العودة الى الصفحة السابقة
المغامرة الكبرى

المغامرة الكبرى

قصص من الحياة جمعها وعلق عليها اسكندر جديد

اسكندر جديد


Bibliography

المغامرة الكبرى. اسكندر جديد. Copyright © 2007 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . 1972. SPB 8030 ARA. English title: The Great Adventure. German title: Das Großartige Abenteuer. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 D - 70007 Stuttgart Germany http://www.call-of-hope.com .

1 - المغامرة الكبرى

آذار 1939

كانت السفينة تمخر عباب البحر الأزرق في اتجاه الجزائر. وكان بين ركابها شاب استيقظ من حلم مزعج، وأراد أن يعيش المغامرة الكبرى.

بعد أن أمضى يومين في ميناء الجزائر، ذهب إلى «سيدي بن عباس» حيث توارى وراء أسوار الثكنة، فقد تطوع لمدة خمس سنوات في جيوش الغرباء.

تشرين أول 1950

على نفس السفينة، وعلى صفحة البحر الزرقاء عينها، كان الشاب نفسه بين الركاب، ومعه هذه المرة زوجة وطفلة جذابة.

وبعد يومين من وصولهم إلى سيدي بن عباس لكي يعيشوا مغامرة أكبر وأجمل. تلك هي المغامرة في خدمة الرب.

إنه لتحول عجيب، من جندي في جيش الغرباء، إلى مُرسل جاء للكرازة بإنجيل المسيح! فما الذي حدث بين سنة 1939 وسنة 1950؟ هوذا الرجل يقص علينا ما حدث.

- منذ خمسة عشر عاماً، كنت قد مللت من العيش بدون الله، وبدون رجاء في العالم. وذات يوم أطلعت والدتي على رغبتي في الالتحاق بجيش الغرباء. عندئذ قالت لي:

- إن كنت تفعل ذلك فأنني سأموت كمدا!

- ما أن سمعت هذا الجواب الخطير من والدتي، حتى اهتز كياني. فإنني كنت أحب والدتي، أو على الأقل كنت أظنني أحبها.

وبالفعل فقد تزعزع قراري، لأن مجرد الفكر بأن ذهابي سيسبب لها الألم، أضعف رغبتي في الذهاب. لأنني ما كنت لأسمح لنفسي بأن أسبب لها أي ضيق. فانتظرت، مرغماً على متابعة حياة الضياع. بيد أنني كنت أظن أنني استطيع إعادة بناء حياتي بوسائلي الخاصة، بعيداً عن سلطة الأمومة.

امتد انتظاري أربع سنين، نعم أربع سنين ضاعت بالنسبة لي. لأن الوقت الذاهب، لا يمكن أن يعوض.

ولكن في صباح جميل من شهر آذار 1939، فوجئت بموافقة والدتي على ذهابي للتطوع في جيش الغرباء. كانت مدة عقد التطوع خمس سنين... فهل ستتاح لنا فرصة لقاء مرة أخرى؟

في فترتنا الأخيرة معاً، قالت لي والدتي، تلك المسيحية الغيورة المخلصة لله بكل هدوء:

- يا ولدي العزيز، يمكنك أن تذهب إلى حيث تشاء، وأن تعمل ما تشاء. ولكن تذكر أن الله يفتش عنك أينما كنت، وسيجدك حتماً. أنا متيقنة تماماً بأنك ستخلص.

في مارسيليا

ذهبت إلى مارسيليا، وهناك قضيت ثمانية أيام في حصن «سان جان» وهو الوقت اللازم للحصول على رقمي في السجلات العسكرية. فتسجلت باسم كورباز من فصيل السيارات تحت الرقم 80943.

في الجزائر

ذهبت إلى مقاطعة «اوران» والتحقت بثكنة سيدي بن عباس وبعد فترة وجيزة، أُرسلت إلى الجنوب لقضاء مدة التدريب، التي قصرت بسبب إعلان الحرب سنة 1939.

تشرين أول 1939

بدأت أحداث هذا الشهر باستلامي خطاباً بالبريد المضمون. كان المظروف أكثر سمكاً من المعتاد. ولما فضضته وجدت فيه نبأ ينعي إلي وفاة أمي الحبيبة. ومع أن غيابها أحزن نفسي حتى الموت، إلا أنني اعتقدت بأن الله في محبته، شاء أن يوّفر على أمته القديسة ويلات هذه الحرب. فبالنسبة لها، كان الموت انتقالاً إلى جوار ربها وفاديها لتنعم بسلامه. أما بالنسبة لي، فإن فقدها كان بداية لوقت طويل قضيته في تبكيت الضمير. لقد كان موتها المفاجئ صدى لجوابها لي سنة 1939. وكان هذا الصدى يصرخ في ضميري: قتلت أمك! وهذا الجواب، كنت أراه مكتوباً في كل مكان، حتى في أثناء النوم.

لقد اشتهيت أن أموت في ساحة القتال، لكي أكفر بطريقة ما عن ماضيّ. ولكن الله لم يشأ ذلك، لأنه كان قد وضع لي أن أعيش.

كلنا نذكر بأية سرعة انتهى القسم الأول من هذه الحرب بين فرنسا وألمانيا. فالذين لم يموتوا في المعارك، فرضت عليهم الحياة في الثكنات، أو في مخيمات الاعتقال.

تشرين ثاني 1940

في هذا الشهر، حمل إلي البريد خطاباً آخر، ينعي إلي وفاة والدي... منذ زمن بعيد، كنت أتمنى لو كنت وحيداً، واليوم تحقق ما تمنيته.

صرت وحيداً، ولكن لم أصر حراً. وفوق هذا لم أكن قادراً على عمل أي شيء، لأرفع هذا الثقل عن نفسي التي سحقها الحزن.

إنني وحيد... وحيد أكثر مما يطاق.

التجارب قاسية ومتعددة!

ولكن الله ساهر.

تذكر أن الله يفتش عنك قالت أمي... وسيجدك حتماً!

قال إمام المرنمين داود في المزمور 139: «يَا رَبُّ، قَدِ ٱخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي. أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى ٱلسَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي ٱلْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ».

كلا! لا يستطيع أحد أن يهرب منه. إنه في كل مكان، حتى في الهاوية، مكان الأموات. وبالنسبة لمن هم في مثل حالي في هذه الفترة يمكن أن يحملوا على اللجوء إليه، وهكذا يوجدوا منه.

