العودة الى الصفحة السابقة
الرسالة الأخيرة

الرسالة الأخيرة

قصص من الحياة جمعها وعلق عليها اسكندر جديد

اسكندر جديد


Bibliography

الرسالة الأخيرة. اسكندر جديد. Copyright © 2007 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . 1972. SPB 8030 ARA. English title: The Last Letter. German title: Der Letzte Brief. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 D - 70007 Stuttgart Germany http://www.call-of-hope.com .

1- الرسالة الأخيرة

كتب هذه الرسالة أدناه شاب هولندي في الثانية والعشرين من عمره، قبل أن يعدم مع ثلاثة من رفاقه، في 27 شباط سنة 1942، تنفيذاً للحكم الصادر من محكمة ألمانية بتاريخ 13 شباط 1942، لأجل محاولتهم الهرب من هولندا للالتحاق بالقوات الهولندية الحرة في بريطانيا العظمى.

والدي العزيز،

إنه لمن الصعب، أن أكتب إليك هذه الرسالة. ولكن علي أن أحطيك علماً بأن المحكمة العسكرية الألمانية، قد لفظت ضدنا عقوبة شديدة جداً.

تفضل اقرأ رسالتي هذه، لوحدك أولاً. ثم بعد ذلك اقرأها لوالدتي، بعد اتخاذ الكثير من الاحتياطات. لما كتبت لك في 14 شباط، كنت أعلم مسبقاً بأنه محكوم علينا بالموت. ولكن لم تكن لي الشجاعة لكي أخبرك، وغايتي أن أجنبك هذه الصدمة. أو على الأقل، أن أخفف من وطأتها على قلبك المحب.

أستطيع أن أقول لك بإخلاص، بأنني صليت كثيراً. وعندي التأكيد الجازم، بأنني سأقابل الموت بنظرة كلها ود. ولي سند مجيد في يسوع المسيح، الذي أضع فيه ثقتي الكاملة مرة أخرى.

أبي العزيز،

بعد هنيهة سينفذ فينا حكم الموت! فالوقت الباقي لي في الحياة قصير جداً. ولكنني أتمتع بسلام مجيد، أُرسل لي من الله.

إنه سلام عميق جداً، وقد ملأ كياني. ألم تقل كلمة الله: «وَيَكُونُ ٱلرَّبُّ مَلْجَأً لِلْمُنْسَحِقِ. مَلْجَأً فِي أَزْمِنَةِ ٱلضِّيقِ. وَيَتَّكِلُ عَلَيْكَ ٱلْعَارِفُونَ ٱسْمَكَ. لأَنَّكَ لَمْ تَتْرُكْ طَالِبِيكَ يَا رَبُّ» (مزمور 9: 9-10).

عندي شعور قوي بحضوره فيّ، وأنا مستعد للموت، أرجو أن تكون شهادتي سبب تعزية لك. أنا أعلم جيداً أن الأمر رهيب، ولكن امتيازنا أننا في فجر الحياة، والله يعلم أن قضيتنا حق. أظن أن المناسبة بالنسبة لك، أكثر سوء مما هي لي. فقد اعترفت للرب بكل خطاياي، ولي ملء اليقين بأنه قد غفرها لي، لأجل دم المسيح. وأيضاً أنا في أتم الهدوء والراحة الكاملة. يا أبي العزيز، لا تبك، ولتكن لك الثقة في الله، كما لي أنا. وأسأله القوة، لكي تتحمل هذا الرزء الأليم.

يا أمي، أمي الحنون،

دعيني أعانقك. اصفحي عني، إن كنت قد ارتكبت بعض الأخطاء. لا تبكي يا حبيبتي، كوني قوية وشجاعة. بقي لك أولاد آخرون. أنت لست وحيدة كالسيدة لورا. سنتقابل في الأبدية، لأننا جميعاً في العائلة من أولاد الله. أيضاً قبلة حارة من ولدك كيس.

أبي سامحني أيضاً. تقوّ في الإيمان الذي يسكن في صدرك، كما يسكن في صدر أمي. أشكر الله لأننا نستطيع الإيقان، بأن نعمته تشملنا، وأن التأكيد التام أنه غفر لنا. لتكن مشيئته!

وأنتم يا جان، وبيب، وايل، وفيان، احييكم جميعاً. كونوا أنتم أيضاً أقوياء، وصلوا لكي تنالوا الشجاعة. آمنوا دائماً، وانموا في النعمة، وفي معرفة ربنا يسوع. وثقوا في الرب بأنه يعمل كل شيء حسناً. كونوا بارين بالوالدين، وتقبلوا تحيات وقبلات أخيكم كيس الحارة. لاطفوا الإخوة الصغار، وعلموهم أيضاً أن يؤمنوا بيسوع. تحيات لكل واحد منكم، من قِبَلنا نحن الأربعة الراحلين. إنني أشكر رفاقي، لأجل عطفهم علي. نحن كلنا شجعان، فكونوا أنتم أيضاً هكذا. إن قضاتنا لا يستطيعون أن يأخذوا منا سوى الأجساد، أما نفوسنا فهي وديعة بين يدي الله المقتدر. هذه الحقيقة يجب أن تكون تعزية كافية، لكم أنتم المؤمنون بالله. لا يكن حقد في قلوبكم، فأنا أموت بدون حقد، عالماً أن الله سيدين الجميع بالعدل.

محبكم الى المنتهى، كيس.

أيها القارىء الكريم،

إن هذا الشاب الشجاع، قد أظهر للعالم كيف يموت المسيحي. فقبيل تنفيذ حكم الموت فيه، كانت نفسه مملوءة بسلام الله. ولا بد أن أبواب السماء، تفتحت له لكي تريه ثواب الأبدية. وهذه تبدت له بكل روعتها، في الساعة الأخيرة من حياته على الأرض. لقد حدث له تحول مجيد، لأنه كان منطلقاً ليكون مع المسيح، وذلك أفضل. (فيلبي 1: 23).

إنه لم يشعر بشوكة الموت، التي هي الخطية. لذلك يستطيع أن يهتف مع رسول الجهاد العظيم بولس: «أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟» (كورنثوس الأولى 15: 55). إنه في السماوات، صعيد البركة، صعيد المجد.

وذووه لن ينسوه، لأنهم لا يستطيعون أن ينسوه، والله لا يريد أن ينسوه. قد يضعون هذه الرسالة التي بعث بها إليهم في محفوظاتهم. ولكنهم سيخرجونها بين آونة وأخرى، ليقرأوها بكل فخر. لعلهم سيبكون في كل مرة. ولكن عيون إيمانهم، تنظر إلى فوق، منتظرة ذلك اليوم، الذي فيه سيلتقي الجميع في منازل الآب، مكان السعداء، حيث لن يكون فراق في ما بعد.

أن يكون الإنسان مخلصاً، فيا له من أمر عظيم! ويا لها من نعمة!

يا أصدقائي الأعزاء، هبوا أنكم تموتون في سن الشباب! وماذا يكون بعدئذ؟

هبوا أن هذا اليوم هو آخر أيامكم على الأرض! وماذا يكون بعدئذ؟

هبوا أنكم تموتون في هذه الساعة! وماذا يكون بعدئذ؟ انني أسألكم برأفة الله، أن تجعلوا الأبدية موضوعاً لأفكاركم.

نقرأ في الكتاب المقدس هذه العبارات: «فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ مَرِضَ حَزَقِيَّا لِلْمَوْتِ، فَجَاءَ إِلَيْهِ إِشَعْيَاءُ بْنُ آمُوصَ ٱلنَّبِيُّ وَقَالَ لَهُ: هٰكَذَا يَقُولُ ٱلرَّبُّ: أَوْصِ بَيْتَكَ لأَنَّكَ تَمُوتُ وَلا تَعِيشُ» (أشعياء 38: 1).

