكون للجميع إذ شكيم مدينة أمه فكأن كل سكانها أقرباؤه. وكان إسرائيليو شكيم أفرايميين وأبوه من منسى ومنسى وأفرايم ابنا يوسف (ص 6: 15).

3 «فَتَكَلَّمَ أَخْوَالِهِ عَنْهُ فِي آذَانِ كُلِّ أَهْلِ شَكِيمَ بِجَمِيعِ هٰذَا ٱلْكَلاَمِ. فَمَالَ قَلْبُهُمْ وَرَاءَ أَبِيمَالِكَ، لأَنَّهُمْ قَالُوا: أَخُونَا هُوَ».

تكوين 29: 15

فَتَكَلَّمَ أَخْوَالِهِ عَنْهُ لا ريب في أنهم بذلوا جهدهم في استمالة القلوب إليه لاعتقادهم أنه يكون معهم لا عليهم إذا حكم لأنهم أخواله بخلاف غيره من إخوته.

فَمَالَ قَلْبُهُمْ وَرَاءَ أَبِيمَالِكَ أي حملتهم عواطف قلوبهم على اتباعه وأفرد القلب لأنهم كانوا في اختياره كشخص واحد.

لأَنَّهُمْ قَالُوا: أَخُونَا هُوَ أي قريبنا فهو خير لنا من سواه.

4 «وَأَعْطُوهُ سَبْعِينَ شَاقِلَ فِضَّةٍ مِنْ بَيْتِ بَعْلِ بَرِيثَ، فَٱسْتَأْجَرَ بِهَا أَبِيمَالِكُ رِجَالاً بَطَّالِينَ طَائِشِينَ، فَسَعَوْا وَرَاءَهُ».

ص 8: 33 ص 11: 3 و2أيام 13: 7 وأمثال 12: 11 وأعمال 17: 5

وَأَعْطُوهُ سَبْعِينَ شَاقِلَ فِضَّةٍ أي نحو تسع ليرات إنكليزية. هذا إذا قطعنا النظر عن أنهم كانوا ينهبون ويسلبون كل ما تصل إليه أيديهم لأن رجال أبيمالك كانوا رجالاً بطالين طائشين وإنه لم يكن محتاجاً إلا إلى نفقة بضعة أيام إذ أقاموه ملكاً على أثر قتله إخوته (ع 6) وكان عدد الشواقل على عدد أبناء جدعون.

مِنْ بَيْتِ بَعْلِ بَرِيثَ أي من بيت المال في هيكل بعل العهود (ص 8: 33 انظر التفسير). وكان الهيكل عند الأقدمين معبداً وحصناً وخزانة ومثل هيكل بعل بريث كان هيكل فينس أي الزهرة على جبل إيركس وهيكل جوبتير أي المشتري.

فَٱسْتَأْجَرَ بِهَا أي بالشواقل السبعين.

رِجَالاً بَطَّالِينَ طَائِشِينَ البطالون الذين لا عمل لهم يرزقون منه فيضطرون إلى السرقة والنهب والقتل أحياناً والطائشون الحمقى النزقون أي السريعو الغضب الخفاف الأحلام الضعيفو العقول. ومثل هؤلاء كثيراً ما يخدمون في الحرب بلا أجرة بغية الغنيمة. وكثيراً ما كانوا يُستأجرون لارتكاب المظالم والتعديات.

فَسَعَوْا وَرَاءَهُ أي اتبعوه ساعين سعيه عاملين عمله.

5 «ثُمَّ جَاءَ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ فِي عَفْرَةَ وَقَتَلَ إِخْوَتَهُ بَنِي يَرُبَّعْلَ، سَبْعِينَ رَجُلاً، عَلَى حَجَرٍ وَاحِدٍ. وَبَقِيَ يُوثَامُ بْنُ يَرُبَّعْلَ ٱلأَصْغَرُ لأَنَّهُ ٱخْتَبَأَ».

ص 6: 24 و2ملوك 11: 1 و2

جَاءَ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ فِي عَفْرَةَ جاء من شكيم مع رجاله البطالين الطائشين إلى إخوته في عفرة قرية أبيه كانت في سهم منسى قرب شكيم وهي المعروفة اليوم بفرعاتا على رأي كندر. ولعل أبيمالك انتهز الفرصة في وليمة أهلية كما انتهرها أبشالوم (2صموئيل 13: 23). ولا ريب في أن إخوته لم يكونوا قد عرفوا شيئاً من تدبيره لإسراعه إلى إدراك مقصده.

وَقَتَلَ إِخْوَتَهُ .. سَبْعِينَ رَجُلاً على ما أمر ونوى (انظر تفسير ع 18) فلم يبق من أبناء جدعون الأحد والسبعين إلا يوثام وابن السرّية وقتل أبيمالك إخوته لئلا ينازعوه الملك. وهذا أول ما ذكره الكتاب من قتل الطامعين بالملك لإخوتهم وأقربائهم من أولياء العهد وكل منازع في الملك (انظر 1ملوك 15: 29 و16: 11 و2ملوك 10: 7 و11: 1) وفي التواريخ العالمية كثير من أمثال ذلك.

عَلَى حَجَرٍ وَاحِدٍ قال أحد المفسرين لعل هذا الحجر هو الصخرة التي بنى عليها جدعون المذبح.

وَبَقِيَ يُوثَامُ... لأَنَّهُ ٱخْتَبَأَ لم يُذكر مخبأه ولعله لما رأى أن الأعداء هجموا على إخوته ورأى أنه لا يستطيع المقاومة هرب واختبأ في غارٍ أو ما شاكله لأنه كان ابن جدعون الأصغر.

6 «فَٱجْتَمَعَ جَمِيعُ أَهْلِ شَكِيمَ وَكُلُّ سُكَّانِ ٱلْقَلْعَةِ وَذَهَبُوا وَجَعَلُوا أَبِيمَالِكَ مَلِكاً عِنْدَ بَلُّوطَةِ ٱلنَّصَبِ ٱلَّذِي فِي شَكِيمَ».

يشوع 24: 26

أَهْلِ شَكِيمَ أي رؤساء شكيم أو أصحابها أو أربابها.

سُكَّانِ ٱلْقَلْعَةِ وفي الأصل العبراني «بيت مِلُوا» أي بيت مِلُو ولم يُعلم أهو اسم مكان أو ملو المكان والبيت والسكان. ولكن جاء في الكلدانية «سكان القلعة» فجرى عليها المترجم وعلى هذا فالمراد بالقعلة برج شكيم (انظر ع 46 - 49). وتُرجم بيت ملو بالحصن والقلعة في (2صموئيل 5: 9 و2ملوك 12: 20).

وَجَعَلُوا أَبِيمَالِكَ مَلِكاً فكان أول إسرائيلي لُقب بالملك. ولم يظهر أن اعترف له بذلك غير الأفرايميين. فاذكر هنا أن أباه جدعون أبى أن يكون متسلطاً (ص 8: 23).

عِنْدَ بَلُّوطَةِ ٱلنَّصَبِ النصب هنا في العبراينة «مصب» واختلف المترجمون بترجمتها فترجمها بعضهم «بالعمود» وبعضهم «بالتمثال» وآخر «بالعالية أو الرفيعة» وآخر «بالحصن» وغيره «بالحرس أو القلعة» ولكن هذه البلوطة هي التي طمر يعقوب تحتها الآلهة الغريبة والأقراط (تكوين 35: 4). فرأى بعضهم أن «مصب» علم لذلك الحجر والنصب في العربية العلم المنصوب وهذا يدل أنهم اتخذوا تلك البلوطة عموداً ينشرون عليه العَلَم.

دعوى يوثام واحتجاجه ع 7 إلى 21

7 «وَأَخْبَرُوا يُوثَامَ فَذَهَبَ وَوَقَفَ عَلَى رَأْسِ جَبَلِ جِرِزِّيمَ، وَنَادَى: اِسْمَعُوا لِي يَا أَهْلَ شَكِيمَ يَسْمَعْ لَكُمُ ٱللّٰهُ».

تثنية 11: 29 و27: 12 ويشوع 8: 33 ويوحنا 4: 20

وَأَخْبَرُوا يُوثَامَ أي أخبروه بجعل أهل شكيم وسكان القلعة أبيمالك ملكاً.

وَقَفَ عَلَى رَأْسِ جَبَلِ جِرِزِّيمَ هو جبل فوق شكيم ترتفع قنته عنها ثماني مئة قدم وعن سطح البحر 2850 قدماً.

وَنَادَى: اِسْمَعُوا لِي يَا أَهْلَ شَكِيمَ إن قنة جرزّيم تعلو شكيم بنحو سدس ميل وقال بعض أهل الأسفار أنه سمع صوت المكاري على جرزّيم من أمد أبعد من ذلك. وإنه سمع صوت بعض الرعاة يخاطب الآخر ويجيبه على أبعد من هذه المسافة. هذا على أن قوله «وقف على رأس جرزيم» لا يلزم منه ضرورة أنه وقف على أعلى جزء منه فإنه قد يكون المنادي على الجبل في أقرب موضع من المنادى. ويقال إنه ناداه من رأس الجبل (ع 7) على سبيل التقريب. أو المراد أنه ناداه من رأس أكمة من آكام ذلك الجبل.

يَسْمَعْ لَكُمُ ٱللّٰهُ جواب قوله «اسمعوا لي» أي إن سمعتم لي يسمع الله لكم أي يجازيكم خيراً بإجابته دعاءكم. أو هي جملة دعائية للاستعطاف ولا يزال أهل بلادنا يأتون أمثال ذلك إلى الآن مثل قولهم سهّل لي أمري سهّل الله أمرك. وقولهم هوّن عليّ هوّن الله عليك. وأفادنا أفادك الله وهلم جراً.

فإن قلت كيف تجاسر يوثام على ذلك ودماء إخوته لم يجف قلنا ما وقف هذا الموقف إلا وقد أعدّ المهرب أو المخبأ لأنه كان حذراً كما عرفت من هربه ففي جرزيم كثير من المخابئ والكهوف التي لا يهتدي إليها أو لا يجسر أحدٌ على الدخول إلى المختبئ فيها. وما هي أهمية شاب يصرخ على رأس جبل منفرداً حتى يهيج القوم على لحاقه والتفتيش عنه وأبيمالك صار ملكاً وكل أهل المدينة معه. ولعلهم لم يعرفوا أنه من أبناء جدعون إلى أن قرب من نهاية كلامه فكان له فرصة للهرب والاختباء (ع 18).

8 «مَرَّةً ذَهَبَتِ ٱلأَشْجَارُ لِتَمْسَحَ عَلَيْهَا مَلِكاً. فَقَالَتْ لِلزَّيْتُونَةِ: ٱمْلِكِي عَلَيْنَا».

2ملوك 14: 9 ص 8: 22 و23

ذَهَبَتِ ٱلأَشْجَارُ يراد بالأشجار هنا أهل شكيم. رأينا في هذه الآية أول تمثيل خيالي. والتمثيلات الخيالية تكثر في اللغات السامية وسائر لغات المشرق وأكثرها في أقوال الشعراء فهم أرباب التخيلات وعشراء الخيال واللائذون إليه عند بخل عالم الحس الظاهر عليهم بما يمثلون به فينسبون إلى المحسوسات ما ليس لها في الخارج. وقد جاء مثل ذلك في مواضع أُخر من الكتاب. ومنها تمثيل ناثان لفعل داود (2صموئيل 12: 1 - 4). وتمثيل داود لشعب إسرائيل (مزمور 80: 8 - 13). وتمثيل في آية التفسير هنا تمثيل يهوآش ملك إسرائيل لفعل أمصيا ملك يهوذا (2ملوك 14: 9). ونُسب الكلام إلى الأشجار والطيور والوحوش والبهائم في كثير من كتب المشارقة الأدبية مثل كتاب كليلة ودمنة المترجم إلى العربية من إحدى اللغات الهندية. والغاية من ذلك تقرير المقصود الأدبي في الأذهان لغرابة أسلوبه فإن الإنسان لو رأى الأشجار أو البهائم تتخاطب وتتآمر لما نسي ذلك إلى الأبد لما فيه من العجب. وقد يكون الغرض من ذلك تبليغ الحكمة على أسلوب لا يهين أحد الناس الذين يصدق عليهم التمثيل تلطفاً وتأدباً أو لغير ذلك من الأغراض المختلفة.

وقوله «ذهبت» الأشجار «أول عجائب هذا التمثيل لأن الأشجار لا تمشي». فلا بد من أن السامعين تصوروها تمشي كالناس وأثر ذلك في نفوسهم عجباً ولو كان تخييلاً. فإن التخيل كثيراً ما يؤثر تأثيراً عجيباً في النفوس. وهذا حمل السامعين على شدة الإصغاء إلى كلامه.

لِتَمْسَحَ عَلَيْهَا مَلِكا المسح في الكتاب المقدس صب الزيت أو الدهن على الموقوف لخدمة الله من الجماد والأحياء (تكوين 28: 18 و31: 13 وخروج 30: 23 - 33).

فَقَالَتْ لِلزَّيْتُونَةِ: ٱمْلِكِي عَلَيْنَا قدّم الزيتونة في التمثيل لأنها أنفع الأشجار بزيتونها وزيتها وخشبها وغير ذلك من أمورها. وكان الزيت من المتقدمات للرب ولمسح الكهنة والملوك وأدوات الخدمة الدينية وهو كثير النفع في الطب والعلاج وكان نور الأبصار ليلاً. ومن جمالها لمعان أوراقها وتألق خشبها المصقول الذي هو جمال كثير من أثاث بيوت الأغنياء ومنظر الشجرة حسن يبهج النظر والقلوب. وموطن الزيتون الأصلي أسيا ومنها نُقل إلى مصر وبلاد المغرب وجنوبي أوربا.

في قاموس الكتاب أن الزيتون من الأشجار المعروفة قديماً في فلسطين (تثنية 6: 11). ويقوم بهاؤه (هوشع 14: 6) في أن أوراقه خضراء من الأعلى وسنجابية فضية من الأسفل حتى إذا هزتها الريح ظهرت الشجرة من بعيد كأنها مغطاة ببرقع فضي شفاف حسن جداً وزهره أبيض وكثيراً ما ينثر فتشبه به حينئذ العاقر (أيوب 15: 33).

ويعيش الزيتون مئات من السنين ويحمل في الشيبة كالأرز والنخلة (مزمور 92: 13 و14).

9 «فَقَالَتْ لَهَا ٱلزَّيْتُونَةُ: أَأَتْرُكُ دُهْنِي ٱلَّذِي بِهِ يُكَرِّمُونَ بِيَ ٱللّٰهَ وَٱلنَّاسَ، وَأَذْهَبُ لأَمْلِكَ عَلَى ٱلأَشْجَارِ؟».

مزمور 104: 15

أَأَتْرُكُ دُهْنِي أي زيتي والدهن الذي يصنع منه بمزجه بغيره من الطيبات. والاستفهام هنا إنكاري والمعنى إني لا أترك دهني وفيه تنبيه على خطإ الأشجار وقس على ذلك استفهام التينة والكرمة في ما يأتي.

ٱلَّذِي بِهِ يُكَرِّمُونَ بِيَ ٱللّٰهَ وَٱلنَّاسَ أي الذي لأجله يكرم بي الناس الله ونفوسهم ويكرم الله والناس بي لأجل زيتي. فإكرام الله باتخاذ زيتها مسحة للموقوف لله من كل جنس ونوع وقرباناً عل مذبحه تعالى. وإكرام الناس بكونه طعاماً نافعاً لهم ودهناً مطهراً ومحسناً ومادة إضاءة الظلمات ودواء لأدواء كثيرة (انظر تفسير ع 8 وانظر أيضاً خروج 27: 20 و29: 7 و30: 22 - 33).

وَأَذْهَبُ لأَمْلِكَ عَلَى ٱلأَشْجَارِ يفيد ما في أول الآية إلى هنا أن الاشتغال بالملك يشغل عن كثير من الأعمال النافعة للناس لأن الملك عرضة لزيادة طلب السيادة والطمع في الخيرات العالمية والمجد الفاني. وفي رفض الزيتونة للملك إيماء إلى رفض الصالحين إياه وترك الملك لله كما كان من جدعون.

10 «ثُمَّ قَالَتِ ٱلأَشْجَارُ لِلتِّينَةِ: تَعَالَيْ أَنْتِ وَٱمْلِكِي عَلَيْنَا».

ثُمَّ قَالَتِ ٱلأَشْجَارُ لِلتِّينَةِ الخ ذكر التينة ثانية لأنها ثاني الزيتونة في النفع والجمال وهي ذات ثمر لذيذ مغذٍ. والتين شجر مشهور في سورية وفلسطين وكانت منزلته عند القدماء عظيمة. ومن خواصه الغريبة إن ثمره يظهر قبل أوراقه فإذا ظهرت في شجرته الأوراق ولم تظهر الأثمار قُنط من إثمارها. وإيراق التين في فلسطين من الأدلة على قرب الصيف (نشيد الأناشيد 2: 13 ومتّى 24: 32 ولوقا 21: 29 و30). وثمره ثلاثة صنوف:

  • الأول: الباكوري (نشيد الأناشيد 2: 13) وينضج في أواخر حزيران وهو جميل لذيذ كثيراً (إرميا 24: 2). وشبّه هوشع النبي علاقة الرب ببني إسرائيل بهذا الصنف في قوله «رَأَيْتُ آبَاءَكُمْ كَبَاكُورَةٍ عَلَى تِينَةٍ فِي أَوَّلِهَا» (هوشع 9: 10).

  • الثاني: الصيفي وهو ينضج تمام النضج في آب وأيلول ويُجفف أكثره ويُذخر للشتاء.

  • الثالث: الشتوي ويبقى على الأشجار إلى فصل الشتاء وقد يبقى عليها إلى الربيع وبعض صنوفه لا تنضج إلا في أواخر الخريف وأوائل الشتاء.

وكان الأقدمون ومن بعدهم يذخرون التين المجفّف طعاماً للشتاء كالمحدثين (1أيام 12: 40) فإن أبيجايل لاقت داود بمئتي قرص من التين (1صموئيل 25: 18). وكانوا يعالجون به بعض الأمراض (انظر 2ملوك 20: 7).

11 «فَقَالَتْ لَهَا ٱلتِّينَةُ: أَأَتْرُكُ حَلاَوَتِي وَثَمَرِي ٱلطَّيِّبَ وَأَذْهَبُ لأَمْلِكَ عَلَى ٱلأَشْجَارِ؟».

أَأَتْرُكُ حَلاَوَتِي وَثَمَرِي ٱلطَّيِّبَ إن الملك يشغل عن الحلاوة والثمر الطيب أي عن إبهاج الناس وتقديم ما هو طيّب من أسباب المعاش لهم.

12 «فَقَالَتِ ٱلأَشْجَارُ لِلْكَرْمَةِ: تَعَالَيْ أَنْتِ وَٱمْلِكِي عَلَيْنَا».

فَقَالَتِ ٱلأَشْجَارُ لِلْكَرْمَةِ أي لشجرة العنب ومن الغريب جعل الكرمة ثالثة مع أن حقها أن تكون الأولى فإن جمال العنب ولذته ومنافعه كثيرة كما يعلم الكبار والصغار وكانوا يكنون عن أزمنة الضيق بسوء حاله (إشعياء 7: 23 و24: 7). وعن أزمنة الرحب بحسن حاله (زكريا 8: 12). ولعله ذكر الكرمة ثالثة لأنها لا ترتفع بنفسها كالزيتون والتين بل تمتد على الأرض ما لم يُبن لها عريش أو يُنصب لها مسماك. وفي الكتاب أن نوحاً غرس كرمة ولم يذكر أن أحداً قبله غرسها. وكان الكرم من أكرم أملاك العبرانيين. وموطنه الأصلي جبال أسيا الصغرى لكن سورية وفلسطين اشتهرتا بأحسن صنوفه.

13 «فَقَالَتْ لَهَا ٱلْكَرْمَةُ: أَأَتْرُكُ مِسْطَارِي ٱلَّذِي يُفَرِّحُ ٱللّٰهَ وَٱلنَّاسَ وَأَذْهَبُ لأَمْلِكَ عَلَى ٱلأَشْجَارِ؟».

مزمور 104: 15

أَأَتْرُكُ مِسْطَارِي المسطار هنا في الأصل العبراني «تيروش» ترجمها بعضهم بالخمر وقال بعضهم إنها قد تعني العنقود. ومعنى المسطار هنا الخمرة الحديثة ولعلها ما يُعرف اليوم عند العامة بالجلاب وهو ماء الزبيب وقد أخذ في الاختمار لا الخمرة الصارعة لشاربها. واسم الخمرة المسكرة في العبرانية «يين» لا «تيروش» (انظر في الأصل العبراني تكوين 9: 21 وعدد 6: 3).

يُفَرِّحُ ٱللّٰهَ يفرّح المسطار الله بتقديمه له والمراد بتفريحه تعالى إرضاؤه بتقديم المسطار له مع الذبيحة اليومية (خروج 29: 38 - 40 ومزمور 104: 15). على أنه لا غلو لأن تفريحه تعالى كناية عن إرضائه أو استعارة له ومثله كثير في الكتاب واللغات السامية كنسبة الندم إليه تعالى والغضب والغيظ والحزن والنسيان والمراد بها لوازم معانيها أو ما شُبه بها (خروج 32: 14 ومزمور 78: 21).

وَٱلنَّاسَ (انظر مزمور 104: 15).

14 «ثُمَّ قَالَتْ جَمِيعُ ٱلأَشْجَارِ لِلْعَوْسَجِ: تَعَالَ أَنْتَ وَٱمْلِكْ عَلَيْنَا».

لِلْعَوْسَجِ وهو في الأصل العبراني «اطد» والأطد في العربية عيدان العوسج. والعوسج على ما في محيط المحيط شجر يقارب الرمان في الارتفاع والتفريغ لكن له ورق حديد وشوك وعليه رطوبة تدبق وثمره كالحمص إلى طول ويكون غالباً في السباخ ويقيم زماناً طويلاً. فانظر أين هذا من الزيتون والتين والكرم وماذا يترك العوسج من النافعات إذا صار ملكاً على الأشجار أشوكه أو دبقه أم سباخه. إن أشوق الحيوان إلى الرفعة الدنيء.

15 «فَقَالَ ٱلْعَوْسَجُ لِلأَشْجَارِ: إِنْ كُنْتُمْ بِٱلْحَقِّ تَمْسَحُونَنِي عَلَيْكُمْ مَلِكاً فَتَعَالُوا وَٱحْتَمُوا تَحْتَ ظِلِّي. وَإِلاَّ فَتَخْرُجَ نَارٌ مِنَ ٱلْعَوْسَجِ وَتَأْكُلَ أَرْزَ لُبْنَانَ!».

إشعياء 30: 2 ودانيال 4: 12 وهوشع 14: 7 عدد 21: 28 وع 20 وحزقيال 19: 14 و2ملوك 14: 9 ومزمور 104: 16 وإشعياء 2: 13 و37: 24 وحزقيال 31: 3

إِنْ كُنْتُمْ بِٱلْحَقِّ تَمْسَحُونَنِي عَلَيْكُمْ مَلِكاً خوطبت الأشجار هنا بضمير العقلاء لأنها جُعلت في منزلة العقلاء في طلب ملك عليها. وقال العوسج هذا لشكه في أن الأشجار تختاره ملكاً مع ما هو عليه من القبح والدناءة.

فَتَعَالُوا وَٱحْتَمُوا تَحْتَ ظِلِّي إن الشوك والورق الحاد ظله كالعدم فقال يوثام هذا على سبيل الهزء والتهكم.

وَإِلاَّ فَتَخْرُجَ نَارٌ مِنَ ٱلْعَوْسَجِ الخ ما اكتفى العوسج بالطمع بالملك إذ عُرض عليهم والرغبة في أن يصير ملكاً فتهدد الأشجار بدلاً من الشكر لها على هذه الدعوة وهذا شأن الأدنياء اللؤماء. وما أحسن قول المتنبي هنا:

Table 14. 

إذا أنت أكرمت الكريم ملكتهوإن أنت أكرمت اللئيم تمردا    

والمراد أن للعوسج شوكاً تنتشر فيه النار سريعاً والناس يأخذونه وقوداً لسرعة اشتعاله وإذا اشتعل العوسج امتدت ناره وأحرقت ما جاوره من الأشجار إلى أن يحرق أدغالاً وآجاماً كثيرة وأرز لبنان العظيم. وهذا نهاية تمثيل يوثام. ومعظم المقصود منه ثلاثة أمور:

  1. إن الضعيف الدنيء الذي ليس بأهل للملك يرغب فيه كل الرغبة وإن الحكيم القوي الفاضل الذي هو أهلٌ له يأباه.

  2. إن إكرام اللئيم يزيده لؤماً وتمرداً.

  3. إن من ملَّك من ليس أهلاً للملك أضرّ بنفسه وبسائر الرعيّة.

16 «فَٱلآنَ إِنْ كُنْتُمْ قَدْ عَمِلْتُمْ بِٱلْحَقِّ وَٱلصِّحَّةِ إِذْ جَعَلْتُمْ أَبِيمَالِكَ مَلِكاً، وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ فَعَلْتُمْ خَيْراً مَعَ يَرُبَّعْلَ وَمَعَ بَيْتِهِ. وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ فَعَلْتُمْ لَهُ حَسَبَ عَمَلِ يَدَيْهِ».

ص 8: 35

فَٱلآنَ أخذ هنا يبيّن ما ضرب مثله فيه أو في تفسير ما ذكره من التمثيل. وهذا البيان من هذه الآية إلى الآية العشرين كالنتيجة وما قبلها كالمقدمات.

إِنْ كُنْتُمْ قَدْ عَمِلْتُمْ بِٱلْحَقِّ وَٱلصِّحَّةِ أي إن كنتم أنصفتم وأصبتم. وهذا بيان لقول العوسج «إِنْ كُنْتُمْ بِٱلْحَقِّ تَمْسَحُونَنِي عَلَيْكُمْ مَلِكاً» (ع 15) ليبيّن أن أبيمالك هو المراد بالعوسج. وفيه ما فيه من شدة التوبيخ والتهكُّم.

وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ فَعَلْتُمْ خَيْراً مَعَ يَرُبَّعْلَ هذا من أشدّ التوبيخ والتهكم وبيان الكفر بالنعمة. واختار يوثام الاسم «يربّعل» على الاسم «جدعون» إشارة إلى ما فعله جدعون في طاعة الله من هدم مذبح البعل ليُظهر جهلهم وكفرهم ووهن البعل إلههم الباطل.

وَمَعَ بَيْتِهِ توبيخ شديد على مجاراتهم لبيت جدعون شراً على ما فعله لهم من الخير.

وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ فَعَلْتُمْ لَهُ حَسَبَ عَمَلِ يَدَيْهِ معنى هذه الآية كالخامسة والثلاثين من الأصحاح الثامن أتى بها على هذه الصورة للجمع بين الحقيقة والتهكم. ونصّ تلك الآية «ولم يعملوا معروفاً مع بيت يربعل جدعون نظير كل الخير الذي عمل مع إسرائيل».

17 «لأَنَّ أَبِي قَدْ حَارَبَ عَنْكُمْ وَخَاطَرَ بِنَفْسِهِ وَأَنْقَذَكُمْ مِنْ يَدِ مِدْيَانَ».

لأَنَّ أَبِي قَدْ حَارَبَ عَنْكُمْ وَخَاطَرَ بِنَفْسِهِ أعلن بقوله «أبي» إنه هو أحد أولاد جدعون فعرفه من لم يكن يعرفه منهم. وأوضح أن له الحق في توبيخهم على مجازاتهم الخير بالشر. وقوله «حارب عنكم» تلميح إلى ترك من تبعوه سوى الثلاث مئة. وبقوله «خاطر بنفسه» تلميح إلى نزوله ليلاً إلى معسكر الأعداء وتصديه لمحاربة 135 ألفاً بثلاث مئة (راجع ص 7).

وَأَنْقَذَكُمْ مِنْ يَدِ مِدْيَانَ الذين استعبدوكم سبع سنين واعتزت يدهم عليكم وألجأوكم إلى سكنى الكهوف في الجبال ونهبوا زروعكم وأتلفوا غلالكم ولم يتركوا لكم قوت الحياة ولا غنماً ولا بقراً ولا حميراً (ص 6: 1 - 6).

18 «وَأَنْتُمْ قَدْ قُمْتُمُ ٱلْيَوْمَ عَلَى بَيْتِ أَبِي وَقَتَلْتُمْ بَنِيهِ، سَبْعِينَ رَجُلاً عَلَى حَجَرٍ وَاحِدٍ وَمَلَّكْتُمْ أَبِيمَالِكَ ٱبْنَ أَمَتِهِ عَلَى أَهْلِ شَكِيمَ لأَنَّهُ أَخُوكُمْ!».

ع 5 و6

وَقَتَلْتُمْ بَنِيهِ سَبْعِينَ رَجُلاً كان أبيمالك قتل إخوته (ع 5) وحُسب فعله فعل أهل شكيم لأنهم اتفقوا معه وأعطوه مالاً. حسب يوثام نفسه من القتلى بالنظر إلى نيتهم لأنه لو لم يهرب قتلوه لأن النيّة الثابتة كالعمل. ومثل هذا كثير في اللغات الساميّة. ومثله في العربية إن أسحاق لُقّب بالذبيح وهو لم يُذبح فعلاً بل نيّة على ما في قصة التوراة (تكوين 22: 9 - 12). وقال أبو العلاء المشهور بالمعرّي:

فلو صحّ التناسخ كنت موسى وكان أبوك إسحاق الذبيحا

قال شارح ديوانه: اسم هذا الممدوح كان موسى واسم أبيه إسحاق. يقول اجتمع فيك وفي أبيك خصال الأنبياء فلو كان القول بالتناسخ حقاً لقلنا أنك موسى بن عمران وإن أباك إسحاق بن إبراهيم الذبيح. والصحيح أن الذبيح هو إسحاق. قال هذا لأن بعض المسلمين ذهب إلى أن إسماعيل هو الذبيح.

عَلَى حَجَرٍ وَاحِدٍ (انظر تفسير ع 5).

وَمَلَّكْتُمْ أَبِيمَالِكَ ٱبْنَ أَمَتِهِ قصد بذلك تحقير أم أبيمالك لأنها كانت سريّة جدعون والسريّة تكاد تكون كالأَمة.

لأَنَّهُ أَخُوكُمْ أي لمجرد أنه ابن امرأة منكم لا لكونه أهلاً للملك ولا لكونه ابن يربّعل. وفي قوله أنه أخوهم بعد قوله أنه ابن أَمة أبيه تحقير لهم أيضاً. ولا يُستغرب مثل هذا الكلام من فتىً كفروا بنعمة والده وقتلوا إخوته ولولا فراره قتلوه أيضاً.

19 «فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ عَمِلْتُمْ بِٱلْحَقِّ وَٱلصِّحَّةِ مَعَ يَرُبَّعْلَ وَمَعَ بَيْتِهِ فِي هٰذَا ٱلْيَوْمِ، فَٱفْرَحُوا أَنْتُمْ بِأَبِيمَالِكَ، وَلْيَفْرَحْ هُوَ أَيْضاً بِكُمْ».

إشعياء 8: 6 وفيلبي 3: 3

فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ عَمِلْتُمْ بِٱلْحَقِّ وَٱلصِّحَّةِ أي فإن كنتم قد أنصفتم وأصبتم. حمل بعضهم ذلك على ظاهره كأنه فهم منه أن إقامتهم لأبيمالك كانت إكراماً لجدعون لأنه أبوه. ولكن القرينة والتمثيل المذكور آنفاً يدل على أن مراده أنهم لم ينصفوا ولم يصيبوا بمسحه ملكاً عليهم كما لم تنصف الأشجار ولم تصب بمسحها العوسج ملكاً عليها.

فَٱفْرَحُوا أَنْتُمْ بِأَبِيمَالِكَ، وَلْيَفْرَحْ هُوَ أَيْضاً بِكُمْ هذا تهكم.

20 «وَإِلاَّ فَتَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَبِيمَالِكَ وَتَأْكُلَ أَهْلَ شَكِيمَ وَسُكَّانَ ٱلْقَلْعَةِ، وَتَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَهْلِ شَكِيمَ وَمِنْ سُكَّانِ ٱلْقَلْعَةِ وَتَأْكُلَ أَبِيمَالِكَ».

ع 15 و56 و57

وَإِلاَّ أي وإن كنتم قد جرتم وأخطأتم باختياركم أبيمالك ملكاً لمجرد أنه أخوكم.

فَتَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَبِيمَالِكَ كما تخرج من العوسج.

وَتَأْكُلَ أَهْلَ شَكِيمَ كما تأكل نار العوسج أرز لنبان.

وَتَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَهْلِ شَكِيمَ... وَتَأْكُلَ أَبِيمَالِكَ إن النار التي تخرج من العوسج تحرق غيره من الأشجار ونار الأشجار تحرقه. أي إن شر أبيمالك يقع عليه كما يقع على غيره. والمراد «بالقلعة» في الآية برج شكيم (انظر تفسير ع 6).

إن أهل شكيم أخطأوا باختيار أبيمالك وأبيمالك أخطأ بسعيه في أن يكون ملكاً فوقع العقاب على الفريقين وكان كلام يوثام كالنبوءة كما ستعرف. وهنا نهاية بيان المضروب له المثل أو المراد من التمثيل.

21 «ثُمَّ هَرَبَ يُوثَامُ وَفَرَّ وَذَهَبَ إِلَى بِئْرَ، وَأَقَامَ هُنَاكَ مِنْ وَجْهِ أَبِيمَالِكَ أَخِيهِ».

2صموئيل 20: 14

هَرَبَ يُوثَامُ... إِلَى بِئْرَ اشترك أماكن كثيرة بفلسطين في هذا الاسم. ولا شيء يدلنا أين كان هذا الموضع ولعله بثيروت في سهم بنيامين (يشوع 9: 17) وتسمى اليوم البيرة وهي في شمالي أورشليم وعلى غاية عشرة أميال منها.

مِنْ وَجْهِ أَبِيمَالِكَ أَخِيهِ أي من نظره وأثار الغيظ التي على وجهه وإرادته قتله فعلاً بعد أن كان قد قتله نيّة.

فتنة جَعَل ع 22 إلى 33

22 «فَتَرَأَّسَ أَبِيمَالِكُ عَلَى إِسْرَائِيلَ ثَلاَثَ سِنِينَ».

فَتَرَأَّسَ أَبِيمَالِكُ عَلَى إِسْرَائِيلَ أي على بعض إسرائيل لا كلهم. قال الكاتب «ترأس» ولم يقل ملك مع أنهم مسحوه ملكاً ليدل أنه لم يحصل على احترام ملك بل كان بمنزلة رئيس أو شيخ لإسرائيل. ولعل كثيرين كرهوه ومقتوه لما فعله بإخوته ولأنه ابن سريّة ولأنه لم يكن ملكاً شرعياً بل مغتصباً. والمرجّح كل الترجيح أن رئاسته لم تمتد خارج شكيم إلا قليلاً وأكثر الإسرائيليين لم يكترثوا برئاسته ولم يسلموا بأنه ملك ولا رئيس بدليل أن المجاورين لشكيم كانوا يعصونه (انظر ع 50).

ثَلاَثَ سِنِينَ كانت سنو الإسرائيليين شمسية وأشهرها قمرية وكانوا متى صار الفرق من الأشهر شهراً أو يقرب من شهر زادوه على السنة فكانت ثلاثة عشر شهراً لينطبق الحساب على السنة الشمسية.

23 «وَأَرْسَلَ ٱلرَّبُّ رُوحاً رَدِيئاً بَيْنَ أَبِيمَالِكَ وَأَهْلِ شَكِيمَ، فَغَدَرَ أَهْلُ شَكِيمَ بِأَبِيمَالِكَ».

1صموئيل 16: 14 و18: 9 و10 و1ملوك 12: 15 و22: 22 و2أيام 10: 15 و18: 19 الخ وإشعياء 19: 2 و14 إشعياء 33: 1

وَأَرْسَلَ ٱلرَّبُّ رُوحاً رَدِيئاً للروح معان كثيرة أصلها الهواء المتحرك كالريح وهي تُذكَّر وتؤَنث وتطلق في الكتاب المقدس على الذوات المجردة عن المحسوسات كالنفوس والملائكة وتُطلق على الأميال والأخلاق فالأرواح الرديئة الملائكة الأشرار والأخلاق أو الأميال الرديئة. قال بعض المفسرين «لا نعلم المراد بالروح هنا أذات كالشيطان هو أم معنىً كالميل أو الخلق فإن الروح الرديئة جاءت بمعنى الذات الشريرة (1صموئيل 16: 14) وجاءت بمعنى الخلق الشرير» (عدد 14: 24), وقال مفسر آخر «المعنى إن الله سمح بتفشي روح التشويش والخيانة». وكلا المعنيين صحيح وأحدهما يستلزم الآخر لأن الشيطان يحمل من تسلط عليه على التشويش والغدر. والميل إلى كل من الأمرين يستلزم إرضاء الشيطان وإبهاجه. فالروح الشرير الذي هو الشيطان والروح الشرير الذي هو الميل إلى التشويش والغدر وُجدا بين أبيمالك وأهل شكيم.

بَيْنَ أَبِيمَالِكَ وَأَهْلِ شَكِيمَ الذي سعى في إغراء أهل شكيم بالانتصار لأبيمالك (ع 1 - 6) سعى في إغرائهم بالغدر به. وهذا دأب الروح الرديء ينصر الإنسان على ظلم غيره فيبهجه قليلاً فتأتي العاقبة المؤلمة طبعاً لأن الظم مرتع مبتغيه وخيم فيخذله كثيراً. يُذيق المجرب عسلاً ويشبعه حنظلاً.

فَغَدَرَ أَهْلُ شَكِيمَ بِأَبِيمَالِكَ الغدر عدم الوفاء ويعرف بإخلاف الوعد أيضاً فإن أخوال أبيمالك ومن انحاز إليهم من الأفرايميين أبانوا بما أتوه له أنهم يشدون إزره فأخلفوا بذلك وخلعوا نيره. فإن الله طويل الأناة لكنه شديد العقاب فأراه ثمرة جوره وقتله لإخوته وأتمّ على الفريقين ما أبانه يوثام بتمثيله. وما أحسن قول إشعياء هنا «وَيْلٌ لَكَ أَيُّهَا ٱلْمُخْرِبُ وَأَنْتَ لَمْ تُخْرَبْ، وَأَيُّهَا ٱلنَّاهِبُ وَلَمْ يَنْهَبُوكَ. حِينَ تَنْتَهِي مِنَ ٱلتَّخْرِيبِ تُخْرَبُ، وَحِينَ تَفْرَغُ مِنَ ٱلنَّهْبِ يَنْهَبُونَكَ» (إشعياء 33: 1).

24 «لِيَأْتِيَ ظُلْمُ بَنِي يَرُبَّعْلَ ٱلسَّبْعِينَ وَيُجْلَبَ دَمُهُمْ عَلَى أَبِيمَالِكَ أَخِيهِمِ ٱلَّذِي قَتَلَهُمْ، وَعَلَى أَهْلِ شَكِيمَ ٱلَّذِينَ شَدَّدُوا يَدَيْهِ لِقَتْلِ إِخْوَتِهِ».

1ملوك 2: 23 وأستير 9: 25 ومزمور 7: 16 ومتّى 23: 35 و36

لِيَأْتِيَ ظُلْمُ بَنِي يَرُبَّعْلَ... عَلَى أَبِيمَالِكَ (1ملوك 2: 5 ومتّى 23: 35 و27: 25) الجزاء من جنس العمل. والظالم مأخوذ بظلمه. والديّان العادل لا بدّ من أن ينصف وينتقم من الظالمين ولا سيما سافكي الدماء بغير حق. واللام في قوله ليأتي متعلقة بأرسل أو بغدر فالمعنى على الوجهين صحيح.

وَعَلَى أَهْلِ شَكِيمَ ٱلَّذِينَ شَدَّدُوا يَدَيْهِ شركاء الظالم في ظلمه شركاؤه في انتقام الله منه. احترق العوسج فأحرق ما حوله واشتعل ما حوله فزاده احتراقاً.

25 «فَوَضَعَ لَهُ أَهْلُ شَكِيمَ كَمِيناً عَلَى رُؤُوسِ ٱلْجِبَالِ، وَكَانُوا يَسْتَلِبُونَ كُلَّ مَنْ عَبَرَ بِهِمْ فِي ٱلطَّرِيقِ. فَأُخْبِرَ أَبِيمَالِكُ».

فَوَضَعَ لَهُ أَهْلُ شَكِيمَ كَمِيناً عَلَى رُؤُوسِ ٱلْجِبَالِ قوله «فوضع له» لا يعني ضرورة أنهم وضعوا الكمين ليقبض عليه إذا مرّ به والمراد الذي يقتضيه سياق الكلام أنهم وضعوه للإضرار به وتبيين ضعفه وإعلان عداوتهم له. ووضعوا الكمين على رؤوس الجبال ولا سيما عيبال وجرزّيم ليتمكن من رؤية كل الماريّن من أتباعه.

فَأُخْبِرَ أَبِيمَالِكُ لعل الذين أخبروه بعض الذين سُلبت أموالهم من المسافرين.

26 «وَجَاءَ جَعَلُ بْنُ عَابِدٍ مَعَ إِخْوَتِهِ وَعَبَرُوا إِلَى شَكِيمَ فَوَثِقَ بِهِ أَهْلُ شَكِيمَ».

جَعَلُ بْنُ عَابِدٍ لم نسمع بهذا الرجل إلا هنا. وجاء ذكره فجأة لأنه لم يكن منتظراً. والظاهر أنه من الكنعانيين الذين هاجروا من شكيم كراهة أن يكونوا تحت حكم أبيمالك لكرههم إياه وخوفهم من شره لأن الذي قتل سبعين أخاً لا يركن له الذين ليسوا من عشيرته ولا من شعبه أو لأمر آخر نجهله. ومعنى اسمه كراهة فهو كاسمه ومعنى عابد عبد.

مَعَ إِخْوَتِهِ لعلهم جماعة من اللصوص وقطّاع الطرق وهو زعيمهم أو المتقدم فيهم.

وَعَبَرُوا إِلَى شَكِيمَ فالظاهر أنهم كانوا يسلبون أبناء السبيل وعبروا من رؤوس الجبال إلى شكيم أو من الشاطئ الآخر من الأردن.

فَوَثِقَ بِهِ أَهْلُ شَكِيمَ لشيء رأوه لسبق معرفتهم إياه وإنه من القواد الذين يوثق بهم في محاربتهم لأبيمالك واستضعافهم أبيمالك لعلهم أن الإسرائيليين يكرهونه وإنه لولا أهل شكيم لم يستطع أن يملك.

27 «وَخَرَجُوا إِلَى ٱلْحَقْلِ وَقَطَفُوا كُرُومَهُمْ وَدَاسُوا وَصَنَعُوا تَمْجِيداً، وَدَخَلُوا بَيْتَ إِلٰهِهِمْ وَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَلَعَنُوا أَبِيمَالِكَ».

لاويين 19: 24 وإشعياء 16: 9 و10 وإرميا 25: 30 تثنية 12: 17 وع 4

قَطَفُوا كُرُومَهُمْ وَدَاسُوا أي قطفوا العنب وداسوا قمساً منه ليصنعوه خمراً.

وَصَنَعُوا تَمْجِيداً أي وتغنوا بالتسبيح لإلههم الباطل. فإن قطاف العنب ودوسه لصنع الخمر كان عندهم من أبهج الأعمال ووقته من أبهج الأوقات فكانوا يحملون الجنيّ بالهتاف ويدوسون العنب بالترنم (انظر إشعياء 16: 9 و10 وإرميا 25: 30). و«التمجيد» هنا في العبرانية «هلوليم» ولم ترد في الكتاب المقدس إلا هنا وفي (لاويين 19: 24) وتُرجمت في كتابنا «بالتمجيد» في الموضعين والمراد به إعلان الفرح بالغناء.

وَدَخَلُوا بَيْتَ إِلٰهِهِمْ بعل بريث. كان الأمم يقيمون بعض الاجتماعات الجمهورية أو الشعبية في هياكل الأصنام (انظر ص 16: 23).

وَأَكَلُوا وَشَرِبُوا في هيكل البعل وكانوا يأتون بعض الولائم في هياكل الأصنام.

وَلَعَنُوا أَبِيمَالِكَ قال الأستاذ جورج بوش «أي حملوا اسمه أنجس التعييرات والشتائم ولعلهم سألوا إلههم أن يُصدق لعناتهم ويوقعها على أبيمالك». وفي كتب اللغة العريبة «لعنه طرده وأبعده من الخير وأخزاه (أي أهانه)». وفي تعريفات الجرجاني «اللعن من الله إبعاد العبد بسخطه ومن الإنسان الدعاء بسخطه». والخلاصة أن اللعن إبعاد الله الأثيم من رحمته ودعاء الناس عليه بالإبعاد عن كل خير وهو من أفظع ضروب الشتائم. وعملهم هذا هاج شديد البغض لأبيمالك وأغراهم بقتله لأن القتل من مواليد البغض الشديد.

28 «فَقَالَ جَعَلُ بْنُ عَابِدٍ: مَنْ هُوَ أَبِيمَالِكُ وَمَنْ هُوَ شَكِيمُ حَتَّى نَخْدِمَهُ؟ أَمَا هُوَ ٱبْنُ يَرُبَّعْلَ، وَزَبُولُ وَكِيلُهُ؟ ٱخْدِمُوا رِجَالَ حَمُورَ أَبِي شَكِيمَ. فَلِمَاذَا نَخْدِمُهُ نَحْنُ؟».

1صموئيل 25: 10 و1ملوك 12: 16 تكوين 34: 2 و6

مَنْ هُوَ أَبِيمَالِكُ الاستفهام هنا للاستخفاف والاستهانة لا لطلب الفهم لأنه يعرف أبيمالك. وهو كثير في اللغات الساميّة. ومنه قوله تعالى «مَنْ هٰذَا ٱلَّذِي يُظْلِمُ ٱلْقَضَاءَ بِكَلاَمٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ» (أيوب 38: 2). وقول نابال «مَنْ هُوَ دَاوُدُ وَمَنْ هُوَ ٱبْنُ يَسَّى» (1صموئيل 25: 10). وقول بولس الرسول «مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا ٱلْإِنْسَانُ ٱلَّذِي تُجَاوِبُ ٱللّٰهَ» (رومية 9: 20).

وَمَنْ هُوَ شَكِيمُ قال بعضهم إن هذا أيضاً استفهام للاستخفاف كالاستفهام الأول. والمراد «بشكيم» هنا أبيمالك وهو ملك شكيم الحديث والمقصود هو المقابلة بين هذا الملك الحديث ابن السريّة ورجال حمور أي سلالته وهو أقدم ملوك شكيم وأشرفهم.

وقال غيرهم أن الاستفهام هنا للتعظيم كالقول في (إشعياء 63: 1) «مَنْ ذَا ٱلآتِي مِنْ أَدُومَ... أَنَا ٱلْمُتَكَلِّمُ بِٱلْبِرِّ، ٱلْعَظِيمُ لِلْخَلاَصِ» أي المسيح.

حَتَّى نَخْدِمَهُ الهاء في نخدمه تعود إلى أبيمالك.

أَمَا هُوَ ٱبْنُ يَرُبَّعْلَ أي ما هو إلا ابن يربعل ومعنى يربعل «يقاتل البعل» لقبه أبوه بذلك لأنه هدم مذبح البعل (ص 6: 32) وكيف يملك ابن عدوّ البعل على عبّاده ولا ريب في أن هذه مما هاج غضب السامعين على أبيمالك أشد الهياج. وما حمل جَعَل على هذا الكلام غيرته للبعل بل طمعه في الملك على أن كلا الأمرين إثمٌ وعلّة ضربة عادلة لجَعَل وأبيمالك.

وَزَبُولُ وَكِيلُهُ أي نائبه الذي يقوم مقامه في الملك وهو رئيس المدينة (ع 30) أي ما كفى أن يملكنا ابن يربعل حتى يملكنا وكيله الذي هو دونه وهذا ذلٌّ على ذلّ.

ٱخْدِمُوا رِجَالَ حَمُورَ أي سلالة حمور لأنه إن كان لا بد لنا من أن نخدم فيجب أن نختار مخدومنا ممن هم أحق بأن يُخدموا وهم أهل السيادة الأصليون سلالة الملوك الشرعيين نسل حمور لا هذا الغريب المجهول الوضيع النّسب المحتقر. وهذا أحسن تمهيد أتاه جَعَل ليختاروه ملكاً لأنه من سلالة حمور أبي شكيم.

إن الكنعانيين كانوا أقوياء وإن الأفرايميين كانوا قد ارتدوا إلى عبادة الكنعانيين حتى أن أبيمالك اسم كنعاني (تكوين 26: 1).

أَبِي شَكِيمَ شيكم اسم ابن حمور (تكوين 34: 2) وشكيم المدينة المعروفة اليوم بنابلس.

فَلِمَاذَا نَخْدِمُهُ نَحْنُ أي لا علة لأن نخدمه بل علل كثيرة لتركنا خدمته.

29 «مَنْ يَجْعَلُ هٰذَا ٱلشَّعْبَ بِيَدِي فَأَعْزِلَ أَبِيمَالِكَ. وَقَالَ لأَبِيمَالِكَ: كَثِّرْ جُنْدَكَ وَٱخْرُجْ!»

2صموئيل 15: 4

مَنْ يَجْعَلُ هٰذَا ٱلشَّعْبَ بِيَدِي وفي بعض التراجم غير العربية «وددت لو جعل الله هذا الشعب تحت يدي» وترجمتنا على وفق لفظ الأصل العبراني والترجمة الأولى ترجمة معنوية. فكلمة الاستفهام هنا مستعملة للتمني أو الترجي أو بيان الميل فهي بمعنى أتمنى أو أرجو أو أودّ. فإن أدوات الاستفهام كثيراً ما تُستعمل في غير الاستفهام مما يناسب المقام بحسب معونة القرائن والقرينة هنا تدلّ على شدة رغبته في أن يكون ملكاً. وكلامه من باب براعة الطلب فكأنه قال لهم اجعلوني ملكاً فأعزل أبيمالك وأُخلص آل شكيم من عاره وأرد العز إلى الحويين. فما استطاع أن يكتم العلة التي حملته على إظهار أنه يريد دفع العار عن سلالة شكيم أو حمور أبي شكيم وأهل شكيم شأن كل مراء. قال الشاعر:

Table 15. 

ثوب الرياء يشفّ عما تحتهفإذا اكتسيت به فإنك عار    

وَقَالَ لأَبِيمَالِكَ: كَثِّرْ جُنْدَكَ وَٱخْرُجْ أي اخرج إلى حومة القتال. الأمر هنا للتهديد وعدم الاعتداد بالعدو لحماسة أو كبرياء أو قوة. ولا دليل على أن أبيمالك كان حاضراً فهو تصوّره في الحضرة وخاطبه كما يحدث كثيراً من المغتاظين والراغبين في البطش أو الحرب. ويصحّ أنه قال له ذلك بواسطة أحد رسل أبيه. ومعنى قوله «كثّر جندك واخرج» إنه لا يكترث لكثرة جيوشه وإنه سيقتلهم ولو كانوا عدد الحصى. قال هذا ليبين للسامعين شجاعته وشدة بأسه ترغيباً لهم في أن يختاروه ملكاً.

30 «وَلَمَّا سَمِعَ زَبُولُ رَئِيسُ ٱلْمَدِينَةِ كَلاَمَ جَعَلَ بْنِ عَابِدٍ حَمِيَ غَضَبُهُ».

وَلَمَّا سَمِعَ زَبُولُ رَئِيسُ ٱلْمَدِينَةِ رئيس هنا في الأصل العبراني «سر» فتدلّ اللفظة على أنه كان قائد العسكر فإذاً كان رئيس المدينة باعتبار العسكرية أو هو رئيس عساكر المدينة.

حَمِيَ غَضَبُهُ لأن جعلاً أهان مولاه أبيمالك واستهان بالجيش الذي هو قائده.

31 «وَأَرْسَلَ رُسُلاً إِلَى أَبِيمَالِكَ فِي تُرْمَةَ يَقُولُ: هُوَذَا جَعَلُ بْنُ عَابِدٍ وَإِخْوَتُهُ قَدْ أَتَوْا إِلَى شَكِيمَ، وَهَا هُمْ يُهَيِّجُونَ ٱلْمَدِينَةَ ضِدَّكَ».

فِي تُرْمَةَ تحتمل الكلمة العبرانية معاني (1) إنها المكان الذي كان يسكنه أبيمالك على مقتضى لفظها هنا. (2) المكر وهو إخباره أبيمالك من دون أن يعلم أحد للبطش بجَعَل فجأة. (3) السر وهو هنا إرساله الرسل إلى أبيمالك خفية عن الجميع وهذا الذي اختارته السبعينية وعلى كونها اسم مكان تكون اسماً ثانياً لمسكن أبيمالك وهو أرومة (ع 41) وهي قرية قرب شكيم.

وَهَا هُمْ يُهَيِّجُونَ ٱلْمَدِينَةَ ضِدَّكَ يريد أنهم يغرّون أهل شكيم بالخروج عليه والعداوة له وإنه أخبره في الحال ليتدبر الأمر ويدفع الفتنة سريعاً.

32، 33 «32 فَٱلآنَ قُمْ لَيْلاً أَنْتَ وَٱلشَّعْبُ ٱلَّذِي مَعَكَ وَٱكْمِنْ فِي ٱلْحَقْلِ. 33 وَيَكُونُ فِي ٱلصَّبَاحِ عِنْدَ شُرُوقِ ٱلشَّمْسِ أَنَّكَ تُبَكِّرُ وَتَقْتَحِمُ ٱلْمَدِينَةَ. وَهَا هُوَ وَٱلشَّعْبُ ٱلَّذِي مَعَهُ يَخْرُجُونَ إِلَيْكَ فَتَفْعَلُ بِهِ حَسْبَمَا تَجِدُهُ يَدُكَ».

1صموئيل 10: 7 و25: 8 وجامعة 9: 10

قُمْ لَيْلاً لكي لا يعلم أحد.

وَٱكْمِنْ فِي ٱلْحَقْلِ تظاهر زبول بأنه صديق لجَعَل وأهل شكيم لأنه لم يقدر أن يقاومهم وكانت مشورته لأبيمالك أن لا يحاول أن يدخل المدينة خفية من أنه لا يقوى عليها بل أن يمكن في الحقل حول المدينة حتى يخرج أهل شكيم لمحاربته فيقوى عليهم لكون موقع القتال في الخارج وليس في المدينة.

انكسار جَعَل ع 34 إلى 45

34 «فَقَامَ أَبِيمَالِكُ وَكُلُّ ٱلشَّعْبِ ٱلَّذِي مَعَهُ لَيْلاً وَكَمَنُوا لِشَكِيمَ أَرْبَعَ فِرَقٍ».

فَقَامَ أَبِيمَالِكُ أي شرع في العمل المقصود.

كَمَنُوا لِشَكِيمَ أي لأهل شكيم ولعلهم كمنوا في بعض الجبال المجاورة لها (ع 36).

أَرْبَعَ فِرَقٍ لكي يرى أهل شكيم عند البروز الواحدة على أثر الأخرى فيزيد خوفهم على التوالي.

35 «فَخَرَجَ جَعَلُ بْنُ عَابِدٍ وَوَقَفَ فِي مَدْخَلِ بَابِ ٱلْمَدِينَةِ. فَقَامَ أَبِيمَالِكُ وَٱلشَّعْبُ ٱلَّذِي مَعَهُ مِنَ ٱلْمَكْمَنِ».

وَوَقَفَ فِي مَدْخَلِ بَابِ ٱلْمَدِينَةِ كان مدخل المدينة مجلس الملوك والقضاة والكبراء والشيوخ (يشوع 20: 4) ولكن جَعَل وقف هناك للمراقبة والاستعداد للدفاع إذا حصل شيء من الخارج.

فَقَامَ أَبِيمَالِكُ الخ فشرع في إتمام العمل المقصود الذي تدبّره.

36 «وَرَأَى جَعَلُ ٱلشَّعْبَ فَقَالَ لِزَبُولَ: هُوَذَا شَعْبٌ نَازِلٌ عَنْ رُؤُوسِ ٱلْجِبَالِ. فَقَالَ لَهُ زَبُولُ: إِنَّكَ تَرَى ظِلَّ ٱلْجِبَالِ كَأَنَّهُ أُنَاسٌ».

وَرَأَى جَعَلُ ٱلشَّعْبَ أي بعض جنود أبيمالك الذين كانوا كامنين.

فَقَالَ لِزَبُولَ كان جَعَل على ما سبق عدوا لزبول (ع 28) وأما زبول فكان كثير المكر والخداع ولعله تظاهر أنه من حزب جَعَل ليطّلع على كل أسراره ويعلنها لأبيمالك. وكثيرون من القدماء أجازوا الكذب والخداع في الحرب.

هُوَذَا شَعْبٌ نَازِلٌ عَنْ رُؤُوسِ ٱلْجِبَالِ أي جنود كثيرة تنصب علينا كالسيل ولعلهم كانوا كامنين في تلك الفتن. وهذه إحدى الفرق الكامنة.

فَقَالَ لَهُ زَبُولُ: إِنَّكَ تَرَى ظِلَّ ٱلْجِبَالِ كَأَنَّهُ أُنَاسٌ هذا خداع من زبول ليعيقه عن الاستعداد ما أمكن ويغلق أبواب المدينة. ولعل جعل صدّق إن ما رآه ظلال الجبال لأن الظلال تنتقل بانتقال الشمس الظاهر. ولا يبعد أن يكون من أغراض زبول بهذا القول زيادة على الخداع الإيماء إلى جهل جَعَل والتعريض بجبنه وخوفه حتى صار يتخيل الظلال رجالاً على حد قول الشاعر:

Table 16. 

وضاقت الأرض حتى صار هاربهمإذا رآى غير شيء ظنه رجلاً    

37 «فَعَادَ جَعَلُ وَقَالَ أَيْضاً: هُوَذَا شَعْبٌ نَازِلٌ مِنْ عِنْدِ أَعَالِي ٱلأَرْضِ، وَفِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ آتِيَةٌ عَنْ طَرِيقِ بَلُّوطَةِ ٱلْعَائِفِينَ».

تثنية 18: 10 و14

هُوَذَا شَعْبٌ نَازِلٌ هذا الشعب هو فرقة أخرى من الفرق الأربع التي كمنت.

مِنْ عِنْدِ أَعَالِي ٱلأَرْضِ أي الأرض المشاهدة أمامهم وأعاليها جبالها. وتُرجمت بسرّة الأرض ووسط الأرض والمرجّح ما في المتن.

وَفِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ عرف جَعَل هنا أن هنالك جيشاً قُسم إلى فرَق.

عَنْ طَرِيقِ بَلُّوطَةِ ٱلْعَائِفِينَ العائف المتكهن بالطير أو غيرها. والظاهر بأن هذه البلوطة اشتهرت بأن العائفين كانوا يقعدون تحتها فيقصدهم الناس وكل من الرقوة والعيافة من خرافات العصور المظلمة. وظنّ بعضهم أن البلوطة هنا هي الشجرة القديمة التي دفن يعقوب تحتها ما أخذه من أهل بيته من الآلهة الغريبة. ولكن تلك الشجرة كانت بطمة لا بلوطة (تكوين 35: 4).

38 «فَقَالَ لَهُ زَبُولُ: أَيْنَ ٱلآنَ فَمُكَ ٱلَّذِي قُلْتَ بِهِ: مَنْ هُوَ أَبِيمَالِكُ حَتَّى نَخْدِمَهُ؟ أَلَيْسَ هٰذَا هُوَ ٱلشَّعْبُ ٱلَّذِي رَذَلْتَهُ. فَٱخْرُجِ ٱلآنَ وَحَارِبْهُ».

ع 28 و29

فَقَالَ لَهُ زَبُولُ وقد خلع برقع الرياء والمكر.

أَيْنَ ٱلآنَ فَمُكَ هذا كلام إهانة وتوبيخ كأنه أراد أن قوتك يا جَعَل لم تكن إلا فاك فهل يمنعك فمك من قوة أبيمالك. ولم يحسر زبول على ذلك إلا حين رأى جيش أبيمالك قد اقترب ولم يبق لجعل إلا أن يهرب أو أن يقدم على الحرب ولعله حسب كلام زبول تحميساً له فإن جَعَل على ما يظهر لم يكن من أرباب الحكمة والنباهة.

ٱلَّذِي قُلْتَ بِهِ: مَنْ هُوَ أَبِيمَالِكُ حَتَّى نَخْدِمَهُ فها أبيمالك أمامك فاثبت قولك بفعلك.

أَلَيْسَ هٰذَا هُوَ ٱلشَّعْبُ ٱلَّذِي رَذَلْتَهُ فعلام خنته. ولا ريب في أن زبول كان مع الانتقام منه بهذا الكلام يريد أن يهيجه على الحرب لكي تتم النقمة ويقع عليه الذل ويرذله الذين افتخر أمامهم بقوته وربما رأى زبول أن جَعَل سيُقتل في هذه الواقعة وإلا فيعرف أن زبول لا يُستخف به كما سبق من قول جَعَل (ع 28).

فَٱخْرُجِ ٱلآنَ وَحَارِبْهُ إن كنت البطل كما ادّعيت وكان من تراهم ليسوا شيئاً عندك.

39 «فَخَرَجَ جَعَلُ أَمَامَ أَهْلِ شَكِيمَ وَحَارَبَ أَبِيمَالِك».

فَخَرَجَ جَعَلُ أَمَامَ أَهْلِ شَكِيمَ رأى بعضهم معنى العبارة أنه خرج على مرأى أهل شكيم هو ورجاله. ورأى آخر أنه خرج قائداً لأهل شكيم. وعلى القولين إنه تهوَّر تهوُّر الجهلاء المتكبرين والرأي الأول هو المرجّح.

40 «فَهَزَمَهُ أَبِيمَالِكُ، فَهَرَبَ مِنْ قُدَّامِهِ وَسَقَطَ قَتْلَى كَثِيرُونَ حَتَّى عِنْدَ مَدْخَلِ ٱلْبَابِ».

فَهَزَمَهُ أَبِيمَالِكُ، فَهَرَبَ مِنْ قُدَّامِهِ فعرف حينئذ «من هو أبيمالك» وما أغنت عنه كبرياؤه.

وَسَقَطَ قَتْلَى كَثِيرُونَ من جنود جَعَل.

حَتَّى عِنْدَ مَدْخَلِ ٱلْبَابِ أي من المكان الذي التظت فيه الحرب إلى باب مدينة شكيم فغطت جثث القتلى الطريق. وهنا كلام محذوف للاختصار ولدلالة المقام عليه وهو أن جَعَل ومن بقي معه لجأوا إلى المدينة وأغلقوا الباب فرجع أبيمالك وجنوده عنهم.

41 «فَأَقَامَ أَبِيمَالِكُ فِي أَرُومَةَ. وَطَرَدَ زَبُولُ جَعَلاً وَإِخْوَتَهُ عَنِ ٱلْإِقَامَةِ فِي شَكِيمَ».

فَأَقَامَ أَبِيمَالِكُ فِي أَرُومَةَ رجع هو وجيشه إليها لينظر في إتمام الانتصار واستئصال ما ينزع الملك منه وبات في أرومة ليلة فقط فرجع إلى محاربة شكيم في الغد (ع 42). أما أرومة فموقعها مجهول والظاهر أنها قريبة من شكيم.

وَطَرَدَ زَبُولُ جَعَلاً وَإِخْوَتَهُ عَنِ ٱلْإِقَامَةِ فِي شَكِيمَ وكان ذلك بذات النهار لأننا نقرأ في (ع 42) إنه في الغد خرج الشعب إلى الحقل فقام عليهم أبيمالك وضربهم ضربة نهائية. قال أحد المفسرين ليس المعنى هنا أن زبول حارب جَعَلاً وغلبه فهزمه من شكيم إذ لو كان قادراً على ذلك بمن معه من الرجال لما تركه يدخل شكيم بمن بقي معه من جنوده إنما حمل أهل شكيم على طرده بالحيلة والوشاية. واستند بذلك على ما قرره يوسيفوس وهو أن زبول شكاه إلى أهل شكيم بالجبن والجهل وإنه لم يحسن أن يقود الجيش وإنه لولا ذلك لانتصر الشكيميون فجبنه وجهله أوجبا انكسارهم وجلبا العار عليهم فقاموا عليه وطردوه. وعلى هذا يكون إسناد الطرد إلى زبول من إسناد الفعل إلى السبب. ونظن أن كثيرين من الشكيميين لم يكونوا ذوي ثقة بجعل. فخدع زبول أنصار جعل والجند المكسور أسرع الناس إلى التصديق بتهمة القائد ليدفع العار عن نفسه. وبهذا صار كل أهل شكيم عليه. وخدع زبول أهل شكيم أيضاً لأنه كان بالحقيقة من أتباع أبيمالك الذي أخذ المدينة وقتل الشعب الذي بها (ع 45). وقال مفسر آخر أن من بقي مع جعل من الجيش شرذمة قليلة قدر زبول مع رجاله على طردهم.