الله ساهر

تعرفت على فتاة شابة بواسطة زميل إيطالي.. كان الأمر عجيباً جداً أن تهتم فتاة كهذه بجندي من جيش الغرباء! ولكن الفتاة كانت ذات نفس مفعمة بالمحبة لله والقريب. فدعتني ذات يوم لحضور اجتماع مرسلي!

فقلت في نفسي آه كلا! فأنا تركت كل شيء، هرباً من هذه الأمور المتعلقة بالدين... فهل من الممكن أن أدع نفسي تقع فيها هنا؟ كلا! أنا الآن جندي في جيش الغرباء، وأنا إنسان قاسي الطباع، ولن أسمح لنفسي بأن تعود إلى الرقة.

ومع ذلك.. كان الله ساهراً، فقد ذهبت إلى الاجتماع. لأن الذهاب كان أحد شروط الفتاة، إن كنت أرغب في رؤيتها ثانية.

صرخة مضطر

في سنة 1941، ذهبنا إلى السنغال، ومع أن هذا الذهاب كان لي فراق جديد لمن أحب ولكنه فراق مع رجاء مختلف هذه المرة. ففي سيدي بن عباس تلقيت خطاباً مقدساً. وقد طلب إلي المُرسِل، السيد فيليب، أن أطالعه بعمق، لكي أرى يسوع يغير حياتي.

في السنغال ألمّ بي مرض، فاضطررت لدخول المستشفى. وهناك سئلت: ما هي مهنتك؟ ويا له من سؤال يطرح فقط على الجنود الميؤوس من شفائهم. وبعبارة أخرى كانت أحوالي الصحيّة تنذر بأنني لن أحيا طويلاً. وقد شعرت فعلاً بأن قوة لا تقاوم، كانت تدفعني في اتجاه الحفرة.

إنه لمؤلم جداً أن يقف الإنسان فجأة وجهاً لوجه، أمام الحقيقة المؤسفة، أنه قد خسر حياته، دون أن تكون له قدرة على تغيير شيء من مصيره. في لحظة كالبرق، رأيت أن كل!.. كل شيء عاد إلى ذاكرتي.. ولا أستطيع أن أفعل شيئاً، ومع ذلك كانت الحفرة تقترب فصرخت: يا رب يسوع ارحمني!

هذا كل ما كان في وسعي أن أفعل، ولكن الله سمع صراخي، أنا المضطر وأشفق علي. وهو وحده كان قادراً أن يخلصني من براثن الموت. ليكن اسمه مباركاً إلى الأبد، فقد خلصني.

إن يسوع ابنه الوحيد، قد مات نيابة عني، وهو له المجد، غلب الموت وهو متسلط عليه، ويأمره فيطيع. هذه الحقيقة فهمتها في ما بعد، في أثناء إجازة للنقاهة. قضيت بعضاً منها في مراكش، وما تبقى منها في بيت التي هي الآن زوجتي بسيدي بن عباس.

بيد أن الأمر لم ينته سريعاً، فكان لا بد لي من جهاد عنيف للتخلص من رواسب الماضي، ولكنني خلصت بالنعمة. ويا له من فرح مجيد لا يوصف، أن يشعر الإنسان أنه مخلَّص! إنه فرح لا تستطيع مسرات هذا العالم أن تمنحه.

أيها الأصدقاء الأعزاء،

هل ترغبون في أن تكونوا صادقين مع أنفسكم؟ إذن اعترفوا معي بأنكم بقدر ما تستطيعون نسيان همومكم، يطول سروركم. وبتعبير آخر أنكم تشبهون رواد المسرح أو السينما، الذين تقاس متعتهم بطول أو قصر المشاهد، وحين تنتهي المشاهد يتلاشى كل شيء.

يا أصدقائي، أتؤمنون؟

هل تريدون أن تتغير الأمور؟

وهل تظنون أن رجلاً أو امرأة، يقدر أن يغير حياته؟ كلا إنه لا يقدر، ولكن الله يقدر!

اذكر أنه أعطى ابنه، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية.

الحياة الأبدية، هي وحدها الحياة الحقيقية، الحياة الفياضة. أما الأخرى – حياتكم أنتم- فإن لم يكن المسيح فيها فستهلك.

«إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ،الأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ». لم يبق عندي تبكيت، بل بالحري صار لي سلام مع الله بربنا يسوع المسيح. « هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً». وكل هذا، ليس منا، لأننا غير قادرين على خلاص أنفسنا، بل هو من الله، الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح ربنا.

أ‌. كورباز

أيها القراء الأعزاء،

إن كنتم بائسين، إن كنتم خائبين، إن كنتم متعبين، إن كنتم غير مفهومين من الناس، إن كنتم مجروحين من هذه الحياة، التي لا تتغير، وإن كنتم ترغبون أن تزول هذه الأمور... إن كنتم تريدون حقاً... فإنني أسألكم برأفة المسيح، أن لا تضيعوا الوقت. وأن لا تنظروا ساعة الموت، لتضع حداً لهذا الإهمال، بل تصالحوا مع الله وكل شيء يتغير.

كل شيء تغير بالنسبة لهذا الرجل، الذي تطوع في جيش الغرباء، لينسى نفسه. فالذي غيّر مجرى حياته وحياة كثيرين، قادر أن يغير مجرى حياتكم، فاطلبوا اليوم. كما هو مكتوب في الإنجيل: اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم.

ليس من الضروري أن يمر الجميع في نفس الاختبار الذي اجتازه هذا المتطوع في جيش الغرباء، لكي يغيروا مجرى حياتهم. فأي من الشبان، لم يعرف الضلال ويذوق طعم الفشل؟ ويتحمل وطأة الكفاح الأدبي ونخس الضمير؟ ألا يبحث الشاب المخلص عن الوسائل التي تتيح له أن يحيا حياة أفضل، وأجمل، وأغنى، وأسعد؟

إن يسوع المسيح وحده يستطيع أن يعمل من أجل كل واحد منا، كل ما فعله لأخينا المتطوع في جيش الغرباء. إن كنا نعترف بخطايانا، ونقترب إلى المخلِّص الوحيد بإيماننا. والمخلِّص الكريم يمنحنا الغفران، والتأكيد أنه في المسيح، كل شيء يصير جديدا.

يا لها من سعادة! أن يستطيع الإنسان أن يحيا في ملء يسوع المسيح، ولأجل يسوع المسيح.

