العودة الى الصفحة السابقة
اللص الذي سرق الله

اللص الذي سرق الله

سلسلة قصص من الحياة

اسكندر جديد


Bibliography

اللص الذي سرق الله. اسكندر جديد. Copyright © 2007 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . 1972. SPB 8025 ARA. English title: The Thief Who Stole God. German title: Der Dieb, der Gott stahl. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 D - 70007 Stuttgart Germany http: //www.call-of-hope.com .

اللص الذي سرق الله

كان الثلج يتساقط في الخارج، بغزارة وفتائله تقرع النافذة بنظام محدثة نغماً كأنغام الموسيقى. وكان في وسع القس العجوز أن يرى من داخل غرفته تلك الفتائل البيضاء، وهي تتساقط كالقطن المندوف. فقد كانت طاولة عمله موضوعة أمام النافذة.

كان يمارس واجباته الرعوية خلسة في الخفاء، لسبب الاضطهاد القائم ضد المؤمنين. حتى ليحق أن تذكر خدمته مع خدمة القديسين في سراديب روما قديماً. كانت أحواله صعبة جداً، لأنه لو علمت السلطة، بأنه يعلم الناس عن غفران الله، ويزكي الإيمان في نفوسهم، ستنزل به أشد ألوان العذاب قصاصاً... ولكن الحب الإلهي المتقد في صدره العامر بالإيمان، تحرك بشدة في تلك الآونة. وفي هذا اليوم بالذات كان يستعد لاجتماع الصلاة، الذي تقرر أن يُعقد مساءً في منزله. فقد وعده عشرة من المؤمنين بالحضور للصلاة.

ولكن منذ هنيهة تضاعف هبوب الريح عنفاً، والعواصف الثلجية أخذت تعصف بسرعة مجنونة في ذلك الليل المحلولك الظلام. وفيما القس يفكر بموضوع الصلاة أحدثت إحدى درفات شبابيك المنزل، التي لم يُحكم إغلاقها صوتاً قوياً، يشبه الطرق على الباب. فاهتز خادم الله، ولم يلبث أن قال بصوت الواثق المطمئن «ادخل»، إذ ظن أن أحد الإخوة قد جاء.

في تلك اللحظة تضاعفت القرقعة المنبثقة من الدرفة، بسبب اشتداد هبوب الريح، التي كانت عند مرورها من ثقوب الأخشاب تحدث صوتاً يشبه عواء الذئب. إلا أنَّ القس الطيب بقي مُكبّاً على كتابه المقدس. كان متدثراً بغطاء من الصوف وجاثياً على ركبتيه يتفرس في شريعة الله. ولما أنهى استعداده، اتجه بقلبه إلى الله، مصلياً وقائلاً: أيها السيد الرب إلهي، إنني أتوسل إليك من أجل اجتماع الصلاة في هذا المساء. رافق أولادك إلى هنا، وكن حامياً لنا منقذاً في الضيقة التي نجتازها. استمع لطلبتي، إكراماً لمحبة اسمك، آمين.

- إلى من تتكلم؟ قال صوت من وراء ظهره.

فالتفت القس بسرعة إلى الوراء لينظر من يكلمه. كانت قرقعة الدرفة قد طغت على صرير الباب. فدخل أحدهم دون أن يشعر به وألقى عليه نظرة، لا تبعث على الاطمئنان.

- من معك؟ سأل المقتحم ثانية، بصوت مفعم بالتهديد والوعيد.

- كنت أتكلم مع الشخص الذي لا يفارقني لحظة من لحظات حياتي: قال القس العجوز. ماذا تريد مني؟

فهز المقتحم كتفيه ثم قال:

- أريد أن أعطيك بعض الإيضاحات، التي تنسيك أن تسخر مني. سأترك لك الوقت الكافي لإعداد حقيبتك، بينما أقوم بجولة في هذا البيت.

لقد عرف خادم الله الرجل منذ أن وقعت عيناه عليه، وخصوصاً من سمعته، التي ملأت آذان الناس. فإليه يعود زج المئات في السجون، وإرسال المئات إلى المعتقلات البعيدة. وقد عرف عنه، أنه بارع في الاستجواب. واشتهر بالقسوة أكثر من أي محقق آخر في كل المنطقة. كان مجرداً من كل عاطفة، أو رأفة بالمواطنين. كان هذا «إيجور تروزيك» التحري الذي لا يرحم.

بدأ المقتحم يفتح الأبواب تباعاً، فاحصاً ومدققاً في كل شيء. ثم قلب المقاعد، وفتح الخزائن والأدراج، وبعثر كل محتوياتها. وطرح أرضاً سجلات المعمودية والكتب الروحية، وكتب الترانيم. واستولى بحرص شديد على الرسائل الشخصية، وحشرها في حقيبته.

- يا لك من قس حقير! ألا يتأثر جسمك وأنت تسكن حجرة سيئة التدفئة كهذه؟ قال الشرطي القاسي القلب.

- هل ترغب في تناول فنجان من الشاي؟ سأل القسيس بلهجة المؤمن، الذي عرف كيف يطرد الحقد من قلبه.

سمع الشرطي الدعوة، فتردد لحظة قصيرة. كان يقوم بعمله وفقاً لمقتضيات النظام. والقانون يحظر عليه قبول أية ضيافة من المرشحين للاعتقال، المحسوبين أعداء ما يسمونه النظام الديموقراطي الشعبي، الذين يعيقون الأفكار التقدمية. ولكن الطقس كان بارداً جداً. وفنجان من الشاي أثار الرغبة لديه لارتشافه مما وضع حداً لتردده، فقال:

- حسناً، إنني أقبل.

فأحضر القس فنجانين وبعض السكر، ثم أخرج بضع قطعات كعك من علبة معدنية.

- أنت تحبها كثيراً، أليس كذلك؟ قال القس.

- نعم، إني أحبها، أجاب الشرطي بصوت أقرب إلى الهمس، وهو يراقب كل حركة من حركات القس، بحذر شديد.

وفجأة شاهد عند قدميه على الأرض كتاب ترنيم مفتوحاً. ويما هو يرمقه بنظرة، وقعت عيناه على الترنيمة التي مطلعها: آه يا رب! رأيت شهيدك فارتعدت نفسي في داخلي. وما أن تلا هذه الكلمات، حتى شعر بحقارة نفسه. لأنه في تلك الساعة تذكر أمه، المخلوقة التي أحبته بالحق.. وغمرته بدفء محبتها، حين كان ولداً صغيراً يرتجف من البرد، وهو في الطريق إلى الكنيسة، ليشترك في جوق الترنيم، الذي خوله صوته الجميل أن يكون عضواً فيه. ثم فكر بالعناء الذي تكبدته،وهي تحيك له الألبسة الصوفية، بيديها الحنونتين.

كان خادم الرب يراقبه بانتباه، ولعله استنتج ما يدور في خاطره. فقال له بكل لطف.

- هل تود، أن ننشد هذه الترنيمة معاً؟

سمع «إيجور تروزيك» الدعوة، فارتقص قلبه في داخله، واضطرب حتى أعماق نفسه. لأن القس اكتشف ما كان يتفاعل في نفسه.

- لتذهب إلى الشيطان كل ألوهياتك، قال هذا بصوت أشبه بالصفير الذي يخرج من بين الأسنان. وبعد أن مضت لحظة استطرد قائلا:

- لا شك أنك كالآخرين، تظنني وحشاً، أليس كذلك؟

سمع القس المدافع عن الإيمان الكلمة التي فيها الكثير من معاني الاحتجاج إلى جانب التهديد والوعيد. فتفرس في وجه محدثه ملياً ثم قال ببطء:

- وحش، كلا؟ ولكنّك إنسانٌ تعسٌ، يعتقد أن لا أحد يحب الواشي.

- رويدك أيها الغراب العجوز! فإنك لن تقنعني إطلاقاً بأنني محبوب إلى هذا الحد.

قالها فيما الراعي الأمين، يحرك السكر في فنجانه، وبعد لحظة قضاها الاثنان في الصمت، رفع الراعي رأسه وتفرس في وجه الزائر، الذي اقتحم عليه داره ثم قال:

- إنه لطبيعي أن تتعجب، من كون الله يحب إنساناً تافهاً نظيرك. ولكن هذه هي الحقيقة. إنه يحبك، يحبك بصورة خاصة.

- إنك تسخر مني، قال الشرطي بصوت أقرب إلى النباح، ثم انتصب واقفاً، كأن تياراً كهربائياً سرى في أوصاله.

