العودة الى الصفحة السابقة
سلطان الله

سلطان الله


بحيرة طبرية جميلة ولطيفة. وهي محاطة بصخور الجولان على شكل مدرج وعر الانحدار، ينخفض إليها من جهتها الشرقية. أما غرباً فتحدها هضاب خضر على قمم مرتفعة. والعجيب في الأمر هو أن البحيرة منخفضة مقدار مئتي متر عن سطح البحر.

ويتاخم هذه البحيرة شمالاً قرب مصب نهر الأردن فيها، مدينة كفرناحوم. وهي محور إقليم الجليل، ومركز هام لطرق المواصلات المختلفة، وأكبر ميناء على شاطئ البحيرة. وكان الصيادون كل صباح، يبيعون في أسواقها السمك الطازج الذي اصطادوه من أعماق المياه العذبة في البحيرة. وتلك الأسواق كانت قبل ألفي سنة تكتظ بأقوام مختلفي الأجناس، يهوداً وعرباً وفينقيين ورومان بألبستهم المتنوعة الأزياء.

وفي ذات يوم آنذاك، ارتجت المدينة وملأت الدهشة قلوب السكان، إذ جاءهم شاب في الثلاثين من عمره واسمه يسوع من الناصرة، ومكث عند الصياد سمعان، وكان يذيع خبراً هاماً. لأنه يتكلم عن الله بسلطان عظيم، ويصنع قوات خارقة. لقد شفى المرضى، وطهّر البرص، وفتح أعين العمي. وهدأ العاصفة التي هبت على البحيرة بكلمته. أخرج الشياطين من الملبوسين بأمره. وشعر الناس بجلاله المستتر. فتسارعوا القول: «ألعله المسيح الملك الإلهي الموعود، الذي يحررنا من الاستعمار الروماني؟!»

وكان في كفرناحوم مفلوج، لا يستطيع الحراك. وآمن رغم أوجاعه بالله ومحبته. ولكن العذاب سحق إيمانه إلى حد ما. والشيطان جربه، ليجدف على الله. وبعض أصدقائه زاروه من وقت لأخر، وتعمقوا معه في التوراة والمزامير تعزية له.

وفي أحد الأيام قال أحد أصدقاء المفلوج: «أتريد أن نحملك إلى يسوع ليشفيك؟» فجاوب المفلوج: «كيف تعلم أنه قادر أن يشفيني من فلجي المزمن؟ أقوّته شرعية من الله أم هو ساحر، يؤاخي الشيطان؟» فجاوبه زملاؤه: «إن يسوع ممتلئ المحبة واللطف، وعائش في طهارة وتواضع مثالي، ولا يرفض أحداً جاءه. ولك أن تثق بكلمته، فهو يفسر التوراة بدقة واحترام ومقدرة».

وبعد تساؤل وإحجام، وافق المريض على اقتراح أصدقائه. فوضعوه على نقالة وهو يتوجع ويتأوه. وحمله أربعة رجال برجاء كبير نحو بيت سمعان الصياد، حيث كان يسوع يبشر بملكوت الله.

ولما اقتربوا من البيت الصغير رأوا بفزع أن الغرف كانت ممتلئة بالمستمعين الجالسين حتى على الشبابيك والأبواب ليسمعوا كلام الله. ويروا العجائب الجارية على يد يسوع.

فقال أحد حملة المفلوج، وهو يشاهد صعوبة الوصول إلى يسوع، بسبب الزحمة الشديدة: «فليكن! سنطلع إلى السطح، ننقب السقف وندليه إلى قدام قدمي المسيح ليشفيه». فأحضر آخر معولاً وثالث رفشاً ورابع حبالاً، لأنهم عزموا على إدخال المسكين إلى يسوع مهما كلف الأمر. ولم يبالوا بحائل يمنعهم عن هذا المأرب. وشجعهم إيمانهم حتى أنهم لم يتخوفوا من التجاسر على حفر سطح سمعان وإيذائه.

فرفع يسوع رأسه مستعجباً، والحضور المزدحمون نظروا بغضب إلى الأعلى، عندما بدأ تساقط الغبار والتراب على رؤوسهم. فصرخ بطرس مولولاً: «قفوا لا تخربوا بيتي». لكنهم لم يردوا عليه واستمروا في خدمة إيمانهم، يوسعون الخرق حتى يمكنهم من إنزال المعذب بواسطته. واشتغلوا بجد سريعاً، لكيلا يبادر أحد فيمنعهم مما هم فيه. ولقد عرف يسوع أفكارهم، فلم يرفضهم، لأنه كشف إيمان قلوبهم. فصمت الكل لما شاهدوا المريض مدلى بحبال كأرجوحة في فضاء الغرفة، حتى وصل أمام قدمي يسوع.

عندئذ نظر يسوع إلى المعذب، وأبصر في قلبه صرخة طالبة العون، فقال له: «ثِقْ يَا بُنَيَّ. مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ» (متّى 9: 2). وهذه الكلمة سقطت كصاعقة على الجمهور المزدحم. فقد انتظر الجميع أن أعجوبة ما ستحدث. والمريض وزملاؤه ترجوا شفاءه. أما يسوع فكشف جهراً سبب كل الضيق ومصدر الشر وحرر المريض من خطاياه.

