العودة الى الصفحة السابقة
أتعرف جوهر الصلاة الربانية؟

أتعرف جوهر الصلاة الربانية؟


العالم لا يصلي في أيامنا هذه، لأنه لا يعرف الله، ولا يؤمن به. وأتباع المسيح قد اعترفوا أيضاً أنهم لا يقدرون أن يصلوا كما يحق للعهد الجديد. فتقدموا إلى يسوع طالبين منه نموذجاً للصلاة. فتواضع وأشركنا في صلاته الخاصة العظيمة «الصلاة الربانية» التي من يدرك معناها، فإنه يعرف الله المجيد.

ولم يعلمنا المسيح أن ننطق: «باسم الله الرحمن الرحيم» ولم يمل علينا القول: «اللهم أو يا رب أو أيها القدير العظيم». ولم يعلمنا كلمة «الله». كل هذه الألقاب موجودة في أديان أخرى. وإنما علمنا يسوع الاسم الفريد لله، الذي يلخص غنى العهد الجديد بكلمة واحدة «أبانا». وبديهي أننا غير مستحقين لندعو الله أبانا، ولا نقدر التقدم إليه تلقائياً. ولكن المسيح نزل من السماء مولوداً من الروح القدس، وأشركنا في امتيازه، وأدخلنا في حقوقه. وحمل الخطية عوضاً عنا، لنصبح نحن أولاد الله شرعاً بالتبني، وروحياً بالولادة الثانية.

من يتأمل في كلام الرب يسوع المذكور في الإنجيل كله، يلاحظ باندهاش أنه في صلواته أو حديثه مع تلاميذه، استعمل غالباً في تعبيره عن الله، كلمة آب أو أبي أو أبانا، تقريباً حوالي 175 مرة. ولكنه حين كان يخاطب أعداءه أو يطرد الشياطين من الملبوسين، كان يذكر اسم الله القدوس. ولما حجب أبوه وجهه عنه وهو معلق على الصليب صرخ: «إلهي إلهي لماذا تركتني؟» ففي تلك الساعة كان يحمل في جسده خطايا العالم، فتحول حنان أبيه إلى غضب ملتهب، لأنه ظهر كديان أزلي، مسلماً إليه للموت عوضاً عنا.

ورغم تحجب الآب عنه وإعلان نفسه «الله الغاضب» فقد كافح يسوع مؤمناً، وتمسك بأبوة الله. وصلى أخيراً قائلاً: «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي» (لوقا 23: 47). ومنذ ذلك الوقت يسكب الروح القدس علينا. وهو يفتح أفواهنا لنصرخ بفرح: «أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متّى 6: 9) وليس إنسان قادراً أن يدعو الله أباً. فيجدف بذلك. ولكن الروح القدس يعلمنا سرّ أبوته للمؤمنين. فنصلي بشكر وغبطة للآب الحنون. وهو يؤكد لنا العفو الكامل، وعطية الحياة الإلهية المتمركزة فينا حقاً. وبهذا الموقف الجديد أصبحنا أقرباء لله، وأعضاء في عائلته، وأهلاً لملكوته. فليس علينا أن نخاف الله كالوثنيين والساجدين من الأديان الأخرى، لأنه صار لنا الحق للقدوم إلى القدوس بدم المسيح في قوة الروح القدس، الذي يدفعنا إلى التسابيح والثقة، ويقدس حياتنا للمحبة والطهارة والصدق والتسامح. وبسلوكك في القداسة يظهر أن الله أبوك. وإن طلبنا قبل كل شيء تقديس اسمه الأبوي، فمعناه العيش كما يحق للإنجيل.

والآباء في دنيانا ما هم بآباء حتى يكون لهم أولاد. فبالطلبة الأولى، نطلب أن يولد لله أولاد كثيرون في كل أنحاء العالم. ويتقدس اسمه الأبوي، إن عاش أولاده في كل البلدان والمدن والقرى حسب فضائله، وفي جدة قوته. فكيف يتقدس اسم الآب عندكم؟

خلق الله العوالم كلها، وهي ملكه الخاص. ولكن الناس عصوا ربهم وتركوه، كأنهم سرقوا أنفسهم من يده. ورغم هذا العصيان فإنهم يخصونه. وأنت أيها الأخ خاصة الله بكل معنى الكلمة.