تذكروا أن الرب مستعد أن يخلصكم، لهذا يجب أن تخلصوا، لكي تقدروا أن تذهبوا إلى السماء.

قدموا الشكر والحمد لله، لأنه ليس عليكم أن تبحثوا لتعرفوا الطريق. لأنه يوجد طريق للخلاص، وهذا الطريق قد أُعلن في الإنجيل. إنه يسوع الذي قال: «أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلا بِي» (الإنجيل بحسب يوحنا 14: 6).

وليس عليكم أن تجتهدوا، لتعرفوا الباب المؤدي إلى الحياة. لأنه يوجد باب واحد، وهو يسوع، الذي قال:» «َأنَا هُوَ ٱلْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعىً » (الإنجيل بحسب يوحنا 10: 9).

وليس عليكم أن تجدّوا في البحث عن الوسيط، لأنه مكتوب: «ِأَنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ» (تيموثاوس الثانية 2: 5).

ويعلمنا الكتاب المقدس، بأنه يوجد كفّارة وحيدة للخطية، وهي ذبيحة المسيح. هكذا نقرأ في الكتاب العزيز: «وَأَمَّا هٰذَا (أي يسوع) فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ ٱلْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إِلَى ٱلأَبَدِ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ... أَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى ٱلأَبَدِ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (عبرانيين 10: 12،14).

وبكلمة أخرى أن يسوع المسيح أكمل الفداء بذبيحة نفسه، التي قدمها على الصليب وأرضى عدل الله. لذلك يمكنه وحده أن يخلص إلى التمام، ويمنح كل من يؤمن به الحياة الأبدية.

لقد أعطى دمه الثمين لأجل فدائكم وفقاً للشريعة الإلهية القائلة: «وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيباً يَتَطَهَّرُ حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ بِٱلدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لا تَحْصُلُ مَغْفِرَة» (عبرانيين 9: 22)... «وَدَمُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (رسالة يوحنا الأولى 1: 7). اقبلوا يسوع المسيح كفادٍ ومخلص، فتكون السماء منزلاً لكم.

في أثناء وجوده في ساحة الحرب، يحلم الجندي ببيته. على البحر الصاخب بالأمواج، يفكر البحار بالمنزل. والطيار المحلق بالجو، يفكر بعائلته بكل حنين. ولكن أهم ما يفكر به المؤمن، هو الانطلاق ليكون مع المسيح.

تذكر يا أخي، إن الموت قريب. قد تموت اليوم، قد تموت وأنت تقرأ هذه السطور. فهل أنت مستعد للقاء إلهك؟

لعلك تتململ أمام ذكر الموت، أو لعل ذكر الموت يملأ قلبك رعباً، فلماذا؟ لو لم يكن هناك شيء غير الموت، أو أن كل شيء ينتهي بالموت، ما كان لك أن تخشى شيئاً. ولكن كلمة الله تقول: «وَكَمَا وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذٰلِكَ ٱلدَّيْنُونَةُ» (عبرانيين 9: 27). إنها دينونة رهيبة، لا شفقة فيها. هكذا نقرأ: «مُخِيفٌ هُوَ ٱلْوُقُوعُ فِي يَدَيِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ» (عبرانيين 10: 31).

أين هي الشعوب التي كانت تتألف منها الإمبراطوريات الأربع. بابل، ومادي وفارس، واليونان والرومان؟ إنهم جميعاً في الأبدية!

أين جحافل البربر، الذين دحروا الإمبراطورية الرومانية؟ أين تكتلات الأمم الأوروبية الكبيرة، التي خلفتها الأجيال الحاضرة؟

إنهم جميعاً في الأبدية!

أين هم الذين غابوا عن مسرح هذا العالم؟

إنهم جميعاً في الأبدية!

وهؤلاء الذين يملأون الأرض الآن، إلى أين هم ذاهبون؟

إلى الأبدية!

إن كل لحظة تمر، تقربهم من الأبدية. ولكن الذين يدخلون الأبدية، هم إما هالكون، وإما مخَلصون.

وأنت إن مت الآن، فأين ستقضي أبديتك؟

2- انهارت حججه

سألتني السيدة س. أن أتحدث إلى زوجها بكلمة الله، بعد أن أطلعتني على وجهات نظره في ما يختص بالتعامل مع الله. ثم أنذرتني بأنه متشبث بآرائه السلبية، بمقدار أنها تشك كثيراً في أن يستطيع أي حديث أن يخرجه من الحالة السيئة التي صار إليها.

كان متجره، يحتل واجهة البيت الذي يسكنان فيه. وحين جئت، ذهبت السيدة س. ورجت زوجها أن يأتي لمقابلتي.

- لا لزوم لذلك، قال الزوج، لأنه سبق لي أن تحادثت مع مبشرين عديدين، حتى أصبحت ملماً بكل ما عندهم من كلام. وأنا لا أريد إضاعة وقتي، في سماع ترهاتهم. وفوق الكل، فهذه الزيارة تزعجني.

- ولكن لم يسبق لك أن عاملت أياً من رجال الله، الذين كلموك بهذه الصورة الفظيعة، التي تتعارض مع الكياسة! لا سيما وأنا قد دعوت السيد فني لكي يكلمك، وسيلحق بي خزي شديد، إن رفضت مقابلته.

كان السيد س. يحب امرأته ويحترمها، لأنها كانت لؤلؤة ثمينة. وكان يود دائماً، أن يصنع كل ما يسرّها. وهكذا نزل عند رغبتها، فقدمته إلى رجل الله، ثم انسحبت.

- يا سيد س. قلت له بلطف، أنا لم أجيء للدخول معك في مناقشات غبية. ولكن إن شئت أن تتحدث إلي، فأرجو أن أستطيع مساعدتك في حل بعض المشاكل التي تواجهها. إذ قد سبق لي، أن واجهتها شخصياً. قلت هذه العبارات بكل لطف وبلهجة ودية، فلمعت أساريره، ولم يلبث أن جلس جلسة المستريح وقال:

- يا سيد فني، لست أرى لزوماً لإطالة الحديث بيننا حول هذا الموضوع. فقد اعتدنا على الحجج، التي تستعمل في مثل هذه الأبحاث، بحيث يمكنني أن أقول لك في بضع دقائق، كل الاعتراضات التي تجعلني أحجم عن قبول العقائد الدينية، والتي لا استطيع أن أحلها مطلقاً. وأظن أنني أعرف مسبقاً الأجوبة، التي ستعطيها لي. وأعلم أن هذه الأجوبة، لا يمكنها بأي حال أن تقنعني. ولكن إذا شئت، فأنا مستعد لأن أدلي إليك باعتراضاتي.

فرجوته أن يفعل، فقال.

- كلانا نؤمن بوجود الله، ونتفق أيضاً على الإيمان بصلاحه، وحكمته، وقدرته اللامحدودة. وكذلك نؤمن بأنه لمّا خلقنا زودنا بروح التمييز، بين ما هو صحيح، وما هو غلط. بين ما هو حق، وما هو باطل.

- هذا صحيح تماماً، قلت له.

- إذن أيا كان من يعارض هذا الشعور الذي لنا، من جهة الحق، لا يمكن أن يكون من الله، فهل تتفق معي؟

- بكل تأكيد!

- نؤمن أيضاً بأن كل ما ليس عاقلاً، وحكيماً، وصالحاً، ليس من الله.

- أجل، إن هذا صحيح!

