العودة الى الصفحة السابقة
قبلة الموت

قبلة الموت

قصص من الحياة جمعها وعلق عليها اسكندر جديد

اسكندر جديد


Bibliography

قبلة الموت. اسكندر جديد. Copyright © 2007 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . 1972. SPB 8035 ARA. English title: The Kiss of Death. German title: Kuß des Todes. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 D - 70007 Stuttgart Germany http: //www.call-of-hope.com .

على موعد مع الموت

هذه قصة حقيقية بدأت أحداثها في 21 تشرين أول 1947، بعد أن حكم على الشاب الزنجي أرنيست غيتر بالإعدام على الكرسي الكهربائي في مدينة شيكاغو. وقبل موته ترك الشاب شهادته، التي سيبقى ذكرها طويلاً في المنطقة، وربما سيكون لها أثرها في بلاد أخرى من أوروبا وآسيا وإفريقيا، إذا ما نشرت فيها:

في هذا المساء عند منتصف الليل، سأُعدم كقاتل. ولكنني منذ أن وُضعت في زنزانتي، صار لي وقت للتفكير. ويسرني أن يكون في شهادتي، التي ستنشر اليوم في جريدة شيكاغو تحذيراً للمجرمين.

ليس لي من العمر سوى 23 عاماً، ولكنني معد للكرسي الكهربائي. وأنا سعيد جداً في أن أمثل في حضرة الله قريباً جداً.

في هذا الأسبوع، رأيت حلماً سآخذه معي إلى الكرسي الكهربائي. كنت في طريق السماء ويسوع معي، كنت أمشي أربع خطوات، فيما يسوع يمشي اثنتين فقط. فسألني لماذا أسير سريعاً هكذا؟ فأجبته بأنني على عجلة من أمري، لكي أبلغ السماء. ولما وصلت إلى فوق ألفيتني محاطاً بالملائكة الذين استغرب بعضهم أن يدخل مجرم ملحد الديار السماوية! ولكن هذا ما حدث بالضبط.

قبل كل شيء ألقوا نظرة على ماضيّ، منذ أن كنت طفلاً يحبو. فقد حاول والديّ أن يرسلاني إلى مدرسة الأحد، وإلى الكنيسة. وفي أكثر من مرة أعطياني نقوداً لكي أذهب مع أخواتي الصغيرات إلى هذه الاجتماعات. ولكنني لم أذهب أبداً، بل كنت أقنع أخواتي بعدم إخبار الوالدين بأنني كنت أكذب عليهما وأذهب إلى السينما. عند عودتي إلى البيت كنت أدعي بأنني صرفت الوقت في الكنيسة. وهكذا جعلت والديّ يجهلان كل شيء عن تصرفاتي. كانت الجريمة في نفسي، وكانت الأفلام التي أشاهدها من النوع الذي يزكي النزعة الإجرامية. لقد تعلمت منها بعض الطرق التي تساعد على حبك الخطط، وأنني لأذكر ذلك اليوم، الذي فيه شاهدت فيلماً عنوانه «سرقت مليوناً» فما أن انتهى عرضه حتى اندمجت في القصة وتمنيت لو كنت اللص الذي استولى على المليون.

بعد مشاهدتي ذلك الفيلم قررت أن أتعلم الملاكمة، اعتقاداً بأنني إن صرت قوياً، ستتاح الفرص للتخلص في المواقف الحرجة.

وفي الثامنة عشرة من عمري، أرسلت إلى إصلاحية الأحداث في ولاية ألينيوا، لسبب اشتراكي في عملية سطو مسلح. وفي تشرين الأول من عام 1941 اعتقلت كَمُتهم في جريمة سرقة. ولكن أطلق سراحي في حزيران 1946 بعد تعهدي بالإقلاع عن الإجرام. وقد كانت الفرصة مؤاتية لي فعلاً، لكي أتعلم الدرس فأقلع عن صنع الشر، ولكنني لم أفعل، لأن الجريمة كانت قد تأصلت في دمي.

بعد وقت قصير على خروجي من السجن، داهمت مع اثنين من عصابتنا السيد جاكس بارن في مقصفه غربي مدينة شيكاغو. وحين حاول أن يتناول مسدسه للدفاع عن نفسه وممتلكاته وثبت عليه وأطلقت النار من مسافة قريبة فسقط قتيلاً. فسلبناه الثلاثماية دولاراً التي كانت في جرد مكتبه.

على أثر هذه الجريمة هربت إلى نيويورك ثم إلى أتلانتا، حيث اعتقلني رجال الشرطة وأودعوني السجن. وبعد أسابيع قليلة مثلت أمام محكمة جنايات شيكاغو.

بعد المحاكمة وقف القاضي مُعلناً: لقد وجدت مذنباً، وحكم عليك بالإعدام. وهكذا أُرسلت إلى سجن «دياث روي» الذي هو درب الموت.

منذ أيام وفيما أنا واقف وراء قضبان زنزانتي الحديدية، زارتني سيدة زنجية مثلي. هي فلورا جونس، ودعتني لحضور الاجتماعات الروحية التي تقيمها كنيستها في السجن. فنظرت إليها باحتقار وقلت لها بسخرية:

- «لماذا تريدنني أن أحضر؟ فأنا لا أعتقد حتى بوجود هذا، الذي تسمونه الله!».

ومع أنني قلت هذا بلهجة قاطعة، إلا أنَّ السيدة ما فتئت تلح علي بالدعوة. كنت أحس بأنني خاطئ، ولكنني لم أشأ أن أعرف شيئاً عن الله، حتى لو أنه موجود. ولكن يبدو أنّها عنيدة، إذ لم تلبث أن قالت من وراء القضبان شيئاً آثار اهتمامي:

- «إن كنت لا تؤمن بوجود الله، فعلي أن أطلب إليك أن تحاول فقط هذا الاختبار البسيط. وهو أن تطلب إلى الله في هذه الليلة، قبل النوم أن يعلن لك ذاته في ساعة معينة. وعندئذٍ اسأله أن يغفر لك خطاياك».

كان في كلماتها هذه قوة إيمان عجيب استطاعت أن تؤثر في وجداني، وتدخل اضطراباً في كياني. لم أذهب إلى الاجتماع، الذي دعتني إليه. ولكنني صممت على أن أجري الاختبار. وفيما أنا مضطجع في فراشي غمغمت بهذه الكلمات:

- «يا إلهي إن كنت موجوداً حقاً، فأيقظني في الساعة الثانية والدقيقة الخامسة والأربعين».

في الخارج، كان الشتاء سيد الطبيعة بثلوجه ورياحه العاصفة. أما في الداخل فكان سكون، لا يعكره سوى وقع أقدام الحراس بين هنيهة وأخرى... في ساعات الليل الأولى، استغرقت في النوم. ولكنّ نومي الثقيل هذا، أخذ يخف تدريجياً، إلى أن استيقظت تماماً. كنت أشعر بالحرارة، وجسمي يتصبب عرقاً، مع أنَّ جو الزنزانة كان بارداً جداً... كل شيء كان هادئاً بحيث كنت أسمع وقع خطوات الحارس الوئيدة في الممر. وحين اقترب من زنزانتي، سألته:

- «كم الساعة الآن؟».

- «إنّها الساعة الثانية والدقيقة الخامسة والأربعين»، أجاب وهو ينظر إلى ساعة يده.

ما أن سمعت هذه الكلمات، حتى ارتقص قلبي بعنف في صدري. ولعل سحنتي تغيرت في تلك اللحظة. لأن الحارس بعد أن ألقى علي نظرة فاحصة، توارى وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة. وفي عجلته لم يرني وأنا أركع على ركبتي في أرض الزنزانة.

