العودة الى الصفحة السابقة
أمين في القليل

أمين في القليل

قصص من الحياة جمعها وعلق عليها اسكندر جديد

اسكندر جديد


List of Tables

1.

Bibliography

أمين في القليل. اسكندر جديد. Copyright © 2007 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . 1972. SPB 8030 ARA. English title: Faithful in Small Things. German title:Treu über Wenigem . Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 D - 70007 Stuttgart Germany http://www.call-of-hope.com .

1- أمين في القليل

في أحد الأحياء التي يخيم عليها البؤس، من مدينة كبرى عاش ولد مسكين، اسمه بطرس، في غرفة مظلمة. كان الفتى مريضاً منذ ولادته، ولم يمر به يوم دون أن يتوجع. وفوق هذا، فقد والديه منذ الحداثة. ولم يكن له من يعتني به، سوى جدته العجوز السكيرة، التي تكاد لا تحصّل قوتها اليومي.

كان بطرس المسكين يصرف الأيام والليالي مضجعاً في سريره الحقير المزود بفراش من القش وبعض الأغطية التي اعتراها البلى.

شيء واحد امتاز به الفتى المسكين، وهو أن أمه علمته قبل وفاتها القراءة والكتابة. إلا أن معلوماتها الدينية لم تسعفها لكي تقدم له يسوع، وتخبره عن حبه للخطاة.

في الأيام التي تعصف رياحها مخترقة الأجساد بصعيقها، وناثرة فتائل الثلج، كان الولد يقضي سهرات طويلة في قاعة الكرازة بالإنجيل، التي فتحت حديثاً في الحي. هناك كان يتكبب، على مقعد بالقرب من المدفأة. إلا أنه، لم يكن يصغي تماماً إلى الوعظ، وهو يحث الحضور على العيش كما يحق لإنجيل الله.

ولكن منذ أن تفاقم مرضه، وتضاعفت أوجاعه تدريجياً، سلب القدرة على استعمال رجليه. وهكذا سمره المرض، على سرير الأوجاع. ولكن في تلك العزلة القاسية، أخذت ذاكرته تسترجع الأقوال، التي سمعها في قاعة الكرازة. وشيئاً فشيئاً شعر بطرس بأن الرغبة الحارة في التعمق بكلمة الله، قد كبرت في قلبه. فاشتهى بتوق الروح، أن يمتلك كتاباً مقدساً.

وذات يوم، جمع فلول شجاعته، وأعرب لجدته عن هذه الرغبة في اقتناء كتاب الله العزيز. ولكن الجدة المستهزئة، سخرت منه وقهقهت ضاحكة:

- الكتاب المقدس! أنا لا أهتم بشيء كهذا. وماذا يستطيع صبي مثلك، أن يفهم من الكتاب المقدس؟!

أمام هذه التورية الساخرة، لم يجد بطرس بدا من الصمت. إلا أن رغبته في اقتناء الكتاب، لم تتلاش. على العكس فقد ازدادت بمرور الوقت.

وذات صباح، سمع بطرس وقع أقدام، تصعد السلم المؤدية إلى غرفته. وبعد لحظات فتح الباب، وأطل يوحنا مارتان، صديقه الوحيد.

- يا صديقي، قال مارتان. لقد وجدت عملاً لي في الشمال، وأنا ذاهب غداً للالتحاق به. لهذا أتيت الآن لكي أودعك، أيها الرفيق المسكين. ولكن أنظر قليلاً ما أحمل لك!

إنها قطعة نقود جديدة قيمتها أربعون فلساً. احتفظ بها إلى أن تجد شيئاً تشتهي اقتناءه، فتدفعها ثمناً له!

- يا لك من صديق كريم! أجاب الفتى. في الواقع أنني أشتهي الآن شيئاً محبباً إلى قلبي.

- إذن يا للحظ السعيد! هل لي أن أعرف هذا الشيء الذي تشتهي اقتناءه بهذه اللهفة؟

- إنني أريد كتاباً مقدساً، يا صديقي الطيب.

- كتاب مقدس! أتصرف أربعين فلساً لأجل اقتناء كتاب مقدس؟!

- إنني أرغب شديداً في اقتناء الكتاب الإلهي. اذهب واشتره لي، هذا المساء. اصنع لي هذا المعروف، أرجوك! لأن جدتي، لن تفعل هذا من أجلي. ولو أعطيتها المبلغ، لابتاعت به زجاجة كونياك.

- ولكن قل لي، ماذا ستفعل بالكتاب المقدس؟ فأنت يا صديقي، لست متعلماً، إلى درجة تستطيع معها، أن تفهم هذا الكتاب، الذي يعجز العلماء عن فهم بعض نصوصه.

- قد تكون محقاً في الملاحظة التي أبديتها. ولكن رغبتي في اقتناء هذا الكتاب شديدة، ولا أستطيع صرفها.

- حسناً يا صغيري، سأذهب حالاً إلى المكتبة. ولكن يجب أن تعلم، بأنني لا أعلم شيئاً في هذا الصدد.

- هذا لا يهم، يا صديقي الطيب. فأنا أعلم بوجود كتب مقدسة، تباع النسخة منها بأربعين فلساً. لقد رأيتها معروضة في واجهات المكتبات، حين كان في مقدوري المشي.

هبط مارتان درجات السلم، بأبطأ مما تسلقها. وحين عاد حاملاً الكتاب، لم يكن وجهه ليعبر عن أي انفعال سيء، لأنه قال مبتسماً:

- أخبرني الكتبي بأنه، لم يكن في وسعي أن أترك لك صديقاً، أفضل من هذا الكتاب. وأما فيما يختص بك، فلم يكن باستطاعتك استعمال هبتي المالية في مشروع أفضل. ثم أكد لي أن الكتاب سيكون أنفع لك من ماية ألف فرنك. وهذا التأكيد حملني على الاعتقاد بأن في الكتاب أشياء خاصة مهمة جداً.

هذه الكلمات عزت بطرس وعززت شجاعته، وحملته إلى جو الفرح والاعتراف بالفضل.

- أنا متأكد أنه محق في ما قاله لك يا مارتان! قال الفتى السطيح، وهو يشد الكتاب الثمين إلى صدره.

ليت كل إنسان، يضع كلمة الله، المنزلة اللائقة بها من تقديره! ويدرسها ويؤسس حياته عليها. إن من يفعل هذا يجد فيها ما اكتشفه ذلك المسكين. ففي ضوئها، رأى أنه لم يكن سوى إنسان خاطئ وهالك. وأنه في حاجة إلى مخلص، وهذا المخلص، وجده في شخص يسوع. فآمن به، واعترف به وأحبه. وتبعاً لذلك، شعر بالرغبة في أن يعمل شيئاً، يخدم به الذي عمل كل شيء من أجله. نعم انه أراد أن يخدم ذلك، الذي توجه على عرش قلبه. فقال في نفسه: ليس من الإنصاف في شيء، أن أحتفظ لنفسي بكل هذه الأخبار السارة. وبسبب كثرة تفكيره في هذا الأمر، وجد وسيلة سهلة لخدمة سيده.