- والآن، أضاف السيد س. إن الكتاب المقدس يعّلم، بأن الله خلقنا في طبيعة خاطئة. أو بكلمة أخرى أننا أتينا إلى هذا العالم ونحن خطاة، وليس لنا اقتدار على صنع أي صلاح. وهذا وفق الناموس الذي وضعه الله، رغم طبيعتنا الخاطئة العاجزة تماماً عن صنع الخير. ومع ذلك وضع علينا الطاعة لناموسه المقدس، وأمرنا بأن نكون صالحين، مع علمه بأن هذا ليس ممكنا. ويأمرنا بذلك مع إنذار بالعذاب الأبدي، إن كنا لا نفعل.

- هل عندك كتاب مقدس؟ قلت له معترضاً. هل تسمح بأن تدلني على النصوص الكتابية التي تعّلم هكذا؟

- لا لزوم لذلك، أجاب السيد س. ألا توافق على أن الكتاب المقدس يعّلم هكذا؟

- كلا، قلت- أنا لا أوافق ولا أؤمن إطلاقا بتعليم كهذا.

- ولكن الكتاب المقدس ينسب إلى الله تعليماً مفاده، أن خطية آدم لحقت ذريته، وأننا بالطبيعة ورثنا فساد آدم. وبالتالي أصبحنا تحت حكم الدينونة الأبدي. ولكن بالنسبة لي، لا أهتم كثيراً، لأعرف من الذي قال هذا، أو في أي سفر يوجد. لأنني عالم تماماً بأن هذا التعليم ليس من الله، لأنه يناقض مفهومي الذي لا يقاوم من جهة البار والمذنب.

-حسناً جداً، قلت له- وأنا أيضاً أفكر هكذا، ولكن قل لي من هو الذي يعّلم هذه العقائد.

حينئذ راح يستشهد بالتعليم الكنسي (الكاتشيسم)، فقلت له في الحال:

- إن التعليم الكنسي هو الكتاب المقدس.

- كيف إذن؟ قال محتداً: ألست قساً مشيخياً؟ لقد ظننت أن للتعليم الكنسي في نظرك سلطان واعتبار الكتاب المقدس.

- كلا يا صديقي، قلت له، فنحن نتكلم عن الكتاب المقدس، وأنا أسألك هل في مقدورك أن تقنعني بأن هذه العقائد التي شرحتها واردة في الكتاب المقدس؟

- اوه! قال السيد س. هل تنكر أنها واردة في الكتاب المقدس؟ أنا لم أر قساً مشيخياً يتخذ هذا الموقف الذي اتخذته أنت!

ثم استطرد قائلاً:

- أنا أعلم أن الكتاب المقدس، يأمر الناس بأن يتوبوا ويؤمنوا ويطيعوا. وفي ذات الوقت، يعّلم بأن هذا غير ممكن.

فسألته من جديد.

- هل لك أن تدلني على النص الذي يعّلم هكذا؟

ومن جديد استشهد بتعليم الكنيسة، فاعترضت على طريقته، وعندئذ قال:

- إن الكتاب المقدس يقول بأن المسيح لم يمت إلا لأجل المختارين. ومع ذلك فهو يأمر جميع الناس، مختارين وغير مختارين، بأن يؤمنوا، فجميعهم يهلكون. ثم أضاف: إن هذا التعليم يعارض مفهومي للعدالة.

فقلت بحزم:

- يا سيد س. إنك تعاني سوء فهم. فما تقوله ليس من تعليم الكتاب المقدس، بل هو من تقاليد الناس.

- إذن قل لي بماذا تؤمن؟ هتف مناظري فيما صبره على وشك الانتهاء.

فقلت له:

- أنا مستعد أن أشرح لك الأمر. وإن كنت تصغي إلي، أقول لك بماذا أؤمن.. ثم بسطت له وجهة نظري، في ما يختص بالناموس والإنجيل. فأدرك للتو كل شيء، بدون صعوبة. وفي خلال ساعة من الزمن انهارت حججه، لأن ما بسطته له، كان جديداً على سمعه، وغريباً بالنسبة لمفاهيمه. ومع ذلك، أبدى اهتماماً كلياً بما قلته له.

حين تكلمت عن غفران الخطايا بدم يسوع المسيح، بينت له، أن الله يعطي الغفران لجميع الناس. ثم شددت على طبيعة، وهدف، وأبعاد، وفاعلية الفداء، وعلى حرية الإنسان في قبول الخلاص.

بقي السيد س. في ما تبقى من الوقت صامتاً، مصغياً إلى كلماتي بكل كيانه. والكلمة أحدثت أثرها في نفسه، شيئاً فشيئاً. وأخيراً غطى وجهه بيديه، ودلى رأسه على ركبتيه في نوع من السجود. كان انفعاله شديداً بمقدار أنه راح يرتجف كمن مسته هبة من البرداء. ولم يطل الوقت، حتى رأيت دموعه تنهمر. فانتصبت ثم غادرت المكان، دون أن أتلفظ بكلمة. كان قلبه قد تحطم، فتوقعت أنه سيؤمن حالاً. وهذا ما حصل فعلاً، فقبل أن يخرج من الغرفة، سلّم حياته ليسوع الفادي.

بعد ذلك بفترة من الزمن، قرع جرس الكنيسة، معلناً وقت الاجتماع للصلاة. فذهبت كما لي عادة، وهناك شاهدت السيد والسيدة س. وقد لاحظت على أسارير السيد س. ما يدل على أنه كان فريسة لانفعالات عظيمة، وجميع الحضور دهشوا حين رأوه قادماً. كان من عادته أن يحضر الاجتماعات التعبدية يوم الأحد. ولكن مجيئه إلى اجتماع الصلاة في وسط الأسبوع، كان شيئاً جديداً بالنسبة له. ومع أنني أبديت كثيراً من الملاحظات، فقد تقبل جميع ملاحظاتي بروح ايجابية.

بعد مرور مدة من الزمن، أخبرتني امرأته بأنه فيما هو عائد من اجتماع الصلاة، قال: إن عدم أمانتي تلاشت إلى غير رجعة ولكم كيف؟ لست أدري، ولا أستطيع تذكر ما حصل لي، عندما استيقظت أحاسيسي من سبات نوم الموت.

كنت أرى أنه لمن أشد الحماقات، أن يكون الإنسان غير أمين، وأظن بأنني واجد بعض القيم في الحجج، التي كنت أستخدمها ولكن لم أفهم ما حدث لي خلال مقابلتي مع السيد فني! يخيل لي أنني كنت في حواري معه، كمن دعي لفحص أحد المعابد الرائعة، الذي شيد بأبرع الطرق الهندسية. ولكن ما أن شاهدت زاوية منه لم تنل رضاي، حتى تحولت عنه باستخفاف أخرق، محولاً نظري عن كل ما فيه من روائع نادرة. هكذا تصرفت بالفعل، مع أحكام الله.

في الواقع أن السيد س. كان معارضاً جداً لكل عقيدة تقول بالعذاب الأبدي، ولكن حين عرف الحق والحق حرره، قال لامرأته أنه مستحق أن يقع عليه حكم الدينونة، لأجل الطريقة التي تعامل بها مع الله.

ولكنه لما استفقده الله بالنعمة المخلصة، اعتنق مبدأ المسيح بكل حرارة. وكرّس مواهبه، كل مواهبه لأجل امتداد ملكوت الله، وانتشار الإنتعاش الروحي. وبعد التحاقه بالكنيسة، لم يمض وقت طويل، حتى سمي شماساً. والى حين موته كان مسيحياً نافعاً.