لست أذكر ما قلته لإلهي. ولكنني أعلم بأنني سألته أن يترفق بي ويرحمني، أنا القاتل الجاني. فاستجاب لي، وخلصني في تلك الليلة. ومنذئذ آمنت بيسوع، رباً ومخلصاً.

كنت قد توعدت أحد السجناء بالضرب، في اليوم التالي. ولكن في الصباح كنت إنساناً جديداً صانعاً سلاماً. ولما ذهبت إليه لأعتذر تراجع إلى الوراء وقال:

- «ليست لدي رغبة في القتال معك، لأنك تحسن الملاكمة، وأنا أخشى على نفسي من بطشك».

- «لست أريد القتال»، قلت له بكل لطف. «بل جئت لكي أطلب إليك الصفح عن استفزازاتي الوقحة».

ومع أني كنت صادقاً في ما قلته، إلا أنَّ السجناء تجمعوا حولنا، وعندهم الرغبة في أن يروننا نتقاتل. ولكنهم خابوا في رغائبهم، لأن الذي خلصني من آثامي، جردني أيضاً من رغبتي في المشاكسة والاقتتال.

بعد قليل سرت إشاعة في السجن، بأنني انصرفت إلى التأملات الروحية، محاولة مني لكسب العطف، لكيلا أذهب إلى الكرسي الكهربائي. ومع أنًّ هذا الأمر، لم يكن في حسباني، فقد رُفعت قضيتي إلى محكمة إلينيوا العليا. ولكن المحكمة أصدرت تأييداً لحكم الموت الذي صدر علي. وهذا التأكيد مع أنه آلمني كثيراً، إلا أنه لم يؤثر على إيماني.

إنني عالم وموقن الآن، بأن هذا الإيمان، سيذهب معي إلى الموت. ولهذا لست بخائف من الموت، كما ترون. بيد أنني قبل موتي أريد أن أترك رسالة للشبان:

- يا شبان العالم في كل مكان! اخدموا المسيح، فيما أنتم بعد أحداثاً. اسلكوا طريق البر، وهو سيحفظكم في الصراط المستقيم.

حين يبدأ أحد بالقتل، يغلب على أمره. ويصبح الإفلات من قبضة نزعة الجريمة صعباً جداً، إن لم يكن مستحيلاً. ممارسة الجريمة مثل ممارسة التدخين، أو التعود على احتساء المسكر، بحيث يصبح الممارس عبداً لا يستطيع التحرر من نير عبوديته.

حين ستقرأون قصتي هذه أكون قد مت. ولكن أسألكم برأفة الله، أن تقبلوا نصيحتي وهي نصيحة عظمى تعلمتها من الإنجيل:

«إِنَّ أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ ٱللّٰهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية 6: 23). هذه حقيقة اكتشفتها، وتأكدت تماماً من صحتها.

٭ ٭ ٭

22 تشرين الأول 1947

في هذا اليوم أبلغني مدير السجن، السيد فرانك، أنًّ الحاكم غرين منحني إرجاء تنفيذ حكم الموت الصادر علي إلى 24 تشرين الأول.

٭ ٭ ٭

23 تشرين الأول 1947

في هذا اليوم، ما زلت سعيداً، لا يكدرني شيء، ولا يخيفني شيء. سأموت غداً عند منتصف الليل.

٭ ٭ ٭

جاء بيتر نانس، قسيس السجون ليرافق أرنيست غيتر إلى الكرسي الكهربائي. وقد وصف لنا الدقائق الأخيرة، التي عاشها هذا المحكوم عليه، فقال:

- لقد رخص لي بأن أزور أرنيست في زنزانته حوالي ساعة، قبل منتصف الليل - حين دخلت عليه، ابتسم لي وحياني. كان هناك قسيس أسود، في يده الكتاب المقدس. فناولني الكتاب العزيز، وسألني أن أقرأ فصلاً منه. فاخترت الأصحاح الأول من الرسالة إلى أهل فيلبي. ولما بدأت بالقراءة، أحنى أرنيست رأسه، وأصغى بخشوع وبكل اهتمام وخصوصاً حين قرأت قول الرسول: «لأَنَّ لِيَ ٱلْحَيَاةَ هِيَ ٱلْمَسِيحُ وَٱلْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ... لِيَ ٱشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ ٱلْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدّاً» (فيلبي 1: 21-23). ويبدو أنَّ هذه العبارات وعبارات المزمور الثالث والعشرين كانت محبوبة لديه. وقد استراحت نفسه تماماً حين قرأت له العدد الرابع من هذا المزمور: «أَيْضاً إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ ٱلْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرّاً، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَّزِيَانِنِي» (مزمور 23: 4).

حين دقت الساعة معلنة آخر فترة من حياته، تلى أرنيست هذه الآية الرابعة من المزمور 23، الذي يحفظه غيباً. كان الحراس واقفين على الباب يسمعون، دون أن يتفوهوا بكلمة. وإنما أعين بعضهم كانت مملوءة بالدموع.

في الساعة الحادية عشرة والنصف، بدأنا ننشد ترانيم وتسابيح روحية. وقد شاء أرنيست أن يغني الترنيمة التي مطلعها: «حين يرن نداء الله، سأكون مستعداً» وحين رفع صوته بالترنيم، ارتج المكان. وراحت قناطر وجدران وممرات السجن، تردد صدى صوت المرنم الأسود، وهو يصدح بكلمات هذه الترنيمة الرائعة. وبعد أن شدا بآخر مقطع من الترنيمة. قال: نعم يا يسوع، ها أنذا وعندئذ تقدم أحد الحراس وقص شعر الرجل ذي الصوت الرنان.

قبيل منتصف الليل بدقائق معدودة، صلى أرنيست بصوت خفيض قائلاً «يا رب حين دخلت هذا السجن، كنت أكره هؤلاء الحراس، ولكنني الآن أحبهم يا رب! يا الله، إني أحب كل البشر». ثم صلى من أجل كل الذين ألحق بهم الأذى، وصلى من أجل أمه، سائلاً الرب أن يباركها. ثم ختم بالقول: «أنا لا أموت بالكهرباء، بل سأجلس على الكرسي لكي أرقد».

بعد لحظات وضع القناع الأسود على رأسه، ومشى مسافة أخيرة لا تتجاوز بضعة أمتار، وإلى جانبه عدد من الحراس، تبدو الإثارة على وجوههم. فشعر أرنيست بهذا، وقال لهم:

- «لماذا تضطربون هكذا؟ أنا لست خائفاً!».

حين رُبطت يدا المحكوم عليه إلى الكرسي الأسود، كان خمسة وسبعون شاهداً، ينظرون عملية التنفيذ. وبعد دقيقتين امتدت يد وضغطت على زر الآلة! وفي منتصف الليل تماماً، تخللت الشحنة الكهربائية جسم أرنيست، فصعدت روحه إلى الله معطيها. وحوالي الساعة الثانية عشرة والربع، كان خمسة أطباء يؤكدون واحدهم تلو الآخر موت المحكوم عليه.

ولكنني أعلم أن أرنيست غيتر الحقيقي، بقي حياً. فقط جسمه هو الذي مات... وفيما أنا أغادر السجن، تذكرت الآية التي كان يحبها «لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح».

وأنت أيها القارئ الكريم! لعلك تأثرت بهذه القصة المثيرة. ولكن ليس هذا هو المهم. بل المهم هو أن تكون مستعداً في أي لحظة للمثول في حضرة إلهك. بهذا يوصي نبي الله عاموس إذ يقول: «فاستعد للقاء إلهك» اعترف بذنبك والرب يرفع آثام خطيتك، كما هو مكتوب في الإنجيل:

«إِنِ ٱعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (1 يوحنا 1: 9).