2 - مغني الأوبرا

كنت صبياً صغيراً، حين صممت على أن أصبح مغنياً. كان صوتي جميلاً جداً، حتى أن مدرس صفنا أطلق عليّ لقب البلبل الغريد.

كل الأقارب والأصدقاء والجيران والزملاء في المدرسة كانوا يفرحون بأن يسمعوني أغني. كان صوتي من نوع «السوبرانو» ونبراتي صافية وواضحة، وهذا نادر بالنسبة لصبي في هذه السن المبكرة.

هذه الفكرة باحتراف الغناء ألحت عليّ بشدة حين طُرح علي السؤال وأنا في سن الثالثة عشرة: ماذا تريد أن تصبح؟ وتكرر عليّ هذا السؤال في الرابعة عشرة والخامسة عشرة، وكان جوابي الوحيد: أريد أن أكون مغني أوبرا.

كنت أحلم بهذا باستمرار، وخلال سنين عديدة كنت أرفع صوتي مطالباً والدي: دعوني أدرس الغناء، دعوني أنمّي صوتي! ومع أن إلحاحي كان يسبب إزعاجا لوالدي، فقد تشبثت بمطلبي.

في تلك البرهة من الزمن، كانت والدتي فريسة للهموم والمخاوف، وتتساءل: أن ينمي صوته أن يدرس الغناء؟ نعم! ولكن أن يذهب إلى المسارح؟ فهذا غير محتمل! هذه الفكرة كانت بالنسبة لها أشد من وقع السيف. والذي أثار همومها ومخاوفها بالأكثر، هو تصريح أستاذ صفنا: إن كل مؤهلات ابنك تتجه به نحو المسرح. كل هذه الملاحظات كانت تزعج والدتي. فراحت ترفع عينيها نحو السماء، وتهمس في أذن الله قائلة: يا رب، إن هذا لا يجوز أن يحصل! ألم أنذر لك ابني منذ ولادته، ليكون خادماً لك؟

أخيراً، ذهبت إلى ميونخ، والتحقت بالكونسرفاتوار، ودرست الغناء. وما أروع ذلك الوقت الذي كنت أمضيه هناك!

وفي تلك الفترة من الزمن، لم ألبث أن أصبحت أسيراً لدروس الفن الدرامي. فراودتني أحلام المجد والشرف والسعادة، ولم أعتم أن امتلك حب الفن كل مشاعري. وهل يوجد ما هو أجمل من اقتدار إنسان، على إطلاق صوته بأناشيد الأوبرا، وأن يغذي نفسه بالأغاني الكلاسيكية الغنية؟

لقد نسيت كلياً وصايا أبي حين قال لي في ساعة الوداع: «اُذْكُرْ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ» (تيموثاوس الثانية 2: 8). وأهملت توجيهات أمي حين قرأت لي سؤال يسوع «لأنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟» (الإنجيل بحسب متى 16: 26).

ولكن للأسف فالعالم وحده تملقني وجذبني، حتى لم يبق في قلبي مكان لشيء آخر.

مرت الأيام وجاء دور العطلة المدرسية، فعدت إلى البيت. وذات صباح، دعتني أمي بالقرب من سريرها، وقالت لي: يا بني رأيت الليلة حلماً من نوع الرؤى. لقد رأيتك واقفاً أمام ألوف من الناس، وأنت ترتل بصوتك الجميل الترنيمة التي مطلعها «هوذا حمل الله».

أوه! إنني أعرف هذه الترنيمة فقد سمعت أمي ترتلها مراراً بصوتها الرائع، لمجد الله. وأنا أيضاً رتلتها أكثر من مرة، لما كنت طالباً في الثالثة عشرة. وقد ربحت قلب أحد الأستاذة بهذه الترنيمة ولكنني الآن توصلت إلى ما هو أعلى من هذا اللحن.

كلا يا أماه، قلت بلهجة ساخرة! وأنا أظنك تهزلين. إنها لدعابة، ولا يمكن أن أدخلها في اعتباري. لم يعد في وسعي أن أغني شيئاً من هذا. لأنه من الناحية الموسيقية غير ذي قيمة. إن وجب أن أرتل نشيداً دينياً، فليكن ذلك على الأقل من ألحان باخ، أو هيندل، أو هايدن، أو شتيز. ولكن ليس اللحن الذي سمعتيه في حلمك.

بقدر ما أستطيع رفع يدي نحو السماء، قالت أمي، سأصلي كل يوم لكي يصنع يسوع منك مرنماً للإنجيل.

هذا فظيع! قلت. إن كانت ستفعل فأمر فني سيصبح في خطر! والواقع أن شيئاً من الخوف قد استولى علي، فقلت: ماما لا تفعلي، لأن هذا سيكون بلا جدوى. لست أريد شيئاً كهذا، إطلاقاً، إطلاقاً، إطلاقاً! أتسمعين؟ فمهما تقدمت بك السن، لن تري تحقيقاً لهذا الحلم. حتى لو تابعت صلواتك بعد الموت من السماء، لن يتحقق. أريد أن أذهب إلى الأوبرا يا أمي.

أمي تصلي

تابعت مسيرتي في الطريق التي رسمتها لنفسي. وعشت حياتي صاخبة كما شئت، ووقعت في الخطيئة والديون. وكانت السنون تمضي هكذا: مسرح، حفلات موسيقية، الحرب، جبهة القتال، الأسر، والذهاب إلى المعتقل في سيبيريا.

في صباح اليوم التالي لعودتي إلى البيت، سقطت عن الدراجة فيما كنت ذاهباً إلى الشرطة... في تلك الساعة كانت شاحنة ضخمة تمر، فمست رأسي. فعدت إلى البيت مصفر الوجه. ولما دخلت، قلت لوالدتي: ماما، يبدو أن الحياة قد كتبت لي من جديد. فقالت: يا بني الرب وحده يعلم لماذا. ولكن أنا لم أعلم بعد لماذا شاء أن أعيش. أو أنني لا أريد أن أعلم.

تابعت نشاطي في إقامة الحفلات والأمسيات الموسيقية، هنا وهناك، في ميونخ وهمبورغ وفرانكفوت وبريم، الخ. وأيضاً في بلدي ولهيلماشافن، أقمت حفلات مماثلة. وكانت الصحف تشيد ببراعتي، وتذيع شهرتي.