فقد ألصق سريره بحافة النافذة، التي كانت منخفضة. واستحضر ورقا وقلما للكتابة. وبدأ ينسخ عدداً من آيات الكتاب المقدس على قصاصات من الورق، ويكتب على ظهر كل وريقة: أيها المار، اقرأ هذه من فضلك! ثم يطويها بعناية ويلقي بها إلى الشارع المكتظ بالرواد. وقد حرص على أن لا يطلق واحدة من تلك الوريقات، قبل أن يرفقها بكلمة صلاة، متوسلاً وطالباً أن يعمل الله في قلب قارئها. لكي يعرف يسوع، وينال خلاصه العظيم.

وهذه الخدمة المنطلقة من المحبة، دامت عدة أسابيع. وذات مساء، سمع الولد وقع أقدام غريبة على السلم. وبعد هنيهة، دخل الغرفة سيد مهيب الطلعة، مرتدياً ثياباً أنيقة. وبعد أن ألقى نظرة على محتويات الغرفة، دنا من سرير الفتى وجلس على مقعد عتيق.

- هذا أنت، من يلقي بهذه الآيات الكتابية؟ سأل السيد الزائر بكل رقة.

- أجل يا سيدي، أجاب الفتى.

- يا صديقي، قال الزائر. لقد التقت البارحة إحدى الوريقات، والله باركها لأجل نفسي. أنا مسيحي منذ سنين طويلة، ولكن في الأيام الأخيرة، فترت محبتي لله، والرب استخدم هذه الفقرة التي كتبتها وألقيت بها في الشارع، لكي يعيدني إليه. والآن أتيت لكي أشكرك.

- لا تشكرني يا سيدي! فأنا أكتب فقط، ولكن هو الذي يبارك، فاشكره هو.

- هل أنت سعيد بأن تقوم بهذا العمل. لأجل المسيح الفادي؟ سأل الزائر.

- لا يمكن أن أكون في حال أسعد، يا سيدي. إنني لا أفكر في الأوجاع المنتشرة في أنحاء جسمي. وإني لجد مسرور الفكر بأن الوقت قد اقترب، لكي أرى يسوع، حبيب نفسي.

- أنا أسكن في الريف، قال الرجل، ولي إبن مريض جداً. وقد اضطرتني بعض الأعمال لتركه لبعض الوقت. وحين قبّلته قبل انصرافي سألني:

- بابا، هل عملت شيئاً من أجل يسوع؟ وهذه الكلمة تابعتني كل النهار. والبارحة مساء فيما أجتاز الشارع، وقعت ورقتك عند رجلي. ففتحتها وقرأت فيها: «يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ»(يوحنا 9: 4).

في تلك اللحظة، انهمرت دموع الفرح من عيني السطيح الصغير، وسالت على خديه.

- قل لي يا فتى، كيف استطعت الحصول على الورق لأجل كتابة الآيات؟

- اوه! لم يكلفني الأمر تعباً، يا سيدي. فجدتي كانت تشتري كل يوم حليباً بقيمة فلس... فقلت لها أنني أتنازل عن الحليب، إن كانت تأتيني ببعض الورق، بدلاً منه. وأنا أعلم بأن الوقت، لن يطول بي. فقد أكد الطبيب، أنني على الأغلب سأموت، قبل أن تنصرم أشهر الشتاء. لذلك لم يكن صعباً علي أن أتنازل عن بعض جريعات من الحليب، حباً بيسوع الفادي. طبعاً أن تضحيتي هذه لا يمكن أن توازي تضحيات أولئك السعداء، الذين يستطيعون أن يقدموا له كومات من الأشياء.

- اوه! يا صغيري! يجب أن تعلم أنك في هذه الحجرة الضيقة الحقيرة، تقوم بتضحيات لأجل حب يسوع، أهم وأدعى إلى السعادة من كل ما يفعله أولئك الألوف من الأشخاص، الذين يمارسون الديانة في مختلف ألوانها. ومع أن لهم الثروات والمواهب، إلا أنهم لا يقدمون له شيئاً.

- هذا، لأنهم لا يعرفونه. لأن من يعرفه، لا بد أن يحبه. ومن يحبه، لا بد أن يحاول عمل شيء يدخل السرور إلى قلبه. وبخلاف ذلك، لا يكون في قلبهم حب حقيقي له.

- إنك لمحق، يا بني. والآن، دعنا نتكلم عنك. ألا تريد قضاء بقية أيامك في أحد الملاجئ، حيث تتوفر لك العناية والرعاية؟ في استطاعتي، أن أجد لك مكاناً في ملجأ من هذا النوع، قريب من مكان سكناي.

تفرس الفتى السطيح في وجه زائره المشع بالعطف، وبقي متردداً خلال عدة ثوان، قبل أن يجيب:

- شكراً، يا سيدي. لقد سمعت بهذه الملاجئ، ولكنني لست براغب في الموت في رفاهية كهذه، التي توفرها الملاجئ، بينما يسوع مات متألماً لأجلي. إني لأخشى من أن أنساه في جو الترف والأشياء الجميلة. أما هنا، فإنني أنتظره كل يوم، ممارساً هذا العمل الصغير، الذي أناطه بي.

- كما تشاء، يا بني. فقط أريد على الأقل الاهتمام بأن تنال طعاماً جيداً، وتحصل على الورق اللازم لخدمتك. سأتفق مع إحدى سيدات هذا الحي، لكي تأتي لك بهذه الأشياء. والآن قبل أن نفترق، هل تريد أن تصلي معي؟

لم يتردد الصبي لحظة، فجمع يديه المهزولتين. وبكلمات قليلة شكر الرب، لأنه أرسل إليه هذا الصديق الجديد. وختم صلاته بالقول: أتوسل إليك يا رب، أن تتيح له فرصة، لكي يذهب، ويحدث الآخرين عن محبتك لهم. باركه وقوه، لأجل محبة اسمك، آمين.

بعد هذه الصلاة، نهض السيد وودع صديقه الصغير. وقبل أن يغادر المدينة، دبر كل ما يلزم لسد إعوازه. ثم عاد إلى بيته الجميل في الريف، وقلبه مفعم بالسعادة. ومنذ ذلك اليوم، عاش من أجل المسيح، كارزاً باسمه للخلاص.

كانت السيدة التي كلفها بالعناية بالفتى السطيح، ترسل له اخباره، بين وقت وآخر. وقبل أن ينقضي فصل الشتاء بقرّه وعواصفه وثلوجه، أحيط علماً بأن الفتى قد رقد في الرب.

وبعد أيام تلقى بالبريد طرداً يحتوي الكتاب المقدس، الذي كان لصديقه الراحل. فتقبله السيد كأثمن هدية، ووضعه في بيته الواسع الثراء، كأفضل كنز. وفي إحدى المناسبات، قدمه لابنه، كهدية يجب الاحتفاظ بها. ولما تأمل الشاب في الآيات التي وضع الفتى السطيح خطوطاً تحتها، تحرك قلبه. وسلم حياته للرب، فوجد السلام. وبعد الاستعداد، انضم إلى صفوف خدّام الرب في قلب إفريقيا السوداء.

أيها القارىء الكريم!

هل تعرف يسوع كمخلص شخصي؟ إنه ينتظرك! إنه يحبك! إنه يريد أن يغفر لك! إنه يود أن يكون لك معزياً كما كان الفتى السطيح المسكين! إن كنت تعرفه، فاجتهد أن تخدمه. وكخادم أمين يشترط أن لا تبقى في المؤخرة، حتى ولو كلفك السير قدماً في سبيله بعض التضحيات. إنك ستجد نفسك سعيداً، في أن تعمل في خدمة هذا المخلص، الذي أحبك بمقدار أنه وضع نفسه عنك.

