العودة الى الصفحة السابقة
اللؤلؤة الثمينة

اللؤلؤة الثمينة

قصص من الحياة اقتبسها اسكندر جديد من مصادر مختلفة

اسكندر جديد


Bibliography

اللؤلؤة الثمينة. اسكندر جديد. Copyright © 2007 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . 1972. الطبعة الرابعة . 1992. SPB 8010 ARA. English title: The Precious Pearl. German title: Die kostbare Perle. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 D - 70007 Stuttgart Germany http://www.call-of-hope.com .

1 - هل أنت أيضاً من هؤلاء الناس؟

في نهار ربيعي رائع، أشرقت شمسه فبددت الغيوم من سماء مدينة لندن، وأجلت عنها جيوش الضباب والبرد، كان الفريق هارديس من جيش الاحتلال في الهند يجتاز باب فيكتوريا، في طريقه لزيارة صديق شاب. كان مقطب الجبين، كئيب النفس، لأن صديقه جاك هيلر الذي عرفه منذ طفولته كان يرزح تحت ثقل الأحزان بسبب بعض المصائب التي توالت عليه.

في أثناء سيره كان القائد النبيل يردّ على التحيات الكثيرة بسرعة تدل على انشغال باله. وأخيراً وصل إلى منزل صديقه وصعد السلالم المؤدية إلى قاعة الاستقبال. ولما فتح الباب بكل لطف تسمّرت رجلاه على العتبة، لأن وجه صديقه المعبِّر عن الأسى واليأس مزق قلبه إشفاقاً. وكان عليه أن يتمالك نفسه حين شدّ على يد الشاب قائلاً:

- ما الخبر يا جاك؟

- ليس من خبر سار، أجاب الفتى بنغمة الخيبة.

- رويداً... لا نفقد الشجاعة! لنثق في صلاح الله... ولنؤمن بلطفه ولنرتجه، مهما كانت الأحوال.

- الثقة، الإيمان، الرجاء، قال جاك بمرارة، هذه ليست سوى كلمات جوفاء لا معنى لها.

كان القائد العجوز تقياً، أكثر منه مبشراً، فقال في نفسه بعد دقيقة من الصمت قضاها يقدح زناد الفكر: يا للصغير المسكين! ماذا أفعل لأساعده للتغلب على أعدائه اللدودين: الحزن والشك واليأس؟

ولكن هل أسمح لنفسي بأن أصير جباناً في أيامي الأخيرة؟ وطالما الأمر متعلق بخلاص نفس، هل سأستحي في استعمال الإنجيل كسلاح مناسب في هذه المعركة؟!

- أهذا فقط كل ما تعنيه لك هذه الكلمات يا صديقي؟ قال القائد. إذن فأنت حزين إلى درجة القنوط من رحمة الله!

- يا صديقي، قال الفتى، لم يدر في خلدي أنك أنت أيضاً من هؤلاء الناس!

- لست أعلم على وجه التحقيق ما عنيته بقولك «هؤلاء الناس» قال القائد بلهجة المحامي المعترض. إن الذي أعرفه هو أن الثقة والإيمان والرجاء حقائق راهنة معزية.

- لعل بعض العزاء يأتي في النهاية! ولكن عبثاً أن نطلب شيئاً كهذا، وخصوصاً إن كنا ننتظره من القدر، قال الشاب.

- جاك! قال القائد، أنت لست سوى فتى صغير السن، ألقيت بنفسك في معركة الحياة الكبرى. ولهذا أنت في حاجة ماسة إلى تعلم هذا الدرس المهم.

إن الكلمات من نوع لماذا؟ وكيف؟ لا تجدي نفعاً. بل على المرء أن يطيع بلا جدال. هذا هو المجال الذي فيه تُختبَر قيمة الرجل، إن كان ضعيفاً جباناً، فلا بد أن يمتنع عن بذل الجهود التي تطلبها الطاعة. وإنه لمن خطل الرأي أن يتنصَّل الإنسان من الأوامر بحجة أنه لا يفهم مرماها. ولكن إن هو جاهد، فلا بد أن الجهاد يُكسبه قوة، فيصبح صالحاً لمواجهة الصعوبات بكل إقدام. وعندئذ يستطيع الكفاح بشجاعة، بالرغم من الخطوات الخاطئة التي مشاها، قبل أن يعرف هدف تلك الأوامر التي أطاعها بدون تردد، إلى هذا اليوم. فبالجهاد مع الطاعة تنشأ عنده تلك الحكمة التي لا تخطئ، والتي يعطيها الرب لكل من يثق فيه، ويتبع إرشاده بحب مغتبط.

- حسناً، قال جاك، بلهجة المتضايق. أنا من فئة أولئك الذين حُرموا من إرث الحياة، لأنه لا يوجد فيّ حب ولا طاعة.

- وأنا، قال القائد، مرَّ وقت لم يكن فيّ حب ولا طاعة. ولكن بفضل اللّه، أشرقت عليَّ شمس البر ذات يوم، فأذابت الجليد عن قلبي، فامتلأ حياة. وقد استخدم اللّه لذلك فتى صغير السن اسمه ولي هولت.

كان ذلك حين كنت عقيداً في الهند، أخدم في مقاطعة مليئة بالاضطرابات والأحداث الدامية وجرائم القتل. كان في فرقتي يومئذ ضارب بوق صغير السن، وكنت أعتبره غير صالح لحياة الجندية. ولكنه كان ابناً لجندي شجاع، مات في إحدى المعارك. وكذلك أمه تُوفيت بعد ستة أشهر من مصرع زوجها. ولهذا فُرض على الفرقة أن تتبناه وتقبله في صفوفها، وهو بعد حدث السن.

كانت أمه سيدة تقية جداً، تتمتع بتقدير واحترام الجميع، نظراً للطفها ووداعتها. وقد ربت ولدها في نور الإنجيل، وغرست في قلبه الصغير الفضائل والآداب المسيحية، التي عاشتها شهادة في المجتمع.