تشارلز فني

أيها القارئ الكريم،

كلنا عرضة للخطأ في تفكيرنا وتحليلنا للأمور، بواسطة المنطق، كما كان السيد س. يفعل، قبل أن تعمل النعمة في حياته على أثر مقابلته مع رجل الله فني. ومن شر خطايانا، التعامل مع الله بحججنا؛ بدلاً من التسليم بأن عقولنا محدودة، لا يمكن أن تقف أمام الله، الذي قال: «لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلا طُرُقُكُمْ طُرُقِي يَقُولُ ٱلرَّبُّ. لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ عَنِ ٱلأَرْضِ هٰكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ»(أشعياء 55: 8-9).

في الحقيقة أننا حين نحاجج الله بالمنطق البشري، نرتأي فوق ما ينبغي أن نرتأي. وبذلك نعرض أنفسنا للدينونة ثم القصاص. ولكن لكم يجب أن نشكر الله لأجل إعلان الإنجيل القائل: «أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لا يُدَانُ، وَٱلَّذِي لا يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ» (الإنجيل بحسب يوحنا 3: 17-18).

هذا ما أدركه الرسول الملهم بولس، وكتبه لأجل تعليمنا، إذ قال: «إذاً لا شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ» (رومية 8: 1).

إنه لامتياز لا يعبر عنه، وتعزية جزيلة لكل الذين هم في المسيح. إنه لا شيء من الدينونة الآن عليهم. لم يقل الرسول أن لا شيء من الاتهام عليهم، فالاتهام قائم، ولكنه قد أُوقف وأُبطل.

ولم يقل أن لا شيء فيهم يستحق الدينونة، فهذا موجود وهم يعترفون به، ويحزنون من أجله، ولكن سوف لا يكون سبباً في هلاكهم. لأن الله غفر إثمهم وستر خطاياهم.

ولم يقل الرسول المغبوط لا ضيقات عليهم، أو لا انزعاج يمضهم من جراء الضيقات، فهذه كلها قد تكون موجودة. لكنه قال: لا شيء من الدينونة عليهم. فقد يؤدبون من الرب، ولكن لا يدانون مع العالم. (كورنثوس الأولى 11: 32).

هذا ناشئ من كونهم في المسيح، أي بفضل النعمة، التي تجاوبت مع إيمانهم به، وعملت على اتحادهم به. إنهم في المسيح، وكأنهم في مدينة الملجأ، ولذلك فهم محفظون من ولي الدم (عدد 35: 19). لأن المسيح شفيعهم ومحاميهم، الذي يدافع عنهم ويبررهم. إذاً لا شيء من الدينونة عليهم، لأنهم قد قبلوا الفداء الذي أتمه المسيح بموته الكفاري، ليوفي مطالب عدل الله.

3- الصناعي الذي أعلن إفلاسه

كان صناعياً مشهور الإسم في العالم أجمع. ومع ذلك لم يتورع عن الإعتراف بأنه في مرات عديدة أوشك على الإفلاس روحياً ومادياً.

في السادسة عشرة من عمره، وصل إلى شفير الإفلاس أدبياً. قال: نشأت في بيت مسيحي، ولكن الشيطان دفع بي في مزالق الشر وأنا في هذه السن المبكرة.

كانت والدتي مؤمنة مخلّصة بالنعمة، وهي لم تتوقف عن الصلاة من أجلي، صارخة إلى الله نهاراً وليلاً لكي يعلن لي ذاته. ويبدو أن صراخها، لم يذهب سدى. ففي أثناء الاجتماع الانتعاشي الذي حضرته، مست الرسالة التي سمعتها قلبي، وجعلتني أفكر في مصيري. ولما عدت إلى المنزل، شعرت بأنني أسير في طريق جهنم. ولم ألبث أن أدركت بأنه ليس في وسعي العيش بدون الله.

وأكثر ما أثّر في ضميري هو قول المبشّر لي في نهاية الاجتماع.

- إن كان والدك يقطع لك وعداً فهل تصدقه؟

- بلا شك، قلت له.

- اذن لماذا لا تريد أن تصدق ما يقوله الله في الكتاب المقدس؟

هذه العبارات الأخيرة، جعلتني أصمم على أن أجد الله في الإنجيل. وأن أؤمن بأن يسوع بموته على الصليب، قد خلصني.

وبعد تفكير عميق، سألت يسوع أن يأتي بروحه القدوس، ويسكن في قلبي. وحالاً امتلأ قلبي بفرح الخلاص، فأسرعت وأخبرت أمي بما حصل. ومنذ تلك الأمسية، تغير مجرى حياتي. وكل الذين يعرفونني، لاحظوا وجود تحول حقيقي في كياني.

في السادسة عشرة إلى الثلاثين، عاش هذا الفتى حياة مشابهة لحياة الكثيرين من أولاد الرب. وحاول أن يخدم الرب، ولكن بدون حرارة. وأخيراً لاحظ أنه يسير في طريق الإفلاس روحياً. فقال:

- كنت أعلم بأنه علي أن أشهد لعمل نعمة مخلصي، الذي من أجل خلاصي احتمل الآلام المبرحة والموت المهين. ولكن لم تكن لي الجرأة لكي أفعل.

كان زميلي في المصنع يسيء باستمرار إلى اسم المسيح، وأنا لم أشأ التصدي له. ومع أنني كنت أقول: لو أن أحداً يقول السوء على أمي أو أختي، فإنني لن أسكت ومع ذلك فقد سكت ولم احتج حين أُهين اسم المسيح، الذي مات لأجلي على الصليب!

في ذات مساء جثوت على ركبتي في غرفتي، وسألت الله أن يغفر لي جبني وتخاذلي، وأن يملأني من روحه لكي أنفض عني غبار الخوف، فأشهد له بشجاعة. وحين قمت من ركوعي، كان لدي اليقين بأن طلبتي قد استجيبت.

في اليوم التالي، ذهبت إلى قائدي الروحي، وأبديت له رغبتي في الذهاب كمرسل أسوة بأختيّ اللتين ذهبتا للتبشير في الصين.

ولكن بعد فترة قضيناها معاً في البحث والصلاة، قال لي:

- تأكد أن الله يحتاج أيضاً إلى رجال أعمال مخلصين يخدمونه في الورشة، ويشهدون لنعمته المخلّصة.

منذ تلك المقابلة، عزمت على أن أخدم الله في صفقاتنا وفي مصنعنا، بصورة لا تقل تقديراً عن خدمته في الرسالة الرعوية، أو في الحقل المرسلي.

في تصميمه على ممارسة هذه الخدمة وفقاً لتعاليم الإنجيل، خصص هذا الصناعي قسماً من أرباحه لأجل عمل الله. والله أغدق بركاته بصورة ظاهرة، على أعماله التي نمت بمقدار ما كانت عطاياه سخية. ولكن للأسف أنه لم يستمر! فبعد مضي بضع سنين، كف عن إخلاصه للرب، في مجال العطاء. فتدهورت أحواله المالية، حتى صار في خطر الإفلاس وها هو يقول:

- في إعداد مخططاتي للسنة القادمة، فكرت في أن أوظف كل أموالي، لتحقيق البرنامج الواسع الذي أعددته. ولهذا قررت أن أحجب المساعدات عن الكنيسة والإرساليات، واضعاً أمام عيني أن أقدم في السنوات التالية مساعدات أوفر من الماضي بكثير.

كنت أسير في طريق خاطئة، وما أن انقضت السنة حتى واجهتنا أزمة اقتصادية ضخمة، وكان علي أن أدفع مبالغ كبيرة من المال، دون أن أعلم من أين آتي بالسيولة اللازمة.