2- الزيتونة البرية

- لا جدوى من التعب، قال بيير وهو يضع قلنسوته على رأسه بحركة متراخية. فبقدر ما أحاول أن أكون متزناً ولطيفاً، تتعقد الأمور وتسوء النتيجة. يكفيني هذا!

- ما هو الذي يكفي؟ سأل صوت من ورائه.

احمر وجه وهو ينظر إلى الوراء، فيما عيناه مخضلتان بالدموع. هذا مع العلم بأنه قد قيل له أكثر من مرة، أن الصبية الكبار لا يبكون.

- يكفي من... الكل يا عمة ماري. ففي الصباح، قلت لنفسي وأنا أنهض من النوم، سأقضي نهاراً طيباً. سأسعى لإدخال السرور إلى قلب الماما. وسأعود من المدرسة بعلامات جيدة. وبعدئذ سأكف عن الطيش. وأطلّق البلاهة، و... ولكن فجأة انعكست الأمور، وكل شيء صار سيئاً. وبخت وعوقبت، وهذا أحزن الماما، لأنني أنا المخطئ في ذلك.

يا لبييرو المسكين! إنه منزعج على ما يبدو. لسبب أنه تكلم طويلاً! ولكن العمة ماري، ليس قاسية كالآخرين. لم يسبق لها أن أنّبت أحداً، أو حلفت، أو سخطت. وبيير كان يشعر في قرارة قلبه، أنها تفهمه جيداً.

- يا بيير، قالت العمة. هل سألت الله أن يساعدك لكي تصبح عاقلاً؟

- أجل إني سألته بعض المرات، أجاب الفتى بعد تردد.

- ألم يستجب لك.

- لا... لا أعلم... لست متأكداً. يوجد من الأمر شيء أكبر مني، ويدفعني لأن أفعل ما لست أريد.

فكرت العمة قليلاً في الجواب، ثم وضعت يدها على رأس الولد، ذي الشعر المخوتم الجميل، وقالت:

- هل تريد أن أروي لك قصة، يا عزيزي؟

- قصة! نعم، إني أحب قصصك الشيقة، يا عمتي العزيزة ماري.

الواقع أن كلمة قصة، حركت فضول بيير وأنسته همومه الكبيرة. فجلس في قرابة النافذة، فيما كانت العمة تتناول نسيج الصوف، الذي كانت تركته يسقط في حضنها.

- إن القصة التي سأرويها لك، هي رمزية. وفي وسعنا أيضاً أن نحسبها مثلاً، وعنوانها «الزيتونة البرية».

هذه الزيتونة، لا يعرف أحد كيف نبتت، بجانب حائط عال جداً. في البداية، لم ير هناك سوى غصن سريع العطب. ولكنه سرعان ما تحول إلى جفنة كثيفة، ثم إلى شجيرة، فإلى شجرة كبيرة، ارتفعت فوق الحائط.

في أثناء نموها المتواصل، كانت هذه الزيتونة تتساءل دائماً عما يخفيه الحائط في الجهة الأخرى.

كانت النسيمات تأتيها بموجات دافقة من الأصوات الشبيهة بنغمات موسيقية آتية من بعيد. وكانت تحمل إليها عبقات من العطر الزكي الرائحة. وهذه الأشياء جعلتها تتصور عالماً بهيجاً يعيش في جوارها، وراء الحائط. فقام في نفسها فضول ملّح، لتعرف هذا العالم وتندمج فيه. ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟

وأخيراً، جاء يوم سعادتها العارمة، فقد بلغت قامتها الارتفاع الذي يتيح لها أن ترى ما في الجانب الآخر. فماذا رأت؟ غابة صغيرة كثيفة فيها ممرات ظليلة، وأحواضا فيها أزهار حلوة مختلفة، ومجموعات من الأشجار المثمرة.

ثم رأت فراشات متعددة الألوان والأشكال، تتراقص ببطر شديد، فوق الورود الفواحة، وعصافير تغرد بين أغصان الأشجار الكبيرة. وفي كل مكان، كان نور الشمس، يثير البهجة في هذه الكائنات. حينئذ، أدركت الزيتونة من أين كانت تأتيها الأصوات الموسيقية والروائح الزكية، التي تعطر الجو بأريجها.

تأملت الزيتونة البرية طويلاً في الجنة الغنّاء، وبقدر ما كانت تنظر، كانت رغبتها تزداد في أن يكون لها مكاناً هناك.

كانت هناك نباتات من كل نوع ولون، تعيش جنباً إلى جنب. مع أن أمثالها في البرية، لا تتجاوز هكذا!

من أين أتت إذن؟

من هو الذي استطاع أن يجمعها هكذا؟

كانت زيتونتنا البرية، تتيه في افتراضاتها، حين شاهدت باب الحديقة يفتح ليدخل منه رجل. كانت في يده نبته مقتلعة من حقل مجاور. فأتى بها بكل حيطة إلى زاوية ظليلة، اختارها ليزرع النبتة فيها.

اوه! الآن فهمت، قالت الزيتونة في نفسها. كل هذه النباتات، أتت من الخارج. إذن أستطيع الدخول إلى الجنة الرائعة. ولكني قبيحة الشكل، بهذه الأغصان الكثيرة العقد، وهذا الجذع المعوّج! يجب أن أستقيم، وعندها علهم يتكرمون علي بمكان، بين الأشجار الأخرى هناك.

قالت هذا، ثم أسرعت للعمل. فاجتهدت بأقصى ما تستطيع، لكي تستوي أغصانها، ويقوّم خصرها، فتوجد نفسها في أجمل شكل ممكن!

بعد أيام، جاء سيد الجنينة لزيارة نباتاته. فاستبشرت الزيتونة، وقالت في نفسها:

- سيراني اليوم، وسيلحظ التعب الذي تكبدته، لكي أبدو مقبولة. هكذا قالت في قلبها.

فألقى السيد نظرة عليها، ولكنه لم يتوقف!

- نعم إنها لشجرة جميلة، قال لخادمه الذي كان يسير إلى جانبه. ولكن أين ثمارها؟

- اوه! الثمار، هذا ما يطلبه سيد الجنينة، قالت الزيتونة في نفسها. سأبدأ الآن بالعمل للإتيان بالثمر.

مرت شهور بعد ذلك. وكان يوم سطعت شمسه. وكانت الزيتونة قد تطور نموها، فحملت ثماراً وفيرة، حتى انحنت أغصانها تحت الثقل. وقد ظنت أن ثمارها ليست بأقل جمالاً من ثمار الأشجار الأخرى، التي وراء الحائط الكبير.

- في هذه المرة سيختارني لأجل أثماري، هكذا ظنت وهي ترى السيد يتجه نحوها.

فرفع الخادم يده، وأشار إلى الأغصان المحملة بالثمار اليانعة.

- ذق طعمها، إنها شجرة برية، وثمارها برية، كالشجرة التي حملتها، قال السيد ثم مضى.

في هذه المرة فقدت الزيتونة المسكينة كل شجاعتها!