حين بلغ ويلي هولت الرابعة عشرة، انتقلت الفرقة إلى مخيم التدريب على الرماية. ولما كان الفتى طري العود، نحيف البنية، لا قدرة له على تحمل المشاق، فكرت في أن أبقيه في المؤخرة، ليمارس عمله كضارب بوق فقط. ولكن رقيب الفصيلة أصر على أن يمارس التمارين:

- يا سيدي العقيد، قال الرقيب. دعه يتعود على الخشونة. صحيح أن هواء ساحة الرماية مشبع برائحة البارود وأن التمارين ستكون قاسية عليه. ولكن كل هذه ستساعد على نمو قواه الجسدية فيخشوشن ويصير جندياً صالحاً. وفوق هذا فالفتى قديس له طاقة كبرى من الصبر، لهذا فسوف يتحمل.

- أنا لا أؤمن بالقديسين، قلت للرقيب بفتور. لكن حسناً، ليكن!

وذات صباح أتاني نبأ بأن أهداف الرماية، قد اقتُلعت من أمكنتها وألقيت أرضاً. وهذا معناه توقف الفرقة عن التمرن إلى أن تُعاد الأهداف إلى أمكنتها. وفوق هذا، فالأمر الذي حدث بالغ الخطورة بالنسبة للأنظمة العسكرية.

لقد أدى التحقيق الذي أجريته إلى الظن بأن الفاعل هو واحد أو اثنان من جنود الخيمة الرابعة التي ينام فيها ويلي هولت. فوجهت نداء إلى أولئك الجنود طالباً من المذنب أن يعلن نفسه. ولكن ندائي لم يحرك أحداً، فكان لا بد لي من محاولة أخرى لكشف المخرب فقلت:

- إن المخرب هو أحد الموجودين في الخيمة رقم 4 ، فإن كان هذا يتقدم ويتقبل القصاص بشجاعة فإني أبرئ ساحته. أما إذا لم يتقدم أحد فلا بد لي من إنزال العقوبة بكم جميعاً، كل واحد عشر جلدات.

قلت هذا بملء صوتي، فصمت الجميع، ولكن ليس طويلاً، لأنه بعد ثوان قليلة، خرج من بين أولئك الرجال الأشداء كائن هزيل، يحسبه الناظر لأول وهلة شبحاً لا رجلاً. فهذا جاء ووقف أمامي وجهاً لوجه.

كان وجهه شاحباً، يظهر في تقاطيعه تعبير عن إرادة مصممة. وكانت النظرة التي ألقاها عليَّ حُرة صافية ومفعمة بالثقة في النفس، إنه ويلي هولت الصغير!

- يا سيدي العقيد، قال الفتى. أنت قلت: إن كان أحد الموجودين في الخيمة رقم 4 يتحمل القصاص، فإنك تعفو عن الآخرين. أنا مستعد لتحمل هذا. ولكن لي رجاء وهو أن تنفذ فيّ العقوبة الآن.

- إذن ليس بينكم من هو جدير بشرف الجندية، هكذا صرخت في وجوههم. أبهذا المقدار أنتم جبناء حتى تتركوا هذا الفتى يتحمل مغبة عملكم القذر؟ إنكم تعلمون أكثر مني أنه بريء!

كانت كلماتي قوية وماضية كسيف ذي حدين، ومع ذلك بقوا جامدين صامتين كصمت الأموات.

حينئذ التفتُّ إلى الفتى، الذي كان ينتظر بهدوء، متفرساً في وجهي... والحق أقول إنني في كل حياتي لم أوجد في مأزق حرج كهذا، الذي يطعن القلب.

كان العُرف العسكري يقضي عليَّ بأن أحفظ كلمتي مهما كلف الأمر، وكان الفتى يعرف هذا. لذلك كرر طلبه بلهجة مؤثرة:

- أنا مستعد يا سيدي العقيد.

وأنا، بقلب معذب ونفس متألمة، أصدرت الأمر بأن يؤخذ إلى الجلد.

ويا لها من شجاعة تحلى بها الفتى وهو يتلقى لسعات سوط الجلاد بضربات هائلة!..

ضربة، اثنتان، ثلاثة... وعند الرابعة خرج من صدره أنين يشبه الحشرجة. وقبل أن يقع السوط الخامس على ظهره الممزق الدامي، انطلقت صرخة مبحوحة من بين الجنود المتهمين، الذين أُجبروا على الحضور لمشاهدة تنفيذ العقوبة. وفيما الأبصار متجهة إلى الجهة التي صدرت عنها الصرخة، وثب الجندي جيم سيكس، وأمسك بالسوط قائلاً:

- أوقف الجَلدَ يا سيدي العقيد! أوقف! اربطني. ليس هو المذنب، بل أنا، أنا هو الحقير الجبان!

وبوجه يعبر عن أقسى أنواع العذاب، وتأنيب الضمير، طوق الفتى بذراعيه.

في تلك اللحظة رفع ويلي هولت نظره وتفرس في وجه جيم... وبالرغم من الآلام القاسية التي كانت تعصف بجسده الهزيل، والتي كادت تفقده كل حركة، ابتسم له، نعم ابتسم له!

- كلا يا جيم، قال الفتى بصوت أقرب إلى الهمس. أنت الآن في مأمن... إن كلمة العقيد، تضمن لك السلامة.

قالها، ثم أحنى الرأس على صدره، إذ قد أُغمي عليه.

في صباح اليوم التالي، ذهبت إلى خيمة المستشفى، حيث أُرسل الفتى. وهناك سألت الطبيب:

- كيف حاله؟

- إنها النهاية يا سيدي العقيد.

- كيف؟ صرخت من أعماق قلبي المعذب.

- لأن صدمة البارحة كانت قاسية، والضربات التي تلقاها، كانت أقوى من أن يتحملها جسده الهزيل.

وفيما أنا أعاني ألوان الألم، أتت إلى سمعي أصوات من إحدى زوايا الخيمة... ولن أنسى ما حييت ذلك المشهد، الذي تراءى لعيني إذ ذاك. كان الفتى المائت ممدَّداً، ومسنداً بعدة وسائد، وفي قربه جيم سيكس، جاث على ركبتيه:

- لماذا فعلت هذا، يا صغير؟ لماذا فعلت؟ قال جيم بكلمات متقطعة وبطيئة.

- أجل، إن المسيح مات لأجلك، لأنه مثلي كان يحبك، قال الفتى. ولكنه أحبك أكثر مما أستطيع أنا! بيد أنني تألمت كثيراً لإحدى الخطايا التي ارتكبتها. ولكن تأكد أن يسوع أخذ في جسده قصاص كل خطاياك، وقد بدأ قصاصه بالحزن والتألم وتحمل الأوجاع، وانتهى بالموت، يا جيم. إنه مات بديلاً عنك.