- انتبه إلى فنجانك، قال القس بلطف. تأكد أرجوك مما أقوله. لأنني أكلمك بجدية.. لأنه من أجل أناس قذرين مثلك ومثلي أخذ يسوع الجسد وتألم ومات. ألم تسمع قبلاً أنه «هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16).

هذه الآية الكريمة، فتحت ثغرة في ذاكرة الشرطي، فأطلت عليه ذكريات قديمة كانت هاجعة. وهكذا وجد نفسه في حالة سيئة من الانزعاج.

- يا حضرة المفتش، تابع القس كلامه. دعني أقول لك من أنت، أنت لص. ولكن الله يهبك الصفح.

ما أن سمع «إيجور تروزيك» العبارة حتى انتفض، مكفهر الوجه من غيظه، وواضعاً يده على قبضة مسدسه.

- هل بلغت بك الجرأة إلى هذا الحد؟ صرخ الشرطي بصوت أشبه بعواء الذئب. إنك لوقح. والآن قل لي ماذا سرقت؟

- هل علمت أن يسوع مات بسبب الخطايا! خطاياك وخطاياي، وخطايا العالم أجمع. فإن كنا نرفض خلاصه، نصبح لصوصاً. فهل لك أن تعترف بواقع حالك؟ فمتى تقول نعم يا رب؟ إن هذه الكلمة نعم، تعني السلام مع الله، وبالتالي الحصول على السماء.

- هل يريد الله حقاً، أن يخلصني؟ ولكن انظر يدي هاتين، هل تعلم كم من الدم تلطختا به؟ لقد قدمت إلى الذبح نفوساً لا أستطيع عدها. لقد سرقت وقتلت حبّاً بالسرقة والقتل. إن الدم الذي سفحته يصل إلى عنقي.. إذن صليبك المقدس ليس من أجلي.

كان التأثر قد بلغ ذروته في نفس تروزيك، فاكمدّ وجهه وجحظت عيناه وهو يتفرس في وجه محدثه. وبعد لحظة ساد فيها الهدوء جو الغرفة طرح الرجل هذا السؤال:

- وإن قلت نعم يا رب، ماذا يحدث؟

- نصلي معاً، قال خادم يسوع.

- يا إلهي، رحماك أَشفق عليّ. هكذا خرج التوسل من شفتي المفوّض المبكت على خطاياه.

منذ سنين طويلة، لم يعقد اجتماع صلاة، تميز بختم الرحمة الإلهية، كهذا الذي ترأسه القس الشجاع في هذه الأمسية.

ولقد باغت بزوغ نور الفجر الوردي، رجل الله وهو بعد على ركبتيه وإلى جانبه الشرطي، الذي عرف مخلصه.

وهكذا تمت إرادة الله، وامتلأ قلب المدافع عن الإيمان بفرح لا ينطق به ومجيد. وقد اقتنع «إيجور تروزيك» أن الله في صفحه لا يسألنا عما كنا عليه، وإنما هو يهتم جداً بما نحن عليه.

صديقي القارئ الكريم، أين أنت مع الله؟ الله حريص على ألاّ تنتسب لتلك الأكثرية الساحقة من الرجال والنساء، الذين لا يفكرون في مصيرهم الأبدي، إلا في اللحظة، التي تُقرر فيها أن تؤخذ نفوسهم منهم، هذا إن عرفوا زمن تلك اللحظة. فلا تؤجل أمر خلاصك إلى الغد، لأنك لا تدري إن كان الغد سيأتي وأنت في الحياة.

المساء العاصف

وأخيراً... تنفست ماري الصعداء، وألقت بدفتر الإنشاء جانباً، بعد أن سطّرت عشراً من صفحاته. ثم قالت:

- في الحقيقة إنه لم يسبق لي أن تعبت في إعداد موضوع كما تعبت في هذا. والآن يمكنني الالتحاق بأدما، أليس كذلك يا أماه؟

- ما بك يا ماري؟ قالت الأم. أليس الوقت متأخراً؟ لقد دقت الساعة الثامنة والنصف منذ لحظات.

- يا له من موضوع إنشاء تافه، هذا الذي استهلك وقتي! كأنه محتوم عليّ أن يأتي شيء ما، ليقلب مشاريعي رأساً على عقب. هذا كثير!

قالت الفتاة هذا، ثم تناولت دفترها في حركة تحمل معنى التأفف، وخرجت من القاعة. وحين عادت بعد دقائق وجيزة، كان التذمر ما زال بادياً على قسمات وجهها. ومع أن ماري، كانت في السادسة عشرة، إلا أنها لم تكن قد تعلمت ذلك الدرس الذي يقضي بأن لا يحمل أحد عن غيره أثقال صعوباته الشخصية.

سرّحت ماري نظرها في أرجاء الغرفة، وبعد هنيهة من التأمل، ألقت بنفسها على مقعد قابع في إحدى الزوايا. ثم غرقت في أفكارها. كانت القاعة تثير البهجة في النفس بفرشها الفاخر بينما النار المتأججة في الموقدة، ترسل الدفء في المكان، وتجعله شهياً للجالس. أما الأم فكانت جالسة في مقعدها الوثير المريح، تعمل في تطريز قطعة قماش بيضاء.

- ماما! قالت الفتاة بلهجة يُشتَّم منها نفاذ الصبر - لماذا لا أستطيع أن أعمل ما يحلو لي؟

- رويدك يا بنيتي، هذا كلام مبالغ فيه، أجابت السيدة المكلل رأسها بالشيب، وهي ترمق ابنتها بابتسام.

- أوه! أنا أعرف يا ماما بما تفكرين! أنت تعيشين في دعة. وكل ما حولك هادئ ومسر. لذلك لا ترغبين في شيء آخر يغير نمط حياتك الرتيبة.

ولكن أنا...

- ولكن أنت، ماذا يا حبيبتي؟

- أنا أريد أن أعمل شيئاً ما. أريد أن أكون نافعة... مثلاً كابنة عمي أدما. فهي تزور الفقراء وتشرف على مدرسة ليلية. وقد سألتني أن أرافقها إلى مدرستها. ولكن فرض موضوع الإنشاء منعني من تلبية دعوتها أليس هذا مغيظاً؟

كان في لهجة الفتاة ما يعبر عن أمور أخرى كامنة في صدرها. ولهذا بادرتها أمها بالقول:

- ماري، يا بنيتي العزيزة، ماذا تظنين أن الرب يسوع يطلب منك؟

كان أيضاً في صوت الأم أشياء تثير الانتباه، وربما الحرج. لهذا كبحت الفتاة جماح تذمرها، وقالت بلطف:

- أنت تعلمين يا أماه أنني من أجل يسوع بالذات، أريد أن أفعل شيئاً ما. ولكن الوقت... لو كنت حرة!... عندئذ كنت ترين!

- هكذا يا حبيبتي! أو تظنين أن الله أخطأ، لأنه وضعك في هذا المركز الذي أنت فيه؟

احمر وجه ماري لدى سماعها هذا التعريض اللطيف، الذي حمل لوناً ناعماً من التأنيب. ولكنها قبلت الأمر بمحبة، ولم تلبث أن قالت:

- ليس هذا بالتأكيد، يا أماه! ولكن قولي، كيف أستطيع أن أعمل من أجل الرب، وأنا في المدرسة كل النهار، وفي المساء أكون رهينة إعداد الوظائف المدرسية؟

رمقت السيدة ابنتها بنظرة حنان عابرة، وبدون أن تعطي جواباً تناولت العهد الجديد، وقلبت بعضاً من صحفاته، ثم بدأت تقرأ بهدوء:

«وَكُلُّ مَا فَعَلْتُمْ فَٱعْمَلُوا مِنَ ٱلْقَلْبِ، كَمَا لِلرَّبِّ لَيْسَ لِلنَّاسِ، عَالِمِينَ أَنَّكُمْ مِنَ ٱلرَّبِّ سَتَأْخُذُونَ جَزَاءَ ٱلْمِيرَاثِ، لأَنَّكُمْ تَخْدِمُونَ ٱلرَّبَّ ٱلْمَسِيحَ» (كولوسي 3: 23 و24). ثم علقت على القراءة قائلة: فإن كنت يا بنيتي تعملين بغبطة أول واجب يضعه الرب أمامك، فإنك بهذا تخدمينه أكثر مما يدور في أحلامك من أشياء عظيمة.