- اوه! يا لضيعة العناء الذي تكبدته! هكذا فكرت الشجرة البرية. كل ما عملته ذهب ادراج الرياح. إنني لم أستطع اعطاء نفسي الجمال، الذي يتيح لي الانتقال إلى الجنة الجميلة. لا جدوى من تكرار المحاولة! قالت هذا بكل حذر، وتركت أغصانها تتهدل بصورة مؤسفة.

في تلك اللحظة عاد السيد، ووقف في اتجاهها:

- يا للشجرة الصغيرة المسكينة! قال بصوت مفعم بالإشفاق. تريدين مكاناً في جنتي. وبذلت كل ما لديك من إمكانات. والآن هل ترغبين في تجربة إمكاناتي أنا؟

- لقد بذلت أفضل طاقاتي، غمغمت الزيتونة، ولا أستطيع شيئاً آخر.

- هذا صحيح، قال السيد. لا تستطيعين شيئاً آخر. في البداية، كنت زيتونة برية، وما زلت كذلك، بالرغم من كل جهودك. وأنا لا أحتاج إلى زيتونة برية في جنتي.

- لا ذنب علي في كوني خلقت زيتونة برية. وأنا لا أستطيع أن أغير طبيعتي. ولن يكون في وسعي أن أصنع شيئاً صالحاً. ولن أصير جديرة بالانتقال إلى الجنة الجميلة.

- في وسعي أن أصيرك جديرة. ولكن لا يوجد لذلك سوى وسيلة واحدة، لبلوغ هذا الهدف، وهي أن تطعمي.

- ماذا؟ أيجب أن تسقط كل أغصاني هذه الجميلة، التي كلفني الحصول عليها المزيد من التعب؟ ولكن إذا طعمت، فلن يبقى مني شيء تقريباً، هكذا صرخت الزيتونة بلهجة الاحتجاج.

- بقدر ما يكون الباقي منك قليلاً، يكون تحولك أسهل وأفضل، أجاب السيد. ولكن انظري ماذا أفعل من أجلك. سأعطيك طبيعة جديدة، تستطيع أن تصنع ثماراً جيدة تسرني – سأغرسك في جنتي، وستكونين لي. فهل توافقين على إجراء عملية التطعيم؟

فأحنت الزيتونة البرية رأسها، إشارة إلى قبول العرض. بعد ذلك الحوار المثير بزمن، لو زرت جنة السيد، وألقيت نظرة، لرأيت شجرة جميلة ونامية، بأغصان مورقة وثمار جيدة.

توقفت العمة ماري بعض الوقت، ثم استأنفت:

- هل فهمت مغزى قصتي، يا بييرو؟

- أظنني فهمت، قال هذا ثم غرق في أفكاره.

وأنت أيها القارئ الكريم، هل فهمت؟ هل أنت في مثل حال بيير؟ هل ترغب في أن تعمل الصالح، ولكنك ترى أن جهودك تذهب عبثاً؟ ليس في وسعك أن تصير لائقاً بالجنة الجميلة. وليس في استطاعتك أن تصنع ثماراً جيدة، تليق بالسيد الرب، وتسر قلبه. قد تنقضي أيامك على الأرض، وأنت تبحث عن حلول للمشكلة. ولكنك لن تجد بنفسك الوسيلة لذلك.

إن ما يلزمك، هو الطبيعة الجديدة. لأن لا قوة أخرى في الوجود، تستطيع أن تغير قلب الإنسان الرديء. هذه الطبيعة الجيدة يعطيها الرب لكل الذين يأتون إلى صليب يسوع المسيح، الذي يعطي السلام والغفران. لأن رغباتك ومجهوداتك، لا يمكنها أن تمحو واحدة من خطاياك. ولكن دم يسوع، يطهر من كل خطية.

إن كنت تتوسل هذه الواسطة، التي دبرها الله، فحينئذ تصبح في المسيح خليقة جديدة. «إِذاً إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» ( رسالة كورنثوس الثانية 5: 17)وحينئذ تستطيع السير إلى الأمام بفرح، عالماً أن كل من يثبت في المسيح يأتي بثمر كثير.

3- عالِم وقاتل في كفتي ميزان

في إحدى الأمسيات، دعيت للتكلم في قاعة اجتماعات المدينة. وما أن أزفت الساعة، حتى غصت القاعة الكبرى بالحضور. وكان أستاذ جامعي كبير، يجلس في الصف الأول مع قرينته. وقد بدا عليه عدم الارتياح في هذا الوسط، لأن القاعة امتلأت بخليط من الناس: عمال بسطاء، وقرويون أموا المدينة، وشيوعيون، وبعض من أهل الفكر.

حين أنهيت محاضرتي، نهض رجل وسخ، تأنف النفس قيافته. وتقدم من مكانه في آخر القاعة إلى المنبر، وقال:

- انظروا وجهي، كيف هو أسود! إن قلبي أكثر سواداً!... على عهد النظام القديم، أرسلت إلى ليمان سيبيريا، حيث قضيت ثمانية عشر عاماً في الأشغال الشاقة. لم أسجن ظلماً وعدوانا، فأنا منذ حداثتي متمرس بالإجرام. إنني قاتل وسارق، وكاذب و... و... ولكن حين تولى السوفييت السلطة، دخلت الحزب الشيوعي. واستطعت بدهائي أن أكتسب ثقة أصحاب الكلمة، فأعطيت سلطات واسعة. وسرعان ما سخرت سلطاتي لإشباع نزعتي إلى الشر. وأكثر ما كان يسرني، هو الإيقاع بالناس وإرسالهم إلى الإعدام، سواء بذنب، أم بغير ذنب. ولست بمبالغ إذا قلت بأنني أهلكت من الناس، أكثر مما في هذه القاعة.

قال هذا، ثم ارتمى أرضاً، وراح يبكي. فسألته إن كان يعرف إنجيل يسوع المسيح.

- كلا، قال وهو يهز رأسه نفياً. إنني لم أقرأه أبداً، وأنا ما دخلت هذا المكان إلا صدفة. فسمعت الكلام عن المخلص للمرة الأولى في حياتي. إنني نادم على ماضي، فهل يستطيع الشقي مثلي أن يطمع برحمة الله، وينال غفران خطاياه الفظيعة؟

فقلت له:

- في منطقنا البشري الخاضع لعواطفنا، يصعب علينا التسليم بأن القتلة أمثالك ينالون الغفران، وبالتالي الحياة الأبدية. ولكن مع أنك قتلت أو تسببت بقتل العدد العديد من الأبرياء، إلا أن كلمة الله تقول: «إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَٱلْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَٱلثَّلْجِ» (إشعياء 1: 18).

تطالعنا الكتابة المقدسة بأن كثيرين من الأشرار، وجدوا في طريق يسوع، وتأثروا بكلام النعمة الذي سمعوه منه، فتغيرت حياتهم، لكأنهم ولدوا من جديد. وهذا الرجل أيضاً، تمت فيه أعجوبة المسيح. فما أن سمع كلمته حتى استيقظ ضميره من ثبات نوم الموت. فاعترف بذنبه، وحصل على سلام الله، الذي يفوق كل عقل.

في الحقيقة أن الحضور في تلك الساعة شهدوا شفاء إنسان ملبوس بالأرواح النجسة. فقد كانت الأنظار مسمرة عليه وهو منطرح على الأرض.