- ليس للمسيح ما يعمله من أجل إنسان من نوعي. أنا أحد الأشقياء البائسين، وأنت تعلم هذا.

- ولكن يا جيم، هلا علمت أن المسيح مات لأجل الأشقياء البائسين! هو نفسه قال: «لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ» (الإنجيل بحسب مرقس 2: 17) . «إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَٱلْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَٱلثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَٱلدُّودِيِّ تَصِيرُ كَٱلصُّوفِ» (إشعياء 1: 18).

بعد برهة ران فيها الصمت، استطرد ويلي كلامه بحرارة يشوبها القلق.

- جيم، هل يمكن أن يكون قد مات عبثاً؟! لقد أراق دمه الثمين لأجلك... لقد أعطى حياته هبة لك... إنه يطرق باب قلبك. أفلا تدعه يدخل؟ آه! افتح له يا جيم... وعندئذ... يمكننا أن نلتقي فوق...

فيما أنا واقف في الظل، شعرت بأن قلبي يدق بسرعة. لقد سبق لي أن سمعت هذه الأشياء في الماضي البعيد! والعجيب أنه في تلك اللحظة حضرتني ذكرى والدتي، آتية من وراء أحجبة الماضي. وهذه الكلمات التي سمعتها الآن، خُيِّل لي أنها صدى كلماتها التي كانت تضعها في أذني وأنا بعد طفل.

... كم صرفت من الوقت مع تلك الذكريات؟ لست أدري، ولكنني أعلم أن صراخ جيم المختنق أعادني إلى الواقع. وعندئذ رأيت رأس ويلي الصغير يقع على الوسادة بدون حراك، فظننت أنه قد انتهى. ولكن بضع نقط من الدواء أعادته إلى الحركة ففتح عينيه اللتين بدتا وكأن ليس فيهما حياة.

- رنمي لي يا أمي، رنمي لي... قال الفتى. أنشدي ترنيمة الأبواب الذهبية... آه! إنني متعب جداً.

ما أن انطلقت هذه الكلمات من شفتيه، حتى ومضت في ذاكرتي كلمات تلك الترنيمة الخالدة، التي سمعتها كثيراً في الماضي. وبصورة آلية، ألفيتني أردد في سمع الفتى المائت هذه المقاطع من الترنيمة، التي اشرأبت من ماضيَّ الذي لفَّته غيوم النسيان:

مهما طال النهار

فإن ساعة ترانيم المساء آتية

والإنسان المتعَب سيرتاح في رقاده.

سلام في القلب

لأن الخطايا قد غُفرت

ومهما كانت الطريق طويلة وضيقة ووعرة

فإن سِرْتَ وراء الدليل ستصل إلى السماء

وتدخل من الأبواب الذهبية

ما أن تلفَّظتُ بالكلمات الأخيرة، حتى لمعت عينا الفتى وشخصتا في عينيَّ، كأنهما تعربان عن شكرٍ لا متناهي.

- آه! شكراً يا سيدي العقيد، قال الفتى بصوت خفيض. عما قليل سأكون هناك.

قالها بنبرة الواثق المغتبط باقتراب رحلته الأخيرة، إلى درجة أنني سألته بصورة آلية:

- إلى أين أنت ذاهب؟

- إلى السماء يا سيدي العقيد، قال وابتسامة حلوة تتألق على شفتيه. لقد رنّ النداء لي، والأبواب الذهبية فُتحت، والثمن قد دُفع. ثم أضاف وكأنه يرى بركات لا نراها نحن، أو كأنه غارق في حلم جميل:

كما أنا، وليس لي عُذر لديك

إلا الدم المسفوك عني من يديك

وأمرك القائل أن آتي إليك

آتي أنا، يا حمل الله الوديع

ومرة أخيرة رمقني بنظرة السائل المهتم بشيء عزيز، مشيراً إلى جيم:

- ستساعده. أليس كذلك؟ قال الفتى بصوت أقرب إلى الهمس. يا سيدي العقيد... ستدله على طريق الأبواب الذهبية؟

ثم رفع يديه، وأطلق صرخة الانتصار:

- ماما... آه! ماما!...

هكذا رنّ صوته بالكلمات الأخيرة، فحرك قلوب شهود ذلك المنظر. وشيئاً فشيئاً ألصق ذراعيه بصدره. والروح النبيلة الطاهرة انطلقت إلى الديار اللؤلؤية، لتحيا مع فاديها إلى الأبد.

... توقف القائد عن الكلام، فران على القاعة صمت رهيب.

وفجأة رفع جاك هيلر رأسه ببطء وتفرس في وجه صديقه. كانت نظرته القاسية وتعبيراته المتمردة قد توارت إلى غير رجعة.

- هذا درس عظيم يا سيدي، قال الشاب.

- نعم إنه لكذلك. وقد أتى بثمار وفيرة جداً، فكل الحاضرين في الخيمة وحولها وكثيراً ما هم، قد سمعوه ولن ينسوه أبد الدهر.

- وجيم؟...

- جيم... قال القائد بصوت الحالم... كان الدرس لجيم ولي عوناً عظيماً. فقد جعلت منه مرافقي الخاص، حتى يتسنى لي أن أراه دائماً، وأهتم به. ولكن ذات يوم أُصيب في إحدى المعارك بجرح قاتل... وكنت إلى جانبه حين صُرع وقد ضمدت له جرحه. ولكنه مات خلال دقائق.

- سأرى ويلي الصغير يا سيدي العقيد، قال جيم المحتضر وابتسامة الظفر، تلمع في محياه. أليس هذا رائعاً ومدهشاً، إنه عرف أن مخلصه هو أيضاً مخلصي... وأن الأبواب الذهبية ستُفتح لي أيضاً؟!

- سيأتي دوري أيضاً عما قريب، قال القائد وهو يضع يده على كتف الشاب. وأنت يا جاك، ألا تلبي دعوة يسوع المخلِّص لتلتقي بنا؟...

- نعم، إني أرجو ذلك، قال جاك بصوت مفعم بالرجاء. حينئذ غمغم القائد العجوز قائلاً: «أشكرك يا إلهي».