- هذا صحيح يا أماه، قالت الفتاة بعد أن فكرت قليلاً. إني أفهم قصدك - بيد أنها لم تعتم أن عادت إلى فكرها الأول فقالت:

- إذن أليس هناك ما أستطيع فعله من أجل أولئك الفقراء والبائسين الذين هم في حاجة ماسة إلى التخفيف من أوجاعهم ومتاعبهم؟

- تستطيعين أن تعملي كثيراً، يا ابنتي. هل فكرت يوماً أن ترفعيهم بصلواتك وتسألي الله أن يترأف بهم، ويخفف من بؤسهم.

- أوه! أجل، بلا ريب إنني أصلي باستمرار من أجل المساكين بصورة عامة، ولكن هل هذا يكفي؟

- في هذا المساء، قالت الأم، لو سألت الله بصورة خاصة أن يأخذ بيد ابنة عمك أدما، وأن يخصها بتشجيع مباشر. ألا تظنين أن هذا يكون اشتراكاً عملياً في خدمتها؟

في هذه اللحظة، كانت كلمات الأم تتجه رأساً إلى ضمير فتاتها. ففهمت أن لديها ما تفعله في سبيل الله. فذهبت إلى مخدعها وجثت على ركبتيها، وصعّدت صلاة حارة مؤمنة، إلى عرش نعمة ذاك الذي يستجيب دائماً لطلبات أولاده.

آه! ما أقسى البرد في هذا المساء! فقد كان يلسع وجه ابنة العم أدما وهي ذاهبة إلى مدرستها الليلية. كانت هبات الريح شرسة قوية خارقة، فلم تستطع الفتاة مقاومتها إلا ببذل أقصى الجهود. كان الثلج يغطي الأرض والأشجار بكميات هائلة. وفي شوارع المدينة العظيمة، سرعان ما تحولت الثلوج إلى وحول، ثم إلى جليد داكن اللون!

- ليكن الله في عون المساكين الذين لا مأوى لهم، هكذا قالت أدما وهي تلج باب القاعة، التي حولتها إلى مدرسة. هناك كانت تجمع حولها عدداً من الأولاد الفقراء، بثيابهم البالية الرثة وتقوم بتعليمهم.

كان الباب مطلاً على الشارع، بحيث يستطيع أي عابر سبيل أن يدخل ويجلس مع التلاميذ بدون صعوبة. وكان الدخول مباحاً للجميع، وخصوصاً للأولاد المشردين.

على مسافة قريبة جداً من هذا المكان، كان صبي شاحب الوجه جالساً القرفصاء تحت إحدى القناطر، هرباً من الثلج، الذي كان يتساقط في تلك الليلة الليلاء. ولكن هبات الريح الثلجية العنيفة، كانت تضرب وجهه، وتثير الرجفة في أوصاله. يا ليعقوب المسكين! كان هنا منذ ساعات طويلة، وقد كف عن النفخ على أصابعه المخدرة لكي يثير فيها الدفء، ويعيد لها الحياة. لم يعد يفكر الآن إلا في الجوع الذي كان يعضه بأنيابه الحادة. فمنذ الصباح، تاه وراح يطوف شوارع المدينة على غير هدى. قضى ساعات النهار ضالاً في وسط الجماهير، كسفينة بلا دفة ولا ربان يقودها. لم ينتبه له أحد، ولم يترأف به قلب. وإن كان قد مد يده، على أمل أن يضع أحد فلساً فيها، فإن حركة يده كانت تنطلق بخجل، بحيث لم تستلفت أنظار المارة، المنشغلين بأمورهم الخاصة.

ما قصة هذا البائس؟ إنها قصة العديدين من التعساء المتروكين. فيعقوب لم يعرف له أباً. لقد نشأ في غرفة مظلمة من أحد الشوارع الفقيرة. وقد ربته امرأة تعوّد أن يدعوها ماما. ولكن هذه المرأة، كانت تكيل له الضربات، أكثر مما كانت تمنحه من لمسات الحنان.

ومنذ ثلاثة أيام، غادرت تلك الإمرأة المنزل دون أن تترك عنواناً. وقد جاء من طرد يعقوب من ذلك الحجر المظلم، الذي عاش فيه سبع سنين في الكآبة والمرارة. وهكذا أُلقي بالطفل البائس في عرض الشارع. فهام على وجهه في أزقة المدينة، ينام تحت القناطر، ويأكل مما يجده بين القمامات والنفايات، مزاحماً الجرذ على رزقها. وأخيراً في هذه العشية الشديدة القر (البرد القارس) من شهر كانون الأول، سقط إعياءً وجوعاً.

كان هنا في الظل، مقرفصاً... ينتظر... ماذا؟ لم يكن هو نفسه يعرف. ولعله بسبب الخدر الذي غشى أوصاله، لم يشعر بما يسببه جلوسه على هذه الصورة من ألم. فقط عقله الصغير كان يعرف أن الطقس بارد جداً، وأنه جائع وأنه عما قريب يجب أن ينام على الحجارة الباردة. لأن التفتيش عن مأوى أفضل، ما كان في حسبانه لأنه فوق إمكاناته.

وفيما هو على هذه الحال، رأى كما في حلمٍ، أطفالاً آخرين في ثياب تشبه ثيابه البالية، يتجهون الواحد تلو الآخر إلى بيت مجاور. وفي كل مرة يفتح الباب لدخولهم. كان شعاع من النور ينبعث من البيت، ليكنس الظلام من الشارع للحيظة من الزمن.

- ماذا يفعلون هناك؟ تساءل يعقوب المسكين. لا بد أنهم يجدون الدفء في الداخل. أما أنا!...

قال هذا متوجعاً، ولكنه بحركة لا شعورية، لف أطراف سترته حول جسمه الهزيل. ودون أن يعرف لماذا، مشى المسكين المهمل في اتجاه البيت المضيف وبخطوات قليلة بطيئة صار أمام الباب. لو أنه جرب أن يفعل كالباقين، فماذا سيحصل؟ هكذا قال في نفسه - ولكن ليكن أي شيء، ما عدا البقاء خارجاً في براثن البرد الأليم. وبعد تردد دام لحظات، مد يده المزرقة من تأثير البرد، وما أن ضغط على الجرس، حتى فُتح الباب... وبخطوات قليلة، صار يعقوب في قاعة مضاءة ودفئة. ولما انزاح من عينيه تأثير النور، رأى ما يقارب العشرين ولداً، يدل لباس معظمهم على البؤس الشديد. وكان الكل جالسين علىمقاعد خشبية، وفي وسطهم فتاة - أدما - تحمل كتاباً. ويبدو أن وصول صبي جديد لم يكن مباغتاً بالنسبة لها. ففي الحال رفعت اصبعها. وأشارت إلى مكان شاغر في أحد المقاعد، وكأنها تقول له اجلس. ومع أن الدعوة أثارت الدهشة في نفس يعقوب، إلا أنه لم يتردد لحظة في الانضمام إلى المستمعين.

في الدقائق الأولى، لم يسمع شيئاً مما كانت تقوله للأولاد، بسبب الراحة الجسدية التي أُتيحت له في تلك الساعة. والواقع أن الدفء اللطيف السائد في القاعة. أخذ يدب في أوصاله، رويداً رويداً. فلم يلبث أن نسي كل شيء، حتى الجوع، الذي كان يقضم أحشاءه. وفيما هو يسرح نظره في أرجاء القاعة، رأى مجموعة من الصور معلقة على الجدار. كان يود أن يتفرس فيها من على قرب، ولكنه لم يجسر على التحرك من المكان الذي دُعي للجلوس فيه. ولكن بعد قليل تجرأ ونظر خلسة على جيرانه.

- كم هم مبتهجون قال يعقوب في نفسه. ما هو هذا الحديث الذي ينصتون إليه بكل هذا الانتباه؟

كان الحديث يدور حول كلمات اختارتها الفتاة من الإنجيل «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16). وقد سألت الأولاد، أن يرددوها بعدها ببطء أولاً، ثم بسرعة، إلى أن حفظوها غيباً.

بعد ذلك بدأت تشرح لهم معنى قصة الفداء المجيدة المتضمنة في هذه الآية. كان الأولاد يعرفون إلى حد ما هذه القصة، التي تعبر عن محبة الله للعالم. ولكنها جعلتها موضوعاً للدروس في تلك الليلة، لأجل يعقوب الذي كانت القصة بالنسبة له إعلاناً عجيباً. ولعلها من أجل ذلك، حدثت سامعيها بعبارات واضحة، عن محبة الله للخطاة الضالين. وقدمت الرب يسوع، الذي مدفوعاً بحبه العجيب للخطاة، أخلى مجده في السماء وجاء إلى أرضنا هذه، لكي يتألم ويموت من أجل الأثمة ليقربهم إلى الله. وأكدت لهم بأنهم هم أيضاً موضوع هذا الحب العجيب. وأنه لكي يحاطوا علماً بهذا الحب، دبر كل الأسباب، لكي يجتمعوا حولها هذا المساء.