ولم يشأ الله أن يكون بعيداً عن ملكه. فأرسل مسيحه، ليكون الملك في ملكوته. وقبل تجسده لم يكن ملكوت الله على الأرض. فبولادته حضر الملك، الذي تصدر منه القوى لمملكته. فنوعية رعويته ظهرت في فضائله. فقد شفى المرضى ورحم المساكين، وكرز للمستعدين وبكى على العصاة ومات عوضاً عنا. فملكوت أبينا مبني على كفارة الابن، الذي أهّل الخطاة للدخول في حظيرته. والروح القدس بقدرته وتنظيمه يحقق الملكوت في العالم.

وهذه المملكة الإلهية مستمرة اليوم في أولاد الله. وكما أن ملكوته ليس من هذا العالم، هكذا نحن غرباء في دنيانا. وننفصل عنها إذا طلبنا تقديس اسم الآب. وبهذه الطلبة نريد بنفس الوقت نشر ملكوته على الأرض، ليتقدم لطفه إلى كل الشعوب والأفراد. فالابن السماوي يعطي الامتياز لأولاده وكنائسه أن يكرزوا بإنجيل الملكوت، مصلين أن يتحقق في دنيانا. وإن الله محبة، ويشاء امتلاء العالم بجوهره. ولا يريد الكنيسة أن تكون نخبة من المختارين فقط. بل يشاء أن يتقدس كل الناس بقوة نعمته، فهل تفكر بهذه المعاني الواسعة عندما تصلي: «لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ» (متّى 6: 10). فقصد الله هو تحريك قلبك لتتشوق للتبشير في محيطك وفي كل أنحاء العالم.

ولا يجد إبليس حقاً في أهل الملكوت. ولا يقدر الموت أن يميتهم، لأنهم عائشون في المسيح، الذي أثبت حقهم في الرعوية الإلهية على الصليب. ومن يؤمن به يندمج في رحابه. وهذا الملكوت الروحي ليس مبنياً على جزية ولا جيش، بل على المحبة واللطف والحنان، لأن الله دفع الفدية كلها في موت ابنه عنا.

كثير من أهل الأديان يتعبون أنفسهم ليعرفوا مشيئة ربهم. وبذلك نشأت النواميس والطقوس، لتعليم الناس تنفيذ أوامر الله، وفقاً لشرائع الوحي. وهذه السنن والنواميس تطالب بشدة: اعمل هذا، ولا تعمل ذاك. وبالحقيقة لا يستطيع إنسان أن يتمم إرادة الله ولا أن يعرفها حقاً، لأن البشر خطاة جاهلون.

شكراً لله، الذي حررنا من لعنة الناموس وثقله المرهق، وأرسل لنا ابنه ليعلن لنا مشيئته الأبوية اللطيفة. فهو لا يطلب منا أن نعمل شياً لإرضائه، بل هو العامل والمعطي، والمبارك على الدوام. إنه الخالق الصابر، والمخلص الرحيم، والآتي المكمل. ولا يطلب منا عملاً مشروطأً ليقبلنا، بل هو مصدر كل العطايا. ولا يشاء إلا أن يرحمنا ويباركنا ويساعدنا. وإن قصرنا في حفظ وصاياه قبلاً، فنعمته وحبه الرحيم يشملنا بالغفران. هل فهمت مشيئة أبيك السماوي؟ إنه يشتاق أن يباركك، ويخلصك ويملأك بقوة روحه القدوس.

وهكذا يظهر الفرق بيننا وبين أهل بقية الأديان. فإلهنا ليس دكتاتوراً بل أباً حنوناً. ومحبته رفعت عنا سوطه، وأزالت من قلوبنا الرعب منه. ولهذا نشكره بفرح، ونفتش عن مقاصده لننفذها، ونرضيه حباً بمحبته العظيمة. ونؤمن أن روحه القدوس يقوينا لحفظ وصاياه تطبيقاً لمحبته.

ما كان المسيح فيلسوفاً متخيلاً، لكنه عاش إنساناً حقاً على هذه الأرض. وكان له جسد يجوع، ويحتاج إلى العناية والاهتمام والراحة. فعرف أن المريض والجائع والضعيف يصعب عليهم تسبيح الله وخدمته بفرح. ولم يحتقر المسيح الجسد البشري، لأنه جعله هيكلاً للروح القدس وطلب حفظه ونشاطه.