وأنت أيها القارئ الكريم، هل تود أن تكون مثل هؤلاء الناس؟

2 - مريم ذات العكازين

كانت مريم الصغيرة العاجزة معروفة لدى الجميع. وكانت تجول في أرجاء حيّها الفقير متكئة على عكازيها، لأنها منذ طفولتها أُصيبت بحادث اقتضى بتر ساقها.

وكان والداها رقيقي الحال، يكدَّان كل النهار في سبيل الرغيف، لذلك لم يستطيعا تقديم العناية الكافية لها. وكان على الفتاة أن تبقى وحدها في ذلك البيت الكئيب، حيث كانت تقضي الأيام بصورة رتيبة، وبدون أمل.

ولكن ذات يوم زارها ملاك من عند الله، وكان الملاك فتاةً شاءت أن تخفف عنها ما بها. ففي أثناء الزيارة كلمتها عن يسوع، عن محبته الفائقة التي حملته على أن يبذل نفسه لكي يخلصها، فأصغت بكل اهتمام. ولم تلبث نفسها التي نضجت بفعل الآلام، أن انفتحت لنعمة اللّه، فقبلت يسوع مخلصاً، واتخذته صديقاً.

ولما انصرفت الزائرة، كانت تحمل الفتاة الصغيرة العاجزة في قلبها. وتجاوباً مع هذه العاطفة الطيبة، ذهبت لمقابلة بعض أعضاء الكنيسة، وسألتهم أن يساعدوها لشراء عكازين للفتاة المسكينة. وهذان العكازان، أحدثا أثراً عجيباً في حياة تلك الصغيرة البائسة. فقد تعلمت كيفية استعمالهما بسرعة مدهشة.

ولكم كان فرحها عميماً حين استطاعت أخيراً الخروج من عزلتها لتملأ رئتيها من الهواء النقي في الخارج! ولكم كانت غبطتها جزيلة في أن تستطيع الذهاب إلى الكنيسة، في يوم الأحد، لتسمع كلمة الله! هنا وجدت السعادة العظيمة، السعادة التي توجدها عبادة الله بالروح والحق.

في يوم أحد، بعد الصلاة، وجَّه القسيس نداءً حاراً، طلب فيه من الحضور تقديم مساعدات لإرسالية تعمل في مجاهل الأرض، لنشر الإنجيل بين أفراد قبيلة وثنية، لم يسبق لها أن سمعت شيئاً عن يسوع المخلص.

ولكن هذا النداء، بدا وكأنه لم يجد صدى في قلوب السامعين: كان هناك مدير بنك يسمع بلا مبالاة، ويخفي تثاؤبه بوضع يده على فمه. وإلى جواره تاجر ثري، كان يلقي نظره على ساعته بين آونة وأخرى، وكأنه ضاق ذرعاً بالاجتماع. وفيما الجو اللامشجع يسيطر على المكان جلس القس وفي نفسه شعور بأن نداءه الحار قد ذهب بدون جدوى.

إلا أنه حين بدأ أحد الشيوخ بجمع العطايا، رفع القس قلبه إلى اللّه مصلياً وسائلاً أن لا يحرم تلك القبيلة القابعة في ظلمة الوثنية من نور المسيح يسوع.

في تلك اللحظات، كانت أشياء خفية عن عيون البشر تتفاعل في نفس مريم الصغيرة، الجالسة في أحد المقاعد الخلفية. كان نداء القس قد لمس قلبها في عمق أعماقه.

- آه! لو كان في وسعي أن أفعل شيئاً يتيح لأولئك الوثنيين أن يعرفوا يسوع، هكذا قالت الفتاة في نفسها. ولكني لا أملك فلساً واحداً... والعكازان؟ ولكن ليس في وسعي أن أعطي العكازين.

ولكن الصوت، صوت يسوع، استأنف يكلمها جازماً:

- أعطيني عكازيك، فأنا في حاجة إليهما.

- ولكن كيف يمكنني أن أعيش بدون عكازين؟ قالت الفتاة في نفسها. كانت معركة هائلة تدور في نفس مريم، وقد راح قلبها يخفق بشدة، حتى خيل لها، أنه عما قليل سيتوقف عن الخفقان.

لم يكن أحد يعلم بالجهد اللامنظور الذي كانت الفتاة تبذله في داخلها بلا هوادة... وأخيراً انتصرت الصغيرة على نفسها، فقالت همساً:

- نعم يا رب أنا أعطيك العكازين! قالتها بلهجة المنتصرة. ولو تفرس أحد في وجهها، لرأى نوراً لطيفاً يشع في عينيها المملوءتين بالدموع. ولشهد ابتسامة حلوة تنطبع على ثغرها الصغير، وهي تنتظر وصول صينيَّة العطايا إلى أمام مقعدها.

حين انتهى الشيخ من جمع العطايا الهزيلة التي وضعتها الأكف في الصينيَّة، تردد في المرور أمام الفتاة العاجزة، وقد وضعت العكازين إلى جانبها. إلا أنه تمشياً مع الذوق السليم، لم يشأ الذهاب دون أن يتوقف أمامها.

فنظرت إليه مريم، وبكل ما في طفوليتها من بساطة، رفعت عكازيها لتضعهما في الصينيَّة الفضية. وبسرعة البرق، فهم الشيخ الوقور ما تعني هذه اللفتة الغريبة. فحمل الصينيَّة بإحدى يديه، وبالأخرى تناول العكازين ووضعهما فوق الصينيَّة، ثم عبر بين المقاعد بكل تؤدة، بينما كانت أنظار الحاضرين مسمرة عليه.

كان كل واحد منهم يعرف العكازين. وقد عرفوا في تلك اللحظة أن الصغيرة العاجزة أقدمت على تضحية كبرى، فقد أعطت عكازيها، أعطت كل ما تملك.

كانت اللفتة كريمة، وكريمة جداً. وسرعان ما أحدثت أثرها، إذ امتلأت محاجر الحضور بالدموع. وتلى ذلك تحرك الأريحية عند كل منهم. فمدير البنك الثري، بعد أن مسح دموعه المتساقطة على وجنتيه، أخذ قلمه ووقع شيكاً بمبلغ ضخم. وبينما الشيخ يضع الصينيَّة على المذبح ومن فوقها العكازان، أشار إليه التاجر الكبير، لكي يعود بعد أن أخرج حافظة نقوده المكتظة بالأوراق النقدية. فتشجع الشيخ وطاف بالصينيَّة مرة أخرى على العابدين. وأسفر طوافه عن حصاد وفير جداً.