تذللت أمام الله، واعترفت بعدم أمانتي، وقطعت عهداً بأنني فصاعداً سأفي بنذوري، التي التزمت بها. وأغرب ما ظهر في الأمر، هو أن أحوالي المالية تحسنت. وعادت الأمور إلى مجراها الحسن، خلال بضعة أسابيع. بينما المصانع الأخرى التي هي أكبر من مصنعي، لم تستطع تجنب الإفلاس.

كم هو عجيب إلهي!

لماذا نجد صعوبة، في جعله متكلنا في كل شيء؟

مرت بعض السنين، وإذا بهذا الشاهد ليسوع المسيح يقع فريسة لحادث سيارة فظيع، ويصبح من جرائه مرة أخرى مهدداً بالإفلاس، وذلك على صعيد البنية الجسدية. فقد قال:

- كنا زوجتي وأنا برفقة بعض الموسيقيين في طريقنا لحضور اجتماع ديني. ومع أن الطريق كانت مستقيمة، والسير عليها خفيف، إلا أنه في ضوء النهار، جاءت سيارة شفروليه، تنهب الطريق بسرعة جنونية، وصدمت سيارتنا. وأسفر الاصطدام عن مقتل خمسة من ركاب السيارتين. أما زوجتي وأنا، فقد أصبنا بعدة كسور خطرة، وأثخنا بجروح في كل نواحي جسدنا. لم أفقد صوابي، رغم كل شيء. وكانت لي فرصة أن أكلم الرب في صلاة قصيرة: أنا موقن بأن هذا الحادث الخطير لم يقع إلا بسماح منك. وأنا أؤمن بأن كل الأشياء تعمل معاً للخير، للذين يحبون الله. وإن كنت لا أعلم القصد يا سيدي الرب، فإنني موقن بأن الكل للخير.

في الواقع أن حضور الله في تلك الساعة كان حقيقاً بمقدار أنني لم أشعر بأي خوف. وأول ما فعلت هو الطلب إلى أحد أصدقائنا، الذي لم يصب بجراح، أن يهتم بأولادنا الستة بعدنا، وأن يسهر عليهم لكي يتربوا في المسيح، إن كنا سننطلق إلى السماء. وأيضاً دار في خاطري هذا السؤال: لماذا أنا أشكو؟ مخلّصي تألم أكثر من هذا لأجلي.

ولكن بنعمة الله شفينا، ويمكنني اليوم أن أصرح بكل فرح، بأن المسيح الجالس عن يمين الله يشفع بي. وإنه لقادر أن يعطي الجسد والنفس والروح حاجاتها، لن يضن علي بالاهتمام من جهة أموري المالية.

وأنت يا صديقي المجهول، ألم تواجه الإفلاس في هذا أو ذاك المجال؟ إن كانت هذه حالك، فلا تيأس ولا تفتر همتك! واعلم أن الله يسمح أحياناً أن نجوز اختباراً كهذا، لكي نذكر أننا في حاجة إليه.

إن كنت مريضاً، فاذكر ذلك الوعد المسجل في الكتاب المقدس: "أنا الرب شافيك". إذن لا تتردد في التوسل إليه لكي يأتي لعونك، مذكراً إياه بوعده.

من لم يمر بصعوبات؟ إذن اسمع هذا النداء، الذي أطلقه الرسول بطرس: ملقين كل همكم عليه لأنه يعتني بكم.

كلمه عن تجاربك، كما يكلم الابن أباه، أي بكل بساطة واعمل وفقاً لإرشاده، وانتظر عونه بكل ثقة، فيميل إليك ويهب إلى نجدتك. هذا ما خبرّه إمام المرنمين داود، وكتبه ليكون تعليماً لنا. قال: «إنْتِظَاراً ٱنْتَظَرْتُ ٱلرَّبَّ فَمَالَ إِلَيَّ وَسَمِعَ صُرَاخِي، وَأَصْعَدَنِي مِنْ جُبِّ ٱلْهَلاكِ، مِنْ طِينِ ٱلْحَمْأَةِ، وَأَقَامَ عَلَى صَخْرَةٍ رِجْلَيَّ. ثَبَّتَ خُطوَاتِي، وَجَعَلَ فِي فَمِي تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً تَسْبِيحَةً لإِلٰهِنَا» (مزمور 40: 1-3).

يا صديقي المؤمن،

لابد أنك عرفت نفسك في ضوء الاعترافات التي قرأتها أعلاه. إن كنت خجلاً من فتورك، من عدم شجاعتك، من عدم أمانتك، فليس المعنى أنك بعيد عن اهتمام الرب. تذلل أمامه، واسأله أن يملأك بروح القوة، لكي تصبح شاهداً شجاعاً وفرحاً في الرب!

كلمة أخيرة للقارئ الكريم،

يا من عانيت من الإفلاس، في ناحية ما. لعلك توقفت عن حفظ وصايا الله، وأسكت صوت ضميرك منذ أمد طويل... لا تفشل يا صديقي، ففي وسعك القيام ثانية. ويكفي أن تتبع مثال هذا الرجل، الذي قرأت قصته. أن تتبع مثاله في الاعتراف بأخطائك لله، لكي تنال صفح وعون المخلص الحي.

اركع في مخدعك، وأقر بكل خطاياك. ثم آمن بأنه بموته على الصليب، قد رفعها عنك. اقبل بدون انتظار الغفران، الذي وعد به الله، لكل من يتكل عليه في يسوع المسيح. وحين تنهض من ركوعك، ثق بأن صلاتك قد سمعت، وأنك فصاعداً لن تكون وحيداً في الحياة.

أيا كان المجال الذي أفلست فيه يا صديقي العزيز: في الحياة الروحية، في الحياة المادية، في صحتك، اذكر أن الله يحنو عليك ويترأف بك في محنتك، وانه لا يتوانى عن نجدتك. اسمع وعده الصادق الأمين: «ٱدْعُنِي فِي يَوْمِ ٱلضِّيقِ أُنْقِذْكَ فَتُمَجِّدَنِي» (مزمور 50: 15).

جاء في إحدى القصص أن سيدة، كانت تعاني من ظروف قاسية جداً. فقالت لإحدى صديقاتها بأنها لا تستطيع أن تفهم طرق الله معها. وحين قالت ذلك، كانت على وشك إنجاز تطريز قطعة قماش، لتجعل منها غطاء لوسادة.

- اسمعي، قالت الصديقة وهي تتناول القطعة من يدها. وبعد لحظة من التأمل قلبتها، بحيث تظهر الرسوم المطرزة عليها قبيحة الشكل. ثم استطردت.

- إني لا أرى شيئاً جميلاً هنا. إذن أنا لا أفهم لماذا تحملت العناء، لإنجاز قطعة قليلة الأهمية كهذه.

- أنت معذورة في حكمك الجائر، قالت السيدة. لأنك لا ترين سوى قفا الرسوم المطرزة. لهذا أرجوك أن تنظري الوجه الآخر!

- هذا ما تفعلينه أنت بالضبط، في النظر إلى طرق الله معك، قالت الزائرة. إنك تتأملين أمور حياتك من الوجهة السيئة. ليكن لك ثقة في الله. إن طرقه معك تبدو لك غير واضحة، مثل قفا القطعة التي طرزتها. ثقي في حكمته تعالى، وسيأتي يوم فيه تدركين معنى طرقه معك. وعندئذ ستقولين، إن كل شيء يسير حسناً.

4- الذي فوق

انتقلت العائلة «زيد» إلى شقة جديدة عصرية، مجهزة بآلة تكييف الهواء والتدفئة المركزية. وكانت الشقة في الدور الخامس. وقد ظن آل «زيد» أنهم أعلى من كل شاغلي البناية. ولكن سرعان ما لاحظوا وجود حجرات منفردة ومشغولة، وإحداها فوق شقتهم.