كسليل بيت مسيحي، تربى في ظل الإنجيل، كنت أؤمن بيسوع. وكان إيماني به أكثر من إيماني بالأحداث التاريخية. أما تكريس حياتي للرب وانتمائي كلياً إليه، فهذه أمور لم أفكر بها أبداً. لأنني من الناحية الروحية، كنت بالحقيقة مريضاً. هذه الحالة ظهرت لي خلال الحملة التبشيرية التي قادها بيتروبتمبرغ من كندا. فشهادة تلميذ يسوع هذا، قادتني إلى تكريس كامل لربنا يسوع المسيح. لقد اعترفت بخطاياي لمخلصي، وسلمته حياتي. ومنذئذ وضعت صوتي الجميل تحت تصرفه.

وكان لي حظ القيام بجولة تبشيرية مع بتمبرغ أقمت خلالها أمسيات موسيقية في مقر عدد من الجمعيات المسيحية. وذات يوم، تقابلت مع أنطوان شيلت. وبواسطته استطعت أن أعمل في إذاعة مونت كارلو، حيث أتيح لنا أن نذيع برنامج «إنجيل الخلاص بالكلمة والترنيم».

لقد سمعت تسجيلاً لإحدى رسائلنا بعنوان «الحياة الجديدة» وكنت آنئذ في البيت مع أمي. كنا مجتمعين حول جهاز الراديو، لنحتفل بذكرى ميلادها السابع والثمانين. وفيما نحن سكوت ننتظر إذاعة مونت كارلو، قال المذيع: تسمعون الآن ترنيم الإنجيل من فرانزكينس. كنت أنشد آنئذ الترنيمة التي مطلعها «حمل الله» نفسها. لم يكن الأمر مدبراً، ولم أكن أعلم أي مرنم مكلف بإلقاء الرسالة.

في تلك اللحظة نظرت والدتي، تضم يديها وتغمض عينيها. ولم تلبث أن فاضت دموعها بغزارة، وأخذت شفتاها ترتجفان. ثم توقفت عن إرسال الدمع، ونظرت إلي. وفيما عيناها تشعان ببريق عجيب، تناولت يدي اليمنى بكلتى يديها. ونظرت في عيني، وقالت: الناصري وأنا ربحنا المعركة، قد انتصرنا!

في غمرة سعادتي وسرور نفسي رمقتها بنظرة كلها حب وولاء، متذكراً تلك السنين التي ضاعت. بيد أن الله المحب تأنى وقاد كل شيء إلى الخير العظيم.

بقيت والدتي ما يربو على ربع قرن تصلي لأجل تحقيق هذا الهدف. والآن فقط رأت استجابة صلواتها. لقد عاشت الفترة السعيدة التي فيها تحقق حلمها.

في الواقع أنه لم تسمع الألوف هذه الترنيمة من الراديو وحسب، بل أيضاً أتيح لي أن أغينها في مناسبات كثيرة، أمام عشرات الألوف في أثناء الحملات التبشيرية، سواء في الهواء الطلق أم في القاعات الكبرى. وفوق هذا تسجلت في كميات كبيرة من الإسطوانات. وقد شاع استخدامها في العدد العديد من المؤسسات التي تعنى بالتبشير. فكانت وسيلة عاملة بين أيدي الكثيرين من أولاد الله، لدعوة النفوس التي ما زالت بعيدة عن يسوع، لكي تقدم إليه.

فرتنزكينس

3 - نشيد ضوء القمر

في أثناء تجواله في الريف، مر بيتهوفن ذات مساء أمام كوخ متواضع. وفيما هو غارق في تأملاته، وصل إلى سمعه صدى احد ألحانه عبر النافذة المفتوحة. كان العزف غير مضبوط، ولكنه مع ذلك يدل على وجود نفس شفافة عند العازف. وفجأة سمع صوت امرأة شابة تقول:

آه! كم أود أن أسمع هذه القطعة، من عزف فنان أصيل!

وفي تلك البرهة طرق بيتهوفن الباب، ولما فتح له وجد نفسه وجهاً لوجه مع فتاة جالسة إلى بيانها، وإلى جانبها أخوها الشاب.

- كنت في الشارع فسمعت كلمتك، فهل تسمحين لي بالعزف على بيانك، هكذا سأل المعلم، دون أن يعلن عن هويته.

- بكل سرور يا سيدي، أجاب الشاب، ولكن بياننا ليس جيداً، وليس لدينا نوتة.

- ليس عندكم نوتة؟ وكيف إذن استطاعت الآنسة أن تعزف؟

انطفأت العبارة على شفتي الموسيقار الكبير، لأنه في تلك البرهة لاحظ أن الفتاة عمياء...

فجلس أمام البيانو، وراح يعزف، تحت تأثير إلهام عميق. وحين توقف عن العزف سأله أخو الفتاة.

- ولكن من أنت يا سيدي؟

لم يجبه بيتهوفن، بل عاد إلى البيانو وراح يعزف اللحن الذي عزفت الفتاة بعضاً من مقاطعه. أما هو فوقعه من أوله إلى آخره. وقبل أن ينهي آخر مقطع، اشرأبت من شفتي الفتاة العمياء صرخة:

- بيتهوفن! هذا بيتهوفن.

في تلك اللحظة أطلت أشعة القمر الفضية، وولجت الكوخ عن طريق النافذة المفتوحة، واستقرت على عيني الفتاة المنطفئتين.

- يا لأختي المسكينة! تمتم الشاب.

- بما أنها لا تستطيع أن ترى ضوء القمر فسأحاول أن أعلنه لها بالعزف، قال الفنان الكبير.

قال ثم جلس إلى البيانو وألّف لحن «ضوء القمر»..!

أيها القراء الأعزاء...

يمكننا أن نستخلص من هذه القصة تعليمين جديرين بالتأمل:

نحن كلنا نشبه هذه الفتاة العمياء، في ما يختص بالروحيات. إننا بالطبيعة شغوفون بالمثالية، ونحاول التعبير عنها. وهناك ألحان روحية تغني في داخلنا. إنها تسمى: جمال، كمال، قداسة، بر، حق، طهارة، حب.!

إننا نود أن نترجم هذه المشاعر، ونجهد أنفسنا لكي نصنع الصالح، ونحيا في البر ونكون: شرفاء، مستقيمين، مخلصين، محبين!.. ولكن لعبتنا تبقى خرقاء! إننا كالمبتدئين، الذين يجلسون إلى البيانو. يعزفون إلى جانب بعض النوتات الصحيحة، كثيراً من النوتات الخاطئة. نوتات تصدم ضمائرنا، وتتجنّى على الموسيقى الصحيحة. غير عالمين أننا بنوتتنا الخاطئة، نخرب ألحان الحياة، الواجب أن نترجمها لمجد الله الخالق.