لم يعلمنا يسوع أن نطلب الغنى والثروات، لكيلا تمتلئ بطوننا بطراً وسكراً. ولا يرشدنا إلى ممارسة الزهد والتقشف، لكيلا نتوهم بأننا نستطيع تقديس أجسادنا بواسطة الضرب والجوع والعطش. إنما علمنا المسيح القناعة لنصلي إلى أبينا: «أعطنا كفاف الأكل والشرب واللبس، والعمل والراحة والسكن وكل ضروريات الحياة» لأن كلمة «خبز» تشمل كل حاجات الإنسان الجسدية والروحية والنفسية. فلسنا حيوانات لنكتفي بالأكل والشرب، بل إننا بحاجة إلى أصدقاء وكتب وفن ونور وصحة. فعلمنا يسوع أن نطلب بالتواضع كل ما نحتاجه لحفظ حياتنا. ليس للتبختر والفخفخة ولا للمباهاة، بل لنعيش لله وخدمته فرحين مكتفين بضروريات الحياة.

وقد حرص على أن تخلو طلبات الصلاة الربانية من الضمير «أنا» ليحل محلها ضمير الجمع «نحن». لأن الروح القدس يعلمنا الاهتمام والابتهال لأجل الآخرين. فليس الله هو أبي فقط، بل أبو جميع المؤمنين على السواء أي أن محبته لا تقتصر عليّ، إنما تشمل جميع الناس. والروح القدس يحررنا من الصلاة الربانية، بحيث لا نطلب من أبينا خبزنا الخاص فقط، بل نطلب البركة لكل البشر، مع الاستعداد أن نشاركهم بمؤونتنا.

وما الإنسان بسيد لحياته ولا مالك بيوته، وما هو رب وقته وعضلاته. لأنه مخلوق من الله، مولود من أبيه السماوي. لهذا فأنت ملك له، مع كل ما لديك. وقد أوجدك أبوك السماوي لخدمة المحبة، وينتظر منك أن تشارك إخوانك بمواهبك، لأنه لا يجوز لك أن تطلب من أبيك معونتك وخلاص نفسك، إن كنت لا تطلب نفس الشيء للآخرين. انتبه لكيلا يجاوبك الرب على صلاتك بقوله: «اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ» (متّى 6: 33).

وحيثما لا تكون المحبة الأساس في الاقتصاد، فلا يكون ملكوت الله حاضراً. وبما أن من الشروط لكسب الخبز اليومي والعمل المتواصل. فنطلب بهذه الطلبة من أبينا أن يعطينا وكل الناس، عملاً شريفاً ووظيفة بعرق الجبين.

وأبونا السماوي غني فوق الإدراك. ولكن بسبب طمع أولاده، وقساوة قلوبهم، تأخر ببركاته عنا. ولم يمطر علينا بملئه. فالروح القدس يعلمك أن تصلي لأجل الجائعين في الهند والبردانين في الصين وأن ترى حالة إخوتك في محيطك، لتضحي بفضلك. وبعدئذ اطلب الكفاف اليومي واترك الاهتمام بالغد. لأن أباك المحب القدير يعتني بك.

طوبى للإنسان الذي أدرك خطاياه وأقر بها. هل اشمأززت من أكاذيبك وابتزازاتك ونجاساتك المعروفة في ضميرك؟ اطلب من أبيك السماوي، أن يغفر لك أعمالك الشريرة. وآمن باستجابة صلاتك، لأن المسيح كفّر عنك على الصليب. اقبل النعمة التامة في ضميرك، فيعزيك الروح القدس، ويؤكد لك سلام الله. اعترف بذنوبك بدون حيلة أمام أبيك، وآمن بغفرانها في المسيح، فتتبرر إلى الأبد.

هل تختص طلبة الغفران بالمجرمين والملحدين فقط، أم هي شاملة أيضاً أولاد الله المتبررين؟ إن حل الروح القدس فيك، فإنه يكشف لك لجج شهواتك، وكثافة نجاساتك، وغمرات مبالغاتك، وكثرة نميمتك، وسموم بغضتك، وجبل استكبارك. فإن أبناء الله في ألح الحاجة، أن يطلبوا كل يوم وفي كل لحظة، التقديس بدم المسيح. وليس إنسان طاهراً من تلقاء نفسه أمام الله. فذبيحة المسيح أساسنا الوحيد لحياتنا مع الله. ولا تعزية لضميرنا، إلا في دم الحمل المذبوح لأجلنا، علماً أن المسيح لم يؤلف الصلاة الربانية للخطاة فحسب بل قبل كل شيء لأولاد الله، الذين عرفوا ونطقوا بأبوته العملية. فلهذا نطلب يومياً تطهيرنا من كل أفكار شريرة، وأقوال متسرعة، وأعمال مهملة.