أما القس، فقبل التقدمة، بكل سرور. وبعد أن رفع صلاة شكر للمنعم الجوّاد، قال:

- إن صديقتنا الصغيرة العاجزة أعطتنا مثالاً رائعاً عظيماً في العطاء، لأنها أعطت أعز وأثمن ما تملك.

ما أن أنهى القس كلمته حتى وقف أحد الحضور ودفع مبلغاً كبيراً من المال ثمناً للعكازين، ثم أعادهما إلى الفتاة الصغيرة العاجزة، التي خرجت من الكنيسة وهي في أعظم حالات السعادة.

نعم، إن الله كان يعلم أن مريم في حاجة إلى عكازيها. ولم يكن في فكره الإلهي أن يأخذهما إلى الأبد. وإنما كان يحتاج إليهما لبرهة وجيزة لكي يوقظ الضمائر، ويرى إن كانت الفتاة على استعداد أن تعطي كل شيء حباً بالمسيح.

صحيح أن العطية زهيدة في حد ذاتها، ولكنها كبيرة بالنسبة للتضحية التي كانت تمثلها، والتي انطلقت منها قوة استطاعت أن تحرك أريحية أعضاء الكنيسة وتضاعف عطاياها. ثم نقلت عواطف العطاء السخي إلى كل الذين سمعوا هذه القصة الرائعة في بساطتها. أما مريم، فليس من شك في أنها ستكتشف ذات يوم أن اللّه استطاع بواسطتها أن يعمل في الأرض الوثنية. هذه حقيقة، يجب أن نعرفها. وهي أن عمل الطاعة المتجاوب مع الصوت الداخلي له نتائج لا تحصى.

3 - اللؤلؤة الثمينة

في يوم أشرقت شمسه، وصفا أديمه، جلس مبشر على شاطئ البحر، وراح يسرح نظره فوق المياه الصافية وهي تلمع في وهج الشمس. وفيما هو يتأمل هذا المنظر الجميل، ظهرت على صفحة الماء بعض الفقاعات، ثم تلا تلك ظهور صديقه صياد اللؤلؤ الهندي العجوز، الذي بعد أن تنفس الصعداء طويلاً، خرج من اليمّ، وتسلق السقالة، حاملاً سلته المليئة بالأصداف.

- هذا أعظم صيد رأيته في حياتي! قال المبشر بعد أن حيّا صديقه الصياد.

- خذ هذه، أظن أنها جيدة، قال الصياد، وهو يرد على التحية، ويضع في يد صديقه صدفة كبيرة.

تناول المبشر الهدية مع كلمة شكر، ثم تناول سكيناً من جيبه وفتح الصدفة.

- انظر! انظر! إن في قلبها لؤلؤة، قال المبشر بغُنَّة المندهش. إنها لكنز ثمين، يا عزيزي.

- أجل إنها لؤلؤة جيدة، على ما أرى، قال الصياد وهو يهز كتفه، كأنه يقول لا تبالغ!

- لست بمبالغ إذا قلت لك إنها في الحقيقة درة ثمينة، لم تكن تحلم بمثلها. ولعلك لم تر في حياتك أجمل ولا أكمل منها!

- أؤكد لك إنني رأيت أجمل وأثمن منها. والآن تأمل هذه! ألا ترى النقطة السوداء البادية فيها؟ وهذا الشعث الخفيف؟ إنه طويل كما ترى. إلا أنه لا يشينها، ولا يحط من قدرها كلؤلؤة رائعة!

حين نكلم الناس يقتضينا الحديث أن نستعمل بعض الاستعارات اللغوية التي لها صلة بحياتهم وبالعمل الذي يزاولونه. وهذا ما فعله الصياد العجوز في حديثه مع الصديق المبشر في أثناء سيرهما على الطريق المؤدية إلى المدينة، والتي يكثر عليها الغبار.

- يا صديقي أرى أن اللؤلؤة قد بدت لعينيك جميلة وكاملة، أليس كذلك؟ والحقيقة أنك في وصفها لي كنت تتبع أسلوب الناس الذين يجاملون الغير، فيبالغون في تقدير مزاياهم. أما أنا فلا أفعل شيئاً كهذا، بل أنظر إلى الجميع بعيني الرب، الذي يرى الناس كما هم في الحقيقة.

كانت هذه العبارة الأخيرة فاتحة لحوار ديني بين الصديقين الحميمين، المرتبطين بوشائج مودة صافية قديمة العهد. وذلك بالرغم عن كل الاعتبارات والفروقات العنصرية.

في أثناء النقاش أكد المبشر لصديقه، وربما للمرة المئة أن الله في نعمته يمنح الخلاص لكل الذين يؤمنون بيسوع المسيح. وبالمقابل أجاب الهندي، وربما للمرة المئة، أن الخلاص الذي يُعطى بهذه السهولة هو خلاص تافه، لأن الخلاص الحقيقي هو ما يضع الإنسان من أجله عزة النفس وكرامتها، باذلاً كل جهد. وهذا الثمن لا يُحسب غالياً، طالما يُكافأ الذي يدفعه بمكان في السماء. ثم استطرد:

- حين أكمل استعداداتي سأذهب إلى دلهي المقدسة لتأدية الحج. سأذهب إليها حافي القدمين. وسأسلك طريقاً مفروشة بالحصا المسننة. ولي ملء الثقة أن كل لهاث أصعده من صدري سيغسل واحدة من خطاياي السابقة. وفي سيري سأمارس كل الأعمال التقوية التي يمارسها الحجاج. وأولاها الانطراح لتقبيل التراب بعد كل عشرين خطوة أخطوها. مما يحمل الآلهة على منح الغفران، وفتح أبواب السماء لكل أولئك المتعَبين الذين أدمت أكعابهم وعورة الطريق.

وعبثاً حاول المبشر أن يقنع صديقه بأنه ليس على الإنسان أن يمارس هذه الضروب من الإماتة، وأنه ليس مطلوباً أن يذهب أحدٌ إلى أية مدينة مقدسة دامي الكعبين لكي ينال خلاص اللّه. هذه تضحيات لم يَدْع اللّه إليها، بل هي من ابتداع الناس... ولكن كل هذه التفسيرات التي قدمها المبشر، لم تقنع الهندي بشيء، بل بقي متشبثاً بوجهة نظره.