42 «وَكَانَ فِي ٱلْغَدِ أَنَّ ٱلشَّعْبَ خَرَجَ إِلَى ٱلْحَقْلِ وَأَخْبَرُوا أَبِيمَالِك».

وَكَانَ فِي ٱلْغَدِ أَنَّ ٱلشَّعْبَ خَرَجَ إِلَى ٱلْحَقْلِ ولعلهم كانوا مضطرين إلى جمع الغلال وغير ذلك من أمور الزراعة ذات الشأن وقد اطمأنوا برجوع أبيمالك وجنوده عن مدينتهم. ولعل زبول خدعهم بأن أبيمالك غايته قتل جَعَل وإخوته ونحن قد طردناه فهذا يرضيه ويمكنه من ضرب المطرود وأتباعه. ويجب مع ذلك أن نذكر أن الكاتب غايته الاختصار وبيان الواقع دون علله في كثير من المواضع. واللام في «الحقل» للجنس فيُراد به الحقول في وادي شكيم.

وَأَخْبَرُوا أَبِيمَالِكَ أي وأُخبر أبيمالك بخروجهم إلى الحقول. والإتيان بالفعل المعلوم مسند إلى ضمير لا يعلم مرجعه إذا كان الفاعل مجهولاً من مصطلحات اللغة العبرانية. والذي نراه أن المخبرين له جماعة أرسلهم زبول إلى أبيمالك وقد سبق إلى مثل ذلك (انظر ع 30 - 33). إن زبول معدن المكر والحيل.

43 «فَأَخَذَ ٱلْقَوْمَ وَقَسَمَهُمْ إِلَى ثَلاَثِ فِرَقٍ، وَكَمَنَ فِي ٱلْحَقْلِ وَنَظَرَ وَإِذَا ٱلشَّعْبُ يَخْرُجُ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ وَضَرَبَهُمْ».

فَأَخَذَ ٱلْقَوْمَ وَقَسَمَهُمْ إِلَى ثَلاَثِ فِرَقٍ (ع 34 و7: 16) والحكمة في القسمة أن تتكفل كل فرقة بدفع الأعداء إلى جهة من الجهات.

وَكَمَنَ فِي ٱلْحَقْلِ أُخبر أبيمالك بأنهم خارجون فكمن لهم في الحقل قبل أن يصلوا إليه أو وهم يخرجون وقد رآهم من خلال ما كمن وراءه.

فَقَامَ عَلَيْهِمْ فشرع في قتالهم وهم عزل أي لا سلاح معهم إذ خرجوا لأمور زراعية لا للحرب.

وَضَرَبَهُمْ بالسيوف ضرب أناساً فلاحين عزلاً لا جنود حرب بلا أدنى شفقة. ولا عجب لأن من ذبح سبعين رجلاً بلا رحمة لا يرحم جماعة من الأعداء. فقد خرجت نار من العوسج وأحرقتهم (ع 15).

44 «وَأَبِيمَالِكُ وَٱلْفِرْقَةُ ٱلَّتِي مَعَهُ ٱقْتَحَمُوا وَوَقَفُوا فِي مَدْخَلِ بَابِ ٱلْمَدِينَةِ. وَأَمَّا ٱلْفِرْقَتَانِ فَهَجَمَتَا عَلَى كُلِّ مَنْ فِي ٱلْحَقْلِ وَضَرَبَتَاهُ».

وَأَبِيمَالِكُ وَٱلْفِرْقَةُ ٱلَّتِي مَعَهُ ٱقْتَحَمُوا وَوَقَفُوا فِي مَدْخَلِ بَابِ ٱلْمَدِينَةِ فلم يبق لأهل شكيم أن يلجأوا إلى المدينة وتمكنت هذه الفرقة من حصرهم بين الفرقتين الأُخريين. ومعنى الاقتحام هنا الهجوم بعنف.

وَأَمَّا ٱلْفِرْقَتَانِ الأخريان من الفرق الثلاث (ع 43).

عَلَى كُلِّ مَنْ فِي ٱلْحَقْلِ لم تعفوا عن أحد وكلهم بلا سلاح.

45 «وَحَارَبَ أَبِيمَالِكُ ٱلْمَدِينَةَ كُلَّ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ، وَأَخَذَ ٱلْمَدِينَةَ وَقَتَلَ ٱلشَّعْبَ ٱلَّذِي بِهَا، وَهَدَمَ ٱلْمَدِينَةَ وَزَرَعَهَا مِلْحاً».

ع 20 تثنية 29: 23 و1ملوك 12: 25 و2ملوك 3: 25

حَارَبَ أَبِيمَالِكُ ٱلْمَدِينَةَ كُلَّ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ هذا يدل على أن الذين خرجوا إلى الحقل كانوا قسماً من أهل شكيم وربما كانوا قسماً صغيراً بالنسبة إلى الباقين وهم الفلاحون وإلا لما احتاج أبيمالك أن يشغل اليوم كله بمحاربة المدينة.

وَهَدَمَ ٱلْمَدِينَةَ وَزَرَعَهَا مِلْحاً (تثنية 29: 23). والأرض المزروعة ملحاً تصير خربة أو فلاة لا نبات فيها. وليس المراد هنا أن أبيمالك زرع أرض شكيم كلها ملحاً أو أن مقدار الملح كان يكفي لجلعها خربة وغير مثمرة إلى الأبد بل المقصود بزرعها ملحاً التعبير عن إرادة أبيمالك أن المدينة تبقى خربة وتظل أرضها غير مثمرة إلى الأبد. (قابل يشوع 6: 26) فإن لعنة يشوع لأريحا صدقت (1ملوك 16: 34) وأما لعنة أبيمالك فلم تصدق بل قامت شكيم بعد خرابها فكانت مدينة معتبرة في زمان الملوك (1ملوك 12: 1 و25). وفي بعض ما يتداوله العامة اليوم في الأساطير أن أحد المتحاربين قال للآخر لأفلح مدينتك بالسكة والفدان وأزرعها ملحاً كناية عن هدمها وتركها بلا ساكن ولا فائدة لأحد من أرضها. ووقع مثل هذه العبارة في بعض التواريخ غير العربية.

آخر حروب أبيمالك وموته ع 46 إلى 57

46 «وَسَمِعَ كُلُّ أَهْلِ بُرْجِ شَكِيمَ فَدَخَلُوا إِلَى صَرْحِ بَيْتِ إِيلِ بَرِيثَ».

ص 8: 33 وع 4

أَهْلِ بُرْجِ شَكِيمَ أي حرس القلعة أو بيت ملو (انظر ع 6 والتفسير).

فَدَخَلُوا إِلَى صَرْحِ أي إلى البناء العالي وكان حصناً حصيناً وأُضيف إلى «بيت إيل بريث» لأنه في ذلك البيت والظاهر أن هذا الصرخ أو الحصن كان يلجأ إليه الهاربون وذلك البيت هو هيكل البعل ومعنى البعل الرب وسُمي في ما سبق «بعل بريث» وهنا «إله بريث» فإن الكاتب هنا كتب معنى اسمه لا اسمه العلم. ومعنى برث العهود فيكون معنى بعل بريث إله العهود (انظر تفسير ص 8: 33 وص 9: 4).

47 «فَأُخْبِرَ أَبِيمَالِكُ أَنَّ كُلَّ أَهْلِ بُرْجِ شَكِيمَ قَدِ ٱجْتَمَعُوا».

فَأُخْبِرَ أَبِيمَالِكُ (انظر ع 30 و31 و42).

48 «فَصَعِدَ أَبِيمَالِكُ إِلَى جَبَلِ صَلْمُونَ هُوَ وَكُلُّ ٱلشَّعْبِ ٱلَّذِي مَعَهُ. وَأَخَذَ أَبِيمَالِكُ ٱلْفُؤُوسَ بِيَدِهِ، وَقَطَعَ غُصْنَ شَجَرٍ وَرَفَعَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى كَتِفِهِ، وَقَالَ لِلشَّعْبِ ٱلَّذِي مَعَهُ: مَا رَأَيْتُمُونِي أَفْعَلُهُ فَأَسْرِعُوا ٱفْعَلُوا مِثْلِي».

مزمور 68: 14

جَبَلِ صَلْمُونَ قال أحد المفسرين المظنون أنه ما يُعرف اليوم بجبل سليمان وهو جزء من جبل جرزيم من القسم الجنوبي منه. ولا ريب في قربه من أبيمالك لأنه أخذ الحطب منه هو ورجاله على أكتفاهم ومشوا إلى ذلك الصرح. وفي قاموس الكتاب إنه «جبل يقرب شكيم... ويُسمى جبل عيبال والآن جبل السلامية وربما كان هذا الاسم مشتقاً من صلمون». ومعنى «صلمون» ظليل وفي قاموس الكتاب «ذو ظل». والظاهر أنه سُمي صلمون لكثرة أشجاره المظللة.

وَأَخَذَ أَبِيمَالِكُ ٱلْفُؤُوسَ أي أخذ فأساً لنفسه والبقية لجنده فأخذ كل منهم فأساً. وكانوا كثيراً ما يحملون الفؤوس في الحروب لأنها كانت من أسلحتهم وما يحتاجون إليه كثيراً (إرميا 46: 22).

بِيَدِهِ أي أخذ بعضها بيده وحمل آخرون البقية ووزعوها لأن يده لا تقدر تحمل كل تلك الفؤوس لكن يده كانت القائد أيدي الباقين إلى حمل الفؤوس فأسند الفعل إليه.

وَقَطَعَ غُصْنَ شَجَرٍ وَرَفَعَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى كَتِفِهِ الخ أخذ أبيمالك هذه القاعدة العملية عن جدعون (ص 7: 17) وهي من خير ما يأتيه القواد والرؤساء لإطاعة المرؤوسين لهم. وهي قاعدة مسملة مشهورة بين الحكماء. قال الشاعر.

Table 17. 

وإنك إذ ما تأت ما أنت آمرٌبه تُلفِ مَن إياه تأمرُ آتيا    

فقد يسلك الأشرار في مقاصدهم مسلك الأبرار في غاياتهم.

49 «فَقَطَعَ ٱلشَّعْبُ أَيْضاً كُلُّ وَاحِدٍ غُصْناً وَسَارُوا وَرَاءَ أَبِيمَالِكَ، وَوَضَعُوهَا عَلَى ٱلصَّرْحِ وَأَحْرَقُوا عَلَيْهِمِ ٱلصَّرْحَ بِٱلنَّارِ. فَمَاتَ أَيْضاً جَمِيعُ أَهْلِ بُرْجِ شَكِيمَ، نَحْوُ أَلْفِ رَجُلٍ وَٱمْرَأَةٍ».

وَأَحْرَقُوا عَلَيْهِمِ ٱلصَّرْحَ بِٱلنَّارِ فبرهن ذلك على أن كلام يوثام كان نبوءة (ع 20) فأحرق العوسج أرز لبنان (ع 15).

فَمَاتَ أَيْضاً جَمِيعُ أَهْلِ بُرْجِ شَكِيمَ، نَحْوُ أَلْفِ رَجُلٍ وَٱمْرَأَةٍ هذا يحتمل أن بعضهم مات اتراقاً والآخر مات اختناقاً بالدخان. وعلى هذا جاء في الفلغاتا «فقتل بالدخان والنار» الخ.

50 «ثُمَّ ذَهَبَ أَبِيمَالِكُ إِلَى تَابَاصَ وَنَزَلَ فِي تَابَاصَ وَأَخَذَهَا».

ثُمَّ ذَهَبَ أَبِيمَالِكُ إِلَى تَابَاصَ في قاموس الكتاب «تاباص... مدينة إلى الشمال الشرقي من شكيم داخلة ضمن تخوم أفرايم... وهي تبعد 13 ميلاً رومانياً عن نابلس على طريق بيسان و تدعى الآن توباص». وقال الدكتور فارار «هي إحدى مدن معاهدة بعل بريث أي إله العهود». وقال الأستاذ لياس «إنه لا ريب في أن سكان تاباص كانوا جزءاً من مملكة أبيمالك وخرجوا عليه في فتنة جَعَل وعصيانه».

51 «وَكَانَ بُرْجٌ قَوِيٌّ فِي وَسَطِ ٱلْمَدِينَةِ فَهَرَبَ إِلَيْهِ جَمِيعُ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَاءِ وَكُلُّ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَأَغْلَقُوا وَرَاءَهُمْ وَصَعِدُوا إِلَى سَطْحِ ٱلْبُرْجِ».

وَكَانَ بُرْجٌ قَوِيٌّ فِي وَسَطِ ٱلْمَدِينَةِ كانت الأبراج أو القلاع كثيرة في فلسطين لكثرة الاضطرابات والفتن والحروب فيها فكان بعضها داخل المدينة وبعضها في ضواحيها فكانت آخر ما يلجأ إليه سكان المدينة والقرى عند الضيق وكانوا يضعون فيها ما يخافون عليه وما يذخرونه إلى وقت الحاجة الشديدة. ولا تزال هذه القلاع كثيرة في البلاد الباقية على الأخلاق القديمة.

سَطْحِ ٱلْبُرْجِ وراء الشرفات وهي مثلثات تُبنى حول السطح تُتخذ كالمتاريس.

52 «فَجَاءَ أَبِيمَالِكُ إِلَى ٱلْبُرْجِ وَحَارَبَهُ، وَٱقْتَرَبَ إِلَى بَابِ ٱلْبُرْجِ لِيُحْرِقَهُ بِٱلنَّارِ».

وَٱقْتَرَبَ إِلَى بَابِ ٱلْبُرْجِ لِيُحْرِقَهُ هذه الشجاعة ورثها عن أبيه كما ورث الشر والقسوة عن أمه. على أن ما أتاه مجاوز حد الشجاعة من جانب الإفراط فهو تهور لا يأتيه الحكيم البصير بالعواقب (2صموئيل 11: 21). قد أتى مثل هذا التهور في إحراق الصرح ونجح وظن هنا أنه ينجح كذلك فكانت النتيجة غير ما توقّع.

53 «فَطَرَحَتِ ٱمْرَأَةٌ قِطْعَةَ رَحىً عَلَى رَأْسِ أَبِيمَالِكَ فَشَجَّتْ جُمْجُمَتَهُ».

2صموئيل 11: 21

فَطَرَحَتِ ٱمْرَأَةٌ قِطْعَةَ رَحىً أي القطعة العليا من قطعتي الرحى وهي المتحركة عند الطحن.

فَشَجَّتْ أي كسرت.

جُمْجُمَتَهُ الجمجمة عظم الرأس الذي فيه الدماغ أو العظم الذي فوق الدماغ وهو المعروف بالقحف (2صموئيل 11: 21). وقد أتت النساء كثيراً مثل هذا في أزمنة الحصار كما هو مسطور في التواريخ.

54 «فَدَعَا حَالاً ٱلْغُلاَمَ حَامِلَ عُدَّتِهِ وَقَالَ لَهُ: ٱخْتَرِطْ سَيْفَكَ وَٱقْتُلْنِي، لِئَلاَّ يَقُولُوا عَنِّي: قَتَلَتْهُ ٱمْرَأَةٌ. فَطَعَنَهُ ٱلْغُلاَمُ فَمَاتَ».

1صموئيل 31: 4

حَامِلَ عُدَّتِهِ سلاحه أو أدواته الحربية. كان يصحب القوّاد خدم يحملون لهم السلاح (1صموئيل 31: 4).

ٱخْتَرِطْ استلّ.

لِئَلاَّ يَقُولُوا عَنِّي قَتَلَتْهُ ٱمْرَأَةٌ هذا من مواليد الجهل والكبرياء والتعدي على الوصية الإلهية لأنه كالانتحار لأنه طلب أن يُقتل. وماذا يتوقع من مثل أبيمالك غير هذه الأثمار الرديئة وهو شجرة العوسج. وأي عار عليه من قتل امرأة إياه بطرحها حجر الرحى عليه خفية وهي لم تلاقه في الحرب. فإنها لو ألقت بصخرة على أسد قتلته فالعار عليه من جهله وتهوره لا من كسر الرحى جمجمته. ولعله لو أبى حامل عدته أن يقتله لقتل نفسه كما فعل شاول (1صموئيل 31: 4).

55 «وَلَمَّا رَأَى رِجَالُ إِسْرَائِيلَ أَنَّ أَبِيمَالِكَ قَدْ مَاتَ، ذَهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَكَانِهِ».

لَمَّا رَأَى رِجَالُ إِسْرَائِيلَ أَنَّ أَبِيمَالِكَ قَدْ مَاتَ، ذَهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَكَانِهِ انتهى شر الحرب بهلاك أبيمالك الشرير وأهل شكيم الأشرار. أحرقت نار العوسج الأشجار ونار الأشجار أحرقته فخمدت النار إذ نفد الوقود. إن الجزاء من جنس العمل وإن عواقب الإثم كثيرة.

56، 57 «56 فَرَدَّ ٱللّٰهُ شَرَّ أَبِيمَالِكَ ٱلَّذِي فَعَلَهُ بِأَبِيهِ لِقَتْلِهِ إِخْوَتَهُ ٱلسَّبْعِينَ، 57 وَكُلَّ شَرِّ أَهْلِ شَكِيمَ رَدَّهُ ٱللّٰهُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، وَأَتَتْ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ يُوثَامَ بْنِ يَرُبَّعْلَ».

ع 24 وأيوب 31: 3 ومزمور 94: 23 وأمثال 5: 22 ع 20

هاتان الآيتان خلاصة قصة أبيمالك مع نتائجها وإيضاح تمثيل يوثام بن جدعون أصغر نبيه. وبيان إن الله يعاقب الواحد والجماعة على الإثم وإن لا عمل بلا جزاء وإن لا إثم بلا عقاب. وإن لذّات الأثيم من إثمه تكون آلات لإيلامه وتكثير آلامه. وإن الذي ذبح إخوته على حجر قتله حجر. وإن عبّاد الوثن أُهلكوا في هيكل وثنهم.

فَرَدَّ ٱللّٰهُ شَرَّ أَبِيمَالِكَ أي إن الله عاقبه على ما فعله بإخوته بمثل فعله فكأنه رد ما عمله إليه وأوقعه عليه.

إِخْوَتَهُ ٱلسَّبْعِينَ (انظر ع 5 و24 والتفسير).

وَكُلَّ شَرِّ أَهْلِ شَكِيمَ رَدَّهُ ٱللّٰهُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ (انظر ص 8: 33 - 35 وص 9: 3 و4).

وَأَتَتْ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ يُوثَامَ (ع 20).

وما قيل في هذه القصة في يوثام وجعل كل ما عرفناه من أمرهما فإن يوثان بعد أن فرغ من تمثيله على الجبل هرب ولم نعلم ما كان من أمره وكذا جعل بعد انكساره وطرده من شكيم مع إخوته والمرجّح أنه أُهلك مع أهل شكيم فقصد المؤلف بيان عقاب الله للأشرار وقد أبانه بأوجز كلام وأحسن بيان.

فوائد

  1. يجب أن القرابة الجسدية لا تؤدي إلى المحاباة أو الاتحاد مع الأشرار (ع 1).

  2. إن المبادئ الأدبية والدينية عند الأشرار واسطة لنيل مقصادهم النفسية فيغيرونها عند الحاجة (قابل بهذا ع 2 و5).

  3. أنفقوا مالهم لهلاك نفوسهم (ع 4).

  4. كما الشعب هكذا الملك (ع 4).

  5. حب الرئاسة من صفات الأدنياء (ع 8 - 15).

  6. عند الأفاضل الخدمة النافعة نخير من المجد العالمي (ع 11).

  7. اتحاد الأشرار هو لغايات نفسية وإلى حين (ع 23).

  8. قبل الكسر الكبرياء (ع 28 و29).

  9. لا يعلم الإنسان ماذا يلده الغد (ع 42).

  10. الطمع والكبرياء يقودان الإنسان إلى القساوة (ع 45).

  11. للقدوة تأثير أكثر من الكلام وذلك في الأعمال الصالحة والأعمال الشريرة أيضاً.

  12. يحفظ الإنسان شرفه في أمور زهيدة ويضيعه في أمور مهمة. فإن ابيمالك بعد أن قتل إخوته وخدع أتباعه وأهلك كثيرين من المساكين وترك الرب استصعب أن تقتله امرأة (ع 54).

  13. التدبير للرب (ع 56)

اَلأَصْحَاحُ ٱلْعَاشِرُ

محتويات هذا الأصحاح:

  1. تولع بن فواة من يساكر وقضاؤه لإسرائيل ثلاثاً وعشرين سنة (ع 1 و2).

  2. يائير الجلعادي وقضاؤه اثنتين وعشرين سنة (ع 3 - 5).

  3. ارتداد إسرائيل (ع 6).

  4. استعباد الفلسطينيين وغيرهم إياهم (ع 7 - 9).

  5. توبة إسرائيل وإجابة الله صلواتهم (ع 10 - 14).

  6. تركهم الأصنام (ع 15 و16).

  7. اجتماع العمونيين (ع 17).

  8. قلق الجلعاديين (ع 18).

قضاء تولع ويائير ع 1 إلى 5

1 «وَقَامَ بَعْدَ أَبِيمَالِكَ لِتَخْلِيصِ إِسْرَائِيلَ تُولَعُ بْنُ فُوَاةَ بْنِ دُودُو، رَجُلٌ مِنْ يَسَّاكَرَ، كَانَ سَاكِناً فِي شَامِيرَ فِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ».

ص 2: 16

قَامَ بَعْدَ أَبِيمَالِكَ لا في رتبة القاضوية بل في الزمان لأن أبيمالك لم يكن قاضياً (انظر تفسير ص 2: 16).

لِتَخْلِيصِ إِسْرَائِيلَ لا يُستنتج من هذا بالتحقيق أن الإسرائيليين كانوا مظلومين في الوقت المشار إليه لأنه من المحتمل أن القاضي المذكور حفظهم بسياسته من التعدّي.

تُولَعُ بْنُ فُوَاةَ بْنِ دُودُو لا نعرف عنه إلا ما ذُكر هنا والإسمان تولع أو تولاع وفواة أو فوّة وردا عند ذكر بني يساكر (تكوين 46: 13 و1أيام 7: 1).

رَجُلٌ مِنْ يَسَّاكَرَ فسمى أو لقّب ابنه وحفيده باسمي اثنين من أبناء يساكر.

شَامِيرَ موقعها مجهول وهي غير المدينة التي بهذا الاسم في جبال يهوذا (يشوع 15: 48) والظاهر أنها قريبة من تخم يساكر في الشمال الشرقي من جبل أفرايم.

جَبَلِ أَفْرَايِمَ أي أرض أفرايم الجبلية.

2 «فَقَضَى لإِسْرَائِيلَ ثَلاَثاً وَعِشْرِينَ سَنَةً وَمَاتَ وَدُفِنَ فِي شَامِيرَ».

فَقَضَى لإِسْرَائِيلَ كان تولع قاضياً شرعياً لا ملكاً مغتصباً كأبيمالك.

ثَلاَثاً وَعِشْرِينَ سَنَةً لم يذكر ما كان من الحوادث في هذه السنين فالظاهر أنها كانت سني سلام.

3 «ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ يَائِيرُ ٱلْجِلْعَادِيُّ، فَقَضَى لإِسْرَائِيلَ ٱثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً».

ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ يَائِيرُ ٱلْجِلْعَادِيُّ وفي سفر العدد إن يائير بن منسى أخذ مزارع جلعاد ودعاهن حوّوث يائير أي مزارع يائير (عدد 32: 41). ولا نعرف ما نسبة يائير في هذه الآية إلى يائير المذكور في سفر العدد إلا أن يائير سفر العدد كان من سبط يهوذا من جهة أبيه وكان من جهة الأم حفيد منسى.

يظن بعضهم أن يائير المذكور هنا هو يائير المذكور في (عدد 32: 41) فكان ابن منسى بالمعنى أنه من نسل منسى وذكره في سفر العدد وفي سفر التثنية إضافة على ما كُتب في زمان موسى. ويظن غيرهم وهو الأرجح أن يائير من نسل المذكور في سفر العدد والمدن التي كانت لسلفه ثُبتت له وبقيت على اسمها القديم.

فَقَضَى لإِسْرَائِيلَ ٱثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً لم يذكر الكاتب حوادثها لأنها على ما يرجّح كانت سني سلام.

4 «وَكَانَ لَهُ ثَلاَثُونَ وَلَداً يَرْكَبُونَ عَلَى ثَلاَثِينَ جَحْشاً، وَلَهُمْ ثَلاَثُونَ مَدِينَةً. يَدْعُونَهَا «حَوُّوثَ يَائِيرَ» إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ. هِيَ فِي أَرْضِ جِلْعَادَ.

ص 5: 10 و12: 14 عدد 32: 41 وتثنية 3: 14

وَكَانَ لَهُ ثَلاَثُونَ وَلَداً لنا أن نستنتج من هذا أنه كان كثير الزوجات.

يَرْكَبُونَ عَلَى ثَلاَثِينَ جَحْشاً هذا دليل الثروة والوجاهة فإن الجحاش كانت يومئذ مطايا الكبراء والرؤساء وكانت غالية الثمن لقلة الخيل في فلسطين.

وَلَهُمْ ثَلاَثُونَ مَدِينَةً اسمها الآتي يدل على أنها مزارع فتسميتها بالمدن تدل على إنهم زادوها عمارة وأبينة حتى صارت مدناً.

يَدْعُونَهَا «حَوُّوثَ يَائِيرَ» أي مزارع يائير. والذي سماها حوّوث يائير هو يائير بن منسى وظل الناس يدعونها بذلك الاسم إلى عصر الكاتب.

ثم إن هذه المدن أو المزارع شرقي الأردن استولى عليها يائير بن منسى (عدد 32: 41) وكانت معدودة بين الستين مدينة التي أُعطيها منسى (يشوع 13: 30 و1أيام 2: 23). وكانت تلك المزراع تابعة للكورة التي كانت تُعد الحاصلات للملك سليمان (1ملوك 4: 13) وهي «في أرض جلعاد» وكان نصف جلعاد لمنسى ونصفها لجاد.

5 «وَمَاتَ يَائِيرُ وَدُفِنَ فِي قَامُونَ».

قَامُونَ لم يزل موقعها مجهولاً. قال أوسابيوس هي على غاية ستة أميال من مجدّو. وقال يوسيفوس إن قامون المذكورة هنا هي قري يبلا في جلعاد.

رجوع إسرائيل إلى الوثنية ع 6 إلى 9

6 «وَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ ٱلشَّرَّ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ، وَعَبَدُوا ٱلْبَعْلِيمَ وَٱلْعَشْتَارُوثَ وَآلِهَةَ أَرَامَ وَآلِهَةَ صَيْدُونَ وَآلِهَةَ مُوآبَ وَآلِهَةَ بَنِي عَمُّونَ وَآلِهَةَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ، وَتَرَكُوا ٱلرَّبَّ وَلَمْ يَعْبُدُوهُ».

ص 2: 11 و3: 7 و4: 1 و6: 1 و13: 1 ص 2: 13 ص 2: 12 و1ملوك 11: 33 ومزمور 106: 36

وَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ ٱلشَّرَّ أي عادوا إلى الشرك بالله وهو عبادة الأوثان لأنهم جسديون لا روحيون وقد ألفوا عادات الأمم وعبادتهم وطول الألفة تحسن القبيح للغافلين الدنيويين.

فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ إن الرب كان معهم يعتني بهم وهم ارتكبوا الآثام الفظيعة في حضرته مع أنه في كل مكان لا يخفى عليه شيء.

وهذا الفصل مقدمة لما يأتي في (ص 11 إلى ص 16) فإن يفتاح خلّص إسرائيل من العمونيين في الشرق (ص 11 و 12) وشمشون خلّصهم من الفلسطينيين في الغرب (ص 13 - 16).

عَبَدُوا ٱلْبَعْلِيمَ وَٱلْعَشْتَارُوثَ أي الشموس والأقمار فإن البعل الشمس وعشتار أو أشتار القمر وجمعوهما باعتبار تعدّد طلوعها وصورهما وتماثيلهما. وأراد بعض الوثنيين بعشتاروث الزهرة وانتشرت عبادة الشمس والقمر في أنحاء كثير من المعمور (راجع تفسير ص 2: 11 - 13).

آلِهَةَ أَرَامَ أرام هي الأرض التي كانت عاصمتها دمشق (2أيام 28: 23). وذُكر من آلهتها رمّون (2ملوك 5: 18) وهو إله الرعد والأمطار.

آلِهَةَ صَيْدُونَ أي صيداء ومنها البعل وعشتاروث مع اختلاف عن غيرهم من عبادهما الكنعانيين بالشعائر والفرائض.

آلِهَةَ مُوآبَ أي بني موآب بن لوط (تكوين 19: 37) ومن آلهتهم كموش وبعل فغور.

آلِهَةَ بَنِي عَمُّونَ ومنها ملكوم أو مولك (لاويين 18: 21). وأعظم آلهة أولئك الوثنيين البعليم والعشتاروث.

وَآلِهَةَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ ومنها داجون وهو إله السمك وكان صنمه مركب من وجه إنسان ويدي إنسان وبدن سمكة.

وَتَرَكُوا ٱلرَّبَّ وَلَمْ يَعْبُدُوهُ أشركوا به أولاً فعبدوه وعبدوا الآلهة الباطلة معاً ثم قصروا عبادتهم على الأصنام التي لا حياة لها وتركوا الإله الحي فهبطوا إلى الدرك الأسفل. وهذا دأب الذين ينحرفون عن الرب.

7 «فَحَمِيَ غَضَبُ ٱلرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَبَاعَهُمْ بِيَدِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ وَبِيَدِ بَنِي عَمُّونَ».

ص 2: 14 و1صموئيل 12: 9

فَحَمِيَ غَضَبُ ٱلرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ أي هاج كالنار المتقدة التي تحرق كل ما أصابته (انظر ص 2: 14 - 20).

وَبَاعَهُمْ بِيَدِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ أي دفعهم إلى يد الفلسطينيين كأنهم ملك لهم اشتروه من الله أي إن الله تركهم للأعداء الفلسطينيين يتصرفون بهم كيف شاءوا كما يتصرف الإنسان بملكه الذي يشتريه. والفلسطينيون سكان أرض فلسطين وهي الأرض التي في الجنوب الغربي من أرض كنعان على شط البحر المتوسط وحدود هذه الأرض كانت تتغير من وقت إلى آخر.

وَبِيَدِ بَنِي عَمُّونَ وهم نسل بن عمي بن لوط (تكوين 19: 38) وكانت أرضهم شرقي أرض جلعاد.

8 «فَحَطَّمُوا وَرَضَّضُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تِلْكَ ٱلسَّنَةِ. ثَمَانِي عَشَرَةَ سَنَةً. جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ٱلَّذِينَ فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ فِي أَرْضِ ٱلأَمُورِيِّينَ ٱلَّذِينَ فِي جِلْعَادَ».

تثنية 3: 1 إلى 18

فَحَطَّمُوا وَرَضَّضُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ «حطموا» كسروا «ورضضوا» دقوا وجرشوا. والكلام استعارة من وضع الحبوب في ثغرة الرحى فيكسر أولاً ثم يُدق ويُجرش حتى يصير سحقاً على الترتيب وهذا يدل على أن ذلك كان في آخر مدة الاستعباد حتى لم يبق للإسرائيليين من قوة تمسكهم أي إلى أن صاروا طحيناً تحت رحى العبودية.

فِي تِلْكَ ٱلسَّنَةِ السنة الأولى من الثماني عشرة سنة وسنة وفاة يائير أو السنة الأخيرة من الاستعباد وسنة صراخهم إلى الرب ورجوعهم إليه وقيام يفتاح ليخلّصهم.

ثَمَانِي عَشَرَةَ سَنَةً أي استعبدوهم وظلموهم وعذبوهم ثماني عشرة سنة. وحذف الفعل فعل الاستعباد أو الظلم لدلالة ما قبله من توالي الاضطهاد وزيادته عليه. فكأنه قال كانوا يزيدون عذاب الإسرائيليين على توالي سني الاستعباد حتى لم يبقوا لهم من قوة.

جَمِيعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هذا بيان لقوله «فحطموا ورضضوا إسرائيل».

ٱلَّذِينَ فِي عَبْرِ ٱلأُرْدُنِّ أي الأرض المتصلة بشاطئ الأردن الشرقي.

أَرْضِ ٱلأَمُورِيِّينَ مملكتي عوج وسيحون. كان الأموريون في الأرضين الجبلية بين الأردن والبحر المتوسط قبل دخول الإسرائيليين أرض كنعان لكنهم لم يكتفوا بذلك فأخذوا يوسعون أرضهم إلى أن بلغوا حضيض حرمون المعروف اليوم بجبل الشيخ واستولوا على كل باشان وجلعاد.

ٱلَّذِينَ فِي جِلْعَادَ جلعاد قسم من أرض الأموريين شرقي الأردن.

9 «وَعَبَرَ بَنُو عَمُّونَ ٱلأُرْدُنَّ لِيُحَارِبُوا أَيْضاً يَهُوذَا وَبِنْيَامِينَ وَبَيْتَ أَفْرَايِمَ. فَتَضَايَقَ إِسْرَائِيلُ جِدّاً».

وَعَبَرَ بَنُو عَمُّونَ ٱلأُرْدُنَّ بعد أن استعبد العمونيون الإسرائيليين الذين في شرقي الأردن قطعوا الأردن ليذللوا ويستعبدوا سائر الإسرائيليين ولا يبقوا قوة لإسرائيلي على وجه الأرض.

لِيُحَارِبُوا أَيْضاً يَهُوذَا وَبِنْيَامِينَ وَبَيْتَ أَفْرَايِمَ وُصفت أرض يهوذا في سفر يشوع (يشوع ص 15) فارجع إليه وإلى التفسير. وكانت أرض بنيامين بين أرضي أفرايم ويهوذا وكان طولها ستة وعشرين ميلاً وعرضها اثني عشر ميلاً وهي تعلو سطح البحر بنحو ألفي قدم وكلها مخصب وفيها ست وعشرون مدينة منها أورشليم عاصمة أرض الميعاد. وكانت حدود أرض أفرايم من الغرب البحر المتوسط ومن الشرق الأردن ومن الشمال قسم من نصيب منسى ومن الجنوب أقسام من أرض دان وبنيامين.

فَتَضَايَقَ إِسْرَائِيلُ جِدّاً أين ذهبت عزة إفرايم وقوة أبطال إسرائيل. إنهم تركوا الله فتركهم فصار عزّهم ذلاً وقوتهم ضعفاً فأدبهم الله بسيف الأمم.

توبة إسرائيل والأخذ في محاربة الأعداء ع 10 إلى 18

10 «فَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ: أَخْطَأْنَا إِلَيْكَ لأَنَّنَا تَرَكْنَا إِلٰهَنَا وَعَبَدْنَا ٱلْبَعْلِيمَ».

1صموئيل 12: 10

فَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ هذا دأبهم لا يذكرون الله إلا في وقت الشدة وينسونه في زمن الرخاء فهم أحبوا نفوسهم ولم يحبوا الله (ص 3: 15 و6: 6).

أَخْطَأْنَا إِلَيْكَ إذا أراد الله أن يرجع الخاطئ إليه أراه أولاً خطيئته ومتى رأى الخاطئ خطيئته أمامه وعقابها يتبعها هرب إلى الله والتجأ إليه.

لأَنَّنَا تَرَكْنَا إِلٰهَنَا وَعَبَدْنَا ٱلْبَعْلِيمَ عرفوا خطيئتهم عند ترك الله إياهم وتبين لهم إن الجزاء من جنس العمل أي إنه تعالى تركهم لأنهم تركوه ولم يكتفوا بذلك حتى اتخذوا البعليم رباً بدلاً منه تعالى.

11 «فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَلَيْسَ مِنَ ٱلْمِصْرِيِّينَ وَٱلأَمُورِيِّينَ وَبَنِي عَمُّونَ وَٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ خَلَّصْتُكُمْ؟».

خروج 14: 30 عدد 21: 21 و24 و25 ص 3: 12 و13 ص 3: 31

فَقَالَ ٱلرَّبُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لا نظن أن الله خاطب كل بني إسرائيل بالذات بل خاطبهم بواسطة كاهن أو نبي فإن بني إسرائيل مع ارتدادهم عن الله كان منهم من بقي مع الرب ولم ينقطع الوحي عنهم.

أَلَيْسَ مِنَ ٱلْمِصْرِيِّينَ وَٱلأَمُورِيِّينَ وَبَنِي عَمُّونَ وَٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ خَلَّصْتُكُمْ أي خلصتكم من كل هؤلاء (انظر خروج 14: 30 وعدد 21: 21 و24 و25 وص 3: 12 و13 و30 و31 وراجع تفسير كل ذلك).

12 «وَٱلصَّيْدُونِيُّونَ وَٱلْعَمَالِقَةُ وَٱلْمَعُونِيُّونَ قَدْ ضَايَقُوكُمْ فَصَرَخْتُمْ إِلَيَّ فَخَلَّصْتُكُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ؟».

ص 5: 19 ص 6: 3 مزمور 106: 42 و43

وَٱلصَّيْدُونِيُّونَ وَٱلْعَمَالِقَةُ وَٱلْمَعُونِيُّونَ قَدْ ضَايَقُوكُمْ لم يُذكر أن الصيدونيون استعبدوهم وإن الله خلّصهم منهم ولكن من تأمل في أن يابين ملك كنعان كان من أملاكه صيدون رأى أن الصيدونيون لا بد من أنهم حاربوا إسرائيل معه فإنقاذهم من يابين ملك كنعان إنقاذ لهم من الصيدونيون أيضاً. وفي نشيد دبورة «جَاءَ مُلُوكٌ. حَارَبُوا. حِينَئِذٍ حَارَبَ مُلُوكُ كَنْعَانَ» (ص 5: 19). وكانت صيدون أم مدن فينيقية فلا بد من أنه كان لها ملك وكان ملكها من أكابر ملوك الفينيقيين والكنعانيين وإن الصيدونيين كانوا يضايقون الإسرائيليين كثيراً على أنه عرف الكنعانيون الشماليون بالصيدونيين (ص 18: 8) وأما العمالقة فقد ذُكر جورهم على إسرائيل وبمضايقتهم لهم في ما مرّ من هذا السفر (انظر ص 6: 3 والتفسير).

والمعونيون ظنهم البعض المديانيين بناء على الترجمة السبعينية واللفظ يدل على أنهم منسوبون إلى معون وهي أمة حامية كانت تحارب الإسرائيليين وتظلمهم ولما ملك عزيا وضعهم تحت الجزية جزاء لهم على ظلمهم السابق للإسرائيليين (انظر 1أيام 4: 40 و41 و2أيام 26: 7). وأما معون فالأرجح أنها معان الحالية على طريق الحج من الشام إلى مكة وقريبة من وادي موسى.

ذُكر في (ع 6) سبعة من آلهة الوثنيين عبدها الإسرائيليين وذُكر هنا سبعة من الشعوب الوثنية استعبدوا الإسرائيليين فكان عقابهم بمقدار عصيانهم.

13 «وَأَنْتُمْ قَدْ تَرَكْتُمُونِي وَعَبَدْتُمْ آلِهَةً أُخْرَى. لِذٰلِكَ لاَ أَعُودُ أُخَلِّصُكُمْ».

تثنية 32: 15 وإرميا 2: 13

لاَ أَعُودُ أُخَلِّصُكُمْ وليس المعنى إن الرب لا يخلصهم مطلقاً بل (1) إنه لا يخلصهم ما داموا في خطاياهم بل عليهم التوبة وإزالة الآلهة الغريبة والرجوع إليه. وكثيراً ما يقول الرب إنه سيعمل شيئاً ولا يعمله وليس ذلك لأنه يتغير أو لا يصدق في كلامه بل لأن الإنسان يتغير بتركه أعماله السيئة فتتغير معاملة الرب له (خروج 32: 9 - 14 و2ملوك 20: 1 - 6).

(2) إنه تركهم لكي يعرفوا وهن الآلهة التي عبدوها دونه وعجزها عن إنقاذهم.

(3) إن لرحمته حداً. وظهر ذلك بعد زمان القضاة لما سلم إسرائيل لملك أشور تسليماً تاماً (2ملوك 17: 7 - 23). ويظهر ذلك في معاملة الرب للناس أفراداً لأن من أحزن الروح القدس ورفض المسيح بتركه الروح فيتقسى قلبه فلا تُغفر خطاياه ولا يخلص (متّى 12: 31 وعبرانيين 6: 4 - 6).

14 «اِمْضُوا وَٱصْرُخُوا إِلَى ٱلآلِهَةِ ٱلَّتِي ٱخْتَرْتُمُوهَا. لِتُخَلِّصْكُمْ هِيَ فِي زَمَانِ ضِيقِكُمْ».

تثنية 32: 37 و38 و2ملوك 3: 13 وإرميا 2: 28

اِمْضُوا وَٱصْرُخُوا إِلَى ٱلآلِهَةِ ٱلَّتِي ٱخْتَرْتُمُوهَا الأمر هنا لا لطلب الفعل بل للتعجيز باعتبار استحالة النفع من المضي والصراخ إلى الآلهة الباطلة التي اختاروها مع ما فيه من التوبيخ لهم على جهلهم واختيارهم الباطل على الحق (قابل هذا بما في تثنية 32: 37 و38 و2ملوك 3: 13 وإرميا 2: 28).

لِتُخَلِّصْكُمْ فتعلموا عجزكم عن الانتفاع بها وعجزها عن نفعكم إذ يستحيل عليها أن تنفعكم شيئاً.

فِي زَمَانِ ضِيقِكُمْ لأنهم إن كانوا آلهة قادرين فالحاجة إليهم في مثل هذا الوقت. وهذا هزءٌ وبيان لم يبق سبيلاً إلى الهرب من الاعتراف بعجز تلك الآلهة الباطلة (قابل بهذا ما في 1ملوك 18: 27 وأمثال 1: 26).

15 «فَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِلرَّبِّ: أَخْطَأْنَا فَٱفْعَلْ بِنَا كُلَّ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ. إِنَّمَا أَنْقِذْنَا هٰذَا ٱلْيَوْمَ».

1صموئيل 3: 18 و2صموئيل 15: 26

أَخْطَأْنَا عرفنا خطاءنا وأسفنا عليه.

فَٱفْعَلْ بِنَا كُلَّ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ إننا نستحق العقاب ونرضى بكل ما تؤدبنا به.

إِنَّمَا أَنْقِذْنَا هٰذَا ٱلْيَوْمَ أي لا تنقذنا إلا هذا اليوم إن عدنا إلى الأوثان. إن الله وافر الرحمة لكن لا ينقذ التائب إليه بمجرد الكلام بل ينقذ التائب إليه بالفعل ولذلك لم يفرّج عنهم إلا بعد أن تركوا أصنامهم ورجعوا فعلاً إلى ربهم وإلههم كما سترى. على أن بني إسرائيل كثيراً ما استغفروا ووعدوا بحفظ وصايا الرب ثم ارتدوا عن الله فأدبهم بالضربات لا انتقاماً وشفاء للغيظ بل محبة ورحمة لهم ليرجعوا إليه.

16 «وَأَزَالُوا ٱلآلِهَةَ ٱلْغَرِيبَةَ مِنْ وَسَطِهِمْ وَعَبَدُوا ٱلرَّبَّ، فَضَاقَتْ نَفْسُهُ بِسَبَبِ مَشَقَّةِ إِسْرَائِيلَ».

2أيام 7: 14 و15: 8 وإرميا 18: 7 و8 مزمور 106: 44 و45 وإشعياء 63: 9

وَأَزَالُوا ٱلآلِهَةَ ٱلْغَرِيبَةَ مِنْ وَسَطِهِمْ وَعَبَدُوا ٱلرَّبَّ فبرهنوا أن توبتهم حقة. لا يثبت القول ما لم يشهد العمل. فسمع الله لهم.

فَضَاقَتْ نَفْسُهُ بِسَبَبِ مَشَقَّةِ إِسْرَائِيلَ يجب على القارئ هنا أن يتأمل وينتبه. فإن ضيق النفس لا يجوز أن يُنسب إلى الله حقيقة وهو كناية عن الجزع أي عدم الصبر والاحتمال ويلزم منه مع علاقته بمشقة إسرائيل الحزن. والله منزه عن كل ذلك باعتبار المعنى الحقيقي. فالمعنى إن الله رأى إسرائيل في مشقة تهيج الجزع والحزن في قلب كل منصف. ونسب الله ذلك إلى نفسه لأن إسرائيل حبيبه والإساءة إلى الحبيب إساءة إلى المحبّ. إن الإسرائيليين أولاد الله فمصابهم لا يرضى الله به كما لا يرضى الوالد بمصاب أولاده. والعبارة كلها تصوير للمعقول بصورة المحسوس من إمارات الندم لأنه أقرب إلى الإفهام. والإدراك بطريق الحس أمكن في النفس من الإدراك العقلي الصرف. وهذا التعبير كثير في اللغات السامية التي منها العبرانية والعربية.

17 «فَٱجْتَمَعَ بَنُو عَمُّونَ وَنَزَلُوا فِي جِلْعَادَ، وَٱجْتَمَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَنَزَلُوا فِي ٱلْمِصْفَاةِ».

تكوين 31: 49 وص 11: 11 و29

فَٱجْتَمَعَ بَنُو عَمُّونَ الفاء سببية لما في (ع 9). والسبب قصدهم محاربة من بقي من الإسرائيليين واستعبادهم كما استعبدوا إخوتهم الذين شرقي الأردن. ولعل إن العمونيين عرفوا برجوع إسرائيل إلى الرب والاستعداد للتخلص من عبوديتهم.

جِلْعَادَ (انظر تفسير ع 8).

ٱلْمِصْفَاةِ معنى هذا الاسم برج النواطير وهو موضع في جلعاد ودُعي أيضاً مصفاة جلعاد (ص 11: 29) ورامة المصفاة (يشوع 13: 26) وراموت جلعاد (1ملوك 4: 13). وهي في نصيب جاد ورأى بعضهم أنها هي المعروفة اليوم بالسلط.

18 «فَقَالَ ٱلشَّعْبُ رُؤَسَاءُ جِلْعَادَ ٱلْوَاحِدُ لِصَاحِبِهِ: أَيٌّ هُوَ ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي يَبْتَدِئُ بِمُحَارَبَةِ بَنِي عَمُّونَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ رَأْساً لِجَمِيعِ سُكَّانِ جِلْعَادَ».

ص 11: 8 و11

فَقَالَ ٱلشَّعْبُ رُؤَسَاءُ جِلْعَادَ أراد «بالشعب» أي شعب جلعاد نواب ذلك الشعب أو رؤساءه لأنهم قائمون مقامه. وأبان هذا المراد بقوله «رؤساء جلعاد». فرؤساء جلعاد عطف بيان للشعب.

أَيٌّ... يَبْتَدِئُ بِمُحَارَبَةِ بَنِي عَمُّونَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ رَأْساً الخ كان هو يفتاح (ص 11: 11).

فوائد

  1. إن أحاسن الناس قد يكونون أقلّ الناس اشتهاراً. إنا لم نعرف شيئاً عن أمور تولع ويائير إلا أنهما قضيا لبني إسرائيل ولكن عرفنا كثيراً من أمور أبيمالك الشرير.

  2. إن الكوشي لا يغيّر جلده وتاريخ إسرائيل أحسن بيان لذلك (ع 6).

  3. إن المصيبة مقترنة بالإثم أبداً (ع 7 - 9).

  4. إن الراحة والرغد كثيراً ما يكونان وسيلة إلى التعب والضيق. استراح الإسرائيليون من الأعداء فنسوا الرب فأدّى بهم ذلك إلى شر الأحوال.

  5. يجب أن تكون نتيجة المصائب رجوع الإنسان إلى الله.

  6. إن الله يضرب للشفاء ويجرح للبرء (ع 14 و16).

  7. إن أول اهتداء الضال شعوره بأنه خاطئ وبعد ذلك الحزن على إنه اخطأ ثم الرجوع عن الإثم إليه تعالى والتسليم له بكل ما يقضي به عليه (ع 15).

  8. إن العمل الصالح متصل بالتوبة الحقة (ع 16).

  9. إن الإيمان يردّ إلى المؤمن الشجاعة والقوة (ع 17).

  10. إن مصائب الجماعة تؤلف بين قلوبهم وتحملهم على الاتحاد (ع 18).

اَلأَصْحَاحُ ٱلْحَادِي عَشَرَ

محتويات هذا الأصحاح:

  1. طرد يفتاح من بيته (ع 1 - 3).

  2. انتخاب الجلعاديين يفتاح رئيساً لهم وقائداً في الحرب (ع 4 - 11).

  3. إرسال يفتاح الرسل إلى العمونيين (ع 12).

  4. رفض العمونيين سمعهم دعوى يفتاح (ع 13).

  5. إرسال يفتاح الرسل ثانية واحتجاجه التاريخي (ع 14 - 27).

  6. رفض العمونيين السلم (ع 28).

  7. نذر يفتاح (ع 29 - 31).

  8. انتصاره على العمونيين (ع 32 و33).

  9. خروج ابنة يفتاح لملاقاة أبيها (ع 34 و35).

  10. وفاء يفتاح بنذره (ع 35 - 40).

اختيار يفتاح قائداً ع 1 إلى 11

1 «وَكَانَ يَفْتَاحُ ٱلْجِلْعَادِيُّ جَبَّارَ بَأْسٍ، وَهُوَ ٱبْنُ ٱمْرَأَةٍ زَانِيَةٍ. وَجِلْعَادُ وَلَدَ يَفْتَاحَ».

عبرانيين 11: 32 ص 6: 12 و2ملوك 5: 1

يَفْتَاحُ ٱلْجِلْعَادِيُّ معنى يفتاح الرب يفتح (انظر يشوع 19: 14) وفي قاموس الكتاب «يهوه (أي الرب) يحرر». والجلعادي منسوب إلى جلعاد وهي الأرض المسماة بجلعاد ومنسوب إلى أبيه أيضاً فإن اسمه جلعاد فكان يفتاح جلعادي من الجهتين.

جَبَّارَ بَأْسٍ الجبار هنا العظيم القوي والبأس الشجاعة والشدة في الحرب والمعنى أنه بطل شديد القوة وافر الشجاعة.

وَهُوَ ٱبْنُ ٱمْرَأَةٍ زَانِيَةٍ رأى بعضهم ومنهم علماء اليهود أن الزانية هنا بمعنى الوثنية من الأمم لأن الزنى كثيراً ما جاء في الكتاب بمعنى عبادة الأوثان وإنها كانت أمة لأبي يفتاح تسراها فولدت له يفتاح. ورأى آخرون وهم كثيرون إن يفتاح ابن غير شرعي لجلعاد. ونفر كثيرون من هذا المعنى لأن يفتاح صار رجلاً صالحاً وعليه روح الرب. وهذا ليس بحجة على كونه ابناً شرعياً وهو ليس بعلة وجوده من زانية فهو بريء من تلك الخطيئة. إن الذي أخطأ أبوه والابن لا يطالب بخطيئة الآب (حزقيال 18: 20) وعدم دخول ابن الزنى في جماعة الرب أي في المجمع لا يمنع من قيادة الجيش والقضاء ولا من دخول السماء (تثنية 23: 2 و3).

2 «ثُمَّ وَلَدَتِ ٱمْرَأَةُ جِلْعَادَ لَهُ بَنِينَ. فَلَمَّا كَبِرَ بَنُو ٱلْمَرْأَةِ طَرَدُوا يَفْتَاحَ، وَقَالُوا لَهُ: لاَ تَرِثْ فِي بَيْتِ أَبِينَا لأَنَّكَ أَنْتَ ٱبْنُ ٱمْرَأَةٍ أُخْرَى».

ثُمَّ وَلَدَتِ ٱمْرَأَةُ جِلْعَادَ الإسرائيلية أو الشرعية.

طَرَدُوا يَفْتَاحَ لأنه ابن أمة أو جارية أو أجنبية فهو لا يرث مع أبناء الحرة أو لأنه ابن غير شرعي على التفسيرين (تثنية 23: 2 و3). وإبراهيم أطلق ابن هاجر وأبناء قطورة ليسكنوا في غير مساكن إسحاق (تكوين 21: 10 و25: 6).

لأَنَّكَ أَنْتَ ٱبْنُ ٱمْرَأَةٍ أُخْرَى أي أمة أو أجنبية أو غير شرعية على التفسيرين أيضاً. ورأى أحد المفسرين أنها آرامية من كورة طوب (ع 3).

3 «فَهَرَبَ يَفْتَاحُ مِنْ وَجْهِ إِخْوَتِهِ وَأَقَامَ فِي أَرْضِ طُوبٍ. فَٱجْتَمَعَ إِلَى يَفْتَاحَ رِجَالٌ بَطَّالُونَ وَكَانُوا يَخْرُجُونَ مَعَهُ».

2صموئيل 10: 6 و8 وص 9: 4 و1صموئيل 22: 2

أَرْضِ طُوبٍ كورة آرامية في عبر الأردن عاصمتها طوب (أو طيّب) ولعلها المعروفة اليوم بطيّبة أو الطيبة في بلاد حوران وهي في الشمال الشرقي من بيرية (2صموئيل 10: 6 و8).

رِجَالٌ بَطَّالُونَ (انظر ص 9: 4 والتفسير).

كَانُوا يَخْرُجُونَ مَعَهُ لقطع الطريق والسلب والنهب والسرقة ولم يُعتبر ذلك من الأمور المحرّمة والمعيبة في تلك الأيام وتلك الأحوال (1صموئيل 22: 1 و2 و23: 1 - 5).

4 «وَكَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ أَنَّ بَنِي عَمُّونَ حَارَبُوا إِسْرَائِيلَ».

وَكَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ من طرد أبناء جلعاد ليفتاح وهو زمان غير محدود.

أَنَّ بَنِي عَمُّونَ حَارَبُوا إِسْرَائِيلَ أي غزوا الإسرائيليين غزوة جديدة فوق غزواتهم الماضية (انظر ص 10: 8 و9 و17 و18).

5 «وَلَمَّا حَارَبَ بَنُو عَمُّونَ إِسْرَائِيلَ ذَهَبَ شُيُوخُ جِلْعَادَ لِيَأْتُوا بِيَفْتَاحَ مِنْ أَرْضِ طُوبٍ».

وَلَمَّا حَارَبَ بَنُو عَمُّونَ إِسْرَائِيلَ في نهاية الثماني عشرة سنة التي هي سنو الاستعباد (ص 10: 8).

ذَهَبَ شُيُوخُ جِلْعَادَ أي نواب الجلعاديين الإسرائيليين.

لِيَأْتُوا بِيَفْتَاحَ فإنه كان حينئذ قد اشتهر بالبأس والشجاعة والبطش وكان رئيس جماعة من القتلة. وكان إسرائيلياً جلعادياً ولا ريب في أن جماعته أتوا معه حين أتى ليقود الجيش الإسرائيلي الجلعادي.

6 «وَقَالُوا لِيَفْتَاحَ: تَعَالَ وَكُنْ لَنَا قَائِداً فَنُحَارِبَ بَنِي عَمُّونَ».

وَكُنْ لَنَا قَائِداً الكلمة العبرانية المترجمة بالقائد «قصين» ومعناها على ما قال أحد المفسرين القائد في وقت الحرب فقط. ولهذا توقف يفتاح عن إجابة طلبهم واحتج عليهم حتى وعدوه أن يكون رئيسهم في السلم أيضاً فأجاب طلبهم.

7 «فَقَالَ يَفْتَاحُ لِشُيُوخِ جِلْعَادَ: أَمَا أَبْغَضْتُمُونِي أَنْتُمْ وَطَرَدْتُمُونِي مِنْ بَيْتِ أَبِي؟ فَلِمَاذَا أَتَيْتُمْ إِلَيَّ ٱلآنَ إِذْ تَضَايَقْتُمْ؟».

تكوين 26: 27

فَقَالَ يَفْتَاحُ... أَمَا أَبْغَضْتُمُونِي أَنْتُمْ أي إنكم قد أبغضتموني فالاستفهام إنكاري وسبق له نظائر كثيرة.

وَطَرَدْتُمُونِي مِنْ بَيْتِ أَبِي لا شك أن إخوته طردوه بحكم الشيوخ فيكون الشيوخ الذين طردوه من بيت أبيه.

فَلِمَاذَا أَتَيْتُمْ إِلَيَّ ٱلآنَ إِذْ تَضَايَقْتُمْ فما إتيانكم إليّ إلا لافتقاركم إليّ لا لحبكم إياي كأخ إسرائيلي مستحق أن يقود جنودكم في الحرب ويغار للرب ولشعبه. ولم يردوا كلامه إذ كانوا مفتقرين إليه وهو علم ذلك وهم سلموا بدعواه كما يأتي.

8 «فَقَالَ شُيُوخُ جِلْعَادَ لِيَفْتَاحَ: لِذٰلِكَ قَدْ رَجَعْنَا ٱلآنَ إِلَيْكَ لِتَذْهَبَ مَعَنَا وَتُحَارِبَ بَنِي عَمُّونَ، وَتَكُونَ لَنَا رَأْساً لِكُلِّ سُكَّانِ جِلْعَادَ».

ص 10: 18 و17: 4 ص 10: 18

لِذٰلِكَ اي لمعرفتنا خطأنا بطردك ومعرفتنا استحقاقك أن تكون قائداً. وعناية الله كانت تحوّل الشر خيراً فإنهم بطردهم يفتاح جعلوا له على غير قصدهم فرصة لأن يزاول رئاسة البطالين ويختبر أحوال الحرب والبطش ويتأهل ليكون قائداً للجنود الإسرائيليين.

9 «فَقَالَ يَفْتَاحُ لِشُيُوخِ جِلْعَادَ: إِذَا أَرْجَعْتُمُونِي لِمُحَارَبَةِ بَنِي عَمُّونَ وَدَفَعَهُمُ ٱلرَّبُّ أَمَامِي فَأَنَا أَكُونُ لَكُمْ رَأْساً».

فَأَنَا أَكُونُ لَكُمْ رَأْساً شارطهم على تأكيد قولهم إنه يكون رأساً لهم وإنه بذل سنين من حياته بين الأمم وارتكب المحرمات من السلب والسرقة وقطع الطريق. فكان يشك أن يسلموا برئاسته بعد أن يكون حارب معهم وعرّض نفسه للقتل في حومة القتال والموت.

10 «فَقَالَ شُيُوخُ جِلْعَادَ لِيَفْتَاحَ: ٱلرَّبُّ يَكُونُ سَامِعاً بَيْنَنَا إِنْ كُنَّا لاَ نَفْعَلُ هٰكَذَا حَسَبَ كَلاَمِكَ».

إرميا 42: 5

ٱلرَّبُّ يَكُونُ سَامِعاً بَيْنَنَا أي شاهداً علينا بما قلنا وهو قسَم لتأكيد الوعد.

11 «فَذَهَبَ يَفْتَاحُ مَعَ شُيُوخِ جِلْعَادَ، وَجَعَلَهُ ٱلشَّعْبُ عَلَيْهِمْ رَأْساً وَقَائِداً. فَتَكَلَّمَ يَفْتَاحُ بِجَمِيعِ كَلاَمِهِ أَمَامَ ٱلرَّبِّ فِي ٱلْمِصْفَاةِ».

ع 8 ص 10: 17 و20: 1 و1صموئيل 10: 17 و11: 15

جَعَلَهُ ٱلشَّعْبُ إذ سلّم له الشيوخ بذلك وهم نوّاب الشعب.

رَأْساً وَقَائِداً أي حاكماً عليهم وقائداً لجنودهم.

فَتَكَلَّمَ يَفْتَاحُ بِجَمِيعِ كَلاَمِهِ أي بكل ما وعد به سابقاً وعاهد الرب أو أقسم به على أن يقوم بوفاء مواعيده ليثق الشعب به كما حلفوا له على أن يجعلوه رأساً ليثق بهم.

أَمَامَ ٱلرَّبِّ فِي ٱلْمِصْفَاةِ لا يلزم من هذا أن تابوت الرب كان في الحضرة أو أن ذلك كان بواسطة حبر يكلم الرب فالمعنى أنه أقام عليه شاهداً الله الذي هو مع شعبه في كل مكان وإنه عاهدهم عهداً دينياً مقدساً. وقد ذُكر الكلام على المصفاة آنفاً (انظر تفسير ص 10: 17) ولعل الإشارة هنا إلى جبل هوشع وهو شمالي السلط وعلى بُعد ساعة منها.

منابآت يفتاح ع 12 إلى 28

12 «فَأَرْسَلَ يَفْتَاحُ رُسُلاً إِلَى مَلِكِ بَنِي عَمُّونَ يَقُولُ: مَا لِي وَلَكَ أَنَّكَ أَتَيْتَ إِلَيَّ لِلْمُحَارَبَةِ فِي أَرْضِي؟».

فَأَرْسَلَ يَفْتَاحُ رُسُلاً إِلَى مَلِكِ بَنِي عَمُّونَ جرى يفتاح هنا بمقتضى الحكمة إذ رام بت الأمر من غير حرب حتى إذا لم يخضع ملك بني عمون كان ليفتاح الحق في محاربته وكانت حربه عادلة. وكان بذلك نائباً عن الإسرائيليين لأنه كان رئيسهم وقائد جنودهم.

ما لِي وَلَكَ الخ الاستفهام هنا إنكاري أي لا شيء لي عليك يوجب الحرب بيننا. وهذا كقولنا اليوم أيُّ شيء بيني وبينك أوجب هذه القطيعة أو الخلاف.

أَرْضِي قال هذا لأنه رئيس أهل تلك الأرض وهي جلعاد. وأبان بذلك أن له الحق أن يمنعه من أخذها.

13 «فَقَالَ مَلِكُ بَنِي عَمُّونَ لِرُسُلِ يَفْتَاحَ: لأَنَّ إِسْرَائِيلَ قَدْ أَخَذَ أَرْضِي عِنْدَ صُعُودِهِ مِنْ مِصْرَ مِنْ أَرْنُونَ إِلَى ٱلْيَبُّوقِ وَإِلَى ٱلأُرْدُنِّ. فَٱلآنَ رُدَّهَا بِسَلاَمٍ».

عدد 21: 24 و25 و26 تكوين 32: 22 وعدد 21: 24 وتثنية 2: 37 ويشوع 12: 2

لأَنَّ إِسْرَائِيلَ قَدْ أَخَذَ أَرْضِي هذه حجة ظاهرها صواب ولكنها غير موافقة للواقع لأن بني إسرائيل لم يعتدوا على العمونيين. فإن الإسرائيليين نُهوا عن أن يحاربوا الموآبيين والعمونيين (تثنية 2: 9 و19) ولكن سيحون ملك الأموريين أبى أن يأذن للإسرائيليين أن يمروا بسلام في أرضه وخرج لمحاربتهم فغلبوه واستولوا على أرضه وكان قسم كبير من أرضه في الأصل للموآبيين والعمونيين أخذها منها سيحون (عدد 21: 21 - 30). فالإسرائيليون استولوا على أرض سيحون حينئذ لا على أرض العمونيين والموآبيين.

مِنْ أَرْنُونَ إِلَى ٱلْيَبُّوقِ وَإِلَى ٱلأُرْدُنِّ وكان سكان هذه الأرض حينئذ جاد في الشمال ورأوبين في الجنوب. «وأرنون» ومعناه العجّاج وفي قاموس الكتاب «المصوب» أعظم الأنهر في شرقي بحر لوط. وكان في أول الأمر تخماً بين الموآبيين والعمونيين ثم بين الموآبيين والأموريين وصار التخم الجنوبي لرأوبين وتخماً بينه وبين الموآبيين ويُعرف اليوم بنهر الموجب ووادي الموجب. وطوله نحو خمسين ميلاً يصب في البحر المذكور.

و«اليبوق» بالألف واللام هنا حسب العبرانية وجاء بدونهما في غير موضع (انظر عدد 21: 24) ومعناه مفرّغ. وهو نهر منبعه قرب عمان يجري من ينبوعه شرقاً ثم شمالاً ثم غرباً إلى الأردن في نحو منتصف المسافة بين بحر لوط وبحر طبرية ويعرف اليوم بنهر الزرقاء ووادي الزرقاء.