من كان يسكن هناك؟ إنهم لا يعلمون. والظاهر أنهم لم يشاؤا أن يهتموا بالساكن فوقهم.

بين فترة وأخرى، وخصوصاً في الصباح الباكر جداً، أو السهرة، كانوا يسمعون وقع أقدام، وصوتاً شبه مختنق صادراً عن جهاز الراديو. إلا أن كل هذه لم تكن لتسبب لهم إزعاجا. ومع ذلك كانوا يحسون بوجود شاغل في الحجرة العليا، ويقولون بالمناسبة: ان الذي فوق قد حضر، أو ان الذي فوق قد استيقظ، أو ان الذي فوق قد ذهب...

لم يكن آل زيد يحبون إقامة العلاقات الاجتماعية، ولكنهم كانوا فضوليين بالطبيعة. قد رغبوا في أن يتعرفوا على الذين فوق، غير أنهم لم ينجحوا في ذلك. حتى أنه لم يتسن لأي منهم أن يلتقي به على سلم البناية، أو في المصعد. ومع ذلك دفع بهم الفضول ذات يوم إلى الصعود حتى باب حجرته، لكي يعرفوا على الأقل اسمه. وقد قرأوا على البطاقة الملصقة بالباب اسماً ما. بيد أن هذا الاسم، لم يعن شيئاً لهم.

كانت عندهم رغبة ملحة في أن يعرفوا، ولكنهم لم ينجحوا وعندئذ بدأوا بالاستنتاج. وليس إلا بالاستماع إلى وقع خطواته الوئيدة، راحوا يرجحون أنه هذا، أو ذاك النوع من الناس.

وبما أنهم لم يروه مطلقاً، ظنوا أنه من تلك الفئة التي تكنكن في عقر دارها. أو أنه نافر من البشر، وفظ الطباع. وبسبب غموضه المتطرف، ذهبوا إلى الظن أنه عميل سري، أو أحد رجال التحري على الأقل. ثم راحوا يقارنون اسمه بكلمة جاسوس، ويعتقدون بأنه هنا لمراقبة أعمالهم وتحركاتهم. وفي بعض الأحيان، ذهب بهم الاستنتاج إلى القول بأنه إنسان مستخف لأسباب أخرى... ومن يدري؟

حين كان الصغار يضجون ويصخبون في البيت، كان والدوهم ينتهرونهم قائلين صه! إن الذي فوق يسمعنا. أو اسكتوا، وإلا دعونا الذي فوق.

هكذا صار الذي فوق قباراً بالنسبة للأولاد، يخيفهم مجرد ذكره. ونجم عن هذا، أنهم كرهوا أن يلتقوا به على السلم. أما جانو الصغير الذي لم يكن يذهب إلى المدرسة، ففي مرافقة أمه إلى السوق، كان إذا رأى في الشارع رجلا ضخماً، يلتصق بأمه ويسألها:

- قولي يا ماما، أليس هذا هو الذي فوق؟

وهكذا صار الذي فوق بالنسبة لعائلة زيد، الكائن الذي يهابونه ويتجنبونه، والذي يجب أن يتخذوا حياله كل الاحتياطات والتحفظات.

ولكن لشد ما اندهشوا، في صباح يوم أحد، حين جاء الذي فوق وطرق بابهم، لكي يسألهم معروفاً!

إذن هذا الرجل لم يكن عميلاً سرياً، ولا قباراً، ولا بعبعاً. بل كان رجلاً جميل المحيا، بشوشاً، أنيساً، مليئاً بالجودة، إنه طبيب شاب، في المرحلة الأخيرة من دراسته. لقد كلمهم بلطف، ولهجة يشوبها العطف. حتى أنه لم يكن في وسعهم أن يبقوه على العتبة، بل أدخلوه. والأولاد الذين ذعروا في البداية، لم يلبثوا أن اقتربوا منه بانجذاب. فأصبح صديقهم منذ تلك اللحظة.

كان يعرف كيف يسرد عليهم أجمل القصص. وكانت قصصه جذابة ومفيدة للأولاد. وأيضاً حظي باهتمام الكبار، حين كان يكلمهم عن وظائف أعضاء الجسد الداخلية، التي قل أن يأبه لها الناس.

ومن الصديق الحلو المعشر، تحول الذي فوق إلى منقذ. لأنه ذات مساء، وإذ كان جانو مريضاً جداً، سهر إلى جانبه. وبواسطة تدخله السريع النشيط، استطاع أن يخلصه من براثن الموت. ومنذ ذلك الحين، لما كان الأب زيد يتكلم عن الذي فوق، كان يقول صديقنا، هذا صديقنا، انه لمدهش!

أيها القارئ الكريم،

في هذه القصة رمز مهم، فهل فهمته؟

لست أريد المبالغة في مقارنة الشخص الذي سأتكلم عنه، بساكن الحجرة العليا. لأن الشخص الذي سأتكلم عنه ليس بأقل من ذاك الذي ندعوه الله. ونعبر عنه بكلمة «الذي هو فوق».

نحن نسمع أحياناً وقع قدميه، في ضجة حياتنا المتقلقلة. وذلك في خلال ظرف صعب، يجعلنا ننحني. أو في أثناء حادث، يحملنا على التساؤل، إن كان لا يوجد من هو فوق الكل؟

إننا نراه حين نصغي جيداً إلى ألحانه في سمفونية الخليقة، التي كونتها يمينه. إننا نسمعها عندئذ، كموسيقى آتية من بعيد، بحيث تكاد إيقاعاتها لا تصل إلى مسامعنا ولكن ماذا نعلم عنه؟ لا شيء تقريباً إلا أنه ساكن في الأعالي.

الله، هذا هو اسمه، ويدعى أيضاً الآب الأزلي، القادر على كل شيء. ولكن هذه الأسماء تقول لنا الشيء الكثير.

من هو؟ ماذا يصنع؟ لماذا لم يعرّف عن ذاته؟ كل هذه الأسئلة بقيت بلا جواب.

مهما كانت أفكارنا عالية وسامية، فإننا لم نستطع أن نلتقي به، لا في الطريق، ولا على السلم، ولا في المصعد. إنه إله محتجب، ولا يستطيع أحد أن يصل إليه.

لهذا نفترض افتراضات، ونحاول بالاستنتاجات أن نكوّن لنا صورة عنه. إننا نعلم أنه عظيم، وبالتالي قدير إلى درجة أن لا شيء يمكنه أن يقاومه. ونعلم أنه عادل، وبالتالي صارم.

- حذار، قالت إحدى السيدات المسنات، حين صدرت من حفيدها بعض الهفوات. حذار، إن الذي فوق يراك!

هذه الكلمات كانت كافية، لكي يحمّر وجهه حتى الأذنين. وفي رأسه الصغير، كانت تدور فكرة مفادها أن الله يشير إليه بإصبعه مهدداً، وقائلاً بلهجة قاسية: سأقاصصك، سأقاصصك.

وهذا الحفيد قال عن نفسه: كنت أعيش في خوف مستمر من حكم الدينونة. وفي المساء، حين كنت أضع رأسي على الوسادة للنوم، كنت أسال الله الغفران عن كل ما صنعته من شر خلال النهار.

ولكنني كنت أعيد الكرة في اليوم التالي.

ولكم كانت دهشتي شديدة، حين علمت وأنا في الخامسة عشرة بأن الله قد نزل إلى الأرض، لكي يعلن وليس قساوته التي كانت في معرفتي عنه، وإنما حبه العجيب، الذي لم أكن أعرفه.