قبلة الموت

في يوم من أيام الشتاء، وصلت سيدتان ملهوفتان إلى باب المستشفى. وكانت إحداهما تحمل طفلة ملفوفة بحرام صوفي. ولما أُضجعت الطفلة على سرير في المستشفى كانت غائبة عن الوعي.

كانت الطفلة في الثالثة من عمرها، وقد نهضت في الصباح مبتهجة مشرقة بالصحة والجمال. والآن؟ كانت أيضاً جميلة. ولكن شاحبة كالموت نفسه. كانت مضطجعة بلا حراك، وعيناها نصف مطبقتين. وصدرها يعلو وينخفض، تبعاً لحركة تنفسها اللامنتظمة. أما جبهتها الصغيرة المكللة بهالة من شعرها الذهبي الأجعد، فكانت محاطة بضمادة، تخفي وراءها ثقباً صغيراً أحدثته رصاصة أطلقت عليها. كان الثقب صغيراً، ولكنه هائل جداً، نسبة لما أحدثه من عطب في الدماغ.

كانت الطفلة المسكينة لا تعي ما حولها، ولا تحس بأي ألم وبالطبع لم تكن عالمة بأنها ليست في بيتها بالقرب من ماما الحبيبة! وفيما هي مُضجعَة، أخذ صدرها يعلو وينخفض بأكثر سرعة مع ازدياد في سرعة التنفس. وبعد هنيهة، أخذت أجفانها بالانحسار ببطء عن عينيها الزرقاوين، اللتين راحتا تنظران إلى ما حولها، كما في حلم. وشيئاً فشيئاً أدركت أنها في محيط غريب، عندئذ بدا القلق يرتسم على وجهها المكمد، ولم تعتم أن امتلأت عيناها بالدموع.

كانت الأخت بياتريس قد انسحبت إلى ما وراء الحاجز لكي تتجنب الطفلة الأثر الممكن أن يحدثه وجود غريب بالقرب منها في مثل هذه الحالة. ولكن حين ذرفت الطفلة الدموع. دنت الأخت منها وراحت تمسح لها دموعها. ثم داعبت وجهها الشاحب بلمسة لطيفة. فتوقفت الدموع وراحت العينان الزرقاوان تتفرسان في وجه الراهبة. وبدأت شفتاها المحمرمتان بامتصاص السائل المقوي الذي قدمته لها الأخت بياتريس بملعقة صغيرة. وكررت الأخت تقديم السائل، ثلاث مرات متتالية. وعندئذ تحول تعبير العينين الزرقاوين من التساؤل إلى الاعتراف بالجميل، ثم بابتسامة باهتة ارتسمت على ثغرها. وبعد ذلك دخلت الصغيرة في إغفاءة، أتاحت لها برهة من الراحة.

في ذلك الوقت كان الطبيب في غرفة الأشعة، يفحص الصورة التي أُخذت لرأس الطفلة. إنها بحالة بالغة الخطورة! قال في نفسه. هنا إلى اليمين اخترقت الرصاصة الدماغ. ثم ارتدت إلى اليسار حيت ارتطمت بالعظم، وارتدت إلى الوراء مخترقة الدماغ في مكان آخر، ومعطلة أعصاب النطق والسمع.

- إنّ الأمل ضعيف جداً في إنقاذ الطفلة، قال الطبيب للأخت بياتريس، حين عاد إلى غرفة المصابة. ربما أستطيع إنقاذ حياتها بعملية جراحية ولكن لن يكون في مقدوري إعادة الصحة إليها، فستبقى خرساء ومشلولة، وربما بلهاء أيضاً. كيف ترك أبوها المسدس محشواً هكذا؟

فقصت الأخت بياتريس، ما سمعته من أم الطفلة عن ظروف الحادث. كان هذا المسدس في حوزة الأب، قبل زواجه بوقت طويل. لقد أرسل إليه بالبريد ضمن طرد، لم يفتحه إطلاقاً، بل اكتفى بوضعه في أحد الأدراج، وبمرور الوقت نسيه تماماً. وفي ساعة الحادث، وجد طفله الأكبر الطرد. ولما فتحه ورأى ما بداخله ظن أنه لعبة اشتراها له والده، تمشياً مع وعده له. وفي غمرة سروره تناول المسدس وصوبه على أخته الصغيرة وضغط الزناد، فكان الحادث الفاجع.

كان الطبيب في أشد حالات التأثر، حين رأى الطفلة على وشك التخلص من آلامها نهائياً. ولكن الوالدين التاعسين! والصبي المسكين، الذي لن يكون في وسعه أن ينسى الحادث الأليم ما بقي حياً.

- آه! لو كان في وسعي أن أنقذها، قال الطبيب.

في تلك اللحظة تحركت الصغيرة. كانت تود أن تقول شيئاً ما ولكنْ شفتاها لم تستطيعا أن تتلفظا بكلمة. فقط ندّ عنهما، بعض المقاطع الصوتية المبهمة الخافتة. واتبعت تلك الأصوات بحركة من يدها مست بها ذراعها المشلولة، محاولة بذلك أن تجمع يديها، كما لو كانت تطلب شيئاً ما. فقدمت لها الأخت بياتريس ملعقة مليئة بالحليب، لكن الطفلة أطبقت شفتيها وأرسلت فيضاً من الدموع. فحملت إليها الأخت إحدى العرائس الموجودة في الغرفة، محاولة أن تعزيها بها، ولكن دون جدوى. إلا أنها بعد قليل، حركت ذراعها، كأنها تريد أن تطوق بها عنق أحدهم. ففهمت الأخت بياتريس أنها تود أن تُحمل. ولكن هذا الأمر كان من المحظورات. فاكتفت الأخت بأن وضعت ذراعيها حول جسم الصغيرة، وبدا أن هذه الحركة أدخلت سروراً إلى قلبها.

كانت حال الطفلة في كل ساعة، تسير من سيء إلى أسوأ. وكان الوالدان يتشاوران مع الطبيب في ما يجب عمله. فلم يخف الطبيب عنهما خطورة الحالة. ثم جاء الليل، يدعو الناس إلى الراحة. ولكن ملاك الموت كان يزحف في اتجاه الطفلة.

جثا الوالدان أمام سرير صغيرتهما الحبيبة، التي لم تكن لتعرفهما في تلك الساعة. ولكم سفحت الأم من الدموع! وهي ممسكة بيد أعز مخلوقة لديها. ممطرة تلك اليد الصغيرة بقبلاتها. كانت تفضل أن تعطي ابنتها لله، على أن تراها عائشة في البؤس. أما الأب فكان يخوض معركة قاسية في داخله:

- «يجب أن تنقذ لي ابنتي يا دكتور! إن كنت لا تنقذها فستجعل مني ومن ابني ليس قاتلين وحسب، بل أيضاً معذبين طول الحياة».

فيما الأب يتأوه ويئن، بدأت أسنان الصغيرة تصطك بفعل تشجنات الدماغ. وتبع ذلك رجفان في الجسم كله، من جراء الآلام التي كانت تعانيها. وبعد لحظات خرج الزبد من بين شفتيها.

- «أخت بياتريس» قال الأب، الذي خرج للتو من معركته الداخلية. «أرجوك أن تقولي للطبيب، أن يعدل عن إجراء العملية. لأن ليس إلا الله وحده يستطيع أن يساعد طفلتنا ويعيننا نحن على تحمل عذابنا».

وأخيراً طلع الفجر، وبقدر ما كانت آلام الصغيرة تزداد، كانت صلاة الوالدين ترتفع بأكثر حرارة.

- «يا رب خلص صغيرتنا، من هذا العذاب - خذها إليك! كن معيناً لنا! لا تجعلها تتألم طويلاً».