لم يشأ أن يجلس على أحد المقاعد، لأنه قرر أن الجلوس مع الآخرين شرف لا يستحقه. ولعله كان يود أن يبقى منطرحاً على الأرض، لو لم أدعه للجلوس في أحد المقاعد.

سمع الأستاذ الكبير كلمات المجرم القذر، وشعر بأن معظم الحضور تأثروا باعترافه. فتململ في مقعده، ولم يلبث أن ثارت ثائرته. وأخيراً نهض، وضرب الأرض برجله وصرخ:

- كلا! كلا! إن الذين أراهم في هذا المحضر من بلهاء وجهلة، ليجعلون النفس تتقزز قرفاً. قال هذا ثم خرج، تاركاً امرأته في دهشة شديدة.

كم ارتاحت نفسي، وأنا أراه يغادر المكان! لأنه فيما كنت ألقي كلمتي، لم ينفك عن التفرس في وجهي بازدراء، لكأنه يعارض كل فكر أبديه.

ولكن بعد ربع ساعة تقريباً، عاد وفي يده مناديل، كان ينشف به العرق المتصبب من جبينه، الذي بدت عليه علامات القلق، ثم تقدم إلى المنبر وقال:

- سيدي العزيز، وأنا ماذا يجب أن أفعل؟

- أنت رجل مثقف واسع العلم. قلت له بكل لطف. والمعهود فيك أنك تعرف طريق الخلاص.

- واسع العلم! هذه مشكلتي. إن العلم لم يدلني على طريق الخلاص. أنا إنسان ملحد، مجدف على الله. ولم أهتم مطلقاً بالإنجيل.

- ولكن يا أستاذ، معرفة الخلاص سهلة وليس فيها تعقيد. اعترف بخطاياك أمام الله خالق السماء والأرض، كما فعل هذا المجرم منذ دقائق، فتخلص. إن دم المسيح يطهر من كل خطية. هذا هو طريق الخلاص، وليس طريق آخر.

- أجل، قال العالم. إنه لسهل عليك أن تبسّط لي الأمر هكذا! وأن تقدم لي هذا المجرم مثالاً. وتظن أنه ليس في ماضيّ أنا العالِم خطايا تشبه ما في ماضيه من خطايا. لهذا ينبغي أن أقول وأقر أن الخمسة والخمسين سنة أنفث سموم الإلحاد في نفوس تلاميذي، الذين لا يقل عددهم عن الألف في كل سنة. وكان اهتمامي الأول أن أقنعهم بأن لا خالق، ولا إله، ولا سماء، ولا جهنم!

هذا مخيف، أليس كذلك؟ ولكن هذه هي ثمار علمي، إني قتلت أنفساً أكثر بكثير من القاتل، الذي أشرت إليه.

لقد سممت أنفساً، وولدت وربيت قتلة أنفس. وهم الآن يكملون العمل الذي بدأته!

هذا الرجل الذي قدمته مثالاً، كان يغتال ضحاياه منفرداً. أما أنا فقد أشركت في جرائمي ألوفاً من الذين تتلمذوا على يدي.

إن توبته إلى الله، تضع حداً لماضيه. أما أنا فليس في وسعي أن أوقف أولئك الذين علمتهم الكفر والضلال والتجديف على جلال الله.

وهب أن الله غفر لي، فإن عملي الهدام سيتابع، وسيؤدي بأنفس كثيرة إلى الهلاك. هذا أنا في فظاعتي، وشعوري الآن أنه من كان مثلي، فلا خلاص له.

حين بلغ هذا الحد من استنكاره لما فعل، أحنى هامته تحت وطأة الألم، الذي عصف بقلبه. وسالت دموعه بغزارة على خديه، مما حمله على أن يغطي وجهه بيديه.

لما توقف الأستاذ عن الكلام، اجتاحت جميع الحاضرين موجة من التأثر، ولعل كثيرين ذرفوا الدموع تأثراً. ولم نلبث جميعاً أن انسكب علينا روح الصلاة. فصعدت من القلوب توسلات متشفعة من أجل هدوء نفس الأستاذ الكبير. وهو نفسه صلى قائلاً:

- يا الله إن كنت موجودا، فاعلن لي ذاتك. وإن كنت تقدر فاعطني النعمة، لأختبر خلاصك اليوم. واغفر لي ذنوبي الكثيرة.

لقد أحدثت اعترافات الأستاذ العالِم أثراً عميقاً في كل من كان في القاعة. حتى أن ساعات الليل، لم تكف لصلوات كل الذين صمموا على قطع صلاتهم بالحياة الماضية. وقد عمل روح الله في الجماعة، بحرية فاقنع كل واحد بخطيته.

وكم كان مؤثراً أن تسمع شهادات عديدة عن عمل النعمة، في حياة كل الذين ولدوا من الله في تلك الليلة. وحين نهضنا من ركوعنا أنشدنا القرار التالي:

يا يسوع لا شيء غير نعمتك

لا شيء غير دمك الثمين يمحو ذنوبي

ويصيرني قديساً، باراً، وسعيداً

وبعد الترنيمة، عانق العالِم الكبير، المجرم الكبير، وبكى الاثنان طويلاً بكاء الفرح. كما لو كانا أخوين تلاقيا بعد فرقة طويلة.

ويقيناً أنها لأعجوبة عظمى! أن ترى الأشخاص من مختلف المشارب، يصبحون أخوة في يسوع المسيح. والحقيقة ليس إلا روح الله العامل في العالم، يستطيع أن يجعل رجلاً من علية المفكرين، وآخر من سفلة المجرمين، يعترفان بأنهما ابنان لآب واحد، بربنا يسوع المسيح.

في الغد دعيت إلى بيت العالِم، لتناول طعام العشاء. ولكم كان فرحي عظيماً، حين هرع الزوجان لاستقبالي ويد أحدهما في يد الآخر، وهما سعيدان كالأطفال في يوم عيد الميلاد. وفي أثناء العشاء، لم يكفا عن التحدث عن خلاص الله، الذي وجداه في تلك الليلة. وفيما نحن نهم بالذهاب إلى اجتماع الصلاة، قال لي الأستاذ:

- اذهب مع زوجتي، فلدي عمل يجب أن أنجزه، وبعدئذ سألتحق بكما.

وبالفعل، فقد كما في بدء ترنيمتنا الأولى حين دخل الأستاذ مع جميع طلاب صفه، وجلس بينهم في المقاعد الأولى. ولم ينته الاجتماع حتى كان عدد منهم من فتيات وشبان، قد سلموا قلوبهم للرب، ووجدوا سلام الله.

وهكذا قدم الأستاذ العالِم شهادة رائعة لعمل نعمة في حياته بالإتيان بآخرين إلى يسوع المسيح المخلص. لكأنه أراد أن يعوض عن الأضرار التي سببها في الماضي، حين كان بعيداً عن الله.

وقد عملت النعمة في الخارج بواسطة شهادة إخوة آخرين، فخلص عدد من الزناة واللصوص والقتلة، والمجرمين من كل نوع.

وأنت أيها القارئ المثقف، هلا تحررت من عقدة الانتفاخ بالعلم! لا تغضبنك هذه الكلمة، لأن رسول المسيح بولس أحد علماء زمانه قال أن العلم ينفخ. ولكن بولس، تخلّص بالمسيح من هذه العقدة العقيمة. وسجل لنا شهادته بأحرف من نور، إذ قال: «صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ ٱلْخُطَاةَ ٱلَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا». فليتك تحذو حذو الرسول الكريم، فتتواضع أمام القدير، وتقر بذنبك، فتنال باسم يسوع غفران خطاياك. وقديماً قال سليمان الحكيم: «مَنْ يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لا يَنْجَحُ، وَمَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ» (أمثال 28: 13).