كان يعقوب يسمع كل كلمة بانتباه، حتى ليخيل لناظره أنه كتم أنفاسه، خيفة أن يتعكر سمعه فتفوته إحدى كلماتها.

بعد أن ختمت حديثها بكلمة صلاة، أخذ الأولاد ينصرفون تباعاً. وحين انصرف الجميع رفع يعقوب وجهه المعذب وتفرس في وجه أدما، وألقى هذا السؤال:

- وهل يسوع الذي تكلمت عنه يحب يعقوب الصغير البائس، الذي لم يهتم به أحد في هذه المدينة؟

كان في صوت الصبي المسكين نبرة غريبة تعبر عن القلق. وهذه النبرة أحدثت أثرها في قلب أدما. فجذبته إليها، وطوقته بذراعيها. وكلمته بكل لطف وحنو عما عمله يسوع من أجله. وشرحت له معنى هذا الحب الإلهي، الذي كان وما زال يفتش عن الخراف الضالة، وخصوصاً عنه هو المسكين. وأنه لن يعطي نفسه راحة حتى يقتاده إلى ينابيع خلاصه، لتكون السماء مثواه في ما بعد وإلى الأبد.

- ولكن ألا يريد أن يأخذني في هذا المساء بالذات؟ قال الفتى. إنني لا أعلم إلى أين أذهب لأنام، وفي الخارج برد قارس. و... هنا منعه فيض الدموع من إتمام عبارته، التي لا شك أنها كانت بسبب الجوع الذي كان يؤلمه.

بعد نصف ساعة شوهدت أدما داخلة إلى بيتها ولكن ليس وحيدة، فقد كان يعقوب معها. كان قلب الفتاة يفيض شكراً - لأنها شعرت بأن، الرب، شاء أن يريها بعض ثمار العمل الذي أكملته هذا المساء باسمه.

منذ ذلك اليوم بدأ يعقوب حياة جديدة. كان الرب يسهر عليه في تلك الليلة الظلماء من شهر كانون الأول، وبقي ساهراً عليه كل أيام حياته. وكبر الصبي ليصبح رجلاً نافعاً ومسيحياً مخلصاً في خدمة سيده.

وكذلك ماري، حين فكرت في ما حصل ليعقوب، لم تنس إطلاقاً الدرس الذي تعلمته من أمها. فبصلاة الإيمان التي رفعتها في تلك الليلة من أجل المساكين، اقتدرت كثيراً في فعلها، وخلص الرب نفساً كان قد أُلقي بها في الشارع.

وأنت أيها القارئ الكريم، تذكر وأنت تطالع هذه القصة البسيطة إنَّ صلاة الإيمان تحرك قلب الله. لعل السيد الرب لم يعدك بعد لخدمة فعلية. ولكن مسؤوليتك لا تقل عن مسؤولية أي خادم من خدام الكلمة. اسند بصلاتك الذين تجندوا للعمل الفعلي. ساهم بالخدمة بواسطة صلواتك، مستصرخاً نعمة الله، وفقاً للكلمة الرسولية القائلة: «وَأَنْتُمْ أَيْضاً مُسَاعِدُونَ بِٱلصَّلاَةِ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يُؤَدَّى شُكْرٌ لأَجْلِنَا مِنْ أَشْخَاصٍ كَثِيرِينَ، عَلَى مَا وُهِبَ لَنَا بِوَاسِطَةِ كَثِيرِينَ» (2 كورنثوس 1: 11).

مات بديلاً عني

كان أخوان يسكنان معاً في إحدى مدن الشرق الأوسط. وكان أصغرهما يعيش حياة خبث وفساد، دون وازع من ضمير، ودون أي فكر في التوبة. أما الأخ الأكبر فكان رجلاً متواضعاً يتقي الله ومكرساً حياته كلها له. ولكنه كان حزيناً جداً بسبب سلوك أخيه الأصغر. لقد سأله كثيراً برأفة الله وبدموع حارة أن يترك الخطية. ولكن الأخ العاق، لم يتحرك قلبه، ولم يقم وزناً لتوسلات وتألم أخيه البكر. وتابع سيره في طريق الشر، متهافتاً كل ليلة على أمكنة الفجور. هناك كان يبدد المال والصحة والشرف، فيما الأخ الأكبر يقضي الليل في البيت، ساهراً ومنتظراً عودة أخيه. ولكم صلى في ساعات الانتظار الطويلة. بكل طلبة سائلاً الله أن يحرك قلب الفتى رجوعاً إليه!

في ذات مساء وحوالي منتصف الليل فيما الأخ الأكبر ينتظر عودة أخيه، سمع طرقاً عنيفاً على الباب. فأسرع وفتحه وإذا بأخيه يعود مرتعد الفرائص ملطخ الثياب بالدم.

- خلصني! خبئّني، قال الفتى متوسلاً. لقد قتلت رجلاً، وأنا مُطاردٌ، من رجال الشرطة. انظر هنا... هذا هو دمه.

ولكن كيف يخبئه؟... ألا يكون هذا مخالفة ضد العدالة الأرضية. ولكن المحبة لا تنقصها البراعة لإيجاد المخرج.

وهكذا لم يضع الوقت في الكلام العديم الجدوى. وإنما أسرع بتجريد أخيه من الثياب الملطخة بالدم وارتداها هو. وأعطى القاتل ثيابه التي لا لوثة فيها ليرتديها. وبعد ذلك أدخله إلى غرفته وأغلق الباب، وانتظر في قاعة الاستقبال.

لم يطل انتظاره، فبعد برهة وجيزة جاء رجال الشرطة وداهموا المنزل شاهري السلاح.

- هذا ما توقعناه بالضبط، صرخ أحد رجال الشرطة انظروا! هوذا الجاني. في الواقع أنه منذ زمان طويل وظنوننا تحوم حول هذا البيت لأسباب أخرى.

دنا رجال الشرطة من المفروض أنه الجاني، وألقوا عليه نظرة قاسية. ثم قال أحدهم:

- أنت هو القاتل، قال آخر، لقد فعلتها أخيراً.

ومع أن الاتهام كان موجهاً إليه، وهذا معناه الاعتقال والمحاكمة والشنق. إلا أنه لم يحرِ جواباً.

- لا لزوم للاستجواب، قال شرطي آخر. انظروا ثيابه الملطخة بدم الضحية. إنها تتكلم نيابة عنه. فلنقيده ولنذهب به!

وهكذا اعتُقل المسكين وحُمل بعيداً عن منزله، مروراً في الشوارع المظلمة المؤدية إلى السجن. وفي الصباح الباكر جاء قاضي التحقيق لاستجوابه. ولكن المتهم لم يجب بشيء، على أي من الأسئلة التي طرحها عليه. عبارة واحدة كان يرددها كل مرة:

- يجب أن أدفع حياتي ثمناً لهذه الجريمة، والأفضل أن يتم هذا بأقصى سرعة!

بعد أيام قليلة قُدِّم المسكين إلى المحاكمة، وأوقف في قفص الاتهام يقابل شهود الادعاء الذين لم يستطيعوا إلقاء أي ضوء على القضية. ولكن لماذا الشهود؟ فها هي الثياب الملطخة بالدم تدينه، بحيث أصبح واضحاً أنه هو الجاني.

- من هو محاميك؟ سأله القاضي.

- ليس لي محامٍ، قال الجاني ولست أريد محامياً.

- ماذا تقول دفاعاً عن نفسك؟

- لا شيء يا سيدي، قال الأخ النبيل، ثم أحنى رأسه ونظر في الأرض لئلا تخونه براءة منظره.

وهكذا انتهت المحاكمة سريعاً وأُدين على أنه القاتل وحكم عليه بالموت شنقاً.

في مساء اليوم السابق لتنفيذ الحكم طلب المحكوم عليه مقابلة مدير السجن. وحين جاء هذا ودخل زنزانته قال له المسكين:

- إن كنت تستطيع استجابة رغبة إنسان مشرف على الموت، فإنني ألتمس منك التكرم عليّ بأدوات للكتابة. فإنني أريد أن أكتب رسالة. ولكن قبل كل شيء تعهد لي أمام الله بأنك لن تفتح خطابي وأنك سترسله حالاً بعد موتي إلى العنوان، الذي سأكتبه على الغلاف. وإنني أؤكد لك أن خطابي لن يحتوي شيئاً شريراً. ويمكنك أن تثق بأنني لن أكذب في ساعتي الأخيرة!