فيما كان الوالدان يصليان. كانت التشنجات تخف شيئاً فشيئاً. وأخذ القلب يدق ببطء أكثر ومع إشعاعة خيوط الشمس دنا ملاك الموت وطبع قبلة على شفتي الصغيرة.

فيما كان الأولاد يجتازون الشارع، ذهاباً إلى المدرسة. تخلف واحد منهم في الخامسة من عمره، وسار ركضاً في اتجاه المستشفى. كان منقلب السحنة تائه النظرات، لا يلوي على شيء. وما أن وصل المستشفى حتى اتجه نحو قسم الأطفال. وفيما الوالدان يذرفان الدموع، اقتحم الصبي باب غرفة الموت، وأطلق صرخة ألم جعلت الأبوين يرتقصان رعباً.

- «بابا! بابا سامحني! بابا لا تسخط علي! بابا هل هيدي تتوجع كثيراً؟ إنها ستشفى قريباً، أليس كذلك؟ إنها لن تموت حبيبتي أختي!».

قال الطفل هذا، ثم ألقى نظرة قلقة في اتجاه سرير الموت الذي لفته الأخت بياتريس بغطاء أبيض.

هذه الصرخة المتكررة «بابا» كانت تعبر عن آلام رهيبة عاصفة في قلب الصبي المسكين، ولم تلبث أن تحولت إلى توسلات يائسة. عندئذ انحنى الأب متأثراً بالصرخات المتوجعة وطوق فتاه الصغير بذراعيه.

- «لا لوم عليك يا حبيبي» قال الأب. «أنا لست ساخطاً عليك! أنت لم تقصد هذا!... إن الله رحوم وسيغفر لنا، وقد ساعد هيدي».

- «أين ماما؟» سأل الطفل. وعيناه تحاولان اختراق الغطاء الأبيض. لأن الأم المنكوبة بأعز شيء ما كان في وسعها أن تقول له شيئاً ولكن الأب أوقف تساؤلاته. وبجهد شديد، استطاع أن يسيطر على حواسه ليقول له:

- «إن هيدي عزيزتنا لم تمت، بل صعدت إلى السماء. لقد جاء المخلص وأخذها إلى المكان الذي أعده لها. هناك سيعيد لها صحتها».

كان الأب يتكلم بصوت هادئ يحمل في نبراته التعزية والتشجيع. ولكن الطفل المذعور، نظر في وجه أبيه ثم قال:

- «بابا، إنَّ الناس يقولون إنَّ هيدي ماتت. وغلام الخباز قال إن ماتت أختي فسأكون قاتلاً... فهل أنا هكذا فعلاً؟!».

كان الأب يبذل أقصى الجهود لكي يسيطر على أوجاعه، ويقول لطفله بلهجة من يؤكد الأمور.

- «كلا، لست قاتلاً والرب المخلص يعلم بأنك لست هكذا. إنه يعلم بأنك لم تشأ الأذى لأختك. إنه يصفح عنك، كما نصفح نحن عنك. ويطيب لنا أن نشكره لأنه أخذ هيدي حبيبتنا إليه. لأن الأشياء عنده أجمل وأكمل منها عندنا. وهيدي أكثر سعادة هناك. ونحن سنذهب ذات يوم لنلتحق بها في ملكوت المسيح. وسنعيش مع الحبيبة في تلك الديار اللؤلؤية، إلى الأبد».

لم يسمع الصبي هذه الكلمات الأخيرة فقد قضى الليلة الماضية، قابعاً وراء أحد المقاعد. وكان كلما سمع خربشة أو ضجة في الخارج يتوهم أنَّ رجال الشرطة قد جاءوا للقبض عليه. والآن فيما هو بين ذراعي والده استولى عليه سلطان النوم. وأخيراً حمل الأب الطفل، الذي حطمه العذاب وعاد به إلى البيت.

هذه ليست قصة من ابتداع كاتب، بل هي حادث حقيقي. لذلك يجدر بنا، أن نتأمل في مغزاها. فالأب برهن في محنته القاسية وآلامه العميقة عن حب عجيب، تغلب به على التجربة. فمع أنه تعذب بالفكرة التي تجعله مسؤولاً عن موت صغيرته المحبوبة، إلا أنه استطاع بإيمانه أن يتأكد من صفح الله. ليس عنه وحسب بل أيضاً عن ابنه. وإلا كيف كان في وسعه أن يكلمه هكذا؟

عظيم هو الإيمان بأن الله رحوم، وبأن رحمته تتناولنا في أقسى المحن، التي نجتازها. ولكن رحمته لا تأتي هكذا عفوياً، وإنما يجب على سائلها، أن يطلب الله في المسيح يسوع، وفقاً لتعليم الكتاب المقدس.

قد يحصل لك أيها القارئ كما يحصل لي، إنك تقع في البؤس. فتكافح وتناضل للخروج منه، وللتعويض عن الأذى الذي سببته حولك. ولكنك لا تستطيع. لأن الظروف أقوى منك. ولكن الله يشفق عليك، ولا يمكن أن يتركك تئن في اليأس، إن كنت تطلبه. تعلم وأنت في عمق أعماق القلق. أن تمسك بيد الله الشفوقة. وحيئذ سترى عجباً، كيف أنه يتجاوب مع الثقة فيه. يتجاوب بالتعزيات، التي يخرجها لك من قلب التجربة.

الرب يسوع في محبته لا يتصرف وفقاً للناموس القائل عين بعين وسن بسن. إنه لا يصنع معنا حسب خطايانا، ولا يجازينا حسب آثامنا (مزمور 103: 10).

آه! ما أعظم جودة الله ومحبته! إننا لن نستطيع الدهر أن ندرك عمقها!... إننا لا نستطيع أن نلم بحسناتها. ولكن برهانها طهرنا في رحمة الله، الذي لم يشفق على ابنه بل بذله من أجلنا أجمعين، فكيف لا يهبنا معه كل شيء؟

هذا ما تستطيع أن تدركه، وتبني حياتك ومستقبلك عليه. إنه يلزمك إله كهذا، لكي تواجه كل الحالات. هذه حقيقة تختلف عن جميع التقولات السطحية عن الله الصالح.

ولكن لنحذر من اتخاذ هذه البشارة السارة، سبباً للتراخي والإهمال! لأن هدف رحمة الله ليس هو هكذا! فالله لا يخدع بأي إنسان يحب ذاته أكثر مما يجب فيضن بحياته على الله.

في هذه النقطة يجب أن ننظر بأمانة إلى الآب السماوي الذي أعطى أعز ما لديه. وعندئذ نعرف أكثر عن محبته الفائقة. وقد حذرنا الرسول بولس بقوله: «هُوَذَا لُطْفُ ٱللّٰهِ وَصَرَامَتُهُ: أَمَّا ٱلصَّرَامَةُ فَعَلَى ٱلَّذِينَ سَقَطُوا، وَأَمَّا ٱللُّطْفُ فَلَكَ، إِنْ ثَبَتَّ فِي ٱللُّطْفِ، وَإِلاَّ فَأَنْتَ أَيْضاً سَتُقْطَعُ» (رومية 11: 22).

نجوت من الغرق

كان الموسيقيون الأربعون، المنتخبون من أشهر الفرق في العالم، يعزفون منذ ثمان وأربعين ساعة بقيادة رئيسهم. ولكن فيما هم يلعبون إحدى مقطوعاتهم الرائعة، توقفوا فجأة أمام حقيقة الموت الداهم. وألقو بآلاتهم الموسيقية على الأرض.

فالباخرة الجبارة تيتانيك التي جُندِّوا لإبهاج ركابها، اصطدمت بجبل من الجليد، وشُقَت في جانبها، ولا يمكن لقوة في الوجود منع المحيط من ابتلاعها في جوفه الكبير.