و«الأردن» له عدة ينابيع وممدّات ومن ينابيعه ينبوع في حاصبيا وعدة ينابيع عند تلّ القاضي يمر في بحر طبرية ويجري منه إلى بحر لوط.

فَٱلآنَ رُدَّهَا بِسَلاَمٍ جرى ملك عمون مجرى يفتاح بالرغبة في السلم لكن يفتاح طلب السلم بالحق وملك عمون بغير الحق كما علمت.

14 «وَعَادَ أَيْضاً يَفْتَاحُ وَأَرْسَلَ رُسُلاً إِلَى مَلِكِ بَنِي عَمُّونَ».

وَعَادَ... وَأَرْسَلَ الخ لم يُعلن يفتاح الحرب بناء على كلام ملك عمون بل أقام له البرهان على بُطل دعواه حتى لم يُبق له عذراً ولا حجة لأمرين الأول الرغبة في السلم والثاني بيان أن محاربته له إذا أبى الحق عادلة خالية من كل جور. وهذا يدلنا على أن الله وهب يفتاح حكمة ذات شأن.

وخلاصة حجة يفتاح كما يأتي:

  1. إنهم لم يأخذوا الأرض التي وقع الاختلاف عليها من العمونيين بل من الأموريين وكان الأموريين أخذوها من الموآبيين (عدد 21: 26) والعمونيين (يشوع 13: 25).

  2. إنه كان مضى مدة 300 سنة من زمان استيلاء إسرائيل على الأرض فصار فيها حقوق وضع اليد.

  3. إن الرب الذي له الأرض وشعوبها أعطى مملكة سيحون ملكاً لإسرائيل. وإن كان العمونيون لا يعرفون الرب فهو إله إسرائيل كما كان كموش إله العمونيين.

  4. إن الموآبيين لم يدّعوا بأن الأرض لهم مع أن سحيون كان أخذها منهم أيضاً وليس من العمونيين وحدهم.

15 «وَقَالَ لَهُ: هٰكَذَا يَقُولُ يَفْتَاحُ: لَمْ يَأْخُذْ إِسْرَائِيلُ أَرْضَ مُوآبَ وَلاَ أَرْضَ بَنِي عَمُّونَ».

تثنية 2: 9 و19

لَمْ يَأْخُذْ إِسْرَائِيلُ أَرْضَ مُوآبَ وَلاَ أَرْضَ بَنِي عَمُّونَ بل أرض الأموريين (ع 19). والله لم ينه إسرائيل عن محاربتهم على إنهم اضطروا أن يحاربوا سيحون ملك الأموريين لأنه هو قدم على محاربة إسرائيل فدفعوا عن نفوسهم وغلبوه فلم يعتدوا على أحد.

16 «لأَنَّهُ عِنْدَ صُعُودِ إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ سَارَ فِي ٱلْقَفْرِ إِلَى بَحْرِ سُوفٍ وَأَتَى إِلَى قَادِشَ».

عدد 14: 25 وتثنية 1: 40 ويشوع 5: 6 عدد 13: 26 و20: 1 وتثنية 1: 46

لأَنَّهُ عِنْدَ صُعُودِ إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ (انظر ع 20 و21).

سَارَ فِي ٱلْقَفْرِ أي البرية في السنة الثانية من التِيه (تثنية 1: 19).

بَحْرِ سُوفٍ أي البحر الأحمر (انظر عدد 14: 25 وتثنية 1: 40 و2: 1). البحر الأحمر خليج من بحر الهند طوله 1450 ميلاً ومعظم عرضه 221 ميلاً ويضيق إلى جهة الشمال ثم ينقسم إلى خليجين خليج العقبة إلى الشرق وخليج السويس إلى الغرب. أما شبه جزيرة سيناء فهي بين الخليجين. ولما خرج الإسرائيليون من مصر عبروا خليج السويس ثم ساروا في برية سيناء إلى خليج العقبة وهو المشار إليه هنا بالقول ساروا في القفر إلى بحر سوف ثم ساروا شمالاً إلى قادش والبحر عن يمينهم.

قَادِشَ وتسمى قادش برنيع أيضاً (يشوع 10: 41 و15: 3) وهي بين برية صين وفاران (انظر عدد 13: 26 و20: 1 و16). ورأى الأكثرون على أنها المعروفة اليوم بعين قادس وهي في أرض رحبة تحيط بها التلال حسنة التربة غزيرة الماء تبعد عن حبرون أي الخليل 77 ميلاً وعن بئر سبع 51 ميلاً. والإسرائيليون نزلوا فيها مرتين أول مرة في السنة الثانية والشهر الخامس (عدد 10: 11 و13: 20) و ثاني مرة في أول السنة الأربعين (عدد 20: 1) وهنا ماتت مريم وضرب موسى وهارون الصخرة فخرج منها ماء.

17 «وَأَرْسَلَ إِسْرَائِيلُ رُسُلاً إِلَى مَلِكِ أَدُومَ قَائِلاً: دَعْنِي أَعْبُرْ فِي أَرْضِكَ. فَلَمْ يَسْمَعْ مَلِكُ أَدُومَ. فَأَرْسَلَ أَيْضاً إِلَى مَلِكِ مُوآبَ فَلَمْ يَرْضَ. فَأَقَامَ إِسْرَائِيلُ فِي قَادِشَ».

عدد 20: 14 عدد 20: 18 و21 عدد 20: 1

وَأَرْسَلَ إِسْرَائِيلُ رُسُلاً هذه العبارة وما بعدها مأخوذة من سفر العدد بشيء من الإيجاز (انظر عدد 20: 14 و17) لكن في ذلك السفر أن موسى هو الذي أرسل الرسل إلى ملك آدوم ويفتاح قال إن إسرائيل أرسلهم لأن موسى كان نائب إسرائيل فكلامه كلامهم وقد سبق لهذا نظائر كثيرة في هذا التفسير وأما قول موسى فما أفاد أن المرسل الرسل إسرائيل وهاك قوله «هٰكَذَا يَقُولُ أَخُوكَ إِسْرَائِيلُ» (عدد 20: 14). والقصة كانت محفوظة في أذهان الإسرائيليين وذاكرة يفتاح لأنها كانت قريبة العهد.

فَأَرْسَلَ أَيْضاً إِلَى مَلِكِ مُوآبَ هذه الحادثة لم تُكتب في التوراة ولكنه لم ينفِ أنها وقعت وبقيت القصة محفوظة بين الإسرائيليين فذكرها يفتاح هنا.

فَأَقَامَ إِسْرَائِيلُ فِي قَادِشَ مرّ الكلام على قادش في تفسير (ع 16) فارجع إليه. إن بني إسرائيل أقاموا بقادش أياماً كثيرة (تثنية 1: 46).

18 «وَسَارَ فِي ٱلْقَفْرِ وَدَارَ بِأَرْضِ أَدُومَ وَأَرْضِ مُوآبَ وَأَتَى مِنْ مَشْرِقِ ٱلشَّمْسِ إِلَى أَرْضِ مُوآبَ وَنَزَلَ فِي عَبْرِ أَرْنُونَ، وَلَمْ يَأْتُوا إِلَى تُخُمِ مُوآبَ لأَنَّ أَرْنُونَ تُخُمُ مُوآبَ».

عدد 21: 4 وتثنية 2: 1 إلى 8 عدد 21: 11 عدد 21: 13 و22: 36

وَدَارَ بِأَرْضِ أَدُومَ وَأَرْضِ مُوآبَ (انظر تفسير عدد 20: 22 و21: 4 و13).

عَبْرِ أَرْنُونَ (انظر عدد 21: 13 والتفسير) وقد مرّ الكلام على أرنون في (تفسير ع 13).

لأَنَّ أَرْنُونَ تُخُمُ مُوآبَ (عدد 21: 13).

19 «ثُمَّ أَرْسَلَ إِسْرَائِيلُ رُسُلاً إِلَى سِيحُونَ مَلِكِ ٱلأَمُورِيِّينَ مَلِكِ حَشْبُونَ، وَقَالَ لَهُ إِسْرَائِيلُ: دَعْنِي أَعْبُرْ فِي أَرْضِكَ إِلَى مَكَانِي».

عدد 21: 21 وتثنية 2: 26 عدد 21: 22 وتثنية 2: 27

إِلَى سِيحُونَ مَلِكِ ٱلأَمُورِيِّينَ (انظر عدد 21: 21 وتثنية 2: 21 - 32). معنى سيحون الانقراض ومعنى الأموريين الجبليون سُموا بذلك لأنهم كانوا يسكنون الجبال وهم قبيلة سورية من نسل كنعان (تكوين 10: 16) كانت من أشد أعداء الإسرائيليين. واشتهر الأموريون بالقوة والشجاعة وطول القامة (عاموس 2: 9). سكنوا أولاً في الأرض الكثيرة الهضاب جنوباً ثم انتقوا أخصب أرض في أرض كنعان وهي الأرض التي بين نهر أرنون ونهر يبوق والأردن.

مَلِكِ حَشْبُونَ حشبون مدينة هي عاصمة مملكة الأموريين وهذه المدينة كانت أولاً للموآبيين ثم استولى عليها سيحون وجعلها حاضرة ملكه. وكانت على الحد بين رأوبين وجاد ثم أصلحها وحسنها الرأوبينيون ووهبها الجاديون للاويين (يشوع 21: 39). ولم تزل أطلال هذه المدينة على غاية خمسة عشر ميلاً في شرقي طرف بحر لوط الشمالي واسمها اليوم حسبان.

دَعْنِي أَعْبُرْ فِي أَرْضِكَ (انظر عدد 21: 22).

مَكَانِي أي المكان الذي أقصده وهذا مرويٌّ بالمعنى.

20 «وَلَمْ يَأْمَنْ سِيحُونُ لإِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْبُرَ فِي تُخُمِهِ، بَلْ جَمَعَ سِيحُونُ كُلَّ شَعْبِهِ وَنَزَلُوا فِي يَاهَصَ وَحَارَبُوا إِسْرَائِيلَ».

عدد 21: 23 وتثنية 2: 32

وَلَمْ يَأْمَنْ سِيحُونُ لإِسْرَائِيلَ لم يثق سيحون بوعد بني إسرائيل إنهم يمرون بأرضه دون أن يخسروه شيئاً (عدد 21: 23).

بَلْ جَمَعَ سِيحُونُ تكاد هذه العبارة وما بعدها إلى آخر الآية مثل ما في سفر العدد وهذا دليل على أن التوراة كانت في عصر يفتاح (انظر عدد 21: 23).

وَنَزَلُوا فِي يَاهَصَ (انظر عدد 21: 23 وإشعياء 15: 4 وإرميا 48: 21) وسُميت في إشعياء يهصة وموقعها مجهول. ولم يُعيّن مكان الحرب ولكن لا بد من أنه كان غير بعيد عن ياهص.

21 «فَدَفَعَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ سِيحُونَ وَكُلَّ شَعْبِهِ لِيَدِ إِسْرَائِيلَ فَضَرَبُوهُمْ، وَٱمْتَلَكَ إِسْرَائِيلُ كُلَّ أَرْضِ ٱلأَمُورِيِّينَ سُكَّانِ تِلْكَ ٱلأَرْضِ».

عدد 21: 24 و25 وتثنية 2: 33 و34

فَدَفَعَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ هذا كلام أتقياء مؤمنين بالإله الحق. فنسب يفتاح النصر إلى الإله الحق على الآلهة الباطلة آلهة الأموريين وهو إرشاد مختصر وعظة وإنذار لملك عمون. وبرهان على أن الله منحهم الأرض فهي لهم لا له.

22 «فَٱمْتَلَكُوا كُلَّ تُخُمِ ٱلأَمُورِيِّينَ مِنْ أَرْنُونَ إِلَى ٱلْيَبُّوقِ وَمِنَ ٱلْقَفْرِ إِلَى ٱلأُرْدُنِّ».

تثنية 2: 36

كُلَّ تُخُمِ ٱلأَمُورِيِّينَ فكانت كل تلك الأرض لبني إسرائيل بمقتضى كل شرائع الأمم منذ أبعد العصور. فهم أخذوا أرض الأموريين لا أرض العمونيين ولا أرض الموآبيين وثبتت لهم شرعاً بإجماع كل أمم الأرض على ما هو المعروف من قوانين الحرب.

مِنْ أَرْنُونَ إِلَى ٱلْيَبُّوقِ وَمِنَ ٱلْقَفْرِ إِلَى ٱلأُرْدُنِّ هذا ردٌ على قول ملك عمون بلفظه تقريباً (انظر ع 13) وفيه زيادة لفظة «القفر» أي البرية في شرقي تلك الأرض. وقد تقدم الكلام على أرنون واليبوق والأردن في (تفسير ع 13).

23 «وَٱلآنَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ قَدْ طَرَدَ ٱلأَمُورِيِّينَ مِنْ أَمَامِ شَعْبِهِ إِسْرَائِيلَ. أَفَأَنْتَ تَمْتَلِكُهُ؟».

وَٱلآنَ واقعة «الآن» هنا موقع إذاً. ولعلها متعلقة بمحذوف تقديره أقول أي وأقول الآن أو حكاية الزمان الحاضر يومئذ.

ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ قَدْ طَرَدَ ٱلأَمُورِيِّينَ كرر نسبة النصر إلى إله إسرائيل للتقرير في ذهن ملك عمون ليعرف قدرة الإله الحق وإن الإسرائيليين لم يعتدوا على عمون ولا على موآب وإن الأرض ملك إسرائيل بقضاء الرب وشريعة الحرب.

أَفَأَنْتَ تَمْتَلِكُهُ الضمير المنصوب هنا يعود إلى التخم في (ع 22) والاستفهام إنكاري والمعنى ليس لك أن تمتلكه وليس من الحق أن يحارب إسرائيل الأموريين ويسفكوا دماءهم ليأخذوا أرضهم ويعطوها ملك عمون. وفوق ذلك إن الرب أعطاهم الأرض وهي الحجة العظمى.

24 «أَلَيْسَ مَا يُمَلِّكُكَ إِيَّاهُ كَمُوشُ إِلٰهُكَ تَمْتَلِكُ؟ وَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ طَرَدَهُمُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا مِنْ أَمَامِنَا فَإِيَّاهُمْ نَمْتَلِكُ».

عدد 21: 29 و1ملوك 11: 7 وإرميا 48: 7 تثنية 9: 4 و5 و18: 12 ويشوع 3: 10

أَلَيْسَ مَا يُمَلِّكُكَ إِيَّاهُ كَمُوشُ إِلٰهُكَ تَمْتَلِكُ الخ انظر إلى هذه المقابلة البليغة في هذه الآية والحجة الدامغة والتعريض بضلال العمونيين. ومعناه لا ريب في أنك تمتلك ما يملكك إياه إلهك كموش ونحن الرب ملّكنا أرض الأموريين لا أرضك فلنا الحق أن نملكها. والتعريض أن كموش يعجز عن أن يملّكه أرض الرب التي أعطاها شعبه لأن الرب إله حي وكموش إله ميت أو جماد والرب إله حق وكموش إله باطل والأرض كلها للرب وكموش لا يملك شيئاً. ولا ريب في أن ذلك إنذاراً لملك عمون وعظة بالغة.

وبقي هنا أن كموش إله موآب ومولك إله عمون. ولكن كان موآب وعمون حينئذ متحدين في العبادة والحكومة ومتحالفين على الأعداء (انظر ص 3: 12 و13) وهما من دم واحد. على أن كموش ومولك اسمان لإله واحد من الآلهة الباطلة فالموآبيون سموه كموش والعمونيون سموه مولك ولكل منهما بعل فغور على ما حققه علماء التاريخ. وسُمي الموآبيون شعب كموش (إرميا 48: 46) وقد تحقق من صفاته أنه ليس سوى مولك إله العمونيين.

25 «وَٱلآنَ فَهَلْ أَنْتَ خَيْرٌ مِنْ بَالاَقَ بْنِ صِفُّورَ مَلِكِ مُوآبَ، فَهَلْ خَاصَمَ إِسْرَائِيلَ أَوْ حَارَبَهُمْ مُحَارَبَةً؟».

عدد 22: 2 ويشوع 24: 9

وَٱلآنَ أي وأقول الآن.

فَهَلْ أَنْتَ خَيْرٌ مِنْ بَالاَقَ بْنِ صِفُّورَ بالاق أحد ملوك موآب وهو الذي أنعم على بلعام بهدايا كثيرة ليلعن إسرائيل فما كان من بلعام إلا أنه باركه (عدد ص 22 - ص 24). ومعنى العبارة أنت لست خيراً من الملك بالاق ومع ذلك لم يحارب إسرائيل فعليك أن تسلك مسلكه ولا تحارب شعب الرب ولا تطمع في أرضه التي أخذها من الأموريين لا منك ولا من قومك الموآبيين.

وهذه العبارة تظهر في بادئ الرأي إنها منافية لما جاء في سفر يشوع من أن بالاق بن صفّور ملك موآب حارب إسرائيل ودعا بلعام بن بعور ليلعن الإسرائيليين (يشوع 24: 9). وتُدفع هذه الشبهة بأن بالاق على ما في سفري يشوع حارب إسرائيل نيّة لأنه استعد لحربهم وطلب بلعام ليلعنهم فيقوى عليهم ولكن بلعام باركهم فرجع بالاق عن محاربتهم وهذا ما دلّت عليه القرائن. وتنزيل النية منزلة الفعل كثير في الكتاب المقدس وكل اللغات السامية. ورأى بعضهم أن الحرب المذكورة في يشوع هي الواقعة بين إسرائيل والمديانيين وإن بلعام كان قد انضم إليهم لأنه كان حليفهم وهي الواقعة التي قُتل فيها بلعام (عدد 31: 8 ويشوع 13: 22) وهذا مع تسليمه لا يخدش دليل يفتاح وليس له أدنى تأثير فيه إذ لم تكن محاربته يومئذ لرده ما أخذه الإسرائيليون من الأموريين. على أن نيّة بالاق محاربة إسرائيل في غير هذا الموضع لم تكن لاسترجاع الأرض بل لكراهته بني إسرائيل وحسده لهم.

26 «حِينَ أَقَامَ إِسْرَائِيلُ فِي حَشْبُونَ وَقُرَاهَا وَعَرُوعِيرَ وَقُرَاهَا وَكُلِّ ٱلْمُدُنِ ٱلَّتِي عَلَى جَانِبِ أَرْنُونَ ثَلاَثَ مِئَةِ سَنَةٍ، فَلِمَاذَا لَمْ تَسْتَرِدَّهَا فِي تِلْكَ ٱلْمُدَّةِ؟».

عدد 21: 25 تثنية 2: 36

وَقُرَاهَا وفي العبرانية بناتها على طريق المجاز تنزيلاً للقرى من المدينة بمنزلة البنات من الأم.

وَعَرُوعِيرَ مدينة في شمالي نهر أرنون لم تزل أطلالها على شاهق شرقي بحر لوط وعلى غاية اثني عشر ميلاً منها وتُعرف اليوم بعراعير.

ثَلاَثَ مِئَةِ سَنَةٍ من قسمة الأرض إلى تسلط كوشان رشعتايم (ص 3: 8) عشر سنين. ومن نهاية ذلك التسلط إلى تسلط العمونيين 300 سنة وسنة. وإذا أضفنا 18 وهي مدة تسلط العمونيين يكون المجموع 329 سنة وقال يفتاح 300 سنة والمراد بقوله أكثر من 300 سنة (انظر الفصل الرابع من المقدمة). والمعنى أن الأرض لو كانت لك أو لكان لك حق ردها إليك لما سكتّ عن ذلك إلى الآن.

27 «فَأَنَا لَمْ أُخْطِئْ إِلَيْكَ. وَأَمَّا أَنْتَ فَإِنَّكَ تَفْعَلُ بِي شَرّاً بِمُحَارَبَتِي. لِيَقْضِ ٱلرَّبُّ ٱلْقَاضِي ٱلْيَوْمَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَنِي عَمُّونَ».

تكوين 16: 5 و31: 53 و1صموئيل 24: 12 و15 تكوين 18: 25

فَأَنَا لَمْ أُخْطِئْ إِلَيْكَ لم أسيء إليك شيئاً.

وَأَمَّا أَنْتَ فَإِنَّكَ تَفْعَلُ بِي شَرّاً بِمُحَارَبَتِي لأنها حرب تعدّ وأضرار.

لِيَقْضِ ٱلرَّبُّ أي أني أترك القضاء بيني وبينك للرب الإله الحق لا لكموش أو لمولك الإله الباطل.

28 «فَلَمْ يَسْمَعْ مَلِكُ بَنِي عَمُّونَ لِكَلاَمِ يَفْتَاحَ ٱلَّذِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ».

فَلَمْ يَسْمَعْ الخ أي فلم يقتنع ويكفّ عن الحرب بعد كل ذلك البيان. ولأجل تفصيله (انظر تفسير ع 14).

نذر يفتاح وانتصاره ع 29 إلى 33

29 «فَكَانَ رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَى يَفْتَاحَ، فَعَبَرَ جِلْعَادَ وَمَنَسَّى وَعَبَرَ مِصْفَاةَ جِلْعَادَ، وَمِنْ مِصْفَاةِ جِلْعَادَ عَبَرَ إِلَى بَنِي عَمُّونَ».

ص 3: 10

فَكَانَ رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَى يَفْتَاحَ كما كان على عثنيئيل وجدعون وشمشون (انظر ص 3: 9 و10 و6: 34 و13: 24 و25 و14: 19 و15: 14). لكن حلول روح الرب عليه غير حلوله على جدعون فليس المعنى هنا أن يفتاح صار نبياً بل إن الله منحه الشجاعة والقوة والتدبير إلى غير ذلك من الأمور العادية التي يتمكن بها القائد من الانتصار. ولا ريب في أن وهب له فوق ذلك الإيمان (عبرانيين 11: 32 و33).

فَعَبَرَ جِلْعَادَ وَمَنَسَّى أي دخل البلادين وجازهما وهما القسم الشمالي من أرض إسرائيل. الأردن وغايته من ذلك أن يجمع الجنود ويهيج حمية الشعب ويوقد نار الحرب.

وَعَبَرَ مِصْفَاةَ جِلْعَادَ تقدم الكلام على المصفاة (انظر ص 10: 17).

وَمِنْ مِصْفَاةِ جِلْعَادَ عَبَرَ إِلَى بَنِي عَمُّونَ أكمل تكتيب الجنود في المصفاة زحف بهم إلى قتال العمونيين فكان الهاجم بالحسام بعد أن كان المدافع بالكلام. وكانت المصفاة معسكر الجيش الأول ومركز الحركات الحربية ومقام يفتاح (ع 34).

30، 31 «30 وَنَذَرَ يَفْتَاحُ نَذْراً لِلرَّبِّ قَائِلاً: إِنْ دَفَعْتَ بَنِي عَمُّونَ لِيَدِي 31 فَٱلْخَارِجُ ٱلَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَبْوَابِ بَيْتِي لِلِقَائِي عِنْدَ رُجُوعِي بِٱلسَّلاَمَةِ مِنْ عِنْدِ بَنِي عَمُّونَ يَكُونُ لِلرَّبِّ، وَأُصْعِدُهُ مُحْرَقَةً».

تكوين 28: 20 و1صموئيل 1: 11 لاويين 27: 2 و3 الخ و1صموئيل 1: 11 و28 و2: 18 لاويين 27: 11 و12 ومزمور 66: 13

وَنَذَرَ يَفْتَاحُ نَذْراً لِلرَّبِ النذر ما كان إلا وعداً على شرط كقولك عليّ إن شفى الله مريضي إن أعطي الفقراء ليرة. قال يعقوب «إِنْ كَانَ ٱللّٰهُ مَعِي، وَحَفِظَنِي فِي هٰذَا ٱلطَّرِيقِ ٱلَّذِي أَنَا سَائِرٌ فِيهِ، وَأَعْطَانِي خُبْزاً لآكُلَ وَثِيَاباً لأَلْبِسَ، وَرَجَعْتُ بِسَلاَمٍ إِلَى بَيْتِ أَبِي، يَكُونُ ٱلرَّبُّ لِي إِلٰهاً الخ» (تكوين 28: 20 - 22) وهكذا إسرائيل (عدد 21: 2) وحنة (1صموئيل 1: 11) وأبشالوم (2صموئيل 15: 8) والنوتية الوثنيون (يونان 1: 16). وأما النذور فلا توافق تعليم العهد الجديد كما يظهر مما يأتي:

  1. إن كل ما لنا لله ونحن له لأنه خلقنا وأعطانا كل شيء والمسيح فدانا واشترانا بدمه فعلينا أن نقدم نفوسنا له ونقف له كل مالنا وذلك بلا شرط.

  2. إن الله هو الآب السماوي يحبنا محبة أعظم جداً من محبة الوالدين لأولادهم فيعطينا كل ما نحتاج إليه بلا نذور منا.

  3. إن المسيح علمنا أن نطلب في الصلاة مهما احتجنا إليه وقال «مَهْمَا سَأَلْتُمْ بِٱسْمِي فَذٰلِكَ أَفْعَلُهُ» (يوحنا 14: 13) و الشرط الوحيد هو أن يكون مطلوبنا ما يتمجد الله به. فالنذر يدل على عدم وقف النفس للرب وعدم الثقة بالآب السماوي وعدم الإيمان بوعد المسيح.

وأما القدماء فلم يكن لهم هذه المعرفة فنذروا نذوراً. ومن شروط النذر أولاً أنه يكون بعد التأمل والمعرفة وحساب الكلفة. وثانياً إنه يكون في أمر جائز. ونرى أن يفتاح أخطأ من الجهتين لأنه لم يفتكر أن ابنته المحبوبة تلاقيه وإن تقديمها ذبيحة لا يجوز.

فَٱلْخَارِجُ ٱلَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَبْوَابِ بَيْتِي لِلِقَائِي هذا يدل دلالة واضحة أنه نذر عاقلاً للتقدمة لأن البهيمة لا تخرج للقائه. وكان الوثنيون يقدمون أبناءهم وبناتهم ذبائح ومحرقات لآلهتهم الباطلة وأما هو فلم يعلن إن الذبائح البشرية محظورة في شريعة الله (تثنية 12: 31).

32 «ثُمَّ عَبَرَ يَفْتَاحُ إِلَى بَنِي عَمُّونَ لِمُحَارَبَتِهِمْ. فَدَفَعَهُمُ ٱلرَّبُّ لِيَدِهِ».

ثُمَّ عَبَرَ أي تقدّم.

فَدَفَعَهُمُ ٱلرَّبُّ لِيَدِهِ أي نصره عليهم.

33 «فَضَرَبَهُمْ مِنْ عَرُوعِيرَ إِلَى مَجِيئِكَ إِلَى مِنِّيتَ (عِشْرِينَ مَدِينَةً) وَإِلَى آبَلَ ٱلْكُرُومِ ضَرْبَةً عَظِيمَةً جِدّاً. فَذَلَّ بَنُو عَمُّونَ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ».

حزقيال 27: 17

فَضَرَبَهُمْ هو وجنده بالسيوف.

مِنْ عَرُوعِيرَ... إِلَى مِنِّيتَ عروعير هنا غير عروعير التي ذُكرت في (ع 26) فتلك مدينة لرأوبين في شمالي نهر أرنون وتٌعرف الآن بعراعير (انظر تفسير ع 26). وهذه مدينة لجاد أمام ربة المعروفة اليوم بعمان (انظر عدد 32: 34 ويشوع 13: 5). ومِنّيت مكان في أرض بني عمون كان كثير الحقول الخصبة فكان يؤتى بالحنطة منه إلى صور (حزقيال 27: 17) ويُعرف اليوم بمنية جنوبي حسبان المسماة في الكتاب حشبون وعلى غاية أربعة أميال منها على ما قال أوسابيوس وجيروم.

عِشْرِينَ مَدِينَةً أي أهل عشرين مدينة وهو بدل من الضمير المنصوب في ضربهم.

وَإِلَى آبَلَ ٱلْكُرُومِ معطوف على قوله «إلى منيت» ترجمها بعضهم بمرج الكروم بناء على أن آبل اسم جنس لا علم والصحيح أنها علم لم يزل موقعها مجهول.

مصاب ابنة يفتاح ع 34 إلى 40

34 «ثُمَّ أَتَى يَفْتَاحُ إِلَى ٱلْمِصْفَاةِ إِلَى بَيْتِهِ، وَإِذَا بِٱبْنَتِهِ خَارِجَةً لِلِقَائِهِ بِدُفُوفٍ وَرَقْصٍ. وَهِيَ وَحِيدَةٌ. لَمْ يَكُنْ لَهُ ٱبْنٌ وَلاَ ٱبْنَةٌ غَيْرَهَا».

ص 10: 17 وع 11 خروج 15: 20 و1صموئيل 18: 6 ومزمور 68: 25 وإرميا 31: 4

إِلَى ٱلْمِصْفَاةِ إِلَى بَيْتِهِ هذا يدلنا على أن المصفاة كانت مركز حركات يفتاح الحربية والمعسكر الأول لجيشه رجال جلعاد. وكان راجعاً بالنصر وقد ابتهج بنصره كل الإسرائيليين هناك ولا سيما أهل بيته وخصوصاً ابنته الوحيدة العذراء التي لا ابن له ولا بنت غيرها.

وَإِذَا بِٱبْنَتِهِ خَارِجَةً لِلِقَائِهِ بِدُفُوفٍ وَرَقْصٍ خرجت للقائه هي وأترابها وصويحباتها يضربنَ بالدفوف ويرقصن ابتهاجاً بنصر أبيها يفتاح. وهذه كانت العادة بلقاء المنتصر ولا تزال إلى الآن في بعض الأماكن في سورية وغيرها من بلاد المشرق. فمريم خرجت وبيدها الدف ووراءها جميع النساء بدفوف ورقص فرحاً بالنجاة من المصريين وترنمن بأغنية التسبيح (خروج 15: 20 و21). والنساء خرجت من جميع مدن إسرائيل بالغناء والرقص والدفوف والمثالث والفرح للقاء شاول وداود وهما راجعان من النصر على الفلسطينيين.

35 «وَكَانَ لَمَّا رَآهَا أَنَّهُ مَزَّقَ ثِيَابَهُ وَقَالَ: آهِ يَا ٱبْنَتِي! قَدْ أَحْزَنْتِنِي حُزْناً وَصِرْتِ بَيْنَ مُكَدِّرِيَّ، لأَنِّي قَدْ فَتَحْتُ فَمِي إِلَى ٱلرَّبِّ وَلاَ يُمْكِنُنِي ٱلرُّجُوعُ».

تكوين 37: 29 و34 جامعة 5: 2 عدد 30: 2 ومزمور 15: 4 وجامعة 5: 4 و5

مَزَّقَ ثِيَابَهُ إعلاناً لشدة حزنه ولا يزال كثيرون من الناس في سورية يمزقون أطواقهم وجيوبهم وينتفون شعور رؤوسهم عند شدة الحزن وأكثر من يأتي ذلك النساء. وقيل إن اليهود لا يزالون يأتون ذلك قرب موضع الهيكل في أورشليم. وقد سبق يفتاح إلى مثل ذلك يشوع (انظر يشوع 7: 6). وسبق يشوع إلى مثله رأوبين (تكوين 37: 29). وبقي الإسرائيليون يأتون مثل ذلك في شدة الحزن أو الغيظ (2ملوك 2: 12) وأتوا مثل ذلك في عصر المسيح (متّى 26: 65).

آهِ يَا ٱبْنَتِي «آه» كلمة توجُّع اي كلمة تُعلن وجع المتكلم. وقوله «يا بنتي» بيان لشدة تألمه لأن مصابه بابنته الوحيدة التي لا و لد له سواها. وكان له أن ينجو من ذلك الألم بأن لا يفي بذلك النذر لسببين (1) إن الله منع الذبائح البشرية. (2) إن لا حق له أن يقتل بريئة. ولكن يظهر من كلامه وجواب ابنته الآتي إنه هو وابنته كانا يتصوران إن الرب كآلهة الأمم يوجب الوفاء بالنذر على كل حال وإنه يسر بأن يُسفك له دم البنين والبنات. إن يفتاح وابنته ظنا بما أتياه أنهما يخلصان الطاعة للرب وما فطنا أن العصيان خيرٌ من تلك الطاعة لأنها معصية عُدّت طاعة وخلاف عُدَّ موافقة.

قَدْ أَحْزَنْتِنِي حُزْناً أي أوقعت الحزن في قلبي حقيقة. وكان الصواب أن يقول لقد أحزنت نفسي بما أتيته لأن الحق عليه لا عليها. وإنه هو الذي أحزنها لا هي التي أحزنته. هي خرجت للقائه مبتهجة فرجعت عنه حزينة.

لأَنِّي قَدْ فَتَحْتُ فَمِي إِلَى ٱلرَّبِّ أي أعلنت النذر بالكلام. وكان النذر عند العبرانيين قسمين أحدهما يُفدى فيه المنذور (لاويين 27: 27) والآخر لا يُفدى فيه المنذور وهو المحرّم فإنه يُقتل من الناس والبهائم. فيمكن أن يفتاح حسب نذره من القسم الثاني وهو خطاء فإن ذلك كان مقصوراً على الأعداء وغنائمهم في الحرب وعلى ما يُملك (عدد 21: 2) ولم يكن في البنين والبنات.

وَلاَ يُمْكِنُنِي ٱلرُّجُوعُ لعله قال هذا بناء على قوله تعالى «إِذَا نَذَرَ رَجُلٌ نَذْراً لِلرَّبِّ، أَوْ أَقْسَمَ قَسَماً أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ بِلاَزِمٍ، فَلاَ يَنْقُضْ كَلاَمَهُ» (عدد 30: 2). ولكن هذا قيل في ما هو شرعي لا في ما هو منافٍ للشريعة كالتقدمات والمحرقات البشرية الوثنية.

36 «فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَبِي، هَلْ فَتَحْتَ فَاكَ إِلَى ٱلرَّبِّ؟ فَٱفْعَلْ بِي كَمَا خَرَجَ مِنْ فِيكَ، بِمَا أَنَّ ٱلرَّبَّ قَدِ ٱنْتَقَمَ لَكَ مِنْ أَعْدَائِكَ بَنِي عَمُّونَ».

عدد 30: 2 و2صموئيل 18: 19 و31

يَا أَبِي... فَٱفْعَلْ بِي كَمَا خَرَجَ مِنْ فِيكَ، بِمَا أَنَّ ٱلرَّبَّ قَدِ ٱنْتَقَمَ لَكَ هذه الطاعة تكاد تزيد على طاعة إسحاق لإبراهيم (تكوين 22: 1 - 10). ولا ريب في أنها أتت ذلك إكراماً للرب.

37 «ثُمَّ قَالَتْ لأَبِيهَا: فَلْيُفْعَلْ لِي هٰذَا ٱلأَمْرُ: ٱتْرُكْنِي شَهْرَيْنِ فَأَذْهَبَ وَأَنْزِلَ عَلَى ٱلْجِبَالِ وَأَبْكِيَ عَذْرَاوِيَّتِي أَنَا وَصَاحِبَاتِي».

ٱتْرُكْنِي شَهْرَيْنِ ما كان هذا الترك ممنوعاً مع العزم على الوفاء بالنذر.

عَلَى ٱلْجِبَالِ منفردة أنا وصاحباتي عن الناس.

وَأَبْكِيَ عَذْرَاوِيَّتِي فسّر يوسيفوس هذا بقوله «أبكي صباي». وذهب أكثر المفسرين بأنها تبكي موتها بلا زيجة ولا ولد فإن عدم الولد كان عاراً على النساء ومصاباً على الإسرائيليات لأن كل واحدة منهنّ كانت تتوقع أن تلد المسيح الموعود به. وإذ كانت وحيدة كان موتها زوالاً لبيت أبيها وزوال بيت من إسرائيل كان يُعدّ عقاباً من الله (انظر 1صموئيل 1: 2 ولوقا 1: 25 وتكوين 3: 15 و4: 1 ومزمور 109: 13).

فَذَهَبَت هي وَصَاحِبَاتِها ليبكين معها مؤاساة لها.

38 «فَقَالَ: ٱذْهَبِي. وَأَرْسَلَهَا إِلَى شَهْرَيْنِ. فَذَهَبَتْ هِيَ وَصَاحِبَاتُهَا وَبَكَتْ عَذْرَاوِيَّتَهَا عَلَى ٱلْجِبَالِ».

ٱذْهَبِي لا ريب في أن يفتاح هنا كان أحب إليه أن يراها في ذينك الشهرين ويكثر من مشاهدتها ويبين لها الحب والشفقة والأسف ولكنه نظر إلى ما يسرّها دون ما يسرّه.

39، 40 «39 وَكَانَ عِنْدَ نِهَايَةِ ٱلشَّهْرَيْنِ أَنَّهَا رَجَعَتْ إِلَى أَبِيهَا، فَفَعَلَ بِهَا نَذْرَهُ ٱلَّذِي نَذَرَ. وَهِيَ لَمْ تَعْرِفْ رَجُلاً. فَصَارَتْ عَادَةً فِي إِسْرَائِيلَ 40 أَنَّ بَنَاتِ إِسْرَائِيلَ يَذْهَبْنَ مِنْ سَنَةٍ إِلَى سَنَةٍ لِيَنُحْنَ عَلَى بِنْتِ يَفْتَاحَ ٱلْجِلْعَادِيِّ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فِي ٱلسَّنَةِ».

ع 31 و1صموئيل 1: 22 و24 و2: 18

وَكَانَ عِنْدَ نِهَايَةِ ٱلشَّهْرَيْنِ أَنَّهَا رَجَعَتْ إطاعة لله ولأبيها وإلا ما رجعت وكان لها وسائل كثيرة للاختفاء.

فَفَعَلَ بِهَا نَذْرَهُ أي أصعدها محرقة للرب (ع 31). وقال البعض أن يفتاح نذر ابنته للعذراوية الدائمة وإن حزنها لم يكن على موتها بل على كونها منذورة للبتولية. فنجيب:

  1. إن نذر البتولية لم يكن من عادات العبرانيين ولم تُعد البتولية عندهم فضيلة مرضية عند الله.

  2. إن حزن يفتاح يدل على صحة التفسير العادي الواضح أي إنه قدمها محرقة.

  3. لو فرضنا أنها لم تقدَّم محرقة لما كفاها شهران في الجبال مع صاحباتها بل كانت ندبت سوء حظها كل حياتها (قاموس الكتاب في «يفتاح»).

وَهِيَ لَمْ تَعْرِفْ رَجُلاً كناية عن أنها ماتت بلا نسل فانقرض بيت أبيها لأنه لا ولد له غيرها.

فَصَارَتْ عَادَةً فِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ بَنَاتِ إِسْرَائِيلَ الخ الظاهر أن هذه العادة كانت موضعية أي اقتصرت عليها بنات المصفاة في جلعاد فجعلن ذلك ذكراً لبنت يفتاح كما يجعل أهل بلدة ذكراً لأحد أبطالهم أو مشاهيرهم إذ لا ذكر لذلك ولا إشارة إليه في غير مكان من أمكنة إسرائيل.

فوائد

  1. إن العمل الشريف يعطي عار النسب (ع 1).

  2. إن من له استعداد لعمل ما يُدعى إليه في حينه (ع 6).

  3. إن المختلفين في وقت السلم يتحدون في وقت الخطر العمومي (ع 8).

  4. إنه يجب أن نبذل كل جهدنا في حفظ السلام قبل الالتجاء إلى السيف والسنان (ع 12).

  5. إن كلام الله يجب أن يكون الحاكم في كل ما وقع الاختلاف فيه (ع 15 - 22).

  6. إنه يحل روح الرب على من يختاره وبدونه لا يقدر الجبار أن يعمل شيئاً ومعه الضعيف يستطيع كل شيء (ع 29).

  7. إن الله يعطينا روحه ليؤهلنا للخدمة (ع 29).

  8. إنه يجب قبل الكلام النظر في العاقبة (ع 30 و34 و35).

  9. إن كان الوعد بما لا يجوز فعله فمخالفته خير من الوفاء به (35).

  10. إن الذي يقدم إرادة الله على إرادته ومصلحة غيره على مصلحته يكرمه الله والناس (ع 39 و40).

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّانِي عَشَرَ

محتويات هذا الأصحاح:

  1. خشونة أفرايم (ع 1).

  2. جواب يفتاح المحكم (ع 2 و3).

  3. انكسار أفرايم (ع 4).

  4. امتحان منفلتي أفرايم بلفظة شِبولت (ع 5 و6).

  5. موت يفتاح (ع 7).

  6. تولي أبصان القضاء (ع 8 - 10).

  7. تولي إيلون القضاء (ع 11 و12).

  8. تولي عبدون القضاء (ع 13 - 15).

محاربة يفتاح للأفرايميين وموته ع 1 إلى 7

1 «وَٱجْتَمَعَ رِجَالُ أَفْرَايِمَ وَعَبَرُوا إِلَى جِهَةِ ٱلشِّمَالِ، وَقَالُوا لِيَفْتَاحَ: لِمَاذَا عَبَرْتَ لِمُحَارَبَةِ بَنِي عَمُّونَ وَلَمْ تَدْعُنَا لِلذَّهَابِ مَعَكَ؟ نُحْرِقُ بَيْتَكَ عَلَيْكَ بِنَارٍ!».

ص 8: 1

وَٱجْتَمَعَ رِجَالُ أَفْرَايِمَ بأن دعا بعضهم بعضاً للشغب والفتنة ولذلك جاء في الفلغاتا «وقام الشغب في أفرايم». ولا شك أن أبطال أفرايم الذين دعوا قومهم للاجتماع بواسطة الكتابة أو الرسل (ص 7: 23 و24 و10: 17).

وكان بنو أفرايم أبطالاً ولكنهم كانوا متكبرين يرون إنه يجب على كل رؤساء إسرائيل أن يسألوا رأيهم ويكلوا إليهم أمرهم ولعلهم ظنوا أن قصد يفتاح هو أن يترأس عليهم كما يترأس على جلعاد فكان منهم مع يفتاح هنا ما كان منهم مع جدعون (ص 8: 1) وتكلموا هنا بغلظة أشد من الغلظة التي تكلموا بها مع جدعون. وجدعون أجابهم بتواضع ولطف فصرف غضبهم أما يفتاح فحجهم بالحق كما حجّ ملك بني عمون فلم يقبلوا حجته كما لم يقبلها ذاك فحاربهم كما حاربه فاللوم كل اللوم على أولئك المتكبرين. فإن يفتاح وإن كان جبار بأس لم يتكبر عليهم بشيء بل أبان عذره وأقام حجته فكان عليهم أن يسلموا بالحق ولا يوقدوا نار الحرب على بطل إسرائيلي حارب أعداء إسرائيل وغلبهم فكان عليهم أن يمدحوه لا أن يحاربوه. فالحرب الشعبية نشأت عن كبريائهم لا عن خطإ من يفتاح.

وَعَبَرُوا إِلَى جِهَةِ ٱلشِّمَالِ أي إلى المصفاة مصفاة جلعاد لأنها كانت على الشمال الشرقي من سبط أفرايم وفي الأصل العبراني «عبروا صفونه» وفي بعض النسخ السبعينية «صفنيا» ولذلك ظنها بعضهم صافون في أرض جاد (يشوع 13: 27) في وادي الأردن غير بعيدة عن سكوت. وفي التلمود أنها «أماثوس» وهي اليوم خربة إلى الجنوب الشرقي من بحر طبرية تُعرف بأماثا أو أمماتة.

لِمَاذَا عَبَرْتَ لِمُحَارَبَةِ بَنِي عَمُّونَ وَلَمْ تَدْعُنَا لِلذَّهَابِ مَعَكَ قال أحد المفسرين «اشتهر سبط أفرايم في سفر القضاة بالكسل وحمل الضيم من الأعداء لكنه كان يتعظم ويتكبر ويهيج الشغب على غيره من الإسرائيليين إذا انتصروا على الأعداء» (يشوع 17: 14 - 18 وقضاة 8: 1). إن الأفرايمين كانوا عظماء وأقوياء ولكنهم استخدموا قوتهم لإهانة النافعين من إخوتهم وقعدوا عن حرب الأعداء وما نفع العظمة والقوة مع الكسل والكبرياء.

نُحْرِقُ بَيْتَكَ عَلَيْكَ بِنَارٍ أي إنا سنحرقك حياً في بيتك ونحرق البيت معك فحسبوا إنقاذ يفتاح الجلعاديين وسائر الإسرائيليين من ظلم العمونيين دون اعترافه بسيادتهم وامتيازهم ذنباً لا يُغفر. وهذا التهديد دلّ على شدة غلاظتهم وكبريائهم وظلمهم وخشونة كثيرين من الناس في ذلك العصر (ص 14: 15).

2 «فَقَالَ لَهُمْ يَفْتَاحُ: صَاحِبَ خِصَامٍ شَدِيدٍ كُنْتُ أَنَا وَشَعْبِي مَعَ بَنِي عَمُّونَ، وَنَادَيْتُكُمْ فَلَمْ تُخَلِّصُونِي مِنْ يَدِهِمْ».

فَقَالَ لَهُمْ يَفْتَاحُ في الحال لأنه كان قد أتى ما قرر الجواب في ذهنه وكان جوابه لطيفاً مع قوة بيانه لكذبهم وظلمهم وكبريائهم.

صَاحِبَ خِصَامٍ شَدِيدٍ كُنْتُ أَنَا وَشَعْبِي مَعَ بَنِي عَمُّونَ الخصام الجدال وهو يكون بين اثنين أو فريقين كل منهما يدعي أنه على الحق وغيره على الباطل فإذا اشتد أدّى إلى البغض وربما أدى إلى الضرب والقتل. وكان الخصام قد اشتد بين يفتاح وملك عمون فلم يكن من سبيل إلى المنابأة. ومع ذلك لم يترك يفتاح باباً لعتاب أفرايم بل استصرخهم فخذلوه كما يأتي. وفي كلام يفتاح هنا إعلان إنه هو القائد.

وَنَادَيْتُكُمْ فَلَمْ تُخَلِّصُونِي مِنْ يَدِهِمْ أي استغثتكم أو دعوتكم إلى الإغاثة فأبيتم. هذه حجة دامغة وهي تستلزم أنهم بلا مروءة ولا حمية ولا غيرة لم يعتد عليهم العمونيون فأحبوا الراحة ولم يكترثوا بمصائب إخوتهم الجلعاديين فآثروا نفوسهم على غيره من شعب إسرائيل. والذي يخطر على البال هنا أنه لما جار العمونيون على الجلعاديين استصرخ الجلعاديون بني أفرايم فخذلوهم وإلا ما اضطروا أن يلجأوا إلى يفتاح الطريد ويختاروه قائداً ورئيساً. ولما رضي يفتاح ذلك لم يغفل عن مناداة أفرايم فلم يجيبوه. وهنا صح قول الشاعر:

Table 18. 

لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياًولكن لا حياة لمن تنادي    
ونارٌ إن نفختَ بها أضاءتولكن أنت تنفخ في رمادِ    

فكان على بني أفرايم أن يقوموا على أعداء إسرائيل لا على إخوتهم الجلعاديين ولكن كثيراً ما يشكو المذنب البار والمقصر المجتهد والجبان الشجاع.

3 «وَلَمَّا رَأَيْتُ أَنَّكُمْ لاَ تُخَلِّصُونَ، وَضَعْتُ نَفْسِي فِي يَدِي وَعَبَرْتُ إِلَى بَنِي عَمُّونَ، فَدَفَعَهُمُ ٱلرَّبُّ لِيَدِي. فَلِمَاذَا صَعِدْتُمْ عَلَيَّ ٱلْيَوْمَ هٰذَا لِمُحَارَبَتِي؟».

1صموئيل 19: 5 و28: 21 وأيوب 13: 14 ومزمور 119: 109

وَلَمَّا رَأَيْتُ أَنَّكُمْ لاَ تُخَلِّصُونَ لم يذكر علة ذلك إذ كان غرضه أن يدفع دعواهم وما ذكره كافٍ. ومعنى العبارة إني لما علمت وتيقنت أنكم لا تغيثونني قدمت على الخطر العظيم كما يأتي. والعلة كما ذكرنا رخاؤهم وعدم اكتراثهم لغيرهم ونزيد هنا على ذلك أنه مما يُظن أنهم خافوا قوة العمونيين وأنفوا من أن يكون يفتاح على ما عُرف من أمره قائداً لهم ولكن هذا أيضاً ليس بعذر على تقصيرهم فوق إنه برهان على بطلان دعواهم.

وَضَعْتُ نَفْسِي فِي يَدِي أي عرّضت نفسي لأعظم الأخطار والعبارة كناية عن ذلك فإن الشيء إذا كان في اليد كان عرضة للسقوط لأن الإنسان لا يستغني عن حركة يده وفتحها في أعماله وعرضة لخطف الخاطفين وسلب السالبين لأن ما في اليد يُرى بسهولة فوضع النفس في اليد تجاه الأعداء كوضع الشيء الثمين فيها أمام الناهبين. أو ذلك كناية عن تسليم الروح عند الاقتضاء فكأنه وضع نفسه في يده ليؤديها كما يضع الدراهم فيها لذلك. والمعنى أنه أقدم على الموت. ومن أقوال العرب عند النزول إلى حومة القتال في هذه الأيام «أنا فلان لا راحم ولا مرحوم رخيص الروح أبو فلان أو فلانة» وما أشبه ذلك. وقد جاء مثل عبارة الكتاب في عدة مواضع من الأسفار المقدسة (انظر 1صموئيل 19: 5 و28: 21). والهنود كثيراً ما يستعملون هذه العبارة في التعرض للخطر العظيم فسُمع أحد الهنود يقول «عاد ابني من البلاد البعيدة وحياته في كفه» أو «نفسه في يده». وهذه العبارة كثيرة في كثير من لغات المشرق.

فَدَفَعَهُمُ ٱلرَّبُّ لِيَدِي أي فنصرني عليهم. وهذا دليل على أن عملي أرضى الله وإني لم أنتصر بقوتي بل بقوته تعالى وعنايته فلم يبق لكم شيء تشتكونني به.

فَلِمَاذَا صَعِدْتُمْ عَلَيَّ ٱلْيَوْمَ هٰذَا لِمُحَارَبَتِي أي إذا كان الله سُرّ بأن ينصرني دونكم واتخذني آلة لإعلان مجده فما لذي ضركم مني حتى قمتم عليّ وأي شيء مني حملكم على محاربتي. وكان لسان حال يفتاح هنا يقول «أيها الظالمون أتيتم لمعاداة الله لا لمعاداتي وكان لي أن أشكوكم وأذمكم لأني استغثتكم وأنتم إخوتي فخذلتموني وأنا سكتّ عن الشكوى وعن المذمة. فكان عليكم أن تندموا على ما فعلتم وتشكروا الله على نصره للإسرائيليين وأنتم بمعزل عن التعب والخطر. وفوق ذلك تريدون أن تصلوا نار الحرب الأهلية وتقاتلوا الإخوة بدلاً من أن تقاتلوا الأعداء». ولكن بني أفرايم لشرّم وكبريائهم أبوا السلم فاضطر يفتاح إلى قتالهم.

4 «وَجَمَعَ يَفْتَاحُ كُلَّ رِجَالِ جِلْعَادَ وَحَارَبَ أَفْرَايِمَ، فَضَرَبَ رِجَالُ جِلْعَادَ أَفْرَايِمَ لأَنَّهُمْ قَالُوا: أَنْتُمْ مُنْفَلِتُو أَفْرَايِمَ. جِلْعَادُ بَيْنَ أَفْرَايِمَ وَمَنَسَّى».

1صموئيل 25: 10 ومزمور 78: 9

وَحَارَبَ أَفْرَايِمَ كما حارب ملك عمون إذ سعى في السلم مع كل منهم فأباه.

لأَنَّهُمْ قَالُوا لم يعيّن أي الفريقين القائل ونظم الكلام يقتضي ترجيح أن القائلين هم الأفرايميون ولكن هذا القول لا يوجب الحرب والضرب إنما الذي أوجبهما تعدّي الأفرايمين وإبائتهم السلم لكن ذلك يصدق على المتمدنين العارفين الحق والإسرائيليين كانوا في ذلك العصر قد نسوا الشريعة وتخلقوا بأخلاق من جاورهم من الوثنيين فإنه مرّ عليهم وقت طويل ولم يُذكر أنه كان بينهم كهنة ولا أدنى ذكر للأوريم والتميم ولا التابوت ولا الخيمة أو قبة الشهادة. ولعل المعنى أنهم ضربوهم ضرباً شديداً لما قالوه وهو ما يأتي.

أَنْتُمْ مُنْفَلِتُو أَفْرَايِمَ أي أنتم فرقة من أفرايم أثموا في بلادهم وارتكبوا المحظورات فهربوا من العقاب. ومعناهم أن الجلعاديين أوباش من لصوص وقتلة وأشباه ذلك هربوا إلى هذه الأرض وتواروا فيها خوفاً من العقاب. وترجم بعضهم العبارة العبرانية بما معناه أن الجلعاديين قالوا للأفرايمين «أنتم منفلتو أفرايم» أي أنهم فرقة من الأثمة الأوباش جاءوا لمحاربته فأثموهم وبرروا سائر أفرايم وهذا لا يصح أن يكون تعليلاً لضربهم أفرايم والأولى أن يكون تعليلاً لضرب الأفرايميين الجلعاديين وهو خلاف النص.

جِلْعَادُ بَيْنَ أَفْرَايِمَ وَمَنَسَّى أي كانت أرض جلعاد بين أرضي أفرايم ومنسى. جاء الكاتب بهذه العبارة لبيان قول الأفرايميين أن الجلعاديين منفلتو أفرايم أي كانوا يهربون من أفرايم ولا يدخلون أرض منسى بل يلجأون إلى ما بين الأرضين.

5، 6 «5 فَأَخَذَ ٱلْجِلْعَادِيُّونَ مَخَاوِضَ ٱلأُرْدُنِّ لأَفْرَايِمَ. وَكَانَ إِذْ قَالَ مُنْفَلِتُو أَفْرَايِمَ: دَعُونِي أَعْبُرْ. كَانَ رِجَالُ جِلْعَادَ يَسْأَلُونَهُ: أَأَنْتَ أَفْرَايِمِيٌّ؟ فَإِنْ قَالَ: لاَ 6 كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: قُلْ إِذاً: شِبُّولَتْ. فَيَقُولُ: سِبُّولَتْ. وَلَمْ يَتَحَفَّظْ لِلَّفْظِ بِحَقٍّ. فَكَانُوا يَأْخُذُونَهُ وَيَذْبَحُونَهُ عَلَى مَخَاوِضِ ٱلأُرْدُنِّ. فَسَقَطَ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ مِنْ أَفْرَايِمَ ٱثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ أَلْفاً».

يشوع 22: 11 وص 3: 28 و7: 24 مزمور 69: 2 و15 وإشعياء 27: 12

فَأَخَذَ ٱلْجِلْعَادِيُّونَ مَخَاوِضَ ٱلأُرْدُنِّ ليمنعوا الأفرايميين من الهرب إلى أرض أفرايم إذ لا مجاز لهم سواها. وتقدم الكلام على مخاوض الأردن في تفسير ص 3: 28.

لأَفْرَايِمَ أي إلى أرض أفرايم.

كَانَ رِجَالُ جِلْعَادَ يَسْأَلُونَهُ أَأَنْتَ أَفْرَايِمِيٌّ فكان لا بد أن يقول نعم أو لا فإن قال نعم قتلوه وإن قال لا امتحنوه فعرفوه فإن أبان الامتحان أنه أفرايمي ثبت كذبه وقتلوه.

قُلْ إِذاً شِبُّولَتْ معنى هذه الكلمة مخاضة وجاءت بمعنى عمق المياه (مزمور 69: 2) وسبل المياه (مزمور 69: 15) ومجرىً (إشعياء 27: 12). وفي النسخة الاسكندرية السبعينية «فقل لنا إذن الشعار». والشعار نداء مخصوص يعرف به الأصدقاء بعضهم بعضاً في الحرب أو السفر وهو يناسب المقام ولكن لا يفيده الأصل.

فَيَقُولُ سِبُّولَتْ أي إن الأفرايميين كانوا يلفظون الشين سيناً اعتادوا هذا الغلط حتى صار من سجاياهم ومثل هذا كثير بين أكثر عامة السوريين وكثيرون من خاصتهم فيلفظون الثاء سيناً فيلفظون ثنتين سنتين وثلاثة سلاسة. وبعض العامة يلفظون الشين في بعض الألفاظ سيناً فيقولون السمس في الشمس. وأكثر أهل المدن يلفظون القاف همزة فيقولون في القوس الأوس وفي المقال المآل ويلفظون الذال زاياً عامتهم وكثيرون من خاصتهم فيلفظون ذم زم وذل زل وهلم جراً.

وَلَمْ يَتَحَفَّظْ لِلَّفْظِ بِحَقٍّ التحفظ الاحتراز والتصوّن. والظاهر أن علة ذلك ظنهم أن الكلمة شعار الحرب ولم يحترزوا لنفوسهم من لفظها كعادتهم لأنهم لم يخطر لهم أنها كانت امتحاناً للفرق بين الأفرايميين والجلعاديين فغلبتهم العادة لعدم الاحتراز وإلا لم يتعذر عليهم أن يلفظوا الشين كما لم يتعذر على الذين يقولون السمس أن يقولوا الشمس.

فَكَانُوا يَأْخُذُونَهُ وَيَذْبَحُونَهُ عَلَى مَخَاوِضِ ٱلأُرْدُنِّ هذا من شر أعمال التوحش والقساوة.

فَسَقَطَ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ مِنْ أَفْرَايِمَ ٱثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ أَلْفاً منهم المقتولون في حومة القتال لا المذبوحون على المخاوض فقط. ولا شك في أن هذا خفض كبرياء أفرايم وبيّن لهم عاقبة البغي والتعدي وإثارة الحرب بين الإخوة. ولا نبرئ الفريقين من الجهل فإن الله أدبهم على حسب أفعالهم وهم سبب المصاب لأنفسهم والله عادل في قضائه وهم الظالمون.

ورأى بعض المفسرين أنه وقع غلط في عدد الذين سقطوا من أفرايم لأن عدد هذا السبط المذكور في (عدد 26: 37) هو 32500 فقط. والألفاظ العبرانية الواردة هنا «أربعيم وشنيم ألف» ولعل المقصود بها أربعون وألفان أي 2040.

7 «وَقَضَى يَفْتَاحُ لإِسْرَائِيلَ سِتَّ سِنِينٍ. وَمَاتَ يَفْتَاحُ ٱلْجِلْعَادِيُّ وَدُفِنَ فِي إِحْدَى مُدُنِ جِلْعَادَ».

وَقَضَى يَفْتَاحُ لإِسْرَائِيلَ سِتَّ سِنِينٍ هذا نص على أنه كان قاضياً. وكانت مدة قضائه قصيرة ولعل شدة حزنه على ابنته قصّر حياته.

وَدُفِنَ فِي إِحْدَى مُدُنِ جِلْعَادَ وفي الأصل العبراني «ودُفن في مدن جلعاد» ولكن لا ريب في أن المراد أنه دُفن في إحدى تلك المدن بدليل القرينة العقلية. وحذف مثل هذا المضاف مألوف في العبرانية وغيرها من اللغات السامية. وجاء مثل هذا في سفر التكوين وهو إن الله «قلب المدن التي سكن فيها لوط» والمعنى التي سكن في إحداها لوط (تكوين 19: 29).

8 «وَقَضَى بَعْدَهُ لإِسْرَائِيلَ إِبْصَانُ مِنْ بَيْتِ لَحْمٍ».

يشوع 19: 15

إِبْصَانُ لا نعرف من أمر أبصان غير ما ذُكر في هذه الآية والآيتين اللتين بعدها.

بَيْتِ لَحْمٍ ظن يوسيفوس أنها بيت لحم يهوذا ولكن غيره من المفسرين نفوا قوله بدليلين الأول إن بيت لحم هذه مُيّزت عن بيت لحم يهوذا في هذا السفر عينه (ص 17: 7 و9 وراعوث 1: 2). والثاني أن يهوذا كان حينئذ منفرداً عن أسلوب سائر الأسباط العالم فلم يبق إلا بيت لحم زبولون (يشوع 19: 10 و15). فإن خلف أبصان زبولوني (ع 11). وكان هذا السبط قوياً وعظيماً في تلك الأيام (ص 4: 10).

9، 10 «9 وَكَانَ لَهُ ثَلاَثُونَ ٱبْناً وَثَلاَثُونَ ٱبْنَةً أَرْسَلَهُنَّ إِلَى ٱلْخَارِجِ وَأَتَى مِنَ ٱلْخَارِجِ بِثَلاَثِينَ ٱبْنَةً لِبَنِيهِ. وَقَضَى لإِسْرَائِيلَ سَبْعَ سِنِينَ. 10 وَمَاتَ إِبْصَانُ وَدُفِنَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ».

ثَلاَثُونَ ٱبْناً وَثَلاَثُونَ ٱبْنَةً لكثرة ما كان له من الزوجات.

أَرْسَلَهُنَّ إِلَى ٱلْخَارِجِ أي أعطاهن زوجات لأزواج من الخارج.

وَأَتَى مِنَ ٱلْخَارِجِ بِثَلاَثِينَ ٱبْنَةً لِبَنِيهِ أي بثلاثين زوجة لكل ابن زوجة.

11 «وَقَضَى بَعْدَهُ لإِسْرَائِيلَ إِيلُونُ ٱلزَّبُولُونِيُّ. قَضَى لإِسْرَائِيلَ عَشَرَ سِنِينٍ».

إِيلُونُ معناه بلوطة وكان الشرقيون يسمون الناس بأسماء الأشجار وغيرها من النبات ولا يزال بعض البيوت والأشخاص إلى اليوم يُسمى بمثل ذلك كبيت رمان وبيت فستق وبيت زيتون وبيت باذنجانة وبيت قرنفل وبيت زهر. ومن أسماء الرجال زهر وشقيق ومن أسماء النساء زهرة ووردة.

12 «وَمَاتَ إِيلُونُ ٱلزَّبُولُونِيُّ وَدُفِنَ فِي أَيَّلُونَ فِي أَرْضِ زَبُولُونَ».

ص 1: 35

وَدُفِنَ فِي أَيَّلُونَ قال بعضهم معناها مكان الأيائيل. وقال آخر معناها ايّل أو غزال والجناس بين إيلون وإيّلون وقع اتفاقاً على غير قصد. وإيّلون هنا قرية في زبولون ظُنّ أنها هي ما يُعرف اليوم بيالون أو أنها كانت على القرب منها فهي ليست إيلون التي هي مدينة في سبط دان (يشوع 19: 42).

13 «وَقَضَى بَعْدَهُ لإِسْرَائِيلَ عَبْدُونُ بْنُ هِلِّيلَ ٱلْفَرْعَتُونِيُّ».

عَبْدُونُ ومعناه عبد أو مستعبد أو خادم ظن بعضهم أنه بدان (1صموئيل 12: 11) وكان من سبط أفرايم (ع 15).

هِلِّيلَ ومعنى هذا الاسم حَمدٌ وهذه أول مرة ذُكر فيها هذا الاسم. ثم اشتهر في تاريخ الأمة اليهودية وكان اسم أحد مشاهيرهم قبل ميلاد المسيح بقليل وكان أحسن ربانيي اليهود في عصره.

ٱلْفَرْعَتُونِيُّ نسبة إلى فرعتون وهي موضع في أفرايم (ع 15) ومنه عرف أنه أفرايمي.

14 «وَكَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ ٱبْناً وَثَلاَثُونَ حَفِيداً يَرْكَبُونَ عَلَى سَبْعِينَ جَحْشاً. قَضَى لإِسْرَائِيلَ ثَمَانِيَ سِنِينٍ».

ص 5: 10 و10: 4

أَرْبَعُونَ ٱبْناً لكثرة نسائه.

وَثَلاَثُونَ حَفِيداً الحفيد هنا ابن الابن.

يَرْكَبُونَ عَلَى سَبْعِينَ جَحْشاً أي يركب هذه الجحاش أبناؤوه الأربعون وحفدته الثلاثون وهذا يدل على الغنى والعظمة فإن الجحاش كانت يومئذ مطايا الأغنياء والكبراء والأمراء والملوك (انظر ص 10: 4).

15 «وَمَاتَ عَبْدُونُ بْنُ هِلِّيلَ ٱلْفَرْعَتُونِيُّ وَدُفِنَ فِي فَرْعَتُونَ فِي أَرْضِ أَفْرَايِمَ فِي جَبَلِ ٱلْعَمَالِقَة».

2صموئيل 23: 30 و1أيام 11: 31 ص 3: 13 و27 و5: 14

فَرْعَتُونَ مدينة ظن روبنصن أنها المسماة اليوم فرعاتا وهي غربي نابلس وعلى غاية ستة أميال منها وظن غيره أنها المعروفة اليوم بفرعون غربي السامرة وعلى غاية عشرة أميال منها.