تفرّس مدير السجن في وجه المحكوم عليه، فرأى أن كل ما في قسمات وجهه يعبر عن الإخلاص. ولهذا لم يجد بداً من إعطائه سؤل قلبه. خصوصاً وأن المحكوم عليه بدا وكأنه وضع كل كيانه في توسله. كان هادئاً وديعاً، ترسل عيناه بريقاً حاراً، لم يسبق للمدير أن رأى له مثيلاً.

بعد برهة وجيزة تسلم المحكوم عليه أدوات الكتابة التي طلبها. وفي الليل حين قام الحارس بجولته التفقدية في أرجاء السجن تسلم الرسالة.

بعد أن سلم رسالته إلى الحارس جثا المحكوم عليه في زنزانته وغرق في التأمل والصلاة، إلى أن بزغ الفجر. وحين أشرق نور النهار كان الجميع قد انهمكوا في مشغولياتهم. والجلاد أيضاً كان ناشطاً في ذلك الصباح، فقد أزهق تلك النفس الطاهرة في لحظات معدودة.

فيما كانت نفس المحكوم عليه تصعد إلى الله الذي أعطاها كان ساعي البريد يسرع الخطى إلى منزل الأخوين حاملاً رسالة الأخ الذي رحل إلى الأبدية. وحين طرق الباب خرج إليه الأخ الأصغر مصفر الوجه مذعوراً شديد الاضطراب. تناول رسالة أخيه بيد مرتجفة، وقد عقدت الدهشة لسانه وبدا كأنه لا يفهم ما يجري حوله.

وأخيراً قرر أن يفك ختم الرسالة... وما أن قرأ محتوياتها حتى انفجر بالبكاء... ثم انطلق من الباب بسرعة... ولكنه لم يذهب بعيداً، فحالة الذعر التي كان يعانيها حملته على العودة.

ماذا كان في الرسالة؟ بضع كلمات: «غداً عند الفجر وأنا لابس ثيابك، سأموت بديلاً عنك. وأنت تجاوباً مع رمز ثيابي التي غطت جريمتك، يجب أن تهجر حياة الفجور وتحيا في البر وقداسة الحق».

أموت بديلاً عنك.

هذه العبارة الموجزة عملت في نفسه وأحدثت انقلاباً في أعماق قلبه الذي تحجر من جراء الخطية الخاطئة جداً، وصار جباناً حليف الخوف. ولكنه في هذه اللحظة عاد فجأة إلى الحقيقة المؤلمة. وراح يكرر هذه العبارات «أموت بديلاً عنك».

- ولكن ربما لم يمت بعد، قال الأخ الأصغر في نفسه. قالها ثم خرج ثانية من البيت وركض في اتجاه السجن لكي ينقذ أخاه البريء إذا أمكن.

حين وصل إلى السجن لم يُسمح له بالدخول. ولكنه طلب بدموع أن يُؤذن له بمقابلة المدير. وأمام توسلاته الملحة أشفق الحراس عليه، وأدخلوه على المدير.

ولما قرأ المدير هذه العبارة «أموت بديلاً عنك» اهتز كيانه كما لو مسه تيار كهربائي. لقد تذكر الآن توسلات المحكوم، حين طلب أدوات الكتابة. واستعاد في خاطره تلك النظرة المصممة، التي رمقه بها ملتمساً تلك المنة بأسلوب لم يستطع مقاومته. وفي اضطراب شديد هزه إلى أعماق نفسه، أرسل الخطاب إلى القاضي.

ما أن اطلع القاضي على محتويات الخطاب، حتى بدأ باستجواب الجاني الحقيقي. وهذا الأخير أدلى باعترافات كاملة ومخلصة. لقد بدأ حديثه بوصف شامل لحياته الخاطئة، ثم اعترف بجريمته الشنيعة وخوفه الجبان وسكوته المعيب. وأنهى اعترافاته بصرخة تعبر عن أشد عوامل الألم:

- أميتوني أرجوكم. أميتوني لأنني لا أستحق إلا الموت. ومع أن الحقيقة انبلجت لعيني القاضي إلى أن كلمة الأخ الأكبر: «يجب أن أدفع حياتي ثمناً لهذه الجريمة» لم تفقد شيئاً من قيمتها في حيثيات الحكم الذي صدر.

كان هذا صحيحاً أنه أخذ مكان الجاني. وكانت تضحيته بذاته غرامة دفعها للمجتمع. ولكنها أدهشت القاضي حتى راح يتفرس في وجه ذلك الشرير الذي كان موضعاً لهذا الحب العظيم من قبل أخيه. ولكن كان عليه أن يعترف بأن لا حق له في أن يرسله إلى الموت أو إلى السجن. وهكذا حصل الجاني على الحياة وعلى الحرية.

بعد أن أُطلق سراحه، عاد الأخ المفدي إلى بيته، وفي يده الرسالة. كان قلبه منسحقاً تحت ثقل جرائمه. فصرخ إلى الله، رافعاً أوجاع نفسه، مع التوبة الصادقة:

- يا ربُّ، إلهي! صرخ بدموع. لا تتركني أموت في خطاياي. إن واحداً غيري، أخذ القصاص نيابة عني. هبني عونك لكي أكافح ضد الشر. وامنحني أن أكون مستحقاً لارتداء ثياب أخي، الذي ضربته عدالة البشر. ساعدني لكي أحفظ ثيابه من كل تلوث، ومن كل خطية.

منذ تلك البرهة، تغير مجرى حياة هذا الشاب كلياً. وحين حاول عشراء السوء إعادته إلى الحياة الفاسدة، قاوم كل المغريات بحزم. وفي كل مرة دعوه إلى حفلاتهم الماجنة، كان يقول: يستحيل عليّ أن أشارككم شيئاً من هذا، طالما أنا ألبس ثياب أخي. لأن أخي ما كان ليدخل هذه الأمكنة التي ترتادونها!

وشيئاً فشيئاً عزفوا عن محاولاتهم لجذبه مرة أخرى إلى الشر. وليس هذا فقط بل أن قسماً منهم، تأثروا بحياته الجديدة وارتبطوا معه بوشائج (روابط) صداقة أكثر نقاوة، إذ تعلموا أن يحترموا حياة هذا الإنسان الجديد، الذي تكرس كلياً لخدمة الرب. ولم يلبثوا أن رجعوا عن الخطية، لكي يسلكوا في جدة الحياة. والجميل هو أنهم، ضموا جهودهم إلى جهود صديقهم القديم، لكي يصنعوا الخير ويأتوا بثمار جيدة لمجد الله.

وأخيراً جاءت الساعة لالتقاء الأخوين في الملأ الأعلى عند يسوع فادي الجميع. وقد نزل الأصدقاء عند رغبة الأخ الأصغر عند موته فحملوه إلى قبره مرتدياً ثياب ذاك الذي أعطى حياته لأجله.

لقد انتهت أحداث هذه القصة ولكن مغزاها باق. ولا بد أنك فهمت مرماها أيها القارئ العزيز. إنها قصة كل كائن بشري. قصتك أنت مع المسيح، الذي مات لأجلك.

لعلك قرأت الإنجيل، أو على الأقل سمعت به. ولكن ربما إلى الآن اقتصر تأثيره فيك على ملامسة نفسك دون أن يصل إلى الأعماق. اخرج هذه المرة من قوقعة لامبالاتك. وحاول أخيراً أن تتجاوب مع ما عمله يسوع الفادي من أجلك. اقرأ كلمة الله التي تقص حياة وآلام وموت يسوع فاديك ومخلصك.

فقد أحبك حباً يفوق الإدراك. وهذا الحب لا يُقاس إلا بآلامه من أجلك. لقد أعطى حياته لأجل حياتك. ليس فقط لكي تتحرر من حكم الدينونة الأبدي، بل أيضاً لكي يخلصك من الخطية لتصبح قادراً أن تحيا لمجده.

مات عوضاً عنك لكي تلبس بره. وكمولود ثانية لتصبح بلا لوم طاهراً ابناً لله بلا عيب في وسط جيل معوج وملتو تضيء بينهم كنور في العالم متمسكاً بكلمة الحياة.

بماذا تجاوب حباً هذا مقداره، إنك وأنت بعد خاطئ مات لأجلك؟ فليتك لا ترفض العرض المقدم لك اليوم!

أنا هو نور العالم

كان حنا صبياً رائعاً في السادسة من عمره، أجعد الشعر أزرق العينين ضحوكاً. وإلى جانب مرحه وحبه للحياة، كان صريحاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى. إلا أنه كان يسبب لي المتاعب، ويوجد عندي الضجر. هكذا قالت عمته.