... لم تذهب كلمة المبشر بنعمة الله المخلصة أدراج الرياح، فذات يوم جاء الهندي يطلبه:

- تعال معي إلى البيت، لأن عندي ما أقوله لك. ولما وصلا إلى البيت دعا الهندي صديقه للجلوس على الكرسي الذي صنعه له خصيصاً.

- إني ذاهب إلى دلهي المقدسة بعد ثمانية أيام، قال الصياد المبكت على خطاياه.

ومع أن انفعالات شديدة، كانت تتجاذب عواطف المبشر، إلا أنه لم يحر جواباً. كان يعلم أن صديقه لن يعود من الحج المزمع أن يقوم به، لهذا حسب مجيئه إليه اليوم زيارة وداعيّة. والمؤسف له أنه حسب الوقت الطويل الذي قضاه في عشرته ضائعاً، وأن كل ما حدَّثه به عن حقائق الإنجيل لم يُجْد نفعاً، وأن صلواته من أجل خلاصه لم تلق إلا جواباً سلبياً.

فيما كان المبشر يفكر في هذه الأمور المؤسفة بالنسبة له، خرج الصياد، ثم عاد بعد برهة وجيزة ومعه صندوق صغير.

- اسمع، قال العجوز! في الماضي أُعطيتُ ابناً كان قرة عيني ومحط آمالي.

- أُعطيتَ ابناً! قال المبشر بنبرة فيها الاندهاش، وفيها العتاب. ولكن لماذا لم تكلمني عنه إطلاقاً؟!

- لم يكن في وسعي أن أفعل، هذا لم يكن ممكناً. ولكن بما أننا سنفترق قريباً، وربما إلى الأبد، كان لا بد لي من أن أحيطك علماً، بأنه كان لي ابن. كان غواصاً مثلي. وكان أعظم صياد لآلئ، عرفه الساحل الهندي. وليس من إنسان آخر يضاهيه في سرعته في الغوص. وليس لصياد آخر عين خارقة كعينه، ولا ساعد قوي كساعده. وبين صيادي اللؤلؤ لم يتمتع أحد بنَفَس طويل كنفسه. تصور افتخاري بابن كهذا!

ولكن ذات يوم وجد لؤلؤة بالغة الروعة، من النوع الذي يداعب أحلام كل صياد، يأمل بانتزاع أجمل لؤلؤة في العالم من قلب البحر. ولكن الحصول عليها اقتضاه غطسة طويلة، أنهكت جسمه، ولم يمض وقت طويل حتى مات. ومنذ ذلك اليوم وأنا أحتفظ بهذه اللؤلؤة الفريدة. أما الآن وقد عزمت على الذهاب إلى دلهي المقدسة مع رجاء الحصول على مكافأة لأجل حجي، فإنني أقدم لك هذه اللؤلؤة هدية، لأنك صديقي المفضل.

قال هذا، ثم فتح الصندوق وأخرج منه تلك الدرة المكنونة العملاقة النادرة، ووضعها في يد المبشر قائلاً:

- إليك بها، إنها أكبر وأجمل اللآلئ التي استُخرجت على مدى الدهر في الساحل الهندي. ولا يمكن لأية لؤلؤة مزروعة أن تماثلها في لمعانها وصفاء لونها.

كانت هبة الصياد لصديقه لفتة كريمة بمقدار أنها عقدت لسانه عن الكلام، لأنه تلقى درة نادرة قيمتها خيالية. إلا أنه بعد لحظات تحرر من صمته فقال:

- هذه لؤلؤة عظيمة، لعلها تساوي عدة ملايين من الجنيهات.

- هذه اللؤلؤة، قال الصياد وهو يهز كتفه مزهواً، فوق كل ثمن... وفي تقديري الشخصي، ليس من ملك عظيم الثراء في الأرض يمكنه أن يقتنيها. ولكني أريد أن أقدمها لك هدية، وعربوناً للود الذي أكنُّه لك.

مع أن الصياد العجوز كان يعني ما يقول، فإن المبشر رفض قبول هذه الهدية لأنها باهظة الثمن. وأمام إصراره على الرفض لم يستطع الهندي العجوز إلا أن يبدي خيبته:

- لعلك لم تدرك دوافعي من تقديم هذه الهبة! أنا لا أهتم في كون اللؤلؤة تساوي تجارياً مبلغاً خيالياً. لا تفكر في هذا! إنها في نظري لا تقدر بثمن. لأنها آخر وأجمل لؤلؤة صادها ابني الراحل العزيز. لقد مات لأنه صرف وقتاً طويلاً في حضن اليمّ لكي يقتنصها. أجل إن ابني وحيدي أعطى حياته من أجلها. اقبلها مني لأني أحبك!

- اسمع يا صديقي، قال المبشر، وهو يشدد الضغط على منديل كان في يده. إن الحياة الأبدية، هبة من الله. إنها هدية كالتي تريد أن تقدمها لي. إنها عظيمة وثمينة حتى أنه لا يوجد إنسان غني بالغ الثراء يقدر أن يشتريها. كما أنه لا يوجد إنسان صالح بمقدار أنه يستحقها. حتى لو ذهب مائة مرة إلى دلهي المقدسة حافي القدمين، ولكن اللّه يهبها لنا دون مقابل، حتى لو كنا غير مستحقين. «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (الإنجيل بحسب يوحنا 3: 16). أجل يا صديقي العزيز، إن هبة اللّه لنا هي الحياة الأبدية التي جاء ابنه لكي ينتزعها من أعماق الشقاء والبؤس البشري. وكلؤلؤة لا تقدر بثمن مات لأجلها. أنا أقبل هديتك، وأنت يحسن بك أن تقبل الهبة التي يقدمها اللّه لك.

لم يستطع الصياد العجوز أن يتفوَّه بجواب، ولكن الدموع التي انهمرت من عينيه كانت أفصح جواب.

وأنت أيها القارئ الكريم، هل تريد إقتناء هذه اللؤلؤة الثمينة؟ تذكر بأنَّ اللّه يقدمها لك مجاناً، على طبق محبته إكراماً لابنه الوحيد الذي مات لأجلك.