فِي جَبَلِ ٱلْعَمَالِقَةِ من جبال أفرايم وهذا يدل على أن العمالقة كانوا يسكنون قديماً أواسط فلسطين. ومرّ الكلام على العمالقة في تفسير (ص 3: 13).

فوائد

  1. كل من يرتقي ويشتهر عرضة للحسد والمقاومة.

  2. كثيرون ينتقدون عملاً وهم لا يقدرون إن يعملوا أحسن منه.

  3. المتكبرون لا يطلبون نجاح العمل بل نجاح أنفسهم.

  4. من يأخذ السيف فبالسيف يهلك.

  5. إن عدم الشكر من أردإ الخطايا وأعظمها.

  6. العظيم الحقيقي لا ينسب النجاح لنفسه بل للرب.

  7. وجوب الاهتمام بالأمور الزهيدة. فإن حياة الإنسان تتوقف أحياناً على لفظ حرف واحد. وكثيراً ما تظهر سجايا الإنسان بواسطة كلمة واحدة. ومن يريد أن يصلح أموره الزهيدة فعليه أن يصلح قلبه الذي منها مخارج الحياة.

  8. الاهتمام الزائد بأمور زهيدة. كالفريسيين الذين عشروا النعنع والشبث والكمون وتركوا أثقل الناموس الحقة والرحمة والإيمان. يجب أن لا نقيس الناس بقياس شبّولت أي أن نقبل من يعتقد اعتقادنا ونرفض من لا يعتقده بل أن نقبل كل من يقرب إيمانه بالرب يسوع المسيح وإن كان من غير طائفتنا.

  9. الذين قضوا لإسرائيل في أيام الراحة لهم ذكر مختصر فقط فاشتهروا لمراكيبهم وكثرة أولادهم. وأما الأفاضل المذكورون في (عبرانيين ص 11) فهم الذين قضوا لإسرائيل في أيام الضيق والحروب.

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّالِثُ عَشَرَ

مشتملات هذا الأصحاح:

  1. ضلال إسرائيل وارتداده (ع 1).

  2. ظهور الملاك لإمرأة منوح وإنباؤه إياها بأنها تلد ابناً نذيراً ومنقذاً (ع 2 - 5).

  3. قصّ امرأة منوح قول الملاك على زوجها (ع 6 و7).

  4. ظهور الملاك لمنوح على أثر صلاته (ع 8 - 10)

  5. المخاطبة بين منوح والملاك في شأن الابن الموعود به (ع 11 - 14).

  6. عزم منوح على تقديم جدي للملاك لأنه لم يعرف في أول الأمر إنه ملاك (ع 15 - 18).

  7. صعود الملاك إلى السماء (ع 19 و20).

  8. اضطراب منوح خوفاً وتسكين زوجته اضطرابه (ع 21 - 23).

  9. ميلاد شمشون وأول أعماله (ع 24 و25).

البشارة بميلاد شمشون ع 1 إلى 25

1 «ثُمَّ عَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ ٱلشَّرَّ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ، فَدَفَعَهُمُ ٱلرَّبُّ لِيَدِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ أَرْبَعِينَ سَنَةً».

ص 2: 11 و3: 7 و4: 1 و6: 1 و10: 6 و1صموئيل 12: 9

ثُمَّ عَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ ٱلشَّرَّ كعادتهم في التردد بين الضلالة والهدى (ص 2: 11 و19 و3: 12 و4: 1 و6: 1 و8: 33 و10: 6).

فَدَفَعَهُمُ ٱلرَّبُّ لِيَدِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ كان للفلسطينيين من هذا العهد إلى أيام داود شأن كبير وهم ليسوا من الكنعانيين بل من الغرباء الغالبين. ومعنى الفلسطينيين مهاجرون أو غرباء ومعنى أرضهم فلسطين مهجر أو متغرب أو أرض الغربة وكانت أرضهم للعويين فغزوهم وأخذوها منهم (تثنية 2: 23). وكانوا يُعرفون حينئذ بالكفتوريين نسبة إلى مسكنهم الأصلي كفتور وهي جزيرة كريت على ما رأى بعضهم أو جزيرة قبرس على ما رأى آخر وكبدوكية على ما قال آخر. ورجّحت الترجمة السبعينية أنهم كريتيون. وكانوا في فلسطين في عصر إبراهيم (تكوين 21: 32).

أَرْبَعِينَ سَنَةً كانت نهايتها الواقعة المذكورة في (1صموئيل 7: 13). وكان تابوت العهد قد أُخذ ورُدّ قبل عشرين سنة لهذه الواقعة. والمرجّح إن أعمال شمشون كانت في أثناء هذه السنين فيكون عالي قد مات نحو الزمان الذي بلغ فيه شمشون كمال الرجولية.

قال أحد المفسرين إنه من غزوة العمونيين الأولى إلى وفاة عبدون تسع وأربعون سنة لكن شمشون قضى لإسرائيل عشرين سنة (ص 15: 20) فيكون ما أتاه شمشون من أعمال الأبطال في أثناء قضاء إيلون في شمالي فلسطين وربما كانت بدائتها في أيام يفتاح. فكان يتفق أن يتعاصر بعض القضاة والقواد وهذا أمر جدير بالذكر لكل من تصدّى لتفسير هذا السفر. وإذا رجعت إلى (ص 10: 6 و7) وجدت أن الفلسطينيين والعمونيين استعبدوا إسرائيل في وقت واحد فذكر المؤرخ استعباد العمونيين وإنقاذ يفتاح الشعب منهم أولاً ثم ذكر استعباد الفلسطينيين وما أتاه شمشون ثانياً (انظر المقدمة الفصل الرابع).

2 «وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ صُرْعَةَ مِنْ عَشِيرَةِ ٱلدَّانِيِّينَ ٱسْمُهُ مَنُوحُ، وَٱمْرَأَتُهُ عَاقِرٌ لَمْ تَلِدْ».

يشوع 19: 41

وَكَانَ رَجُلٌ مقدمة نبإ شمشون هنا كمقدمة نبإ ميلاد صموئيل (1صموئيل 1: 1).

صُرْعَةَ مدينة كانت ليهوذا ثم صارت لدان وتُعرف اليوم بسورة وهي غربي أورشليم من يافا وعلى أمد 23 ميلاً منها وعلى شمالي بيت شمس وعلى مسيرة ميلين منها وهي على قنة تل يُشرف على وادي سورق ويعلو البحر بنحو 1150 قدماً وعلى جنوبي يالو وعلى غاية سبعة أميال منها وغربي قرية بعاريم. ذُكرت في (2أيام 11: 10 ونحميا 11: 29). وتلّها على هيئة مخروط وفيها ينبوع غزير الماء فجعلها ذلك مدينة قوية.

مِنْ عَشِيرَةِ ٱلدَّانِيِّينَ أي من سبط دان والعشيرة القبيلة السبط في بني إسرائيل. وعبّر بالعشيرة عن سبط لاوي كما عبر بها عن سبط دان (زكريا 12: 13).

مَنُوحُ معنى هذا الاسم «راحة» ولعله سُمي به تفاؤلاً بالراحة أو شوقاً إليها في مشقات تلك الأيام.

وَٱمْرَأَتُهُ عَاقِرٌ كان من أمثالها سارة (تكوين 16: 1) ورفقة (تكوين 24: 21) وحنة (1صموئيل 1: 2) وأليصابات (لوقا 1: 7). وفي التلمود أن اسم أم شمشون هصّلفوني وكأنهم ظنوها المذكورة في سفر الأيام (1أيام 4: 3) وإنها كانت من سبط يهوذا. ومعنى هصّلفوني «الظل يقع عليّ» وفي قاموس الكتاب «الظل مقبل عليّ».

لَمْ تَلِدْ تفسير لقوله «عاقر» أو تأكيد له لأنه بمعناه. وكثر مثل هذا في كلام القدماء ومنه قوله «وَكَانَتْ سَارَايُ عَاقِراً لَيْسَ لَهَا وَلَدٌ» (تكوين 11: 30) ولا تزال أمثاله في المكالمات إلى هذا اليوم كقول الأرملة «إني أرملة ثيب لا بعل لي». وكقولهم في الدعاء «تعيش ولا تموت» وهلم جراً.

3 «فَتَرَاءَى مَلاَكُ ٱلرَّبِّ لِلْمَرْأَةِ وَقَالَ لَهَا: هَا أَنْتِ عَاقِرٌ لَمْ تَلِدِي، وَلٰكِنَّكِ تَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً».

ص 6: 12 ولوقا 1: 11 و13 و28 و31

مَلاَكُ ٱلرَّبِّ قال الرباني لاوي بن جرشوم إن هذا الملاك رسول هو فنحاس. والحق أنه ملَك غير مخلوق وهو ملاك الرب (ملك يهوه) وهو الذي ظهر لموسى في العليقة وليشوع وجدعون وغيرهم ويُعرف بملاك العهد وهو أقنوم الكلمة الأزلي.

هَا أَنْتِ عَاقِرٌ لَمْ تَلِدِي جرى الملاك في كلامه مجرى الناس في التأكيد والله يخاطب البشر بلغتهم المتعارفة (انظر ع 2 والتفسير).

وَلٰكِنَّكِ تَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً هذا يصعب تصديقه على العاقر ولكن قدرة الله خارقة العادة. والظاهر أن امرأة منوح لم تتردد ولم تعترض كما فعلت سارة.

4 «وَٱلآنَ فَٱحْذَرِي وَلاَ تَشْرَبِي خَمْراً وَلاَ مُسْكِراً وَلاَ تَأْكُلِي شَيْئاً نَجِساً».

عدد 6: 2 و3 وع 14 ولوقا 1: 15

فَٱحْذَرِي من إتيان ما أنهاك عنه.

وَلاَ تَشْرَبِي خَمْراً وَلاَ مُسْكِراً الخمر هنا المختمر من عصير العنب والمسكر أعمّ من الخمر فيطلق على ما اختمر من الأشربة القويّة المستقطرة من الحبوب كالجعة والمزر والعسل والتمر فهو من عطف العام على الخاص وهذا بخلاف المسطار المذكور في (ص 9: 13). على إن المسطار قد يأتي بمعنى الخمرة الصارعة وهو مما حرم عليها هنا مسكراً أو غير مسكر (ع 14). فأوجب ملاك الرب على هذه المرأة بعض ما أوجب على النذير لأن المولود المبشر به كان نذيراً من الرحم.

وَلاَ تَأْكُلِي شَيْئاً نَجِساً مما جُعل نجساً للنذر علاوة على الأطعمة المنهي عنها كل إسرائيلي (انظر عدد 6: 1 - 21) حيث قيل أيضاً «لا يأتي إلى جسد ميت». والظاهر أنه لم يُطلب ذلك من شمشون فإنه لو طُلب منه لما خلّص إسرائيل بقتله أعداءهم وقد أوضح ذلك في (ع 14).

5 «فَهَا إِنَّكِ تَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً، وَلاَ يَعْلُ مُوسَى رَأْسَهُ، لأَنَّ ٱلصَّبِيَّ يَكُونُ نَذِيراً لِلّٰهِ مِنَ ٱلْبَطْنِ، وَهُوَ يَبْدَأُ يُخَلِّصُ إِسْرَائِيلَ مِنْ يَدِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ».

عدد 6: 5 و1صموئيل 1: 11 عدد 6: 2 و1صموئيل 7: 13 و2صموئيل 8: 1 و1أيام 18: 1

فَهَا إِنَّكِ تَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً كرّر هذا للتوكيد (ع 3).

لاَ يَعْلُ مُوسَى رَأْسَهُ الموسى المُدية التي يُحلق بها فنهى عن أن يُحلَق رأس النذير. وقد بُينت شريعة النذير في الأصحاح السادس من سفر العدد.

لأَنَّ ٱلصَّبِيَّ يَكُونُ نَذِيراً لِلّٰهِ مِنَ ٱلْبَطْنِ هذا تعليل لنهيه لها عما نُهي عنه النذير.

يَبْدَأُ يُخَلِّصُ إن ضعف سجيّة شمشون الخاصة منعه من أن يتمم خلاص إسرائيل فإن شمشون أضعف قوة الفلسطينيين لكن خضوعه لشهوته التي جعلته تحت سلطان تلك المرأة المحتالة منعته من إخضاع الفلسطينيين وإذلالهم إلى الغاية فهو ابتدأ يخلّص ولم يكمّل فبقي الإكمال إلى أن قضى صموئيل.

كان ظهور الملاك علامة أن الرب لم يرفض شعبه إسرائيل رفضاً تاماً وإن كان أسلمهم وقتياً لأعدائهم. ولكن في كلام تنبيه أنهم لا يخلصون إلا بالتقديس المشار إليه في شريعة النذير وكان الرب قد اختار إسرائيل ليكون شعبه الخاص ومملكة كهنة لجميع شعوب الأرض.

6 «فَدَخَلَتِ ٱلْمَرْأَةُ وَقَالَتْ لِرَجُلِهَا: جَاءَ إِلَيَّ رَجُلُ ٱللّٰهِ، وَمَنْظَرُهُ كَمَنْظَرِ مَلاَكِ ٱللّٰهِ، مُرْهِبٌ جِدّاً. وَلَمْ أَسْأَلْهُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَلاَ هُوَ أَخْبَرَنِي عَنِ ٱسْمِهِ».

تثنية 33: 1 و1صموئيل 2: 27 و9: 6 و1ملوك 17: 24 متّى 28: 3 ولوقا 9: 29 وأعمال 6: 15 ع 17 و18

وَقَالَتْ لِرَجُلِهَا لتبهجه وتُعلن له ابتهاجاً فإنها كانت قد صدّقت الأنباء.

جَاءَ إِلَيَّ رَجُلُ ٱللّٰهِ ذكرت أنه رجل الله وما يأتي من صفاته تأكيداً له وبرهاناً على أن إيمانها بالبشرى بُني على إسّ وطيد. ولكنها لم تقل أنه رجل إلا لأنه ظهر لها في صورة رجل وهذا كان شأن الملائكة في الظهور للناس. فهي حكمت لما ظهر لها من صورته وإن كانت رهيبة ومنظرها كمنظر الملاك أنه نبيّ وهذا مبلغ علمها. وكانت الملائكة وملاك العهد الأزلي الأبدي تظهر في صورة الناس ليأنس الناس بهم ولا يرهبوا شديد الرهبة أو يموتوا خوفاً. قال يوسيفوس في وصف هذا الملاك ليأتي كلامه على وفق ذوق القرّاء من الأمم «إنه كان شاباً جميلاً طويل القامة هاج غيرة منوح وأوقد فيه نار الحميّة والإباء».

مَنْظَرُهُ كَمَنْظَرِ مَلاَكِ ٱللّٰهِ أي جميل رهيب معاً. إن الجمال العظيم يجعل الرهبة في قلب مشاهده.

مُرْهِبٌ جِدّاً تفسير لقولها «منظره كمنظر ملاك، ملاك الله» (قابل هذا بما في متّى 28: 3 و4). فإن قيل كيف عرفت منظر ملاك الله لتشبه منظر الرجل الذي ظنته نبياً به فهل نظرت الملاك قبلاً وهل نظره منوح كذلك ليظهر له وجه الشبه. قلت إن ذلك مبني على ما سمعته هي وزوجها من وصف الملائكة السماويين من الأنبياء كما هو شأننا اليوم فإنّا كثيراً ما نشبه ذا الجمال والهيبة بالملاك والقبيح الكريه بالشيطان ونحن لم ننظر ملاكاً ولا شيطاناً.

وأضافت الملاك إلى الله إشارة إلى عظمته وجماله (انظر مزمور 104: 16) «أَشْجَارُ ٱلرَّبِّ، أَرْزُ لُبْنَانَ» أي الأشجار العظيمة.

وَلَمْ أَسْأَلْهُ مِنْ أَيْنَ هُوَ من الهيبة والرهبة واشتغال أفكارها بالبشرى وتعجبها العظيم من أنها تلد ابناً وهي عاقر.

وَلاَ هُوَ أَخْبَرَنِي عَنِ ٱسْمِهِ لأنه لو أخبرها لماتت خوفاً لأنه الرب ولا أحد يرى الرب ويعيش (خروج 33: 20) وهذا كان معروفاً لكل إسرائيلي من عهد موسى حتى كانوا يخافون الموت من رؤية الملاك أو الله في صورة إنسان (ع 22).

7 «وَقَالَ لِي: هَا أَنْتِ تَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ٱبْناً. وَٱلآنَ فَلاَ تَشْرَبِي خَمْراً وَلاَ مُسْكِراً وَلاَ تَأْكُلِي شَيْئاً نَجِساً، لأَنَّ ٱلصَّبِيَّ يَكُونُ نَذِيراً لِلّٰهِ مِنَ ٱلْبَطْنِ إِلَى يَوْمِ مَوْتِهِ».

لأَنَّ ٱلصَّبِيَّ يَكُونُ نَذِيراً لِلّٰهِ مِنَ ٱلْبَطْنِ إِلَى يَوْمِ مَوْتِهِ لم تُذكر عبارة «إلى يوم موته» في كلام الملاك السابق (ع 5) ولكن لا ريب في أنه قالها والمؤلف تركها أولاً اقتصاراً على بيان علة أمر الأم بالقيام بما على النذير. وذكرها هنا بياناً لبقاء المولود نذيراً كل حياته وهذا ما أغناه عن تكرارها.

كانت الأمهات الإسرائيليات في أزمنة الضيق والبلايا ينذرنَ أولادهنّ قبل الولادة للرب ليكونوا في وَزَرهِ وحفظه لأنهم له. وكان نذر شمشون كنذر يوحنا المعمدان (انظر لوقا 1: 15). فقول الملاك لها «إنه يكون نذيراً» كان بشرى ثانية لها فإنها كان على ذلك في حرزٍ إلهي من الحمل به إلى آخر حياته. ولكن شمشون لم يراعِ ذلك كما يجب لغلبة الشهوة إياه وإطاعته للمرأة الخائنة فالله لا يحفظ الناس على رغم إرادتهم. فالذين نُذروا للرب يجب أن يعيشوا للرب ليدركوا فوائد النذر.

8 «فَصَلَّى مَنُوحُ إِلَى ٱلرَّبِّ: أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي أَنْ يَأْتِيَ أَيْضاً إِلَيْنَا رَجُلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي أَرْسَلْتَهُ وَيُعَلِّمَنَا مَاذَا نَعْمَلُ لِلصَّبِيِّ ٱلَّذِي يُولَدُ».

فَصَلَّى مَنُوحُ إِلَى ٱلرَّبِّ قوله «صلى منوح إلى الرب» كلام إجمالي فسره بما عطفه عليه كما يأتي. ولا ريب في أنه حمد الله وباركه على نعمته ورأى نفسه محتاجة إلى إرشاده إلى ما يجب عليه للصبي المبشر به.

أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي هذا تذلل وخشوع الله واعتراف بالعبودية له. فيجب على كل إنسان أن يقف أمام الله وقوف العبد أمام سيده. ولكن المسيحي امتاز بواسطة أخيه المسيح أن يقف أمام الله وقوف الابن أمام أبيه مع التواضع والخشوع.

وَيُعَلِّمَنَا مَاذَا نَعْمَلُ لِلصَّبِيِّ ٱلَّذِي يُولَدُ هذا دليل قاطع على أن منوح وثق بنبأ امرأته كل الثقة وآمن بوعد الله كل الإيمان وبأن امرأته لا بد أن تلد وإن المولود يكون صبياً.

9 «فَسَمِعَ ٱللّٰهُ لِصَوْتِ مَنُوحَ، فَجَاءَ مَلاَكُ ٱللّٰهِ أَيْضاً إِلَى ٱلْمَرْأَةِ وَهِيَ جَالِسَةٌ فِي ٱلْحَقْلِ، وَمَنُوحُ رَجُلُهَا لَيْسَ مَعَهَا».

فَسَمِعَ ٱللّٰهُ لِصَوْتِ مَنُوحَ لأن صلاته كانت صلاة إخلاص وإيمان والله يسر بالذين يطلبون التعليم منه فيستجيب لهم ولا سيما الذين يطلبون إرشاده في تربية أولادهم.

فَجَاءَ مَلاَكُ ٱللّٰهِ أَيْضاً إِلَى ٱلْمَرْأَةِ وَهِيَ جَالِسَةٌ فِي ٱلْحَقْلِ الخ لعلها كانت قاعدة للراحة من العمل في الحقل. إن الملائكة تظهر للعاملين والعاملات القائمين والقائمات بما قسم الله لهم ولهنّ من الأعمال كما ظهروا للرعاة وهم يعتنون بحراسة غنمهم (لوقا 2: 8 - 20).

10 «فَأَسْرَعَتِ ٱلْمَرْأَةُ وَرَكَضَتْ وَأَخْبَرَتْ رَجُلَهَا: هُوَذَا قَدْ تَرَاءَى لِيَ ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي جَاءَ إِلَيَّ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ».

فَأَسْرَعَتِ ٱلْمَرْأَةُ الخ هذا دليل الإخلاص والتصديق للبشرى.

11 «فَقَامَ مَنُوحُ وَسَارَ وَرَاءَ ٱمْرَأَتِهِ وَجَاءَ إِلَى ٱلرَّجُلِ، وَقَالَ لَهُ: أَأَنْتَ ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي تَكَلَّمَ مَعَ ٱلْمَرْأَةِ؟ فَقَالَ: أَنَا هُوَ».

فَقَامَ مَنُوحُ وَسَارَ وَرَاءَ ٱمْرَأَتِهِ لثقته بقولها ومن المحتمل أن المرأة تسبق رجلها في الأمور الروحية فعليه أن يسير وراءها.

أَأَنْتَ ٱلرَّجُلُ ٱلَّذِي تَكَلَّمَ مَعَ ٱلْمَرْأَةِ الاستفهام هنا للتقرير الذي يبني عليه الطلب الآتي لا لتحقق قول المرأة لأنه كان واثقاً بقولها.

فَقَالَ: أَنَا هُوَ فحقّ حينئذ لمنوح أن يسأله ما يأتي.

12 «فَقَالَ مَنُوحُ: عِنْدَ مَجِيءِ كَلاَمِكَ، مَاذَا يَكُونُ حُكْمُ ٱلصَّبِيِّ وَمُعَامَلَتُهُ؟».

عِنْدَ مَجِيءِ كَلاَمِكَ أي عند حدوث ما أنبأت به. وهذا القول يستلزم ثقة منوح بصدق كلام الذي ظهر له في صورة رجل إذ سأل عن العمل في زمان حدوث أمر مسلّم بأنه لا بد من أن يحدث.

مَاذَا يَكُونُ حُكْمُ ٱلصَّبِيِّ وَمُعَامَلَتُهُ أي ما السياسة التي يجب أن نسوس الصبي بها وما العناية التي نعتنيها به.

13 «فَقَالَ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ لِمَنُوحَ: مِنْ كُلِّ مَا قُلْتُ لِلْمَرْأَةِ فَلْتَحْتَفِظْ».

فَقَالَ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ ملاك العهد الأزلي الأبدي رئيس جند الرب.

مِنْ كُلِّ مَا قُلْتُ لِلْمَرْأَةِ فَلْتَحْتَفِظْ أي فلتحذر المرأة من مخالفة شيء مما أوصيتها به.

14 «مِنْ كُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ جَفْنَةِ ٱلْخَمْرِ لاَ تَأْكُلْ، وَخَمْراً وَمُسْكِراً لاَ تَشْرَبْ، وَكُلَّ نَجِسٍ لاَ تَأْكُلْ. لِتَحْذَرْ مِنْ كُلِّ مَا أَوْصَيْتُهَا».

ع 4

مِنْ كُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ جَفْنَةِ ٱلْخَمْرِ هذا وما بعده إلى آخر الآية تفسير وبسط لقوله «من كل ما قلت للمرأة فلتحتفظ» وتكرار ما قيل في الآية السابعة للتأكيد وتحقيق الأمر كله لمنوح. فكان عليها أن تعتزل شرب الخمر والخلّ وأكل العنب والزبيب والدبس وسائر ما يُصنع من العنب وعصيره أو عصارته أو يكون منه (عدد 6: 3 - 5).

15 «فَقَالَ مَنُوحُ لِمَلاَكِ ٱلرَّبِّ: دَعْنَا نُعَوِّقْكَ وَنَعْمَلْ لَكَ جَدْيَ مِعْزىً».

تكوين 18: 5 وص 6: 18

دَعْنَا نُعَوِّقْكَ أي اسمح لنا أن نعوّقك بإجابتك إيانا إلى ما نسألك لأن إعداده يستلزم تعويقك.

وَنَعْمَلْ لَكَ جَدْيَ مِعْزىً أي نذبح جدي معزى ونطبخه ونضعه أمامك وهذا يقتضي وقتاً ليس بقليل فيستلزم تعويقه. أراد منوح أن يزيد إكرام ضيفه بأن يصنع له طعاماً فاخراً لاعتقاده أنه إنسان.

والقصة هنا تشبه قصة ظهور الملاك لجدعون. قال بعضهم والأصل العبراني المترجم هنا «نعمل لك» يحتمل هذا المعنى ويحتمل «نذبح لك» أو «نقرب لك» فعلى الأول يكون المراد إعداد طعام القرى وعلى الثاني عملاً عبادياً وهو تقديم ذبيحة قرباناً.

16 «فَقَالَ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ لِمَنُوحَ: وَلَوْ عَوَّقْتَنِي لاَ آكُلُ مِنْ خُبْزِكَ، وَإِنْ عَمِلْتَ مُحْرَقَةً فَلِلرَّبِّ أَصْعِدْهَا. (لأَنَّ مَنُوحَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ)».

لاويين 9: 7 و15: 15 و16: 9 وص 6: 19

وَلَوْ عَوَّقْتَنِي لاَ آكُلُ مِنْ خُبْزِكَ أي لو سمحت لك أن تعوّقني لا آكل من طعامك فإن الخبز كثيراً ما يعبر به عن الطعام مطلقاً.

وَإِنْ عَمِلْتَ مُحْرَقَةً فَلِلرَّبِّ أَصْعِدْهَا لأنه إذا كان منوح يظنه رجلاً أو ملاكاً مخلوقاً منعه من تقديم الذبيحة له لأن ذلك عبادة والعبادة لا تجوز لغير الله. فكان عمله هنا مشبهاً لعمل الملاك مع يوحنا (رؤيا 22: 9) ولعمل برنابا وبولس في ليكأونية (أعمال 14: 14 - 18). قال يسوع للشاب (متّى 19: 17) «لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللّٰهُ» أي لا يجوز أن يدعو يسوع صالحاً إن لم يعتقد أنه الله. وهكذا قول الملاك هنا أي أنه لا يجوز لمنوح أن يقدم له محرقة إن لم يعرفه ويعتقد به إنه الرب.

لأَنَّ مَنُوحَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ فلم يعمل الطعام إلا عملاً عادياً كما يعمل لكل ضيف يراد إكرامه. ولم يعلم يقيناً أنه الرب ولكن من المحتمل أنه ظن من منظره ومن كلامه أنه ليس إنساناً ولا ملاكاً مخلوقاً بل الرب نفسه فيكون ما كان مزمعاً أن يقدمه له محرقة لا طعاماً عادياً.

17 «فَقَالَ مَنُوحُ لِمَلاَكِ ٱلرَّبِّ: مَا ٱسْمُكَ حَتَّى إِذَا جَاءَ كَلاَمُكَ نُكْرِمُكَ؟».

مَا ٱسْمُكَ يريد من أنت فإن الاسم قديماً كان يدل على معنى في المسمى سُمي به ليدل عليه أو يُذكر بحادثة تتعلق به كإسم موسى أي منشول لأنه نُشل من الماء وكإسم يسوع أي مخلص لأنه جاء ليخلص شعبه من خطاياهم وأمثال ذلك كثيرة وعلى هذا صار بتوالي الأوقات يعني حقيقة المسمى فكأن منوح قال له من أنت أو ما حقيقتك. ولا ريب في أن منوح كان متردداً في حقيقة من يخاطبه فلم يعلم حقيقة أنبيٌّ هو أم ملَك بصورة رجل.

حَتَّى إِذَا جَاءَ كَلاَمُكَ نُكْرِمُكَ أي حتى إذا تمّ الذي أبنته بكلامك أي ميلاد ابن لي نقوم بإكرامك جزاء لك على ذلك الأنباء كان يقدم له شيئاً من الهدايا النفيسة.

18 «فَقَالَ لَهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ: لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ ٱسْمِي وَهُوَ عَجِيبٌ؟».

تكوين 32: 29 وإشعياء 9: 6

لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ ٱسْمِي وَهُوَ عَجِيبٌ (انظر إشعياء 9: 6) إن اسمه كان «يهوه» أي الرب الأزلي الواجب الوجود الذي كان الإسرائيليون لا يجيزون أن يُلفظ به فكانوا إذا قرأوا الكتاب ومرّ بهم ذلك الاسم يلفظون بدلاً منه «أدوناي» أي السيد تنزيهاً له عن أن تتحرك به أفواههم فهو مما لا يسوغ للإنسان أن يتكلم به (2كورنثوس 12: 4) على ما اعتادوه من الاحترام لذلك الاسم الأعظم.

19 «فَأَخَذَ مَنُوحُ جَدْيَ ٱلْمِعْزَى وَٱلتَّقْدِمَةَ وَأَصْعَدَهُمَا عَلَى ٱلصَّخْرَةِ لِلرَّبِّ. فَعَمِلَ عَمَلاً عَجِيباً وَمَنُوحُ وَٱمْرَأَتُهُ يَنْظُرَانِ».

ص 6: 19 و20

وَأَصْعَدَهُمَا عَلَى ٱلصَّخْرَةِ لِلرَّبِّ كما أوصاه ملاك الرب (ع 16) فقدمهما منوح له وهو لا يدري لأنه لم يكن يعلم أنه هو يهوه أي الرب وقد أصاب ولو قدمهما له على علمٍ وهو يعتقد أنه رجل لأشرك بالله وعبد المخلوق حسب اعتقاده مع الخالق ولكنه أصعدهما للرب والذي كان يخاطبه هو الرب في صورة بشرية.

20 «فَكَانَ عِنْدَ صُعُودِ ٱللَّهِيبِ عَنِ ٱلْمَذْبَحِ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ أَنَّ مَلاَكَ ٱلرَّبِّ صَعِدَ فِي لَهِيبِ ٱلْمَذْبَحِ وَمَنُوحُ وَٱمْرَأَتُهُ يَنْظُرَانِ. فَسَقَطَا عَلَى وَجْهَيْهِمَا إِلَى ٱلأَرْضِ».

لاويين 9: 24 و1أيام 21: 16 وحزقيال 1: 28 ومتّى 17: 6

ٱلْمَذْبَحِ هو الصخرة كما ذُكر في (ع 19) فقُدّست حتى صارت تُسمى مذبحاً.

فَسَقَطَا عَلَى وَجْهَيْهِمَا إِلَى ٱلأَرْضِ (لاويين 9: 24 وحزقيال 1: 28). أتيا ذلك رهبة وخشوعاً لله لأنهما علما من صعود ملاك الرب في اللهيب أن الرسول سماوي أرسله الله إليهما ولعلهما علما أنه الرب لعهدهما سماعاً إن الله كان يظهر للآباء بصورة إنسانية وهذا هو الأرجح (انظر ع 22).

21 «وَلَمْ يَعُدْ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ يَتَرَاءَى لِمَنُوحَ وَٱمْرَأَتِهِ. حِينَئِذٍ عَرَفَ مَنُوحُ أَنَّهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ».

ص 6: 22

حِينَئِذٍ أي في ذلك الحين.

عَرَفَ مَنُوحُ أَنَّهُ مَلاَكُ ٱلرَّبِّ (ص 6: 22) إما عرف أنه الملاك الذي هو الرب وهو الأرجح (انظر ع 22) أو عرف أنه الملاك الذي كان يرسله الرب في إجراء الأعمال أو الأنباء الخارقة للعادة (انظر ع 2). فإن بعض الإسرائيليين ولا سيما الآباء كانوا يعرفون إن ذلك الملك هو الرب (تكوين 48: 16).

22 «فَقَالَ مَنُوحُ لامْرَأَتِهِ: نَمُوتُ مَوْتاً لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا ٱللّٰهَ!».

تكوين 32: 30 وخروج 33: 20 وتثنية 5: 26 وص 6: 22

نَمُوتُ مَوْتاً لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا ٱللّٰهَ (تكوين 32: 30). قال ذلك لاعتقاده إن من يرى الله يموت بناء على قوله تعالى لموسى (انظر خروج 33: 20) ولكنه تعالى لم يقل ذلك على رؤية الإنسان إياه بصورة بشرية وإلا لمات كل من رأى الابن المتجسد من أول رؤيته إياه.

23 «فَقَالَتْ لَهُ ٱمْرَأَتُهُ: لَوْ أَرَادَ ٱلرَّبُّ أَنْ يُمِيتَنَا لَمَا أَخَذَ مِنْ يَدِنَا مُحْرَقَةً وَتَقْدِمَةً، وَلَمَا أَرَانَا كُلَّ هٰذِهِ، وَلَمَا كَانَ فِي مِثْلِ هٰذَا ٱلْوَقْتِ أَسْمَعَنَا مِثْلَ هٰذِهِ».

لَوْ أَرَادَ ٱلرَّبُّ أَنْ يُمِيتَنَا لَمَا أَخَذَ الخ إيمان امرأة منوح أراها ما لم ير خوف منوح إياه. وقد أقامت على نفي إرادة الله أن يميتها أحسن البراهين.

  • الأول: إن الله قبل المحرقة والتقدمة وهذا علامة الرضا والإحياء.

  • الثاني: إنه أراهما كل هذه أي الأمور العجيبة الدالة على قدرته وعنايته ومحبته لهما.

  • الثالث: إنه وعدهما بابن وهو صادق أمين لا يخلف الميعاد وهذا لا يمكن إتمامه بإماتتهما بالبديهة.

ولنا من هذا فائدة من أحسن فوائد الإيمان وقاعدة من أفضل قواعد الدين وهو أن الإيمان يدفع الخوف أو ينفيه والإشارة في «هذه» الأخيرة إلى الأقوال التي قالها ملاك الرب.

24 «فَوَلَدَتِ ٱلْمَرْأَةُ ٱبْناً وَدَعَتِ ٱسْمَهُ شَمْشُونَ. فَكَبِرَ ٱلصَّبِيُّ وَبَارَكَهُ ٱلرَّبُّ».

عبرانيين 11: 32 و1صموئيل 3: 19 ولوقا 1: 80 و2: 52

شَمْشُونَ قال يوسفيوس معناه «قويٌّ» وإن اشتقاقه من الشَّمم. وهو في العربية الارتفاع والسيادة والكبر. ورأى جيروم أن معناه «قوة الشمس» وإنه مركب من «شمش» أي شمس و«أون» أي قوة. وقال آخر والمرجّح أن معناه شمسيٌّ. وبذا فسّره صاحب قاموس الكتاب. وجاء في سفر عزرا «شمشاي» اسم الكاتب وهو وشمشون من أصل واحد على ما يرجّح (عزرا 4: 8). فالمراد بالشمشي القوي (انظر ص 5: 31 ومزمو 19: 4 و5 و6). وقال الربانيون إنه سُمي منسوباً إلى الله لأن الرب شمس ومجنّ لإسرائيل (مزمور 84: 11). وسمته أمه بذلك في حال ولادته (قابل تكوين 29: 32 - 35 و35: 18 بما في لوقا 1: 60).

فَكَبِرَ ٱلصَّبِيُّ وَبَارَكَهُ ٱلرَّبُّ إن بركة الرب أنواع مختلفة والذي يظهر من إجمال النبإ أنها هنا الصحة والقوة والشجاعة وما شاكل ذلك. ولا ريب في أن هذه البركة تشبه من بعض الوجوه بركة صموئيل (1صموئيل 2: 21 - 26 و3: 19) أو بركة يوحنا المعمدان (لوقا 1: 80). والخلاصة أن الله حفظ شمشون ووهب له ما هو ضروري للقيام بما اختاره له إلى حين موته.

25 «وَٱبْتَدَأَ رُوحُ ٱلرَّبِّ يُحَرِّكُهُ فِي مَحَلَّةِ دَانَ بَيْنَ صُرْعَةَ وَأَشْتَأُولَ».

ص 3: 1 و1صموئيل 11: 6 ومتّى 4: 1 ص 18: 12 يشوع 15: 33 وص 18: 11

وَٱبْتَدَأَ رُوحُ ٱلرَّبِّ يُحَرِّكُهُ أي اتخذه آلة لإجراء قضائه. ويجب هنا أن يُعلم أن كل الأمور في هذا العالم تجري بيمين الرب فليس كل من حركه روح الرب نبياً أو معصوماً فربما حرّك روح الرب أحد ملوك الأمم ليعاقب شعبه أو غيره تأديباً على أعمالهم كما حرّك ملك الكلدانيين فأصعده على شعبه فأدبهم وحرّك كورش (كسرى) ملك فارس على بناء بيته في أورشليم (2أيام 36: 17 - 23 وإرميا 25: 8 - 14). وجاء في ترجوم يوناثان «حركة روح شجاعة من الرب». وجمع عاموس بين الأنبياء والمنذورين (عاموس 2: 11). لكن لم يجعل للمنذورين مقام الأنبياء على أن النبي يأتي في الكتاب بمعنى المرشد والمعلم. إن الله إله حكيم مختار يري قضاءه بواسطة الأخيار والأشرار بمقتضى حكمته ومشيئته ولا يقضي إلا للخير فإن نشأ عن قضائه شر كما يرى الإنسان فعلة الشر من الإنسان نفسه والله صالح إلى الأبد.

مَحَلَّةِ دَانَ بَيْنَ صُرْعَةَ وَأَشْتَأُولَ محلة دان اسم موضع لم يُعرف موقعه إلا أنه بين صرعة (انظر تفسير ع 2) وأشتأول وهي على الحد بين دان ويهوذا. قال صاحب قاموس الكتاب ويُظن أنها كانت واقعة على الجنوب الشرقي من أشقلون. وقال غيره يُظن أنها يشوا على أكمة شرقي صرعة وعلى غاية ميلين منها.

فوائد

  1. إن لنبإ شمشون أربعة أصحاحات (ص 13 - 16) أي جزء كبير من كتاب الله ومن يقرأه بلا تأمل يظن أنه يشبه حكايات يلذ بها القارئ ولكن بلا فائدة روحية. ولكن من تأمل يرى أن تاريخ شمشون مثال تاريخ إسرائيل فلهم في نبإ شمشون هذه الفائدة العظيمة أنهم مقتدرون بقوة الرب ما داموا ثابتين فيه وضعفاء إذا تركوه.

  2. إن الزيجة حصن مقدس للرجال والنساء والله يبارك المتزوجين حسب الشريعة الإلهية ومن ذلك إظهار كل من الزوجين للآخر ما في نفسه من العلاقات الزوجية كما كان من امرأة منوح وزوجها (ع 6).

  3. إن الوالدين محتاجون إلى إرشاد الله في تربية أولادهم التربية الحسنة فعليهم الصلاة لأجلهم ومعهم وتعليمهم تعاليم الكتاب المقدس (ع 8).

  4. إن الله وحده يستحق عبادتنا وهو وحده يسمع الصلاة ويستجيبها وأما الملائكة فخدّامه على الأرض يخدمون ورثة الخلاص (ع 16).

  5. إن الإنسان يخاف أن يعاين الله على الأرض لخطاياه لكنه يجب أن يراه في السماء ويأنس به لأنه يكون قد تبرر وتقدّس بالمسيح (ع 22).

  6. إنا لا يمكن أن نقوم بالأعمال الصالحة ما لم يحركنا عليها روح الرب (ع 25).

اَلأَصْحَاحُ ٱلرَّابِعُ عَشَرَ

محتويات هذا الأصحاح:

  1. اختيار شمشون امرأة من بنات الفلسطينيين (ع 1 - 4).

  2. قتل شمشون أسداً في طريقه (ع 5 - 7).

  3. وجدانه عسلاً في رمّة الأسد (ع 8 و9).

  4. وليمة عرس شمشون (ع 10 و11).

  5. أُحجية شمشون (ع 12 - 14).

  6. خيانة امرأة شمشون بإظهارها أحجيته لأهلها (ع 15 - 18).

  7. قتل شمشون ثلاثين من الفلسطينيين وتأديته مقتضى الشرط (ع 19).

  8. مصير امرأته لصاحبه (ع 20).

زيجة شمشون ع 1 إلى 11

1 «وَنَزَلَ شَمْشُونُ إِلَى تِمْنَةَ وَرَأَى ٱمْرَأَةً فِي تِمْنَةَ مِنْ بَنَاتِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ».

تكوين 38: 13 ويشوع 15: 10 تكوين 34: 2

تِمْنَةَ قال بعضهم هي على التخم الشمالي من نصيب يهوذا واسمها اليوم تبنة وهي على هضبة تعلو 740 قدماً عن سطح البحر في غربي بيت شمس وعلى غاية ميلين منها. كانت أولاً ليهوذا ثم صارت لدان (يشوع 15: 10 و19: 43). ومعنى «تمنة» جزء معيّن. لاحظ القول «ونزل شمشون» فإن مدينته صرعة تعلو 1500 قدم عن سطح البحر (انظر تفسير ص 13: 2) وأما تمنة فتعلو عنه 740 قدماً.

مِنْ بَنَاتِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ هذا كان خروجاً عن سنن الشريعة لأنها نهت عن الاقتران ببنات الكنعانيين (خروج 34: 16) وعن مصاهرتهم (تثنية 7: 3 و4). وقد جرى الرسول على هذا السنن (انظر 2كورنثوس 6: 14).

2 «فَصَعِدَ وَأَخْبَرَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ ٱمْرَأَةً فِي تِمْنَةَ مِنْ بَنَاتِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ، فَٱلآنَ خُذَاهَا لِيَ ٱمْرَأَةً».

تكوين 21: 21 و34: 4

فَصَعِدَ هذا يدل على أن صرعة مدينة شمشون أعلى من تمنة مدينة البنت التي أحبها.

وَأَخْبَرَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ لأن الوالدين أو من هما بمنزلتهما كانوا يخطبون المرأة للابن وبقيت هذه العادة إلى زمان غير بعيد في هذه البلاد في المدن ولا يزال بعض الناس على هذا السنن إلى هذه الساعة.

خُذَاهَا لِيَ ٱمْرَأَةً إن والدّي شمشون كانا تقيين محافظَين على شريعة الله كما عُرف مما ذُكر في (ص 13) فقبح عندهما أن يتزوج امرأة من غير شعب الله.

3 «فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ وَأُمُّهُ: أَلَيْسَ فِي بَنَاتِ إِخْوَتِكَ وَفِي كُلِّ شَعْبِي ٱمْرَأَةٌ حَتَّى أَنَّكَ ذَاهِبٌ لِتَأْخُذَ ٱمْرَأَةً مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ ٱلْغُلْفِ؟ فَقَالَ شَمْشُونُ لأَبِيهِ: إِيَّاهَا خُذْ لِي لأَنَّهَا حَسُنَتْ فِي عَيْنَيَّ».

تكوين 24: 3 و4 تكوين 34: 14 وخروج 34: 16 وتثنية 7: 3

بَنَاتِ إِخْوَتِكَ أي الإسرائيليات أو بنات سبط دان ولعله لم يكن له إخوة وكان وحيداً لوالديه إذ وُلد بعد عقر أمه كما ذُكر في الأصحاح السابق.

وَفِي كُلِّ شَعْبِي معطوف على «بنات إخوتك» من عطف العام على الخاص بزيادة فائدة الكثرة. أي إن في إسرائيل بنات كثيرة فلا داعي للتزوج بامرأة أجنبية.

مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ ٱلْغُلْفِ أي غير المختونين. وكانت هذه العبارة على لسان كل إسرائيلي لاعتقادهم أن الوثنيين نجسون خارجون عن دائرة عهد الله. وقال والداه ذلك مراعاة لشريعة الرب الناهية عن الزيجة بين شعبه وبين الأمم المتنجسين بالبعد عن شريعة الله وخوفاً على ابنهما النذير من الغواية بحب وثنية نجسة. والعقل ينهي عن اقتران المؤمن بغير مؤمنة فضلاً عن الشريعة الإلهية.

إِيَّاهَا خُذْ لِي أي لا تأخذ لي سواها.

لأَنَّهَا حَسُنَتْ فِي عَيْنَيَّ أي لأني رأيتها حسنة وأحببتها فلا أميل إلى سواها لأنها لم تُبق في قلبي محبة لغيرها. وجوابه بغاية الاختصار لأنه لم يستشر عقله ولا ضميره بل اكتفى بأنه أحبها فعمل ما أراد أن يعمله. والظاهر إن والديه أجاباه إلى ما أراد مع كراهتهما ذلك خوفاً من شر أكبر من هذا الشر فاختارا أصغر الشرين وما هما بمعصومين من الخطاء.

4 «وَلَمْ يَعْلَمْ أَبُوهُ وَأُمُّهُ أَنَّ ذٰلِكَ مِنَ ٱلرَّبِّ لأَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ عِلَّةً عَلَى ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ. وَفِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ كَانَ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ مُتَسَلِّطِينَ عَلَى إِسْرَائِيلَ».

يشوع 11: 20 و1ملوك 12: 15 و2ملوك 6: 33 و2أيام 10: 15 و22: 7 و25: 20 تثنية 28: 48 وص 13: 1

وَلَمْ يَعْلَمْ أَبُوهُ وَأُمُّهُ أَنَّ ذٰلِكَ مِنَ ٱلرَّبِّ ظهر من تاريخ حياة شمشون إن الرب لم يقصد حرباً عمومية بين الإسرائيليين والفلسطينيين بل مقاومتهم بواسطة شخص واحد فكان شمشون نائباً عن الشعب كله. فكان موافقاً لهذا القصد أن موضوع الاختلاف يكون في أمور شمشون الخاصة. والأرجح أن شمشون لم يفهم هذا الأمر بل عمل ما عمله لمجرد إرادته ووالداه كذلك لم يعلما أن ذلك من الرب.

يَطْلُبُ عِلَّةً عَلَى ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ يرجع الضمير المستتر في «يطلب» إلى «الرب» فعلم شمشون بإرادته وحسب شهواته ولكن الرب استعمله ودبّر أموره لكي ينتقم من الفلسطينيين بواسطته.

وَفِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ كَانَ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ مُتَسَلِّطِينَ عَلَى إِسْرَائِيلَ ذكر هذا لبيان قوله «يطلب علة على الفلسطينيين». وهذا البيان واقع موقع التعليل أي إنه كان يطلب علة للانتقام من الفلسطينيين لأنهم كانوا متسلطين على شعبه وكانوا يظلمونه. إن غضب الله على شعبه وإرادته تأديبهم لا يبرر الأمم الذين يعادونهم ويظلمونهم لأنهم لم يأتوا ذلك إطاعة للرب وتنفيذاً لنقمته لهم وتأديبه إياهم بل بغضاً للرب ولشعبه وطمعاً بالاستيلاء على ما لهم من الخيرات.

5 «فَنَزَلَ شَمْشُونُ وَأَبُوهُ وَأُمُّهُ إِلَى تِمْنَةَ وَأَتَوْا إِلَى كُرُومِ تِمْنَةَ. وَإِذَا بِشِبْلِ أَسَدٍ يُزَمْجِرُ لِلِقَائِهِ».

فَنَزَلَ شَمْشُونُ وَأَبُوهُ وَأُمُّهُ إِلَى تِمْنَةَ ليخطبوا الابنة الفلسطينية.

كُرُومِ تِمْنَةَ كان كل ذلك القسم من فلسطين ولا سيما سورق (ص 16: 4) المجاور تمنة مشهوراً بالكروم (إشعياء 5: 2 وإرميا 2: 21). وكانت جبال يهوذا مغطاة العروض والسفوح والأعالي بشجر العنب (تكوين 49: 11). وأكثرها اليوم عارٍ من الكروم ولكن إذا اعتُني بغرس الكروم فيها جاءت بغلال كثيرة من العنب.

وَإِذَا بِشِبْلِ أَسَدٍ الشبل وَلَد الأسد إذا أدرك الصيد فإضافته إلى الأسد للتأكيد. وكانت الأسود يومئذ غير نادرة في فلسطين ولكن الناس أبادتها على توالي السنين ولم يبق في سورية كلها من الوحوش المفترسة سوى قليل من الأنمار والذئاب والثعالب وبنات آوى والضباع والأدباب والفهد وهذا أندرها أو لعله انقطع من سورية.

يُزَمْجِرُ أي يردد أو يكرّر الزئير وزئيره صوت يخرجه من صدره.

لِلِقَائِهِ لكي يفترسه أي يقتله ويأكله.

6 «فَحَلَّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلرَّبِّ، فَشَقَّهُ كَشَقِّ ٱلْجَدْيِ وَلَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ. وَلَمْ يُخْبِرْ أَبَاهُ وَأُمَّهُ بِمَا فَعَلَ».

ص 3: 10 و13: 25 و1صموئيل 11: 6

فَحَلَّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلرَّبِّ أي قوّاه الرب وشجعه كثيراً كما سيتبين.

فنتعلم من هذا القول أن الحياة على اختلاف أنواعها الجسدية والعقلية والروحية من الرب فإن الرب يعطي القوة للجسد والحكمة والفهم للعقل (خروج 31: 1 - 11) وجميع المواهب الروحية (يوحنا 3: 5 و16: 8 - 14).

فَشَقَّهُ كَشَقِّ ٱلْجَدْيِ هذا يستلزم ما لا يُستطاع وصفه من الشجاعة والقوة. وكان عند الرب من يقتل الأسد بالسلاح يُعدّ من أشجع الناس وأقواهم فماذا يُعدُّ شمشون وقد فعل ذلك دون سلاح.

وَلَيْسَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ أي ليس في يده شيء من الأسلحة فقتله الأسد مع ذلك وشقه إياه كشق الجدي الذي لا يقتضي سوى قليل من القوة من أعجب العجائب وأغرب الغرائب. وقد أتى داود مثل هذا (1صموئيل 17: 34) وبناياهو (2صموئيل 23: 20).

وَلَمْ يُخْبِرْ أَبَاهُ وَأُمَّهُ بِمَا فَعَلَ نزل أبوه وأمه معه وأتوا معاً إلى كروم تمنة ولكن لم يكونا معه لما لاقاه الأسد بل كان سبقهما أو تأخر عنهما أو حاد عن الطريق أو فارقهما. قال أحد المفسرين إن هذا يدل على أن شمشون ما كان يميل إلى الافتخار بنفسه. وتحتمل الحال أن شمشون كتم ذلك حكمة منه لئلا يحذر منه الفلسطينيون قبل البطش بهم فيبطشوا به. أو إنه كان مفتكراً بالأُحجية (ع 12 و16) فلم يستحسن أن يخبر أحداً قبل وقت إظهارها أو لغير ذلك من المقاصد وهذا لا ينفي أنه كان متواضعاً.

7 «فَنَزَلَ وَكَلَّمَ ٱلْمَرْأَةَ فَحَسُنَتْ فِي عَيْنَيْ شَمْشُونَ».

فَنَزَلَ وَكَلَّمَ ٱلْمَرْأَةَ الظاهر أن أباه وأمه خطباها أولاً ثم ذهب وكلمها وإلا لما كان له أن يأتي ذلك بحسب العادة الشرقية كما ذُكر آنفاً. وترجم بعضهم العبارة «فنزل وتكلم في شأن المرأة» والذي عليه الأكثرون هو عبارة ترجمتنا. على إنه من المعهود في أواسط القرن الماضي إن الخطيب ما كان له أن يتكلم مع خطيبته إلا بعد عقد الزيجة إلا في بعض القرى. لكن ذلك كان يختلف باختلاف الأماكن. وكثيرون كانوا يخالفون العادة فيخطب الرجل المرأة وبعد أن يرضى كل منهما الآخر يسأل الرجل والديه أو من هما بمنزلتهما إن كان والداه قد ماتا أن يخطباها له من والديها أو من هما بمنزلتهما.

فَحَسُنَتْ فِي عَيْنَيْ شَمْشُونَ حسنت قبل هذا في عينيه بالمنظر (ع 3) وحسنت في عينيه هنا بالمخبر.

8 «وَلَمَّا رَجَعَ بَعْدَ أَيَّامٍ لِيَأْخُذَهَا مَالَ لِيَرَى رِمَّةَ ٱلأَسَدِ، وَإِذَا جَمَاعَةٌ ٱلنَّحْلِ فِي جَوْفِ ٱلأَسَدِ مَعَ عَسَلٍ».

وَلَمَّا رَجَعَ بَعْدَ أَيَّامٍ هذه مدة غير معيّنة فربما كانت سنة أو أكثر من سنة. وقد تبقى المرأة مخطوبة نحو سنة وتأتي «الأيام» بمعنى سنين (ص 11: 4) ووجود دَبرٌ من النحل مع عسل في جوف الأسد يستلزم من الوقت أكثر من أيام قليلة.

لِيَأْخُذَهَا أي ليأخذها إلى بيته بعد الزيجة.

وَإِذَا جَمَاعَةٌ ٱلنَّحْلِ فِي جَوْفِ ٱلأَسَدِ وفي الترجمة السبعينية «في فم الأسد» والدبر جماعة النحل ومثله الخشرم.

مَعَ عَسَلٍ كان النحل قد اتخذ جوف الأسد خلية له فذخر فيه عسله.

اعتُرض على هذا النبإ بأن النحل لا يقرب من الجيف المنتنة. ولكن في بلاد فلسطين الشمس تجفف الجثث الميتة وتذهب بكل روائحها الخبيثة في وقت يسير وتجعلها كيابس الحطب والنحل لا ينفر من ذلك. وقد ذكر المؤرخون عدة حوادث مثل هذه. قال هيرودوتس إنه لما قطع أماثوسيان رأس أونيسيلوس وعلقه على أحد الأبواب اجتمع إلى جوف الجمجمة خشرم من النحل وبنى فيه مسدسات شمعه وجمع فيها عسله.

9 «فَأَخَذَ مِنْهُ عَلَى كَفَّيْهِ، وَكَانَ يَمْشِي وَيَأْكُلُ، وَذَهَبَ إِلَى أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَعْطَاهُمَا فَأَكَلاَ، وَلَمْ يُخْبِرْهُمَا أَنَّهُ مِنْ جَوْفِ ٱلأَسَدِ أَخَذَ ٱلْعَسَلَ».

فَأَخَذَ مِنْهُ عَلَى كَفَّيْهِ، وَكَانَ يَمْشِي وَيَأْكُلُ اشتار العسل جناه واستخرجه من الوقية أي النقرة أو الكوة وما أشبههما وحمله على كفيه وأخذ يأكله وهو يمشي أو مشى به وهو يأكله. فلو كانت الجيفة رطبة تفوح منها الرائحة الخبيثة لأنف من أن يشتار العسل منها ويحمله على كفيه ويأكله لابتعد عنها واحترز من أن يمسها.

وَلَمْ يُخْبِرْهُمَا إما لأنه كان من سجيته كتم الأمور وإما لأنه خشي أن يمتنعا عن أكله لأنه من جوف ميتة وربما أنه كتم الأمر لأنه كان قد عزم على طرح اللغز في يوم من الأيام فخشي أن يأتي أدنى إشارة إلى حله.

10 «وَنَزَلَ أَبُوهُ إِلَى ٱلْمَرْأَةِ، فَعَمِلَ هُنَاكَ شَمْشُونُ وَلِيمَةً لأَنَّهُ هٰكَذَا كَانَ يَفْعَلُ ٱلْفِتْيَانُ».

وَنَزَلَ أَبُوهُ إِلَى ٱلْمَرْأَةِ أي إلى المرأة المخطوبة لينبئها بعزمه على عقد الزيجة على ابنه لكي تستعد للعرس.

فَعَمِلَ هُنَاكَ شَمْشُونُ وَلِيمَةً هي وليمة العرس حسب العادة في كل العصور ولا تزال في هذه البلاد إلى هذا اليوم (تكوين 29: 22 ورؤيا 19: 9). وفي الترجمة السبعينية إن أيام الوليمة سبعة بناء على ما جاء في (تكوين 29: 27) وكانت أيام الوليمة سبعة أيام زمناً طويلاً. وعلى ذلك ما شاع في قصص العامة في أعراس الكبراء فيقولون في الوليمة فمضت سبعة أيام وسبع ليالٍ لا أحد يأكل ويشرب إلا على مائدة السلطان أو الوجيه فلان. ثم اختلفت المدة على توالي العصور فصارت ثلاثة أيام ثم صارت يوماً واحداً وبعضهم لا يعمل وليمة لمانع من الموانع.

هٰكَذَا كَانَ يَفْعَلُ ٱلْفِتْيَانُ أي يعملون الوليمة في أعراسهم ولا يزالون يفعلون كذلك إلى هذا اليوم في بلاد المشرق ولا ريب أن الإشارة هنا إلى عادة الفلسطينيين وإلا فهي مألوفة عند الإسرائيليين فما كان من حاجة إلى ذكر ذلك.

11 «فَلَمَّا رَأَوْهُ أَحْضَرُوا ثَلاَثِينَ مِنَ ٱلأَصْحَابِ فَكَانُوا مَعَهُ».

فَلَمَّا رَأَوْهُ أي فلما رآه الفلسطينيون استعظموه.

أَحْضَرُوا ثَلاَثِينَ مِنَ ٱلأَصْحَابِ أي من رفقائهم وقرئ في بعض النسخ «من أصحابهم» والعبارة من أول الآية إلى هنا في الترجمة السبعينية «فلما خافوه فأحضروا الخ». وكان ظاهر عملهم تعظيم الوليمة فإن شمشون لم يدعُ أحداً من أهل وطنه.

لغز شمشون ونتائجه ع 12 إلى 20

12 «فَقَالَ لَهُمْ شَمْشُونُ: لأُحَاجِيَنَّكُمْ لُغْزاً، فَإِذَا حَلَلْتُمُوهُ لِي فِي سَبْعَةِ أَيَّامِ ٱلْوَلِيمَةِ وَأَصَبْتُمُوهُ أُعْطِيكُمْ ثَلاَثِينَ قَمِيصاً وَثَلاَثِينَ حُلَّةَ ثِيَابٍ».

1ملوك 10: 1 وحزقيال 17: 2 ولوقا 14: 7 تكوين 29: 27 تكوين 45: 22 و2ملوك 5: 22

فَقَالَ لَهُمْ شَمْشُونُ: لأُحَاجِيَنَّكُمْ لُغْزاً قال أحد المفسرين إن الأحاجي في الولائم قديمة العهد بين اليهود واليونانيين. فالظاهر أن شمشون أخذ ذلك وسيلة إلى محاربة الفلسطينيين لأنه كان يريد أن يحاربهم ليرفع سلطانهم عن الإسرائيليين. والأحجية في اللغة اللغز وهو كلام مستغلق المعنى يُطلب بيان معناه كأحجية شمشون هنا. إلا أن المولّدين من أرباب البديع في اللغة العربية قسموه اصطلاحاً إلى ثلاثة أقسام الأحجية واللغز والمعمىّ فالأحجية كلام مركب يماثله لفظ بسيط مستقل بمعنى غير المعنى المفهوم بالمركّب كقول اليازجي الكبير:

Table 19. 

يا لوذعيّا نراهبكل فنٍّ خليقا    
ما ردف قول المحاجيإن قال اطلب طريقا    

فمراد المحاجي هنا «سلسبيل» وهو يستخرج من رديف «اطلب» وهو «سل» ورديف طريق وهو «سبيل» ومجموعها سلسبيل ومن معانيه اللين الذي لا خشونة فيه والخمر.

واللغز كلام مغلق المعنى يُطلب بيان معناه على طريق السؤال دون تخصيص بالمرادفة أو غيرها كقول بعضهم:

Table 20. 

ما طائر في قلبهيلوح للناس عجب    
منقاره في صدرهوالعين منه في الذّنب    

ومطلوبه بجع وهو اسم طائر أشار إليه بأنه في قلبه عجب لأنه مقلوب أحرف بجع وحرف العين منه آخره وأشار إلى ذلك بأن عينه في الذّنب.

والمعمى هو تضمين اسم في كلام مستقل بمعناه الظاهر يشار إليه إشارة خفية بتورية أو قلب له حساب أو غير ذلك كقول الحوراني في يسوع:

Table 21. 

يسوغُ لي وضع خدي تحت أخمصهإزالة لسواد الخال عن قدمه    

عبّر «بسواد الخال» عن النقطة «بالقدم» عن الحرف الأخير فصارت الغين في يسوغ عيناً فتم المراد والبيت مستقل بمعناه الظاهر.

والمراد بالأحجية في الآية معناها اللغوي لا المعنى الاصطلاحي فتنبّه.

فَإِذَا حَلَلْتُمُوهُ لِي فِي سَبْعَةِ أَيَّامِ ٱلْوَلِيمَةِ (انظر تفسير ع 11).

ثَلاَثِينَ قَمِيصاً الخ كانت هذه القمصان والحلل من الكتان النقي لأنها هي التي كان يلبسها الأغنياء وكان المسؤولون منهم بدليل أنهم منتخبون من الشعب وبأن شروط حل اللغز تقتضي أن يؤدي المغلوب قدراً وافراً من المال (انظر إشعياء 3: 23 ومرقس 14: 51). وجعل القمصان والحلل ثلاثين لينال كلّ من أولئك الرجال قميصاً وحلة إذا غلبوا شمشون لأنهم كانوا ثلاثين (ع 11) فكان إذا غُلب يخسر كثيراً.

والحلّة على ما في كتب اللغة العربية إزار ورداء ولا تكون حلّة إلا من ثوبين أو ثوب له بطانة. والمراد بها هنا اللباس الكامل يومئذ كمعنى الطقم عند العامة في عصرنا.

13 «وَإِنْ لَمْ تَقْدِرُوا أَنْ تَحُلُّوهُ لِي تُعْطُونِي أَنْتُمْ ثَلاَثِينَ قَمِيصاً وَثَلاَثِينَ حُلَّةَ ثِيَابٍ. فَقَالُوا لَهُ: حَاجِ لُغْزَكَ فَنَسْمَعْهُ».

حَاجِ لُغْزَكَ فَنَسْمَعْهُ هذا يدل على أنهم سلموا بشرطه وإنهم سيجتهدون في حل أحجيته. ولم يسعهم عدم القبول لئلا يوصفوا بعدم الذكاء أو البخل وهم من مُنتخبي الفلسطينيين.

14 «فَقَالَ لَهُمْ: مِنَ ٱلآكِلِ خَرَجَ أَكْلٌ وَمِنَ ٱلْجَافِي خَرَجَتْ حَلاَوَةٌ. فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَحُلُّوا ٱلُّلغْزَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ».

أَكْلٌ الأُكل هنا الطعام أو كل ما يؤكل.

مِنَ ٱلْجَافِي خَرَجَتْ حَلاَوَةٌ للكلمة العبرانية المترجمة «بالجافي» هنا معنى آخر وهو القويّ وتُرجمت به في عدة ترجمات وتُرجمت في السبعينية والسريانية «بالمر» للطباق بينه وبين الحلاوة وهو لا يتأتى بينها وبين القويّ ولا يوافق القول من القوي خرج حلاوة للقول من الآكل خرج أكل. والطباق والموافقة تحصل بلفظة الجافي إذ يراد به المكروه وبالحلاوة والمقبول والكلمة العبرانية تفيده.

و«الجافي» الذي لا يؤنس به ويُنفر منه فيستلزم أنه يقال رجل جافي الخلق أي كَز غليظ العشرة والأصل الغلاظة وهي مكروهة طبعاً. ولا ريب في أن حلّ هذا اللغز صعب جداً لأنه بُني على حادثة يندر مثلها فلا يحضر في الأذهان. ومن الغريب ما ذكره كاسل وهو يشبه لغز شمشون. ذكر من قصص شمالي جرمانيا أن القضاة قالوا لامرأة حُكم على زوجها بالقتل أنهم يعفون عنه إذا ألقت عليهم لغزاً لا يستطيعون حله. وكانت رأت على طريقها وهي آتية إلى المحكمة جثة فرس فيها عش طائر وستة أفراخ أخذتها فقالت لهم وأنا قادمة إليكم أخذت من الطريق أحياء من ميت ستة من سابع فكمل العدد. فلم يستطيعوا حلّ لغزها فوهبوا لها رجلها.

فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَحُلُّوا ٱلُّلغْزَ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ إن مدة المهلة على جواب كل مسئلة كانت ثلاثة أيام وذلك مشهور في الشرق إلى هذا اليوم. وكثيراً ما يأتي في القصص المعروفة بين العامة إن الملك فلان سأل وزيره كذا وقال له أن لم تأتني بالجواب في أثناء ثلاثة أيام عاقبتك أو قطعت رأسك ولكن شمشون تساهل وأمهلهم سبعة أيام والرجال اجتهدوا في حل اللغز ثلاثة أيام فعرفوا أنهم ليسوا قادرين على حله فسألوا امرأة شمشون أن تتملق زوجها لينبئها بالحل في ذلك اليوم عينه وتهددوها في اليوم السابع.

15 «وَكَانَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلسَّابِعِ أَنَّهُمْ قَالُوا لامْرَأَةِ شَمْشُونَ: تَمَلَّقِي رَجُلَكِ لِكَيْ يُظْهِرَ لَنَا ٱلُّلغْزَ لِئَلاَّ نُحْرِقَكِ وَبَيْتَ أَبِيكِ بِنَارٍ. أَلِتَسْلِبُونَا دَعَوْتُمُونَا أَمْ لاَ؟».

ص 16: 5 ص 15: 6

وَكَانَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلسَّابِعِ وهو آخر أيام المهلة وقد يئسوا من حل اللغز.

لِئَلاَّ نُحْرِقَكِ وَبَيْتَ أَبِيكِ بِنَارٍ تهددوها بذلك لأنه يحملها على بذل كل ما في طاقتها للوقوف على حل اللغز.

أَلِتَسْلِبُونَا الخ وهذا اتهام لها بأنها وافقت زوجها على سلبهم لتجتهد في تبرئة نفسها. ولا ريب في أن ما أتوه كان من أعمال الدناءة والجور ولكننا لا نتوقع أحسن من هذا من أعداء الله الوثنيين.

16 «فَبَكَتِ ٱمْرَأَةُ شَمْشُونَ لَدَيْهِ وَقَالَتْ: إِنَّمَا كَرِهْتَنِي وَلاَ تُحِبُّنِي. قَدْ حَاجَيْتَ بَنِي شَعْبِي لُغْزاً وَإِيَّايَ لَمْ تُخْبِرْ. فَقَالَ لَهَا: هُوَذَا أَبِي وَأُمِّي لَمْ أُخْبِرْهُمَا، فَهَلْ إِيَّاكِ أُخْبِرُ؟».

ص 16: 15

فَبَكَتِ ٱمْرَأَةُ شَمْشُونَ لَدَيْهِ الخ قال أحد المفسرين إن لغز شمشون جعل أسبوع العرس أسبوع مناحة للعروس ولا ريب في أن ذلك كان حزناً له إذ الرجل يتوقع من عروسه أن تكون مبتهجة به تبتسم له وتبهجه. وما ذلك إلا لأن زيجته مخالفة لشريعة الله الناهية عن الاقتران بالوثنيات فالزوجة الفلسطينية لا تناسب الزوج الإسرائيلي فعاقبه الله على ذلك.

17 «فَبَكَتْ لَدَيْهِ ٱلسَّبْعَةَ ٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي فِيهَا كَانَتْ لَهُمُ ٱلْوَلِيمَةُ. وَكَانَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلسَّابِعِ أَنَّهُ أَخْبَرَهَا لأَنَّهَا ضَايَقَتْهُ، فَأَظْهَرَتِ ٱلُّلغْزَ لِبَنِي شَعْبِهَا».

فَبَكَتْ لَدَيْهِ ٱلسَّبْعَةَ ٱلأَيَّامِ إن امرأة شمشون لما ألقي اللغز على الرجال مالت إلى معرفة حله كل الميل وسألته ذلك فأبى فشعرت من ذلك بأنه لا يحبها فزاد ميلها إلى معرفته فكانت تبكي وزاد بكاؤها في اليوم السابع خوفاً على نفسها وبيت أبيها. ومثل هذا معهود من النساء وغيرهنّ.

وَكَانَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلسَّابِعِ أَنَّهُ أَخْبَرَهَا ليخلص من مضايقتها له ويدفع توهمها أنه لا يحبها.

لأَنَّهَا ضَايَقَتْهُ بشدة إلحاحها وكثرة بكائها في أسبوع عرسها خوفاً على نفسها وبيت أبيها (ع 15).

فَأَظْهَرَتِ ٱلُّلغْزَ لِبَنِي شَعْبِهَا لا بغضاً لزوجها ولا لرغبتها في خسارته بل رغبة في إنقاذ نفسها وبيت أبيها من الإحراق فهي معذورة.

وذلك كله نتيجة اقتران شمشون بامرأة وثنية وتسليمه نفسه لسيادة الشهوات ورفضه مشورة أبيه وأمه وشريعة الرب.

18 «فَقَالَ لَهُ رِجَالُ ٱلْمَدِينَةِ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلسَّابِعِ قَبْلَ غُرُوبِ ٱلشَّمْسِ: أَيُّ شَيْءٍ أَحْلَى مِنَ ٱلْعَسَلِ، وَمَا أَجْفَى مِنَ ٱلأَسَدِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: لَوْ لَمْ تَحْرُثُوا مَعَ عِجْلَتِي لَمَا وَجَدْتُمْ لُغْزِي».

أَيُّ شَيْءٍ أَحْلَى مِنَ ٱلْعَسَلِ، وَمَا أَجْفَى مِنَ ٱلأَسَد أي لا شيء أحلى من العسل ولا شيء أجفى من الأسد. جاءوا بالجواب على هذه الصورة المشبهة للغز لتعميته أنهم أخذوا الجواب من المرأة. ولكن ذلك لم يخفِ الحقيقة على شمشون.

لَوْ لَمْ تَحْرُثُوا مَعَ عِجْلَتِي لَمَا وَجَدْتُمْ لُغْزِي أعلن لهم بهذا أنه عرف أنهم تعلموا حلّ أحجيته من امرأته وجرى قوله مجرى المثل وكثيرون يضربونه اليوم في مثل هذه الحال. إن الذي يحرث الأرض ينقبها فيرى ما في باطنها فاستعار ذلك ليحثهم عن الجواب في ما أتوه من معاملة امرأته فكانت بمنزلة عجلة حرثوا عليها.

19 «وَحَلَّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلرَّبِّ فَنَزَلَ إِلَى أَشْقَلُونَ وَقَتَلَ مِنْهُمْ ثَلاَثِينَ رَجُلاً، وَأَخَذَ سَلَبَهُمْ وَأَعْطَى ٱلْحُلَلَ لِمُظْهِرِي ٱلُّلغْزِ. وَحَمِيَ غَضَبُهُ وَصَعِدَ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ».

ص 3: 10 و13: 25

وَحَلَّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلرَّبِّ أي روح القوة والشجاعة (انظر تفسير ع 6).

أَشْقَلُونَ إحدى مدن الفلسطينيين الخمس وهي فرضة شمالي غزة وعلى غاية عشرة أميال منها ولم يبق منها سوى أطلالها. ولعله كان فيها حينئذ احتفاء بعيد داجون أو وليمة عرس لأنهم كانوا يلبسون الكتان النقي في مثل ذلك فاغتنم فرصة السلب.

وَقَتَلَ مِنْهُمْ ثَلاَثِينَ رَجُلاً وَأَخَذَ سَلَبَهُمْ قتل الثلاثين رجلاً وأخذ منهم ثلاثين قميصاً وثلاثين حلة ليعطيها للرجال الثلاثين الذين ادّعوا أنهم حلوا اللغز وأظهروا الأحجية. وإذا اعتُرض أن ذلك كان ظلماً وقساوة من شمشون نقول أن روح الرب كان حل عليه وكانت قوته الفائقة من الرب فلا شك أن عمله كان بالإلهام وحسب إرادة الرب الذي له جميع الناس فيعطيهم ويأخذ منهم كما يشاء.

وَحَمِيَ غَضَبُهُ وَصَعِدَ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ غضب على ما أتاه الرجال من الدناءة وعلى امرأته لأنها خانته بإعلان معنى اللغز.

20 «فَصَارَتِ ٱمْرَأَةُ شَمْشُونَ لِصَاحِبِهِ ٱلَّذِي كَانَ يُصَاحِبُهُ».

ص 15: 2 يوحنا 3: 29

فَصَارَتِ ٱمْرَأَةُ شَمْشُونَ لِصَاحِبِهِ وهو ما يُعرف اليوم عند العامة بالإشبين. وسُمي في الإنجيل «بصديق العريس» (يوحنا 3: 29) وهو ما يقوم بتدبير أمر العريس في أيام العرس. ومن شأن هذا الصاحب أن يقوم بما يقتضيه الاحتفاء بالعرس ويتوسط بين الخطيبين في الأمور التي يُحتاج إليها. والظاهر أن امرأة شمشون وصاحبه لما رأيا أن شمشون غضب وذهب إلى بيت أبيه اعتقدا أنه طلقها أو هجرها ولا يرجع إليها. ولعل شمشون لم يقصد تخلية امرأته بل تركها إلى حين ليرجع إليها (ص 15: 1) ولكن الفلسطينيين اعتبروا هذا انفصالاً تاماً فزفّوها إلى رجل آخر.

فوائد

  1. إن الإنسان في الشبيبة عرضة لتجارب كثيرة ولا يُحفظ منها إلا بحفظه وصايا الله.

  2. إن الله ينشئ من الشر خيراً وأما الشرير فلا يخلص من عقاب شروره.

  3. إن الأمور الحقيرة تُنتج الأمور العظيمة فمن خشرم النحل في جثة الأسد نشأت الحرب.

  4. أن المقامرة على أنواعها شر (ع 12 و13).

  5. إن من الآكل أُكل ومن المصائب فوائد (ع 14).

  6. إن اقتران المؤمن بغير مؤمنة شر له ولأسرته (ع 15 - 17).

  7. كتمان الزوجة أمر مصاعبها عن رجلها يؤدي بها إلى شر العواقب (ع 16).

  8. إنه يجب الصبر إلى النهاية بخلاف ما فعل شمشون الذي صبر ستة أيام ووقع في اليوم السابع (ع 17).

  9. إن الصديق الوثني أو غير التقي لا يُركن لصداقته (ع 20).

اَلأَصْحَاحُ ٱلْخَامِسُ عَشَرَ

محتويات هذا الأصحاح:

  1. افتقاد شمشون لزوجته ومعرفته أنها صارت لآخر (ع 1 و2).

  2. انتقامه لنفسه بإحراقه زروع الفلسطينيين (ع 3 - 5).

  3. إحراق الفلسطينيين امرأة شمشون وأباها (ع 6).

  4. انتقام شمشون من الفلسطينيين بالقتل (ع 7 و8).

  5. تسليم رجال يهوذا إياه إلى الفلسطينيين (ع 9 - 13).

  6. قطعه الحبلين وقتله ألف فلسطيني بلحي حمار (ع 14 - 17).

  7. عين هقوري (ع 18 و19).

انتقام شمشون ع 1 إلى 8

1، 2 «1 وَكَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ فِي أَيَّامِ حَصَادِ ٱلْحِنْطَةِ أَنَّ شَمْشُونَ ٱفْتَقَدَ ٱمْرَأَتَهُ بِجَدْيِ مِعْزىً. 2 وَقَالَ: أَدْخُلُ إِلَى ٱمْرَأَتِي إِلَى حُجْرَتِهَا. وَلٰكِنَّ أَبَاهَا لَمْ يَدَعْهُ أَنْ يَدْخُلَ».

بَعْدَ مُدَّةٍ وفي العبرانية «بعد أيام» والمراد مدة غير معيّنة (ص 14: 8) ولعلها هنا لا تزيد على شهر أو شهرين.

فِي أَيَّامِ حَصَادِ ٱلْحِنْطَةِ أي في نحو منتصف شهر أيار. قال الكاتب هذا توطئة لما في (ع 4 و5).

ٱفْتَقَدَ ٱمْرَأَتَهُ بِجَدْيِ مِعْزىً كان ذلك هدية المصالحة فإن غضبه كان قد سكن وعاوده الحب القديم لمن حسنت في عينيه (ص 14: 3). وكان جدي المعزى من الهدايا المألوفة كثيراً (انظر تكوين 38: 17 ولوقا 15: 29).

أَدْخُلُ إِلَى ٱمْرَأَتِي إِلَى حُجْرَتِهَا أي إلى غرفتها الخاصة. وهذا القصد كان بلاء عليها وعلى بيت أبيها وعلى شمشون أيضاً.

وَلٰكِنَّ أَبَاهَا لَمْ يَدَعْهُ أَنْ يَدْخُلَ هذا يدل على أن امرأة شمشون كانت في بيت أبيها.

2 «وَقَالَ أَبُوهَا: إِنِّي قُلْتُ إِنَّكَ قَدْ كَرِهْتَهَا فَأَعْطَيْتُهَا لِصَاحِبِكَ. أَلَيْسَتْ أُخْتُهَا ٱلصَّغِيرَةُ أَحْسَنَ مِنْهَا؟ فَلْتَكُنْ لَكَ عِوَضاً عَنْهَا».

ص 14: 20

إِنَّكَ قَدْ كَرِهْتَهَا لما ظهر من تركك إياها وغضبك عليها فتيقنت أنك طلقتها وهجرتها إلى الأبد.

فَأَعْطَيْتُهَا لِصَاحِبِكَ (ص 14: 20) كان عمله غلطاً (1) لأن طلاقها من حقوق زوجها لا من حقوق غيره. (2) لأنه لم يعلم أن شمشون قد تركها تماماً. (3) لأنه عمل بالعجلة. والكبرياء والطمع من دواعي البلاء. والعجلة كثيراً ما تكون مقدمة الندامة.

أَلَيْسَتْ أُخْتُهَا ٱلصَّغِيرَةُ أَحْسَنَ مِنْهَا قال هذا ترغيباً له في أختها وتعويضه من امرأته وتكفيراً لعجلته وحرمان شمشون المرأة التي أحبها. ولكن الحب لا يُرشى بصغر ولا جمال. ولعل هنالك موانع أخرى لم تعلمها ومعظمها أسرار العناية الإلهية.

3 «فَقَالَ لَهُمْ شَمْشُونُ: إِنِّي بَرِيءٌ ٱلآنَ مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ إِذَا عَمِلْتُ بِهِمْ شَرّاً».

فَقَالَ لَهُمْ أي لحميه وللذين حوله من الفلسطينيين ورأى بعض المفسرين أنه قال ذلك في نفسه للفلسطينيين المرسومين في خياله لا لحميه. أي فقال شمشون في نفسه للفلسطينيين ما رآه أنه عذر له على محاربتهم وأنه بريء من الجور والتعدي كما يأتي.

إِنِّي بَرِيءٌ ٱلآنَ مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ أي قد صحّ عندي الآن إني إذا سفكت دم الفلسطينيين فأنا بريء من دمهم أو من الظلم بسفكه لأنهم استحقوا ذلك وأنا من حقي أن أنتقم منهم وكان يعلم أن الفلسطينيين كلهم كانوا موافقين حماه وصاحبه على ما أتياه على الجميع وإن الفلسطينيين كانوا يومئذ يجورون على الإسرائيليين لأنهم كانوا تحت سلطانهم فإساءة حميه وصاحبه إليه هاج غضبه على كل فلسطيني إذ حسب ما أتياه استخفافاً بالإسرائيليين وبغضاً لهم وهذا كان شأن كل فلسطيني حينئذ.

4 «وَذَهَبَ شَمْشُونُ وَأَمْسَكَ ثَلاَثَ مِئَةِ ٱبْنِ آوَى، وَأَخَذَ مَشَاعِلَ وَجَعَلَ ذَنَباً إِلَى ذَنَبٍ، وَوَضَعَ مَشْعَلاً بَيْنَ كُلِّ ذَنَبَيْنِ فِي ٱلْوَسَطِ».

ثَلاَثَ مِئَةِ ٱبْنِ آوَى ما كان يصعب الحصول على هذا العدد من بنات آوى لكثرتها في فلسطين وسورية في ذلك العصر ولا تزال كثيرة فيهما إلى هذا العصر. ولكن كانت فيهما يومئذ أكثر منها الآن فإن سكان هذه البلاد اجتهدوا منذ العصور الخالية في قتل الوحوش الضارة حتى قطعوا بعضها كالأسد. ولا ريب في أنه كان لشمشون رجال ساعدوه على ذلك ونُسب الفعل إليه لأنه هو رئيسهم. وابن آوى وحش ضار أكبر من الثعلب وأصغر من الذئب يكثر في بلاد المشرق وفي قرب المدن والقرى ويقصد القبور لأكل جثث الموتى ويتبع الجيوش لأكل جثث القتلى (مزمور 63: 10). ويكنى في العربية بأبي أيوب وأبي ذؤيب وأبي كعب وأبي وائل. قال بعضهم وسمي ابن آوى لأنه يأوي إلى عواء أبناء جنسه ولا يعوي إلا ليلاً وصياحه يشبه صياح الصبيان وهو طويل المخالب والأظفار يعدو على غيره ويأكل مما يصيد من الطيور وغيرها. وخوف الدجاج منه أشد من خوفها من الثعلب.

وَجَعَلَ ذَنَباً إِلَى ذَنَبٍ أي ربط أحد الذنبين بالآخر أو عقد أحدهما بالآخر.

وَوَضَعَ مَشْعَلاً بَيْنَ كُلِّ ذَنَبَيْنِ فِي ٱلْوَسَطِ أي مكّن في العقدة بالربط قدراً من عيدان النبات الراتينجي أو خشبه كالصنوبر. والمشعل في اللغة المصباح واستُعير هنا لما ذكرنا.

5 «ثُمَّ أَضْرَمَ ٱلْمَشَاعِلَ نَاراً وَأَطْلَقَهَا بَيْنَ زُرُوعِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ، فَأَحْرَقَ ٱلأَكْدَاسَ وَٱلزَّرْعَ وَكُرُومَ ٱلزَّيْتُونِ».

ثُمَّ أَضْرَمَ ٱلْمَشَاعِلَ نَاراً أي جعل العيدان أو الخشب ناراً بالإضرام. والإضرام الإيقاد والإشعال.

وَأَطْلَقَهَا أي أطلق بنات آوى.

بَيْنَ زُرُوعِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ المرجّح أنه أتى ذلك ليلاً لئلا يرى الفلسطينيون ذلك فيسرعوا إلى طرد بنات آوى ويطفئوا النار وكانت أكداس الشعير والقمح جافة. وهذا من أشد المضرات بالقوم لأن غلال الأرض كانت معظم قوام الحياة عندهم. ولا ريب في أن ما أتاه شمشون كان نتاج قساوة شديدة ولكنه لم يكن فظيعاً عند أهل أولئك العصر كما هو عند المتمدنين في عصرنا. بل كان في عصر شمشون من الأمور العادية في الانتقام. وشمشون وإن كان قاضياً وحل عليه روح الرب لم يكن معصوماً بل ارتكب غلطات وآثاماً كثيرة إنما كان نقمة من الأمم ومن نفسه بحكم طبيعة العمل.

ٱلأَكْدَاسَ وَٱلزَّرْعَ الأكداس جمع كُدس وهو البيدر أو ما يجمع من الحصيد بعضه فوق بعض. والزرع هنا المزروع.

وَكُرُومَ ٱلزَّيْتُونِ أي الأرضين النابت فيها الزيتون فإن الكرم عند بعضهم يطلق على العنب وعلى الحديقة وعلى الأرض المنقاة. وقال بعضهم الصواب في المعنى الأخير الكَرَم لا الكرم. ويحتمل الأصل العبراني على ما في حاشية الكتاب ذي الشواهد «الكروم والزيتون». ولا ريب في أن شمشون كان يرى حينئذ كأن أرض الأعداء أصيبت بطوفان ناري يحزن مرآه الأتقياء المتمدنين ويسر المنتقمين المتوحشين.

6 «فَقَالَ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ: مَنْ فَعَلَ هٰذَا؟ فَقَالُوا: شَمْشُونُ صِهْرُ ٱلتِّمْنِيِّ، لأَنَّهُ أَخَذَ ٱمْرَأَتَهُ وَأَعْطَاهَا لِصَاحِبِهِ. فَصَعِدَ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ وَأَحْرَقُوهَا وَأَبَاهَا بِٱلنَّارِ».

ص 14: 15

مَنْ فَعَلَ هٰذَا... شَمْشُونُ صِهْرُ ٱلتِّمْنِيِّ الذين قالوا شمشون إما استنتجوا مما وقع بين الفلسطينيين وشمشون وإما عرفوه من بعض الإسرائيليين المساعدين لشمشون أو العارفين بأمره.

وَأَحْرَقُوهَا وَأَبَاهَا بِٱلنَّارِ لا يُستغرب هذا من وثنيين متوحشين من عرف ما أتاه شمشون الإسرائيلي في ذلك العصر المظلم ومن العجيب أن ما تخلّصت منه امرأة شمشون بخيانتها لزوجها وقعت فيه بإخلاصها لقومها. إن الخيانة وِزرٌ لا وَزَرٌ أي إثم لا ملجأٌ.

7 «فَقَالَ لَهُمْ شَمْشُونُ: وَلَوْ فَعَلْتُمْ هٰذَا فَإِنِّي أَنْتَقِمُ مِنْكُمْ، وَبَعْدُ أَكُفُّ».

وَلَوْ فَعَلْتُمْ هٰذَا فَإِنِّي أَنْتَقِمُ مِنْكُمْ أي ولو فعلتم هذا لإرضائي فإني أنتقم منكم لأنه إساءة فوق إساءة فإنكم هددتم زوجتي حتى خانتني وخسّرتني فغضبت عليها وفارقتها فخسرتها. وما كفاكم ذلك حتى أحرقتموها وهي التي أحبها فزدتم على أحزاني حزناً عظيماً ولذلك أنتقم منكم انتقاماً يشفي غيظي ويخفف أحزاني.

ويحتمل الأصل ترجمة أخرى وهي بما أنكم فعلتم هذا فإني أنتقم منكم. والمراد بالترجمة الأولى وهي الواردة في توراتنا أن الفلسطينيين قصدوا إرضاء شمشون ولكنه لم يرض. والمراد بالترجمة الأخرى أن الفلسطينيين قصدوا إساءة فوق إساءة.

وَبَعْدُ أَكُفُّ أي بعد أن أنتقم منكم كل الانتقام أكفّ عن النقمة.

8 «وَضَرَبَهُمْ سَاقاً عَلَى فَخْذٍ ضَرْباً عَظِيماً. ثُمَّ نَزَلَ وَأَقَامَ فِي شَقِّ صَخْرَةِ عِيطَمَ».

1أيام 4: 3 و32 و2أيام 11: 6

وَضَرَبَهُمْ سَاقاً عَلَى فَخْذٍ أي فجعلهم بضرب السيف قطعاً بعضها فوق بعض الساق فوق الفخذ والقدم فوق الرأس وما أشبه ذلك.

وَأَقَامَ فِي شَقِّ صَخْرَةِ عِيطَمَ أي أقام بكهف في صخرة قرب عيطم أو فيها. وعيطم اسم قرية أو بلدة ظنها كندر القرية المعروفة اليوم ببيت عتاب قرب صرعة. وقد مر أن صرعة تُعرف اليوم بسورة وهي غربي القدس وعلى غاية ثلاثة عشر ميلاً منها. فهنالك مغارة في صخر عندها ينبوع ماء وهي مخبأ مناسب للهاربين يتمكن الملتجئ إليها من الدفاع عن نفسه.

تسليم شمشون إلى الفلسطينيين ع 9 إلى 13

9 «وَصَعِدَ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ وَنَزَلُوا فِي يَهُوذَا وَتَفَرَّقُوا فِي لَحْيٍ».

ع 19

وَصَعِدَ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ تقدم أن لفظة «صعد» في إصطلاحهم يومئذ يراد بها السير للحرب أو الانتقام. وكانت أرض يهوذا أعلى من أرض الفلسطينيين. ولا ريب في أن المراد بالفلسطينيين هنا جماعات من أبطالهم أتوا للتفتيش عن شمشون.

وَنَزَلُوا فِي يَهُوذَا أي في أرض سبط يهوذا.

وَتَفَرَّقُوا فِي لَحْيٍ أي ذهبت كل جماعة في جهة في طلب شمشون وسُمي ذلك المكان بلحي من الحادثة المذكورة في (ع 17) أو لمشابهة المكان (ولعله ظهر جبل) بلحي حمار. وهذا الموضع لم يُعيّن موقعه إلى الآن.

10 «فَسَأَلَهُمْ رِجَالُ يَهُوذَا: لِمَاذَا صَعِدْتُمْ عَلَيْنَا؟ فَقَالُوا: صَعِدْنَا لِنُوثِقَ شَمْشُونَ لِنَفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِنَا».

فَسَأَلَهُمْ رِجَالُ يَهُوذَا: لِمَاذَا صَعِدْتُمْ عَلَيْنَا أي ما علة إتيانكم إلينا للحرب (انظر ع 8 والتفسير) أي لا سبب لأن تصعدوا علينا فإننا مسلّمون بالعبودية.

صَعِدْنَا لِنُوثِقَ شَمْشُونَ أي لكي نشد شمشون بالوثاق (وهو ما يُشد به من قيد أو حبل) لا لنحاربكم وإنما أتينا إليكم لعلمنا أنه بينكم فيجب أن تسلموه إلينا إن كنتم لا تريدون معاداتنا.

لِنَفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِنَا أي لنجازيه على إضراره بنا فنشهّره ونعذبه فنقتله.

11 «فَنَزَلَ ثَلاَثَةُ آلاَفِ رَجُلٍ مِنْ يَهُوذَا إِلَى شَقِّ صَخْرَةِ عِيطَمَ، وَقَالُوا لِشَمْشُونَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ مُتَسَلِّطُونَ عَلَيْنَا؟ فَمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا؟ فَقَالَ لَهُمْ: كَمَا فَعَلُوا بِي هٰكَذَا فَعَلْتُ بِهِمْ».

ص 14: 4

فَنَزَلَ ثَلاَثَةُ آلاَفِ رَجُلٍ مِنْ يَهُوذَا جاءوا بهذا العدد الكثير إلى واحد لاعتقادهم قوته وشجاعته وبطشه فخافوا أن يبطش بهم إذا كانوا قليلين.

أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ مُتَسَلِّطُونَ عَلَيْنَا أتوه في طريق المسالمة والمعاتبة وبسط العذر على مرادهم القبض عليه لسلامة إسرائيل لأن الفلسطينيين كانوا يومئذ قادرين على قتلهم إذ كانوا أرباب السلطة والقدرة على الإسرائيليين. وأبانوا بذلك أن شمشون لا يرضى أن يقتل الفلسطينيون قومه أو شعبه.

كَمَا فَعَلُوا بِي هٰكَذَا فَعَلْتُ بِهِمْ أبان عذره لهم على ما فعله بالفلسطينيين ولزم منه أنه لم يقصد إضرار شعب إسرائيل. وإنه لم يعتد على الفلسطينيين بل انتقم لنفسه منهم. ومن العجب أن ذلك البطل لم يوبخهم حينئذ على جبانتهم ويقل لهم كان عليكم أن تتشجعوا أو تقاتلوا الفلسطينيين وتخلصوا من عبوديتهم لا أن تأتوا إلى إمساك بطل منكم يحبكم ويحب تحريركم من الوثنين فأتيتم عليّ بدلاً من أن تأتوا معي لمحاربتهم. لا شك في أن الأسد المفترس كان بين يدي رجال شعبه حملاً وديعاً.

يعلّمنا العهد الجديد أن لا نجازي أحداً عن شرٍّ بشرّ ولا ننتقم لأنفسنا (رومية 12: 17 و19) وهذه الأقوال للناس أفراداً. وأما الولاة فعليهم أن يقاوموا شر الأشرار ويجازوا جميع الناس حسب أفعالهم وينتقموا من فاعلي الشر. وكان شمشون قاضياً ومخلصاً لإسرائيل وفيه روح الرب وإن كان علة غضبه ما فعل الفلسطينيين به.

12 «فَقَالُوا لَهُ: نَزَلْنَا لِنُوثِقَكَ وَنُسَلِّمَكَ إِلَى يَدِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ. فَقَالَ لَهُمْ شَمْشُونُ: ٱحْلِفُوا لِي أَنَّكُمْ أَنْتُمْ لاَ تَقَعُونَ عَلَيَّ».

فَقَالُوا لَهُ: نَزَلْنَا لِنُوثِقَكَ وَنُسَلِّمَكَ قالوا هذا بلا حياء ولا خجل لجبانتهم وموت شرفهم وفقدان مروءتهم وعدم إيمانهم.

ٱحْلِفُوا لِي أَنَّكُمْ أَنْتُمْ لاَ تَقَعُونَ عَلَيَّ أصل الوقوع السقوط ثم تجوّزوا به إلى معان كثيرة منها القتل فإن الضارب بالسيف ينحني إلى مضروبه كأنه يقع عليه ومثله وقع بالأعداء أي بالغ في قتالهم. قال أحد المفسرين إن شمشون هنا طلب من رجال يهوذا شروط التسليم كطلب المحاصَرين من المحاصِرين. وطلبه هذا مبني على رجائه إنه إن بقي في الحياة يتفق له أن يخلّص من أعدائه الفلسطينيين. إن شمشون هنا شفق على شعبه فسلّم نفسه إليهم ولم يلوّث يده بدم أحد منهم أو يهرب بما له من القوة ويتركهم لانتقام الفلسطينيين فبذل نفسه من أجلهم وهذا فضل عظيم. فالرجل لم يكن قاسياً إلا على أداء الله الظالمين لشعبه المعتدين عليهم وعليه.

13 «فَأَجَابُوهُ: كَلاَّ. وَلٰكِنَّنَا نُوثِقُكَ وَنُسَلِّمُكَ إِلَى يَدِهِمْ، وَقَتْلاً لاَ نَقْتُلُكَ. فَأَوْثَقُوهُ بِحَبْلَيْنِ جَدِيدَيْنِ وَأَصْعَدُوهُ مِنَ ٱلصَّخْرَةِ».

كَلاَّ. وَلٰكِنَّنَا نُوثِقُكَ وَنُسَلِّمُكَ صدقوه ولم يأخذوه بحيلة فسلّم لهم.

فَأَوْثَقُوهُ بِحَبْلَيْنِ جَدِيدَيْنِ خوفاً من أن يقطع الوثاق لأنهم كانوا يعلمون أنه قويّ.

وَأَصْعَدُوهُ مِنَ ٱلصَّخْرَةِ بعد أن شدوا الوثاق لئلا يندم على التسليم فيقتل بعضهم أو يهرب.

قتل شمشون ألفا بلحي حمار ع 14 إلى 17

14 «وَلَمَّا جَاءَ إِلَى لَحْيٍ صَاحَ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ لِلِقَائِهِ. فَحَلَّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلرَّبِّ، فَكَانَ ٱلْحَبْلاَنِ ٱللَّذَانِ عَلَى ذِرَاعَيْهِ كَكَتَّانٍ أُحْرِقَ بِٱلنَّارِ، فَٱنْحَلَّ ٱلْوِثَاقُ عَنْ يَدَيْهِ».

ص 3: 10 و14: 6

وَلَمَّا جَاءَ إِلَى لَحْيٍ (ع 9) ما سُمي ذلك المكان بلحي إلا بعد ما حدث في (ع 17) ولكن الكاتب كتب هذا بعد تلك الحادثة فسمى المكان بما عُرف به على أثرها.

صَاحَ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ لِلِقَائِهِ أي رفعوا أصوات الابتهاج لأجل لقائه أو وهم يتقدمون للقائه.

فَحَلَّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلرَّبِّ اي وهب له الرب قوة عظيمة كأنه أيده بروحه القادر على كل شيء وجعله قدرة له.

فَكَانَ ٱلْحَبْلاَنِ الجديدان (ع 13).

كَكَتَّانٍ أُحْرِقَ بِٱلنَّارِ فلم يبق فيهما من قوة فقطعهما بسهولة.

15 «وَوَجَدَ فَكَّ حِمَارٍ طَرِيّاً، فَأَخَذَهُ وَضَرَبَ بِهِ أَلْفَ رَجُلٍ».

لاويين 26: 8 ويشوع 23: 10 وص 3: 31

وَوَجَدَ (لحي) فَكَّ حِمَارٍ طَرِيّاً فهو مرن لا ينكسر سريعاً كالجاف. واللحي عظم الحنك الذي عليه الأسنان. وكان على شمشون أن لا يمسه لأنه نذير (عدد 6: 6) لكنه اضطر إلى ذلك فرأى أن الضرورات تبيح المحظورات فلم يتوقف عن أخذ ذلك السلاح النجس لقتل أولئك النجسين. فإنه كان أسيراً أعزل أي بلا سلاح.

وَضَرَبَ بِهِ أَلْفَ رَجُلٍ قتلهم بضربه إياهم باللحي كما لو ضربهم بالسيف وذلك لأن الرب كان معه. ولا ريب في أن ساعده على ذلك خوف الفلسطينيين منه لما اشتهر من قوته وشجاعته (انظر لاويين 26: 8 ويشوع 23: 10). ومن علم أن جليات ألقى الرعب في كل جيش إسرائيل فضلاً عن اشتهار شمشون بالشجاعة والقوة اللتين اختبرهما الفلسطينيون منه.

16 «فَقَالَ شَمْشُونُ: بِفَكِّ حِمَارٍ كُومَةً كُومَتَيْنِ. بِفَكِّ حِمَارٍ قَتَلْتُ أَلْفَ رَجُلٍ».

بِفَكِّ حِمَارٍ كُومَةً كُومَتَيْنِ في الأصل العبراني جناس وهو «بلحي حومر حومر حومرتيم» فالحومر يعني حمار أو كومة. والمعنى بلحي حمار تركت كومة كومتين من القتلى. والمراد أنه ترك القتلى كوماً لا ثلاث كومات فقط. وقال «كومة كومتين» كأنه يعد الكوم وترك للسامع أن يقول ثلاث كومات الخ لما هو معهود من المقصود بهذا التعبير عندهم. ولعله اختار كلمة كومة للتعبير عن كثرة القتلى لمشابهتها بكلمة حمار بالأصل احتقاراً للفلسطينيين.

بِفَكِّ حِمَارٍ قَتَلْتُ أَلْفَ رَجُلٍ هذا تفسير لقوله «بلحي حمار كومة كومتين» وكانت العبارة السابقة وهذه العبارة أغنية فرح بانتصاره العظيم بذلك السلاح الحقير. و«ألف» عدد كامل أي نحو ألف فمن المحتمل أن القتلى إذا عُدوا تماماً كانوا أكثر أو أقل.

17 «وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ ٱلْكَلاَمِ رَمَى ٱلْفَكَّ مِنْ يَدِهِ، وَدَعَا ذٰلِكَ ٱلْمَكَانَ «رَمَتَ لَحْيٍ».

رَمَتَ لَحْيٍ أي رمية الفك أو مرمي الفك أو اللحي (انظر حاشية الكتاب بالشواهد) فيكون هذا الاسم تذكاراً لرميه اللحي هناك. وفسره بعضهم برَيم اللحي والريم الجبل الصغير أو التل.

معجزة في اللحي ع 18 إلى 20

18 «ثُمَّ عَطِشَ جِدّاً فَدَعَا ٱلرَّبَّ: إِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ بِيَدِ عَبْدِكَ هٰذَا ٱلْخَلاَصَ ٱلْعَظِيمَ، وَٱلآنَ أَمُوتُ مِنَ ٱلْعَطَشِ وَأَسْقُطُ بِيَدِ ٱلْغُلْفِ».

مزمور 3: 7

عَطِشَ جِدا لأن الفصل فصل الصيف والحركة حركة حرب استمرت إلى أن قتل ألفاً بفك الحمار.

إِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ بِيَدِ عَبْدِكَ هٰذَا ٱلْخَلاَصَ ٱلْعَظِيمَ كان مقتضى الظاهر أن يقول «إنك جعلت بيدي» الخ لكنه وضع المظهر وهو «عبد» موضع المضمر ليصف نفسه بالعبودية تذللاً أمام الله واستعطافاً له.

وَٱلآنَ أَمُوتُ مِنَ ٱلْعَطَشِ وَأَسْقُطُ بِيَدِ ٱلْغُلْفِ إن شمشون لم يعاتب ربه بهذا الكلام بل يستعبد أو يتعجب من أن الله بعد ما صنع له ما يخلص به شعبه من إذلال الوثنيين الخارجين عن عهد الرب وهو المراد بالغلف ان يتركه يموت عطشاً أو يعيي من شدة العطش فيقوى عليه أولئك ويأسرونه أو يقتلونه.

19 «فَشَقَّ ٱللّٰهُ ٱلْجَوْفَ ٱلَّذِي فِي لَحْيٍ، فَخَرَجَ مِنْهَا مَاءٌ، فَشَرِبَ وَرَجَعَتْ رُوحُهُ فَٱنْتَعَشَ. لِذٰلِكَ دَعَا ٱسْمَهُ «عَيْنَ هَقُّورِي» ٱلَّتِي فِي لَحْيٍ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ».

تكوين 45: 27 وإشعياء 40: 29 ع 29 ومزمور 34: 6

فَشَقَّ ٱللّٰهُ ٱلْجَوْفَ ٱلَّذِي فِي لَحْيٍ استعلم شمشون الجناس في الآية السادسة عشرة وجاء في هذه الآية بالتورية المزدوجة فدل بذلك على أنه كان من أدباء اللغة العبرانية وشعرائها. فإن معنى «الكفة» منبت السن والنقرة التي يجتمع فيها الماء «واللحي» الفك واسم الموضع والمعنى القريب منبت السن وفك الحمار والمعنى البعيد والمراد نقرة الماء والموضع. والنقرة تكون جافة في الصيف فأوجد الله فيها الماء بأن شقّها وأخرج الماء من الأرض إليها. والدليل على هذا قوله على الأثر «التي في لحي إلى هذا اليوم».

رَجَعَتْ رُوحُهُ فَٱنْتَعَشَ أي كاد يموت عطشاً فلما روي وثق بالحياة وقوي. شبه شدة العطش بنزع الموت أو بأخذ الروح في الذهاب والارتواء بأخذ الحياة في العود أو الروح في الرجوع.

عَيْنَ هَقُّورِي أي عين الداعي سماها بذلك تذكاراً لدعائه إلى الله واستجابة الله دعاءه.

ٱلَّتِي فِي لَحْيٍ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ أي صارت النقرة عيناً دائمة الجريان وكانت معروفة في عصر الكاتب.

20 «وَقَضَى لإِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ عِشْرِينَ سَنَةً».

ص 13: 1

وَقَضَى لإِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ أي في أيام تسلُّط الفلسطينيين على الإسرائيليين فإن شمشون لم يخلّص إسرائيل كل الخلاص من الفلسطينيين فبقوا أقوياء على الإسرائيليين إلى زمان داود.

عِشْرِينَ سَنَةً والمرجّح أن قضاءه كان موضعياً فإن القضاة كانوا متعددين في وقت واحد والمرجّح أن قضاء شمشون كان في عصر قضاء عالي. فكانا قاضيين متعاصرَين.

فوائد

  1. قوانين المصالحة:

    أولاً: وجوب المصالحة في البداءة «قَبْلَ أَنْ تَدْفُقَ ٱلْمُخَاصَمَةُ ٱتْرُكْهَا» أمثال 17: 14).

    ثانياً: على كل من الخصمين أن يترك شيئاً من حقه.

    ثالثاً: يقول الخصم إني أقول كلمة فقط ثم أصالح فيجب أن يترك هذه الكلمة.

  2. إن خطأ المؤمن باقترانه بغير مؤمنة عقابه متصل به.

  3. إن الله لحلمه يظل يعتني بعبده وإن أخطأ ليجري قضائه ويردّه إلى الصواب.

  4. الكثيرون ضعفاء إذا تركوا الله والواحد قويّ إذا كان معه (ع 11).

  5. الخوف يجر الإنسان إلى الخطاء والخسارة (ع 11).

  6. تُعمل عظائم بوسائل حقيرة. انتصر شمشون بلحي حمار. استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة (1كورنثوس 1: 21).

  7. كان شمشون قوياً في القتال ضعيفاً في الصبر (ع 18).

اَلأَصْحَاحُ ٱلسَّادِسُ عَشَرَ

محتويات هذا الأصحاح:

  1. ذهاب شمشون إلى غزة وهربه منها (ع 1 - 3).

  2. رشوة أقطاب الفلسطينيين لدليلة للتمكن من إذلاله (ع 4 و5).

  3. خداع شمشون إيّاها ثلاثاً (ع 6 - 14).

  4. إعلان شمشون لدليلة سرّ قوّته وأخذ الفلسطينيين إياه وقلعهم عينيه وطحنهم عليه (ع 15 - 21).

  5. انتقامه الأخير وموته ودفنه (ع 22 - 31).

عمل شمشون الغريب في غزّة ع 1 إلى 3

1 «ثُمَّ ذَهَبَ شَمْشُونُ إِلَى غَزَّةَ وَرَأَى هُنَاكَ ٱمْرَأَةً زَانِيَةً فَدَخَلَ إِلَيْهَا».

غَزَّةَ هي مدينة عامرة لم تزل إلى هذا اليوم تُعرف بهذا الاسم ولكنها فقدت كبرها وعظمتها القديمة. وهي على مقربة من شاطئ بحر الروم فلا تبعد عنه إلا نحو ثلاثة أميال. وهي جنوبي أشقلون أي عسقلان وعلى غاية عشرة أميال منها. وكانت المدينة الأولى بين مدن الفلسطينيين الخمس. وهي من أقدم مدن الدنيا (تكوين 10: 19). ذُكرت في العهد القديم مراراً ولم تُذكر في العهد الجديد سوى مرة واحدة (أعمال 8: 26) وهي مشهورة اليوم بزيتونها.

وقصة ذهاب شمشون إلى هذه المدينة مختصرة كثيراً فلم يُذكر فيها غايته من ذهابه إليها ولا طريق ذلك الذهاب. وكيف ذهب إلى أولى مدن الفلسطينيين بعد ما صار بينه وبينهم من العداء الشديد وقتله الكثيرين منهم. ذلك لم يُعلم من القصة والمرجّح أنه كان متكلاً على قوته وزيادة شجاعته وبطشه بهم حتى صار لا يعبأ بهم.

رَأَى هُنَاكَ ٱمْرَأَةً زَانِيَةً فَدَخَلَ إِلَيْهَا إن أميال شمشون الجسدية أوصلته إلى أعظم الأخطار وأوردته أخيراً موارد الحتف. قال أمبروسيوس «إن شمشون القادر الشجاع غلب الأسد ولكنه لم يستطع أن يغلب هواه. وقطع وُثُق أعدائه لكنه عجز عن قطع حبال شهوته. وأحرق أكداس الظالمين الكثيرين ولكن أحرقه لهيب اللذّة المحظورة التي أوقدتها فيه امرأة واحدة». وقال الأسقف هُول «لم يكن أحد من كل منقذي إسرائيل قوياً كشمشون وما كان أحد منهم ضعيفاً مثله».

2 «فَقِيلَ لِلْغَزِّيِّينَ: قَدْ أَتَى شَمْشُونُ إِلَى هُنَا. فَأَحَاطُوا بِهِ وَكَمَنُوا لَهُ ٱللَّيْلَ كُلَّهُ عِنْدَ بَابِ ٱلْمَدِينَةِ. فَهَدَأُوا ٱللَّيْلَ كُلَّهُ قَائِلِينَ: عِنْدَ ضَوْءِ ٱلصَّبَاحِ نَقْتُلُهُ».

1صموئيل 23: 26 ومزمور 118: 1 و11 و12 وأعمال 9: 24

فَقِيلَ لِلْغَزِّيِّينَ لا نعلم من قال لهم والذي يرجّح من النصّ أن بعض الفلسطينيين من غير أهل غزة رآه يدخل غزة فأخبر أهلها بدخوله.

فَأَحَاطُوا بِهِ أي أحاطوا بالمدينة لكي لا يستطيع أن يخرج منها دون أن يروه فبذلك أحاطوا به.

وَكَمَنُوا لَهُ ٱللَّيْلَ كُلَّهُ عِنْدَ بَابِ ٱلْمَدِينَةِ فَهَدَأُوا ٱللَّيْلَ كُلَّهُ أي كانوا الليل كله سكوتاً لئلا يشعر بهم فيتوارى عنهم. وقوله «عند باب المدينة» يدل ظاهره إنه لم يكن للمدينة سوى باب واحد ولكن قوله قبلاً «فأحاطوا به» يدل على أنهم كمنوا له في كل جهة من جهات المدينة فيكون المراد بذلك أنهم كمنوا له عند كل باب ومخرج من أبواب المدينة وخارجها. وخصّ بالذكر ذلك الباب لأن المخبرين رأوه دخل المدينة منه.

عِنْدَ ضَوْءِ ٱلصَّبَاحِ نَقْتُلُهُ أي عند الفجر نراه خارجاً فنقتله.

3 «فَٱضْطَجَعَ شَمْشُونُ إِلَى نِصْفِ ٱللَّيْلِ، ثُمَّ قَامَ فِي نِصْفِ ٱللَّيْلِ وَأَخَذَ مِصْرَاعَيْ بَابِ ٱلْمَدِينَةِ وَٱلْقَائِمَتَيْنِ وَقَلَعَهُمَا مَعَ ٱلْعَارِضَةِ، وَوَضَعَهَا عَلَى كَتِفَيْهِ وَصَعِدَ بِهَا إِلَى رَأْسِ ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي مُقَابِلَ حَبْرُونَ».

قَامَ فِي نِصْفِ ٱللَّيْلِ على خلاف ما انتظروا. وقصد الباب الذي كمنوا له عنده ولا ريب في أنه كان موصداً وهم داخله.

وَأَخَذَ مِصْرَاعَيْ بَابِ ٱلْمَدِينَةِ أي قلعهما وهم لم يشعروا به لأنهم كانوا نياماً أو قتلهم جميعاً وأخذ المصراعين. فالكاتب لم يفصّل النبأ بغية الاختصار.

ٱلْعَارِضَةِ الخشبة العليا التي يدور فيها الباب. وهذا يدلك على ما كان لشمشون من القوة العجبية. فإن أبواب المدينة كبيرة جداً وكثيراً ما تكون مغشاة بالحديد.

وَوَضَعَهَا عَلَى كَتِفَيْهِ وَصَعِدَ بِهَا إِلَى رَأْسِ ٱلْجَبَلِ هذا زيادة بيان لوفرة قدرته فإن الإنسان يتعب بمجرد حمله جسمه إلى رأس الجبل.

ٱلَّذِي مُقَابِلَ حَبْرُونَ حبرون مدينة تُعرف اليوم بالخليل وهي على غاية أربعين ميلاً من غزة. وليس المعنى أنه حمل ذلك وقطع به تلك الأميال إلى حبرون بل إلى جبل يقابل حبرون وتُرى جبالها منه ويُرى من جبالها وهو ما يُعرف اليوم بالمنطَر على ما يعتقده الناس تقليداً.

كَلَف شمشون بدليلة وخيانتها إياه ع 4 إلى 22

4 «وَكَانَ بَعْدَ ذٰلِكَ أَنَّهُ أَحَبَّ ٱمْرَأَةً فِي وَادِي سَوْرَقَ ٱسْمُهَا دَلِيلَةُ».

وَكَانَ بَعْدَ ذٰلِكَ أَنَّهُ أَحَبَّ ٱمْرَأَةً المرجّح أنها كانت خليلة شمشون لا حليلة وإنها كانت زانية فلسطينية.

فِي وَادِي سَوْرَقَ قال كندر بعد البحث والتحقيق أنه الوادي المعروف اليوم بوادي سرار وهو قرب بيت شمس وصرعة. ولعل سورق مدينة أو قرية أُضيف إليها لقربه منها فإنه على عدوة ذلك الوادي الشمالية أطلال بلدة يسمونها اليوم سورك أو سورق. وكان ذلك الموضع مشهوراً بالكروم (تكوين 49: 11 وإشعياء 5: 2 وإرميا 2: 21) واسمه يدل على ذلك فإن معنى سورق «كرم مختار».

ٱسْمُهَا دَلِيلَةُ ومعناه معشوقة وقال بعضهم إن معنى دليلة خائنة. وقال غيرهم أن معناه مضعفة والمعاني الثلاث تناسب صفاتها. ولربما كان لها اسم في صغرها غير دليلة ولما كبرت وبلغت أشدها كثر عشاقها فسميت دليلة.

5 «فَصَعِدَ إِلَيْهَا أَقْطَابُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ وَقَالُوا لَهَا: تَمَلَّقِيهِ وَٱنْظُرِي بِمَاذَا قُوَّتُهُ ٱلْعَظِيمَةُ، وَبِمَاذَا نَتَمَكَّنُ مِنْهُ لِنُوثِقَهُ لإِذْلاَلِهِ، فَنُعْطِيَكِ كُلُّ وَاحِدٍ أَلْفاً وَمِئَةَ شَاقِلِ فِضَّةٍ».

يشوع 13: 3 وص 3: 3 ص 14: 15 وأمثال 2: 16 إلى 19 و5: 3 إلى 11 و6: 24 و25 و26 و7: 21 و22 و23 ص 17: 2

فَصَعِدَ إِلَيْهَا أَقْطَابُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ هم أمراء مدنهم الخمس جتّ وأشدود وغزة وأشقلون وعقرون (انظر تفسير ع 23 وص 3: 3 ويشوع 13: 3). وهذا يحمل على القول بأن دليلة فلسطينية. ولعل تأثيرها في نفس شمشون كان أعظم من تأثير امرأته التمنيّة فيها (ص 14: 15). وما ذلك إلا لأنه ترك سبيل الاستقامة (أمثال 2: 16 - 19).

تَمَلَّقِيهِ أي تودّدي إليه وتلطفي له وليّني كلامك وتذلّلي. والتملّق إظهار الإنسان بلسانه وحركاته ما ليس في قلبه من التودُّد.

وَٱنْظُرِي بِمَاذَا قُوَّتُهُ ٱلْعَظِيمَةُ كان أولئك الأقطاب لجهلهم يعتقدون أن قوة شمشون وبطشه وشجاعته الغريبة نتيجة كتابة سحرية يمكن تعريته منها.

فَنُعْطِيَكِ كُلُّ وَاحِدٍ أَلْفاً وَمِئَةَ شَاقِلِ فِضَّةٍ فيكون المجموع خمسة آلاف وخمس مئة شاقل فضة وقيمة ذلك نحو 660 ليرة إنكليزية. وهذا كثير جداً بالنسبة إلى رخص أسباب المعاش في تلك الأيام.

6 «فَقَالَتْ دَلِيلَةُ لِشَمْشُونَ: أَخْبِرْنِي بِمَاذَا قُوَّتُكَ ٱلْعَظِيمَةُ وَبِمَاذَا تُوثَقُ لإِذْلاَلِكَ؟».

بِمَاذَا قُوَّتُكَ ٱلْعَظِيمَةُ قال بعضهم في النساء اللاواتي لا يخفن الله «إذا ابتغى الشيطان صيد أمرء جعل طعم صنارته امرأة».

7، 8 «7 فَقَالَ لَهَا شَمْشُونُ: إِذَا أَوْثَقُونِي بِسَبْعَةِ أَوْتَارٍ طَرِيَّةٍ لَمْ تَجِفَّ أَضْعُفُ وَأَصِيرُ كَوَاحِدٍ مِنَ ٱلنَّاسِ. 8 فَأَصْعَدَ لَهَا أَقْطَابُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ سَبْعَةَ أَوْتَارٍ طَرِيَّةٍ لَمْ تَجِفَّ فَأَوْثَقَتْهُ بِهَا».

إِذَا أَوْثَقُونِي بِسَبْعَةِ أَوْتَارٍ طَرِيَّةٍ الكلمة العبرانية المترجمة «أوتار» تحتمل معنى حبال من الكتان أو غيره من النباتات والمرجّح أن المقصود أوتار كأوتار لقسيّ أو أوتار آلات الموسيقى تُصنع من إمعاء الحيوانات. والعدد «سبعة» يدل على الكمال أو القوّة. كذب عليها حرصاً على سرّ قوته فكان شاكلها في أخلاقه. ولو كان رجلاً في آدابه لمنعها من إعادة ذلك السؤال وما أجابها بكذب ولا بصدق ولكن الشهوة القبيحة تذهب بالحكمة والقوّة والهيبة.

كَوَاحِدٍ مِنَ ٱلنَّاسِ أي أكون رجلاً عادياً. وهذا دليل على أن قوّته كانت خارقة للعادة.

9 «وَٱلْكَمِينُ لاَبِثٌ عِنْدَهَا فِي ٱلْحُجْرَةِ. فَقَالَتْ لَهُ: ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ عَلَيْكَ يَا شَمْشُونُ. فَقَطَعَ ٱلأَوْتَارَ كَمَا يُقْطَعُ فَتِيلُ ٱلْمَشَاقَةِ إِذَا شَمَّ ٱلنَّارَ وَلَمْ تُعْلَمْ قُوَّتُهُ».

وَٱلْكَمِينُ لاَبِثٌ عِنْدَهَا فِي ٱلْحُجْرَةِ اختصر الكاتب كثيراً إذ لم تكن غايته التفصيل بل خلاصة ما كان من أمر شمشون عند المعشوقة. فإن دليلة على ما يرجّح كانت تُدخل حجرتها بعض رجال الفلسطينيين ليلاً وشمشون نائم على سريره ثم تأتيه وتتملقه كما يدل على ذلك ما في (ع 12 و14 و20). وكانت تشد وثاقه وهو نائم وتوقظه لتتحقق قوله. وهذا يدل على خوف الفلسطينيين من قوّته السحرية كما اعتقدوا وكان خوفه قد ملأ قلوبهم بما اختبروه من بطشه حتى لم يجسروا على لقائه.

فَقَطَعَ ٱلأَوْتَارَ كَمَا يُقْطَعُ فَتِيلُ ٱلْمَشَاقَةِ المسافة هنا ما يسقط من الكتّان عند مشقه أو تمشيطه ليُغزَل ويتخذون من تلك السقاطة فتائل للسّرج أي يفتلونها فتلاً ويضعونها في المصابيح.

إِذَا شَمَّ ٱلنَّارَ إذا أحمي قليلاً فيهون قطعه. ولا ريب في أن الكمين كان يرى ذلك من وصواصٍ إلى مضجع شمشون.

وَلَمْ تُعْلَمْ قُوَّتُهُ أي لم يُعلم سرها أو علّتها.

10 «فَقَالَتْ دَلِيلَةُ لِشَمْشُونَ: هَا قَدْ خَتَلْتَنِي وَكَلَّمْتَنِي بِٱلْكَذِبِ! فَأَخْبِرْنِيَ ٱلآنَ بِمَاذَا تُوثَقُ».

قَدْ خَتَلْتَنِي أي خدعتني.

وَكَلَّمْتَنِي بِٱلْكَذِبِ عاتبته لا لمجرد أنه خدع وكذب لأن ذلك كان من مذهبها لكن لأن خداعه لها وكذبه كان عليها وهو قد أعلن لها أنه يحبها. كأنها قالت له هذا ليس فعل المحبين.

فَأَخْبِرْنِيَ ٱلآنَ بِمَاذَا تُوثَقُ أي أخبرني بالوثاق الذي لا تقدر على قطعه. وبلا ريب عرف شمشون قصدها وكان من الحكمة أن يتركها في الحال ولكنه مال إلى المُنكر والتذّ بالاقتراب إليه وهو متكل على نفسه إنه يقدر أن يخلّص نفسه بقوّته العظيمة. وأما دليلة فان غايتها الكبرى أن تأخذ المال الذي وعدها به أقطاب الفلسطينيين.

11، 12 «11 فَقَالَ لَهَا: إِذَا أَوْثَقُونِي بِحِبَالٍ جَدِيدَةٍ لَمْ تُسْتَعْمَلْ أَضْعُفُ وَأَصِيرُ كَوَاحِدٍ مِنَ ٱلنَّاسِ. 12 فَأَخَذَتْ دَلِيلَةُ حِبَالاً جَدِيدَةً وَأَوْثَقَتْهُ بِهَا، وَقَالَتْ لَهُ: ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ عَلَيْكَ يَا شَمْشُونُ، وَٱلْكَمِينُ لاَبِثٌ فِي ٱلْحُجْرَةِ. فَقَطَعَهَا عَنْ ذِرَاعَيْهِ كَخَيْطٍ».

بِحِبَالٍ جَدِيدَةٍ (انظر ص 15: 13).

كَخَيْطٍ الخيط هنا السلك الذي يدخل في سمّ الإبرة أي ثقبها ويخاط به وهو قليل القوة مهما كان جنسه ولا سيما إذا كان القاطع له مثل شمشون.

13 «فَقَالَتْ دَلِيلَةُ لِشَمْشُونَ: حَتَّى ٱلآنَ خَتَلْتَنِي وَكَلَّمْتَنِي بِٱلْكَذِبِ! فَأَخْبِرْنِي بِمَاذَا تُوثَقُ. فَقَالَ لَهَا: إِذَا ضَفَرْتِ سَبْعَ خُصَلِ رَأْسِي مَعَ ٱلسَّدَى».

إِذَا ضَفَرْتِ سَبْعَ خُصَلِ رَأْسِي مَعَ ٱلسَّدَى الظاهر إن شعر شمشون كان سبع ضفائر أو غرانيق أي خُصل مفتّلة واختير أن يكون عددها كذلك لأن السبعة عدد مقدس فوق كونه كاملاً. والسدى ما مدّ من الخيوط للحياكة وهو خلاف اللحمة ويُعرف عند عاّمة لبنان وبيروت بالمدّة. وضفر الشعر معه أن تجمع منه خيوط إلى كل خصلة من الشعر وتُضفر معاً. وكان في ذلك البيت نولٌ على ما يستلزمه النص ولعل دليلة كانت تحيك به. ولا يزال بعض النساء في هذه البلاد وسائر سورية تنسج بأنوال في البيوت.

ولما ذكر شعره اقترب إلى إفشاء سره. ومن ينظر إلى الخطيئة ويتأمل فيها ويتقدم نحوها ويقول في نفسه دعني ألتذّ بها قليلاً ثم أرجع عنها فلا بدّ من سقوطه.

14 «فَمَكَّنَتْهَا بِٱلْوَتَدِ. وَقَالَتْ لَهُ: ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ عَلَيْكَ يَا شَمْشُونُ. فَٱنْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ وَقَلَعَ وَتَدَ ٱلنَّسِيجِ وَٱلسَّدَى».

فَمَكَّنَتْهَا بِٱلْوَتَدِ أي فضفرتها مع السّدى وهو نائم ومكنتها بالوتد فحذف للإيجاز اعتماداً على القرينة. والوتد هنا إما الوتد في الحائط الذي يُربط به السّدى أو أحد أوتاد النول الأربعة التي في الأرض وهو المناسب. وجاء في السبعينية «فمكنتها بالوتد ورزّت الوتد في الحائط». وجاء في الفلغاتا «ورزّت الوتد في الأرض». ويظن البعض أن الكلمة المترجمة «وتد» تحتمل معنى المدقة وهي الآلة التي يدق الحائك خيطان اللحمة فيمكّنها أي ضفرت دليلة خصل شمشون السبعة مع السّدى ثم دقتها بالمدقة فمكنتها وصارت من المنسوج ولما قام شمشون قلع السّدى والمدقة معاً.

فَٱنْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ وَقَلَعَ وَتَدَ ٱلنَّسِيجِ وَٱلسَّدَى هذا يدل على أن الوتد أحد الأوتاد الأربعة التي في الأرض وأحد الوتدين اللذّين تجور في حفرتيهما المطواة لأنهما هما وتدا النسيج والسدى وتُعرف هذه الأوتاد عند حاكة هذا العصر في كثير من جهات سورية بالغروز وأحدها غِرز. وهذه الأوتاد كبيرة نازلة في الأرض كثيراً بخلاف ما يُرز في الأرض أو الحائط. وما ذُكر ذلك إلا للدلالة على قدرته الغريبة الخارقة العادة.

15 «فَقَالَتْ لَهُ: كَيْفَ تَقُولُ أُحِبُّكِ، وَقَلْبُكَ لَيْسَ مَعِي؟ هُوَذَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَدْ خَتَلْتَنِي وَلَمْ تُخْبِرْنِي بِمَاذَا قُوَّتُكَ ٱلْعَظِيمَةُ».

ص 14: 16

كَيْفَ تَقُولُ أُحِبُّكِ، وَقَلْبُكَ لَيْسَ مَعِي أي إن المحبة تقتضي أن المحبّ يُعلن أسرار قلبه للمحبوب كأنه أعطاه قلبه ليعرف كل ما فيه. وأنت كتمت عنّي سرّ قوتك فقولك أنك تحبني لا يوثق به.

16 «وَلَمَّا كَانَتْ تُضَايِقُهُ بِكَلاَمِهَا كُلَّ يَوْمٍ وَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ، ضَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى ٱلْمَوْتِ».

ضَاقَتْ نَفْسُهُ لضيق حكمته ووسعة شهوته ولو اتسعت حكمته وضاقت بشهوته لتركها وهرب منها. ولكن لما كان حبه فاسداً شيطانياً كان عمله مثله. وقوله «ضاقت نفسه» استعارة شبّه نفسه بوعاء وإلحاحها بما يوضع فيه فلم يمكن أن يسع زيادة على ما وسع وهذا شأن النفس الجاهلة.

إِلَى ٱلْمَوْتِ أي ضاقت إلى أن قرب من الموت بما عرا نفسه من الضيق.

17 «فَكَشَفَ لَهَا كُلَّ قَلْبِهِ، وَقَالَ لَهَا: لَمْ يَعْلُ مُوسَى رَأْسِي لأَنِّي نَذِيرُ ٱللّٰهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، فَإِنْ حُلِقْتُ تُفَارِقُنِي قُوَّتِي وَأَضْعُفُ وَأَصِيرُ كَأَحَدِ ٱلنَّاسِ».

ميخا 7: 5 عدد 6: 5 وص 13: 5

لأَنِّي نَذِيرُ ٱللّٰهِ الخ هذا أوضح دليل على أن قوته كانت غير عادية أي إنها كانت من الله على طريق الإعجاز. فلهذا لم يبقَ من اعتراض على ما كان منه من الأفعال العجبية. وما أتاه إن كان يستحيل على المخلوق لا يستحيل على الخالق.

18 «وَلَمَّا رَأَتْ دَلِيلَةُ أَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَهَا بِكُلِّ مَا بِقَلْبِهِ، أَرْسَلَتْ فَدَعَتْ أَقْطَابَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ وَقَالَتِ: ٱصْعَدُوا هٰذِهِ ٱلْمَرَّةَ فَإِنَّهُ قَدْ كَشَفَ لِي كُلَّ قَلْبِهِ. فَصَعِدَ إِلَيْهَا أَقْطَابُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ وَأَصْعَدُوا ٱلْفِضَّةَ بِيَدِهِمْ».

وَلَمَّا رَأَتْ الخ علمت صدقه من إمارات وجهه وكانت قد اختبرت كل إماراته.

19 «وَأَنَامَتْهُ عَلَى رُكْبَتَيْهَا وَدَعَتْ رَجُلاً وَحَلَقَتْ سَبْعَ خُصَلِ رَأْسِهِ، وَٱبْتَدَأَتْ بِإِذْلاَلِهِ، وَفَارَقَتْهُ قُوَّتُهُ».

أمثال 7: 26 و27

وَأَنَامَتْهُ عَلَى رُكْبَتَيْهَا يستلزم هذا النبأ أنها مزجت شرابه بشيء من المنومات لأنه لا يمكن أن تحلق خصل شعره ولا ينتبه إذا كان نومه عادياً. والكاتب غرضه بيان الحادثة بالاختصار فترك التفصيل في مواضع كثيرة كما مرّ بك اعتماداً على القرينة على اختلاف أنواعها من عقلية ولفظية. والقرينة هنا عقلية. فإن قلت إذا كان الأمر كذلك فما حاجتها إلى حلق شعره فكان عليها أن تستدعي الفلسطينيين فيأخذوه وهو مستغرق بذلك النوم الثقيل. قلنا إن غاية الفلسطينيين أن يأخذوه حياً ويشهروه ويعذبوه ويمثلوا به (ع 5) فلو أوثقوه وهو نائم ونبهوه قطع الوثاق وقطّعهم. إلا فلو كان قصدهم قتله يصعب بواسطة تلك المعشوقة الخائنة بطرق كثيرة.

وَدَعَتْ رَجُلاً هو أحد الفلسطينيين الذي كان كامناً في حجرتها.

وَحَلَقَتْ سَبْعَ خُصَلِ رَأْسِهِ أي أمرت ذلك الرجل بحلقها.

وَٱبْتَدَأَتْ بِإِذْلاَلِهِ أي شرعت في أن تسلّمه لمن يذلونه وكانت غايتهم من أول الأمر إذلاله (ع 5) أي إن ما فعلته كان أول إذلاله.