في تلك الساعة الرهيبة شوهد قباطنة وبحارة الباخرة في زيهم الرسمي متجمعين على الجسر وهم ينشدون:

يا إلهي إليك أقرب، إليك أقرب

هذا صراخ إيماني. إليك أقرب

حين تأتي التجربة وتفيض كنهر

إليك أقرب فأقرب

- «حدث هذا منذ أربعين عاماً» قالت السيدة إيكارد إحدى الناجيات من الغرق، والتي تجاوزت الآن الثمانين من عمرها. كان هذا في أثناء عودتي من رحلة حول العالم، حيث كنت مرافقة للسيدة ستون الثرية، التي كانت مولعة بالأسفار. لقد طفنا معاً كل بلاد الدنيا تقريباً. وفي أثناء فصل الشتاء الذي قضيناه في مصر، ذهبنا إلى الأرض المقدسة، فزرنا مدينة القدس وبيت لحم وتنزهنا على ضفاف الأردن. ومن الأماكن التي زرناها قبر المسيح، وقبر راحيل...

هذه الرحلة أثرت فيّ، أكثر من أي رحلة أخرى، لأنها وجهت أفكاري وعواطف قلبي إلى المعلم الإلهي، الذي وطأت قدماه ذلك التراب المقدس. كنت أمشي باحترام على هذا الصعيد الذي مشى عليه الفادي الرب.

بعد أن عدنا إلى أوروبا، وقضينا وقتاً في باريس ولندن. ركنبا الباخرة تيتانيك. من ميناء سوتهامبتون في 8 نيسان 1912. فقد أصرت السيدة ستون على السفر على أكبر باخرة في العالم. ومع أنه خامرني شعور معاكس لهذه الرحلة، إلا أنني أمام افتتان سيدتي بهذه الرحلة لم أرَ بداً من النزول عند رغبتها. وخصوصاً أنَّ السيدة كانت منجذبة بوجود عدد كبير من علية القوم وببعض الأمراء على متن السفينة التي بُنيت حديثاً.

إن كانت هناك رائعة من عابرات الأطلنتيك الكبرى، فهي بلا ريب التيتانيك. التي يمكن وصفها بالمدينة الجميلة العائمة، بشوارعها ومسابحها، ومقاهيها، ومطاعمها، ومراقصها. ومسارحها، وفرقها الموسيقية، وخصوصاً صالوناتها المزدانة باللوحات والمرايا الثمينة، والفرش البديع والأزاهير، والنباتات النادرة الموضوعة هنا وهناك. وكانت مزودة بمصاعد لحمل الركاب من طابق إلى آخر.

إنَّ الأيام الأربعة التي انقضت على متن التيتانيك كانت سلسلة من أعياد فخمة ومآدب فاخرة، تخللتها أروع الألحان الموسيقية. كل شيء كان جميلاً بهياً لامعاً، يعيد إلى الأذهان الأعياد التي كانت تُقام في قصور أعظم الملوك مجداً وثراءً. كل يوم زينة جديدة ووسائل جديدة لمسرة القلب. وفي كل يوم عرض جديد للمجوهرات، واللآلئ الثمينة، وحجارة الماس النادرة. مما كان يحرك رغائب السيدات، اللواتي كن يرفلن بأبهى الحلل ويتزينَّ بأثمن الحلى.

في يوم الأحد، هبت رياح باردة كما في مجاهل سيبيريا. وكنا آنذاك في مياه العالم الجديد. وهذا البرد المفاجئ اضطرني لمغادرة جسر السفينة، والنزول إلى مقصورتنا طلباً للدفء.

بعد ظهر هذا اليوم أرسلت الباخرة الفرنسية تورين برقية جاء فيها: «حذار جبال الجليد العائمة!» ولكن رئيس شركة التيتانيك قال:

- «اطمئنوا لأن التيتانيك لا يمكن أن تغرق».

أما الكابتن سميث ربان الباخرة فلم يكن من هذا الرأي، إلا أنه بالرغم من تحفظاته وملاحظته لم يجد بداً من متابعة الإبحار، إنفاذاً لأوامر الرئيس الذي أصر على زيادة السرعة، لكي تحصل السفينة على جائزة الشريط الأزرق.

في المساء حوالي الساعة الحادية عشرة ذهبنا للنوم. وحوالي منتصف الليل فوجئنا برجة هائلة، ألقت بنا عند أسفل السرير. فخرجت من المقصورة مذعورة، لأرى ماذا حدث على الجسر. وهناك أُحطت علماً بالكارثة أنَّ الباخرة اصطدمت بجبل من الجليد العائم. فعدت أدراجي إلى المقصورة، وساعدت سيدتي على ارتداء ملابسها ووضع منطقة النجاة حول جسمها. وبعد ذلك، ارتديت ملابسي ومنطقة النجاة، ثم صعدنا كلتانا إلى الجسر.

كان الجسر نصف مغمور بالمياه، والسفينة مائلة بصورة مخيفة، في اتجاه الهاوية. كان علينا أن نمسك بأي شيء لكي لا ننزلق. وهنا بدت لأعيننا مشاهد لا تُنسى من الذعر، إلى جانب بطولات في أعظم مظاهرها. فالقباطنة والبحارة، كانوا في الحقيقة أبطالاً. فبكل هدوء بدأوا يحملون السيدات والأولاد بين أذرعهم وينقلونهم إلى قوارب النجاة.

- «ليس لديكم سوى 25 دقيقة»، قالوا لنا، «لكي تبتعدوا! لأن المكان سيتحول عما قريب إلى هاوية مخيفة مبتلعة، تنزل إلى جوفها الفظيع كل ما يوجد في قرب مكان غرق السفينة».

لقد شاءت عناية الله أن أوجد مع السيدة ستون في نفس القارب. وحالما أُنزل قاربنا إلى الماء قال القبطان لنا:

- «هيا جذّفوا بسرعة ولا تنسوا أن لديكم 25 دقيقة فقط لكي تنقذوا حياتكم».

تناولت المجذاف ورحت أضرب به صفحة الماء، بكل ما أملك من قوة. وفيما كنت أجذّف شكرت الله لوجودي في القارب، ووضعت مصيري بين يديه. وسألته إن كان لحياتي على الأرض من لزوم، وإن كان لي ما أعمله، فليبقني في الحياة! وهذا ما حدث فعلاً تمشياً مع جودته إذ أبقاني في الوجود. وفي نهاية الحرب العالمية الأولى ذهبت إلى كاليفورنيا ثم إلى الجزائر، لكي أحتضن أربعة أطفال يتامى تركتهم أختي المتوفاة عام 1918.

كم يجب أن نشكر الله لأنه في الظروف الأشد حراجة نستطيع أن نستصرخ اسمه، فيهب إلى نجدتنا. هذا ما اختبرته في تلك المحنة القاسية التي اجتزتها. لأنني تشبثت بالله بالإيمان فخلصني وجعل أمامي فرصة لكي أخدمه.

بعد غرق التيتانيك بأربع سنين وقف شاب إيكوسي يتكلم في اجتماع تبشيري فقص على سامعيه ما يأتي:

- لقد نجوت من الغرق الذي ذهبت ضحيته تيتانيك بأعجوبة. ففيما أنا أتخبط في اليمّ وجدت قطعة عائمة من حطام الباخرة فتشبثت بها. فراحت تتمايل بي ذات اليمين وذات الشمال في حلكة الليل. فجأة دفعت إحدى الموجات إلى قربي جان هاربر، واعظ مدينة غلاسكو الذي كنت أعرفه، وكان مثلي متشبثاً بقطعة حطام.

