العودة الى الصفحة السابقة
يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ (لوقا 23: 34)

يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ (لوقا 23: 34)


أيها الأخ العزيز،

إن حياتك سالكة بين الحق والرحمة كطريق ضيق بين جبلين عاليين. وربما تظن أن حياتك سالمة ومستقيمة ونافعة، وتفرح من بوادر الإنسانية في المجتمع، ولكن إن تعمقت في ناموس الله تعرف بسرعة أخطاءك وآثامك. والله القدوس يدعوك اليوم إلى حضور جلاله. فتعرف أن الرب نفسه هو مقياس حياتك كما يقول: «كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ» (1بطرس 1: 16).

هل سمعت دعوة الله هذه؟ تعال إلى الأزلي، فتعرف بمجده فسادك «لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ» (متّى 19: 17). «الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا» (رومية 3: 12). والروح القدس يوبخ ضميرك ويقول لك بصوت رفيع رنان: هل نسيت الكذبة البيضاء التي نطقتها، لتخلص نفسك من حالة ضيقة؟ أو لا زلت تنكر ابتزازك السري. لما مددت يدك خفية لتنقض وتكمش ما للآخرين؟ وهلا تذكرت عملك النجس الذي ارتكتبه مع إنسان آخر وأنتما منعزلان على الانفراد؟

إن الروح القدس يكشف كل ذنوبك بنوره الساطع. ويريك أنك رديء منذ حداثتك وفاسد من أصولك. تقدم إلى ربك واستمع لصوته المخترق نفسك: الحق عليك. أنت المذنب. وليس هذا الحكم حلماً عابراً، بل حقاً مبيناً في ناموس الله. أنت محكوم عليك بالموت والهلاك. ولا تعرفن حالتك.

أيها الأخ، ادرك واقع حياتك بدقة، ولا تكذبن على نفسك، بل التجئ إلى الله واعترف أمامه بكل خطاياك واستغفره متواضعاً، لأن إلهنا محبة وصبر ورحمة.

وإن رجعت إليه تضمحل غباوتك. ويريك الروح القدس جواباً لتوبتك وندامتك، الإنسان الفريد الذي لم يرتكب خطية رغم أن الشيطان جربه ألف مرة ومرة. واسم هذا الإنسان يسوع المسيح الرب. لقد جاع في البرية، ولكنه لم يهتم بنفسه، بل طلب مشيئة الله. ولما رأى موت الظلم مقبلاً عليه لم يهرب منه بل ثبت أميناً في مسيره. ولما عذبه مبغضوه باركهم بفيضان جودته.

ادرس حياة ابن الإنسان، فتعرف حالاً ينبوع قوته وأصل طهارته. إنه مولود من الروح القدس، ولا يخجل أن يسمي الله أباه. والمسيح أيضاً هو كلمته المتجسدة، ممتلئاً بالنعمة والحق. ففيه ظهر صبر الله وسلطانه، فشفى المرضى، وأخرج شياطين من الملبوسين، وأقام الموتى، وغفر ذنوب التائبين.

ولكن يا للعجب العجاب! فقد حاربه الفقهاء المتدينون، ولم يشكروه لبركته. لأنه ما اعتقدوا أن المولود من مريم هو بنفس الوقت ابن الله. وما أدركوا سر المسيح بتاتاً، بل أبغضوا المحب وجدفوا على لاهوته، وظلوا عمياً لاسم الله الجديد إنه الآب القدوس الحنون.

والناموسيين استمروا في جهلهم، وسجدوا لله العظيم المجهول خائفين منه، وأهملوا قبول المحبة المتجسدة بينهم، وظنوا أنهم يقدمون لله تعالى خدمة جلى إن صلبوا ابنه ولم يتغيروا عن أفكارهم حتى اليوم.

ولكن المصلوب عرف جهلهم، واحتمل بغضتهم صامتاً، لأنهم كانوا معقدين مرضى في أرواحهم، والروح القدس لم يحل فيهم. فلا يدركون المسيح. ودمه لم يكن قد صالح البشر مع الله بعد. فلم يرفض المسيح مضايقيه بل غفر لهم قتله مسبقاً. ولخص كل أفكاره في صرخة واحدة قائلاً: «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا 23: 34).

وهذه الكلمة الأولى من فم المصلوب المعلّق على مذبح العالم، هي البرهان القاطع لألوهيته وخلاصنا الأكيد، لأن المعذب قد غلب كل غضب بشري وبغضة إنسانية في نفسه قطعاً، وأعلن في صلاته الشفاعية روح العهد الجديد. فكان يسوع كاهن الله، الذي صالح كل الخطاة مع أبيه السماوي، فلم ينزل عن الصليب ليخلص نفسه، بل وافق على إرادة أبيه، الذي عيّنه ذبيحة للكفارة عن العالم كله.

وما لا ريب فيه، أن الله القدوس قد استجاب صلاة ابنه الكهنوتية، وغفر نهائياً لكل الجهلاء ذنوبهم تماماً. فالمسيح هو الوسيط بين الله والناس، وبدونه لا تقدر أن تأتي إلى الآب. وبكلمته الأولى على الصليب شق لنا الطريق إلى السماء، فصار لنا قدوم إلى الله، لاستلام نعمة فوق نعمة.

أيها الأخ، اقبل صلاة المصلوب، الذي فكر فيك وسط عاصفة الآلام، وأنت جاهل غير مفتكر بالله وذنوبك. ولكن القدوس الأزلي قد غفر لأجل المسيح كل آثامك وعيوبك. فاحفظ صلاة المسيح الكهنوتية غيباً، وادخل إلى الغفران الكامل، الذي أتمه المسيح على الصليب. وآمن بالنعمة المعدة لأجلك، ودع قلبك يتكلم ويصلي إلى المسيح قائلاً: أشكرك يا حمل الله، لأنك رفعت كل خطاياي وغفرت ذنوبي. أشكرك لمحبتك الأزلية. وأحبك وأسلم لك حياتي لعهد جديد. آمين.

فإن صليت بهذه الكلمات في قوة الإيمان. يمكنك أن تتأكد أن الله استجاب لك وقبلك، ويثبتك في نعمته ويغلب شرك، ويغير ذهنك ويملأك بروحه القدوس. عندئذ لا تبقى جاهلاً، بل تدرك فجأة أن الله أبوك ومحبة المسيح الفائقة المعرفة تشملك، والروح القدس حال في قلبك. فيطفح من صميم فؤادك الحمد المستمر للمصلوب، لأنه طهرك من كل الذنوب، لتصبح حياتك حمداً لنعمته.