فَارَقَتْهُ قُوَّتُهُ لأنه خالف آخر شروط نذره لا أن قوته كانت في شعره. وما أحسن قول بعضهم هنا «أن من ينام في الإثم يستيقظ في الخسران والضعف».

20 «وَقَالَتِ: ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ عَلَيْكَ يَا شَمْشُونُ. فَٱنْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ وَقَالَ: أَخْرُجُ حَسَبَ كُلِّ مَرَّةٍ وَأَنْتَفِضُ. وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ فَارَقَهُ!».

عدد 14: 9 و42 و43 ويشوع 7: 12 و1صموئيل 16: 14 و18: 12 و28: 15 و16 و2أيام 15: 2

أَخْرُجُ حَسَبَ كُلِّ مَرَّةٍ وَأَنْتَفِضُ أي أخرج من نومي وأنتفض من آثاره. فانتفض مطاوع نفض الثوب أي حرّكه ليزول عنه الغبار ونحوه فاستعاره للتخلص من التواني الباقي من تأثير النوم. أو انتفض من وُثق أوثقته بها دليلة أو الفلسطينيون. أو انتفض من الفلسطينيين كما ينتفض الحصان أو الثور من الذباب.

وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱلرَّبَّ قَدْ فَارَقَهُ أي قال اخرج الخ وهو غير عالم ترك الرب إياه ولكنه علم ذلك حين شعر بضعفه ووهنه. وعرف أن قوّته كانت من الرب لا من نفسه بالاختبار وكان قد عرف ذلك بمجرد العقل والخبر (ع 16). فكان بقاء شعره دليلاً على تلك القوة أو علامة لها. فلم يبق في تلك الحال نذيراً لله ففارقته قوة النذير.

21 «فَأَخَذَهُ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ وَقَلَعُوا عَيْنَيْهِ، وَنَزَلُوا بِهِ إِلَى غَزَّةَ وَأَوْثَقُوهُ بِسَلاَسِلِ نُحَاسٍ. وَكَانَ يَطْحَنُ فِي بَيْتِ ٱلسِّجْنِ».

فَأَخَذَهُ ٱلْفِلِسْطِينِيُّونَ لأن الرب تركه.

وَقَلَعُوا عَيْنَيْهِ تمثيلاً به وإذلالاً له. وكان قلع العينين من أشد أنواع الإذلال (انظر 2ملوك 25: 7). ولعلهم قلعوها لغرض آخر وهو أن يقوه من الدوار وهو يدرو ليدير الرحى كما سيأتي.

وَأَوْثَقُوهُ بِسَلاَسِلِ نُحَاسٍ وهذا تنكيل وإذلال آخر يجريه الغالب على من يدري جعله من أسافل الناس. فإن الإثم يزيل الكرامة. وما أحسن قول بعضهم:

Table 22. 

إذا كنت في نعمة فارعهافإن المعاصي تزيل النِعم    
وحافظ عليها بتقوى الإلهفإن الإله سريع النِقم    

وَكَانَ يَطْحَنُ فِي بَيْتِ ٱلسِّجْنِ قال أحد المفسرين هذا إذلال آخر لأن الطحن كان من عمل الأجراء والعبيد والإماء. والذي ظهر من قلع عينيه أنهم كانوا يربطونه إلى مثل دولاب يديره بدورانه حول الرحى والدولاب يديرها بدورانه فيستخدمونه استخدام الحمار أو البغل أو غيرهما من الكراع. وكانت تلك الرحى في البيت الذي يُسجن به المجرمون وهذا شر أنواع الذلّ. وكان ذلك عملاً شاقاً عليه لأن قوّته غير العادية كانت قد فارقته فانظر كيف عاقبة المجرمين. على أن بعضهم رأى أنه كان يطحن برحى اليد التي تطحن بها النساء والخدم والعبيد وكلا الأمرين إذلال ولا تزال إلى هذا اليوم في بعض سورية وفلسطين.

22 «وَٱبْتَدَأَ شَعْرُ رَأْسِهِ يَنْبُتُ بَعْدَ أَنْ حُلِقَ».

وَٱبْتَدَأَ شَعْرُ رَأْسِهِ يَنْبُتُ تقدّم الكلام إن قوة شمشون لم تكن في شعره بل كانت هبة من الله غير عادية لنذيره وكان ترك الشعر بلا حلق من شروط النذر وشمشون خالف كل الشروط ومنها حلق شعره الذي هو أظهر الشروط على النذير فمنع الله عنه تلك الهبة. ولا ريب في أن شمشون لما صار إلى تلك الحال من الآلام والضعف والذل ندم على ما ارتكب من الخطايا وتاب إلى الله فتاب عليه عندما نبت شعره وردّ إليه القوة غير العادية فليس نبت شعره علة عَود قوّته.

بَعْدَ أَنْ حُلِقَ أو كما حُلق على ما يحتمله الأصل العبراني أي عاد شعره نذير كما كان.

انتقام شمشون وموته ع 23 إلى 31

23 «وَأَمَّا أَقْطَابُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ فَٱجْتَمَعُوا لِيَذْبَحُوا ذَبِيحَةً عَظِيمَةً لِدَاجُونَ إِلٰهِهِمْ وَيَفْرَحُوا، وَقَالُوا: قَدْ دَفَعَ إِلٰهُنَا لِيَدِنَا شَمْشُونَ عَدُوَّنَا».

أَقْطَابُ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ القطب حديدة على الطبق الأسفل من الرحى يدور عليها الطبق الأعلى استُعيرت لسيد القوم الذي يدور عليه أمرهم وغلب هذا المجاز حتى صار حقيقة عرفيّة. والمراد بهؤلاء الأقطاب أمراء مدن الفلسطينيين الخمس (انظر تفسير ع 5).

فَٱجْتَمَعُوا لِيَذْبَحُوا ذَبِيحَةً لابتهاجهم بفوزهم وتمكنهم من أسر شمشون وشكراً لإلههم.

لِدَاجُونَ إِلٰهِهِمْ كان داجون إله الفلسطينيين وتمثاله مركّب من إنسان وسمكة فنصفه الأعلى النصف الأعلى من الإنسان والأسفل بدن سمكة.

قَدْ دَفَعَ إِلٰهُنَا لِيَدِنَا شَمْشُونَ عَدُوَّنَا ليس داجون دفعه ليدهم بل الرب لأن الرب فارق شمشون عندما ترك شمشون الرب وأخبر دليلة عن سرّ قوته العظيمة فصار كأحد الناس.

24 «وَلَمَّا رَآهُ ٱلشَّعْبُ مَجَّدُوا إِلٰهَهُمْ، لأَنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ دَفَعَ إِلٰهُنَا لِيَدِنَا عَدُوَّنَا ٱلَّذِي خَرَّبَ أَرْضَنَا وَكَثَّرَ قَتْلاَنَا».

دانيال 5: 4

وَلَمَّا رَآهُ ٱلشَّعْبُ مَجَّدُوا إِلٰهَهُمْ لما رأى الفلسطينيون شمشون القوي الذي كانت رهبته في قلب كل منهم عبداً ذليلاً أعمى بين أيديهم نسبوا ذلك إلى قوة إلههم الباطل ومجدوه على قدرته العظمى وإحسانه إليهم على ما توهموا. ولكن الله الإله الحق أبطل اعتقادهم سريعاً بما فعله بواسطة شمشون كما يأتي.

25 «وَكَانَ لَمَّا طَابَتْ قُلُوبُهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: ٱدْعُوا شَمْشُونَ لِيَلْعَبَ لَنَا. فَدَعَوْا شَمْشُونَ مِنْ بَيْتِ ٱلسِّجْنِ، فَلَعِبَ أَمَامَهُمْ. وَأَوْقَفُوهُ بَيْنَ ٱلأَعْمِدَةِ».

ص 9: 27

وَكَانَ لَمَّا طَابَتْ قُلُوبُهُمْ أي انبسطت وانشرحت (انظر راعوث 3: 7 و1صموئيل 25: 36 وأستير 1: 10).

لِيَلْعَبَ لَنَا والأصل العبراني يحتمل ليرقص لنا. أي ليُلعِبوه وليُرقصوه كما يُلعبون ويرقصون القرد والدب ليضحكوا عليه ويسروا بإذلاله وإهانته ورميه بسهام الهزء واللعنات.

فَلَعِبَ أو فرقص.

بَيْنَ ٱلأَعْمِدَةِ التي في هيكل داجون. ولا ريب أن شمشون كان قد عرف أن في بيت داجون أو هيكله أعمدة إما بالمشاهدة قبل أن قُلعت عيناه وإما بالسمع قبل ذلك وبعده.

26 «فَقَالَ شَمْشُونُ لِلْغُلاَمِ ٱلْمَاسِكِ بِيَدِهِ: دَعْنِي أَلْمِسِ ٱلأَعْمِدَةَ ٱلَّتِي ٱلْبَيْتُ قَائِمٌ عَلَيْهَا لأَسْتَنِدَ عَلَيْهَا».

فَقَالَ شَمْشُونُ لِلْغُلاَمِ ٱلْمَاسِكِ بِيَدِهِ لأنه مقلوع العينين ولعل ذلك الغلام كان يلعبه ويرقصه لشدة إذلاله حتى صار الصبي يلعب بذلك الرجل الجبار ويضحك الناس منه.

دَعْنِي أَلْمِسِ ٱلأَعْمِدَةَ الخ قال له ذلك على سبيل الاسترحام إيماء إلى أنه تعب وأمل منه أن يسمح له بذلك ليستريح قليلاً ويظهر مما يأتي أنه سمح له بذلك.

27 «وَكَانَ ٱلْبَيْتُ مَمْلُوءاً رِجَالاً وَنِسَاءً، وَكَانَ هُنَاكَ جَمِيعُ أَقْطَابِ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ، وَعَلَى ٱلسَّطْحِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ رَجُلٍ وَٱمْرَأَةٍ يَنْظُرُونَ لُعْبَ شَمْشُونَ».

تثنية 22: 8

وَكَانَ ٱلْبَيْتُ مَمْلُوءاً رِجَالاً وَنِسَاءً للتفرج على شمشون والضحك عليه والشماتة به وزيادة تعذيبه.

وَعَلَى ٱلسَّطْحِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ رَجُلٍ وَٱمْرَأَةٍ كان ذلك الهيكل واسعاً جداً ولهذا كان على الأعمدة. والظاهر أنه كان في وسطه عمودان أقوى سائر الأعمدة وكانا متقاربين حتى يمكن الإنسان أن يمسك أحدهما بإحدى يديه والآخر بالأخرى. وكان سطحه كسائر سطوح المشرق يومئذ أي مسطحاً مستوياً ولم يزل أكثر سطوح بيوت سورية وفلسطين كذلك. والناس إلى الآن يصعدون إلى السطوح للتفرّج. وكانوا قد سمعوا نبأه وقُصّت عليهم قصصاً غريبة عن أعماله العجيبة فرغب كل إنسان في أن يراه. ولعلهم كانوا على سطح الرواق وكان ذلك الرواق كما وصفنا الهيكل.

لُعْبَ شَمْشُونَ أو رقص شمشون. كانوا يلعبونه ويرقصونه خارجاً كما ألعبوه وأرقصوه داخلاً فرآه الذين في الخارج والذين في الداخل.

28 «فَدَعَا شَمْشُونُ ٱلرَّبَّ: يَا سَيِّدِي ٱلرَّبَّ، ٱذْكُرْنِي وَشَدِّدْنِي يَا اَللّٰهُ هٰذِهِ ٱلْمَرَّةَ فَقَطْ فَأَنْتَقِمَ نَقْمَةً وَاحِدَةً عَنْ عَيْنَيَّ مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ».

إرميا 15: 15

فَدَعَا شَمْشُونُ ٱلرَّبَّ عرف شمشون أن قوته كانت من الرب لا من بنيته الطبيعية وعرف أنها فارقته لإثمه وجهله فتاب إلى الله توبة حقّة وسأل الله التقوية.

ٱذْكُرْنِي استعار النسيان لإهمال الله إياه على آثامه فقال «اذكرني».

وَشَدِّدْنِي يَا اَللّٰهُ أي قوّني عرف ضعفه فطلب القوة. وذكر في العبارة الأولى من هذه الآية وهذه العبارة الواجب الأزلي بأسمائه الثلاثة السيد والرب والله وهي ترجمة أسمائه الثلاثة في العبرانية أدوناي ويهوه وإلوهيم.

هٰذِهِ ٱلْمَرَّةَ فَقَطْ يريد أنه لا يحق له أن يسأل الله القوة بعد ارتكابه ما أذهبها عنه ولكن رجا من كرمه أن يقوّيه وقتاً قصيراً. ولا يخفى ما في كلامه من الخشوع والتواضع أمام الله.

فَأَنْتَقِمَ نَقْمَةً وَاحِدَةً عَنْ عَيْنَيَّ مِنَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ أي فانتقم منهم انتقامة على قلعهم عينيّ.

29، 30 «29 وَقَبَضَ شَمْشُونُ عَلَى ٱلْعَمُودَيْنِ ٱلْمُتَوَسِّطَيْنِ ٱللَّذَيْنِ كَانَ ٱلْبَيْتُ قَائِماً عَلَيْهِمَا، وَٱسْتَنَدَ عَلَيْهِمَا ٱلْوَاحِدِ بِيَمِينِهِ وَٱلآخَرِ بِيَسَارِهِ. 30 وَقَالَ شَمْشُونُ: لِتَمُتْ نَفْسِي مَعَ ٱلْفِلِسْطِينِيِّينَ. وَٱنْحَنَى بِقُوَّةٍ فَسَقَطَ ٱلْبَيْتُ عَلَى ٱلأَقْطَابِ وَعَلَى كُلِّ ٱلشَّعْبِ ٱلَّذِي فِيهِ، فَكَانَ ٱلْمَوْتٰى ٱلَّذِينَ أَمَاتَهُمْ فِي مَوْتِهِ أَكْثَرَ مِنَ ٱلَّذِينَ أَمَاتَهُمْ فِي حَيَاتِهِ».

وَقَبَضَ شَمْشُونُ عَلَى ٱلْعَمُودَيْنِ ٱلْمُتَوَسِّطَيْنِ... وَٱنْحَنَى بِقُوَّةٍ كان معظم الثقل على هذين العمودين فانحنى لدفعهما.

فَكَانَ ٱلْمَوْتٰى ٱلَّذِينَ أَمَاتَهُمْ فِي مَوْتِهِ أي في وقت موته.

أَكْثَرَ مِنَ ٱلَّذِينَ أَمَاتَهُمْ فِي حَيَاتِهِ أي مدة حياته في حرب الفلسطينيين. وهذه انتقامة تعدل ألوفاً من الانتقامات وفوق ذلك سقط هيكل داجون إلههم الذي افتخروا به واتكلوا عليه فظهر لهم أن إله إسرائيل الإله الحقيقي وحده هو أعظم من إلههم.

31 «فَنَزَلَ إِخْوَتُهُ وَكُلُّ بَيْتِ أَبِيهِ وَحَمَلُوهُ وَصَعِدُوا بِهِ وَدَفَنُوهُ بَيْنَ صُرْعَةَ وَأَشْتَأُولَ فِي قَبْرِ مَنُوحَ أَبِيهِ. وَهُوَ قَضَى لإِسْرَائِيلَ عِشْرِينَ سَنَةً».

ص 13: 25

فَنَزَلَ إِخْوَتُهُ وَكُلُّ بَيْتِ أَبِيهِ لم يذكر الكاتب هنا والدَي شمشون منوح وامرأته فالظاهر أنهما كانا قد ماتا وذلك خير لهما من أن يشاهدا عاقبة شمشون المحزنة. والمراد «بإخوته» أبناء عشيرته «وبيت أبيه» أقرباءه من أسرة أبيه لأن المرجّح أن امرأة منوح العاقر لم تلد غيره ولم يمنعهم الفلسطينيون من أخذ جثته لأن الذين نزلوا ليأخذوها كانوا كثيرين فخافوا منهم ولا سيما بعد سقوط هيكلهم وموت عظماءهم.

والقصة تدلنا على أن شمشون مات تائباً إلى الله نادماً على معاصيه وجهله. وإنه لم يقصد الانتحار إنما قصد الانتقام من أعداء الله على قلعهم عينيه حتى منعوه من الانتصار لربه وشعبه ولكن الحال اقتضت أن يُقتل مع الأعداء فمثله مثل من استبسل في الحرب العادلة فقُتل فيها وهو يعلم أنه لا بد من أن يُقتل. فإن كاتب رسالة العبرانيين عدّه مع «ٱلَّذِينَ بِٱلإِيمَانِ قَهَرُوا مَمَالِكَ، صَنَعُوا بِرّاً، نَالُوا مَوَاعِيدَ» (عبرانيين 11: 32 و33).

وَدَفَنُوهُ بَيْنَ صُرْعَةَ وَأَشْتَأُولَ صُرعة مدينة في ساحل يهوذا وهي مولد شمشون واسمها اليوم سورة وهي غربي القدس وعلى غاية ثلاثة عشر ميلاً منها وقد مرّ الكلام عليها. وأشتأول مدينة في سهول يهوذا قرب صرعة.

فوائد

  1. إن المواهب بلا نعمة لا تنفع صاحبها وقد تكون علّة لهلاكه.

  2. لا يليق بقاضي إسرائيل أن يكون في وادي سورق ولا يليق وجود المسيحي في الحانات والمواخير (ع 4).

  3. يتسلط الرجل على المرأة بالقوة وتتسلط المرأة على الرجل بالمحبة وتسلُّطها أعظم من تسلطه فعليه أن يطلب امرأة فاضلة.

  4. من يتكل على نفسه يستخفّ بالتجارب ويقترب إليها ويسقط فيها وأما الحكيم فيعرف ضعفه ويهرب من التجارب حالما يراها.

  5. إن خطيئة واحدة وإن ظهرت صغيرة تعبّر عما في قلب الإنسان من العصيان على الله (ع 17).

  6. نتعلم من القول «فارقه الرب» (1) إن من يفارقه الرب يفارقه كل خير وبركة وقوة (2) إن الرب لا يفارق الإنسان ما لم يكن الإنسان قد فارقه أولاً. (3) إن الإنسان لا يشعر بعظمة خسارته إذا فارقه الرب لأن هذه الخسارة إنما هي روحية وغير محسوسة (ع 20).

  7. إن عقاب الخطيئة الانحطاط والهوان (ع 21)

  8. إن الرب كثير الرحمة فيرجع إلى من يرجع إليه (ع 28).

  9. إن الذين يتكلون على الرب أقوى من الذين يتكلون على الأوثان (ع 30).

اَلأَصْحَاحُ ٱلسَّابِعُ عَشَرَ

محتويات هذا الأصحاح:

  1. سرقة ميخا شواقل الفضة من أمه واعترافه بها (ع 1 و2).

  2. تقديسها الفضة للرب لكن لعبادته بواسطة تمثال (ع 3 - 5).

  3. بيان أنه لم يكن يومئذ ملك لإسرائيل (ع 6).

  4. مجيء لاوي من بيت لحم إلى بيت ميخا واتخاذ ميخا إياه كاهناً (ع 7 - 13).

إن النبأين في الأصحاحات الخمسة الباقية من سفر القضاة منقطع أحدهما عن الآخر وعن الأصحاحات التي قبلها. وهما في الحقيقة ملحقان لبيان الانحطاط الديني والأدبي في نظام المدنيّة غير الملكي. وكان ذلك في عهد متأخر عن عهد أكثر ما مر من حوادث هذا السفر على أن كلا الأمرين كان قبل ملك شاول (ص 17: 6 و18: 1). وكان فينحاس بن العازار حياً زمان حدوث ثانيهما (ص 20: 28). ولا ريب في أن النبأين كليهما كانا قبل قضاء شمشون. ورأى يوسيفوس أن حوادث النبأين كانت بعد موت يشوع ولكن في زمن ليس ببعيد عنه وقبل زمان كثيرين من القضاة.

سرقة ميخا والعبادة للوثن ع 1 إلى 6

1 «وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ جَبَلِ أَفْرَايِمَ ٱسْمُهُ مِيخَا».

وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ جَبَلِ أَفْرَايِمَ ٱسْمُهُ مِيخَا ما يأتي حدث قبل زمان شمشون كما تقدم. و«الواو» قبل «كان» واو الاستئناف لا واو العطف. والمراد «بجبل أفرايم» أرض أفرام الجبلية (انظر ص 2: 9 والتفسير). و«ميخا» في العبرانية «ميخيهو» أي «مَن مثل الرب» ثم تصرف به للاختصار فقيل ميخا. وقال علماء اليهود إن اسمه صار ميخا بدلاً من ميخيهو لأنه عبد الأوثان. وكيف كان الأمر فإن اسمه الأول يدل على أن أبويه كانا تقيين موحدين يعتقدان أن الله لا مثل له. ولكن أمه زاغت عن نور التوحيد فأشركت بعبادتها الله بواسطة الأصنام إذ جعلت الأوثان أمثالاً لله وهو يخالف معنى اسم ابنها وهو «مَن مثل الرب». والآية لم تعيّن موضعه من أرض أفرايم ولكن في التلمود إنه كان في جرب وهي موضع غير بعيد عن شيلوه.

2 «فَقَالَ لأُمِّهِ: إِنَّ ٱلأَلْفَ وَٱلْمِئَةَ شَاقِلِ ٱلْفِضَّةِ ٱلَّتِي أُخِذَتْ مِنْكِ، وَأَنْتِ لَعَنْتِ وَقُلْتِ أَيْضاً فِي أُذُنَيَّ. هُوَذَا ٱلْفِضَّةُ مَعِي. أَنَا أَخَذْتُهَا. فَقَالَتْ أُمُّهُ: مُبَارَكٌ أَنْتَ مِنَ ٱلرَّبِّ يَا ٱبْنِي».

تكوين 14: 19 وراعوث 3: 10

فَقَالَ لأُمِّهِ ظاهر الآية تحمل على الظن إن أباه كان قد مات وإن أمه كانت غنية.

ٱلأَلْفَ وَٱلْمِئَةَ شَاقِلِ ٱلْفِضَّةِ وذلك ما قيمته نحو 136 ليرة إنكليزية. وهو قدر ما أعطاه كل من أقطاب الفلسطينيين دليلة خليلة شمشون (ص 16: 5).

ٱلَّتِي أُخِذَتْ مِنْكِ أي سُرقت. قال ذلك بناء على أنها لم تعرف السارق.

وَأَنْتِ لَعَنْتِ وَقُلْتِ أَيْضاً فِي أُذُنَيَّ أي لعنت السارق وأنا أسمع ذلك. الظاهر أنها جمعت من ظنت أنهم سارقوها أو أن أحدهم سرقها ولعنت السارق إذا لم يرد المسروق. فخاف ابنها من أن تقع عليه لعنة الله فرد الفضة إلى أمه فهو مع أنه سرق وأشرك بالله بعبادة الوثن خشي وقوع لعنة الله عليه فالدّين وإن خالطه شيء من الضلال خيرٌ من الكفر.

أَنَا أَخَذْتُهَا أي سرقتها. فلا تتهمي غيري بها فأسألك أن تغفري لي.

مُبَارَكٌ أَنْتَ مِنَ ٱلرَّبِّ يَا ٱبْنِي سألت الله أن يباركه لأنه تاب واعترف لها بحقها وسُرّت بذلك كثيراً على ما سيأتي. ولعلها سُرّت بدفع اللعنة عن ولدها لا بوجدان الفضة لأنها لم تأخذها.

3 «فَرَدَّ ٱلأَلْفَ وَٱلْمِئَةَ شَاقِلِ ٱلْفِضَّةِ لأُمِّهِ. فَقَالَتْ أُمُّهُ: تَقْدِيساً قَدَّسْتُ ٱلْفِضَّةَ لِلرَّبِّ مِنْ يَدِي لابْنِي لِعَمَلِ تِمْثَالٍ مَنْحُوتٍ وَتِمْثَالٍ مَسْبُوكٍ. فَٱلآنَ أَرُدُّهَا لَكَ».

خروج 20: 4 و 23 ولاويين 19: 4

تَقْدِيساً قَدَّسْتُ ٱلْفِضَّةَ لِلرَّبِّ وقفتها للرب. أي قدستها الآن شكراً لله على رجوعها إليّ.

مِنْ يَدِي لابْنِي قال أحد المفسرين «أي لمنفعة ابني». وكان من مقتضى الظاهر أن تقول «من يدي لك» لكنها وضعت الظاهر وهو ابني مكان المضمر وهو الكاف في لك تصريحاً بحبها الوالدي له ورضاها عنه.

لِعَمَلِ تِمْثَالٍ مَنْحُوتٍ وَتِمْثَالٍ مَسْبُوكٍ هذه تقوى جهلية فإنها لجهلها شريعة الله رأت بمقتضى تخيلاتها أنه يرضي الرب أن تصنع له تمثالين أحدهما منحوتاً والآخر مسبوكاً أي مصبوباً من ذوب الفضة وكلاهما نهت الشريعة عنه. ففي الوصية الثانية «لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتاً وَلاَ صُورَةً الخ» (خروج 20: 4). وفي سفر التثنية «مَلْعُونٌ ٱلإِنْسَانُ ٱلَّذِي يَصْنَعُ تِمْثَالاً مَنْحُوتاً أَوْ مَسْبُوكاً الخ» (تثنية 27: 15). والأرجح أن التمثال كان تمثال عجل كالذي صنعه هارون (خروج 32: 4) ويربعام (1ملوك 12: 28). وكان المقصود عبادة الرب بواسطة التمثال وليس عبادة نفس التمثال.

فَٱلآنَ أَرُدُّهَا لَكَ أي صنعت التمثال ليرضى الرب عنه فيغفر خطيئة سرقة الفضة. أو صنعت التمثال ليكون في بيت ميخا فيسجد للرب بواسطته وهو الأرجح.

4 «فَرَدَّ ٱلْفِضَّةَ، لأُمِّهِ فَأَخَذَتْ أُمُّهُ مِئَتَيْ شَاقِلِ فِضَّةٍ وَأَعْطَتْهَا لِلصَّائِغِ فَعَمِلَهَا تِمْثَالاً مَنْحُوتاً وَتِمْثَالاً مَسْبُوكاً. وَكَانَا فِي بَيْتِ مِيخَا».

إشعياء 46: 6

فَرَدَّ ٱلْفِضَّةَ لأُمِّهِ تكرار ما ذُكر في (ع 3).

فَأَخَذَتْ أُمُّهُ مِئَتَيْ شَاقِلِ فِضَّةٍ أي ما يقرب من خُمس الشواقل التي رُدت إليها. وما بقي من الشواقل وهو 900 شاقل أبقتها للنفقة على ما تقتضيه العبادة لأنها وقفتها كلها للرب من أجل ابنها. ولعلها عملت أقل مما وعدت أي قدست للرب الكل ولكن بعد التأمل أعطت مئتي شاقل فقط.

وَأَعْطَتْهَا لِلصَّائِغِ وهذا عمل الجهل الذي أوضحه إشعياء بقوله «وَٱلْفِضَّةَ بِٱلْمِيزَانِ يَزِنُونَ. يَسْتَأْجِرُونَ صَائِغاً لِيَصْنَعَهَا إِلٰهاً. يَخُرُّونَ وَيَسْجُدُونَ» له (إشعياء 46: 6). لا ريب في أن قلب أم ميخا كان يهوى ذلك ويشعر بأنه عمل مرضي للرب الذي تحبه ولكنها جهلت طريق إرضاء من تحب فتحّصل من ذلك أن علة الضلال الجهل والهوى.

فِي بَيْتِ مِيخَا أي في بيت الآلهة أو بيت الله الذي في مسكنه لأن أمه قدّست الشواقل للرب لنفع ميخا ابنها.

5 «وَكَانَ لِلرَّجُلِ مِيخَا بَيْتٌ لِلآلِهَةِ، فَعَمِلَ أَفُوداً وَتَرَافِيمَ وَمَلأَ يَدَ وَاحِدٍ مِنْ بَنِيهِ فَصَارَ لَهُ كَاهِناً».

ص 8: 27 تكوين 31: 19 و30 وهوشع 3: 4 خروج 29: 9 و1ملوك 13: 33

وَكَانَ لِلرَّجُلِ مِيخَا بَيْتٌ لِلآلِهَةِ وفي العبرانية «بيت لإلوهيم» وإلوهيم جمع إله ويطلق على الله فالأصل يحتمل أنه كان له بيت لله أو بيت للآلهة. ومن النبإ يتبين أن ميخا كان يؤمن بالله الإله الحق لكنه كان يعبده بواسطة التماثيل المنحوتة والمسبوكة. وعلى ما في متن ترجمتنا أن الكاتب سمى تلك التماثيل آلهة فأشار بذلك إلى أن ميخا خالف الوصية القائلة «لا يكن لك آلهة أخرى أمامي» فهو خالف الوصيتين الأولى والثانية من الوصايا العشر. وهذا يدلنا على ما كان عليه الإسرائيليون يومئذ من الجهل العظيم فكانوا يغارون لله لكن ليس حسب المعرفة.

فَعَمِلَ أَفُوداً الأفود ثوب من ثياب الكهنة وكان من نسيج الكتان ولعله كان هنا كأفود الحبر الأعظم مطرزاً بألوان مختلفة مؤلفاً من قطعة للظهر وأخرى للصدر تتصلان بأعلى الكتفين بحجرين من الجزع على كل منهما ستة من أسماء الأسباط الاثني عشر. وعلى القطعة المقدمة الصدرة وكان مشدود الوسط بزنار من ذهب واسمانجوني وقرمز وبوص مبروم. ويسمى هذا الأفود بالرداء أيضاً وقد استوفى وصفه في سفر الخروج (انظر خروج 28: 6 - 34 والتفسير). وربما كان هذا الأفود على غير ما في الكتاب لأنه لا يبعد عمن غيّر العبادة أن يغيّر الرداء لما صار إليه من الجهل.

وَتَرَافِيمَ هي تماثيل أشورية كانت تُعبد في البيوت. وكانت هذه التماثيل تُعبد أو يُعبد الله بواسطتها في بيوت الإسرائيليين إلى عصر الإصلاح الذي أتاه يوشيا الملك (2ملوك 23: 84). وكانت الترافيم على ما يرجّح على صورة الإنسان أخذها العبرانيون عن الكلدانيين.

وَمَلأَ يَدَ وَاحِدٍ مِنْ بَنِيهِ فَصَارَ لَهُ كَاهِناً ومعنى القول الأصلي أنه جعل في يد ابنه تقدمات يقدمها للرب. والمعنى المجازي أنه خصصه أو سامه كاهناً (خروج 29: 9 و22 - 25). وكانت هذه الرسامة من ميخا وليس من الرب فكانت رسامة فاسدة (عدد 3: 10 و1ملوك 13: 33 و2ملوك 17: 32). وهذا يدلك على الجهل العظيم. فإن الكاهن لا يكون بمقتضى الشريعة إلا من سبط لاوي وابنه أفرايمي لأنه هو من جبل أفرايم (ع 1) وإنه يجب أن يُمسح وهذا غير ممسوح.

6 «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ. كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ».

ص 18: 1 و 19: 1 و21: 25 وتثنية 33: 5 تثنية 12: 8

وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ الخ قال بعضهم هذا مقدمة لاعتداء إسرائيل على شريعة الله دون خوف وعلّة لذلك فإنه لم يكن فيهم ملك ولا قاض أو متسلط ليصلح أمورهم ويدربهم لإرجاع العبادة الحقة والاتفاق عليها ويأمرهم بإتلاف الأوثان. وليس من يعاقب على التعدي على شريعة السماء أو يرد ميخا وأمثاله عن ضلالهم ولا من شيء يقف أمام طوفان الشر الذي ذهب بعقائد إسرائيل. على أنه ربما أُريد بالملك هنا المتسلط سواء أكان ملكاً كشاول وداود أو قاضياً كأحد القضاة في هذا السفر. ويحتمل القول أنه لم يكن الإسرائيليون قد أقاموا عليهم ملكاً على ما مرّ من قول موسى «فَإِنْ قُلْتَ: أَجْعَلُ عَلَيَّ مَلِكاً كَجَمِيعِ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ حَوْلِي. فَإِنَّكَ تَجْعَلُ عَلَيْكَ مَلِكاً ٱلَّذِي يَخْتَارُهُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ. مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِكَ تَجْعَلُ عَلَيْكَ مَلِكاً» (تثنية 17: 14 و15). وقد تكرر هذا القول في هذا السفر (انظر ص 18: 1 و19: 1 و21: 25) دلالة على سهولة الضلال والتصرف في الدين والآداب بحسب المشيئة البشرية. فكان الإسرائيليون يمزجون العقائد والأعمال الكتابية بالعقائد والأعمال الوثنية وهم يظنون أنهم يُرضون الله. وهذا كان يصدر من الأتقياء كأم ميخا فماذا كان حال غير الأتقياء من الإسرائيليين.

اتخاذ ميخا الغلام اللاوي كاهناً ع 7 إلى 13

7 «وَكَانَ غُلاَمٌ مِنْ بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا مِنْ عَشِيرَةِ يَهُوذَا، وَهُوَ لاَوِيٌّ مُتَغَرِّبٌ هُنَاكَ».

يشوع 19: 15 وص 19: 1 وراعوث 1: 1 و2 وميخا 5: 2 ومتّى 2: 1 و5 و6

وَكَانَ غُلاَمٌ (انظر تفسير ص 18: 30).

مِنْ بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا معنى بيت لحم بيت الخبز وهي قرية صغيرة على أكمة في جنوبي أورشليم وعلى غاية ستة أميال منها تحيط بها تلال تكسوها الأشجار وفيها ينابيع عذبة اشتهرت بأنها مدفن راحيل ومسكن نعمي وبوعز وراعوث ومولد داود ومولد يسوع المسيح. وأُضيفت إلى يهوذا تمييزاً لها عن بيت لحم زبولون (يشوع 16: 15) وهي غربي الناصرة وعلى غاية ستة أميال منها.

مِنْ عَشِيرَةِ يَهُوذَا أي لاوي متغرب بين تلك العشيرة كما سيأتي ولعله كان كاهناً في تلك العشيرة. على أن هذه العبارة خلا منها بعض النسخ ولم تكن في الترجمة السريانية ولا في بعض نسخ السبعينية.

وَهُوَ لاَوِيٌّ مُتَغَرِّبٌ هُنَاكَ أي من سبط لاوي نزيل في بيت لحم. وكان من أسرة جرشوم كا سيأتي في ص 18 (قابل هذا بما في ص 19: 1). وسبق الظن أنه كان كاهناً لبعض بني يهوذا في بيت لحم. فإن اللاويين لما حدث من التشويش في الدين الإسرائيلي أُهمل كثيرون منهم حتى صاروا في شديد الحاجة إلى أسباب المعاش فانتشروا بين الإسرائيليين وعرضوا أنفسهم لخدمتهم الدينية ليحصلوا على ذلك. وكان مثل هذا الإهمال في أيام الاضطراب في عصر نحميا فاضطروا إلى العمل في الحقول (نحميا 13: 10)

8، 9 «8 فَذَهَبَ ٱلرَّجُلُ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ مِنْ بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا لِيَتَغَرَّبَ حَيْثُمَا ٱتَّفَقَ. فَأَتَى إِلَى جَبَلِ أَفْرَايِمَ إِلَى بَيْتِ مِيخَا وَهُوَ آخِذٌ فِي طَرِيقِهِ. 9 فَقَالَ لَهُ مِيخَا: مِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ؟ فَقَالَ لَهُ: أَنَا لاَوِيٌّ مِنْ بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا، وَأَنَا ذَاهِبٌ لأَتَغَرَّبَ حَيْثُمَا ٱتَّفَقَ».

فَذَهَبَ... مِنْ بَيْتِ لَحْمِ لعل الناس أهملوه فيها لفتورهم في الدين وضلالهم وجهلهم.

10 «فَقَالَ لَهُ مِيخَا: أَقِمْ عِنْدِي وَكُنْ لِي أَباً وَكَاهِناً، وَأَنَا أُعْطِيكَ عَشَرَةَ شَوَاقِلِ فِضَّةٍ فِي ٱلسَّنَةِ، وَحُلَّةَ ثِيَابٍ، وَقُوتَكَ. فَذَهَبَ مَعَهُ ٱللاَّوِيُّ».

ص 18: 19 تكوين 45: 8 وأيوب 29: 16

أَقِمْ عِنْدِي وَكُنْ لِي أَباً وَكَاهِناً لم يدعه أباً لكبر سنه لأنه كان غلاماً بل لأنه كان مرشداً ودليلاً وواعظاً يعتني بنفسه وحاجاته الروحية كما يعتني الأب بولده. ولم يزل بعض الفرق المسيحية يدعون قسوسهم بالآباء. فميخا مع جهله باتخاذ أحد بنيه كاهناً بقي في ذاكرته أن الكهنة من اللاويين حسب الشريعة فإذا وُجدوا لزم الاستغناء بهم عن غيرهم.

عَشَرَةَ شَوَاقِلِ فِضَّةٍ فِي ٱلسَّنَةِ الخ وذلك أجرة زهيدة جداً وهي نحو 185 غرشاً ولكنها كانت تكفيه إذ حلّة الثياب والطعام من ميخا. فانظر إلى حفيد موسى إلى أي حال صار لوهن إيمان الإسرائيليين يومئذ.

11 «فَرَضِيَ ٱللاَّوِيُّ بِٱلإِقَامَةِ مَعَ ٱلرَّجُلِ، وَكَانَ ٱلْغُلاَمُ لَهُ كَأَحَدِ بَنِيهِ».

فَرَضِيَ ٱللاَّوِيُّ بِٱلإِقَامَةِ لما لقيه من الإكرام ومناسبة الأجرة في تلك الأيام وما كان عليه الغلام من الحاجة.

وَكَانَ ٱلْغُلاَمُ لَهُ كَأَحَدِ بَنِيهِ اتخذ ميخا الغلام ليكون له أباً فكان له ابناً. فإنه اتخذه أباً في الروحيات لكهانته وعامله معاملة ابن بعنايته به لحداثته.

12 «فَمَلأَ مِيخَا يَدَ ٱللاَّوِيِّ، وَكَانَ ٱلْغُلاَمُ لَهُ كَاهِناً، وَكَانَ فِي بَيْتِ مِيخَا».

ع 5 ص 18: 30

فَمَلأَ مِيخَا يَدَ ٱللاَّوِيِّ بالتقدمات والعطايا (انظر ع 5).

وَكَانَ فِي بَيْتِ مِيخَا أي سكن وعاش معه في بيته وهذا قرينة على أن المراد بكون الغلام له ابناً حسن عنايته به. فكان يطعمه ويسقيه ويكسوه ويأويه ويهب له علاوة على الأجرة المعيّنة.

13 «فَقَالَ مِيخَا: ٱلآنَ عَلِمْتُ أَنَّ ٱلرَّبَّ يُحْسِنُ إِلَيَّ لأَنَّهُ صَارَ لِيَ ٱللاَّوِيُّ كَاهِناً».

فَقَالَ مِيخَا: ٱلآنَ عَلِمْتُ أَنَّ ٱلرَّبَّ يُحْسِنُ إِلَيَّ هذا يدل على أن ميخا أتى ما أتاه من صوغ التماثيل وتعيين الكاهن لمجرد الإخلاص فلم يكن خطأه لعناده بل لجهله. فإن الشريعة الموسوية كانت يومئذ غير مرعية وكاد كلها يُنسى فأشرك الإسرائيليون بالله وهم يحسبون أنهم يرضونها بما أشركوا لجهلهم شريعته بمخالطتهم الأمم وتركهم تلاوة كتابه.

لأَنَّهُ صَارَ لِيَ ٱللاَّوِيُّ كَاهِناً في هذا شيء من بقية شريعة الله فإن الكاهن في الشريعة لا يكون إلا من اللاويين. ولكن كان ميخا يجيز أن يكون من غيرهم لاتخاذه أحد أبنائه وكاهناً قبل اللاوي ولكنه كان يعتقد أن كون الكاهن لاوياً أحسن وأسر لله.

فوائد

  1. إن ترك تلاوة كلمة الله ومعاشرة الضالين يقودان إلى الضلال (ع 1 - 6).

  2. إن الوثنيين إما مشركون يعبدون الله بواسطة المخلوقات وإما لا يعرفون الله ويعبدون غيره من الآلهة الباطلة إما من الموجودات كالشمس والقمر وإما من المتخيلات التي لا وجود لها في الطبيعة (ع 5 و13).

  3. إن الضلال ولو عن إخلاص يوجب العقاب على الضال إذا كان للضال وسيلة إلى الهدى من العقل والطبيعة والكتاب (ع 2 - 4).

  4. قد يكون اعتبار زائد لفروض الدين في أيام انحطاط جوهره (ع 3).

  5. إن ما يبقى في الذهن من آثار الحق قد ينفع ويمنع الإنسان من التعدي (ع 2 و3).

  6. من يعمل ما يحسن في عينيه يتقدم إلى ما يسوء في عيني الرب.

  7. إن الفقر تجربة يصعب مقاومتها ولو على خدم الدين (ع 7 - 11).

  8. إن الجاهل يحسب سيئات نفسه إحساناً من الرب (ع 13).

  9. إن خادم الدين يجب أن يُكرّم ويُحترم وعلى هذا اتفاق كل الملل والنحل (ع 10).

اَلأَصْحَاحُ ٱلثَّامِنُ عَشَرَ

محتويات هذا الأصحاح:

  1. إرسال الدانيين خمسة جواسيس (ع 1 و2).

  2. تشجيع اللاوي الشاب لهم (ع 3 - 6).

  3. رجوعهم بأنباء سرّت الدانيين (ع 7 - 10).

  4. مهاجرة ست مئة من الدانيين (ع 11 - 13).

  5. أخذ الدانيين آلهة ميخا (ع 14 - 18).

  6. تسليم اللاوي بالذهاب معهم (ع 19 - 21).

  7. خيبة ميخا من رد آلهته (ع 22 - 26).

  8. استيلاؤهم على لايش (ع 27 - 29).

  9. عبادتهم الوثن (ع 30 و31).

إرسال الدانيين جواسيس واستعدادهم للمهاجرة ع 1 إلى 10

1 «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ كَانَ سِبْطُ ٱلدَّانِيِّينَ يَطْلُبُ لَهُ مُلْكاً لِلسُّكْنَى لأَنَّهُ إِلَى ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ لَمْ يَقَعْ لَهُ نَصِيبٌ فِي وَسَطِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ».

ص 17: 6 و21: 25 يشوع 19: 47

وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي أيام ميخا ومهاجرة الدانيين وذلك بعد قليل من وفاة يشوع (يشوع 19: 47).

لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ ليحافظ على الشريعة (انظر تفسير ص 17: 6). وكُررت هذه العبارة لتأكيد البيان أن ذلك علة التشويش في العبادة.

كَانَ سِبْطُ ٱلدَّانِيِّينَ أي الفرقة المعهودة للناس من الدانيين فإن السبط كما أُطلق على نسل من أُضيف إليه من أبناء يعقوب أُطلق على فرقة منه (انظر ص 20: 12).

يَطْلُبُ لَهُ مُلْكاً لِلسُّكْنَى لأن ما حصلوا عليه من سهم لم يكن كافياً لكل سبط دان (يشوع 19: 47).

إِلَى ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ الذي هاجر فيه بعضهم.

لَمْ يَقَعْ لَهُ نَصِيبٌ كامل وهو السهم الذي عُيّن لذلك السبط فإنهم استولوا على بعضه ولم يستولوا عليه كله لمقاومة الفلسطينيين والأموريين لهم. ولهذا جاء في الترجمة الإنكليزية «لم يكن لهم نصيب» وقد بُيّن نصيبهم كله في سفر يشوع (انظر يشوع 19: 40 - 46). فكأن الكاتب أنزل ما حصلوا عليه من نصيبهم منزلة العدم لضيقه بهم. أو أراد أنه لم يكن لهم ما كان لغيرهم من الأسباط الذين حصلوا على الأرض الكافية. فإنهم كانوا في البرية أقوى أسباط إسرائيل ما عدا يهوذا وكان عددهم 64400 (عدد 26: 42 و43).

2 «فَأَرْسَلَ بَنُو دَانَ مِنْ عَشِيرَتِهِمْ خَمْسَةَ رِجَالٍ مِنْهُمْ، رِجَالاً بَنِي بَأْسٍ مِنْ صُرْعَةَ وَمِنْ أَشْتَأُولَ لِتَجَسُّسِ ٱلأَرْضِ وَفَحْصِهَا. وَقَالُوا لَهُمُ: ٱذْهَبُوا ٱفْحَصُوا ٱلأَرْضَ. فَجَاءُوا إِلَى جَبَلِ أَفْرَايِمَ إِلَى بَيْتِ مِيخَا وَبَاتُوا هُنَاكَ».

ص 13: 25 عدد 13: 17 ويشوع 2: 1 ص 17: 1

خَمْسَةَ رِجَالٍ مِنْهُمْ أو من أطرافهم أي أطراف أرضهم أو تخومها (انظر حاشية الكتاب ذي الشواهد).

رِجَالاً بَنِي بَأْسٍ عطف بيان «لرجال» في العبارة قبلها باعتبار نعتهم «ببني بأس» أي بأصحاب قوة أو شدة. وكثر استعمال الابن بمعنى صاحب أو مالك فيقال للعلماء أبناء العلم وللفضلاء أبناء الفضل وللمسافرين أبناء السبيل وهلم جراً.

مِنْ صُرْعَةَ وَمِنْ أَشْتَأُولَ (انظر تفسير ص 13: 2 و25).

لِتَجَسُّسِ ٱلأَرْضِ وَفَحْصِهَا كما فعل موسى ويشوع (عدد 13: 17 ويشوع 2: 1). و«تجسس الأرض» البحث عن أحوالها وأحوال سكانها خفية و«فحصها» عطف تفسير على «تجسسها».

جَبَلِ أَفْرَايِمَ أي أرض أفرايم الجبلية. وكان أسهل عليهم لو أتوا من طريق أخرى لكنها كانت تمر في أرض لا يزال فيها سكانها الأصليون.

إِلَى بَيْتِ مِيخَا أي إلى منزل الضيوف من ذلك البيت (ع 3).

3 «وَبَيْنَمَا هُمْ عِنْدَ بَيْتِ مِيخَا عَرَفُوا صَوْتَ ٱلْغُلاَمِ ٱللاَّوِيِّ، فَمَالُوا إِلَى هُنَاكَ وَسَأَلُوهُ: مَنْ جَاءَ بِكَ إِلَى هُنَا، وَمَاذَا أَنْتَ عَامِلٌ فِي هٰذَا ٱلْمَكَانِ، وَمَا لَكَ هُنَا؟».

عِنْدَ بَيْتِ مِيخَا أي في المنزل الذي هو قسم منه عند مدخله.

عَرَفُوا صَوْتَ ٱلْغُلاَمِ ٱللاَّوِيِّ عدل كاتبه عن بيان العلة التي عرفوا بها صوته حق المعرفة. إن الغلام يهوناثان (ع 30) كان من سكان بيت لحم والمخالطة بين سبطي دان ويهوذا كانت يومئذ كثيرة. فيحتمل أنهم عرفوه عياناً وألفوا صوته. ويمكن أنهم عرفوا صوته من لهجة خاصة والأرجح أنهم سمعوه وهو يخدم في المعبد فعرفوا أنه كاهنٌ. أو لعل هذا الغلام مرّ بالدانيين وهو يجول من مكان إلى آخر.

فَمَالُوا إِلَى هُنَاكَ أي إلى حيث كان الغلام ولعله كان في المعبد أي بيت الآلهة.

مَنْ جَاءَ بِكَ إِلَى هُنَا إذا رأينا من نعرفه في بلاد غريبة فكثيراً ما نقول له من جاء بك أو ما جاء بك إلى هنا فإنهم رأوه في أرض أفرايم ولم يتوقعوا أن يروا لاوياً هناك.

وَمَاذَا أَنْتَ عَامِلٌ فِي هٰذَا ٱلْمَكَانِ وهذا من سؤالات المعارف المعهودة عندنا فإذا رأينا من نعرفه في بلاد أجنبية فكثيراً ما نسأله عن عمله فيها.

وَمَا لَكَ هُنَا من الراتب أو الأجرة.

4 «فَقَالَ لَهُمْ: كَذَا وَكَذَا عَمِلَ لِي مِيخَا، وَقَدِ ٱسْتَأْجَرَنِي فَصِرْتُ لَهُ كَاهِناً».

ص 17: 10

كَذَا وَكَذَا أي عشرة شواقل فضة في السنة وحلّة ثياب والطعام والشراب والمأوى (ص 17: 10).

5 «فَقَالُوا لَهُ: ٱسْأَلْ إِذَنْ مِنَ ٱللّٰهِ لِنَعْلَمَ هَلْ يَنْجَحُ طَرِيقُنَا ٱلَّذِي نَحْنُ سَائِرُونَ فِيهِ؟».

1ملوك 22: 5 وإشعياء 30: 1 وهوشع 4: 12 ص 17: 5 وع 14

ٱسْأَلْ إِذَنْ مِنَ ٱللّٰهِ لم يكن بين الإسرائيليين يومئذ نبي فكانوا يسألون الكهنة ولما رأوا الغلام كاهناً أنزلوه منزلة فينحاس وسألوه أن يسأل الله لهم ليعلموا مآل أمرهم من قصدهم الاستيلاء على أرض يسكنونها. ولعلهم حين مالوا إلى المعبد رأوا هنالك الأفود الكهنوتي الثمين فزادهم ذلك ثقة بأن الغلام يستطيع أن يسأل الله كالحبر العظيم.

6 «فَقَالَ لَهُمُ ٱلْكَاهِنُ: ٱذْهَبُوا بِسَلاَمٍ. أَمَامَ ٱلرَّبِّ طَرِيقُكُمُ ٱلَّذِي تَسِيرُونَ فِيهِ».

1ملوك 22: 6

ٱذْهَبُوا بِسَلاَمٍ أي اذهبوا مصحوبين بالسلامة.

أَمَامَ ٱلرَّبِّ طَرِيقُكُمُ أي إن الله حارس لطريقكم وحافظكم فيها أو هو المعتني بكم في سفركم (أمثال 5: 21). إن جواب يهوناثان كان شبيهاً بكلام الوحي مع أنه لم يكن واثقاً بما قال. ولعل كلامه كان دعاء لهم في صورة الخبر فتوهموه أنباء.

7 «فَذَهَبَ ٱلْخَمْسَةُ ٱلرِّجَالِ وَجَاءُوا إِلَى لاَيِشَ. وَرَأَوُا ٱلشَّعْبَ ٱلَّذِينَ فِيهَا سَاكِنِينَ بِطُمَأْنِينَةٍ كَعَادَةِ ٱلصَّيْدُونِيِّينَ مُسْتَرِيحِينَ مُطْمَئِنِّينَ، وَلَيْسَ فِي ٱلأَرْضِ مُؤْذٍ بِأَمْرٍ وَارِثٌ رِيَاسَةً، وَهُمْ بَعِيدُونَ عَنِ ٱلصَّيْدُونِيِّينَ وَلَيْسَ لَهُمْ أَمْرٌ مَعَ إِنْسَانٍ».

يشوع 19: 47 ع 27 و28

لاَيِشَ هي لشم (انظر تفسير يشوع 19: 47) واسمها اليوم تل القاضي في سفح جبل الشيخ أو كانت قريبة منها (انظر تفسير تكوين 14: 14) وهي على غاية أربعة أميال من بانياس وهي في الشمال الأقصى من فلسطين (ص 20: 1) وهي على تل مستدير تحيط به الأشجار. وسُميت في سفر التكوين دان (تكوين 14: 14) وسيأتي الكلام على ذلك في (تفسير ع 29). وسُميت في سفر يشوع «لشم» (يشوع 19: 47).

وَرَأَوُا ٱلشَّعْبَ ٱلَّذِينَ فِيهَا... بِطُمَأْنِينَةٍ كَعَادَةِ ٱلصَّيْدُونِيِّينَ كان سكان لايش جماعة من مهاجري الصيدونيين. وكان الصيدونيون أرباب تجارة والتجار أميل الناس إلى السلم خوفاً على تجارتهم من الموانع فكانوا يبذلون جهدهم في مسالمة جميع الناس ولهذا كانوا مطمئنين.

وَلَيْسَ فِي ٱلأَرْضِ مُؤْذٍ بِأَمْرٍ وَارِثٌ رِيَاسَةً أي لم يكن عليهم ملك يرث الرئاسة عن سلفه فيؤذي الناس بالمكوس أو يريد الحرب لتوسيع ملكه. والظاهر أن حكم المدينة كاد جمهورياً تنوب عنهم لجنة يرأسها أحد المتقدمين منهم علماً واختباراً.

وَهُمْ بَعِيدُونَ عَنِ ٱلصَّيْدُونِيِّينَ الذين هم منهم فلا ناصر لهم في أرض غربتهم وكان بينهم وبين صيداء سفر يوم كامل.

وَلَيْسَ لَهُمْ أَمْرٌ مَعَ إِنْسَانٍ أي وليس بينهم وبين إنسان محالفة فينجيهم.

8 «وَجَاءُوا إِلَى إِخْوَتِهِمْ إِلَى صُرْعَةَ وَأَشْتَأُولَ. فَقَالَ لَهُمْ إِخْوَتُهُمْ: مَا أَنْتُمْ؟».

ع 2 وراعوث 3: 16

إِلَى إِخْوَتِهِمْ أهل سبطهم الذين أرسلوهم.

إِلَى صُرْعَةَ وَأَشْتَأُولَ (ع 2).

مَا أَنْتُمْ أي ما عندكم من الأخبار وهو كقولك لمن تريد أن تستخبره ما وراءك. وجيء بهذا التركيب للمبالغة لأن الاستفهام عن الذات يستلزم الاستفهام عن كل ما يتعلق بها فكأنهم قالوا لهم اكشفوا لنا كل أموركم التي حصلتم عليها بالتجسس (راعوث 3: 16).

9 «فَقَالُوا: قُومُوا نَصْعَدْ إِلَيْهِمْ، لأَنَّنَا رَأَيْنَا ٱلأَرْضَ وَهُوَذَا هِيَ جَيِّدَةٌ جِدّاً وَأَنْتُمْ سَاكِتُونَ. لاَ تَتَكَاسَلُوا عَنِ ٱلذَّهَابِ لِتَدْخُلُوا وَتَمْلِكُوا ٱلأَرْضَ».

عدد 13: 30 ويشوع 2: 23 و24 و1ملوك 22: 3

قُومُوا نَصْعَدْ إِلَيْهِمْ أي الذي عرفناه يحملنا على أن نقول لكم قوموا الخ.

وَأَنْتُمْ سَاكِتُونَ أي لا تأتون عملاً. وعبّر عن ذلك بالسكوت لأن تارك العمل لا تسمع له حركة فيشبه الساكت في أنه لا يُسمع صوته. ومثل هذا قول ملك إسرائيل لعبيده «أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَامُوتَ جِلْعَادَ لَنَا وَنَحْنُ سَاكِتُونَ عَنْ أَخْذِهَا مِنْ يَدِ مَلِكِ أَرَامَ» (1ملوك 22: 3).

لاَ تَتَكَاسَلُوا عَنِ ٱلذَّهَابِ لئلا يحدث ما يمنع من أخذها أو لئلا تفوت الفرصة. والكسل آفة العمل وخيبة الأمل.

10 «عِنْدَ مَجِيئِكُمْ تَأْتُونَ إِلَى شَعْبٍ مُطْمَئِنٍّ، وَٱلأَرْضُ وَاسِعَةُ ٱلطَّرَفَيْنِ. إِنَّ ٱللّٰهَ قَدْ دَفَعَهَا لِيَدِكُمْ. مَكَانٌ لَيْسَ فِيهِ عَوَزٌ لِشَيْءٍ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ».

ع 7 و27 تكوين 34: 21 تثنية 8: 9

تَأْتُونَ إِلَى شَعْبٍ مُطْمَئِنٍّ لعدم تعرّضه للمقاومة فهم لا يقاومونكم وإن قاوموكم لا يقدرون عليكم.

وَٱلأَرْضُ وَاسِعَةُ ٱلطَّرَفَيْنِ أي بعيد ما بين طرفيها عرضاً وطولاً والمعنى أنها واسعة المساحة تكفيهم وتزيد على الكفاية.

إِنَّ ٱللّٰهَ قَدْ دَفَعَهَا لِيَدِكُمْ عبّر عما يحدث بالمستقبل بحدوثه في الماضي للتحقيق والتوكيد. أي إن الاستيلاء عليها محقق فيجب الإسراع إلى أخذها ولعلهم بنوا ذلك على نبوءة يهوناثان لأنه كاهن.

مَكَانٌ لَيْسَ فِيهِ عَوَزٌ لِشَيْءٍ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ أي مما يحتاج إليه الإنسان من كل ما في الدنيا ليعيش عيشة راضية من خصب الأرض وطيب الهواء ووفرة الماء النقي وجمال المنظر وما أشبه ذلك.

أخذ الدانيين معبودات ميخا ع 11 إلى 21

11 «فَٱرْتَحَلَ مِنْ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَةِ ٱلدَّانِيِّينَ مِنْ صُرْعَةَ وَمِنْ أَشْتَأُولَ سِتُّ مِئَةِ رَجُلٍ مُتَسَلِّحِينَ بِعُدَّةِ ٱلْحَرْبِ».

فَٱرْتَحَلَ أي هاجر. فإنهم لم يذهبوا لمجرد الحرب والاستيلاء بدليل أنهم أخذوا نساءهم وأولادهم وأمتعتهم معهم (ع 21).

سِتُّ مِئَةِ رَجُلٍ ومعهم النساء والأولاد فلا يبعد عن الظن أن كل هؤلاء النفوس نحو ثلاثة آلاف وهم جزء قليل من الدانيين فإن عددهم بمقتضى الإحصاء الأخير 64400 (عدد 26: 42 و43).

12 «وَصَعِدُوا وَحَلُّوا فِي قَرْيَةِ يَعَارِيمَ فِي يَهُوذَا. (لِذٰلِكَ دَعُوا ذٰلِكَ ٱلْمَكَانَ «مَحَلَّةَ دَانٍ» إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ. هُوَذَا هِيَ وَرَاءَ قَرْيَةِ يَعَارِيمَ)».

يشوع 15: 60 ص 13: 25

فِي قَرْيَةِ يَعَارِيمَ أي في جوار قرية يعاريم كما يدل آخر الآية ومعنى قرية يعاريم قرية الآجام رأى بعضهم أنها ما تعرف اليوم بقرية العنب وهي تبعد عن أورشليم تسعة أميال أو سفر ثلاث ساعات على طريق يافا واسمها الأصلي بعلة وقرية بعل (يشوع 15: 9 و60). ورأى آخر أنها ما تُعرف اليوم بعرمة وهي قرية شرقي عين شمس وعلى غاية أربعة أميال منها.

مَحَلَّةَ دَانٍ (انظر تفسير ص 13: 25). وتسمية هذا المكان من حلولهم فيه تدل على أنهم لبثوا فيه زماناً. والمكان قريب من صرعة وأشتأول ولعلهم بقوا فيه زماناً ليكملوا استعدادهم لرحلتهم.

وَرَاءَ قَرْيَةِ يَعَارِيمَ أي غربيها وهذا دليل واضح على أن المحلة لم تكن في قرية يعاريم نفسها (انظر تفسير العبارة الأولى من هذه الآية). وكان معنى «الوراء» هنا الغرب لأن الشرق يُعبّر عنه بالأمام (أو قدام) في الكتاب كأنه تجاه الوجه لشروق الشمس منه ومعرفة سائر الجهات بمعرفته فإن الإنسان إذا قابل الشرق كان الغرب وراءه والجنوب أو التيمن على يمينه والشمال على شماله.

13 «وَعَبَرُوا مِنْ هُنَاكَ إِلَى جَبَلِ أَفْرَايِمَ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ مِيخَا».

ع 2

بَيْتِ مِيخَا ذُكر بيت ميخا في الآية الثانية من هذا الأصحاح. ورجّح بعض المفسرين أنه هنا اسم قرية سُميّت بذلك من المقدس الجديد الذي أنشأه ميخا هناك.

14 «فَقَالَ ٱلْخَمْسَةُ ٱلرِّجَالِ ٱلَّذِينَ ذَهَبُوا لِتَجَسُّسِ أَرْضِ لاَيِشَ لإِخْوَتِهِمْ: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ فِي هٰذِهِ ٱلْبُيُوتِ أَفُوداً وَتَرَافِيمَ وَتِمْثَالاً مَنْحُوتاً وَتِمْثَالاً مَسْبُوكاً. فَٱلآنَ ٱعْلَمُوا مَا تَفْعَلُونَ».

1صموئيل 14: 28 ص 17: 5

فَقَالَ ٱلْخَمْسَةُ ٱلرِّجَالِ كان قول هؤلاء الرجال جواباً لسؤال مقدّر سألهم إياه بعض أولئك المهاجرين لأن أولئك الرجال هم الجواسيس الذين علموا أحوال الأرض وذلك السؤال المقدّر قولهم ما هذا المكان أو نحو ذلك.

فِي هٰذِهِ ٱلْبُيُوتِ هذا يجمل على ظن أن بيت ميخا قرية تشتمل على عدة بيوت (انظر تفسير ع 13) ويحقق غنى أمه.

فَٱلآنَ ٱعْلَمُوا مَا تَفْعَلُونَ الظاهر أن الجواسيس اعتبروا ما في بيت ميخا من التماثيل والأفود والترافيم والهيكل أموراً مقدسة فضلاً عن كونها ثمينة فنبهوا القوم على وجوب احترامها واغتنامها للتبرك بها وأخذها للحصول على بركتها دائماً. واعتداؤهم على غيرهم وسلب ماله يدل على الفوضوية في تلك الأيام وعدم اعتبار الشريعة الإلهية والتمسك بالخرافات.

15 «فَمَالُوا إِلَى هُنَاكَ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ ٱلْغُلاَمِ ٱللاَّوِيِّ، بَيْتِ مِيخَا، وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ».

تكوين 43: 27 و1صموئيل 17: 22

فَمَالُوا إِلَى هُنَاكَ أي إلى القرية التي هي بيت ميخا أو إلى البيوت المذكورة في (ع 14) والذين مالوا الجواسيس.

إِلَى بَيْتِ ٱلْغُلاَمِ ٱللاَّوِيِّ كاهن ميخا وكانوا قد عرفوه قبلاً (ع 3).

وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ لما سبق لهم من معرفته. ومعنى «سلّموا عليه» هنا سألوه عن سلامته.

16 «وَٱلسِّتُّ مِئَةِ ٱلرَّجُلِ ٱلْمُتَسَلِّحُونَ بِعُدَّتِهِمْ لِلْحَرْبِ وَاقِفُونَ عِنْدَ مَدْخَلِ ٱلْبَابِ (هٰؤُلاَءِ مِنْ بَنِي دَانٍ)».

ع 11

وَاقِفُونَ عِنْدَ مَدْخَلِ ٱلْبَابِ الظاهر أن المكان يضيق بهم فلم يدخلوا لا لأنهم وقفوا هناك تأدباً لأنه لا معرفة لهم بالكاهن فإنهم كانوا قد خلعوا كل أثواب الحياء والإنسانية على ما ظهر من أعمالهم.

هٰؤُلاَءِ مِنْ بَنِي دَانٍ ذكر أنهم من الدانيين في (ع 11) وذكر هنا أنهم من بني دان لتذكير القارئ. وكان الجواسيس دعوا الكاهن ليعرّفوه بهم وقصدهم أن يشغلوه بمشاهدة أولئك ومكالمتهم ليتمكنوا من سرقة ما في المعبد بلا معارض أو عائق. لأنهم خشوا من أن ينبه ميخا ورجاله فيعيقوهم عن ذلك.

17 «فَصَعِدَ ٱلْخَمْسَةُ ٱلرِّجَالِ ٱلَّذِينَ ذَهَبُوا لِتَجَسُّسِ ٱلأَرْضِ وَدَخَلُوا إِلَى هُنَاكَ، وَأَخَذُوا ٱلتِّمْثَالَ ٱلْمَنْحُوتَ وَٱلأَفُودَ وَٱلتَّرَافِيمَ وَٱلتِّمْثَالَ ٱلْمَسْبُوكَ وَٱلْكَاهِنُ وَاقِفٌ عِنْدَ مَدْخَلِ ٱلْبَابِ مَعَ ٱلسِّتِّ مِئَةِ ٱلرَّجُلِ ٱلْمُتَسَلِّحِينَ بِعُدَّةِ ٱلْحَرْبِ».

ع 2 و14 ص 17: 4 و5

فَصَعِدَ ٱلْخَمْسَةُ ٱلرِّجَالِ إلى الطبقة العليا من البيت لأن المعبد كان فيها.