وإن لم تعرف في نفسك كثرة الخطايا، أو وضعت كل داوفعك للشر أمام نور الله المنقي، فعند ذلك يقودك الروح القدس لتطلب العفو الإلهي لأجل كل الناس الذين حولك.

وفي هذا المعنى العميق نطق المسيح بتواضعه العظيم بهذه الطلبة رغم أنه القدوس المعصوم من الإثم. وذلك لأن محبته جعلته حملاً لله ورئيس الكهنة للبشر. فتألم من أجل خطايانا ورفعها، وصالحنا مع الله. وكما أنه صلى لأجل الغفران للكثيرين، هكذا تجعلك الصلاة الربانية كاهناً لله، حتى تلح على أبيك كلما نطقت بهذه الطلبة، أن يحقق مصالحة المسيح في كل الناس. وبذلك تتخلص من الأنانية. ولا تطلب الغفران لنفسك فقط، بل أيضاً لأجل الآخرين من كل القلب. هل تطلب عملياً السماح الإلهي لأجل أصدقائك وأقربائك، وتترقب تطهيرهم الفعلي. فلا تنس أن الصلاة الربانية، تعلم النطق بصيغة «نحن» لا «الأنا».

إن روح المحبة الكهنوتية يوحدك بمحبة الله وبمحبة ابنه، لأن غفرانه جدد قلبك، فتحب أعداءك كما يحبك الله. والقدوس الأزلي يدعوك لتتنازل عن حقوقك في خلافاتك مع الآخرين، فتصطلح معهم. كما أن الله لم يطلب حقه من الخطاة، بل وضع ذنوبهم وقصاصهم على ابنه مسبقاً. فغفران الخطايا للجميع فريضة مقدسة على أولاد الله، وهو برهان لبنوتهم. لأن من يؤمن بمحبة الله يتغير إلى صورتها الأصلية، وينقل أشعتها إلى الذين يغرقون في «الأنا» السمين. إن أباك يدعوك لتغفر لكل إنسان كل أخطائه، وتباركه وتصلي لأجله، لكي يصبح هو أيضاً إنسان رحمة الله. فثورة المحبة الإلهية ابتدأت بموت المسيح على الصليب. وتتحقق اليوم بإيمانك وغفرانك لأعدائك.

وإن لم تغفر لمضاديك كل ذنوبهم المعمولة، تقفل نفسك عن نعمة الله. لأنك بطلبتك في الصلاة، كأنك تقول: اغفر لي تماماً كما أنا غفرت للمذنبين إليّ. فإذا لم تنس آثامهم، تتجاوز عن معنى هذه الصلاة، وكأنك تحكم على نفسك قائلاً: «أيها الآب لا تنس خطاياي، كما أنا لا أنسى أخطاء الآخرين». وإن غفرت لهم ظاهراً فقط، فكأنما تطلب من الله أن يعاملك بنفس الطريقة. فالحرف «كما» هو أخطر كلمة في الصلاة الربانية، ويعلمنا أن نرتجف من قساوة قلوبنا.

والله لا يطلب منك أعمالاً مستحيلة لتبرير نفسك، بل ينتظر منك أن تصبح رحيماً كما هو رحيم. وهذا هو مبدأ المحبة، ألا تعيش لنفسك، بل تتشارك مع الآخرين الغير المستحقين. فلا تغفل عن هذا المبدأ، إن جميع خطاياك مغفورة لك، إن كنت تغفر لخصمك حقاً.

لا يضل الله أحداً، ولا يدخله في تجربة ما، لأنه محبة قدوسة. فيخلصنا ولا يهلكنا. ولكن إن كان أحد أبناء الله لا يتجاوب بجذب وتبكيت الروح القدس للطهارة والحق والمحبة، ويبقى في العناد والاستكبار والظلم، فهناك يسمح الله الغاضب، لسلطات الشر أن تغزوه، لكي يسقط عميقاً في الخطايا والعار، ويدرك هكذا أنه غير صالح في نفسه، بل شرير وفاسد منذ صغره. فيبكي ويتوب ويرجع إلى أبيه، ملتمساً منه الغفران. وطالباً التغيير والتقديس الكامل.