أيها الأصدقاء،

لابد أن كثيرين يشاركون هذا الحفيد نفس الاختبار. فنحن نعلم عن الله بعض الأشياء التي تعلمناها في طفولتنا. ثم بعد ذلك من تربيتنا الدينية. ولكن ربما نجهل الشيء الأساسي عنه تعالى.

نعلم أنه عادل، قدوس، مطالب. ونعلم أنه لا يتوافق مع الشر.

وبما أننا نعلم هذا، فليس في مقدورنا أن نعيش في راحة، لأننا نرى فيه ذلك الفضولي، الذي يتجسس حريتنا. أو ذلك الجابي، الذي يأتي ليحجز أمتعتنا. أو ذلك القبار، الذي جاء لكي يخطفنا.

لقد أسأنا فهمه، أو على الأقل إن فهمنا عنه ناقص.

قيل أنه عادل، هذا صحيح.

قيل أنه يعاقب المذنب، هذا صحيح.

قيل أن هناك دينونة تنتظرنا جميعاً، هذا صحيح.

والكتاب المقدس يؤكد لنا هذه الحقائق.

ولكن الحق الأكيد، أن الله عادل ورحوم.

والحق الأكيد أيضاً، أنه لم يبق في سمائه وحيداً مبتعداً، وإنما نزل إلينا وطرق بابنا. وشاركنا في اللحم والدم، مجرباً في كل شيء مثلنا، ما عدا الخطية.

هذا حدث منذ ما يقرب الألفي سنة، حين جاء يسوع إلى الأرض. لأن يسوع هو الله، الذي صار جسداً وحل بيننا، لكي يخلصنا.

في المسيح بيّن لنا الله، أنه لا يشاء أن يكون دياننا، بل بالحري، جاء لكي يوفي عنا ديوننا. هذه الديون التي ارتبطنا بها بصنعنا الشر. ويسوع دفع الدين من دمه الثمين، حين مات على الصليب.

هذا الحدث تم منذ ما يقرب العشرين قرناً، ولكنه يتجدد في كل منّا. ففي كل مرة يُكرز بكلمة الحق إنجيل الخلاص، وتسمع الكلمة، يأتي ويقرع باب قلوبنا. ويدعو نفسه إلى مائدتنا هكذا قال: «هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى ٱلْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ ٱلْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا 3: 20).

إن معرفة الله على هذه الصورة، تتيح الحصول على السلام الداخلي، والاكتشاف أن الله يحبنا ويهتم بنا.

إن كنت لا تعرف الله هكذا، فاسأله أن يزورك الآن. اطلبه؟ صل كما تقدر وكما تعلم، بالكلمات التي تتحرك فيك. قل له كيفما كان، ولكن قل له: يا الله، أعلن لي ذاتك. تعال ادخل قلبي. إنني افتحه لك في هذه اللحظة.

وبعدئذ انتظر، وليكن لك الإيمان. آمن بوعده انه آت.

5- حقيقة في حلم

في العام 1859، كنت عند أبي، قائد الفرقة الرابعة والتسعين المتمركزة في ميزريس. كنت يومئذ في السابعة عشرة، وأتابع دارستي في كلية روسان بمدينة شارل فيل.

وذات يوم رأيت في الحلم أستاذي الرياضيات، وهو يشرح لي مسألة صعبة جداً، لم أفهم شيئاً منها.

كانت أمي العزيزة جالسة بقربي، تسمع إلى شروحات الأستاذ – أما أنا فقد فكرت عندئذ أن المسألة الصعبة جداً ، تمثل مسألة خلاص نفسي.

بقيت غارقاً في أفكاري أفتش عن الحل، إلى أن أرسلت الساعة بغتة دقاتها الاثنتي عشرة معلنة منتصف النهار. ولما تلاشى صوت الدقة الأخيرة، غرقت الغرفة في ظلام كثيف. فأسرعت إلى النافذة لكي أعلم ما الأمر.

كان الليل أسود يلف الكون. وكمن أفزعته المفاجأة، قال لب ضميري: لعل هذه مقدمة لمجيء المسيح الثاني، وأنت غير مستعد!

عندئذ بدأت أصرخ إلى الله: جددني يا رب! ولكن المنظر الذي ارتسم أمام عيني، كان يستأثر بكل انتباهي.

ففي الظلمة الكثيفة، التي تأملت فيها من أعلى النافذة بنفس محمومة، تمكنت أن أميز صوراً لكائنات منفردة، وهي تتراجع مطاردة من سلطة ذات قوة واقتدار. وفي هروبها كانت تلك الكائنات غاضبة، وتتلفظ باللعنات. وترفع قبضاتها مهددة شخصاً ما، لم استطع أن أتبينه. وكانت الكائنات تمطره بالسباب، متراجعة دائماً، ومنحدرة نحو العمق إلى الهاوية.

لقد اجتهدت لكي اكتشف الشخص الذي يبدو أن الكائنات تراه، وتصب لعناتها عليه.

متتبعاً الجهة التي ينظرون إليها، رأيت على مسافة بعيدة نقطة صغيرة لامعة كنجم فوق الأفق. كانت النقطة تكبر. وبدا لي أنها تتقدم نحوي بقدر ما كنت أتأملها.

ومرة أخرى قال ضميري: هذه عودة الرب يسوع. وأنت غير مستعد! فقلت في نفسي، لم يبق لي سوى برهة ضئيلة من الوقت، بانتظار أن ينطلق النور، من هذه النقطة البعيدة اللامعة فوق الأفق ويصل إلي. ولم ألبث أن صرخت: أتوسل إليك يا سيدي الرب جددني خلصني!

ولم يسبق أبداً أن انطلقت من لساني صلاة بهذه الحرارة، أو بهذا النوع من الإلحاح، الذي أملاه علي القلق النفسي الذي اعتراني. وفيما أنا أتأوه شديداً، رن في أذني صوت يقول:

- إن السموات الآن، قد تحولت إلى نحاس، بحيث لا تستطيع توسلاتك أن تدخل إلى عرش الله. لأنك تأخرت كثيراً في الاهتمام بخلاص نفسك. وهكذا سقطت صلواتي علي في ثقل الرصاص.

اوه! لماذا لا تستطيع صلاتي أن تلامس قلب المخلّص الرب؟ ألا تسمعني يا رب؟ إنني لا أستطيع أن أكون أحد أولئك الذين ذهبوا مجدفين على اسمك. إنني أريد أن أتجدد وأصير خاصة لك! إلهي أتوسل إليك أن تخلصني!

في تلك الدقيقة، كان النجم يتقدم دائماً، وهالة نوره أخذت تغطي ما فوق الهاوية. ولم ألبث أن رأيت بكل وضوح يسوع المسيح نفسه في وسط هالة المجد.

ولكم تأثرت حين رأيت حلاوة وجهه اللطيف، تشع بالطيبة والجودة على الذين حوله!

كان الملائكة المشعون بالمجد منشغلين كالنحل حول الخلية. كانوا يتحركون ذهاباً وإيابا. كانوا يذهبون وحدهم، ويعودون على رأس مجموعة من المفديين، ويجلسون عند قدمي المخلّص. وهكذا كان عدد الذين حول يسوع يتكاثر باستمرار.

ولشد ما أسرتني تلك الرأفة التي كان السيد الرب يقابل بها كل وافد جديد.

في تلك الساعة، جاز الرجاء في خاطري. فقلت في نفسي: بكل تأكيد سوف يأتي ملاك إلى هنا، لكي يأخذ أمي العزيزة، التي منذ زمن بعيد تنتظر هذه الفرصة الثمينة. وعندئذ سأحاول الذهاب معها. لأنه رغم كل شيء ربما يصح أن أقول أني مسيحي لأنني أرغب بكل حرارة، أن أنال خلاص الله. ومن يدري؟ فربما سيقول لي الملاك: انك خلصت في الوقت المناسب، في آخر لحظة. إذن فمصيري الأبدي سيتقرر قريباً.