وَٱلْكَاهِنُ وَاقِفٌ عِنْدَ مَدْخَلِ ٱلْبَابِ مشغولاً بمشاهدتهم ومخاطبتهم. ولعله كان مسروراً بهم.

وَدَخَلُوا... وَأَخَذُوا الخ بلا معارض ولا عائق فإن الكاهن كان مشغولاً كما ذُكر فلم ينبه ميخا ورجاله.

18 «وَهٰؤُلاَءِ دَخَلُوا بَيْتَ مِيخَا وَأَخَذُوا ٱلتِّمْثَالَ ٱلْمَنْحُوتَ وَٱلأَفُودَ وَٱلتَّرَافِيمَ وَٱلتِّمْثَالَ ٱلْمَسْبُوكَ. فَقَالَ لَهُمُ ٱلْكَاهِنُ: مَاذَا تَفْعَلُونَ؟».

وَهٰؤُلاَءِ أي الرجال الخمسة.

دَخَلُوا... وَأَخَذُوا أعاد الكلام للتقرير مع زيادة التفصيل وهو اعتراض الكاهن. وكان الذي أخذوه أربعة أشياء (1) التمثال المنحوت (2) الأفود (3) الترافيم (4) التمثال المسبوك أي المصنوع من الفضة المذابة بصبها في قالب على أن هذا في أخذه شيء من الشك (انظر ع 20 والتفسير).

مَاذَا تَفْعَلُونَ هذا تنبيه على خطإهم وإنه لا يجوز لهم وهو جسارة على الله حسب اعتقادهم يومئذ لأن ما أخذوه كان وسيلة إلى عبادته تعالى وهو يستلزم منعهم عن ذلك.

19 «فَقَالُوا لَهُ: ٱخْرَسْ! ضَعْ يَدَكَ عَلَى فَمِكَ وَٱذْهَبْ مَعَنَا وَكُنْ لَنَا أَباً وَكَاهِناً. أَهُوَ خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَكُونَ كَاهِناً لِبَيْتِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، أَمْ أَنْ تَكُونَ كَاهِناً لِسِبْطٍ وَلِعَشِيرَةٍ فِي إِسْرَائِيلَ؟».

أيوب 21: 5 و29: 9 و40: 4 وأمثال 30: 32 وميخا 7: 16 ص 17: 10

فَقَالُوا لَهُ: ٱخْرَسْ أي اسكت سكوت الأخرس أو كن كالأخرس في عدم التكلم.

ضَعْ يَدَكَ عَلَى فَمِكَ كأنها غلق له لكي لا تخرج منه كلمة. ولا تزال هاتان العبارتان مستعملتين في كلامنا اليوم وهما من التعابير القديمة وجاءت الثانية في عدة مواضع من الكتاب (أيوب 21: 5 و29: 9 و40: 4 وأمثال 30: 32 وميخا 7: 16).

وَكُنْ لَنَا أَباً وَكَاهِناً (انظر تفسير ص 17: 10).

لِسِبْطٍ وَلِعَشِيرَةٍ العطف هنا للتفسير وهو أن المراد بالسبط العشيرة أي القبيلة وهي هنا قسم من سبط دان. وقد تقدم ما يفيد أن السبط من معانيه حصة من جماعة يجمعهم أبٌ قديم كما يطلق على الجماعة كلها (انظر تفسير ع 1 وص 20: 12).

20 «فَطَابَ قَلْبُ ٱلْكَاهِنِ، وَأَخَذَ ٱلأَفُودَ وَٱلتَّرَافِيمَ وَٱلتِّمْثَالَ ٱلْمَنْحُوتَ وَدَخَلَ فِي وَسَطِ ٱلشَّعْبِ».

فَطَابَ قَلْبُ ٱلْكَاهِنِ أي انبسط وانشرح والمراد أنه سُرّ بما قيل له. وكان ذلك بمنزلة رشوة له لكي لا يخبر أحداً بسرقة معبد ميخا. ومن خالف شريعة الله ونسيها وصار كاهن لمشرك يسره أن يكون كاهناً لعشيرة تغنيه وتشبع أطماعه.

وَأَخَذَ ٱلأَفُودَ وَٱلتَّرَافِيمَ وَٱلتِّمْثَالَ ٱلْمَنْحُوتَ وحمل المسبوك غيره لثقله أو تركه فإنه لم يُذكر.

وَدَخَلَ فِي وَسَطِ ٱلشَّعْبِ فكانوا عليه حرساً وله سترة فكأنهم ستروا شخصه ولم يستطيعوا أن يستروا خزيه.

21 «ثُمَّ ٱنْصَرَفُوا وَذَهَبُوا وَوَضَعُوا ٱلأَطْفَالَ وَٱلْمَاشِيَةَ وَمَتَاعَهُمْ قُدَّامَهُمْ».

وَوَضَعُوا ٱلأَطْفَالَ الخ وهذا دليل على أنهم كانوا مهاجرين لا مجرد جنود حرب يقصدون الفتح. وذكر الأطفال يستلزم وجود النساء فاستغنى الكاتب به عنه ذكرهن للاختصار. وإنما وضعوا ذلك قدامهم للحراسة والوقاية ودفع العدو عنهم عند أول نظرهم إياه.

22 «وَلَمَّا ٱبْتَعَدُوا عَنْ بَيْتِ مِيخَا ٱجْتَمَعَ ٱلرِّجَالُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْبُيُوتِ ٱلَّتِي عِنْدَ بَيْتِ مِيخَا وَأَدْرَكُوا بَنِي دَانَ».

وَلَمَّا ٱبْتَعَدُوا عَنْ بَيْتِ مِيخَا لأنه مرّ وقت قبل أن يعلم ميخا بسرقة معبده وشغل وقتاً بإنباء رجاله وأهل القرية بما جرى.

ٱجْتَمَعَ ٱلرِّجَالُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْبُيُوتِ ٱلَّتِي عِنْدَ بَيْتِ مِيخَا هذا دليل على أن بيت ميخا قرية سُميت باسم معبد ميخا. ومعنى بيت ميخا في عبارة الكتاب هنا معبده أو مسكنه.

وَأَدْرَكُوا بَنِي دَانَ لأنهم كانوا كلهم رجالاً مسرعين لإدراك السارقين. وكان سير بني دان بطيئاً بالنسبة إليهم وكانوا ينزلون لإراحة الأطفال والنساء والبهائم على اختلاف أنواعها.

23 «وَصَاحُوا إِلَى بَنِي دَانٍ فَٱلْتَفَتُوا، وَقَالُوا لِمِيخَا: مَا لَكَ صَرَخْتَ؟».

مَا لَكَ صَرَخْتَ أي ما الذي أصابك فحملك على الصراخ. ويحتمل المترجم بصرخت «اجتمعت» ولهذا جاء في الترجمة الإنكليزية «ما لك حتى أتيت بمثل هذه الجماعة». والمقصود بالكلام الازدراء لأن ميخا وتابعيه ليسوا قادرين على مقاومة ست مئة محارب. فكان هنا «دَانُ حَيَّةً عَلَى ٱلطَّرِيقِ، أُفْعُواناً عَلَى ٱلسَّبِيلِ» (تكوين 49: 17 قابل بهذا ما في تثنية 33: 22).

24 «فَقَالَ: آلِهَتِي ٱلَّتِي عَمِلْتُ قَدْ أَخَذْتُمُوهَا مَعَ ٱلْكَاهِنِ وَذَهَبْتُمْ، فَمَاذَا لِي بَعْدُ؟ وَمَا هٰذَا تَقُولُونَ لِي: مَا لَكَ؟».

آلِهَتِي ٱلَّتِي عَمِلْتُ لم يستنكف أن يدعو المنحوت والترافيم آلهة له ( تكوين 31: 30). هذا وقد اعترف بأنه هو عملها فاتخذ ما عمله هو بمقام عمل العالمين. وسماها آلهة لأنه عبد الله بواسطتها فكان كل منها كنائب عن الله أو ممثلاً لله الذي لا مثيل له.

فَمَاذَا لِي بَعْدُ أي لم يبقَ لي شيء من رضا الله أو سائل العبادة لله. قال ذلك لجهله أن الله روح وبالروح يُعبد.

وَمَا هٰذَا تَقُولُونَ لِي: مَا لَكَ أي وما قولكم لي بعد ذلك ما لك أي أنتم تعلمون ما لي وتتجاهلون.

25 «فَقَالَ لَهُ بَنُو دَانٍ: لاَ تُسَمِّعْ صَوْتَكَ بَيْنَنَا لِئَلاَّ يَقَعَ بِكُمْ رِجَالٌ أَنْفُسُهُمْ مُرَّةٌ فَتَنْزِعَ نَفْسَكَ وَأَنْفُسَ بَيْتِكَ».

2صموئيل 17: 8

يَقَعَ بِكُمْ أي يقاتلكم قتالاً شديداً. يقال وقع بالأعداء أي بالغ في قتالهم.

أَنْفُسُهُمْ مُرَّةٌ (انظر 2صموئيل 17: 8) «رجاله (أي رجال داود) جبابرة وأنفسهم مرة كدبّة مثكل في الحقل» وكان بنو دان بلا لطف وإنسانية لم يسمعوا الكلام وتهددوه بالقتل والحرب فكان الحكم في الأمر للقوة وليس للعقل.

فَتَنْزِعَ نَفْسَكَ أي تكون سبباً لنزع نفسك من جسدك. أي إن لم تكفّ قتلناك.

وَأَنْفُسَ بَيْتِكَ أي أهل القرية المسماة ببيتك ورجالك الذين في مسكنك.

26 «وَسَارَ بَنُو دَانَ فِي طَرِيقِهِمْ. وَلَمَّا رَأَى مِيخَا أَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنْهُ ٱنْصَرَفَ وَرَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ».

وَسَارَ بَنُو دَانَ فِي طَرِيقِهِمْ غير مكترثين لميخا ومن معه.

أَشَدُّ مِنْهُ أي أقوى لكثرة رجالهم مرارة أنفسهم وشجاعتهم.

الاستيلاء على لايش ع 27 إلى 31

27 «وَأَمَّا هُمْ فَأَخَذُوا مَا صَنَعَ مِيخَا، وَٱلْكَاهِنَ ٱلَّذِي كَانَ لَهُ، وَجَاءُوا إِلَى لاَيِشَ إِلَى شَعْبٍ مُسْتَرِيحٍ مُطْمَئِنٍّ، وَضَرَبُوهُمْ بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ وَأَحْرَقُوا ٱلْمَدِينَةَ بِٱلنَّارِ».

تثنية 33: 22 وع 7 و10 يشوع 19: 47

لاَيِشَ (انظر تفسير ع 7).

وَضَرَبُوهُمْ بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ (انظر يشوع 19: 47). ضربوهم وهم مطمئنون مسالمون ولا يخفى ما في ذلك من التوحش والقساوة والظلم.

وَأَحْرَقُوا ٱلْمَدِينَةَ بِٱلنَّارِ ولعلهم حرّموا لايش كما حُرّمت أريحا (يشوع 6: 24 و8: 8 و11: 13 وقضاة 1: 8 و25).

28 «وَلَمْ يَكُنْ مَنْ يُنْقِذُ لأَنَّهَا بَعِيدَةٌ عَنْ صَيْدُونَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَمْرٌ مَعَ إِنْسَانٍ، وَهِيَ فِي ٱلْوَادِي ٱلَّذِي لِبَيْتِ رَحُوبَ. فَبَنُوا ٱلْمَدِينَةَ وَسَكَنُوا بِهَا».

ع 7 عدد 13: 21 و2صموئيل 10: 6

وَلَمْ يَكُنْ مَنْ يُنْقِذُ لأَنَّهَا بَعِيدَةٌ عَنْ صَيْدُونَ كان سكان لايش من الصيدونيين (ع 7) فهم غرباء فيها لا ناصر لهم ممن حولهم من الأمم والصيدونيون الذين هم منهم بعيدون عنهم (انظر تفسير ع 7).

وَهِيَ فِي ٱلْوَادِي ٱلَّذِي لِبَيْتِ رَحُوبَ عند حضيض أوطإ جبل لبنان قرب ينابيع الأردن (عدد 13: 21) شمالي بحيرة الحولة ويظن بعضهم بأنها بانياس.

فَبَنُوا ٱلْمَدِينَةَ أي بعد ما أحرقتها النار.

وَسَكَنُوا بِهَا كانت مهجراً للصيدونيين فصارت مهجراً للدانيين.

29 «وَدَعَوُا ٱسْمَ ٱلْمَدِينَةِ «دَانَ» بِٱسْمِ دَانٍ أَبِيهِمِ ٱلَّذِي وُلِدَ لإِسْرَائِيلَ. وَلٰكِنَّ ٱسْمَ ٱلْمَدِينَةِ أَوَّلاً «لاَيِشُ».

يشوع 19: 47 تكوين 14: 14 وص 20: 1 و1ملوك 12: 29 و30 و15: 20

وَدَعَوُا ٱسْمَ ٱلْمَدِينَةِ «دَانَ» بِٱسْمِ دَانٍ أَبِيهِمِ لتبقى شاهدة على أنهم دانيون من سبط دان وإسرائيليون من شعب الرب وخوفاً من أن يضيعوا نسبتهم إلى إله إسرائيل على مرور الزمان وبُعدهم عن سائر إخوتهم الدانيين. فانظر ما أحرصهم على نسبتهم إلى شعب الرب وأكثر تهاونهم بعبادته على سنن شريعته كأن النسبة إلى شعب الله تغني عن القيام بشريعته. وذهب بعضهم أن احد الملهمين بدل اسمها في سفر التكوين (تكوين 14: 14) بعد أن سماها الدانيون دان. على أنه يحتمل أن التي كانت في زمن إبراهيم غير لايش وإنها مجهولة الموقع اليوم لتقادم العهد عليها أو على خرابها.

وَلٰكِنَّ ٱسْمَ ٱلْمَدِينَةِ أَوَّلاً لاَيِشُ وقد مر بك إنها هي المعروفة اليوم بتل القاضي أو إنها كانت على القرب منها وقد ذهب بعضهم إلى أنها بانياس.

30 «وَأَقَامَ بَنُو دَانٍ لأَنْفُسِهِمِ ٱلتِّمْثَالَ ٱلْمَنْحُوتَ. وَكَانَ يَهُونَاثَانُ بْنُ جَرْشُومَ بْنُ مَنَسَّى هُوَ وَبَنُوهُ كَهَنَةً لِسِبْطِ ٱلدَّانِيِّينَ إِلَى يَوْمِ سَبْيِ ٱلأَرْضِ».

ص 13: 1 و1صموئيل 4: 2 و3 و10 و11 و2ملوك 15: 29 ومزمور 78: 60 و61

وَأَقَامَ بَنُو دَانٍ لأَنْفُسِهِمِ ٱلتِّمْثَالَ ٱلْمَنْحُوتَ وهذا يقوّي القول بأنهم لم يأخذوا التمثال المسبوك. ولم يُذكر على أي صورة كان هذا التمثال. قال بعضهم أنه كان على صورة العجل فيكون المتواتر من أمره هو ما حمل يربعام على تجديد عبادة الله بواسطة العجل. فإنه عمل عجلي ذهب وضع أحدهما في بيت إيل والآخر في دان (1ملوك 12: 28 - 30) ولكنهم كانوا يعبدون الله بواسطته لا يعبدونه دون الله فهم مشركون لا كافرون أو معطلون وما ساقهم إلى ذلك إلا الجهل والهوى وهما والدا الضلال. وكان سبط دان ساقطاً حتى أنه حُذف من بين الأسباط في سفر (1أيام ص 1 - ص 12) وفي سفر الرؤيا (رؤيا 7: 4 - 8).

وَكَانَ يَهُونَاثَانُ هو الغلام اللاوي الذي اتخذه ميخا كاهناً وأخذه الدانيون مع التمثال المنحوت والترافيم وجاءوا به إلى لايش التي أحرقوها وضربوا أهلها بحد السف ثم بنوها وأقاموا معبد المنحوت فيها.

بْنُ جَرْشُومَ إثبات ألِف ابن هنا تدل على أنه بدل من يهوناثان أو عطف بيان لا نعت.

مَنَسَّى قُرئ في بعض النسخ والترجوم والفلغاتا والسريانية وبعض نسخ السبعينية. والمرجّح عند جمهور العلماء أن القراءة الصحيحة موسى. وإن منسى غلط قديم وقع من النساخ لأن الفرق في العبرانية بين الأمم موسى والاسم منسى حرف واحد وهو حرف النون. وإذ كانت هذه القراءة قديمة مما وُجد في النسخة التي تُرجم كتابنا عنها أبقاها المترجم الأمين كما هي ونبّه في الحاشية على أنه قُرئ في بعض النسخ موسى. وعلى هذه القراءة يكون يهوناثان حفيد موسى الكليم. ورأى بعض المحققين أن النون في بعض النسخ المخطوطة موضوعة فوق الحرفين الأولين من الاسم دلالة على شك الناسخ في أن يكون ذلك الشرير حفيد موسى فأدخلها بعض النساخ كأنها حرف نُسي فكُتب فوق الحرفين لأنه لم يبق له موضع بينهما.

لِسِبْطِ ٱلدَّانِيِّينَ أي للجماعة الساكنة في دان.

إِلَى يَوْمِ سَبْيِ ٱلأَرْضِ أي إلى يوم سبي الفلسطينيون الإسرائيليين واستولوا على أرضهم (ص 13: 1) لا يوم سبي بابل. فإن حادثة ميخا كانت قبل سبي الفلسطينيين كما علمت مما مرّ ويؤيد ذلك ما في الآية الآتية من أنهم استمروا على عبادتهم هذه مدة الزمان الذي كان فيه بيت الله في شيلوه.

31 «وَوَضَعُوا لأَنْفُسِهِمْ تِمْثَالَ مِيخَا ٱلْمَنْحُوتَ ٱلَّذِي عَمِلَهُ، كُلَّ ٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي كَانَ فِيهَا بَيْتُ ٱللّٰهِ فِي شِيلُوهَ».

يشوع 18: 1 وص 19: 18 و21: 12

كُلَّ ٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي كَانَ فِيهَا بَيْتُ ٱللّٰهِ فِي شِيلُوهَ المراد «ببيت الله» هنا قبة الشهادة والتابوت. «وشيلوه» مدينة بين بيت إيل وشكيم المعروفتين اليوم ببتين ونابلس وتُسمى اليوم سيلون وهي شمالي أورشليم وعلى غاية سبعة عشر ميلاً منها. وانتهت أيام إقامة بيت الله في شيلوه لما أُخذ التابوت منها إلى بلاد الفلسطينيين (1صموئيل 4: 11) والتابوت لم يرجع إلى شيلوه.

فوائد

  1. على كل إنسان أن يسأل أولاً عما يحسن في عيني الرب ثم عما ينفع المجتمع فلا يعمل ما يحسن في عينيه (ع 1).

  2. السلاطين الكائنة مرتبة من الله وهم خدام الله للصلاح فلا تنجح بلاد إلا إذا كان حكامها يحكمون بخوف الله (ع 1).

  3. علينا أن نطلب الميراث السماوي برغبة كما يطلب الناس ميراثاً لأنفسهم على الأرض (ع 2).

  4. يجب أن لا نسأل أولاً هل ينجح طريقنا الذي نحن سائرون فيه بل هل نحن سائرون في طريق الرب (ع 5).

  5. ليس لنا حق أن ننتظر بركة الرب استجابة للصلاة إن لم نصلح طريقنا أولاً (ع 6).

  6. الإله الذي لا يقدر أن يخلص نفسه ليس إلهاً حقيقياً (ع 17).

  7. لا تقدر القوة البشرية أن تأخذ منا إلها وأما ما يبعدنا عنه فهو خطايانا (ع 17).

  8. ليس لخادم الرب أن يخدم لمجرد الأجرة وليس له أن يقول للناس ما يوافق مقاصدهم الشريرة (ع 6 و30).

  9. أهل لايش خسروا مدينتهم وحياتهم من كسلهم ومحبتهم للمال وهكذا كثيرون يخسرون نفوسهم والميراث السماوي (ع 28).

  10. كثيراً ما الأشرار يتمسكون كل التمسك بفرائض الدين الخارجية (ع 30).

  11. لا يعتبر الأشرار إلا القوة الجسدية وكل ما يقدرون عليه فهو حق عندهم (ع 27).

  12. إن للتربية الصالحة اعتباراً ولصيت الأجداد ما يُفتخر به ولكن من المحتمل أن أولادهم يضلّون (ع 30).

  13. الابتعاد عن المعبد في شيلوه كان سبباً للضلال وهكذا الابتعاد عن الكنيسة وشركة المؤمنين (31).

  14. كما افترى الدانيون على بيت ميخا يفتري غير المؤمنين على الكنيسة ولكن ليس للكنيسة أن تخاف منهم ما دامت ثابتة في الرب (ع 31).

اَلأَصْحَاحُ ٱلتَّاسِعُ عَشَرَ

محتويات هذا الأصحاح:

  1. ذهاب لاويّ من متغربي جبل أفرايم إلى بيت لحم ليأتي بسرّيته الخائنة ونزوله ضيفاً على أبيها (ع 1 - 4).

  2. شروعه في السفر بعد ظهر اليوم الخامس من الضيافة ورجوعه وبلوغه مقابل يبوس أي أورشليم (ع 5 - 9).

  3. إباؤه أن ينزل في يبوس المدينة الوثنية وعبوره إلى جبعة حيث لم يأوه أحد (ع 10 - 15).

  4. دعوة شيخ أفرايمي له وإتيانه به إلى بيته (ع 16 - 21)

  5. شرّ رجال جبعة وإماتتهم سرّيته بقباحتهم (ع 22 - 28).

  6. توزيعه قِطع سرّيته على الأسباط ودعوته إياهم إلى الانتقام (ع 29 و30).

القباحة في جبعة ع 1 إلى 30

1 «وَفِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ حِينَ لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ رَجُلٌ لاَوِيٌّ مُتَغَرِّباً فِي عِقَابِ جَبَلِ أَفْرَايِمَ، فَٱتَّخَذَ لَهُ ٱمْرَأَةً سُرِّيَّةً مِنْ بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا».

ص 17: 6 و18: 1 و21: 25 ص 17: 7

حِينَ لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ (انظر تفسير ص 17: 6 و18: 1). المرجّح أن الحوادث التي سيأتي ذكرها حدثت بعد موت يشوع ولكن في زمن ليس بعيد عنه (انظر تفسير ص 17).

عِقَابِ جَبَلِ أَفْرَايِمَ وفي بعض الترجمات الأوربية «سفح جبل أفرايم» وفي حاشية الكتاب ذي الشواهد «أو أقفية» جبل أفرايم. والعقاب جمع عقبة وهي المرقى الصعب إلى الجبل أو الطريق في أعلاه. والمراد أن اللاوي كان نزيلاً في مكان يُعرف بعقاب جبل أفرايم أو في موضع ملتقى العقاب أو موضع يصعب المرتقى إليه.

سُرِّيَّةً كان التسرّي أو التسرّر كثيراً بين الإسرائيليين والعرب وهو غير محظور في الشريعة الموسوية. والسرّية هي الزوجة الأَمة أي هي زوجة لكنها بمنزلة الأَمة لا بمنزلة الحرّة.

بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا هي قرية جنوبي أورشليم وعلى غاية ستة أميال منها ولا تزال تُعرف ببيت لحم وأضيفت إلى «يهوذا» تمييزاً لها عن بيت لحم «زبولون» (يشوع 19: 15).

2 «فَزَنَتْ عَلَيْهِ سُرِّيَّتُهُ وَذَهَبَتْ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا فِي بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا، وَكَانَتْ هُنَاكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ».

وَكَانَتْ هُنَاكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أربعة أشهر بيان للأيام قبلها والمعنى أنها كانت هناك أياماً أي أربعة أشهر. وترجم بعضهم هذه العبارة بقوله «سنة وأربعة أشهر» بناء على أنه يُراد بالأيام سنة وإن العاطف محذوف. ويظهر من حاشية ذي الشواهد أن الأصل العبراني يحتمل هذا المعنى.

3 «فَقَامَ رَجُلُهَا وَسَارَ وَرَاءَهَا لِيُطَيِّبَ قَلْبَهَا وَيَرُدَّهَا، وَمَعَهُ غُلاَمُهُ وَحِمَارَانِ. فَأَدْخَلَتْهُ بَيْتَ أَبِيهَا. فَلَمَّا رَآهُ أَبُو ٱلْفَتَاةِ فَرِحَ بِلِقَائِهِ».

تكوين 34: 3

ليُطَيِّبَ قَلْبَهَا الظاهر أنها لما خانته هربت إلى أهلها لئلا يقتلها على خيانتها له وكانت هناك حزينة على ما فعلت فذهب زوجها إليها ليذهب خوفها منه ويسرّي عن قلبها الهمّ فيسرّها ويشرح فؤادها.

مَعَهُ.. حِمَارَانِ واحد له والآخر لامرأته لتيقنه أنها ترجع معه.

فَأَدْخَلَتْهُ بَيْتَ أَبِيهَا على سبيل الضيافة ولا ريب في أنها كانت مسرورة برضاه عنها.

أَبُو ٱلْفَتَاةِ فَرِحَ بِلِقَائِهِ لأنه يستر عرض ابنته ويخلّصها من غمها ويعتني بها.

4 «وَأَمْسَكَهُ حَمُوهُ فَمَكَثَ مَعَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَبَاتُوا هُنَاكَ».

فَمَكَثَ مَعَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أمسكه للضيافة حسب العادة الشرقية التي يعدُّون عدم مراعاتها عاراً وكان مع ذلك راغباً في أن يصالح ابنته بزيادة إكرامه له فمكث عنده ثلاثة أيام وهي أيام الضيافة التي لا يُسأل فيها الضيف عن غرضه ولا يُظهر له فيها سوى الترحيب على ما هو مشهور بين خاصة الشرقيين وعامتهم. ولم يزل من الأقوال المشهورة بينهم «زمن الضيافة ثلاثة أيام». والرأي بعد ذلك لرب البيت إن شاء قبل الضيف وإن شاء صرفه بلطف ولا عار عليه ما لم يكن من أكابر القوم وأغنيائهم.

5 «وَكَانَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلرَّابِعِ أَنَّهُمْ بَكَّرُوا صَبَاحاً وَقَامَ لِلذَّهَابِ. فَقَالَ أَبُو ٱلْفَتَاةِ لِصِهْرِهِ: أَسْنِدْ قَلْبَكَ بِكِسْرَةِ خُبْزٍ، وَبَعْدُ تَذْهَبُونَ».

تكوين 18: 5

بَكَّرُوا صَبَاحاً وَقَامَ لِلذَّهَابِ بكّر أهل البيت لعلمهم أن الضيف يسافر في اليوم الرابع على ما جرت العادة. وإنما يبكر المسافر لأن السفر صباحاً يخلصه من قسم كبير من الحر ما لم يكن الفصل شتاء والبرد قارساً.

أَسْنِدْ قَلْبَكَ بِكِسْرَةِ خُبْزٍ أي أدعمه لئلا يميل فيهبط. شبّه القلب عند الجوع بشيء يميل إلى الهبوط وشبّه تناول الطعام بالدعم أو الإسناد. والمعنى قوّ نفسك بالطعام قبل الذهاب لئلا تخور من الجوع على الطريق (انظر تكوين 18: 5).

6، 7 «6 فَجَلَسَا وَأَكَلاَ كِلاَهُمَا مَعاً وَشَرِبَا. وَقَالَ أَبُو ٱلْفَتَاةِ لِلرَّجُلِ: ٱرْتَضِ وَبِتْ، وَلْيَطِبْ قَلْبُكَ. 7 وَلَمَّا قَامَ ٱلرَّجُلُ لِلذَّهَابِ أَلَحَّ عَلَيْهِ حَمُوهُ فَعَادَ وَبَاتَ هُنَاكَ».

وَلْيَطِبْ قَلْبُكَ أي لينبسط وينشرح أي وكن مسروراً.

8 - 10 «8 ثُمَّ بَكَّرَ فِي ٱلْغَدِ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلْخَامِسِ لِلذَّهَابِ. فَقَالَ أَبُو ٱلْفَتَاةِ: أَسْنِدْ قَلْبَكَ، وَتَوَانَوْا حَتَّى يَمِيلَ ٱلنَّهَارُ. وَأَكَلاَ كِلاَهُمَا. 9 ثُمَّ قَامَ ٱلرَّجُلُ لِلذَّهَابِ هُوَ وَسُرِّيَّتُهُ وَغُلاَمُهُ، فَقَالَ لَهُ حَمُوهُ: إِنَّ ٱلنَّهَارَ قَدْ مَالَ إِلَى ٱلْغُرُوبِ. بِيتُوا ٱلآنَ. هُوَذَا آخِرُ ٱلنَّهَارِ. بِتْ هُنَا وَلْيَطِبْ قَلْبُكَ، وَغَداً تُبَكِّرُونَ فِي طَرِيقِكُمْ وَتَذْهَبُ إِلَى خَيْمَتِكَ. 10 فَلَمْ يُرِدِ ٱلرَّجُلُ أَنْ يَبِيتَ، بَلْ قَامَ وَذَهَبَ وَجَاءَ إِلَى مُقَابِلِ يَبُوسَ (هِيَ أُورُشَلِيمُ) وَمَعَهُ حِمَارَانِ مَشْدُودَانِ وَسُرِّيَّتُهُ مَعَهُ».

يشوع 18: 28

في هذه الآية كان حمو اللاوي يلحّ على صهره أن يطيل الإقامة بمنزله ولكن اللاوي كان رقيق القلب ويكره التثقيل على حميه فلم يرد أن يزيد أيام الضيافة الثلاثة سوى يوم وبعض اليوم وحمل امرأته على أحد الحمارين وذهب بها إلى خيمته. والظاهر أنه كان ضارباً خيمته على ملتقى العقاب في الجبل أو ساكناً بيتاً هنالك لأن البيوت كانت في الأصل خياماً ولا تزال بيوت عرب البادية كذلك وبقي كثير منها بين الإسرائيليين كذلك مدة طويلة. وظلوا يعبّرون عن المساكن بالخيام بعد أن بنوا البيوت من الحجارة (انظر 1ملوك 12: 16). ومعنى قوله «مال النهار إلى الغروب» إن الشمس مالت الخ فأسند الفعل إلى الزمان مجازاً.

11 «وَفِيمَا هُمْ عِنْدَ يَبُوسَ وَٱلنَّهَارُ قَدِ ٱنْحَدَرَ جِدّاً، قَالَ ٱلْغُلاَمُ لِسَيِّدِهِ: تَعَالَ نَمِيلُ إِلَى مَدِينَةِ ٱلْيَبُوسِيِّينَ هٰذِهِ وَنَبِيتُ فِيهَا».

يشوع 15: 8 و63 وص 1: 21 و2صموئيل 5: 6

يَبُوسَ اسم أورشليم الكنعاني. ومعنى هذا الاسم يدل على أنها بُنيت على موضع كانت فيه البيادر لأن معنى يبوس بيدر أو أرض مدوسة على أنه كانت أمة تُعرف باليبوسيين فهي إما نسبة إلى هذه المدينة لأنها كانت عاصمتهم أو نُسبت إلى رجل اسمه يبوس وتسمى أيضاً باليبوسي (انظر يشوع 15: 8).

وَٱلنَّهَارُ قَدِ ٱنْحَدَرَ أي والشمس قد انحدرت إلى أفق المغرب فالإسناد إلى النهار مجازي لأنه زمان ظهور الشمس كما ذُكر. نعم إن بيت لحم لا تبعد سوى مسير ساعتين عن أورشليم لكن اللاوي خرج منها بعد الظهر.

قَالَ ٱلْغُلاَمُ لِسَيِّدِهِ لا يلزم من هذا أن الغلام عبدُ فيحتمل أنه خادم بالأجرة فدعوة اللاوي بالسيد دعوة اعتبار واحترام فإن الغلام يُستعار للعبد والأجير ويكون غير عبد وغير أجير لأنه يدل بالوضع على من نبت شاربه أو على الإنسان من حين يولد إلى أن يشبّ وهو الكثير وقد يُطلق على الكهل وهو قليل جداً.

12 «فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: لاَ نَمِيلُ إِلَى مَدِينَةٍ غَرِيبَةٍ حَيْثُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُنَا. نَعْبُرُ إِلَى جِبْعَةَ».

يشوع 18: 28

جِبْعَةَ هي جبعة شاول المكان الذي سكن فيه أول ملوك إسرائيل (1صموئيل 10: 26) وكانت من مدن بنيامين الأربع عشرة (يشوع 18: 28). واسمها اليوم تُليَل الفول وهي على غاية أربعة أو خمسة أميال من يبوس أو أورشليم وهي جبعة بنيامين كما سيأتي في تفسير (ع 13).

13 «وَقَالَ لِغُلاَمِهِ: تَعَالَ نَتَقَدَّمُ إِلَى أَحَدِ ٱلأَمَاكِنِ وَنَبِيتُ فِي جِبْعَةَ أَوْ فِي ٱلرَّامَةِ».

يشوع 18: 25

أَوْ فِي ٱلرَّامَةِ وهي قرية على هضبة في نصيب بنيامين شمالي جبعة وعلى غاية نحو ميلين منها وشمالي أورشليم تُذكر جبعة والرامة معاً (هوشع 5: 8). وكان اللاوي يسرع على قدر الطاقة ليمكنه أن يبيت في الرامة. ولعل العلة أنه كان يعلم أن أهل جبعة يكرهون الصلاح فودّ أن يجاوزها إلى الرامة. فإنه لم يكن هنالك فنادق يومئذٍ. فكان المسافرون يصفون أحوال كل قرية يمرون بها فعرف الناس كثيراً من أحوال أهل القرى في ذلك العصر.

14 «فَعَبَرُوا وَذَهَبُوا. وَغَابَتْ لَهُمُ ٱلشَّمْسُ عِنْدَ جِبْعَةَ ٱلَّتِي لِبِنْيَامِينَ».

وَغَابَتْ لَهُمُ ٱلشَّمْسُ عِنْدَ جِبْعَةَ ٱلَّتِي لِبِنْيَامِينَ وهي جبعة شاول (ع 12). وقوله «التي لبنيامين» قيد مميز لها عن غيرها من المسميات بجبعة. فإن الكتاب ذكر عدة أماكن بهذا الاسم (انظر قاموس الكتاب).

15 «فَمَالُوا إِلَى هُنَاكَ لِيَدْخُلُوا وَيَبِيتُوا فِي جِبْعَةَ. فَدَخَلَ وَجَلَسَ فِي سَاحَةِ ٱلْمَدِينَةِ وَلَمْ يَضُمَّهُمْ أَحَدٌ إِلَى بَيْتِهِ لِلْمَبِيتِ».

متّى 25: 43 وعبرانيين 13: 20

جَلَسَ فِي سَاحَةِ ٱلْمَدِينَةِ الساحة فضاء بين البيوت لا بناء فيه ولا سقف. كان المسافرون فيها ينتظرون من يدعوهم من أهل القرية للمبيت في منزله وربما كانت عند مدخل القرية أو المدينة. وهذه العادة قديمة جداً (انظر تكوين 19: 1 و2 و2أيام 31: 32).

وَلَمْ يَضُمَّهُمْ أَحَدٌ إِلَى بَيْتِهِ لِلْمَبِيتِ أي ولم يأو أحد من أهل جبعة اللاوي وسرّيته وغلامه فاستعار الضم وهو الجمع للإواء لأن غير المأوي يبقى منفرداً عن أهل المكان الذي نزله فإواهُ بمنزلة الجمع. وهذا مخالف لما هو من أحسن أنواع المروءة والإنسانية عند أهل المشرق فدل بذلك على أن الجبعيين كانوا يومئذ من أسافل الناس وإنهم بلا مروءة ولا شرف نفس. وقد قال المسيح ما دلّ على أن عدم إواء الغريب من النقائص والآثام (متّى 25: 43). وقد نهى عن ذلك كاتب الرسالة إلى العبرانيين (عبرانين 13: 2). فإواء الغريب الذي لا يجد مأوى لا يزال من الواجبات المسيحية كما كان من الواجبات الموسوية ومن الأمور التي أوجبتها الإنسانية والحكمة الأدبية. وما أفظع العار على مدينة أو قرية لا مأوى فيها للغريب فيترك عرضة للبرد والجوع واللصوص.

16 «وَإِذَا بِرَجُلٍ شَيْخٍ جَاءَ مِنْ شُغْلِهِ مِنَ ٱلْحَقْلِ عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ. وَٱلرَّجُلُ مِنْ جَبَلِ أَفْرَايِمَ، وَهُوَ غَرِيبٌ فِي جِبْعَةَ، وَرِجَالُ ٱلْمَكَانِ بِنْيَامِينِيُّونَ».

مزمور 104: 23

وَإِذَا بِرَجُلٍ شَيْخٍ جَاءَ مِنْ شُغْلِهِ مِنَ ٱلْحَقْلِ عِنْدَ ٱلْمَسَاءِ لا ريب في أن هذا الرجل كان من الفقراء في تلك القرية والدليل على ذلك ما يقاسيه من تعب العمل في الحقل من الصباح إلى المساء وهو شيخ أي متقدم في السن ضعيف. ولو كان غنياً لاستراح من ذلك العناء ووصفه الكاتب ليبين عدم مروءة الذين لم يأووا اللاوي ومن معه من الأغنياء والأقوياء على الأعمال أكمل تبيين.

وَهُوَ غَرِيبٌ فِي جِبْعَةَ فأتى ما لم يأتيه الوطنيون من إضافة الغرباء وهذا خزي آخر على أهل جبعة يومئذ وما أحسن قول أمرء القيس هنا:

Table 23. 

أجارتنا إنّا غريبان ها هناوكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ    

فإنه دعاه إلى بيته قبل أن يعرف أن اللاوي من جبل أفرايم الذي هو وطنه الأصلي لأن مجرد السؤال كان مقدمة الدعوة على ما عرف من العادة.

وَرِجَالُ ٱلْمَكَانِ بِنْيَامِينِيُّونَ من نسل بنيامين محبوب إسرائيل ويوسف وقد صاروا مكروهين فشرف الأصل لا يغني شيئاً دون شرف العمل.

Table 24. 

لا تقل أصلي وفصلي أبداًإنما أصل الفتى ما قد حصل    
قد يسود المرء من غير أبٍوبحسن السبك قد ينفى الزّغل    
وكذا الورد من الشوك ومايطلع النرجس إلا من بصل    

17 «فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَرَأَى ٱلرَّجُلَ ٱلْمُسَافِرَ فِي سَاحَةِ ٱلْمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ ٱلشَّيْخُ: إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ، وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ؟».

إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ، وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ هذا السؤال كان مقدمة الدعوة ولا يزال كذلك إلى هذا اليوم ولو لم يرد أن يدعوه لم يسأله ولعل ذلك كان إيناساً للغريب وبيان لأن السائل يريد أن يعرف أمره ليساعده. ومن الطبع أن الذي يهمه أمر إنسان يراه غريباً لا بد من أن يسأله عن حاله ليعرف حاجته.

18 «فَقَالَ لَهُ: نَحْنُ عَابِرُونَ مِنْ بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا إِلَى عِقَابِ جَبَلِ أَفْرَايِمَ. أَنَا مِنْ هُنَاكَ، وَقَدْ ذَهَبْتُ إِلَى بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا، وَأَنَا ذَاهِبٌ إِلَى بَيْتِ ٱلرَّبِّ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى ٱلْبَيْتِ».

يشوع 18: 2 وص 18: 31 و20: 18 و1صموئيل 1: 3 و7 ع 15

عِقَابِ جَبَلِ أَفْرَايِمَ (انظر تفسير ع 1).

وَأَنَا ذَاهِبٌ إِلَى بَيْتِ ٱلرَّبِّ أي إلى شيلوه حيث قبة الشهادة وتابوت العهد وهو تابوت الرب على أن القبة كلها كانت تسمى بيت الرب لأنها موضع عبادته الجمهورية وتقديم الذبائح والقرابين والظاهر أن اللاوي كان من خدمة ذلك البيت وفي هذا البيان خزيٌ آخر للبنيامينيين لأنهم فوق أنهم لم يضيفوا الغريب لم يلتفتوا إلى إكرام كاهن الرب أو أحد خدَم بيته. فإن قيل إن المعلوم من الفصة إن اللاوي كان راجعاً إلى مسكنه في عقاب جبل أفرايم فكيف يكون ذاهباً إلى شيلوه. قلنا أن شيلون قرب مسكنه المذكور لأنها كانت في جبل أفرايم قرب تلك العقاب (انظر ص 21: 19) فلا منافاة بين القولين. وقال بعضهم أن معنى قوله أنه خادم بيت الرب وهو ذاهب إليه وإن كان ذاهباً أولاً إلى بيته.

19 «وَأَيْضاً عِنْدَنَا تِبْنٌ وَعَلَفٌ لِحَمِيرِنَا، وَأَيْضاً خُبْزٌ وَخَمْرٌ لِي وَلأَمَتِكَ وَلِلْغُلاَمِ ٱلَّذِي مَعَ عَبِيدِكَ. لَيْسَ ٱحْتِيَاجٌ إِلَى شَيْءٍ».

وَأَيْضاً عِنْدَنَا تِبْنٌ وَعَلَفٌ لِحَمِيرِنَا الخ تقدّم أن كان معه حماران (ع 3) وهنا تبيّن أن معه حميراً ولعل الكاتب لم يقصد التدقيق في الألفاظ لما قال حمير. ومن المحتمل أيضاً أنه كان للاوي حماران للركوب وحمار آخر ليحمل الزاد. وهذا البيان خزيٌ آخر للبنيامينيين فإنه ما كان محتاجاً إلا إلى المبيت فلا يكلفهم علف حميره ولا طعامه وطعام من معه كما كانت تقتضي الضيافة في تلك الأيام. ولا يزال كثيرون في هذه البلاد يفعلون كذلك. فقد صدق المثل العاميّ على الجبعيين «يكرهون الضيف وزاده معه». وقوله «لأَمتك» عن امرأته من آداب الشرقيين يومئذ ولا يزال قليلون يقولون ذلك اليوم (تكوين 18: 3).

لَيْسَ ٱحْتِيَاجٌ إِلَى شَيْءٍ سوى المأوى.

20 «فَقَالَ ٱلشَّيْخُ: ٱلسَّلاَمُ لَكَ. إِنَّمَا كُلُّ ٱحْتِيَاجِكَ عَلَيَّ، وَلٰكِنْ لاَ تَبِتْ فِي ٱلسَّاحَةِ».

تكوين 43: 23 وص 6: 23 تكوين 19: 2

ٱلسَّلاَمُ لَكَ هذا ليس تحية هنا بل خبراً أراد به أنه لا يهتم بشيء وإنه هو يقوم بكل ما يحتاج إليه من طعام وشراب وعَلَف. فانظر إلى كَرَم هذا الشيخ الفلاح المسكين ومروءته وتعجّب من بخل البنيامينيين ولؤمهم.

وَلٰكِنْ لاَ تَبِتْ فِي ٱلسَّاحَةِ جاء بهذا الاستدراك دفعاً لتوهم أنه يقوم بذلك دون أن يدعوهم إلى بيته. وكان تركهم يبيتون في الساحة عاراً على أهل القرية فأراد الشيخ أن يمنع وقوع هذا العار ولعله أشار إلى ما كان عليهم من الخطر من أهل القرية الأشرار إذا باتوا في الساحة. والمبيت في الساحة يفضله على المبيت في البيت من اعتادوه كأهل البادية. فقد شوهد القوافل ينامون تحت السماء في ليالي الصيف خارج القرية التي يدركهم الليل عندها ما لم يدعُ أهلها المسافرين أو بعضهم إلى المبيت في مساكنهم.

21 «وَجَاءَ بِهِ إِلَى بَيْتِهِ، وَعَلَفَ حَمِيرَهُمْ، فَغَسَلُوا أَرْجُلَهُمْ وَأَكَلُوا وَشَرِبُوا».

تكوين 24: 32 تكوين 18: 4 ويوحنا 13: 5

وَعَلَفَ حَمِيرَهُمْ اعتنى بالحمير أولاً ليكمل هذه الخدمة الضرورية قبل إقبال الليل ووقت العشاء والراحة ولأنها إذا أخرت العناية بها تضر فلا تستطيع أن تحملهم في ما بقي من السفر.

فَغَسَلُوا أَرْجُلَهُمْ كان ذلك من أحسن مريحات المسافر في البلاد الحارة فإنهم كانوا يحتذون النعال وهي جلود تقي بطون الأقدام وتُربط إلى ظهورها بسيور فتصيبها الشمس ويعلوها الغبار. وهي من أقدم العادات في الشرق (تكوين 18: 4).

22 - 25 «22 وَفِيمَا هُمْ يُطَيِّبُونَ قُلُوبَهُمْ إِذَا بِرِجَالِ ٱلْمَدِينَةِ، رِجَالِ بَنِي بَلِيَّعَالَ، أَحَاطُوا بِٱلْبَيْتِ قَارِعِينَ ٱلْبَابَ وَقَالُوا لِصَاحِبِ ٱلْبَيْتِ ٱلشَّيْخَ: أَخْرِجِ ٱلرَّجُلَ ٱلَّذِي دَخَلَ بَيْتَكَ فَنَعْرِفَهُ. 23 فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ صَاحِبُ ٱلْبَيْتِ وَقَالَ: لاَ يَا إِخْوَتِي. لاَ تَفْعَلُوا شَرّاً. بَعْدَمَا دَخَلَ هٰذَا ٱلرَّجُلُ بَيْتِي لاَ تَفْعَلُوا هٰذِهِ ٱلْقَبَاحَةَ. 24 هُوَذَا ٱبْنَتِي ٱلْعَذْرَاءُ وَسُرِّيَّتُهُ. دَعُونِي أُخْرِجْهُمَا، فَأَذِلُّوهُمَا وَٱفْعَلُوا بِهِمَا مَا يَحْسُنُ فِي أَعْيُنِكُمْ. وَأَمَّا هٰذَا ٱلرَّجُلُ فَلاَ تَعْمَلُوا بِهِ هٰذَا ٱلأَمْرَ ٱلْقَبِيحَ. 25 فَلَمْ يُرِدِ ٱلرِّجَالُ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ. فَأَمْسَكَ ٱلرَّجُلُ سُرِّيَّتَهُ وَأَخْرَجَهَا إِلَيْهِمْ خَارِجاً، فَعَرَفُوهَا وَتَعَلَّلُوا بِهَا ٱللَّيْلَ كُلَّهُ إِلَى ٱلصَّبَاحِ. وَعِنْدَ طُلُوعِ ٱلْفَجْرِ أَطْلَقُوهَا».

تكوين 19: 4 وص 20: 5 وهوشع 9: 9 و10: 9 تثنية 13: 13 تكوين 19: 5 ورومية 1: 26 و27 تكوين 19: 6 و7 و2صموئيل 13: 12 تكوين 19: 8 تكوين 34: 2 وتنثية 21: 14 تكوين 4: 1

بَنِي بَلِيَّعَالَ معنى بليعال «بلا نفع» فيراد ببني بليعال البطالون والعياّرون والأشرار والخبثاء. وكان كتبة الأسفار المقدسة يكنون ببني بليعال كل المذمومين الذين لا يخافون الله وهو نكرة لا عَلَم في الحقيقة لكنه جرى مجرى الإعلام حتى ظنّ بعضهم أنه من أسماء الشيطان.

أَحَاطُوا بِٱلْبَيْتِ الخ قصة اللاوي والشيخ هنا تشبه قصة الملاكين ولوط كثيراً (انظر تكوين 19: 5 - 12). وهذا غاية الخزي وأفظع الآثام على البنيامينيين فلم يبق للعقل أن يتصور ما وراء ذلك من الشرور. ولم يُذكر هنا حكومة أو نظام في المدينة.

فَأَمْسَكَ ٱلرَّجُلُ سُرِّيَّتَهُ الرجل هو اللاوي أو الشيخ برضى اللاوي وكان عملهما دنيئاً وقبيحاً يدل على انحطاط جنس النساء في الزمان المذكور. والفساد الأدبي والديني يؤثر في النساء وإن كان أكثر اللوم على الرجال.

26 «فَجَاءَتِ ٱلْمَرْأَةُ عِنْدَ إِقْبَالِ ٱلصَّبَاحِ وَسَقَطَتْ عِنْدَ بَابِ بَيْتِ ٱلرَّجُلِ حَيْثُ سَيِّدُهَا هُنَاكَ إِلَى ٱلضَّوْءِ».

وَسَقَطَتْ الخ هذا عقاب على إثمها وخيانتها لرجلها فلا إثم بلا عقاب.

27 «فَقَامَ سَيِّدُهَا فِي ٱلصَّبَاحِ وَفَتَحَ أَبْوَابَ ٱلْبَيْتِ وَخَرَجَ لِلذَّهَابِ فِي طَرِيقِهِ، وَإِذَا بِسُرِّيَّتِهِ سَاقِطَةٌ عَلَى بَابِ ٱلْبَيْتِ، وَيَدَاهَا عَلَى ٱلْعَتَبَةِ».

خَرَجَ لِلذَّهَابِ لأنه كان قد يئس من عَود امرأته إليه.

وَيَدَاهَا عَلَى ٱلْعَتَبَةِ كأنها مدتهما للاستغاثة برجلها عند النفس الأخير.

28 «فَقَالَ لَهَا: قُومِي نَذْهَبْ. فَلَمْ يَكُنْ مُجِيبٌ. فَأَخَذَهَا عَلَى ٱلْحِمَارِ وَذَهَبَ إِلَى مَكَانِهِ».

ص 20: 5

فَقَالَ لَهَا: قُومِي نَذْهَبْ ما أقسى قلب هذا الرجل فإنه كان سلّم امرأته للأوباش فتعللوا بها الليل كله وهو نائم مستريح في البيت ثم قام صباحاً للسفر ولما وجدها ساقطة على باب البيت قال قومي نذهب كأنه لم يحدث شيء.

فَلَمْ يَكُنْ مُجِيبٌ أي إنها كانت قد ماتت ولهذا زيد في الترجمة السبعينية «لأنها كانت ميتة».

فَأَخَذَهَا عَلَى ٱلْحِمَارِ الذي حملها وهي حيّة.

وَذَهَبَ أي شرع في الذهاب أو قام في طريقه.

29 «وَدَخَلَ بَيْتَهُ وَأَخَذَ ٱلسِّكِّينَ وَأَمْسَكَ سُرِّيَّتَهُ وَقَطَّعَهَا مَعَ عِظَامِهَا إِلَى ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ قِطْعَةً، وَأَرْسَلَهَا إِلَى جَمِيعِ تُخُومِ إِسْرَائِيلَ».

ص 20: 6 و1صموئيل 11: 7

وَقَطَّعَهَا مَعَ عِظَامِهَا أي قطعها قطعاً كل قطعة مع عظمٍ. وهذا عمل وحشي حملته عليه شدة غيظه ليشدد هيجان إسرائيل على أهل جبعة (انظر 1صموئيل 11: 7).

إِلَى ٱثْنَتَيْ عَشَرَةَ قِطْعَةً على عدد الأسباط لتكون لكل سبط قطعة كأنها تطالبهم بأخذ الثأر وتشكو لهم فظاعة قاتليها ولا ريب في أن إحدى تلك القطع أُرسلت إلى سبط بنيامين الذي كان الجبعونيون بنو بليعال منهم.

30 «وَكُلُّ مَنْ رَأَى قَالَ: لَمْ يَكُنْ وَلَمْ يُرَ مِثْلُ هٰذَا مِنْ يَوْمِ صُعُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ. تَبَصَّرُوا فِيهِ وَتَشَاوَرُوا وَتَكَلَّمُوا».

ص 20: 7 وأمثال 13: 10

وَكُلُّ مَنْ رَأَى أي علم القصة ونظر شيئاً من قطع المرأة.

لَمْ يَكُنْ أي لم يحدث.

وَلَمْ يُرَ أي يُعلم أو يُشاهد.

مِثْلُ هٰذَا الحادث الفظيع.

تَبَصَّرُوا فِيهِ وَتَشَاوَرُوا وَتَكَلَّمُوا أي ذلك أمر يستحق أن يُهتم به ويُنتقم من الأشرار الذين ارتكبوا ذلك الإثم العظيم والظلم الذي لم يسبق له من نظير منذ خروج إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم. أثار اللاوي كل بني إسرائيل بما فعله. والغيظ الشديد من عموم بني إسرائيل على الذين فعلوا هذا الأمر مما يدل على وجود ضمير حي وقلّة وقوع مثل هذه الفواحش.

فوائد

  1. أنباء الأشرار عِبر للأخيار (ع 1 - 30).

  2. تأخير الواجبات يؤدي إلى المهلكات (ع 4 - 10 و11 - 24).

  3. إن الإضافة الحقيقية تطلب ما يوافق الضيف فيجب قبوله وخدمته وتسهيل طريقه متى حان وقت السفر.

  4. إن اتحاد الأشرار يزيد شرورهم كما يزيد اتحاد الصالحين صلاحهم.

  5. إنه قد يكون صالح بين الطالحين.

  6. إن الغريب للغريب نسيب.

  7. المختبر الضيقات يؤاسي المتضايقين.

  8. لا تستخف بشيخ مسكين فربما يستطيع ما لا يستطيعه أهل الثراء.

  9. المكان الخالي من المحبة الطاهرة غاصٌ بالشهوة النجسة فاهرب منه.

  10. إن المرأة الخائنة لزوجها تُعاقب عقاباً شديدا.

  11. إن الغيظ في وقته من الواجبات (ع 30).

  12. القلب أخدع من كل شيء وهو نجس من يعرفه فعلينا أن نعرف قلوبنا بما أُعلن لنا في الكتاب ونقرّ بأننا لولا نعمة الله لكنّا كأهل جبعة ونسعى في انتشار إنجيل المسيح في العالم لأن فيه وحده الخلاص والصلاح.

اَلأَصْحَاحُ ٱلْعِشْرُونَ

محتويات هذا الأصحاح:

  1. اجتماع بني إسرائيل في المصفاة وقصّ اللاوي عليهم ما أصابه في جبعة (ع 1 - 7).

  2. اجتماع الشعب كرجل واحد وعزمهم على عقاب أهل جبعة (ع 8 - 11).

  3. محاماة سبط بنيامين عن المذنبين الجبعيين والتعصب لهم لأنهم منهم (ع 12 - 14).

  4. عدد الفريقين (ع 15 - 17).

  5. انتصار بنيامين على سائر الإسرائيليين مرتين (ع 18 - 25).

  6. الوعد بالانتصار بعد الصوم في بيت إيل (ع 26).

  7. خدعة الإسرائيليين وفوزهم (ع 29 - 41).

  8. انكسار البنيامينيين ودمارهم (ع 42 - 46).

  9. نجاة ست مئة من بنيامين (ع 47 و48).

نظر الإسرائيليين في أمر اللاوي والعزم على تأديب المعتدين ع 1 إلى 11

1 «فَخَرَجَ جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَٱجْتَمَعَتِ ٱلْجَمَاعَةُ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، مِنْ دَانَ إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ مَعَ أَرْضِ جِلْعَادَ، إِلَى ٱلرَّبِّ فِي ٱلْمِصْفَاةِ».

تثنية 13: 12 الخ ويشوع 22: 12 وص 21: 5 و1صموئيل 11: 7 ص 18: 29 و1صموئيل 3: 20 و2صموئيل 3: 10 و24: 2 ص 10: 17 و11: 11 و1صموئيل 7: 5 و10: 17

ٱجْتَمَعَتِ ٱلْجَمَاعَةُ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ كانت هذه العبارة مما أُلفت من أحوال الإسرائيليين في البرية وانقطعت بعد عصر سليمان لأنهم انقسموا (1ملوك 12: 20).

مِنْ دَانَ إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ أي من أحد طرفي أرض إسرائيل إلى الآخر على ما كانت في زمان كاتب هذا السفر (انظر 1صموئيل 3: 20 و2صموئيل 3: 10 الخ). ودان هي لايش وتسمى لشم أيضاً (يشوع 19: 47) وهي على الطرف الشمالي من أرض بني إسرائيل في نصيب نفتالي في سفح جبل حرمون المعروف اليوم بجبل الشيخ. أخذها الدانيون وسموها دان كما ذُكر في (ص 18: 29) وكانت ذات شأن في التجارة. زعم بعضهم أنها بانياس والأرجح أنها تل القاضي (انظر تفسير ص 18: 7 و29) وبئر سبع الطرف الجنوبي من أرض كنعان وهي جنوبي حبرون المعروفة اليوم بالخليل وعلى غاية عشرين ميلاً منها. ولا تزال تُعرف باسمها إلى هذا اليوم.

أَرْضِ جِلْعَادَ شرقي الأردن كثيرة الصخور ووعرة تُعرف اليوم بجبل عجلون. أجاب سكانها الدعوة ما عدا أهل مدينة يابيش جلعاد وهي خربة اليوم على جبل عجلون.

إِلَى ٱلرَّبِّ أي إلى بيت الرب وهو خيمة الشهادة التي فيها تابوت العهد وكانت في شيلوه المعروفة اليوم بسيلون (انظر تفسير ص 18: 31) وربما نُقلت إلى المصفاة (انظر تفسير ع 18 و23 و26 - 28).

ٱلْمِصْفَاةِ ذُكر عدة مدن كل منها يسمى بالمصفاة ومنها ما تسمى أيضاً بمصفاة جلعاد (قضاة 11: 29) ورامة المصفاة (يشوع 13: 26) وراموت جلعاد (1ملوك 4: 13) ظن بعض المفسرين أنها هي المصفاة في هذه الآية والمرجّح أنها مدينة في أرض بنيامين ظنها البعض ما يُعرف اليوم بقرية النبي صموئيل وهو المرجّح وهي على أكمة تبعد أربعة أميال عن جبعة. ورأى بعضهم غير ذلك (انظر قاموس الكتاب وتفسير ص 10: 17 و11: 11). ومن المتواتر أنها كانت مقام صموئيل زمان قضائه لإسرائيل (انظر 1صموئيل 7: 5 - 17 و10: 17 الخ).

2 «وَوَقَفَ وُجُوهُ جَمِيعِ ٱلشَّعْبِ، جَمِيعُ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ فِي مَجْمَعِ شَعْبِ ٱللّٰهِ، أَرْبَعُ مِئَةِ أَلْفِ رَاجِلٍ مُخْتَرِطِي ٱلسَّيْفِ».

ص 8: 10

وُجُوهُ أي وجهاء.

فِي مَجْمَعِ شَعْبِ ٱللّٰهِ أي شعب الله المجتمعون اجتماعاً مقدساً لأجل عمل الرب للانتقام من الذين أخطأوا.

أَرْبَعُ مِئَةِ أَلْفِ رَاجِلٍ مُخْتَرِطِي ٱلسَّيْفِ الاختراط سلّ السيف من غمده. وكانوا راجلين أي مشاة لأن الكنعانيين منعوهم من اتخاذ المركبات والخيل (انظر ص 1: 19 و4: 3).

3 «فَسَمِعَ بَنُو بِنْيَامِينَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ صَعِدُوا إِلَى ٱلْمِصْفَاةِ. وَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: تَكَلَّمُوا! كَيْفَ كَانَتْ هٰذِهِ ٱلْقَبَاحَةُ؟».

فَسَمِعَ بَنُو بِنْيَامِينَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ صَعِدُوا إِلَى ٱلْمِصْفَاةِ سمعوا ذلك ممن بلغهم الدعوة إلى النظر في تأديب أهل جبعة كما ذكرنا فإنها لا ريب في أنهم دُعوا إلى ذلك لأن الدعوة كانت عامة وهم رفضوها (ص 19: 29) ويؤيد ذلك ما في (ع 12 و13). وذُكر إسرائيل بمقابلة بني بنيامين لأنهم الأكثرون ولأن بني بنيامين صاروا بمنزلة الخارجين عنهم.

ٱلْمِصْفَاةِ (انظر تفسير ع 1).

وَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: تَكَلَّمُوا جاء الخطاب بصيغة الجمع والمشتكي واحد لأن المطلوب أن يتكلم في الحادثة كل من عرف شيئاً من أمورها والمعنى أن الإسرائيليين طلبوا أن يسمعوا كيف حدث قتل المرأة من كل إنسان عرف ذلك.

كَيْفَ كَانَتْ هٰذِهِ ٱلْقَبَاحَةُ المراد بالقباحة هنا الإثم الفظيع لا المكروه فقط.

4 «فَأَجَابَ ٱللاَّوِيُّ بَعْلُ ٱلْمَرْأَةِ ٱلْمَقْتُولَةِ: دَخَلْتُ أَنَا وَسُرِّيَّتِي إِلَى جِبْعَةَ ٱلَّتِي لِبِنْيَامِينَ لِنَبِيتَ».

ص 19: 15

دَخَلْتُ أَنَا وَسُرِّيَّتِي لم يذكر الغلام لأن التقرير في شأنه وشأن المرأة والغلام بمنزلة شاهد (ص 19: 15). ولا نشك في أنّ الغلام كان حاضراً حتى يشهد بقول اللاوي.

5 «فَقَامَ عَلَيَّ أَصْحَابُ جِبْعَةَ وَأَحَاطُوا عَلَيَّ بِٱلْبَيْتِ لَيْلاً وَهَمُّوا بِقَتْلِي، وَأَذَلُّوا سُرِّيَّتِي حَتَّى مَاتَتْ».

ص 19: 22 ص 19: 25 و26

أَصْحَابُ جِبْعَةَ لعلهم رؤساؤها على ما يفيد الأصل العبراني إذ يقال لمالك الشيء صاحبه. وقد أُطلق الصاحب في كتب اللغة العربية على مالك الأمر والتصرّف.

وَهَمُّوا بِقَتْلِي لم يُذكر ذلك في النبإ الذي في (ص 19: 22 - 25) والظاهر أن لا حاجة إلى هذا البيان فإنهم طلبوا أن يفعلوا به ما يؤدي إلى الموت كما أدى بجاريته إليه وهذا كاف لصحة تقريره (ص 19: 22).

6 «فَأَمْسَكْتُ سُرِّيَّتِي وَقَطَّعْتُهَا وَأَرْسَلْتُهَا إِلَى جَمِيعِ حُقُولِ مُلْكِ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُمْ فَعَلُوا رَذَالَةً وَقَبَاحَةً فِي إِسْرَائِيلَ».

ص 19: 29 يشوع 7: 15

فَأَمْسَكْتُ الخ لذلك أمسكت الخ (انظر تفسير ع 3 وص 19: 29).

7 «هُوَذَا كُلُّكُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ. هَاتُوا حُكْمَكُمْ وَرَأْيَكُمْ هٰهُنَا».

ص 19: 30

هُوَذَا كُلُّكُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أي أنتم هنا كلكم إسرائيليون والعار وقع بذلك على الإسرائيليين لأن الجبعيين أساءوا إلى لاويهم.

هَاتُوا حُكْمَكُمْ وَرَأْيَكُمْ هٰهُنَا أي أعلنوا قضائكم بما يستحق المعتدون ورأيكم في إجراء العقاب (ص 19: 30) فإنه «مع المتشاورين حكمة» (أمثال 13: 10).

8 «فَقَامَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ وَقَالُوا: لاَ يَذْهَبُ أَحَدٌ مِنَّا إِلَى خَيْمَتِهِ وَلاَ يَمِيلُ أَحَدٌ إِلَى بَيْتِهِ».

فَقَامَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ أي اهتموا بالأمر وتولّوه.

كَرَجُلٍ وَاحِدٍ أي برأي واحد وقصد واحد كأنهم رجل واحد.

خَيْمَتِهِ أي مسكنه. أطلقوا الخيمة على المسكن لأن الإسرائيليين اعتادوا ذلك منذ كانوا يسكنون الخيام في البرية (انظر تفسير عدد 19: 9) أو لكون كثيرين من الإسرائيليين أو أكثرهم كانوا يومئذ يسكنون الخيام كأهل البادية لا في المدن والقرى.

9 «وَٱلآنَ هٰذَا هُوَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي نَعْمَلُهُ بِجِبْعَةَ. عَلَيْهَا بِٱلْقُرْعَةِ».