4- التحول العجيب

دخل عامل خباز المستشفى، ليعالج من مرض ألّم به. وخلال وجوده قيد العلاج، كان متضايقاً جداً، ينتظر استعادة صحته بفارغ الصبر، لكي يخرج ويعود إلى نشاطه وحيويته ومرحه ومجونه.

مسكين إميل! إنه لم يكن عارفاً بأنه ميت في الذنوب والخطايا. لأنه مشى حتى الآن، بحسب دهر هذا العالم. ولم يفكر إلا في التوغل في الشر، بعيداً عن الله. ولكن الله لأجل محبته الكثيرة، شاء أن يرحمه، ويتمجد بخلاصه.

ففيما هو ينتظر ساعة خروجه من المستشفى، جاء فتى في الخامسة عشرة، والدماء تنزف من يده، ودخل الغرفة، التي كان إميل فيها. كان الفتى اسمه ألفرد، وهو عامل في مصنع للسروج. وقد جُرحت يده في هذا اليوم فيما هو يمارس عمله. فأرسله صاحب المصنع إلى المستشفى، ليعالج جرحه.

كان لألفرد امتياز عظيم، أنه تربى على يدي أم مسيحية، وفقاً لإنجيل المسيح. وهذه الأم الأمينة لفاديها، استطاعت بالنعمة أن تغرس في قلبه الفضائل المسيحية منذ حداثته. وكمسلّم حياته للرب منذ الثالثة عشرة، كان يرافق أمه إلى الاجتماعات الروحية، ليسمع كلمة الله. وقد نما روحياً في رفقة بعض أعضاء جمعية الفتيان المسيحيين، الذين أحبوه واهتموا به.

ولكن حين جاء إلى المدينة ليتعلم صنع السروج، تعرض إيمانه الحدث لتجربة قاسية. فقد كان عليه أن يعيش في شبه عزلة، في مجتمع غريب عن الإنجيل ومتمرد على الحق، وليس فيه اجتماعات روحية. وهذا كله كان قاسياً عليه.

ولكن الأم الأمينة المصلية من أجله، لم تكف عن إزكاء نار محبته لله، وقد كتبت له تقول: تشجع يا حبيبي ألفرد، فالرب قريب منك، وكلمته معك. فقط كن أميناً لفاديك. ومهما كنت صغيراً وضعيفاً، لا تستح بإنجيل المسيح. بل جاهر به في المجتمع الذي تعيش فيه. وتأكد أن الرب يقبل خدمة الصغار المؤمنين به.

هذه العبارات المشجعة، قوّت الفتى، وبثت فيه روح الشجاعة. وكذلك الله، أعد له تعزية كبرى. فيده القوية والحكيمة، التي توجه كل الأشياء، وتجعلها تعمل معاً لإتمام مقاصد نعمته، جعلت الحادث الذي ألم به وسيلة للقاء مع إميل، لأجل خلاص هذا الأخير. فبعد أن غادرا المستشفى بوقت قصير، التقى الشابان. ومع أن فترة التعارف بينهما كانت قصيرة، فقد استطاع عامل الخباز أن يستدر عطف ألفريد، ذي القلب الحساس الكريم، وأن يختلس منه بعض النقود، بالخداع والكذب.

وذات يوم بعد الظهر، ذهب ألفرد كعادته إلى غابة مجاورة للتأمل بالكتاب المقدس والصلاة. وهناك التقى بإميل، فأمسك بيده. وبعد حوار قصير، اقنعه بمرافقته في نزهة بين الأشجار.

في أثناء الطريق، أخذ الشابان يتبادلان شتى الأحاديث. ولم يطل الوقت، حتى اتخذ حوارهما طابع الجد. فالخباز الشاب، هبّ إلى إبداء أفكاره الفكرية. وكان لا بد لألفرد أن يغتنم الفرصة، التي أتاحها له الرب، لكي يتكلم إلى ضمير رفيقه.

- بدون ريب أن مات أحد، فإنه يموت حقاً، قال ألفرد. ولكن هذا لا يعني أنه قد تلاشى. فكلمة الله تقول أنه «وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذٰلِكَ ٱلدَّيْنُونَةُ». فكِّر إذن يا إميل، فإنه لمخيف جداً أن يموت الإنسان، ثم يمثل أمام الله الديّان العادل لكي يدان، ويلقى في عذاب جهنم الأبدي.

ولا يستطيع أحد أن يهرب من الله، كما أنه لا يستطيع أن يخفي شيئاً عن علمه. وكلمته تقول: «كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ لِعَيْنَيْ ذٰلِكَ ٱلَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا». ومعنى هذا أن الله يعرف كل الحياة، ويعلم الكل، ويرى كل شيء.

وبعد برهة من الصمت، استأنف ألفرد الكلام:

- كيف إذن ستقف قدامه؟ وماذا سيكون مصيرك بعد الموت، إن بقيت عائشاً في الشر؟ إنك ستهلك. اوه! كم هو مخيف الوقوع في يدي الله الحي!

هذه الكلمات التي أطلقت في ظل السكون المخيم على الغابة، حركت ضمير إميل وغلبته على أمره. لأن «كَلِمَةَ ٱللّٰهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ». وهذه الكلمة اخترقته وفلحت ضميره. ولم يعتم أن سالت دموعه.

- اوه! يا ألفرد، صرخ المسكين. يا لي من خاطئ كبير! إني هالك! خطاياي أفظع من أن تنال رحمة الله وصفحه وغفرانه! لقد ارتكبت ذنوباً كثيرة، إني هلكت!

- يجب أن تعترف بذنبك، قال ألفرد. إن كنت سرقت، إن كنت كذبت، أو ارتكبت أي ذنب آخر يثقل ضميرك، اعترف بكل شيء لله. إنه على استعداد لأن يغفر لك، ويعطيك نعمة فوق نعمة. فكلمته تقول: «إِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ». المسيح مات على الصليب ليرفعها. ودمه الثمين يطهر من كل خطية.

وفي تلك اللحظة، أخرج الخباز الشاب من جيبه كل ما تبقى منه من المبلغ الذي اختلسه، وناوله لصديقه:

- خذ يا ألفرد، هاك ما تبقى من دراهمك... لقد خدعتك، لقد كذبت عليك. فهل تستطيع أن تسامحني؟ هل يمكن أن يغفر لي الله؟ أنا أظن أنه لن يصفح عن أثيم نظيري! إني هالك!... ثم انفجر بالبكاء.

هذا القنوط من رحمة الله، أثّر في نفس ألفرد إلى الأعماق، فطلب إلى صديقه أن ينظر إلى يسوع، الذي مات على الصليب من أجل أشقى الخطاة.

- اترك اليأس يا إميل، قال الصديق المؤمن: قد تكون خطاياك فظيعة، ولكن المسيح مات لأجلك، ليشتري لك الغفران عن كل خطاياك. ثم فتح الإنجيل، وقرأ له طائفة من الآيات التي تتكلم عن محبة الله ورأفته بالخاطئ.