والمفلوج تجاوب رأساً مع إرادة ربه، ورأى في ضوء لطفه بشاعة خطاياه. وآمن بالرحمان الواقف أمامه. وتمسك بكلمته، وشعر بمحبته وقدرته الفائقة واختبر حل كل القيود في نفسه. وتيقن من نعمة الله، وتبرر في ضميره. عندئذ حل فرح عظيم في ذهنه، لأنه أدرك فجأة أن الله قد غفر له ذنوبه بالتمام وحرره من الدينونة، فأصبح سعيداً إلى الأبد.

وبينما أخذ المريض يتحرر من عقد جهنم في صميمه بواسطة إيمانه بكلمة يسوع، كان الفقهاء يشمئزون والمتدينون يتذمرون بغيظ كبير وفار دمهم واهتاجوا منكرين متسائلين في أنفسهم: «كيف يمكن لهذا الشاب يسوع أن يغفر الخطايا؟! حاشا لا يحق لأحد أن يفعله إلا الله. فهو الغفور. ها قد جدف الناصري ونحن شهود لخطأه. فعلينا إعلام المجلس الديني الأعلى بذلك، ليحكموا عليه».

وأما يسوع فأحب الخطاة، وعرف بحدة روحه أفكار أعدائه ومقاصدهم الخبيثة. وتمنى أن يخلصهم رغم بغضتهم وعميهم. وأعطاهم الفرصة لتغيير الفكر، ليدركوا من هو ومن أين أتى. فجذب المتزمتين المتعصبين إلى الإيمان بسلطانه وأعلن لهم ببصيرته العليمة شراستهم، قائلاً: «لماذا تفكرون هذا الفكر الشرير في قلوبكم. أفكاركم لا تصدر من روح الله، بل من الروح السفلي. فكروا منطقياً بطرق البشر، واختبروا قدرتي. فما هو الأسهل تحقيق غفران الخطايا أو شفاء المريض؟» وبهذه الكلمات المنطقية، حرك أفكار المتجمدين وقادهم للتمييز العلمي. إن يسوع لا يرفض تفكير الناس، بل يستخدم العقل لمعرفة شخصه. فطلب من المتعصبين: أدركوا إني أنا نائب الله على الأرض، ولي الحق بغفران الخطايا. أدركوا هذا السلطان بأني قد أنبأت بشفاء هذا المفلوج مسبقاً قبل تنفيذه. ومثلما أشفي المريض فقد غفرت خطاياه حقاً. فالتفت عندئذ يسوع نحو المؤمن، المصلي المرمي أمامه، وقال له بقدرته الخالقة: «قُمِ احْمِلْ فِرَاشَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!» (متّى 9: 6). لم يدلّك يسوع عضلات المشلول، ولم يعطه دواء مراً ليشربه، ولم يسحره بطقوس غريبة. بل بكلمة واحدة أمر المسكين المصغي إليه، أن يقوم ويمشي.

وسمع المؤمن صوت ربه، إذ انتبه للبحث الجاري، بين يسوع وأعدائه. وقد أدرك المعاني في عمقها، فآمن بسلطان ابن الله واختبر في جسده كيف دخلت بواسطة رسالة الإنجيل قوة الله في عضلاته المشلولة، فصحّ المفلوج رأساً وقفز من سريره محركاً أعضاءه بفرح. وأخذ سريره المبتل بدموعه، ورفعه عالياً فوق الرؤوس ومر بالمندهشين المرتعبين. لم يعد المشفي محمولاً، بل هوذا صار قادراً أن يحمل أثقاله. ولم يتم شفاؤه جزئياً، بل مرة واحدة كاملة. فرفع سريره وهو منطلق إلى بيته برهاناً لسلطان يسوع.

أما الناس والكتبة والناموسيين فتراجعوا عند مرور المشفي من وسطهم، خائفين مذعورين من هذه الحادثة، لأنهم أدركوا أنهم لم يشاهدوا أعجوبة مدهشة فقط، إنما أبصروا سلطان الله، متجسداً أمامهم. إذ لم يقل يسوع أنا أشفي المسكين بإذن الله وتأييد الروح القدس، بل شهد أن سلطان الله الكامل يحل فيه. فتساءل الناس حوله متمتمين، من هو هذا الإنسان، أحل ملء اللاهوت جسدياً فيه؟ لكن الناموسيين استاءوا وقالوا: «كلا!» والبعض الآخر احتجوا قائلين: «إن شفاء المريض برهان لسلطانه بغفران الخطايا».

فيا أيها الأخ ماذا تفكر أنت بالمسيح؟ هل أدركت أن سلطانه قد حلك من خطاياك وهل تؤمن بأنه يطهرك من كل خطاياك، وأن في استطاعته تقديس نفسك وفكرك؟ فراجع القصة هذه وفكر فيها. لأن يسوع اليوم مرتفع في السماء، جالس عن يمين الله. ولم يتغير البتة. وهو مستعد حتى اليوم لغفران خطاياك، إن تقدمت إليه مؤمناً طالباً عوناً وخلاصاً. فليس لمحبته نهاية، ولا حدود لقوته المقتدرة.

وإن أردت السماع أكثر عن سلطان المسيح، فاكتب إلينا. ونحن نرسل لك مجاناً الإنجيل الممتلئ بأقوال وأعمال المسيح. فتتقوى في إدراكك وإيمانك وتتشدد بقوة ربك.