عَلَيْهَا بِٱلْقُرْعَةِ أي لنصعد أو اصعدوا على جبعة بالقرعة ولذلك جاء في السبعينية «نصعد عليها» واختلفت أقوال المفسرين في قوله «بالقرعة» فرأى بعضهم إن المراد بذلك تقسيم جبعة بعد الإستيلاء عليها بالاقتراع فإن القسمة كانت تجري بذلك بين الإسرائيليين وغيرهم (عدد 33: 54 ويشوع 13: 6 ومزمور 22: 18). ورأى بعضهم إن المراد بها القرعة الدينية التي تُعلن بها إرادة الرب أو يُعيّن المذنب كما عُيّن بها عخان (يشوع 7: 13 - 19). وقد أشار إلى هذه القرعة الحكيم بقوله «ٱلْقُرْعَةُ تُلْقَى فِي ٱلْحِضْنِ، وَمِنَ ٱلرَّبِّ كُلُّ حُكْمِهَا» (أمثال 16: 33). والذي ظهر للأكثرين أن المراد بذلك القرعة الإلهية كما ذُكر لكن لتعيين من يصعد منهم على جبعة أولاً وعدد الصاعدين ويؤيد ذلك ما في (ع 18).

10 «فَنَأْخُذُ عَشَرَةَ رِجَالٍ مِنَ ٱلْمِئَةِ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ، وَمِئَةً مِنَ ٱلأَلْفِ، وَأَلْفاً مِنَ ٱلرَّبْوَةِ، لأَجْلِ أَخْذِ زَادٍ لِلشَّعْبِ لِيَفْعَلُوا عِنْدَ دُخُولِهِمْ جِبْعَةَ بِبِنْيَامِينَ حَسَبَ كُلِّ ٱلْقَبَاحَةِ ٱلَّتِي فَعَلَتْ بِإِسْرَائِيلَ».

فَنَأْخُذُ عَشَرَةَ رِجَالٍ مِنَ ٱلْمِئَةِ أي نأخذ عُشر الشعب بالقرعة من السبط القليل والسبط الكثير كما يدل ما بقي من الآية.

أَلْفاً مِنَ ٱلرَّبْوَةِ الربوة عشرة آلاف وهذا يدل على أنهم متعودون الحرب وإنهم توقعوا حرباً يلزمهم الاستعداد لها.

11 «فَٱجْتَمَعَ جَمِيعُ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ عَلَى ٱلْمَدِينَةِ مُتَّحِدِينَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ».

مُتَّحِدِينَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ أي كأنهم رجل واحد لا متعددين فيرى بعضهم غير ما يراه الآخر. قال بعضهم «ومعنى الأصل العبراني كأصحاب رجل واحد» أي كأنهم يعملون بأمر رجل واحد. والمراد على الوجهين شدة الاتفاق في الرأي والعمل.

عمل إسرائيل وجواب بنيامين ع 12 إلى 17

12 «وَأَرْسَلَ أَسْبَاطُ إِسْرَائِيلَ رِجَالاً إِلَى جَمِيعِ أَسْبَاطِ بِنْيَامِينَ قَائِلِينَ: مَا هٰذَا ٱلشَّرُّ ٱلَّذِي صَارَ فِيكُمْ؟».

تثنية 13: 14 ويشوع 22: 13 و16

وَأَرْسَلَ هذا ما تقتضيه الحكمة لأنه بذلك لا بد من أحد أمرين تسليم المذنبين أو الحرب العادلة ولأن سبط بنيامين دُعي إلى الاجتماع المقدس وأبى الإجابة.

أَسْبَاطِ بِنْيَامِينَ السبط هنا العشيرة أو الأسرة المعروفة في هذه الأيام بالعائلة وإلا فبنو بنيامين سبط واحد لا أسباط وكون معناه العشيرة هو الأصل (انظر تفسير ص 18: 30).

مَا هٰذَا ٱلشَّرُّ ٱلَّذِي صَارَ فِيكُمْ أي حدث بينكم والاستفهام هنا للتعجب أي ما أفظع ما ارتكبه بعضكم من الآثام.

13 «فَٱلآنَ سَلِّمُوا ٱلْقَوْمَ بَنِي بَلِيَّعَالَ ٱلَّذِينَ فِي جِبْعَةَ لِنَقْتُلَهُمْ وَنَنْزِعَ ٱلشَّرَّ مِنْ إِسْرَائِيلَ. فَلَمْ يُرِدْ بَنُو بِنْيَامِينَ أَنْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِ إِخْوَتِهِمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ».

تثنية 13: 13 وص 19: 22 تثنية 17: 12

فَٱلآنَ سَلِّمُوا ٱلْقَوْمَ بَنِي بَلِيَّعَالَ أو اللؤماء الذين ارتكبوا ذلك الإثم الفظيع.

فَلَمْ يُرِدْ بَنُو بِنْيَامِينَ أَنْ يَسْمَعُوا فكانوا بذلك شركاء أهل جبعة في إثمهم وقباحتهم بل شراً من هم لأن المدافع عن الأثيم شرّ منه لأنه يشجعه على تماديه في الفظائع. ومعنى السمع هنا الطاعة والتسليم.

14 «فَٱجْتَمَعَ بَنُو بِنْيَامِينَ مِنَ ٱلْمُدُنِ إِلَى جِبْعَةَ لِيَخْرُجُوا لِمُحَارَبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ».

لِيَخْرُجُوا لِمُحَارَبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لو سلموا المذنبين وهم قليلون ما هلك ألوف كثيرة من إخوتهم وقربوا هم من الانقراض بما فعلوه كما سيأتي فزادوا الويل ويلات كثيرة.

15 «وَعُدَّ بَنُو بِنْيَامِينَ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ مِنَ ٱلْمُدُنِ سِتَّةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ رَجُلٍ مُخْتَرِطِي ٱلسَّيْفِ، مَا عَدَا سُكَّانَ جِبْعَةَ ٱلَّذِينَ عُدُّوا سَبْعَ مِئَةِ رَجُلٍ مُنْتَخَبِينَ».

مِنَ ٱلْمُدُنِ أربع عشرة مدينة مع ضياعها (يشوع 18: 21 - 28).

سِتَّةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ رَجُلٍ وسكان جبعة سبع مئة رجل فكان المجموع ستة وعشرين ألفاً وسبع مئة.

مُخْتَرِطِي ٱلسَّيْفِ أي مستلي السيوف كناية عن أنهم أبطال حرب.

16 «مِنْ جَمِيعِ هٰذَا ٱلشَّعْبِ سَبْعُ مِئَةِ رَجُلٍ مُنْتَخَبُونَ عُسْرٌ. كُلُّ هٰؤُلاَءِ يَرْمُونَ ٱلْحَجَرَ بِٱلْمِقْلاَعِ عَلَى ٱلشَّعْرَةِ وَلاَ يُخْطِئُونَ».

ص 3: 15 و1أيام 12: 2

عُسْرٌ جمع أعسر وهو الذي يعمل بشماله كما يعمل غيره بيمينه. ومن الغريب أن يكون في أبناء بنيامين ومعناه ابن اليمين كل هؤلاء وغيرهم من العُسر (ص 3: 15).

يَرْمُونَ ٱلْحَجَرَ بِٱلْمِقْلاَعِ عَلَى ٱلشَّعْرَةِ وَلاَ يُخْطِئُونَ والمقلاع نسيجة أو جلدة على هيئة الكف ذات ساعدين يُشد طرف أحدهما إلى إحدى الأصابع ويُمسك الآخر معها ويوضع فيها حجر وتدار على موازاة الأفق حتى تشتد مقاومتها لليد فتترك الساعد الممسوكة فينطلق الحجر في الهواء بصوت كالأنين فإذا أصاب الإنسان المرمي به جرحه وآلمه إيلاماً شديداً وربما قتله. وكانت المقاليع من أدوات الحرب. ولا يزال الأحداث في بعض قرى سورية ومدنها يحارب بها بعضهم بعضاً إلى هذا اليوم. والعبارة مبالغة في الإصابة. ولا يزال الناس إلى اليوم في هذه البلاد يقولون فلان صيّاد يصيب الشعرة. وداود بن يسّى صرع جليات الجبار بحجر المقلاع واعتمد هذه الآلة وفضلها على السيف وغيره من أدوات الحرب وكان يحسن الإصابة بها كل الإحسان (1صموئيل 17: 49).

17 «وَعُدَّ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ (مَا عَدَا بِنْيَامِينَ) أَرْبَعَ مِئَةِ أَلْفِ رَجُلٍ مُخْتَرِطِي ٱلسَّيْفِ. كُلُّ هٰؤُلاَءِ رِجَالُ حَرْبٍ».

أَرْبَعَ مِئَةِ أَلْفِ (انظر ع 2 والتفسير).

الحرب في جبعة ع 18 إلى 48

18 «فَقَامُوا وَصَعِدُوا إِلَى بَيْتِ إِيلَ وَسَأَلُوا ٱللّٰهَ: مَنْ يَصْعَدُ مِنَّا أَوَّلاً لِمُحَارَبَةِ بَنِي بِنْيَامِينَ؟ فَقَالَ ٱلرَّبُّ: يَهُوذَا أَوَّلاً».

ع 23 و26 عدد 27: 21 وص 1: 1

وَصَعِدُوا إِلَى بَيْتِ إِيلَ تقدّم مراراً أن كاتب هذا السفر اختار الإيجاز في مواضع كثيرة اعتماداً على دلالة الالتزام والقرائن. والذي نراه من دلالة الالتزام أن الخيمة كانت حينئذ في بيت إيل فإنها نُقلت إليه كما نُقلت من شيلوه إلى المصفاة (انظر ع 27). وكانت بيت إيل موضعاً مقدساً منذ زمن قديم لأن الرب ظهر فيها ليعقوب (تكوين 28: 11 - 19 و31: 13). وهي شرقي خط يمتد من أورشليم إلى شكيم أي من القدس إلى نابلس وعلى نصف المسافة بين المدينتين واسمها اليوم بيتين.

وَسَأَلُوا ٱللّٰهَ بالأوريم والتميم فكان الحبر العظيم يذهب إلى حيث تُنقل الخيمة بما فيها.

فَقَالَ ٱلرَّبُّ هذا يدل على أن الله والرب هنا اسمان للقدير الأزلي الواجب الوجود على أن الرب ترجمة يهوه الذي هو من أسماء الإله الأزلي الخاصة.

يَهُوذَا أَوَّلاً أي يهوذا يصعد أولاً. كان سؤالهم «من يصعد منا أولاً لمحاربة بني بنيامين» وكان الصواب لو عرفوه أن يسألوا الله «هل نحارب إخوتنا» أولاً. نعم أصابوا بالدعوة إلى المشورة لكن أخطأوا بالقصد. لا يقال إنه لم يبقَ من سبيل إلا إلى الحرب لأنا نقول كان عليهم أن يخاطبوا بني بنيامين ويشاوروهم مراراً ويبينوا لهم خطأ إخوتهم في جبعة بالرفق والمحبة والمحاكمة بالعدل قبل العزم على الحرب ويصيروا شيئاً على عناد سبط بنيامين. وعلى كل حال كان الرب يرشدهم إلى الصواب لو سألوه وعنده من الحكمة ما ليس عند البشر. ومعنى قوله «يهوذا أولاً» إن سبط يهوذا يكون المتقدم رئيساً وقائداً. ويهوذا هو السبط الذي يكون المسيح منه (تكوين 49: 8 - 12).

19 «فَقَامَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي ٱلصَّبَاحِ وَنَزَلُوا عَلَى جِبْعَةَ».

فَقَامَ بَنُو إِسْرَائِيلَ شرعوا في الحرب.

جِبْعَةَ (انظر تفسير ص 19: 12).

20 «وَخَرَجَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ لِمُحَارَبَةِ بِنْيَامِينَ، وَصَفَّ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ أَنْفُسَهُمْ لِلْحَرْبِ عِنْدَ جِبْعَةَ».

وَصَفَّ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ أَنْفُسَهُمْ أي رتبوا أنفسهم صفوفاً ويهوذا الأول (ع 18).

21 «فَخَرَجَ بَنُو بِنْيَامِينَ مِنْ جِبْعَةَ وَأَهْلَكُوا مِنْ إِسْرَائِيلَ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ ٱثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ أَلْفَ رَجُلٍ إِلَى ٱلأَرْضِ».

تكوين 49: 27

فَخَرَجَ بَنُو بِنْيَامِينَ رجال السبط كله فإنهم اجتمعوا في جبعة ليدفعوا عن تلك المدينة الشريرة بحماستهم الجاهلية وكبريائهم المشهورة لأنهم نسل محبوب يعقوب ويوسف فصدق عليهم قول الشاعر:

Table 25. 

يفاخرون بأجداد لهم سلفوانعمَ الجدود ولكن بئس ما خلفوا    

وكانت تلك المدينة على تلّ فأشبهت الحصن الحصين وتمكن من فيها من الدفاع الشديد.

وَأَهْلَكُوا... ٱثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ أَلْفَ رَجُلٍ إِلَى ٱلأَرْضِ أي صرعوهم أو طرحوهم بإهلاكهم إياهم على الأرض ضمن الإهلاك معنى الصرع أو الطرح. ووقوع مثل هذا العدد قتلى يدلك على شدة تلك الحرب وتوحش أهلها فكان عدد قتلى إسرائيل يقرب من عدد محاربي بنيامين (ع 15).

22 «وَتَشَدَّدَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ وَعَادُوا فَٱصْطَفُّوا لِلْحَرْبِ فِي ٱلْمَكَانِ ٱلَّذِي ٱصْطَفُّوا فِيهِ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَوَّلِ».

وَتَشَدَّدَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ رجال إسرائيل بيان للشعب. وعلة تشددهم كثرة عددهم بالنسبة إلى عدد البنيامينيين واتكالهم على شجاعتهم ونسبتهم انكسارهم إلى الخطإ في الحركات الحربية. وقد سمح الله بهذه الحرب الضروس تأديباً للفريقين على جهلهما وإهمالهما شريعته المقدسة ليرجعا إليه ويتضعا أمامه.

23 «ثُمَّ صَعِدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَبَكَوْا أَمَامَ ٱلرَّبِّ إِلَى ٱلْمَسَاءِ، وَسَأَلُوا ٱلرَّبَّ: هَلْ أَعُودُ أَتَقَدَّمُ لِمُحَارَبَةِ بَنِي بِنْيَامِينَ أَخِي؟ فَقَالَ ٱلرَّبُّ: ٱصْعَدُوا إِلَيْهِ».

ع 26 و27

وَسَأَلُوا أي سأل الكاهن عنهم كلهم (ع 28).

هَلْ أَعُودُ أَتَقَدَّمُ لِمُحَارَبَةِ... أَخِي كان مقتضى الظاهر أن يُقال هل نعود ولكنه أفرد لأن السؤال من واحد وهو الكاهن نائباً عنهم أو أنزلهم منزلة الواحد باعتبار أنهم شعب واحد. وفي قولهم «أخي» إيماء إلى شعورهم بأنهم كُسروا لمحاربتهم إخوتهم.

فَقَالَ ٱلرَّبُّ: ٱصْعَدُوا إِلَيْهِ لو قالوا يا رب هل ننتصر على بنيامين لقال لهم لا لكنهم قالوا «هل نعود إلى المحاربة» فقال لهم «عودوا» لأن في عودهم إليها ما أراده من تأديبهم.

24 «فَتَقَدَّمَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى بَنِي بِنْيَامِينَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّانِي».

ٱلْيَوْمِ ٱلثَّانِي ليوم سؤالهم الرب لا لأول أيام الحرب.

25 «فَخَرَجَ بِنْيَامِينُ لِلِقَائِهِمْ مِنْ جِبْعَةَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّانِي، وَأَهْلَكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْضاً ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ إِلَى ٱلأَرْضِ. كُلُّ هٰؤُلاَءِ مُخْتَرِطُو ٱلسَّيْفِ».

ع 21

وَأَهْلَكَ... ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ فكان عدد من أهلكهم بنو بنيامين من رجال إسرائيل في الواقعتين 40000 وذلك يزيد على كل رجال بنيامين 13300 لأن عدد البنياميين كان 26700 (ع 15) وهذا يدل على مقدرة البنياميين وإحكامهم الرمي بالمقلاع ومناسبة موقفهم في الحرب.

26 «فَصَعِدَ جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكُلُّ ٱلشَّعْبِ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ إِيلَ وَبَكَوْا وَجَلَسُوا هُنَاكَ أَمَامَ ٱلرَّبِّ، وَصَامُوا ذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ إِلَى ٱلْمَسَاءِ، وَأَصْعَدُوا مُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ أَمَامَ ٱلرَّبِّ».

ع 18

جَمِيعُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكُلُّ ٱلشَّعْبِ قال بعض المفسرين إن معنى ذلك جميع المحاربين وغير المحاربين. والمعنى الذي يقتضيه النص جميع المحاربين وغيرهم من النساء والأولاد فإنه لما قُتل أربعون ألفاً من إسرائيل عمّ الحزن أحداث الأبناء والبنات وسائر النساء فأتوا بيت الرب جميعاً مع رجال الحرب يبكون خوفاً من زيادة ذلك البلاء. ولا ريب في أنهم شعروا بخطإهم بإسراعهم إلى محاربة إخوتهم وإن ما حلّ بهم كان عقاباً لهم على ذلك الخطإ. قال بعض المفسرين إن هذا التأديب لم يكن لخطإهم في أمر السؤال من الرب فقط بل أيضاً لابتعادهم عن الرب وسجودهم للتماثيل (ص 18: 30 و31).

وَصَامُوا إن زمان الصوم زمان الحزن والبلاء.

مُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ (انظر لاويين 1: 3 و7: 11 - 21 و29 - 34).

27 «وَسَأَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ ٱلرَّبَّ: وَهُنَاكَ تَابُوتُ عَهْدِ ٱللّٰهِ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ».

يشوع 18: 1 و1صموئيل 4: 3 و4

وَهُنَاكَ أي في بيت إيل (ع 26).

تَابُوتُ عَهْدِ ٱللّٰهِ هذا النص يدل على أن التابوت كان قد نُقل إلى بيت إيل والمرجّح أن الخيمة نُقلت إليها أيضاً. ومن أسباب نقله على ما نرى التفاؤل والتشاؤم بالأمكنة كعادة الناس في تلك العصور. على أن التفاؤل والتشاؤم لا يزالان إلى اليوم من عادات كثيرين في كل أقطار الأرض.

28 «وَفِينَحَاسُ بْنُ أَلِعَازَارَ بْنِ هَارُونَ وَاقِفٌ أَمَامَهُ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ «أَأَعُودُ أَيْضاً لِلْخُرُوجِ لِمُحَارَبَةِ بَنِي بِنْيَامِينَ أَخِي أَمْ أَكُفُّ؟» فَقَالَ ٱلرَّبُّ: ٱصْعَدُوا، لأَنِّي غَداً أَدْفَعُهُمْ لِيَدِكَ».

يشوع 24: 33 تثنية 10: 8 و18: 5

فِينَحَاسُ كان فينحاس لا يزال الحبر العظيم إلى ذلك اليوم وهو حفيد هارون من ابنه العازار. وكان يهوناثان حفيد موسى من ابنه جرشوم (ص 18: 30). ولكن فينحاس كان على الهدى على ما ظهر من غيرته في البرية (عدد 25: 6 - 8 ومزمور 106: 30) على خلاف يهوناثان. لكن فينحاس كان عاجزاً هنا عن إصلاح بني إسرائيل ولا عجب فإنهم عصوا الله في زمان جده هارون وأخي جده موسى كليم الله وعبدوا العجل وارتكبوا غير ذلك من فظائع الآثام.

أَأَعُودُ أَيْضاً الخ والظاهر من السؤال أنهم لم يريدوا أن يعودوا للمحاربة.

غَداً أَدْفَعُهُمْ كان يقول لهم «اصعدوا» ولا يعدهم بشيء فهنا قال «اصعدوا» ووعدهم بالنصر ليؤدب إخوتهم كما أدبهم. ويريهم أن النصر لا يكون بالاتكال على القوة وكثرة العدد بل بتوفيق الله وإرادته.

29 «وَوَضَعَ إِسْرَائِيلُ كَمِيناً عَلَى جِبْعَةَ مُحِيطاً».

يشوع 8: 4

وَوَضَعَ إِسْرَائِيلُ كَمِيناً إنهم وإن كان الرب قد وعدهم بالانتصار قد استعملوا الوسائل اللازمة. وهذه الخدعة القديمة مع بساطتها كانت وسيلة الانتصار على عاي (يشوع 8: 1 - 23) وعلى شكيم (ص 9: 43).

30 «وَصَعِدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى بَنِي بِنْيَامِينَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ وَٱصْطَفُّوا عِنْدَ جِبْعَةَ كَٱلْمَرَّةِ ٱلأُولَى وَٱلثَّانِيَةِ».

فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ من الأيام التي وقعت فيها الحرب.

31 «فَخَرَجَ بَنُو بِنْيَامِينَ لِلِقَاءِ ٱلشَّعْبِ وَٱنْجَذَبُوا عَنِ ٱلْمَدِينَةِ، وَأَخَذُوا يَضْرِبُونَ مِنَ ٱلشَّعْبِ قَتْلَى كَٱلْمَرَّةِ ٱلأُولَى وَٱلثَّانِيَةِ فِي ٱلسِّكَكِ (ٱلَّتِي إِحْدَاهَا تَصْعَدُ إِلَى بَيْتِ إِيلَ، وَٱلأُخْرَى إِلَى جِبْعَةَ) فِي ٱلْحَقْلِ نَحْوَ ثَلاَثِينَ رَجُلاً مِنْ إِسْرَائِيلَ».

يَضْرِبُونَ مِنَ ٱلشَّعْبِ قَتْلَى والمعنى أنهم يضربون رجالاً يصيرون قتلى نحو ثلاثين رجلاً (فقتلى) مفعول به و«من الشعب» متعلق بحال مقدمة و«نحو» بدل من قتلى. والتعبير عن المضروبين بالقتلى مجاز مرسل من باب تسمية الشيء باسم ما يصير إليه لأنهم بعد أن ضُربوا صاروا قتلى. ومثل هذا كثير في العربية حتى لغة العامة كقولهم خبز الخبز أي عجيناً يصير خبزاً.

فِي ٱلسِّكَكِ السكك الطرق المستوية.

ٱلَّتِي إِحْدَاهَا... وَٱلأُخْرَى كانت السكك فرقتين إحداهما تصعد إلى بيت إيل والأخرى إلى جبعة في الحقل.

فِي ٱلْحَقْلِ يقول بعضهم أن جبعة في الحقل مدينة غير جبعة المذكورة سابقاً. فإحدى الطريقين تصعد من جبعة إلى بيت إيل والأخرى من جبعة إلى جبعة في الحقل ولعلها جبع المذكورة في (يشوع 21: 17). وغيرهم يقدّرون كلمة «مارة» فيكون الجملة كلها «الأخرى إلى جبعة المارة في الحقل». وخرج بنو بنيامين من مدينتهم بعضهم في طريق بيت إيل وبعضهم في طريق جبع (أو الطريق المارة في الحقل) وأخذوا يضربون بني إسرائيل.

32 «وَقَالَ بَنُو بِنْيَامِينَ: إِنَّهُمْ مُنْهَزِمُونَ أَمَامَنَا كَمَا فِي ٱلأَوَّلِ. وَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: لِنَهْرُبْ وَنَجْذِبْهُمْ عَنِ ٱلْمَدِينَةِ إِلَى ٱلسِّكَكِ».

إِنَّهُمْ مُنْهَزِمُونَ أَمَامَنَا إن الإسرائيليين تظاهروا بالهزيمة فقال البنيامينيون ذلك والكاتب أوجز اعتماداً على ما ذُكر وما سيُذكر.

وَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: لِنَهْرُبْ وَنَجْذِبْهُمْ عَنِ ٱلْمَدِينَةِ هذا إيضاح لكل ما ذُكر في الآية السابقة وأول هذه الآية.

33 «وَقَامَ جَمِيعُ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ مِنْ أَمَاكِنِهِمْ وَٱصْطَفُّوا فِي بَعْلِ تَامَارَ، وَثَارَ كَمِينُ إِسْرَائِيلَ مِنْ مَكَانِهِ مِنْ عَرَاءِ جِبْعَةَ».

بَعْلِ تَامَارَ معنى هذا الاسم «إله التمر» أو «إله النخل» وهو مكان قريب من جبعة. قال بعضهم ولعله هو المسمى بنخلة دبورة (ص 4: 5) بين الرامة وبيت إيل. وهو يبعد قليلاً عن «السكك» وكان اسمه في عصر أوسابيوس وجيروم باتامار ثم عُرف ببيت تامار.

مِنْ عَرَاءِ جِبْعَةَ العراء الفضاء لا يُستتر فيه بشيء. وهو في الأصل العبراني «معره» أي «أرض بلا شجر» أو «سهل بلا شجر ولا بيوت» وهذا كله من معاني العراء. ولعله كان على حدود هذا العراء صخور كبيرة حجبته عن أبصار البنيامينيين.

34 «وَجَاءَ مِنْ مُقَابِلِ جِبْعَةَ عَشَرَةُ آلاَفِ رَجُلٍ مُنْتَخَبُونَ مِنْ كُلِّ إِسْرَائِيلَ، وَكَانَتِ ٱلْحَرْبُ شَدِيدَةً، وَهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ ٱلشَّرَّ قَدْ مَسَّهُمْ».

يشوع 8: 14 وإشعياء 47: 11

عَشَرَةُ آلاَفِ وهؤلاء غير الكمين المذكور في (ع 29) وهم الذين كانوا أمام بني بنيامين بينما ثار الكمين من مكانه واقتحموا المدينة وبالآخر ثار بنو إسرائيل كلهم وأحاطوا ببنيامين من كل الجهات.

وَهُمْ أي البنيامينيون على ما تفيد القرينة.

لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ ٱلشَّرَّ قَدْ مَسَّهُمْ أي جهلوا أن وراءهم كميناً وإنه قرب منهم كل القرب وهم لم يشعروا لأنهم كانوا غافلين عمّن وراءهم بمن هم أمامهم يخدعونهم بأنه منهزمون منهم.

35 «فَضَرَبَ ٱلرَّبُّ بِنْيَامِينَ أَمَامَ إِسْرَائِيلَ، وَأَهْلَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ بِنْيَامِينَ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ رَجُلٍ وَمِئَةَ رَجُلٍ. كُلُّ هٰؤُلاَءِ مُخْتَرِطُو ٱلسَّيْفِ».

فَضَرَبَ ٱلرَّبُّ أي خذل البنيامينيين فضربهم الإسرائيليون وما يأتي في (ع 36 - 43) تفصيل لما ذُكر.

36 «وَرَأَى بَنُو بِنْيَامِينَ أَنَّهُمْ قَدِ ٱنْكَسَرُوا. وَأَعْطَى رِجَالُ إِسْرَائِيلَ مَكَاناً لِبِنْيَامِينَ لأَنَّهُمُ ٱتَّكَلُوا عَلَى ٱلْكَمِينِ ٱلَّذِي وَضَعُوهُ عَلَى جِبْعَةَ».

يشوع 8: 15

أَنَّهُمْ أي الإسرائيليين لا البنيامينين كما يُعلم من (ع 32). وهذه الآية بداءة تفصيل ما أُجمل من تظاهر الإسرائيليين بالانهزام وما نشأ عنه.

وَأَعْطَى رِجَالُ إِسْرَائِيلَ الخ هذا بيان العلة لرؤية البنيامينيين إن الإسرائيليين قد انكسروا.

37 «فَأَسْرَعَ ٱلْكَمِينُ وَٱقْتَحَمُوا جِبْعَةَ، وَزَحَفَ ٱلْكَمِينُ وَضَرَبَ ٱلْمَدِينَةَ كُلَّهَا بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ».

يشوع 8: 19 ص 4: 6

وَٱقْتَحَمُوا أي هجموا.

وَزَحَفَ ٱلْكَمِينُ أي مشى الكامنون.

38 «وَكَانَ ٱلْمِيعَادُ بَيْنَ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ وَبَيْنَ ٱلْكَمِينِ إِصْعَادَهُمْ بِكَثْرَةٍ عَلاَمَةَ ٱلدُّخَانِ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ».

وَكَانَ ٱلْمِيعَادُ الخ أي إن الوعد كان إن الكمين إذا دخل المدينة يُعلن لسائر الإسرائيليين ذلك بعلامة هي الدخان الكثير.

39 «وَلَمَّا ٱنْقَلَبَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْحَرْبِ ٱبْتَدَأَ بِنْيَامِينُ يَضْرِبُونَ قَتْلَى مِنْ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ نَحْوَ ثَلاَثِينَ رَجُلاً، لأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا هُمْ مُنْهَزِمُونَ مِنْ أَمَامِنَا كَٱلْحَرْبِ ٱلأُولَى».

وَلَمَّا ٱنْقَلَبَ أي رجع على ما ذُكر في (ع 31 و32).

يَضْرِبُونَ قَتْلَى الخ أي يضربون رجالاً يقعون أو يصيرون قتلى الخ (انظر ع 31 والتفسير).

40 «وَلَمَّا ٱبْتَدَأَتِ ٱلْعَلاَمَةُ تَصْعَدُ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ عَمُودَ دُخَانٍ، ٱلْتَفَتَ بِنْيَامِينُ إِلَى وَرَائِهِ وَإِذَا بِٱلْمَدِينَةِ كُلِّهَا تَصْعَدُ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ».

وَإِذَا بِٱلْمَدِينَةِ كُلِّهَا تَصْعَدُ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ أي احترقت المدينة كلها فاستحالت إلى دخان يرتفع إلى السماء. وهذا ضربٌ من المبالغة الكثيرة في اللغات السامية.

41 «وَرَجَعَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ وَهَرَبَ رِجَالُ بِنْيَامِينَ بِرَعْدَةٍ، لأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ ٱلشَّرَّ قَدْ مَسَّهُمْ».

ٱلشَّرَّ قَدْ مَسَّهُمْ أي أدركهم أو قرب منهم كل القرب.

42 «وَرَجَعُوا أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي طَرِيقِ ٱلْبَرِّيَّةِ، وَلٰكِنَّ ٱلْقِتَالَ أَدْرَكَهُمْ، وَٱلَّذِينَ مِنَ ٱلْمُدُنِ أَهْلَكُوهُمْ فِي وَسَطِهِمْ».

ٱلْبَرِّيَّةِ هي البرية المعروفة يومئذ ببرية بيت آون (يشوع 18: 12). وهي البرية الصاعدة من أريحا في جبل بيت إيل (يشوع 16: 1) وبيت آون شرقي بيت إيل.

وَٱلَّذِينَ مِنَ ٱلْمُدُنِ أَهْلَكُوهُمْ فِي وَسَطِهِمْ رجع البنيامينيون عن الإسرائيليين الذين تبعوهم إذ رجع الإسرائيليون إليهم بعد تظاهرهم بالانهزام فأبلوا في الحرب فهرب البنيامينيون إلى مدنهم للالتجاء فقابلهم وأحاط الفريقان بهم فوقعوا في وسطهم قتلى.

43 «فَحَاوَطُوا بِنْيَامِينَ وَطَارَدُوهُمْ بِسُهُولَةٍ، وَأَدْرَكُوهُمْ مُقَابِلَ جِبْعَةَ لِجِهَةِ شُرُوقِ ٱلشَّمْسِ».

فَحَاوَطُوا بِنْيَامِينَ الفاء هنا الفاء الفصيحة وهي ما أفصحت عن فعل شرط مقدّر أي إن أردت أن تعرف كيف «أهلكوهم في وسطهم» حاوطوا الخ.

مُقَابِلَ جِبْعَةَ هنا «أهلكوهم في وسطهم».

44 «فَسَقَطَ مِنْ بِنْيَامِينَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ. جَمِيعُ هٰؤُلاَءِ ذَوُو بَأْسٍ».

فَسَقَطَ مِنْ بِنْيَامِينَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ وكانوا كلهم ستة وعشريين ألفاً وسبع مئة فأهلك هنا أكثر من ثلثيهم.

45 «فَدَارُوا وَهَرَبُوا إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ إِلَى صَخْرَةِ رِمُّونَ. فَٱلْتَقَطُوا مِنْهُمْ فِي ٱلسِّكَكِ خَمْسَةَ آلاَفِ رَجُلٍ، وَشَدُّوا وَرَاءَهُمْ إِلَى جِدْعُومَ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ أَلْفَيْ رَجُلٍ».

يشوع 15: 32

صَخْرَةِ رِمُّونَ أي صخرة رمّان وهي حصن في أرض كثيرة الرمان ولعلها كانت عند قرية رمون وهي على قنة أكمة بين بيت إيل والأردن. وهي ليست بعيدة عن جبعة وهي في شمالي أورشليم وعلى غاية 15 ميلاً منها وشرقي بيت إيل وعلى أمد ثلاثة أميال منها ولا تزال تسمى رِمّون.

فَٱلْتَقَطُوا مِنْهُمْ فِي ٱلسِّكَكِ شبههم بتفرقهم في السكك بسنابل تترك وراء الحاصد وشبّه القبض عليهم بالتقاط تلك السنابل. وجاء مثل هذا التمثيل في إرميا وهو قوله تعالى «تَعْلِيلاً يُعَلِّلُونَ كَجَفْنَةٍ بَقِيَّةَ إِسْرَائِيلَ» (إرميا 6: 9).

وَشَدُّوا وَرَاءَهُمْ أي تبعوا البنيامينيين شادّين القوى أو السير.

إِلَى جِدْعُومَ مكان بين جبعة وصخرة رمون لم يزل مجهولاً.

46 «وَكَانَ جَمِيعُ ٱلسَّاقِطِينَ مِنْ بِنْيَامِينَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ رَجُلٍ مُخْتَرِطِي ٱلسَّيْفِ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ. جَمِيعُ هٰؤُلاَءِ ذَوُو بَأْسٍ».

خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ رَجُلٍ 18000 قُتلوا في الحرب و5000 في الطرق و2000 عند صخرة رمون والمجموع 25000 يزاد عليه 100 من ع 35 لأجل التدقيق وبقي 600 (ع 47) فالجملة 25700 ولكن عدد البنيامينيين كان 26700 فأين البقية وهي ألف والمرجّح أنهم قُتلوا في اليوم الأول (ع 21) واليوم الثاني (ع 25) وأما الست المئة فاختبأوا في صخرة رمّون (ع 47).

47 «وَدَارَ وَهَرَبَ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ إِلَى صَخْرَةِ رِمُّونَ سِتُّ مِئَةِ رَجُلٍ وَأَقَامُوا فِي صَخْرَةِ رِمُّونَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ».

ص 21: 13

وَدَارَ انحرف عن طريق الهرب لقطعها.

إِلَى صَخْرَةِ رِمُّونَ المذكورة في (ع 45) واختبأوا في الكهوف فإنها كثيرة هناك ولا يزال هنالك أربعة كهوف كبيرة إلى هذا اليوم.

وَأَقَامُوا فِي صَخْرَةِ رِمُّونَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يُقال هنا كيف عاش 600 رجل هناك مدة أربعة أشهر. لنا احتمالات كثيرة منها أنهم كانوا يصيدون البهائم والطيور ويجنون الأثمار والحبوب التي يستطيعون الوصول إليها ويسرقون وينهبون على قدر ما لهم من الفرص كما يفعل كثيرون من لصوص الآجام والكهوف إلى هذا اليوم وكان الإسرائيليون لا يكترثون بهم حينئذ لقلتهم.

48 «وَرَجَعَ رِجَالُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى بَنِي بِنْيَامِينَ وَضَرَبُوهُمْ بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ مِنَ ٱلْمَدِينَةِ بِأَسْرِهَا، حَتَّى ٱلْبَهَائِمَ، حَتَّى كُلَّ مَا وُجِدَ. وَأَيْضاً جَمِيعُ ٱلْمُدُنِ ٱلَّتِي وُجِدَتْ أَحْرَقُوهَا بِٱلنَّارِ».

بَنِي بِنْيَامِينَ أي بعض الباقين من البنيامينيين.

وَضَرَبُوهُمْ الخ لا ريب في أن الإسرائيليين جاروا بما فعلوا كثيراً. نعم إن البنيامينيين كانوا مستحقين العقاب لكن لم يستحقوه إلى هذا الحدّ. ولماذا أحرقوا المدن والبهائم والله لم يأمرهم بها ولا باستئصال أصحابها. فترى من ذلك أنهم لم يأتوا هذه الأفعال الفظيعة انتصاراً لله أو للدين بل شفاء لغيظهم ورغبتهم في إذلال إخوتهم بل إهلاكهم من كبيرهم إلى صغيرهم وبهائمهم ومساكنهم. إن الإسرائيليين لم يكونوا أبرّ من البنيامينيين. وكانوا جميعاً مستحقي التأديب فسمح الديان العادل الحكيم بتأديب الجميع ليرجعوا إليه ولكنهم ظلوا كما كانوا.

فوائد

  1. إن الاتحاد قوّة ولكن يجب أن يكون في الخير على الشر لكي يكون اتحاداً يسر الله وينفع المتحدين (ع 1 و11).

  2. إن كبرياء البنيامينيين من الأسباب التي حملتهم على الانتصار لإخوتهم الجبعيين وكبرياء الإسرائيليين حملتهم على المحاربة دون استعمال وسائل للصلح. فاهرب من الكبرياء (ع 13).

  3. إنه يجب السؤال من الرب بنيّة مخلصة فنطلب منه أن يهدينا طريقاً لنسلك فيه وليس طريقاً نختاره نحن (ع 18).

  4. إن الله يترك الناس ليسلكوا في طريقهم ليتعلموا أن طريقه أفضل (ع 23).

  5. من الكسر نتعلم (1) التأمل (2) التوبة (3) الرجوع إلى الله (4) الاجتهاد الجديد (ع 26).

  6. إن مواعيد الله لا تغنينا عن استعمال الوسائل (ع 29).

  7. إننا محاطون بمخاطر لا نعرفها (ع 34).

  8. لبنيامين بقيّة ومن تلك البقية شاول الملك الأول وبولس الرسول وهكذا أظهر الله عنايته ومقاصده الصالحة (ع 47).

  9. الغيرة حسنة في ما هو حسن فغيرة إسرائيل للعدل كانت حسنة لكن تبيّن أنها كانت للانتقام الشديد الخارج عن دائرة العدل. فيلزمنا الحكمة والحكم على أنفسنا في بداءة الأمور.

اَلأَصْحَاحُ ٱلْحَادِي وَٱلْعِشْرُونَ

محتويات هذا الأصحاح:

  1. ندم الإسرائيليين على حلفهم أن لا يزوجوا بني بنيامين بناتهم خشية أن ينقرض سبط من إسرائيل (ع 1 - 7).

  2. إهلاكهم يابيش جلعاد ما عدا العذارى ليكون زوجات للباقين من بنيامين (ع 8 - 15).

  3. توصيتهم للبنيامينيين أن يخطفوا بنات شيلوه وهن يرقصن الرقص المقدس لأن عذارى يابيش جلعاد لم يكن كافيات لهنّ (ع 16 - 25).

طريق وقاية سبط بنيامين من الانقراض ع 1 إلى 25

1 «وَرِجَالُ إِسْرَائِيلَ حَلَفُوا فِي ٱلْمِصْفَاةِ قَائِلِينَ: لاَ يُسَلِّمْ أَحَدٌ مِنَّا ٱبْنَتَهُ لِبِنْيَامِينَ ٱمْرَأَةً».

ص 20: 1

حَلَفُوا فِي ٱلْمِصْفَاةِ لم يُذكر كيف كان ذلك الحلف في نبإ ما سبق من اجتماعهم في المصفاة (ص 20: 1 - 11). ويظهر من (ع 18) إن ذلك القَسَم لم يكن قسماً بسيطاً بل كان مقترناً بلعن من يخالف المقسوم عليه كالقَسم في (أعمال 23: 14) وذُكر الكلام على المصفاة في تفسير (ص 20: 1).

لاَ يُسَلِّمْ أَحَدٌ مِنَّا ٱبْنَتَهُ لِبِنْيَامِينَ ٱمْرَأَةً أي لا يعطي أحد منا ابنة له لأحد من سبط بنيامين زوجة.

2 «وَجَاءَ ٱلشَّعْبُ إِلَى بَيْتِ إِيلَ وَأَقَامُوا هُنَاكَ إِلَى ٱلْمَسَاءِ أَمَامَ ٱللّٰهِ، وَرَفَعُوا صَوْتَهُمْ وَبَكَوْا بُكَاءً عَظِيماً».

ص 20: 18 و26

بَيْتِ إِيلَ... أَمَامَ ٱللّٰهِ ذُكر الكلام عليها في تفاسير الأسفار الماضية ومنها تفسير (ص 20: 18). وكان فيها تابوت العهد في هذا الوقت فمعنى قوله «أمام الله» أمام تابوت الله أو أمام الله الذي في التابوت لأنه مسكنه بينهم.

وَبَكَوْا وهم علّة ما أبكاهم لا الرب.

3 «وَقَالُوا: لِمَاذَا يَا رَبُّ إِلٰهَ إِسْرَائِيلَ حَدَثَتْ هٰذِهِ فِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى يُفْقَدَ ٱلْيَوْمَ مِنْ إِسْرَائِيلَ سِبْطٌ؟».

لِمَاذَا... حَدَثَتْ هٰذِهِ هذا ليس بسؤال عن علة حدوث تلك الأمور المحزنة لأن علتها ظاهرة كل الظهور. فالاستفهام إنكاري معناه أنه لم يكن من سبب موجب لحدوث تلك النوازل إلا جهلهم الذي أبكاهم لندمهم على ما فعلوا فهو بمنزلة اعتراف لله بخطيئتهم وصلاة له ليتمكنوا من دفع ما صاروا إليه من الشر العظيم. وذكرهم «إسرائيل» ثلاث مرات في هذه الآية يدل على أنهم لم يفقدوا الشعور بأنهم شعب واحد تجب المحافظة على وحدته وإنهم أتوا ما يوجب تفريقه. فعدلهم التوحشي بانتقامهم الفظيع كان ممزوجاً بالرحمة الجاهلية التي هي أشد توحشاً منه بما أتوه إبقاء على سبط بنيامين كما سترى.

حَتَّى يُفْقَدَ ٱلْيَوْمَ مِنْ إِسْرَائِيلَ سِبْطٌ كان فقدان هذا السبط متوقعاً لأمرين الأول قتلهم 26100 منه ظلماً لأن الأوريم والتميم وإن أجاز لهم الانتقام لم يجز لهم أن يقتلوا كل أولئك ليشرف به السبط على الانقراض. والثاني قسَمهم على أن لا يصاهروا أحداً من بنيامين. وهذا قسَم ضلال وإثم لا يجوز أن يراعى فكان تركه براً لهم والمحافظة عليه دينونة عليهم. وهذا دليل قاطع على أن الإسرائيليين كانوا يومئذ في جهل لا يقلّ عن جهل جيرانهم الوثنيين.

4 «وَفِي ٱلْغَدِ بَكَّرَ ٱلشَّعْبُ وَبَنَوْا هُنَاكَ مَذْبَحاً وَأَصْعَدُوا مُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ».

2صموئيل 24: 25

بَنَوْا هُنَاكَ مَذْبَحاً قال أحد المفسرين «إن داود أتى مثل هذا في بيدر أرونة اليبوسي (2صموئيل 24: 18 و25).. فإن لم تكن خيمة الشهادة كلها قد نُقلت يومئذ إلى بيت إيل لم يكن ذلك المذبح إلا إلى حين لكثرة الذبائح والتقدمات». وقال آخر «أظن أنه لم يرد بذلك إلا بناء مذبح لخيمة الشهادة التي كانت يومئذ في بيت إيل فإن داود وصموئيل بنى كل منهما مذبحاً في غير تلك الخيمة» (2صموئيل 24: 25 و1صموئيل 7: 17). والخلاصة أن إقامة مذبح للتقدمات الدينية عند الضرورة كان جائزاً إنما المذبح الممنوع هو المذبح الدائم في غير خيمة الشهادة. ولم يقل أن فينحاس الكاهن منع حينئذ الإسرائيليين من بنائه.

5 «وَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: مَنْ هُوَ ٱلَّذِي لَمْ يَصْعَدْ فِي ٱلْمَجْمَعِ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ إِلَى ٱلرَّبِّ؟ لأَنَّهُ صَارَ ٱلْحَلْفُ ٱلْعَظِيمُ عَلَى ٱلَّذِي لَمْ يَصْعَدْ إِلَى ٱلرَّبِّ إِلَى ٱلْمِصْفَاةِ قَائِلاً: يُمَاتُ مَوْتاً».

ص 5: 23

مَنْ هُوَ ٱلَّذِي لَمْ يَصْعَدْ هذا السؤال مقدمة للآية الثامنة.

لأَنَّهُ صَارَ ٱلْحَلْفُ ٱلْعَظِيمُ هذا تعليل للسؤال السابق ولم يُذكر هذا الحلف في النبإ السابق.

ٱلْمَجْمَعِ محلّ الاجتماع.

6 «وَنَدِمَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى بِنْيَامِينَ أَخِيهِمْ وَقَالُوا: قَدِ ٱنْقَطَعَ ٱلْيَوْمَ سِبْطٌ وَاحِدٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ».

وَنَدِمَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى بِنْيَامِينَ أَخِيهِمْ أي أسفوا أسفاً عظيماً على ما فعلوه بسبط بنيامين أخيهم من كثرة القتل حتى أشرف على الانقراض فالندم ليس على ذات السبط بل على ما فعلوه به. فإن الندم غمّ يصيب الإنسان ويتمنى أن ما وقع منه لم يقع.

7 «مَاذَا نَعْمَلُ لِلْبَاقِينَ مِنْهُمْ فِي أَمْرِ ٱلنِّسَاءِ، وَقَدْ حَلَفْنَا نَحْنُ بِٱلرَّبِّ أَنْ لاَ نُعْطِيَهُمْ مِنْ بَنَاتِنَا نِسَاءً؟».

مَاذَا نَعْمَلُ الخ كان عليهم لو عرفوا الحق أن يخالفوا الحلف أي أن يحنثوا فيه لأنه على غير جائز ويزوجوا البنيامينيين بناتهم. وأيّ عاقل يعرف الحق يوجب على من يقسم أن يقتل بريّاً من الناس أن يبرّ في قسمه أو على حلف أن يسرق إن سرق فحلفهم أن لا يزوجوا البنيامينيين بناتهم خطأ يجب الرجوع عنه لا العمل بمقتضاه. لكن السؤال مع ذلك يدل على الشفقة على إخوتهم والعناية بأمرهم.

8 «وَقَالُوا: أَيُّ سِبْطٍ مِنْ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ لَمْ يَصْعَدْ إِلَى ٱلرَّبِّ إِلَى ٱلْمِصْفَاةِ؟. وَهُوَذَا لَمْ يَأْتِ إِلَى ٱلْمَحَلَّةِ رَجُلٌ مِنْ يَابِيشِ جِلْعَادَ إِلَى ٱلْمَجْمَعِ».

1صموئيل 11: 1 و31: 11

يَابِيشِ جِلْعَادَ المرجّح أنها اليوم أطلال في وادي يابيس تُعرف بالدير إلى الجنوب الشرقي من بحيرة طبرية وعلى غاية 23 ميلاً منها.

لَمْ يَأْتِ إِلَى ٱلْمَحَلَّةِ رَجُلٌ مِنْ يَابِيشِ الخ المحلة مكان الحلول حول خيمة الشهادة والمراد بها المجمع كما أفاد قوله «إلى المجمع». ولم يذكر الكاتب السبب الذي حمل اليابيشيين على الغياب وللمفسرين فيه ظنون منها حزنهم على البنيامينيين فإنهم كانوا من المؤاسين لهم. ومنها أنهم ضُرّوا مع البنيامينيين في ذلك الانتقام الوحشي ضرراً عظيماً هبط بهم إلى الفقر والشقاء. وظل اليابيشيون على ولاء البنيامينيين بعد ذلك فإنهم لما بلغهم ما فعله الفلسطينيون بشاول من تشويه جثته وجثث بنيه وتسميره على سور بيت شان ساروا ليلاً وأنزلوها وأتوا بها (1صموئيل 31: 8 - 13) ومدحهم داود على ذلك وباركهم (2صموئيل 2: 4 - 6).

9 «فَعُدَّ ٱلشَّعْبُ فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ رَجُلٌ مِنْ سُكَّانِ يَابِيشِ جِلْعَاد».

فَعُدَّ ٱلشَّعْبُ أي عُدّت جماعاته باعتبار المدن والقرى لا أفراده ولعلّ بعضهم كان ينادي أهل كل مدينة وقرية فيجيب بعض أهلها بقوله نعم فلم يجبه أحد من سكان يابيش.

10 «فَأَرْسَلَتِ ٱلْجَمَاعَةُ إِلَى هُنَاكَ ٱثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ٱلْبَأْسِ، وَأَوْصَوْهُمْ: ٱذْهَبُوا وَٱضْرِبُوا سُكَّانَ يَابِيشِ جِلْعَادَ بِحَدِّ ٱلسَّيْفِ مَعَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلأَطْفَالِ».

ص 5: 23 وع 5 و1صموئيل 11: 7

فَأَرْسَلَتِ ٱلْجَمَاعَةُ أي الإسرائيليون المجتمعون.

ٱثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ٱلْبَأْسِ اعتادوا عدد الإثني عشر من عدد الأسباط فاختاروه وإن لم يكن حينئذ بينهم أحد من بنيامين. وكان ذلك العدد مقدساً عندهم ولعل هذا مما حملهم على الأسف الشديد من أشراف بني بنيامين على الانقراض.

مَعَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلأَطْفَالِ أي النساء المتزوجات والأبناء الأطفال (ع 11). وهذا العمل مخالف للشريعة وليس فيه شيء من الصواب. فمثل هذه الأعمال لا تسلّم بها الشريعة بل توجب اللعنة على مرتكبيها بحكم الشريعة الإلهية العادلة. وما الحامل عليها إلا الجهل والكبرياء.

11 «وَهٰذَا مَا تَعْمَلُونَهُ: تُحَرِّمُونَ كُلَّ ذَكَرٍ وَكُلَّ ٱمْرَأَةٍ عَرَفَتِ ٱضْطِجَاعَ ذَكَرٍ».

عدد 31: 17

هذه الآية أيضاح للآية العاشرة.

12 «فَوَجَدُوا مِنْ سُكَّانِ يَابِيشِ جِلْعَادَ أَرْبَعَ مِئَةِ فَتَاةٍ عَذَارَى لَمْ يَعْرِفْنَ رَجُلاً بِٱلاضْطِجَاعِ مَعَ ذَكَرٍ، وَجَاءُوا بِهِنَّ إِلَى ٱلْمَحَلَّةِ إِلَى شِيلُوهَ ٱلَّتِي فِي أَرْضِ كَنْعَانَ».

يشوع 18: 1

إِلَى شِيلُوهَ هذا يدل على أنهم نقلوا خيمة الشهادة إلى شيلوه بعد نهاية محاربتهم للبنيامينيين التي هي الموضع الأصلي للخيمة (ص 18: 31).

ٱلَّتِي فِي أَرْضِ كَنْعَانَ هذا تمييز لها عن شيلوه التي شرقي الأردن عل ما ظن بعضهم. وقال آخر إن هذا ذُكر لمقابلة قوله يابيش جلعاد. والظاهر الذي لا يحتاج إلى الظن أنها صفة واقعية لبيان أن شيلوه في أرض الكنعانيين لا في أرض جلعاد وهي مدينة شمالي بيت إيل المعروفة اليوم ببيتين وجنوبي لبونة على منتصف الطريق بين بيتين ونابلس وشمالي أورشليم وعلى غاية 17 ميلاً منها واسمها اليوم سيلون. اختارها يشوع مقاماً لخيمة الشهادة وتابوت العهد (يشوع 18: 1 و8 - 10) فبقيا فيها ثلاث مئة سنة والأوقات التي كانت فيها في غير شيلوه قصيرة لا يعتدُّ بها.

13 «وَأَرْسَلَتِ ٱلْجَمَاعَةُ كُلُّهَا وَكَلَّمَتْ بَنِي بِنْيَامِينَ ٱلَّذِينَ فِي صَخْرَةِ رِمُّونَ وَٱسْتَدْعَتْهُمْ إِلَى ٱلصُّلْحِ».

ص 20: 47 تثنية 20: 10

وَأَرْسَلَتِ ٱلْجَمَاعَةُ كُلُّهَا رجلاً أو رجالاً معيّنين فحذف المفعول به للقرينة.

صَخْرَةِ رِمُّونَ (انظر تفسير ص 20: 45).

إِلَى ٱلصُّلْحِ وتقرير السلم واعتبارهم إخوة وسبطاً من أسباط إسرائيل كما كانوا قبل الحرب.

14 «فَرَجَعَ بِنْيَامِينُ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ، فَأَعْطُوهُمُ ٱلنِّسَاءَ ٱللَّوَاتِي ٱسْتَحْيَوْهُنَّ مِنْ نِسَاءِ يَابِيشِ جِلْعَادَ. وَلَمْ يَكْفُوهُمْ هٰكَذَا».

فَرَجَعَ بِنْيَامِينُ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ إلى مدنهم وقراهم الخربة.

وَلَمْ يَكْفُوهُمْ لأن بنات يابيش جلعاد كانت أربع مئة (ع 12) ورجال بنيامين ست مئة (ص 20: 47).

15 «وَنَدِمَ ٱلشَّعْبُ مِنْ أَجْلِ بِنْيَامِينَ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ جَعَلَ شَقّاً فِي أَسْبَاطِ إِسْرَائِيل».

ع 6

لأَنَّ ٱلرَّبَّ جَعَلَ شَقّاً فِي أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ في الكلام استعارة مكنيّة وهي استعارة الثوب السالم للشعب التام والقرينة عليه الشق أو استعارة مصرّحة وهي استعارة الشق لنقص أسباط الإسرائيليين وخلّوهم من سبط كان كثير العدد. فهم كانوا كثوب سالم في الكمال شُقّ منه قطعة أو كان بينهم خلوّ بالنقص كالشق في الثوب. ومعنى قوله «جعل الرب شقاً» إن الرب سمح بأن يكون ذلك الشق فيهم لأن الذي جعل الشق فيهم على الحقيقة هم أنفسهم بقساوتهم وتوحشهم وجهلهم ودوسهم شريعة الله.

16 «فَقَالَ شُيُوخُ ٱلْجَمَاعَةِ: مَاذَا نَصْنَعُ بِٱلْبَاقِينَ فِي أَمْرِ ٱلنِّسَاءِ، لأَنَّهُ قَدِ ٱنْقَطَعَتِ ٱلنِّسَاءُ مِنْ بِنْيَامِينَ؟».

مَاذَا نَصْنَعُ بِٱلْبَاقِينَ وهم المئتان (انظر تفسير ع 14) وجواب هذا السؤال سهل لو عرفوا الحق وهو أن يعطوهم بنات منهم لأن قسَمهم غير شرعيّ فيجب الرجوع عنه وقيامهم به إثمٌ فوق إثم فهم به كالذي يحلف بالله على أنه يدوس شريعته. قال أحد المفسرين هنا «أرادوا أن يبرّوا في قسَمهم بالحرف وهم يخنثون فيه بالروح». إن الحنث في الحلف عقابه شديد (خروج 20: 7) لكن الجهلاء يحلفون على ما لا يجوز فهم باجتهادهم في أن يبرّوا في حلفهم يدنسون الشريعة المقدسة.

17 «وَقَالُوا: مِيرَاثُ نَجَاةٍ لِبِنْيَامِينَ، وَلاَ يُمْحَى سِبْطٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ».

مِيرَاثُ نَجَاةٍ لِبِنْيَامِينَ أي ليكن لبنيامين ميراثهم للنجاة من الانقراض أو ليبق لهم ميراثهم من الأرض وليسكنوه مطمئنين وينجوا من الانقراض.

وَلاَ يُمْحَى سِبْطٌ مِنْ إِسْرَائِيلَ إن هذا السبط لم يُمح ولكنه لم يرجع إلى ما كان عليه مع ما صنعوه له وأكرموه بأن اختاروا منه أهود قاضياً وشاول ملكاً وأول ملوك إسرائيل. ولعل هذا مفاد البركة التي باركه موسى إياها في قوله «حَبِيبُ ٱلرَّبِّ يَسْكُنُ لَدَيْهِ آمِناً. يَسْتُرُهُ طُولَ ٱلنَّهَارِ، وَبَيْنَ مَنْكِبَيْهِ يَسْكُنُ» (تثنية 33: 12).

18 «وَنَحْنُ لاَ نَقْدِرُ أَنْ نُعْطِيَهُمْ نِسَاءً مِنْ بَنَاتِنَا، لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَلَفُوا قَائِلِينَ: مَلْعُونٌ مَنْ أَعْطَى ٱمْرَأَةً لِبِنْيَامِينَ».

ص 11: 35 وع 1

مَنْ أَعْطَى ٱمْرَأَةً من بناته كما مرّ في (ع 1) وإلا فهم أعطوهم بنات يابيش جلعاد نساء (ع 14). وحذف الكاتب ذلك اعتماداً على القرينة (في هذه الآية نفسها وفي الآية الأولى).

19 «ثُمَّ قَالُوا: هُوَذَا عِيدُ ٱلرَّبِّ فِي شِيلُوهَ مِنْ سَنَةٍ إِلَى سَنَةٍ شِمَالِيَّ بَيْتِ إِيلَ، شَرْقِيَّ ٱلطَّرِيقِ ٱلصَّاعِدَةِ مِنْ بَيْتِ إِيلَ إِلَى شَكِيمَ وَجَنُوبِيَّ لَبُونَةَ».

هُوَذَا عِيدُ ٱلرَّبِّ فِي شِيلُوهَ قال بعضهم هو عيد موضعي مخصوص لأهل شيلوه. وقال آخر هو أحد الأعياد السنوية الثلاثة ولا يمكننا تعيينه إذ ليس في الآية من إشارة إلى مُعيَّن. وظن بعضهم أنه عيد المظال. وظن بعضهم أنه عيد الفصح وبنى ظنه على دوران البنات في الرقص (ع 21) ورأى أنهن كن يأتين ذلك تذكاراً لرقص النساء فرحاً بالخروج من مصر الذي في وقته وُضع عيد الفصح (خروج 15: 20) وسيأتي الكلام في هذا الرقص (انظر ع 21).

شِيلُوهَ وصفها في هذه الآية نفسها يدل على أنها ما تُعرف اليوم بسيلون (انظر تفسير ع 12). ووصفها هنا بتعيين الموقع كوصفها في ما مرّ بأنها في أرض كنعان. وذكرها في عدة مواضع بلا وصف لا يحمل على توهم الزيادة هنا بيد غير يد الكاتب. فإن الكاتب رأى أن يزيد هذه الفائدة في آخر كتابه. ومثل هذا يقع كثيراً في كتب المؤرخين القدماء والمحدثين التي لم تغيرها يد غير يد كاتبها.

بَيْتِ إِيلَ... شَكِيمَ.... لَبُونَةَ بيت إيل هي المعروفة اليوم ببيتين على شرق منتصف خط بين القدس ونابلس. وشكيم هي المعروفة اليوم بنابلس. ولبونة جنوبي نابلس واسمها اليوم اللُّبن ولم تُذكر في غير هذا الموضع. ووُصفت شيلوه بالتدقيق ليعرف البنيامينيون المكان.

20 «وَأَوْصَوْا بَنِي بِنْيَامِينَ: ٱمْضُوا وَٱكْمِنُوا فِي ٱلْكُرُومِ».

ٱمْضُوا وَٱكْمِنُوا فِي ٱلْكُرُومِ هذا يدلّ على الترجيح أن الكروم كانت مورقة حينئذ تحجب المختبئ فيها.

21 «وَٱنْظُرُوا. فَإِذَا خَرَجَتْ بَنَاتُ شِيلُوهَ لِيَدُرْنَ فِي ٱلرَّقْصِ، فَٱخْرُجُوا أَنْتُمْ مِنَ ٱلْكُرُومِ وَٱخْطِفُوا لأَنْفُسِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ ٱمْرَأَتَهُ مِنْ بَنَاتِ شِيلُوهَ، وَٱذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ بِنْيَامِينَ».

خروج 15: 20 وص 11: 34 و1صموئيل 18: 6 وإرميا 31: 13

بَنَاتُ شِيلُوهَ لِيَدُرْنَ فِي ٱلرَّقْصِ أي يرقصن على خط مستدير كمحيط الدائرة ولعل ذلك كرقص الدائرة المعروف عند العامة بالدبكة وهو لا يزال إلى هذا اليوم. واستدل الأسقف بتريك بهذا على أن العيد كان عيد المظال بدعوى أنه ما كان يُسمح للبنات اليهوديات أن ترقص في غير عيد المظال.

وَٱذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ بِنْيَامِينَ كان هنالك سكّة من شكيم إلى بيت إيل على حدود بنيامين يسهل عليهم الهرب فيها.

22 «فَإِذَا جَاءَ آبَاؤُهُنَّ أَوْ إِخْوَتُهُنَّ لِيَشْكُوا إِلَيْنَا، نَقُولُ لَهُمْ: تَرَأَّفُوا عَلَيْهِمْ لأَجْلِنَا، لأَنَّنَا لَمْ نَأْخُذْ لِكُلِّ وَاحِدٍ ٱمْرَأَتَهُ فِي ٱلْحَرْبِ، لأَنَّكُمْ أَنْتُمْ لَمْ تُعْطُوهُمْ فِي ٱلْوَقْتِ حَتَّى تَكُونُوا قَدْ أَثِمْتُمْ».

تَرَأَّفُوا عَلَيْهِمْ لأَجْلِنَا أي ارحموهم إكراماً لنا.

أَنْتُمْ لَمْ تُعْطُوهُمْ فِي ٱلْوَقْتِ حَتَّى تَكُونُوا قَدْ أَثِمْتُمْ أي أنتم لم تعطوا البنيامينيين بناتكم في الوقت الذي أخذوهنّ فيه وعلى ذلك تكونون غير حانثين في القسَم.

23 «فَفَعَلَ هٰكَذَا بَنُو بِنْيَامِينَ، وَاتَّخَذُوا نِسَاءً حَسَبَ عَدَدِهِمْ مِنَ ٱلرَّاقِصَاتِ ٱللَّوَاتِي ٱخْتَطَفُوهُنَّ، وَذَهَبُوا وَرَجَعُوا إِلَى مُلْكِهِمْ وَبَنَوْا ٱلْمُدُنَ وَسَكَنُوا بِهَا».

ص 20: 48

وَاتَّخَذُوا نِسَاءً حَسَبَ عَدَدِهِمْ أي إن المئتين من البنيامينيين الذين لا نساء لهم خطفوا مئتي امرأة من الراقصات.

24 «فَسَارَ مِنْ هُنَاكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى سِبْطِهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَخَرَجُوا مِنْ هُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مُلْكِهِ».

فَسَارَ مِنْ هُنَاكَ أي من شيلوه.

فِي ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ أي الوقت الذي فيه خطف البنيامينيون بنات شيلوه.

25 «فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ. كُلُّ وَاحِدٍ عَمِلَ مَا حَسُنَ فِي عَيْنَيْهِ».

ص 17: 6 و18: 1 و19: 1 تثنية 12: 8 وص 17: 6

فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ أي الأيام التي حدثت فيها الأمور في هذا الأصحاح.

لَمْ يَكُنْ مَلِكٌ فِي إِسْرَائِيلَ الخ (انظر ص 17: 6 و18: 1 و19: 1 والتفاسير).

فوائد

  1. إنه يجب أن يكون القسَم شرعياً حتى يُعد الحنث به إثماً وإلا فالقسَم عينه إثم كقسم بني إسرائيل هنا (ع 1).

  2. إنه يجب على المؤمن أن لا يعطي ابنته زوجة لغير المؤمن وعلى المؤمن أن لا يتزوج امرأة غير مؤمنة (ع 1).

  3. إنه يجب أن نخبر الرب بكل مصائبنا وننتظر منه التعزية والإرشاد (ع 2).

  4. إذا تألم عضو واحد يتألم الجسد كله وشعب الله جسد واحد (ع 3).

  5. إن عاقبة كل من الإفراط والتفريط الندم (ع 2 و3).

  6. إن عدم العمل خطيئة وعدم الاتحاد مع شعب الله خيانة (ع 8).

  7. إن قتل النساء والأطفال في زمن الحرب من شرّ الأعمال الوحشية وأفظع الآثام. وخطأ الشعب ليس بقاعدة لنا لنجري عليها (ع 10 و11).

  8. إن السلم الحقيقي لا يكون إلا بعد إقامة الحق والتطهير من الشرور (ع 24).

  9. إنه من فوائد السلم أن يكون كل إنسان في بلاده وفي بيته وفي عمله (ع 24).

  10. إن تمكن الإنسان من عمل ما يحسن بعينيه بلا زاجر ولا رادع مصدر الشرور الكثيرة (ع 25).

 
Call of Hope  
P.O.Box 10 08 27  
D-70007 
Stuttgart 
Germany