اسمعوا إذن هذه الكلمات، وقولوا إن كانت لا تجد لها صدى في نفوسكم. إنها كلمات كتبها الرسول بولس في رسالته إلى أهل رومية 7: 14-20 قال: «فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ ٱلنَّامُوسَ (يعني إرادة الله) رُوحِيٌّ، وَأَمَّا أَنَا فَجَسَدِيٌّ مَبِيعٌ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ. لأَنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ مَا أَنَا أَفْعَلُهُ، إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ، بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. فَإِنْ كُنْتُ أَفْعَلُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ، فَإِنِّي أُصَادِقُ ٱلنَّامُوسَ (يعني إرادة الله) أَنَّهُ حَسَنٌ. فَٱلآنَ لَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُ ذٰلِكَ أَنَا، بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱلسَّاكِنَةُ فِيَّ. فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ. لأَنَّ ٱلإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي، وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ ٱلْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ. لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ ٱلصَّالِحَ ٱلَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ ٱلشَّرَّ ٱلَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ».

وفي تعبير آخر إنني أعزف خطأ.

أعزف خطأ وأجد أن هذا ميؤساً ومتعباً وغير ممكن! وأنا أضني نفسي بالمحاولة وأفشل، ولو أجهدت نفسي مئة مرة!

وكالفتاة العمياء المبتدئة، أصرخ أنا أيضاً: اوه كم أود أن يأخذ مكاني شخص آخر، شخص يعيش فيّ ويخلصني من عدم أهليتي لعمل الصالح.

حين نتصرف هكذا، وحين تصبح صلاتنا صراخاً من القلب، صراخاً معترفاً بعدم المقدرة، أكثر مما هو إعلان اليأس، عندئذ يعلن الله لنا شخصياً معلماً لا مثيل له.شخص يقدر أن يدخل قلوبنا، كما دخل بيتهوفن كوخ العمياء الشابة. ويقول لنا أيضاً: دعني أعزف مكانك. أنا أعزف حسناً، أنا هو مؤلف اللحن الإلهي الذي تتموج به روحك، وأنت تحاول أن تعزف بطريقتك الخرقاء. وتجتهد لكي تصير فناناً كاملاً. ولكن هلا علمت أن حياتك أمام الرب الله كلها عزف غير كامل.

- اذن اسمح لي أن أعزف مكانك يقول الشخص. إن الصالح، هو أنا، البار، هو أنا! الحق هو أنا! المحبة، هي أنا.

لعلك الآن تسأل: من هو إذن الشخص الذي يتكلم إلينا هكذا؟

الفتاة العمياء، عرفت بيتهوفن بواسطة عزفه الكامل! وهكذا المعلم الصالح يُعرف من عزفه الإلهي. أي من حياته القدوسة، من بره الكامل، من حبه الفائق، فما اسمه؟

إنه إسم عظيم يتفجر من شفتيك في هذه اللحظة. إنه يسوع المسيح ابن الله الحي.

ولعلك تسأل أيضاً: هل هذا صحيح، أنه يريد أن يحيا فيّ، ويخلصني من كل نقائصي، ومن كل أخطائي. ويصنع مني كائناً قادراً أن يفعل مشيئة الله؟

هذا على الأقل ما وعد به، لأنه قال: «اثبتوا فيّ وأنا فيكم.. ٱلَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هٰذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ، لأَنَّكُمْ بِدُونِي لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً.. إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كَلاَمِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ» (الإنجيل بحسب يوحنا 15: 5-8).

بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً، قال له المجد- عندكم الإرادة، ولكن ليس لكم القدرة على أن تفعلوا الصالح. اتركوا لي المجال فأسكن فيكم، وبي يصير المستحيل ممكناً.

هل نحن على استعداد أن نترك له المجال؟ وأن نؤمن به، مع أننا لا نراه.

هل ننتظر منه براهين أخرى غير التي أعطانا إياها، هو الذي أحبنا حتى الموت، موت الصليب؟ هو الذي سفك دمه لكي يفدي نفوسنا؟

إن عطشنا للمثالية يجب أن يُروى، وهو وحده القادر أن يرويه. ولسعادتنا أنه يشاء ذلك، وفقاً لقوله: «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ. مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ ٱلْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (الإنجيل بحسب يوحنا 7: 37-38).

لنقبل إليه، ولنؤمن بحبه، ولنؤمن بغفرانه، ولنقبل خلاصه.

أما التعليم الثاني فيمكننا أن نستخرجه من قصة الفتاة أيضاً يجب أن نعلم، كيف عرفت الفتاة العمياء بيتهوفن؟ جاء في القصة أن الرجل المجهول عزف على البيانو بصورة فائقة الكمال، لا يستطيعها إلا بيتهوفن العظيم. وساعدها على معرفته أيضاً قلبها الموسيقي، الذي سرعان ما تجاوب مع اللحن العظيم، مع أنها لم تكن سوى مبتدئة، إلا أنها عاشت اللحن أكثر مما عزفته.

انظروا أيضاً ماذا يحدث حين نعيش في المسيح، ونثبت فيه وهو فينا. إن العبارات التي استشهدت بها من كلام الرب في الانجيل بحسب يوحنا، تقول، اثبتوا فيّ وأنا فيكم. فحين يثبت فينا، يعلن لنا الأشياء التي لا ترى. بيتهوفن أعلن القمر للفتاة العمياء، أي صوّر لها بموسيقاه ما لا تستطيع أن تراه.

إننا نبحث عبثاً عن نور الحياة، بوسائلنا الشخصية، لأن نور الحياة في الله، وقد قال يوحنا الإنجيلي الله لم يره أحد قط.

لكننا نشكر الله لأن المسيح جاء وأعلن لنا وفقاً لقول الإنجيل: الإبن الوحيد، الذي هو في حضن الآب هو خبّر.

لقد أخبرنا بأن الله ليس إلهاً قاسياً ومتطلباً، بل هو أب حنون ورحوم. أب يحبنا بمقدار أنه بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية. هذا هو كل الإنجيل.