ولكن بالرغم من مشاكسته، كنت أشعر أن قلبي منجذب بصورة خاصة إلى هذا الحمل المعاكس في قطيعي الصغير. وهذه العاطفة نحوه، ولدت فيّ رغبة شديدة لكي اقتاده باكراً إلى الرب يسوع الراعي الصالح. ولكن يبدو أن فتاي الأثير (المفضل)، لم يستطع فهم معنى محبة يسوع المخلص. ولم يشأ الاهتمام بكلمته.

- اعلم يا حنا، قلت له ذات يوم، إن الراعي الصالح يريد أن يجذبك باكراً إليه. ولكنك للأسف لا تريد التجاوب معه في محبته!

ولكن يتهيأ لي أن الفادي قد اختارك في المحبة، وعما قريب ستكون له.

وهكذا، فبصعوبة وبذرف الكثير من الدموع، وعلى درب وعرة وقاسية، اقتاده الراعي الصالح إلى حظيرته.

كان ذلك في يوم أحد، حين ذهبت بقطيعي الصغير إلى اجتماع المساء لسماع كلمة الله. في أثناء جلوسنا في قاعة الاجتماع بدا حنا قلقاً جداً. وكان يلتفت يميناً ويساراً، ويتثاءب. وأخيراً أسند رأسه إلى صدري، واستغرق في النوم.

كان الجو حاراً وثقيلاً والهدوء العميق يسود في الخارج. وكل شيء ينبئ باقتراب هبوب عاصفة هوجاء. ولما ا نتهى الاجتماع عاد كل واحد إلى منزله سالكاً أقصر الطرق. وفجأة بدأ البرق اللامع يشع في السماء. وهذا يعني أن العاصفة وشيكة أن تنقض على رؤوسنا.

لم أكد أصل إلى باب منزلنا مع الأولاد، حتى قصفت الرعود وراحت جدران المنزل تهتز من شدتها.

- عمتي نيلي، لعل نهاية العالم قد أتت، سأل يوسف، بصوت مضطرب، مما يدل على أن شجاعته، بدأت تفارقه فيما العاصفة تشتد.

- كلا يا حبيبي، قلت له في شيء من التردد - وهب أن الأمر كذلك فليس لنا أن نخاف، لأننا في أمان بين ذراعي يسوع. كما تقول الترنيمة الجميلة التي علمتكم إياها:

إن خراف يسوع هي موضوع حنانه

وهي تعرف صوته ويحفظها بعنايته

لقد سكب محبته في قلبها إلى الأبد

في قرب الراعي الصالح لا تخاف الخراف

ولا تخش العواصف

إنه يحفظها ويحملها على ذراعيه

ونظرته المعزية تفرحها إلى المنتهى

فيما أنا أتلفظ بالمقطع الأخير، شدني أحد الأولاد من يدي وقال بلهجة القلق:

- عمتي نيلي، انظري حنا!

يا للهول!

ففتاي الذي كان في البداية جالساً ومرتعباً، نسي فجأة كل خوف من العاصفة، وأخذ الآن يرقص في أرجاء الغرفة، وعيناه تلمعان سروراً.

- حنا! صرخ يوسف. اجلس وكن هادئاً. ألا تخاف حقاً؟

- أخاف! قال الصغير المتجاسر مستنكراً، كلا لست بخائف. إنني أحب هذه الأوراق الزرقاء، وأتمنى أن تظهر ثانية. ألم تر كم هي جميلة؟!

- حنا، كيف يمكنك أن تقول شيئاً كهذا، صرخ الأولاد بصوت واحد مفعم باللوم.

ولكن حنا لم يكن ليسمع لهم ولم يلبث أن غادر الغرفة وانتقل إلى قاعة الطعام المجاورة.

في تلك اللحظة ومض بريق أشد لمعاناً من كل ما سبقه، وتلاه رعد هائل، هلعت منه قلوبنا وارتعشت أيدينا، واصطكت ركبنا خوفاً. وفي هذه المرة لم يرن صراخ الفرح من شفتي حنا، كما كان يفعل كلما لمع البرق الأزرق الجميل. عندئذ ركضت مسرعة إليه، يا للهول! ماذا سمعت؟

صراخ متوجع، صراخ اخترق قلبي وشل حركتي، وأوقعني في ذهول للحظات ولما عدت إلى صحوي، وثبت إلى ابن أخي الصغير الذي كان ممدداً على الأرض.

- إنه لم يمت، قال الطبيب. الذي دعوناه بسرعة لفحص حنا الحبيب... إنه لم يمت، ولكن البرق أصاب عينيه وسيكون أعمى كل أيام حياته.

كان والده في سفر فأبرقنا له فعاد على عجلة قبل أن ينبلج نور النهار، ليحمل معنا أوجاع هذه المحنة القاسية.

وأخيراً جاءت الساعة الحرجة، فالولد عاد إلى وعيه بعد أن جرعناه شراباً منعشاً. كنت أجلس بالقرب من سريره، دامعة العين. وأخيراً رأيت أجفانه التي حرقها وميض البرق تتحرك. وشيئاً فشيئاً فتح عينيه الفاقدتي البصر إلى الأبد.

آه! كم كانتا متغيرتين تتحركان في كل اتجاه دون هدف، معبرتين عن أشد ألوان القلق. وفجأة انطلقت من شفتيه صرخة تنفذ إلى القلب وتمزق الأحشاء.

- عمتي نيلي، ألم ينته الليل بعد؟ قالها وهو يضغط بخده الملتهب على خدي. ثم استطرد: لماذا لم تشعلي الضوء؟ العتمة سائدة، ولا أستطيع أن أراك.

يا للولد المسكين! إن حاله تفطر القلب، فقد كان نور النهار على أشد سطوعه. لأن الشمس كانت ترسل خيوطها الذهبية من خلال الستائر.

- العتمة شديدة يا عمتي، قال الفتى متضجراً، وهو يشدني إليه. نحن في الليل وعيناي تؤلمانني - أرجوك يا عمتي العزيزة أن تشعلي الضوء!

وبتوجع أحياناً، وفي ثورة غضب أحياناً أخرى كان الصبي يكرر طلبه بإشعال الضوء في الغرفة. وأخيراً اضطررنا لأن نصرح لحنا بأنه قد فقد بصره. وأنه في هذا العالم، لن يرى النور إطلاقاً.

- لن أكون وديعاً بعد اليوم يا عمتي نيلي، ولن أحب الله! لأنه أرسل البرق الأزرق لكي يخطف بصري ويجعلني أعمى. هكذا كان يقول الصبي كل يوم، مطلقاً عبارات التمرد من قلب طُعن في الأعماق.

ولكن رأفة الله، لم تهمل ذلك الخروف العاصي. فإن كان هو لا يحب الله، فإن الله يحبه ويتعامل معه بالمحبة التي تتأنى وترفق، بقطع النظر عن عصيانه الذي يستحق الدينونة. لقد عالج قضيته بالنعمة الغنية باللطف، واقتاده إلى ينابيع خلاصه.

فبعد مرور سنة على المصاب المكدر، وحين ارتفعت الحرارة في مطلع حزيران ومعها الذكرى الأليمة، وما تبع ذلك من مصير تاعس بالنسبة لحنا المسكين، تلقينا دعوة لحضور اجتماع انتعاشي، يتكلم فيه أحد رجال الله، الذي أعطي من الله موهبة خاصة، لاقتياد الفتيان إلى الراعي الصالح. في ذلك اليوم جاءني يوسف وأمسك بيدي قائلاَ:

- عمتي نيلي، إنني أرغب في الذهاب إلى اجتماع هذا المساء فالسيد الذي سيعظ، جاء إلى المدرسة في هذا الصباح ودعانا، أفلا تريدين الحضور مع الصغار؟

هنا يجب أن أعترف بأنني قد ترددت كثيراً قبل إعطاء الجواب ليوسف. ويبدو أن الشيطان كان وراء ترددي. أي أنه حاول أن يضع عائقاً في طريقي.

- على الغالب سنذهب غداً، قلت ليوسف أخيراً بعد ترددي خلال بضع ثوان.

- آه! عمتي نيلي! أحقاً أنك لا تريدين الحضور؟ كان في لهجته شيء من العتب إلى جانب التوسل. مما وضع حداً لترددي فصممت على الذهاب.

بعد ساعة كنت أُرى مع قطيعي الصغير، جالسة في مكاني المعهود بقاعة الاجتماع لسماع كلمة الله. وحبيبي الصغير المكفوف جالساً وملتصقاً بي.