- «يا صديقي» قال لي «هل خلصت»؟

- «كلا لم أخلص بعد»

- «آمن إذن بالرب يسوع فتخلص»

«وما أن قال كلمته هذه حتى جاءت موجة وباعدت بيننا. ولكن يا للصدفة العجيبة! فإنَّ موجة أخرى جمعتنا ثانية، فكرر سؤاله»:

- «والآن هل خلصت»؟

- «أقول لك الحق، إنني لا أستطيع التأكد».

«فبذل مجهوداً كبيراً حتى استطاع أن يقول لي ثانية»:

«آمن بالرب يسوع فتخلص»!

«ما أن لفظ آخر مقطع من دعوته الخلاصية لي، حتى وهنت قواه وغاص في أعماق اللجة، ولم أره فيما بعد. ولكنني في تلك الليلة الرهيبة حيث كان تحتي ثلاثة آلاف متراً من المياه، آمنت بالرب يسوع من كل قلبي. وكنت آخر من اقتاده جان هاربر إلى المخلص».

أيّها القارئ الكريم:

إنَّ العالم اليوم ليشبه تلك السفينة البديعة العائمة على محيط الأزمان. إنه سفينة لامعة بأنوار العلم، ومعرفة الأسرار النووية. وهو يسرع إلى لقاء أكثر كوارث الغرق..

جاء في التقارير أنه من بين الأربعة آلاف راكباً، الذين كانوا على متن التيتانيك، لم ينج سوى سبعماية وخسمة وأربعين. فكثيرون ذهبوا عليها، ولكن للأسف فإنَّ قليلين منهم وصلوا إلى ميناء السلامة.

إنّها لصورة واضحة لحالتنا الحاضرة، ترنح أحمق لأفكار البشرية. التي تدّعي معرفة كل شيء. وتسكر بعلمها وفلسفتها.

- حذار جبال الجليد العائمة، هكذا يصرخ الملاحون الغيورون محذرين الناس من أخطار السير في طريق الموت. إنهم بحيازتهم البوصلة السماوية، التي هي كلمة الله، صاروا مُعَدِّين لقيادة العالم في اتجاه نور الحياة.

والواقع أنهم منذ قرون، يستحثون الضمير الإنساني لكي يستيقظ من سبات نوم الموت. إنهم ينادون عالياً، بالشهادة المخلصة حتى في وسط الكراهية والاضطهاد. ولكن رؤساء كثيرين من نوع رئيس التيتانيك يقفون ويقولون لا تخافوا شيئاً. إنكم لا تستطيعون أن تغرقوا، على أن تأكيداتهم لا تمنع العالم من الركض إلى الهاوية.

آه! هل في وسعنا النجاة كتلك السيدة وذاك الشاب الإيكوسي اللذين خرجا بالسلامة من أكبر حادث غرق؟ اسأل الله أن يخرج الناس من ضلالهم من أنانتيهم، ومن كبريائهم التي تحاول الإلقاء بهم في هاوية الموت.

«سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي» (مز 119: 105)، هذه هي البوصلة التي يحتاج إليها جيلنا. والتي تستطيع أن تقودنا جميعاً إلى ميناء السلام إلى السماء مع يسوع.

إسكاف همبورغ

في أمسية من أمسيات الربيع، كان جمهور من المتنزهين يخترقون أحد شوارع همبورغ، ذهاباً إلى «التون» لشرب القهوة والاستمتاع بسماع فرقة موسيقية وهي تعزف هناك. وكان في إحدى زوايا الشارع إسكافي اسمه هانس، يعمل أمام باب بيته، بتصليح حذاء عتيق. وقد جثم على رأسه عصفور يغرد وكأنه يكلم سيده!

- «يا لك من عصفور سعيد»! قال هانس. «ولماذا لا تكون سعيداً وأنت لا يعوزك شيء! وأنا أيضاً مسيحي سعيد، لأنني حصلت على نعمة هذه مقدارها، إنَّ الله فداني بدم ابنه يسوع المسيح». ثم راح يغني بعض الترانيم الدينية وفيما هو منشغل، توقف أحد المارة وقال له:

- «هيه يا صديقي! يبدو أنك سعيد تماماً»..

كانت هيئة المتكلم تدل على أنه طالب. فرفع هانس عينيه وتفرس في وجهه ثم قال:

- «سعيد، بلا شك إنني سعيد! ولماذا لا أكون سعيداً»؟

- «ليس في وسع الجميع أن يقولوا هكذا». أجاب الطالب وهو يصعِّد أنفاسه. «لعل في فقرك، أكثر من سبب للحزن والمرارة. ولكنني أفترض أنك لست مكلفاً بإعالة أحد سوى هذا العصفور، الذي يبدو لي أنه هو الآخر سعيد مثلك».

- «ولماذا لا يكون رفيقي الصغير سعيدا»؟ قال الإسكافي «ولكن اعلم أيها الشاب أن لي زوجة وسبعة أولاد، أعولهم من ثمار عمل يدي. ومع ذلك فإني كما ترى أستطيع أن أعبر عن سروري بالترنيم من كل القلب».

فكر الطالب في نفسه وأجرى بعض المقارنات. كان متمتعاً بالشباب والصحة والثراء، ولكنه لم يكن حائزاً على السلام مع الله. إنه لا يعرف يسوع المسيح. لأنه كان يهودياً، وفي قلبه فراغ كبير.

لقد ذهب إلى الحديقة العامة، طلباً للسلوى بالاستماع إلى الموسيقى، ولكنه لم يجد ما يشبع نفسه. وحينئذ تذكر ما قاله الإسكافي. والذكرى أوجدت في نفسه دافعاً يجذبه إليه. ليعلم المصدر الذي يستطيع إنسان رقيق الحال أن يستمد منه وسائل فرحه وسعادته. ولما وصل قال له:

- «أعترف بأنني فوجئت بأن أرى عاملاً فقيراً مثلك على هذه الحال من الفرح الدائم».

- «فقير! هتف هانس «إنك لمخطئ في كلامك هذا يا سيدي، فأنا أغنى أكثر مما تتصور!».

- «ربما هذا صحيح»، قال الطالب بابتسام - «لعلي سمعت باسمك وهو يتردد على الألسنة في سوق البورصة والمصارف، ولكنني نسيت فاعذرني!».

ألقى هانس بمطرقته على الأرض بهدوء، ثم وضع يده على ذراع الشاب ورمقه بنطرة كلها جد، وقال بلطف:

- «أيها الشاب الغريب، أنا لست فقيراً. فلا تتأسف لأجلي بل بالحري اغبطني، لأنني ابن ملك!».

تفرّس الفتى في وجه محدثه، ثم ابتسم وحيّاه وانصرف سريعاً من محضره.

- «يا لك من مسكين!» غمغم الطالب بين شفتيه، وهو يسرع الخطى. «الآن علمت سر سعادتك، إنه الجنون، وأنا أتيت أنشد التعزية عند مجنون!».

بعد أسبوع مر الشاب من هناك فرأى هانس منشغلاً ومسروراً كعادته.

- «أرجو مساء سعيداً لسموك الملكي»، قال اليهودي وهو يرفع قبعته في حركة مسرحية.

- «قف أيها السيد!» قال الإسكافي بصوت مشوب بالود، ولكن بحزم. «تعال إلى هنا، لبضع دقائق فقط! إنني لمسرور جداً أن أراك. في المرة الماضية تركتني سريعاً. افترض أنك ظننتي مجنوناً، ولكني لست كذلك. بل أنا كلمتك جدياً. وأكرر لك قولي بأنني ابن ملك. حين غادرتني في المرة الأخيرة، كنت أغني مقاطع من نشيد مملكتي. فهل تحب أن تسمعها؟».