وإذا سألتني الآن: ما العمل للحصول على بركة كهذه؟ أجيبك: يكفي أن تعمل ثلاثة أشياء.

الشيء الأول: أن تسمح للمسيح بالدخول، حين يطرق باب قلبك. لم أقل حين سيطرق، بل حين يطرق. لأنني متيقن أنه الآن يطرق.

وأية خسارة كانت ستتكبدها الفتاة العمياء لو أنها قالت: لا نفتح الباب لأحد! ولكنها فتحت، ودخل الموسيقار الكبير. ونحن لنفتح، ليدخل ابن الله. فقد قال: هاأنذا واقف على الباب وأقرع، إن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي.

الشيء الثاني الذي يلزمك، هو أن تعطيه قلبك، كما فعلت الفتاة العمياء حين أعطت البيانو للموسيقار الشهير.

إن إعطاء القلب للمسيح معناه أن المؤمن أخلى إرادته للمسيح لكي يفعل إرادته هو.

هل أنت مستعد لهذا أن تترك المجال للمسيح ليستلم دفة حياتك وادارة بيتك؟

الشيء الثالث الواجب أن تعمله، هو أن تستمع له. لأن الفتاة العمياء لو لم تستمع لبيتهوفن، ليس فقط بأذنيها بل بكل أحاسيسها، لما استطاعت أن تكتشف فيه سيد الموسيقى الكبير.

اسمع صوته يا صديقي في هدوء قلبك وضع في أذنيك وقرا ضد كل الأصوات الأخرى، لكي لا تسمع إلا صوته في قلبك.

عندئذ يعلن لك الشيء الأعظم، الشيء الأروع، الشيء الذي لا يقدر بثمن، الذي هو محبة الآب.

وأخيراً سترى في ليلتك السعيدة مجده، كل مجده.

4 - رائد فضاء يتكلم

كان جيمس أرفن أحد رواد الفضاء في أبولو 15. وهو أحد الرجال القلائل الذين وطأت أقدامهم سطح القمر. وواحد من الرجال القلائل، الذين قادوا سيارة على أرض هذا الكوكب، الذي لم يستغله أحد من عالمنا. وها كم ما تحدث به عن مراحل تدريبه ورحلته الفضائية.

لقد تجددت منذ حداثتي المبكرة، ومنذئذ صارت علاقتي اليومية مع الله حاجة لا غنى عنها. وقد شعرت بوجوده بصورة خاصة في أثناء رحلتي الفضائية.

حين كنت أعطي دروساً بالطيران الخفيف، مررت في تجربة هائلة. ففي ذات صباح، تحطمت طائرتنا الصغيرة في قلب الصحراء. وكانت عناية إلهية مباركة أنها لم تحترق في الحال. وحين انتشلني فريق الإنقاذ من حطام الطائرة، وجدت كسوراً في فكي وساقي، ورضوضاً في أنحاء متعددة من جسمي. ومن ناحية أخرى، أصبت بصدمة نفسية.

كانت الأربع والعشرون ساعة الأولي بالنسبة لي صعبة جداً. فحالما عدت إلى الوعي، بدأت بطرح هذا السؤال: لماذا حدث لي هذا؟ ثم رحت أصلّي. وفي المستشفى كان لدي الوقت الطويل لكي أصلّي لأجل شفائي. لأنني كنت أرغب بكل حرارة أن تتاح لي قيادة طائرة قتال.

لقد عانيت نكسات عاطفية مختلفة، بسبب الصدمة التي عانيتها عقب هذا الحادث، ولكن أفظع ما منيت به هو أنني لم أحصل على الدكتوراه بعد. إلا أنني نجحت بالدخول في فريق التدريب لارتياد الفضاء.

في كل المدة التي أمضيتها في الإعداد لرحلة أبولو 11 وأبولو 12، كما لرحلة أبولو 15، لم أكّف عن طلب العون من الله.

وأخيراً، بدأت أبولو 15 رحلتها في 26 تموز، ولما سارت بنا في مدار الأرض، نظرت من النافذة ورأيت القمر في كماله. وهذا يعني أننا كنا في الطريق الصواب.

كان القمر يبدو لنا كمكان ساحر لتمضية ستة أيام كاملة، ثلاثة في مداره، وثلاثة على سطحه.

إن الجمال الأخاذ لهذا المنظر المتعدد الأشكال والذي كان ساحقاً في روعته، قد خلّف في نفسي أحاسيس لا يمكن أن أنساها.

كانت البقعة التي صممنا على أن نجعلها مهبطاً لنا، تشبه وادياً رائعاً، كالذي نراه على أرضنا بين شوامخ الجبال.

كان الله معنا، وكانت الساعات التي أمضيناها على سطح القمر أكثر ساعات حياتي حماساً. ليس فقط لأنني كنت على القمر، بل لأنني أيضاً كنت أشعر بوجود الله.

في بعض الأحيان، كان علينا أن نواجه حالات جديدة، ولكن الله كان دائماً إلى جانبي ويستجيب صلواتي.

فيما السفينة الفضائية تدور بنا حول القمر، وقبل أن تتخلص من جاذبيته، كنت أتامل جمالات الأرض بدهشة. كان في وسعي أن أرى جنوب غربي الولايات المتحدة: فلوريدا، كوبا، وجزائر البهاما ومياهها الصافية. وبعد ساعتين من الدوران في الفضاء، صار في وسعنا أن نرى القارات على اختلاف ألوان الأرض: الصحراء السمراء، والبحار الزرقاء، والغيوم البيضاء. كانت الأرض تجعلنا نستعيد صورة زينة الميلاد السريعة العطب.

كانت هذه المشاهدة بصورة خاصة تذكرنا بصخرة التكوين المعجزية، التي بحسب تقدير الجيولوجيين هي أقدم قطعة من المادة امتحنها الإنسان على الإطلاق.

لما عدنا إلى الأرض، شكرنا أولئك الذين أعدوا مركبتنا الفضائية بكل عناية، والذين بنوها، والذين تحققوا من كل جميع عناصرها، والذين ساعدونا في إدارتها في خلال الرحلة الفضائية البديعة.

في الحق إن حضور ربنا يسوع المسيح، هو الذي حقق لنا العناية والسلامة والعودة من هذه الرحلة الميمونة.

الكولونيل جيمس أروين

من سلاح الطيران الأميركي الذي استقال من مناصبه لكي يلتحق بالعمل المرسلي.

