العودة الى الصفحة السابقة
تجسّد المسيح

تجسّد المسيح


كانت قافلة تمضي في وادي الأردن العميق العريض. وفيها تجار وفلاحون وصناع من جبال منطقة الجليل سائرين نحو الجنوب في فصل الشتاء القارس. وقد فضلوا المسير في الوادي المنخفض لدفئه، على أن يسلكوا طريق الجبال العالية، التي تعصف فيها الرياح الثلجية، ويتربص اللصوص للانقضاض على قوافل القبائل المارة من هناك.

وكان المنطلقون في هذه القافلة مكتئبين حزانى، يشتمون القيصر العظيم في روما البعيدة، حيث أمر بإجراء إحصاء عام للسكان. وعلى كل فرد أن يعود إلى موطن ولادته ليُكتتب، لأجل أن يضبط عملاء الاستعمار الضريبة جيداً. لقد كان الرومان بحاجة مادية لتمويل جيوشهم، وشق الطرق الواسعة، واستخدام موظفين بكثرة، لترتيب الإدارة الحازمة في الأمبراطورية الآمنة. فكان على الشعوب المستعبدة، أن تدفع هذه التكاليف. وقد امتص الرومان دماءهم إلى آخر نقطة. وفرضوا عليهم الإحصاء، أن يسجلوا مع رؤوسهم كل حيواناتهم وشجرهم وبيوتهم وحقولهم أساساً للضريبة التي تبقى سارية المفعول، حتى ولو ماتت البقرة أو انقلعت الشجرة، فيؤدوها وهم صاغرون.

وفي ذلك الوادي السحيق ضمن تلك القافلة، كان نجّار من الناصرة اسمه يوسف، منطلقاً مع خطيبته للاكتتاب. وما كانا يودان هذا السفر الشاق ثلاثة أيام متواصلة، لأن مريم كانت حبلى مشرفة على الولادة. فالانتقال يسبب خطر الموت لها ولطفلها المزمع أن يولد. ولم يعرف يوسف أين ينزل في بلده، التي اتى إليها الآن، لأنه كان قد تركها منذ زمن. وما كان له قريب ملاصق فيها. فابتدأ سفرته إليها باسم الله، متكلاً عليه أن يوصلهم سالمين إلى الهدف، ويهيء لهم من أمرهم رشداً.

وكانت مريم تفكر خلال هذه الأيام المتعبة بكلمات الملاك البراق، الذي بشرها بخبر أعجوبة الطفل، الذي سيولد منها. الله بذاته وضع كلمته فيها، ليكون المولود من روح الله قدوساً أزلياً. لم تدرك أعماق هذه الأعجوبة، بل آمنت بكل إخلاص وتقوى يقينها بثقتها الملتصقة بالله.

وصلت القافلة إلى أريحا مدينة النخيل. والمسافرون استراحوا في ظلال نبع أليشا القوي. وابتدأوا بعدئذ يتسلقون الصحراء الجبلية اليهودية، حيث لا حياة ولا ماء، إلا رمال وحجارة وأودية مشققة. وبان على البعد سطح البحر الميت بمياهه المالحة المرة، كسراب يضل العطاش. ومن قمة الجبال، تلألأت قبب وأبراج البيوت على جبل الزيتون رجاء المسافرين، الذين تسلقوا الجبال الجرداء والوعور الصماء مرتلين ومصلين لله. وقد بلغ بهم التعب أقصاه.

وأخيراً وصل هؤلاء المسافرون إلى قمة جبل الزيتون، وقرية بيت عنيا فهنأوا بعضهم البعض بالوصول السعيد. وتركوا الحمير والجمال، تطفئ عطشها بشرب الماء النمير. وبعد لحظات من الراحة تابعوا سيرهم حول قمة جبل الزيتون، فرأوا القدس منبسطة أمامهم ويفصلهم عنها وادي قدرون. وشاهدوا صحن الهيكل الواسع والبيت المقدس وسطه. ولكن لم تطف تسابيح الحمد من أفواههم، بل تساءلوا في قلوبهم بخيبة مريرة. هل تركنا الله، وأسلمنا إلى أيدي الرومان، ليستعمرونا هذا الزمن الطويل، هل نحن مذنبون غير متممي الشريعة؟ فعلموا أنه ليس من حركة سياسية في العالم تتم إلا بسماح الله. لم يبق يوسف ومريم العذراء خطيبته مدة طويلة في أورشليم، بل عبرا أزقة القدس الملآنة بالسواح، وتابعا سيرهما إلى بلدة بيت لحم القريبة مدينة الملك داود، الذي قاد قبل ألف سنة قبلهم الأمة من نصر إلى نصر. أما الآن في زمنهم، فصارت هذه البلدة قرية صغيرة خالية من بهاء الملك. ولم يوجد حولها إلا الرعاة مع مواشيهم، التي ترعى بين التلال في المروج الخصبة.