ولكن كل شيء بدا غير مجد في تهدئة تلك النفس القلقة. لم يكن في مقدور إميل أن يؤمن. صحيح أنه أقر بأنه خاطئ، وشعر بحقارته، إلا أنه بقي في ظنه أن رحمة الله ليست من حقه، ولا يمكن أن تتناوله لكثرة شقاوته. كان ضميره مقتنعاً، ولكنه بقي جامداً حيال هذا الحب الإلهي، الذي يفيض بالنعمة، حيث تكثر الخطية. ولكن الله المحب تابع عمله بالنعمة في حياة ذلك الفتى الضال. وبالفعل ففي الأيام التالية، عمل الروح القدس في ضمير إميل، مبكتاً إياه على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة. مما جعل قلبه ينفتح شيئاً فشيئا لكلمات الإنجيل المعزية التي سمعها. وبعد صراع طويل وجد السلام، بالإيمان بيسوع.

هذه هي نعمة الله العجيبة! فالراعي الصالح وجد خروفه الضال، وحمله على منكبيه، وأتى به إلى بيت الفرح. هناك ذاق إميل طعم السعادة الحقيقية، التي عبّر عنها المرنم الحلو بقوله: «طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ».

حدث هذا في الليلة عينها، بعد تلك النزهة في الغابة. ولما انبلج نور النهار، كانت أولى حركاته، إحاطة معلمه ورفاقه في الشغل علماً بالخلاص العظيم، الذي صنعه الرب له. ولكن هذا النبأ السار، أحدث ردة فعل لدى أولئك. فبدلاً من أن يفرحوا معه ويمجدوا الله، ثاروا وناصبوه العداء! لقد سخروا منه واحتقروه. وخصوصاً المعلم، الذي غلت مراجل الغيظ في صدره، وراح يكيل له الشتائم ويتوعده بكل شر. ثم أخبر أهل القرية المجاورة، حيث يسكن والده. فهرعت أمه وأنبته بعنف.

ولكن في وسط تلك العاصفة الهوجاء من السخط والاحتقار، وقف الرب إلى جانبه، وعزاه وقواه، بحيث لم تستطع زوابع الشر التي أطلقت عليه من عقالها، أن تزعزع إيمانه. ولشد ما كانت غبطة صديقه ألفرد، وهو يعلم بنبأ تجديده. ويا للأيام المباركة السعيدة التي توقع الصديقان الحميمان أن يقضياها معاً!.. كانا كل يوم بعد ساعات العمل، يجتمعان إما في مصنع السروج، وإما في غرفة ألفرد، ترفرف عليهما السعادة. وفي أثناء تلك الاجتماعات، كانا يتشجعان ويتقويان في الرب وفي شدة قوته. في تلك الفترة السعيدة، تعلم إميل عدة ترانيم، راح ينشدها معبراً عن سعادته وفرحه في الرب. وفي كل لقاء، كان الصديقان يختمان اجتماعهما بهذا القرار:

عليك اتكل قلبي

يا يسوع مخلصي

أي شيء يعوزني

بعد أن خلصتني وبررتني؟

ولكن هذه الأيام المليئة بحلاوة الشركة، كانت مزمعة أن تنتهي. وأن تنتهي بحدث مؤلم. فالصعوبات والمقاومات التي كان إميل يواجهها ازدادت، وخصوصاً من قِبَل معلمه الذي أخذ يعامله بصورة فظة.

كان هذا المعلم يستغل طاحوناً إلى جانب مخبزه الكبير. وذات ليلة طلب إلى إميل أن يصعد إلى الطاحون في الطابق الأعلى لإحضار كيس طحين. وتعمّد أن لا يزوده بقنديل، لكي ينير طريقه. فصعد الشاب، دون دمدمة. وفيما هو يتلمس طريق عودته، خرجت قدمه عن درجة السلم، فهوى والكيس على ظهره، من علو عدة أمتار. فركض المعلم مع العمال، والجميع نظروا إميل المسكين، ممدداً على الأرض وفاقداً الوعي. ولما نقلوه إلى المستشفى، قال الطبيب بعد إجراء الفحص الدقيق أن عموده الفقري قد تحطم. وأنه بعد ساعات قلائل سيقضي نحبه.

حين عاد الفتى المصاب إلى وعيه، سأل أن يستدعى صديقه ألفرد. ولما وصل هذا الأخير، ورأى صديقه يتوجع، امتلأت عيناه بالدموع.

- لا تبك يا ألفرد، قال الفتى المائت. لا تبك عليّ، فأنا سعيد أن أموت في الرب. إنني موقن بأن يسوع ينتظرني، فيا لفرحي العظيم!...

قال هذا ثم أغمض عينيه وصمت، حتى ظن من حوله أنه انتهى، ولكنه لم يلبث أن فتح عينيه وقال:

- كم هذا أفضل من أجلي أن أرحل الآن! فربما لو استرجعت صحتي، آتيه مرة أخرى، بعيداً عن الرب.

لكم تألم ألفرد، حين أتت الساعة التي اضطرته للحاق بعمله تاركاً صديقه المحتضر. وتبعاً لذلك، لم تكن به فرصة ليراه مرة ثانية على الأرض.

في الصباح إنطلق إميل من هذا العالم الفاني، فتلقاه يسوع مرحباً وقائلاً: «نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ ٱلأَمِينُ... اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ!».

لقد تعزى ألفرد عن فراق صديقه، حين سمع شهادة الممرض، الذي بقي إلى جانبه، إلى أن أسلم الروح. فقد أخبره هذا الأخير، أن إميل صرف ساعاته الأخيرة مبتهجاً ومرنماً.

5- خلصني من براثن الأسود

في أثناء إقامتي في إحدى مدن حوض المتوسط الجميلة، تعرفت على أحد رجال خفر السواحل المؤمنين. وقد سرد عليّ القصة المثيرة التالية، التي عاش أحداثها:

كنت جندياً في أثناء احتلال مدينة... وخلال الحصار، أنزلت سفننا فيالق من الجند على الشاطئ. ولكن عمليات الإنزال، لم تكن لتخلو من الخطر، لأننا كنا نجهل الأمكنة. والواقع أنه بسبب مناورة خاطئة من قبل المركب الذي أنزلنا، حوصرت سريتنا في مكان لم نستطع الخروج منه. لأن المدافعين إذ أحيطوا علماً بوجودنا، أتت كتيبة منهم، وطوقتنا من كل جهة. ولم نلبث أن وقعنا بالأسر. وفيما الآسرون يقتادوننا إلى داخل المدينة، سار خلفنا جمهور من النساء والأولاد، يرموننا بالحجارة. وبعد ساعة من المسير، أدخلنا من باب المدينة، حيث يوجد مقر الحاكم أيضاً. عندئذ عرفنا مدى الخطر المحدق بنا. وتأكدنا أن كل أمل لنا في النجاة قد ضاع نهائياً.

فيما كنا في غياهب السجن، اجتاحنا حزن أسود، وراودتنا أفكار مظلمة. لأن المصير المشؤوم، كان يشغل أفكارنا. كان السكون سائداً، لا يعكره إلا هزيم المدافع في ساحات القتال.