بدأ الواعظ خدمته بالصلاة، طالباً إلى الله أن يبارك كلمته ويعطيها نعمة لدى السامعين، حتى تُقبَل بفرح وتؤول إلى خلاص كثيرين. وبعد ذلك قرأ من رسالة كورنثوس الثانية 8: 9 «فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ ٱفْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ» .

وبكل عذوبة تكلم عن محبة الرب يسوع، الذي لكي يخلصنا ويغنينا إلى الأبد. لم يرَ ضيراً في أن يخلي نفسه ويضعها حتى الموت، غير محتسب لآلامه. وقد تقبل كل شيء بسرور، لكي يعطينا السلام هنا، وبعدئذ المجد الأبدي.

خلال خدمة الوعظ، كانت عيناي في معظم الوقت ترمقان الأعمى الصغير. في البداية كان وجهه يعبر عن الاهتمام الشديد بما سمع. وشيئاً فشيئاً امتلأت عيناه المطفأتان بالدموع. ثم أسند رأسه الصغير على كتفي وراح يجهش بالبكاء. في تلك اللحظة رأيت نظر الواعظ يتسمر عليه. وما أن انتهى الاجتماع، حتى جاء إلينا وطوق الفتى المسكين بذراعيه. وبعد لحظة من الصمت، كلمه شخصياً عن محبة الله.

- لماذا أذن بإرسال البرق الأزرق لكي يخطف بصري، ويبتليني بالضر (العمى)؟ سأل الفتى التاعس، وهو يرفع وجهه المبلل بالدموع.

حينئذ رمقني الواعظ بنظرة متسائلة؟ وبكلمات موجزة أحطته علماً بالتعاسة التي حلت بعزيزي الصغير. وفيما عيناه تفيضان دمعاً، أخذ الصبي وأجلسه في حضنه، لكي يجيبه على سؤاله:

- لا شك يا صغيري، في أن الله أحكم منا. إنه يعرف ما هو الأحسن لكل واحد منا. فكر في المسامير القاسية، التي بها ثُقبت يدا يسوع ورجلاه. وتأمل في إكليل الشوك، الذي به عُصم رأسه. فكر في الساعات الطويلة المظلمة التي قضاها على الصليب، حين وُجد متروكاً من الله. وكل هذا لكي يحصل لنا على الصفح عن خطايانا. فكر في هذا كله. إن الله لكي يمحو خطاياك وخطاياي، ولكي يفتح لنا أبواب المدينة الذهبية، بذل نفسه في موت أليم. لعله سمح بأن تفقد البصر، لأنك ربما لو بقيت بصيراً، لن تكون لك سانحة لترى النور الحقيقي. يسوع هو مخلص العالم والذي يتبعه، لا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة.

لا شك يا ابني، في أن الله يحبك حقيقة وبشدة. صحيح أنك لا تستطيع الآن تفسير أعماله. ولكنك بلا ريب ستعرف ذات يوم أنه لأجل محبته الكثيرة، سمح بأن تصير أعمى. كانت الكلمات لطيفة، ومؤيدة بفعل روح الله. فعملت في قلب الفتى حتى قال:

- عمتي نيلي، أنا أعلم الآن بأن الله يحبني. وأعرف أن الرب يسوع يحبني. لقد سمح بأن يغرز الشوك في جبينه الطاهر، وأن تُثقب يداه ورجلاه بالمسامير لأجل خلاصي. وقد سمح بسفح دمه حتى الموت، لكي يغسلني من خطاياي. إنني موقن الآن، بأن الرب يسوع يحبني.

منذ تلك الساعة عاد السرور والمرح إلى حنا. صار سعيداً وكانت سعادته حقيقية وعارمة كسعادة كل خروف في قطيع يسوع. لقد وجد السلام عند قدمي المخلص المكلل بالشوك. والجميل الجميل أنه أمسك به بالإيمان.

ليكن اسم الرب مباركاً، الذي جعل عيني قلب حنا مبصرتين تعاينان الله. إنه الآن حائز على المصالحة مع الله، بربنا يسوع المسيح. ومنذ حداثته صار حنا الأعمى خادماً أميناً للرب، وآلة مباركة في يد ربه ومخلصه. حتى أن القساة اللامبالين، ما كان في وسعهم أن يرفضوا الاستماع لهذه الخادم المكرس.

إن جميع قراء هذه القصة الحقيقية المؤثرة صغاراً وكباراً، يستطيعون أن يتعلموا معرفة محبة الله للحصول على الخلاص الأبدي، بالإيمان بيسوع المسيح ابن الله «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16).

مع المسيح وجهاً لوجه

وُلد الصادهو سندر سنغ في عائلة هندية من جماعة السيخ، الذين يعتبرون التعاليم الهندوسية أساساً للتربية. وكانت أمه في عينيه صورة حية لتلك التعاليم. فقد كانت تنهض قبل بزوغ الفجر، وتغتسل وتقرأ الكتب الهندية المقدسة، قبل مزاولة أي عمل.

وهذه الأم المثالية في نظام حياتها، حرصت على تربية ابنها منذ طفولته وفقاً للتعاليم الهندوسية، ولكي تبلغ هذا الهدف، أوكلت أمر تعليمه إلى رجلي دين أحدهما من رتبة «بانديت» والآخر من رتبة صادهو سيخ. وكان كل منهما يصرف معه ساعتين في الأسبوع لكي يلقنه القواعد الدينية، وفقاً للكتابات المقدسة الهندوسية.

ويقول سندر في شهادته إنه كان يصرف ساعات طويلة في القراءة يطالع ليس كتب السيخ وحسب، بل أيضاً الكتب الخاصة بالمذاهب الهندوسية الأخرى، على رجاء أن يحصل على السلام في قلبه. ويبدو أنه لسبب انكبابه على المطالعة، تعرض أحياناً كثيرة للتوبيخ من أبيه.

- هذا يضر بصحتك، قال الأب. إن الصبيان في مثل سنك، لا يفكرون إلا في اللعب والمرح. فلماذا تسلط عليك هذا الهوس منذ حداثتك؟ فمهلاً يا ابني، فسيكون لك في ما بعد الوقت الكافي للتفكير في هذه الأمور...

كان معلما سندر، يلقنانه القواعد الدينية بكل لطف، ومنذ البداية حاولا أن يفيداه من اختباراتهما الشخصية. ولكن لم تكن لدى أي منهما البركة الحقيقية، التي يصبو إليها بتوق الروح.

وقد جاء في شهادته، أنه كثيراً ما بسط صعوباته الروحية أمام البانديت. ولكن الأجوبة التي تلقاها منه، ما كانت إلا لتزيد في حجم هذه الصعوبات. إذ كان يقول له:

- رويدك يا فتى، فستحصل في ما بعد على اختبارات روحية مديدة. وعندئذ ستتلاشى هذه الصعوبات تلقائياً. لا تعذب نفسك بسبب هذه الأمور، واتبع نصيحة أبيك.

- ولكن لعلي لا أعيش حتى أبلغ أشدي، قال الفتى معترضاً. فماذا يكون مصيري إذن؟ والآن قل لي، كيف تتصرف مع صبي جائع يسألك خبزاً؟ أتقول له العب وامرح، وحين تكبر وتفهم المعنى الحقيقي للجوع، تحصل على الخبز؟! هل سيكون هذا الصبي مكتفياً باللعب، إن كان جائعاً؟ أو هل يستطيع الانتظار إلى أن يكبر، فينال الغذاء الذي يحتاج إليه.

وأيضاً الصادهو سيخ، لم يعطه أجوبة مقنعة على الأسئلة عينها، حين طرحها عليه. بل كانت أجوبته نوعاً من التهرب من إعلان حقيقة عجزه، إذ قال:

- لا تعذب نفسك الآن، لأنه من ضياع الوقت أن تحاول الآن حل هذه المسائل. سيأتي وقت تتقلص فيه صعوباتك ثم تتلاشى.

بعد هذه المحاورات بوقت غير قصير، حان الوقت لإرسال سندر لتلقي العلم في ثانوية تابعة للإرسالية الإنجيلية المشيخية في بلده. وهناك تعرض لتأثيرات جديدة، نجمت عن قراءة كتاب المسيحيين المقدس، التي كان يسمعها كل يوم. فهذه القراءة سرعان ما أيقظت فيه دم السيخ. فغلت مراجل الغيظ في صدره. ولماذا فُرض عليه أن يسمع هذه الأشياء.

- أنا من جماعة السيخ، قال محتجاً ذات يوم. كان يجب على المسؤولين أن يذكروا أن «الغرانت» هو كتابنا المقدس.