4 - ذهبوا إلى الموت مرنمين

قال ضابط من المحاربين القدماء، إن أغرب الاختبارات التي اجتزتها في حياتي كان خلال الحرب العالمية الثانية. كان ذلك حين شنت جيوشنا هجوماً معاكساً لاسترجاع مدينة كان العدو قد احتلها بعد معارك طاحنة. وحين استرجعناها وقع في أيدينا عدد كبير من الأسرى. وقد عُهد إليّ مع فصيلي بحراسة سبعة منهم، حُكم عليهم بالإعدام رمياً بالرصاص. كان اليوم السابق لتنفيذ الحكم هو يوم أحد. وقد تركت ساعاته آثاراً في نفسي لا تمحى ما حييت.

لقد حبسنا السبعة في أحد أقبية دار البلدية، وكُلِّف رجالي بحراسة الأبواب بكل دقة، بانتظار ساعة التنفيذ في صباح يوم الإثنين.

كان الجو مشحوناً بالكراهية. فجنودي المنتفخين بالانتصار الذي أحرزناه، كانوا يكيلون الشتائم للأسرى. وكذلك الأسرى كانت مراجل الغيظ تغلي في صدورهم، فانطلقت ألسنتهم بالسباب والتجاديف، بقدر ما تسعفهم مفردات اللغة. وفي غمرة سخطهم راحوا يضربون الجدران بقبضات أيديهم، حتى سالت منها الدماء. ولما أعيوا، انطلق الأنين من صدورهم، وبدأ بعضهم ينادون زوجاتهم وأولادهم... كان القلق يبدو في قسمات وجوههم. ولا غرابة في ذلك، لأنهم كانوا على موعد مع الموت عند الفجر.

كنا قد أحرزنا انتصاراً، هذا صحيح، ولكن قيمة هذا الانتصار بدت وكأنها تتضاءل شيئاً فشيئاً بانصرام ساعات الليل. وفيما أنا أتساءل: هل بقي في قاموس السباب والتجاديف كلمة لم يتبادلها هؤلاء وأولئك؟ حدث شيء غريب، فأحد الأسرى المحكومين بالموت، بدأ يرتل.

إنه لمجنون هذا الإنسان، قلت في نفسي! ولكن... رويداً! فهذا الإنسان، لم يشترك مع الآخرين في إطلاق التجاديف والشتائم. كان منذ البداية يجلس بهدوء، وكان وجهه يعبّر عن أعمق أنواع اليأس. وخلال الساعات التي مرَّت لم يبادره أحدهم بكلمة، لأن كل واحد كان يحمل وزر نفسه، وينظر إلى المصير التاعس من زاويته الخاصة.

لقد بدأ ترنيمته بصوت خفيض، وشيئاً فشيئاً أخذ صوته يعلو طبيعياً حراً. فالتفت السجناء، وتفرسوا في وجهه، والدهشة تعقد ألسنتهم! ففي تلك اللحظة كان ينشد الترنيمة التالية:

مقابل آلام الموت

سأجد راحتي قرب يسوع

يسوع الذي أزال عني الدينونة

وبجراحه وجدت السلام

اليوم انتهى وقت انتظاري

الشيطان لا يستطيع أن يمسني

عما قريب سأكون مع الفادي الحبيب

حيث لا يوجد وجع ولا ألم

لأنني بحُبُر جراحه شُفيت

دم المسيح، ذهبي وفضتي

إنه خبزي وكنزي

لست بعد في حاجة للشفقة

يا رب، ها أنذا متعزّ بك

سعيد، ساكن، هادئ

جرحك الدامي، غسلني

طهَّرني من الفساد

نفسي، تطير نحو السماء

حيث ستلتقي بك، في الموضع المقدس

آه! لم يبق ما يخيفني!

- كميل أيها الغبي، من أين تعلمت هذا، قال أحد رفاقه بغضب؟ وهل تحاول الآن أن تجعلنا أتقياء؟

فرفع الرجل نظره وتفرس في وجوه رفاقه الواحد تلو الآخر، ولم يلبث أن قال من خلال دموعه:

- يا أصدقائي، هل تريدون الإصغاء إليَّ برهة وجيزة؟ لقد سألني الزميل من أين تعلمت هذه الترنيمة؟ لقد سمعتها لأول مرة في هذه المدينة، منذ ثلاثة أسابيع. في البداية سخرت منها وازدريت بكلماتها. ولكنها ترسَّخت في ذهني، ثم عملت كلماتها في تغيير نظرتي إلى الحياة.

وإنه لجبان من يكتم إيمانه! فاللّه الذي كانت أمي تؤمن به، صار أخيراً إلهي. لا أستطيع أن أقول لكم بالضبط كيف حصل هذا الأمر. ولكني أعلم أن شيئاً ما حدث في داخلي.

لقد استيقظت في الليلة الماضية، وشعرت فجأة برغبة ملحّة في أن أعرف المخلِّص وأختبئ في ظل جناحيه. وبدافع من هذه الرغبة صلّيت. صلّيت مثل اللص الذي صُلب معه. وسألته أن يقبلني، ويغفر لي آثامي، ويغسل نفسي الخاطئة بدمه، وأن يجعلني مستعداً للوقوف أمام اللّه، الذي دُعيت لأن أمثل في حضرته قريباً.

كان ليلاً غريباً، أضاف كميل. فقد خُيّل لي لبرهة طويلة أن كل شيء حولي لامع وبهي. ثم لم ألبث، حتى راحت ذاكرتي تستعيد الكثير من آيات الكتاب المقدس، ومقاطع عديدة من كتاب الترانيم. وكل هذه حملت إليَّ رسالة من المخلِّص المصلوب، الذي دمه يطهر من كل خطية. ورسمت في خاطري صورة مجيدة للبيت السماوي، الذي ذهب الفادي الرب لكي يعده لنا، في منازل الآب.

لقد شكرته، وقبلت عطيته المجانية، التي وهبني إياها. ومنذ تلك البرهة، وهذه الترنيمة ترن في أعماقي. وهذا كان جواب اللّه لصلاتي.

لم أستطع طويلاً الاحتفاظ بهذه البركة العظمى لنفسي، لأني بعد ساعات قلائل سأمضي إلى جوار الفادي، مخلَّصاً بالنعمة. ولهذا ألفيتني مدفوعاً بحبي لكم، لأن أكلمكم عن خلاص اللّه المعد لكم، إن قبلتم يسوع مخلصاً.