فيما أنا أفكر هكذا، فتح الباب بغتة، وبدا على العتبة ملاك جليل بلباس أبيض لامع. ولكنه لم يتخطى العتبة، وأنا أعلم السبب في عدم دخوله. كان المكان دنساً بوجود إنسان آثم هو أنا لأنني لم أتحول بالمسيح إلى خليقة جديدة.

كنت أقف على رؤوس أصابع رجلي، مستعداً للانطلاق عند أول إشارة. وكنت منحنياً إلى الأمام، بنظرة متوسلة. وقد أردت بوضعي هذا، أن أظهر كم أنا راغب في الذهاب لكي أكون مع المسيح. ولكن كان على الملاك أن يعطي إشارة. لأنه بدون ذلك، لا يقدر أحد أن يتحرك.

وأخيراً مد الملاك ذراعه وأشار إلى أمي، وقال مشدداً على لفظه: أنت اتبعيني!

بقيت جامداً في وقفتي، ومسمرا نظري على شفتيه، فيما قلقي يزداد في كل ثانية... ولكنه لم يقل شيئاً آخر!

في طرفة عين، صارت أمي على الباب، ثم استدارت نحوي وقالت لي بكل حنان وبصوت يشوبه الحزن العميق: يا ابني! لقد قلت لك مراراً، يجب أن تؤمن بالرب يسوع وحينئذ تخلص. ولكن الآن، صار الوقت متأخراً. وما أن أنهت عبارتها الأخيرة، حتى توارت وأُغلق الباب.

سقطت على وجهي، لأن ألم نفسي كان قد بلغ الذروة! إذ لم يكن في وسعي القبول بمصيري.

أن ترى السماء مفتوحة، وأنت لا تستطيع الدخول إلى ذلك المكان، مكان المحبة، والحياة في سلام ومجد، فذاك أمر محزن جداً. وأن ترى الهاوية فاغرة فاها وأنت مجبر على النزول إليها، فذلك أمر محزن جداً! لأن هناك الشركة المخيفة مع الأبالسة. كان هذا المصير المتوقع بالنسبة لي، أكثر مما أستطيع احتماله. أمام هذه المصائر المرعبة سقطت تحت ثقل التألم، ورحت أبكي بكاء اليأس والقنوط.

قد خسرت كل شيء في لحظة؛ أمي العزيزة ذهبت عني إلى الأبد، والسماء أغلقت أبوابها في وجهي إلى الأبد.

ليس من رجاء!

كل شيء انتهى!

أسف،

تبكيت،

دموع،

والكل بدون جدوى!

تأخرت! تأخرت! ويا لها من كلمة بقي صداها يتردد في خلدي.

والتي قالتها هي أمي الحنون نفسها، قالتها في لحظة الفراق، فهل بقي من مجال للشك؟!

آه! لو أعطيت دقيقة واحدة من ذلك الوقت الجميل، الوقت الذي فيه فرصة الخلاص بالنعمة! يا لغباوتي! فقد استهلكت ذلك الوقت، واضعته في أشياء لا قيمة لها. لو افتديت ذلك الوقت حسب مشيئة الرب، لكنت الآن أتمتع بالسعادة.

لماذا تأخرت؟؟ لماذا تأخرت؟!

الدموع تخنقني!

الأسف يمزق قلبي!

فيما أنا أعاني هذه الآلام، اعترتني رجفة، وحملتني إلى نصف يقظة. ولكنني لأول وهلة لم أومن بأنني عدت إلى سعادة الحياة. كنت على شاطئ الأبدية الشقية، فكيف عدت؟ هل أنا الآن أحلم؟ أو أنني كنت قبلاً في حلم؟ لست أدري! مددت يدي، لألمس أغطيتي ثم وسادتي. كانت هذه مبللة بدموعي. وأيضاً حواسي عادت إلي.

لقد قال الله لي: هل سترجئ مرة أخرى أمر خلاص نفسك؟ إني أمنحك اليوم الفرصة السعيدة، فهل ستقول لي: أمهلني إلى الغد؟ لقد رأيت سعادة المؤمنين وشقاء الأشرار. وتأكدت من أنه لا سلامة لأمثالك، الذي هم بين الفئتين. وبكلمة أخرى لا يوجد مكان اسمه الوسط. ولا يصح لأحد أن يكون مؤمناً تقريباً. لست مستعداً، ولكنني أمنحك فرصة أخيرة، فماذا أنت فاعل؟

منذ برهة، كنت سأعطي العالم كله، من أجل دقيقة نعمة، والآن أُعطيت فرصة أخيرة. وهذه سأغتنمها، لأنني تعلمت حكمة افتداء الوقت. وأدركت خصوصاً أنه لمن الجنون المطبق، أن يرغب الإنسان في تجديد حياته في يوم ما، وليس في الحال. أو أن يتمهل إنسان في إعداد سراجه، وتزويده بالزيت، غير عالم أنه بذلك يجرب نفسه بخطر الوصول متأخراً، حين يكون الباب قد أغلق.

أجل في الحال وبسرعة قفزت من سريري، وجثوت على ركبتي، وصليت مستصرخاً رحمة الله ونعمته المخلّصة، وسألته الصفح. ثم اعترفت له بكل خطاياي. في الحقيقة أن حل هذه المشكلة، غير داخل نطاق قدرتي. ولكن غير المستطاع عند الناس، هو مستطاع عند الله.

من يقدر أن يغفر الخطايا، إلا الله وحده، لذلك اليوم إن سمعت صوته فلا تقس قلبك.

كانت توسلاتي كلها مقادة بالروح القدس، لذلك تماشت مع النعمة، ولكن إن كان تجديدي قد تأخر في تلك الليلة المشهودة، فإن تأكيد الخلاص لم يعط لي إلا بعد بضعة أشهر. بعد أن قرأت النبذة، التي عنوانها «سلام المؤمن». ومنذئذ أدركت أن الخلاص معناه المصالحة مع الله، والتبرير على مبدأ الإيمان، ويلي ذلك السلام مع الله بربنا يسوع المسيح.

أيها القارئ الكريم،

بعد قراءة هذه الدعوة من الرب، لافتداء الوقت وقبول الخلاص من يمين الرب، هل ستؤجل أمر خلاصك، قائلاً: في ما بعد، في ما بعد، لدي ما يكفي من الوقت لطلب الرب؟

أنت تعلم أن الوقت يمضي بسرعة، وعما قليل سيمضي نهائياً. فإن كنت ترجئ خلاصك إلى الغد، يجب أن تخشى من أن يتأجل إلى الأبد. ومن يدري؟ فلعلك لا تدرك الغد!

لماذا لا تجثو حالاً أمام الله، مصمماً على عدم النهوض من ركوعك قبل أن تتصالح مع الله، فتجد نفسك راحتها وسلامتها؟ لماذا لا تقول الآن مع بولس رسول الله إلى الأمم: «لَمْ أَكُنْ مُعَانِداً لِلرُّؤْيَا ٱلسَّمَاوِيَّةِ» (أعمال الرسل 26: 19).

إن الله يقول لكل إنسان: «فِي وَقْتٍ مَقْبُولٍ سَمِعْتُكَ، وَفِي يَوْمِ خَلاصٍ أَعَنْتُكَ. هُوَذَا ٱلآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا ٱلآنَ يَوْمُ خَلاصٍ»(كورنثوس الثانية 6: 2).


Call of Hope 
P.O.Box 10 08 27 
D-70007
Stuttgart
Germany