- «بكل تأكيد إن كان هذا يطيب لسموك الملكي!» أجاب اليهودي بابتسام مشجع، تحدوه الرغبة في أن يضيف إلى معلوماته شيئاً جديداً يؤكد جنون الإسكافي.

استعار هانس كرسياً من جاره، ودعا الشاب للجلوس. ثم راح ينشد الترنيمة، التي قرارها الطِلبة الثانية في الصلاة الربانية «ليأت ملكوتك» ولما انتهى من الإنشاد وتأكد أنَّ الشاب سمعه بكل اهتمام سأله:

- «هل فهمت معنى هذه الكلمات؟».

- «كلا!» قال اليهودي، وهو يهز رأسه نفياً.

حينئذ بدأ هانس يشرح له كل ما يعرفه عن ملكوت المسيح، والمجد الذي له في ذلك الملكوت السماوي. ابتدأ كلامه من الوعد الإلهي، الذي أُعطي في فردوس عدن. بمخلص يأتي من نسل المرأة، ويسحق رأس الحية. وفسر له النبوات وكيف تمت من جيل إلى جيل. وبيّن له كيف كان يجب أن تتم كل الأمور الخاصة بالمسيح، والمكتوبة في ناموس موسى والمزامير. كان يجب أن يتألم المسيح ، ويدخل في مجده. وقد دُفع إليه كل سلطان في السماء وعلى الأرض. ثم أخبره كيف أسس يسوع، على الأرض ملكوته الذي ليس له نهاية، والذي جمع فيه كل الذين آمنوا به. لا فرق بين يهودي وأممي. فالمسيح أعطى كل المؤمنين في ملكوته سلطاناً أن يصيروا أولاد الله. وأن يرثوا مع مسيحهم الذي صيّرهم ملوكاً وكهنة.

حين تبسط هانس العجوز بشرح كل هذه الأمور، كان قد توقف عن شغله. وكانت عيناه تشعان حباً ورجاء. وبعواطفه العميقة التي رافقت البراهين، وبكلام النعمة، الذي تدفق من فمه، جذب اليهودي، وغزا تعصبه العنصري. ولشد ما اندهش حين سمع هذه الحقائق لأول مرة في حياته، عن الوعد الذي أعطي لآبائه في المسيح. ولكي يخرج من بحر تأملاته، كان على هانس أن يربّت على كتفه قائلاً له:

- «والآن، هل تأكدت أنني ابن ملك؟ ولعلك تعرف لماذا أنا سعيد! أنا أحببت يسوع وقبلته مخلصاً ومع يسوع المخلص أنا أحيا سعيداً - هل تؤمن بالأنبياء، كما كان أباؤك يؤمنون؟ إن كان نعم فينبغي أن تؤمن بالذي تكلموا عنه، الذي جاء من الله لكي يكمل عهد النعمة، الذي أعطي لأسلافك».

كان اليهودي صامتاً، يسمع بانتباه كلي. والآن جاشت في خاطره أفكار صاخبة فقال:

- «أين يمكنني أن أعرف أكثر، عن هذه الأمور؟ سيكون من دواعي غبطتي أن أعرف. لأنني أرى أنَّ ما تؤمن به قد أعطاك سلاماً».

- «في هذا الكتاب»، قال هانس وهو يمد يده بالكتاب المقدس. «اذهب إلى منزلك واقرأ فيه النصوص المختصة بملكوت الله. وسأصلي من أجلك كما صلى موسى من أجل الشعب. وسأطلب إلى يسوع الذي لا تعرفه أنت ولكنه يعرفك لكي ينير ذهنك. وسأسأل هذا السيد الذي هو أعظم من موسى لكي يتشفع فيك».

شد الشاب اليهودي على يد الإسكافي بإخلاص وذهب... وبعد أن عرف يسوع وقبله مخلصاً تدرب في شريعة الله. ولما بلغ النضوج عمل بكل إخلاص كمرسل مسيحي بين إخوته في سيليزيا.

نجونا من كارثة رهيبة

كنا عائدين من الديار المقدسة. وكان يجب أن تحط بنا الطائرة في جنيف، ولكن لسببب كنت لا أعلمه، حلقت طائرتنا فوق مطار «كوانتران» في دوائر كبيرة... عشر دقائق، عشرون دقيقة، أربعون دقيقة، مضت هكذا وكنا نتساءل لماذا يحجم القبطان عن الهبوط إلى الأرض. وخلال هذا الوقت كان قلقنا يتزايد كل دقيقة، ورغبتنا في معرفة ماذا يحدث تتضاعف... وفجأة سمعنا صوت القبطان يجلجل من خلال مكبرات الصوت قائلاً:

- «أيها الركاب، لا أريد إخافتكم. ولكن عندي خبراً سيئاً يجب أن أبلغكم إياه، وهو أنني لم أستطع إنزال عجلات الهبوط لأنزل بكم إلى أرض المطار. وهذا هو السبب الذي حملني على أن أحوم كل هذا الوقت، في سماء جنيف. وأوكد لكم أنني خلال هذا الوقت بذلت كل جهد لكي تنزل العجلات، ولكنني لم أنجح. والآن أقول لكم، إنه لم يبق إلا رجاء واحد. وهو أن يكون جهاز المراقبة الذي يدل على عدم نزول العجلات معطلاً. لقد سألت بواسطة الراديو المراقبين في مطار كوانتران أن يقفوا بالقرب من مكان النزول. سأحلق فوقه ثلاث مرات، على علو منخفض. وأرجو أن يروا إن كانت العجلات نازلة أم لا. وأملي أن أنقل إليكم عما قليل الخبر السار».

فيما كانت الطائرة تحلق فوق مكان الهبوط للمرة الثالثة سمعنا القبطان يقول مجدداً. من خلال مكبرات الصوت:

- «إنَّ الأخبار ليست سارة. فقد جاءني الجواب أنَّ العجلات لم تنزل... إذن لم يبق إلا أن أنزل الطائرة على بطنها. أنا لا أستطيع أن أعدكم بشيء من جهة السلامة. ولكنني سأعمل قصارى جهدي في سبيل الحد من قوة الارتطام. وأخيراً أطلب إليكم أن يتحقق كل واحد من وضع حزام الأمان حول خصره. وأن يرجع سندة المقعد إلى الوراء، ويستند بيديه على المقعد الذي أمامه».

وزيادة على هذه الاحتياطات التي سأل القبطان أن تُتخذ. رأيت كثيرين من الركاب يأخذون الوسائد الموضوعة على حاملة الأمتعة لكي يحموا بها وجوههم حين الارتطام بالأرض.

- «انتبهوا وتمسكوا جيداً، قال القبطان سأبدأ بالهبوط الآن». كنت أعلم أنَّ في الطائرة عدداً من مختاري يسوع. وأثق كل الثقة في أنَّ صلاة الإيمان تقتدر كثيراً في فعلها، فصرخت:

«لنضرع إلى الله،لكي يهبّ لإنقاذنا من الكارثة المتوقعة! لنحول هذه الطائرة إلى مكان صلاة، غير مهتمين بما يفكر أو يقول الآخرون». فتجاوب المؤمنون معي، ثم بدأنا نصلي بصوت مرتفع. وفيما نحن نبتهل إلى إلهنا نزع رجل مذعورحزام الأمان من حول خصره واجتاز الممر ركضاً وجلس في المكان الأكثر تعرضاً للخطر. أي في القسم الأمامي من غرفة القيادة، بين الآلات.