أيها القارئ الكريم،

لقد طلعت علينا الصحف بالكثير من تعليقات رواد الفضاء على ما شاهدوه في رحلاتهم. ولكن أغرب ما قيل في ذلك هو تصريح أحد رواد الفضاء الملحدين الذي قال ما معناه: ها قد صعدت بنا المركبة الفضائية إلى السماء التي قيل أنها مكان عرش الله. ولكنني بحثت كثيراً عن هذا الله، فلم أجده. فهو إذن غير موجود.

هذا الكلام يذكرني بما جاء في المزمور 14: 1 «قَالَ ٱلْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: «لَيْسَ إِلٰهٌ». ولكن تذكري هذه العبارات لا يعني أنني أعتبر هذا العالِم الفضائي جاهلاً، وإنما أقول أنه متجاهل.

وقد سبق للرسول الملهم بولس أن وصف حالة العلماء المتجاهلين، حين قال: «إِذْ مَعْرِفَةُ ٱللّٰهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ، لأَنَّ ٱللّٰهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ، لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ ٱلْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ ٱلْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ ٱلسَّرْمَدِيَّةُ وَلاهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِٱلْمَصْنُوعَاتِ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلا عُذْرٍ. لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا ٱللّٰهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلٰهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ ٱلْغَبِيُّ..» (رومية 1: 19-21) .

من المسلّم به أننا لا نستطيع أن نجد الله بالبحث، لأن قدرته ولاهوته غير منظورين. ولكن يمكن رؤيتهما بوضوح في نتائجهما. إنه له المجد يعمل في الخفاء (أيوب 3: 8-9) لكنه يعلن عمله بمصنوعاته التي نراها بعيوننا. هكذا قال إمام المرنمين داود: « السَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ ٱللّٰهِ، وَٱلْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَماً، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْلٍ يُبْدِي عِلْماً» (مزمور 19: 1-2).

فهذه المصنوعات، لم يكن ممكناً أن تصنع نفسها، أو تصل إلى هذه الدقة من النظام والتناسق عرضاً. ولذلك، فلا بد أن يكون قد صنعها صانع ماهر. وهذا الصانع هو الله الأزلي المقتدر. قال أشعياء النبي: «ٱرْفَعُوا إِلَى ٱلْعَلاءِ عُيُونَكُمْ وَٱنْظُرُوا، مَنْ خَلَقَ هٰذِهِ؟ مَنِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ بِعَدَدٍ جُنْدَهَا، يَدْعُو كُلَّهَا بِأَسْمَاءٍ؟ لِكَثْرَةِ ٱلْقُوَّةِ وَكَوْنِهِ شَدِيدَ ٱلْقُدْرَةِ لا يُفْقَدُ أَحَد» (أشعياء 40: 26).

ويقيناً أن تنوّع مصنوعات الله، وتعددها، ونظامها، وجمالها، وتناسقها، وتنوّع طبيعتها، ودقة صنعها، واتجاهها إلى هدف معين، وتضامن كل الأجزاء لصالح وجمال الكل- هذه كلها تدل على وجود خالق، وتعلن قوته السرمدية ولاهوته.

5 - كتلة رخام تتكلم

حدث هذا في فلورانس، عاصمة الفنون في القرن الخامس عشر، حين تحلق جماعة من الفنانين حول كتلة ضخمة من الرخام، تتجاوز الأربعة أمتار علواً. ولكنها كانت رقيقة، وقاعدتها منحوتة على شكل مثلث الزوايا.

كان الإهتمام منصباً على تقييم هذه الكتلة الحجرية، التي عملت فيها يد نحات أخرق فأفسدتها تماماً.

كان الفاحصون يتأملون في الضرر الذي حصل، ويهزون أكتافهم ويرفعون أذرعتهم علامة على الحزن المشوب بالغضب. وينغضون الرأس متمتمين: مستحيل! هذا مستحيل!

كانت كتلة الرخام من نوع فريد، حجمها رائع مهيب. ولكن الأضرار بها كانت بالغة، بحيث لم يكن ممكناً الإفادة منها. ومع ذلك فذات صباح، جاء إليها عامل شاب، وأقام حولها صقالة عالية من الخشب، وراح يعمل فيها بجهد.

خلال أربع سنين، كان المارة يسمعون صوت الإزميل اليبيس على الرخامة، وصوت المطرقة الخشبية المخنوق على الإزميل.

وأخيراً أُنجز العمل، وأُزيلت الأخشاب. فدُهش الفلورانسيون وأُخذوا بمنظر تمثال داود البالغ الروعة.

فمن هذه الكتلة الرخامية الهائلة المشوهة، والتي لم يكن في ظن أحد أنه يمكن الإفادة منها، صنع ميشيل أنجلو هذا التمثال الذي يعد من روائع الفن الفريدة.

لقد حوّل كل عيوب النحت الأول إلى جمالات تسحر النواظر. فالعلو المفرط صيره عضلات لمصارع شاب. والثغرة التي كانت القاعدة حوّلها إلى فراغ بين الساقين القويتين.

في الواقع إنّ التمثال، في مجمله وفي كل دقائقه كان آية كاملة في الفن. العضلات والعروق نموذجية، بكل ما في الكلمة من دقة، حتى يخيل للناظر أن دماً حاراً يجري في شرايين هذا الرخام.

لم يكن هذا تمثالاً، بل كان أكثر من ذلك. كان حقيقة نابضة بالحياة. إنه نوع من القيامة.

تحت نقرات إزميله، جعل المعلم الفنان التشوهات تتحول إلى جمالات. وبكلمة أخرى إن الرخامة الباردة الميتة صارت رخامة حية. لم تكن قبلاً سوى ضعف. أما الآن فقد صارت داود، الذي تحدى جليات الجبار.

هذا التمثال المدهش، الذي يزين ساحة السيادة في فلورانس، منذ خمسة قرون، ما زال يقول لنا اليوم أن لا نيأس من شيء، حتى ولا من كتلة رخام غير حساسة وغير مفيدة. إذ يكفي أن تتناولها يد فنان بارع، لكي تجعل منها رائعة فنية.

أيضاً في كل مجال غير النحت، تحصل يومياً عجائب مماثلة للتي ذكرت أعلاه. فكثيرون هم الذين حين يتأملون في ماضيهم وينظرون أحوالهم الحاضرة، التي لا تدعو للفرح، يحزنون ويكتئبون، ويتمتمون بأسى، لقد أفسدت حياتي. هذه الحياة التي أعطانها الله، والتي في طهارتها وبراءتها شبيهة بالرخامات النادرة، التي عملت فيها يد نحات أخرق، فأفسدها تماماً.