وبما أن ذرية الملك داود، كانت كثيرة جداً، فقد امتلأت القرية بالمسافرين المتراكضين لأجل تسجيل أنفسهم. فكانت كل البيوت والغرف غاصة مشحونة بالناس، حتى اضطر بعض المسافرين أن يناموا في المغاور المتعددة في محيط بيت لحم.

ولم يجد النجّار وخطيبته مكاناً في القرية للمبيت. فالتجئا إلى مغارة في الحقول، على رجاء إمكانه أن يستأجر غرفة فيما بعد. ففكرت العذارء متعجبة كيف قادها الرب بطرق صعبة مريرة إلى هذا الحد. مع أن الملاك كان قد وعدها أن طفلها سيولد من الله عظيماً، ممتلئ القداسة والنعمة والحق! لكن مريم آمنت بمحبة ربها وثبتت في كل التجارب. وإيمانها بررها فيطوبها اليوم كل الناس.

ولما اضطجعت العذارء لتستريح، ابتدأ بها المخاض، فركض يوسف مضطرباً. وهي كانت هادئة مطمئنة. لأنها جلبت معها أقمطة وقماشاً ولوازم الولادة السعيدة. ووضع يوسف قشاً وتبناً في المذود الحقير الذي كانت الحيوانات تمضغ فيه علفها، وريقها يتصبب في المذود. وألقت الأم على التبن المريح قطعة قماش نظيفة، وبعد قليل ولدت بكرها المرتقب من كل العالم، وما لاحظ هذا الميلاد العجيب أحد، إلا الله في مسرته وملائكته الحراس المستترون، والوالدان المهتمان المحفوظان مع طفلهما في حماية القدير، لكيلا تصيب الميكروبات والجراثيم جسد الطفل اللين الطري. والحيوانات المجترة في قعر المغارة أدفأت المكان بأجسامها الحامية وأصوات شهيقها وزفيرها عند اجترار الطعام. فخالق الكل قد نزل وسط مخلوقاته ليفدي أبناء الموت بحياته الأبدية.

وخيم الليل على تلال بيت لحم وشمل فرقة الرعاة، المتبدين في تلك المغاور، يحرسون خرافهم. وتحلقوا حول النار الآزة يصطلون من البرد. وأخذوا يتكلمون عن كثرة السواح الوافدين على قريتهم. ولعنوا ظلم الرومان، المغتصبين مالهم وحياتهم. وتناول أحدهم الربابة وأخذ ينشد:

يا رب مسيح الله تعال

حررنا من الظلم امنحنا السلام

نعيش في مدينة داود مع الوعود

إن الملك الإلهي يكون فيها مولود

فمتى تأتي أيها المخلص الموعود؟

فانشقت السموات، وأشرقت الأرض بنور ربها كصاعقة في الليل الدامس، ووقف ملاك الرب عند الرعاة المتجمدين، وأشعته اخترقت المرميين على الأرض، فخافوا خوفاً عظيماً، مفكرين أن الدينونة الأخيرة باغتتهم. وكل منهم شعر بذنوبه بكل دقة. فارتجفوا وارتعبوا، وصرخ أحدهم: النجدة! النجدة!

لكن ملاك الرب منعهم من الخوف، وبشرهم بفرح عظيم ووضح لهم كأنه يقول: نوري ليس دينونة بل نعمة. حقاً إنكم كلكم مذنبون، مستحقون الموت. ولكن الله رحمكم ولا يبيدكم ويهلككم، بل يأتي إليكم منعماً في ابنه الحبيب، أنتم المحتقرون البدو البسطاء. انتم المختارون بين الناس لتعرفوا أن الله الحي قد زار البشر. قوموا وآمنوا بالنبوة القديمة. حقاً أن ابن داود هو ابن الله بنفس الوقت، وينبغي أن يولد في بيت لحم. فحرك الله القيصر وكل الأمبراطورية ليجبر والدي الطفل ليسيرا نحو مكان الموعد. وهكذا تمت نبوة الرب أن امرأة ولدت في مغارة الرعاة ابناً، وقمتطه ووضعته في مذود حقير. هذا الولد هو المسيح المخلص الرب بالذات. إن الله صار جسداً. أدركوا هذه الأعجوبة الكبرى! افتحوا عقولكم للروح القدس، آمنوا واسجدوا لطفل المذود. أسرعوا، اشكروا، احمدوا، افرحوا جداً، لأنه قد ولد لكم اليوم مخلص العالم.