كان يومئذ في الرابعة عشر من عمره، متمرداً متحجراً، وحاقداً على كل مبدأ يغاير معتقداته الدينية. وفي تلك الأثناء بالذات، حلت به مصيبة كبرى، إذ فقد أمه ثم أخاه الأكبر. وأكثر ما أحزن قلبه هو فقد أمه، التي كانت توليه حنانها ويوليها ولاءه وحبه.

ولعل وفاة أمه أوجدت عنده رغبة ملحة، لكي يعرف الحقيقة الكامنة وراء حجاب الوجود البشري في عالم الأموات. وانطلاقاً من هذه الرغبة التي لم تتحقق له، ازداد ادعاءً وتكبّراً مردّداً في خاطره هذه العبارات:

- إن أشياء هذا العالم، لا تستطيع أن تشبع نفسي، يجب أن أجد الله مهما كان الثمن.

إلى جانب دروسه تعلم سندر أن يمارس اليوغا. وهذه الممارسة أتاحت له بعض التخفيف عن نفسه. وفي الوقت الذي كان فيه يجتاز مرحلة انتقالية، كانت في مخطط الله من أجله، كان يمر في أشد ظروفه حراجة.

بيد أن صوت دعوة المسيح له كان يرن في أعماق نفسه المعذبة : «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متى 11: 28).

هذه الراحة التي دعا يسوع كل نفس إليها، ألم تكن هي عينها الأمنية، التي يشتاق إليها بإلحاح شديد؟

ومن الكلمات التي تلفظ بها يسوع وتغلغلت في أعماقه، هي قوله له المجد: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16).

هذه العبارات المجيدة جعلت سندر المتأصل في الهندوسية يتساءل باندهاش قائلاً:

- إن الهندوسية وهي أجمل ديانة في العالم، لم تستطع إعطائي هذه الراحة. فكيف يمكن لديانة أخرى أن تهبها لي؟

كانت نفسه قد ألقت مرساتها على الأفكار الدينية الهندوسية، وتشبثت بها إلى درجة التعصب حتى أنه في ذات يوم، وهو 16 كانون الاول 1904 مزق الكتاب المقدس، وطرحه في النار، بحضور والده الذي قال له.

- لماذا يا ابني، أقدمت على هذا العمل الأخرق (الأحمق)؟

- لأن هذه الديانة الصادرة عن الغرب، ديانة كاذبة وأنه لمن أولى واجباتنا أن نلاشيها. وقد علق في شهادته على هذا الحادث بما يلي:

- كنت أظنني قد أتيت عملاً حسناً بإحراق الكتاب المقدس. ولكن اضطراب قلبي ازداد بصورة هائلة. كنت معذباً بالشكوك والأفكار القلقة، متسائلاً أين هي الحقيقة؟ وقبل كل شيء، هل الله موجود؟

أما في ما يختص بيسوع المسيح، فهذا لم يكن سوى إنسان مات، منذ تسعة عشر قرناً ونيف، وانتهى أمره!

بعد هذا وخلال يومين كاملين، كنت أشعر بأنني أشقى جميع الناس. وأن نفسي تنوء بحمل هذا العذاب النفسي: لذلك صممت على وضع حد لحياتي بالانتحار، إن كنت لا أجد الحقيقة، على أمل أن أجدها في العالم الآتي. فذهبت إلى والدي وقلت له:

- أتيت لكي أودعك، لأنني غداً سأموت.

- ولماذا تريد قتل نفسك؟

- لأن الديانة الهندوسية لم تشبع نفسي. وكذلك لا الغنى ولا سعة العيش ولا التملك، حتى ولا أموالك تستطيع أن تشبع نفسي.

بعد هذا الحوار، وضعت مخططي الانتحاري هكذا: إن السكة الحديدية تمر في ممتلكاتنا. وفي الساعة الخامسة من كل صباح، يمر القطار السريع عليها. فإذا لم أجد جواباً لسؤالي، فسألقي بنفسي تحت عجلاته.

استيقظت في الساعة الثالثة، من 18 كانون الاول 1904 وصرفت ساعة ونصفاً في الصلاة، منتظراً ظهور كريشما أو بوذا، أو بعض القديسين الهندوس الآخرين. ولكن أحداً منهم لم يظهر.

لم يبق أمامي سوى نصف ساعة، فجثوت على ركبتي وصليت بأكثر ضراعة قائلاً:

- آه! يا الله إن كنت موجوداً، فاعلن لي ذاتك!

لم أكد أتلفظ بهذه الطلبة، حتى سطع في غرفتي نور عظيم. ظننت أن حريقاً حدث في البيت، فأسرعت بفتح باب غرفتي، ولكني وجدت كل أقسام البيت الأخرى غارقة في الظلام.

إذن فقد حدث شيء عجيب، كما لم أر في حياتي قبلاً.. لأن الغرفة امتلأت بنور عجيب لم يلبث أن اتخذ شكل هالة وفي وسط الهالة رأيت شخصاً مجيداً!... لم يكن هذا بوذا ولا كريشما بل كان يسوع المسيح.

سأعيش أيامي هنا، وسأنتقل إلى الأبدية، ولكنني لن أنسى وجهه المجيد البهي والمفعم بالحب. وأيضاً لن أنسى كلماته، التي وجهها إليّ، قائلاً:

- لماذا تضطهدني؟ لقد مت لأجلك، وأعطيت حياتي.. أنا هو مخلص العالم.

حين نهضت من سجودي عند موطئ قدمي يسوع، مفعم القلب بالفرح المجيد، كانت الرؤيا قد انتهت. فذهبت حالاً إلى أبي، وأحطته علماً بالرؤيا ثم أعلمته بأنني صرت مسيحياً. فقال باندهاش:

- كيف؟ منذ يومين فقط، أحرقت الكتاب المقدس، واليوم تقول إنك صرت مسيحياً! كنت تكره المسيح، والآن تريد أن تخدمه. كيف يمكن أن يكون هذا؟

- لأنني رأيت المسيح حياً، وسمعت صوته. فينبغي أن أكرس له حياتي. إنني أريد ذلك.

بعد إيماني بالمسيح، صرفت ثلاثة أيام بالصلاة، في موضع خلاء. ولكي اعترف بخطيتي وأطلب الغفران، قلت في صلاتي.

- اغفر لي يا رب، لأنني كنت أعمى روحياً، ولا أعرف كلامك المقدس الذي يحيي.

وفي خلوتي تلك اجتزت اختبار نعمة الله، ونلت خلاصه، الذي نجم عن ارتفاع يسوع على الصليب. وظهر لي على ضوء النعمة المخلصة عدم جدوى المحاولات الشخصية. ولكم سعدت حين حصلت على تأكيد الغفران، فامتلأ قلبي بسلام الله، الذي يفوق كل عقل. ولا توجد كلمة في لغة البشر، تستطيع وصف السرور اللا مثيل له الذي ملأ جوانحي. ولكنني أستطيع أن أشهد لحقيقة مهمة جداً وهي أنه بالمسيح يسوع تصبح السماء على الأرض بالنسبة لكل من يؤمن به.

مسابقة كتيّب اللص الذي سرق الله

أيها القارئ الكريم،

يسرنا أن نرسل لك جائزة بعد استلامنا أجوبتك على الأسئلة الآتية. الرجاء كتابة اسمك وعنوانك كاملين وبخط واضح.

  1. لماذا صرخ القس بوجه الشرطي «إيجور تروزيك» قائلاً: «أنت لص»؟

  2. بماذا اقتنع الشرطي «إيجور تروزيك» بعد أن عرف مخلصه الرب يسوع؟

  3. اذكر الآية من الكتاب المقدس التي أقنعت ماري بالأخذ بنصيحة أمها؟

  4. كيف نشأ يعقوب؟

  5. ما هي الآية التي اختارتها أدما موضوعاً لحديثها مع الأولاد الفقراء، أمام يعقوب ولماذا؟

  6. ما هي أهمية الصلاة بالنسبة للعمل الإنجيلي الخلاصي؟

  7. كيف أثرت قصة «أموت بديلاً عنك» فيك ومن هو الذي مات عنّا جميعاً؟

  8. كيف قبل حنا الصغير خلاص الرب يسوع بعد مرور سنة على فقدان بصره؟

  9. مما تيقن الصادهو سندر سنغ بعد إيمانه بيسوع؟

  10. هنالك آية من الكتاب المقدس وردت في معظم قصص هذا الكتيّب. اذكرها وعبّر عمّا تعنيه لك.


Call of Hope 
P.O.Box 10 08 27 
D-70007
Stuttgart
Germany