إن أباك السماوي شاء أن يصيرك على صورته. وقد وهب المسيح لك اسمه الخاص ويدعوك «مسيحياً»، لكي تسلك ممسوحاً بروحه القدوس، قديساً في المحبة وفرح السلام والصبر اللطيف. وحيثما لا تتحقق فضائل أبيك هذه فيك لقساوة ذهنك. فلا يجد الله طريقاً آخر لتتعقل، وترجع نادماً طالباً خلاصك وتقديسك في قوته. وحيث لا تحولك ضربات محبته إلى نفس المحبة والتواضع الذي عنده، يتركك فتسقط إلى نتائج أنانيتك، لكي تصير قبيحاً أمام نفسك وأمام العالم. فتنكسر وتخجل مشمئزاً معترفاً، أنك أكبر خاطئ في دياجير العالم.

فإن طلبت لأجلك ولأجل كل المؤمنين التوبة المستمرة، وحفظك من التجارب والسقوط في الأخطاء. فإنك بهذا تطلب تغيير القلوب وتقديسها معاً. وهكذا فإن الرسول بولس بعد تفسيره مبدأ التبرير مطولاً في الرسالة إلى رومية، وضح التقديس وتجديد أذهان المؤمنين ليقدموا أجسادهم «ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ» (رومية 12: 1). فلا بد من تقديسك، لأن هذه هي إرادة الله قداستنا. والروح القدس يؤدبك بلا انقطاع، لتنكر نفسك المنتفخة وتمتلئ بالمحبة الإلهية المتواضعة.

والتجارب من حولك عديدة. لأن الأفلام والدعايات والكتب والملابس وكل الحياة، أصبحت صرخة واحدة ضد قداسة الله. ومن قلبك أيضاً تخرج أفكار شريرة مضادة لوصايا الرب. فكلنا نحتاج إلى الطلبة للحفظ من التجارب، فننطقها واعين ودائماً.

والهدف الشيطاني لكل تجربة، هو عصياننا ضد الله وخروجنا من عهده والابتعاد عن الآب، لنحيا في استقلال موهوم واستكبار موصوم وتجديف غير معصوم. والشعوب المسيحية مهددة قبل الوثنيين بخطر السقوط إلى التجارب المضادة للمسيح. لأن من يسمع الإنجيل ويؤمن به ويختبر قوته، ولا يعمل بالتزامات محبة الله ولا يسلك في إرشاد الروح القدس، فإنه يتقسى في قلبه، ويصير أكثر شراً من الآخرين. ولهذا فإنك تجد بين الذين اختبروا نعم العهد القديم والجديد، خطاة أشد خطأ مما تجد في الشعوب، التي لم تسمع بعد عن نعمة الله في الصليب. فانتبه ألا تقسي نفسك ضد صوت الله القدوس، ولا تعارض جذب روحه إلى التسامح والعفة والحق.

لا تتخيل أنك قوي ذكي حسن. لأنك جاهل ضعيف خبيث. فاعترف بعدم قدرتك أمام أبيك، وآمن بسلطان المسيح وحده. فهذا هو الطريق الذي غلب فيه ابن الله الشيطان قائلاً: «لست أقدر أن أعمل شيئاً من تلقاء نفسي». فالمتكبر يسقط غنيمة لإبليس. ولكن المتواضع التائب والمتبرر بدم المسيح، والسالك في قوة الروح القدس، يثبت في رحاب ربه إلى الأبد، ويتحرر من شدة التجارب وسلطة الموت، لأن حياة الله تدوم فيه بلا انقضاء.

لا تظن أنك تقدر أن تتغلب على الشيطان، ولا أي إنسان آخر. لأننا كلنا أمام ملاك النور الساقط ضعفاء عاجزون. فاطلب من المسيح غالب الموت وقاهر إبليس، أن يشركك في انتصاره. فمن يؤمن بيسوع المقتدر، يكون واقفاً إلى جانب المنتصر. والمسيح يلقب الشيطان بالشرير، ولأنه مصدر كل الشر. ولا يصدر منه إلا الخراب والهلاك. فالعالم واقف في المعركة بين الله والشرير، الخير والشر. كما أن أول كلمة في الصلاة الربانية هي الآب وآخرها الشرير. فحياتك تجري بين هاتين الكلمتين، المعبرتين عن شخصية الله العظيمة، وشخصية الشيطان عدوه الرجيم. فإلى من تلتجئ وترتبط؟