ولما ارتمى الرعاة جامدين إلى الأرض، وانشلت الحيوانات في الحوش متضامة إلى بعض، ابتدأت ترنيمة رفيعة حلوة، فوق الروابي والمروج. ورتلت السماوات كلها وطنت ورنت، وفاضت فرحاً. وظهر ألوف الملائكة وملايين من الجند السماوي، معلنين أعظم فرح عن حدث الأحداث هذا، إن العلي القدوس انحنى للناس الخطاة ليخلصهم. ليس من السلطة الرومانية بل من ذنوبهم وموتهم، وقبض الشيطان عليهم. فضج حمد الله بين كل الغيوم واخترق الأجواء نازلاً وحالاً على أكمة بيت لحم والرعاة متعجبون سامعون ومدركون أن مجد الله قد حلّ على الأرض وسلامه الذي يفوق كل العقل قد ابتدأ. ومسرته انتشرت كبحر اللطف إلى كل الأرض.

فدفئت قلوب الرعاة، وهدأت عقولهم، وتحركت أعضاءهم، وتكلمت ألسنتهم متمتمين: لنذهب إلى بيت لحم ونرى الحدث، كما أخبر الملاك. وكادوا ألا يلاحظوا هؤلاء المندهسون أن الملائكة فارقتهم: لأن نور الرب أضاء قلوبهم وصار لحياتهم هدف: الطفل في المذود، المولود من الله، ابن النبوة القديمة.

فأسرعوا متعثرين بمشيتهم بشلوش وجذوع الأشجار والأحجار. وكانوا يسقطون ويقومون، متتابعين الجري لاهثين إلى القرية وسألوا أين المولود حديثاً في المذود؟ ولم يعلم أحد شيئاً عن هذه الولادة.

وهزّ الناس النعسون رؤوسهم لحكاية البدو مستنكريها. لكن الرعاة تابعوا التساؤل والبحث والتفتيش حتى وجدوا في مغارة بعيدة عن العمران الزوج المقدس حول الطفل الراقد في المذود. فانخفض الرعاة جثواً، لأنهم لم يروا إلهاً قديراً قوياً، ولا ملائكة متلألئة ولا أنواراً ساطعة. بل شموا رائحة الحيوانات، وأدركوا فقر الطفل المولود. ولعلهم قالوا: إنّ الله لم يحتقرنا نحن البدو الرعاة، بل نزل إلى مستوانا. ولم يرفضنا نحن الخطاة، بل لبس جسد تواضعنا، وصار لنا قريباً. فليس القدوس إلهاً بعيداً عظيماً ثقيلاً مخيفاً، بل فاد قريب مدرك لطيف رحيم.

وعند ذاك فاضت قلوب المساكين فرحاً، وهنأوا الأم وداعبوا المذود، وانطلقوا مرتلين في الليل البهيم، عائدين مرة أخرى إلى القرية، مسرعين مباشرة إلى رئيس البلدية النائم، وإلى رواد المقاهي المتأخرين وهم يعبثون، وإلى أقربائهم أيضاً. وأخبروا الجميع عن ظهور الملاك حديثاً مضجع في مذود مغارة بيت لحم. فابتسم رئيس البلدية. والتجار تابعوا عدّ نقودهم التي ربحوها طيلة اليوم. والجلوس في المقاهي تابعو لهوهم هازين رؤوسهم، وفكروا بما سمعوه نكتة خيالية، أو خرافة اخترعها الرعاة. فلم يؤمن أحد منهم بكملة الله، ولم يركض إلى طفل المذود ليسجد له. ففنجر البدو أعينهم، وأدركوا السر الثاني في هذا الليل: ليس كل الناس يفهمون إعلان الله، إلا المختارون المدعوون المستنيرون. فصمتوا مشدوهين وتركوا بلدة الموعد وعادوا إلى خرافهم، وقلوبهم ممتلئة ترنيماً وتسابيح منطلقة من أفواههم وحمدهم مالئ الليل. فرفعت الخرفان رؤوسها إلى أصحابها متعجبة مبتهجة. لأنهم عادوا إليها غير لاعنين ولا شاتمين كالعادة، بل مسبحي ربهم لوصوله المجيد.

هل تشترك في فرح ميلاد المسيح؟ إن أردت معرفة أكثر عن طفل العذراء مريم، نرسل لك هدية الإنجيل الشريف. ونقترح أن تتعمق فيه فتستنير وتصبح منيراً لمحيطك.