كنت أنا الصانع حياتي.

ونبتة إرادتي هي التي صاغت شكلها رغم رغباتي.

لقد نحّت في رخامة مصيري، ظناً أنه كان من السهل تعديل هيئتها وقد أردتها أن تكون وفقاً لما كان في خيالي من صور.

كانت لي مطامح: أحببت، أملت، عملت، كافحت، تألمت، ولكن ماذا بقي من كل تعبي، ومن كل آمالي؟

وكالنحات الذي يرجع بضع خطوات إلى الوراء، لكي يتأمل في عمل يديه، هكذا أتأمل اليوم صور حياتي. إنها كومة من الأيام والشهور والسنين، التي تتجمع كلها في كلمتين: تعب وبلية. والآن أنا هو البئيس والضعيف، الأمر الذي ما أردته.

أيها القارئ الكريم،

إن كنت قد وصلت إلى هذه الحقيقة المرة، فلا تيأس! فكّر في كتلة الرخام، التي كان الفلورانسيون قد حكموا بضياعها. ولكن شخصاً أقدر من ميشيل أنجلو، يستطيع أن يعمل شيئاً صالحاً من حياتك التي أفسدت. إنه يسوع المسيح، الذي يدعوه الكتاب المقدس بمرمم الثغرة.

هل تعلم كم هو قادر أن يعمل، حتى في الوجود الميؤوس منه؟

اقرأ الإنجيل تكتشف فيه أن الرب يسوع يستطيع أن يصنع داوداً منتصرا من أي إنسان، مهما كانت حياته مخزية ومفسدة، أكثر مما كانت عليه كتلة الرخام الفلورانسية.

طبعاً، لأجل حدوث عمل مجيد كهذا، يجب التسليم له، ووضع كل الطاقات تحت تصرفه.

أعطوني هذه الرخامة، قال ميشيل أنجلو، فأجعل منها إحدى بدائع الفن.

أعطني حياتك، يقول لك المسيح اليوم، وأنا سأصيرها حياة مجيدة.إذن النقطة الأولى هي، هل أنت موافق، هل تقبل حضوره في حياتك؟

إنه لا يفرض نفسه، إنه يشاء أن نقبله بملء الإرادة، ليس له اسم آخر غير هذا، يسوع، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم.

إنه يتعهد بكل بساطة بتحويل حياتك المفسدة إلى حياة مجيدة، شرط أن تعطيها له. ومرة أخرى أسأل هل أنت موافق؟

اوه! إن هذا ليس سهلاً! إنه لمن الصعب، أن ينكر أحد نفسه ويسلمها لآخر. ولكن لنذكر مثاله هو، إنه في بستان جثسيماني، أخضع ذاته كلياً للآب، قائلاً: لتكن لا إرادتي بل إرادتك.

ورب من يقول: ولكم في هذا خطراً، فلو سلمته ذاتي، لعله يقودني إلى الصليب، ويطلب إلي أن أموت معه!

الحق هو هذا، فإلى هناك يريد أن يقتادك. وهذا ما يجدر بك أن تقبله برضى وسرور.

الواقع إن قبلته، فلا بد أن يفرزك خاصة له. لأنه يريد أن يعمل في حياتك في وحدتك، حيث لا يزعج أحد عمله.

سيقيم صقالته العالية بينك وبين ما أحببت إلى اليوم من متاع هذا الدهر، وعبدته كوثن عزيز. ومنذ الآن فصاعداً ستشعر كأنك متروك من أبناء هذا الدهر. ولكن لا تخش شيئاً، فحياتك ستكون مملوءة بحضوره، ليؤنس وحدتك.

إن كان سيفرق بينك وبين من أحببت، فهذا لكي لا يأتي صوت غريب ويعكر الخلوة التي يريد أن يقيمها معك.

عندئذ يبدأ عمله، وإزميله سيعمل بشدة. ونفايات شكوكك ستقع واحدة تلو الأخرى. وأعلم أنه سيسحق كبرياءك، ويحول مطامحك المنحرفة إلى غبار، وسيلاشي كل مشاريعك العالمية، ويحبط مخططاتك الدهرية.

ستتوجع حتماً، لأن رخامتك من جسد، وسينزف قلبك دماً من جراحه المتعددة، حين سيحز فيه الإزميل الإلهي بعمق. ولكن الأشياء التي لا نفع منها فقط ستقع. والباقي، سيتحول بعمل المثال الإلهي في حياتك إلى رائعة مجيدة فريدة في الجمال.

إن ما اقترح على نفسه أن يعمله فيك هو أعظم وأجمل كثيراً من أية رائعة فنية، صنعتها يد العبقري ميشيل أنجلو، بما في ذلك تمثال داود، الذي لا يماثله شيء، كما يقول الخبراء.

وإن ما يريد أن يعمله فيك هو تحويلك إلى أشبه صورته المجيدة عينها، لكي يتأمل فيها، فيسر من تعب نفسه ويشبع.

أنا لست بمبالغ في قولي، فقد قال بولس للغلاطيين: «يَا أَوْلادِي ٱلَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضاً إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ» (غلاطية 4: 19) إلى أن تستطيعوا إظهار حياة يسوع المسيح فيكم.

فبولس عامل الرب كان في يد يسوع المسيح كالإزميل في يد ميشيل أنجلو، لكي تتحول كتلة الرخام إلى تمثال بديع. فقد كان الرسول الكريم، يريد أن يرى صورة سيده في كل الذين نقل إليهم إنجيل الخلاص وقد طلب إلى الأفسسيين أن يصلوا إلى صورة المسيح الكاملة.

هل يستطيع الإنسان أن يسترجع حياته الضائعة؟ المنطق يقول لا! ولكن المسيح يقول نعم! والبرهان في اختبار كل الذين وضعوا حياتهم بين يدي يسوع المسيح. إنه وحده يستطيع أن يصلح الحياة التي لا معنى لها ويجعل غير الموجود موجوداً.

لنسلم حياتنا ليسوع القادر على كل شيء، وهو يجعل من رخامة أنفسنا رائعة لمجده.


Call of Hope 
P.O.Box 10 08 27 
D-70007
Stuttgart
Germany