في مساء ذلك اليوم، وعند غروب الشمس، فتح باب سجننا، وادخل إليه كرسي شبيه بالعرش الذي يجلس عليه الملوك، مع بعض الوسائد. وبعض قليل، دخل الحاكم، وجلس على عرشه بهدوء. فتقدم أحد الخدم، وأعد له غليونه، ثم جاء آخر، وأشعل الغليون. فراح الحاكم يدخن بصمت، وهو يتفرس في وجوهنا، الواحد تلو الآخر. كان وجهه المائل إلى الصفرة جامداً كقناع، يعبّر عن القسوة. وحين احترق كل التبغ الذي في غليونه، أشار إلى أحد الأسرى. فوثب عليه جنديان، وأمسكا به. ثم جاء أحد الحراس، وأزال بلاطة كبيرة من أرض السجن. فبدت فتحة مخيفة، وسمعنا زئير الأسود من خلالها. وفي دقيقة تلاشى صوت المسكين، لأن الأسود الجائعة مزقته والتهمته بسرعة، بحيث وفرت عليه آلام نزع طويل.

ما أن أغلق جب الأسود، حتى نهض الحاكم، وذهب دون أن ينبس ببنت شفة، مخلفاً وراءه أشد عوامل الرعب.

في الغد وفي الساعة عينها، جاء الحاكم، مغلفاً بصمته. وما أن جلس، حتى تكرر المشهد المرعب أمام أعيننا. أي أن أحدنا لاقى المصير الرهيب. وهكذا دواليك، خلال أربعة عشر يوماً. إذ كان الحاكم يأتي كل يوم، عند غروب الشمس، ويجلس على عرشه، ويدخن بصمت الغليون، الذي كان يعد له، وهو يتفحص وجوهنا الواحد بعد الآخر. وما أن ينطفئ غليونه، حتى يشير إلى أحدنا، فيلقي به إلى الهاوية، حيث الأسود الجائعة.

كل واحد منا، كان يعيش في رعب دائم. يرتجف من مجرد الفكر، أن دوره سيكون غداً. فمصيرنا كان مقرراً، إذ تحتم علينا أن نلاقي الموت بنفس الطريقة المرعبة. وهكذا حين كانت الشمس، تميل نحو الأفق، كنت قلوبنا ترتجف، كما لو كانت موجة من برداء الموت تهزنا بعنف.

ولكن إليك ما حدث!.. ففي اليوم الخامس عشر، حوالي المساء، أي في الوقت الذي بدأ فيه شبح العذاب يزحف نحونا، سمع انفجار هائل، اهتزت منه جدران السجن، كما لو ان هزة أرضية حدثت. فجنودنا المنتصرون، نسفوا التحصينات القائمة حول مقر الحاكم. كانوا قد احتلوا المدينة بهجوم مركّز بالسلاح الأبيض. وكل السكان أصيبوا بالذعر، وراحوا يهيمون على وجوههم في كل اتجاه. وهكذا، لم يفكر أحد فينا. وبما أن الأبواب بقيت مفتوحة بعد هرب الحراس، اغتنمنا الفرصة للخلاص والالتحاق بجيوشنا. ولم يسبق لنا أن ابتهجنا مثلما في ذلك اليوم.

تصوروا مقدار فرحنا وشكرنا لله!... فقد أنقذنا من الموت الأشد رهبة، كما بأعجوبة. وذلك في الوقت، الذي كان فيه الرجاء مفقوداً. يا لها من نجاة! إنها قيامة من الموت، لأن الموت كان ممسكاً بنا ببراثنه المخيفة.

أيها القارئ العزيز، لا بد أنك تتبعت أحداث هذه القصة بارتعاش قلب كما تتبعتها أنا، مستفظعاً تلك الطريقة الرهيبة، التي كان يواجه بها الموت، أولئك الأسرى التعساء. ويقيناً، هل تتصور وضعاً أحرج من وضع أولئك السجناء، المحكوم عليهم بالتمزيق ببراثن الأسود الجائعة؟! وأي وضع أصعب من هذا أن ينتظر إنسان ساعة عذابه، دون أن تكون له القدرة على تقديمها أو تأخيرها، أو عمل أي شيء لتلافي المصير المخيف المحتوم؟

نعم، إن هناك مصيراً أصعب، سيواجه كل إنسان لا يؤمن بالله!... في الواقع أن الإنسان، بعد سقوطه المشؤوم على الأرض، دمرته الخطية وألقت به جسداً ونفساً في الموت الأبدي، كما هو مكتوب: «وَأَمَّا ٱلْخَائِفُونَ وَغَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلرَّجِسُونَ وَٱلْقَاتِلُونَ وَٱلزُّنَاةُ وَٱلسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ ٱلأَوْثَانِ وَجَمِيعُ ٱلْكَذَبَةِ فَنَصِيبُهُمْ فِي ٱلْبُحَيْرَةِ ٱلْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، ٱلَّذِي هُوَ ٱلْمَوْتُ ٱلثَّانِي» (رؤيا 21: 8). «إنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رومية ٦: 23)، «وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مَكْتُوباً فِي سِفْرِ ٱلْحَيَاةِ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ ٱلنَّارِ» (رؤيا 20: 15).

هذا المصير، أليس هو أشد هولاً من مصير أولئك الرجال الأسرى، الذين تلونا قصتهم؟ كان هناك وسيلة لخلاصهم، وقد خلص معظمهم فعلاً. والبشر الذين يجول إبليس حولهم كأسد زائر يلتمس من يبتلعه هو، أفلا توجد وسيلة لخلاصهم؟ بلى وألف بلى! توجد كفارة يسوع المسيح، الذي أخذ مكان الخاطئ الأثيم أمام الله. لقد جعل نفسه مسؤولاً أمام العدل الإلهي، عن كل خطايانا. حتى أنه خلال ساعات الالآم، التي تجرعها بدلا منا، صرخ إلى الآب: «إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟». بمعنى أنه ذاق كل مرارة الموت بديلاً عنك أيها القارئ العزيز.

هذا هو الطريق الوحيد للخلاص. هذا هو الطريق الوحيد للنجاة! فليتك تفيد من هذا الباب الوحيد المؤدي إلى الحياة الأبدية، فتدخله وتنجو.

لماذا لم يلق الله حالاً في هاوية الوقائد الأبدية، الأثمة والقتلة، الذين صلبوا ابنه؟ هنا تفجر الحب العجيب، في كل جمالاته: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» ( الإنجيل بحسب يوحنا 3: 16).

فيما كان الإنسان يعبر لله عن حقده الذي لا يغفر، في قتل فظيع، كان الله يغفر للإنسانية، ليس فقط هذه الجريمة الفظيعة، بل أيضاً كل الجرائم. إن حبه يمكن أن يكتفي بخلاص كل خاطئ لقاء ابتلال سيف العدالة بدم ابنه الوحيد.

وهذا من أجلك أيضاً أيها القارئ. فاسرع واقبل هذه النعمة، وحينئذ تستطيع أن ترنم قائلاً:

Table 1. 

كنت في سجن الخطاياعبد ابليس الرجيم    
غير مأمول خلاصيثم نجاني الرحيم    
واشتراني واشترانيذاك بالدم الثمين    
لن يف بالمال دينيذلك الفادي العظيم    
بل فداني بدماهمن عذابات الجحيم    
واشتراني واشترانيذاك بالدم الثمين.    


Call of Hope 
P.O.Box 10 08 27 
D-70007
Stuttgart
Germany