لا تطلب لنفسك فقط الخلاص من قدرة إبليس ومكره، بل اطلب لكل البشر التحرير من قبضة الخبيث وقيود الظلمة، لينتقلوا إلى حرية أبناء الله. فالمسيح هو المنجي، والقادر على كل شيء، ويفدي كنيسته المبتهلة من سلطات الظلمة المتربصة. واطلب حلول الروح القدس على أصدقائك، لكي يمتلئوا بالمحبة الحقة، لأنه بدون الروح القدس لا يقدرون أن يعملوا شيئاً.

وعندما سيأتي المسيح في المجد، نتقدم إليه بهتاف، لأنه بحضور ملكوته تنتهي سلطة الشيطان نهائياً. فلا يفصلنا عندئذ الموت ولا الخطية ولا التجارب عن محبة الله. فبهذه الطلبة الأخيرة نلح على مجيء المسيح سريعاً، لكي يظهر ملكوت أبيه علانية بقوة مجده. فهدف الصلاة الربانية هو تحقيق هذاالملكوت الأبوي، الغالب على كل القوى المضادة له.

إن تعظيم الآب في أواخر الصلاة الربانية لم يقله يسوع على الأغلب، لأنه جواب الكنيسة وشكرها لمواهب الله الآب.

فكل المسيحية تعترف أن أبانا السماوي هو مالك العالم، لأنه خلقه. وهو حي ويملك من الأزل إلى الأبد. وحقه ثابت في كل الشعوب. حتى ولو لم تعترف بحقه. فالرأسمالية والاشتراكية تغتر جداً، لأن المعادن والبيوت والقرى والصحة، لا يملكها الإنسان ولا الدول، بل الله وحده. فلا نسجد إلى إله المال، بل نقدم كل مالنا ووقتنا لأبينا، ولا نتعلق بشيء فانٍ إنما بالأبدي الذي لا يزول.

والله قوي، وليس بضعيف، وقوته بلا حد. وكما أن الشمس ترسل أشعتها ليلاً نهاراً إلى الفضاء، ولا تقل قوتها النووية، هكذا يشرق الله محبته على كل الناس، ليجذبهم ويخلصهم ويحفظهم، ولو لم يريدوا. فقوة الله أعظم من إدراكنا. ونشعر أحياناً بهولها، إذا زلزلت الأرض، أو قصف الرعد. وكل القنابل الهيدروجينية معاً، لا شيء بجانب عظمة قدرة ضابط الكل. فهل تؤمن بعمله، وحكمته وحضوره معنا، وإرادته خلاصك؟ إن القادر على كل شيء هو أبوك. فإلى متى أنت غافل عن إكرامه ومحبته؟

والله مجيد لا يقدر أحد على رؤيته، لأننا فانون ونسقط كأموات أمام وجهه، إذ كل ذي جسد شرير. فالإنسان الطبيعي لا يستطيع الدخول إلى ملكوت الله، بل يحتاج إلى خلق جديد وولادة روحية، وقيام مع المسح. فبدون الولادة بكلمة الله والروح القدس، لا يمكننا أن نرى مجد الله. ولكن المولود جديداً من عنصر الله، سيكون مجيداً كشمس. وليس ذلك من ذاته، بل لقربه من الله المجيد. فيدرك أن لب المجد ما هو إلا المحبة القدوسة. ولا يقصد الله إفناءنا بأشعة بهائه، بل عزم على تغييرنا إلى صورته لنكون مجيدين كما هو مجيد. فليس هدف الخلاص هو المجد، بل تغييرنا إلى سبب المجد ومصدره، ألا وهي المحبة.

وقد علمنا المسيح أن الله محبة في هيئة الآب. وأعطانا بهذه الصلاة الشهيرة كنزاً ثميناً أعظم مما تدرك العقول. فهذه الصلاة في الحقيقة ينبغي ألا نسميها «الصلاة الربانية»، بل الصلاة الأبوية. لأنها مرتكزة على شخص أقنوم الآب لتمجيده وتقديس اسمه الأبوي. فهذا هدف إعلان يسوع أن نعرف الآب ونكون أولاده، ونكرمه بثقتنا المطلقة ونجتهد لمجيء ملكوته على الأرض.