كان وجه كميل يعبر عن النور الذي سطع في أعماقه. أما رفاقه فكانوا قد جلسوا ليصغوا إليه بكل هدوء. ولكن هو نفسه كان واقفاً وقد تجلت الحياة الأبدية في عينيه. والجنود الحراس كانوا أيضاً يسمعون ما يقوله هذا الثائر.

- إنك مُحقٌّ في ما تقوله يا كميل، قال أحد رفاقه أخيراً. آه! لو كان لي اليقين بأنه يوجد لي غفران! ولكن ما الفائدة، وهاتان اليدان قد سفكتا الدم. وعلاوة على ذلك فقد شتمت اللّه، وجدفت على جلاله، ودست كل ما هو مقدس. إنني متأكد الآن أن جهنم موجودة، وأنها المكان اللائق بي. قال هذا، ثم انطرح أرضاً من شدة يأسه، ثم استطرد قائلاً بصوت هادر:

- صلّ من أجلي يا كميل فإني سأموت غداً، وستكون نفسي في يدي الشيطان.

ولما سكت ذلك البائس، ران صمت رهيب في ذلك المحبس. ولكن فجأة جثا الأسيران، وصلى كل منهما من أجل الآخر. وقد خُيِّل لي أن السماء قد فُتحت، وأن نوراً من السماء قد غمر قلب المصليين وملأهما بسلام المسيح.

ونحن، فيما نسمع وننظر، نسينا أحقادنا. لقد ذابت في حرارة نور السماء الذي غمر المكان. فأمامنا رجلان ذاهبان إلى الموت. وقبل ذهابهما طلبا المصالحة مع اللّه. وكأنّ الباب المؤدي إلى اللامنظور قد انفتح، ونحن كنا مشدوهين أمام تلك الرؤيا المجيدة.

والآن دعوني أنا ضابط الحرس، أقص عليكم بإيجاز ما حدث بعد ذلك. فما أن دقت الساعة الرابعة حتى كان جميع رفاق كميل قد تبعوه في تسليم حياتهم للمخلص، وكانوا كلهم يصلون. لقد تغير كل شيء في المحبس، وبصورة لا تصدق.

كان بعضهم جالسين على الأرض. وبعض آخر كانوا يتكلمون عن أمور روحية. وكذلك الليل تغير أيضاً. فقد انقضت ساعاته، وبدأ يلم خيوطه القاتمة، ليترك المكان لنور النهار. ولكن أيَّاً من الأسرى لم يعط نفسه فرصة للنوم.

- غنّ لنا الترنيمة مرة أخرى يا كميل، قال واحد من الأسرى المنتظرين الموت.

- آه! لقد سمعناها، قال رفيق آخر. ولكن لننشد معاً ترنيمة أخرى من الترانيم التي كانت في عالم النسيان، والآن بدت تتحرك في خواطرنا. قالها، فالتحمت أصوات الجميع بما فيهم أصوات الجنود الحراس، وراح الجميع يرتلون. وفيما هم يرتلون، دقت ساعة البلدية دقاتها الست، معلنةً ساعة الموت.

كم تمنيت من أعماق قلبي أن تكون لي قدرة للتوسط لأجل إصدار العفو عن هؤلاء الرجال. ولكنني كنت أعلم أن هذا من المستحيل.

اُقتيد الأسرى إلى ساحة الإعدام، بين صفين من الجند المسلحين. فسأل أحد المحكوم عليهم، أن يُؤذن لهم بإنشاد ترنيمة كميل، وأن يتقبلوا الموت وهم سافري الوجه، وأذرعهم مرفوعة نحو السماء، فقُبل مُلتمَسهم. وهكذا أنشدوا بكل ما في أصواتهم من قوة، مستقبلين الموت بهتاف الفرح:

نفسي تطير نحو السماء

حيث ستلتقي بك في الموضع المقدس

آه! لم يبق ما يخيفني!

حين رنت آخر كلمة من الترنيمة سُمع الضابط وهو يوعز بإطلاق النار. وكان الجنود السبعة، قد خاضوا معركتهم الأخيرة ضد إبليس. أما نحن فعندما سقطوا في ساحة الإعدام، أحنينا رؤوسنا بالصلاة.

لست أدري ماذا حدث في قلب جنودي. ولكن في ما يختص بي أنا، فقد صرت من ذلك اليوم إنساناً جديداً. لقد تقابلت مع المسيح في شخص أحد تلاميذه، الأبسط قلباً، والأصغر سناً. لقد رأيت عنده ما فيه الكفاية، لكي أعلم أنني أنا أيضاً أستطيع أن أكون معه.

هذا هو عمل نعمة اللّه، الذي من أجل محبته الكثيرة، يقبل التائب ويغفر الذنب، حتى لأشرِّ الخطاة. هكذا قال المسيح للِّص الذي صُلب معه حين ندم على خطاياه وآمن: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ» (الإنجيل بحسب لوقا 23: 43).

المسابقة

أيها القارئ العزيز،

إن تعمقت في قراءة هذا الكتيب تستطيع أن تجاوب على الأسئلة بسهولة. ونحن مستعدون أن نرسل لك أحد كتبنا الروحية جائزة على اجتهادك. لا تنسَ أن تكتب اسمك وعنوانك كاملاً عند إرسال إجابتك إلينا.

  1. ما هي ظروف جاك العائلية، وكيف ساعدته ليبيّن محبة المسيح؟

  2. لماذا تطوّع ويلي ليجلدوه بدل الجندي الذي أخطأ؟

  3. ماذا كان تأثير ذلك في الجندي الذي أخطأ، وماذا كان تأثيره في من روى القصة؟

  4. في كلماتك، دوّن معنى ترتيلة ويلي.

  5. لماذا طلب الرب من مريم الصغيرة أن تعطي عكازيها؟

  6. لماذا تشجَّع الناس على العطاء؟

  7. ما هي نتيجة تشجيع الناس ليعطوا لعمل الرب؟

  8. لماذا كانت اللؤلؤة الثمينة عزيزة على الآب الذي احتفظ بها؟

  9. ما الذي جعل الأسرى المحكوم عليهم بالإعدام يرتلون؟

  10. ماذا استفدت أنت من هذه القصص الأربع؟