تصوروا المشهد! كنا نعد أنفسنا لهبوط الطائرة على بطنها في ليل محلولك الظلام، بما في ذلك من خطر مريع... كان على متن الطائرة ستون راكباً، مع عدد عديد من الحقائب. يضاف إلى ذلك كمية هائلة من أكياس البريد وأربعة محركات ضخمة واحتياطي كبير من البنزين. وكان جميع من على متن الطائرة يواجهون خطر الموت. ولكن فيما كانت صلوات الإيمان ترتفع إلى عرش نعمة الله، سمعنا صوت القبطان من خلال مكبرات الصوت يقول لنا هذه المرة:

- «يا أصدقائي: عندي بشرى سارة أزفها لكم. فافرحوا وابتهجوا لأن الدواليب قد نزلت في هذه اللحظة! اطمئنوا فكل شيء يسير حسناً!».

لقد حام فوق المطار خلال أربعين دقيقة محاولاً بيأس أن ينزل العجلات. إلى أن تلاشى عنده كل رجاء بالهبوط في سلام. ولكن فجأة حدثت أعجوبة فقد استجاب الله الصلوات التي ارتفعت من قلوب أولاده.

- «شكراً للرب»، قالت زوجتي «لأنه لم يمنع رحمته عنا».

- «شكراً لك أيها المحبوب يسوع قلت أنا، لأنك سمعت ادعيتنا ولم تخزنا».

في تلك الساعة كان أحد الجالسين إلى يمين الممر يبكي. ولكن ما أن سمع كلمات الشكر تصعد من أفواهنا حتى جاء إلينا وبعد أن مسح دموعه قال:

«لم أكن مؤمناً بالله، ولكنني الآن أؤمن به. لقد صنع عجيبة الآن! فشكراً له!».

وكذلك إحدى المضيفات وهي فرنسية، دنت منّا وقالت: «أشكركم من أجل ما فعلتموه. أنا لا أفهم كثيراً هذه الأمور ولكني سمعتكم تصلون بحرارة، وأرى أنَّ الرب سمع صلواتكم واستجاب لدعائكم».

في اللحظة التي جثمت فيها الطائرة على الأرض نظرت من النافذة فرأيت عدداً كبيراً من سيارات الإسعاف والإطفاء مصطفة على جانبي المكان. لأن الجميع توقعوا حدوث كارثة مخيفة... فليكن اسم الرب مباركاً، لأجل صلاحه وأمانته أنه استجاب لنا، ومن خطر الموت أنقذنا!

وأنت أيها القارئ تستطيع أن تصرخ إلى الله في أثناء الضيق. لأنه قال في كتابه العزيز: «اِذْبَحْ لِلّٰهِ حَمْداً، وَأَوْفِ ٱلْعَلِيَّ نُذُورَكَ، وَٱدْعُنِي فِي يَوْمِ ٱلضِّيقِ أُنْقِذْكَ فَتُمَجِّدَنِي» (مز 50: 14 و15). إنّه قادر على كل شيء، فإن طلبته بإيمان، ينجدك في الضيقات الأدبية والمادية، التي تواجهها كل يوم. وهب أنك تتمتع بصحة جيدة وأنَّ أعمالك تسير بنجاح. أفلا يجدر بك وأنت هكذا أن تفكر في الله الذي منه كل شيء وتشكره؟

لعل معظم أولئك المسافرين، كانوا يظنون أنَّ الصلاة لا يصح أن تُقام إلا في الكنيسة. ولكنهم في وقت الشدة، صلوا في الطائرة وحصلوا على الاختبار العظيم، إنَّ الإنسان يستطيع أن يرفع قلبه إلى الله، في أي مكان وفي أي وقت.

في الواقع يمكنك أن تصلي في غرفة مرضك، في قاعة استقبالك، في مكان عملك، في سيارتك، في مقصورتك على الباخرة، وهي تمخر عباب البحر، وفي كل مكان آخر.

احن ركبتيك للصلاة حيثما وجدت. توكل على الرب وسلمه كل متاعبك. وعندئذ ستلاحظ مدى استعداده ليستجيب لندائك.

لعلك لاحظت من خلال القصة أنَّ ركاب الطائرة لم يرددوا صلوات محفوظة عن ظهر قلب. بل تكلموا إلى الله بكل بساطة. كما لأب يحبهم ويحنو عليهم. ويعرف ضيقهم ويسره أن ينقذهم.

قد تقول: ولكن ليس الجرأة أن أقحمه في مصاعب حياتي اليومية. ولكن اسمع ما يقول الرسول الكريم بولس: «لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِٱلصَّلاَةِ وَٱلدُّعَاءِ مَعَ ٱلشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى ٱللّٰهِ» (فيلبي 4: 6). إذن يا صديقي الذي لست أعرفه، لا تتردد في إلقاء همك على الله فهو يعتني بك.

إنَّ هؤلاء المسافرين استصرخوا اسم يسوع، والكتاب المقدس يؤكد بالفعل أنَّ الوسيط الوحيد بين الله والناس هو يسوع الذي بذل نفسه فدية عن الجميع. فكما فعل هؤلاء الرجال والسيدات يمكنك أن تفعل. أي وجِّه صلواتك إلى عرش النعمة باسم يسوع المسيح فتنال رحمة وعوناً في حينه.

وأخيراً اتفق المسافرون فيما بينهم أن يطلبوا الله في تلك الساعة الرهيبة. لأنهم كانوا على علم بوعد الرب القائل: «إِنِ ٱتَّفَقَ ٱثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى ٱلأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 18: 19).

والآن عندي كلمة أخيرة لك أيها القارئ العزيز، الذي تعيش في سعة وبحبوحة. فلعلك لا تشعر بحاجة إلى الصلاة. لأنك راض بوضعك. وبما أنك راض تمام الرضى على نفسك. إذ ترى ذاتك أفضل من كثيرين حولك... في هذه الحالة يمكن الجزم بأنك لا تعرف الخطر المخيف المحدق بك. إنَّ أخطاءك الماضية، تدينك وأنت لا تعلم... الخطية خاطئة جداً، وهي تفصل مرتكبها عن الله. إذن أنت هالك بالرغم من الدهان الديني الذي صبغت به نفسك. نعم، هالك إن كنت لا تطلب الله لكي يهبك غفرانه بالنعمة.

مسابقة كتاب قبلة الموت

بعد أن استمتعت بقراءة هذه المجموعة من القصص نرجو الإجابة على الأسئلة التالية:

  1. لماذا لم يقلع أرنيست غيتر عن صنع الشر رغم الفرصة التي أُتيحت له؟

  2. ما هو الاختبار الذي ألحت السيدة الزنجية على أرنيست غيتر القيام به وكيف غيّر مجرى حياته؟

  3. اذكر بعض الأعداد من الكتاب المقدس التي قرأها القس على مسمع أرنيست قبل تنفيذ حكم الإعدام؟

  4. كيف أُصيبت الطفلة بطلقة رصاص في رأسها؟

  5. كيف استطاع الأب المفجوع بموت طفلته من أن يعزي ابنه بأنه لم يشأ الأذى لأخته؟

  6. ماذا تعني لك الآية: رومية 11: 22؟

  7. اكتب النشيد الذي أنشده قباطنة وبحارة الباخرة قبل غرقها.

  8. ما هو السؤال الذي طرحه واعظ مدينة غلاسكو على الشاب إيكوسي قبل غرق السفينة، وماذا كانت ردة فعل الشاب إيكوسي على هذا السؤال؟

  9. ما هي البوصلة التي يحتاجها العالم اليوم للدخول إلى ميناء السلام؟

  10. كيف استطاع إسكافي همبورغ أن يجذب الشاب اليهودي للإيمان بيسوع المسيح؟

  11. هل يجب أن نصلي إلى الله في مكان معيّن؟

  12. ما هو القرار الذي اتخذه جميع المسافرين على متن الطائرة؟

عنواننا هو:


Call of Hope 
P.O.Box 10 08 27 
D-70007
Stuttgart
Germany