العودة الى الصفحة السابقة
إرادة الله في حياة الإنسان

إرادة الله في حياة الإنسان

القس . جون نور


Bibliography

إرادة الله في حياة الإنسان. القس . جون نور. Copyright © 2007 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى . 2000. SPB 7860 ARA. English title: The Will of God in the Life of Man. German title: Der Wille Gottes im Leben des Menschen. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 D - 70007 Stuttgart Germany http: //www.call-of-hope.com .

المقدمة: لمن يظهر الله مشيئته؟

لمن يظهر الله مشيئته، ولمن يعلن إرادته؟!!

لمن يسمع الله ويستجيب، وبمن يظهر مسرته؟!!

يعلن الله ما يتوافق مع إرادته لمحبيه الذين يحيون معه في عشرة مقدسة، الذين يطرقون أبوابه كل حين مصلين شاكرين، ويسيرون معه كل حين حاملين الصليب متحمّلين مشاق الطريق الضيق الكرب..

أولئك الذين يحبونه فلا يفصلهم عن محبته شدة أو ضيق، يتبعونه في الصحة والمرض.. في النوح والأفراح.. في الضيقات والمسرات.. في الجوع والشبع.. إن قلوبهم تتبعه كل حين. أولئك هم محبوه!!

أولئك الذين يسعون وراءه ليس من أجل الخبز الجسدي والحياة الأرضية، بل الذين يتطلعون إلى الحياة الأبدية مقتاتين من الخبز السماوي.. أولئك الذين وهبوه المتّكأ الأول في قلوبهم، وبكور حياتهم وأوقاتهم. أولئك هم محبوه!!

أولئك الذين يحفظون وصاياه ويعملون بها ويستضيئون بنورها.. أولئك الذين يبحثون عن شهاداته ولا يزدرون بأقواله، بل سلكوا كمثاله، ينحنون على الضعفاء ويشاركون الفقراء.. الذين يملكون ولكنهم لا يمتلكون.. أولئك الذين هم أمناء على وزناته.. الذين يعملون بأمانة ولا يبالون بإهانة..

أولئك الذين إليه بقلوبهم التائبة يقتربون، وبدموعهم الصادقة يغتسلون، ولحضنه الدافىء يرجعون.. هؤلاء يسمعهم ويلتقط أنات قلوبهم.. أما أولئك الذين في خصام معه فلا يسمعهم، لأن الشيطان يمسك بآذانهم.

يا من تبحث عن معرفة ما يتوافق مع إرادة الله.. أقول لك:

اصطلح أولاً مع الله.. ليكن بينك وبين الله عمار، وهنا يسمعك الله ويمطرك بوابل من حبه وإجاباته.. من هنا كانت الوصية واضحة صريحة:

«فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ ٱللّٰهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ ٱللّٰهِ، عِبَادَتَكُمُ ٱلْعَقْلِيَّةَ. وَلا تُشَاكِلُوا هٰذَا ٱلدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ ٱللّٰهِ» (رومية 12: 1 و2).

الفصل الأول: إرادة الله هي للجميع

لنذكر، ونحن نبدأ هذه الدراسة معاً، أن الله يريد أن يبدأ مع كل واحد منا شخصياً حيث نحن، وأن يرشدنا إلى حيث يريدنا أن نسير.

فهل تقبل أن تسمح لله بأن يبدأ معك حيث أنت؟ وهل تطلب أن تعرف إرادته بكل طريقة ممكنة؟ هل تجعل قلبك وعقلك يظلان مفتوحين لقيادة الروح القدس؟ هل تقرأ هذه الفصول المختصرة بعناية وبروح الصلاة، طالباً من أبينا السماوي، أن يعلن لك إرادته وغرضه، في كل ناحية من نواحي حياتك؟

إن اختبار المسيحيين البالغين يشير إلى وجود معركة داخلية في باطن كل منا. هناك معركة بين الطبيعة الجسدية «السفلى» والطبيعة الروحية «الأسمى». يوجد نزاع بين إرادتنا المفدية والتي لا يزال فيها الإنسان العتيق، وبين إرادة الله. هل أنت شاعر بهذا النزاع داخل نفسك؟ لا تعجب من هذا، ولا تفشل ولا تستسلم يائساً لجذب الطبيعة السفلى.

الدعوة: إن دعوة يسوع الأساسية كانت ولا تزال، هي: «اتبعني. وجَّه يسوع هذه الدعوة لبطرس في بدء حياته معه (مرقس 1: 17)، ووجهها أيضاً له في ختام حياته معه، (يوحنا 21: 22). وهذه الدعوة التي وجهها المسيح لبطرس وسائر التلاميذ، ما تزال هي دعوة السيد لكل تلميذ في كل عصر. هي دعوته لك ولي. تأتينا أولاً في اختبار الخلاص. ويلازم هذا الإختبار دعوة لاتِّباع المسيح اتباعاً معه نجعل لإرادته وطريقه المكان الأول في حياتنا.

إن الدعوة لاتباع المسيح ليست هي الدعوة البدائية فقط، بل هي الدعوة المستمرة. لأنه ليس أحد منا يتبعه اتباعاً وثيقاً أو اتباعاً كاملاً كما يجب. وإذ نستجيب لدعوة يسوع هذه سنكتشف فيها أعماقاً أبعد ومعنى أقوى مما توقعنا. وسندرك أكثر فأكثر أنها تعني السير في نفس الطريق التي سار فيها يسوع نفسه، طريق الطاعة التامة لإرادة الآب. وفي هذا ما يحثنا على النمو المستمر إلى منتهى رحلة الحياة.

المهمة المفوضة: عندما نقبل دعوة يسوع، نجد أنها قد أصبحت أمراً بل مهمة مفوضة. كانت دعوة يسوع الأساسية «تعال اتبعني» فأضحت دعوته الختامية «اذهب». ولا عجب، فقد كان الإتيان إلى يسوع تمهيداً للذهاب.

إن ما نسميه «المهمة العظمى» (متى 28: 18 - 20) وهي التي تتضمن أوامر السير لكل شخص) مسيحي، ولكل كنيسة، هي دعوة المسيح الصريحة لإطاعة غرضه، وخطته لربح العالم. وجزء مهم في هذه المهمة هو «عَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ» (متى 28: 20). وتنطوي الكلمتان «أن يحفظوا» على معنى «أن يمارسواِّ» جميع ما أوصيتكم به. فقد صدر إلينا الأمر كتلاميذ، لا أن نطيع وصايا المسيح فقط بل أيضاً أن نعلم الآخرين أن يطيعوها.

وقف يسوع بعد قيامته، في إحدى ظهوراته، وسط دائرة تلاميذه الداخلية الخاصة وهم خائفون ومتحيرون، وقال لهم «سَلامٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي ٱلآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا» (يوحنا 20: 21). هو أرسل ونحن أيضاً نرسل. هو أرسل إلى العالم ليفعل إرادة أبيه، ونحن نرسل لنفعل إرادته هو. هو أرسل ليعلن الآب، ونحن نرسل لنعلنه هو. كان هو الله متجسداً. ويجب أن نكون نحن المسيح متجسداً. هو أرسل ليفتدي الإنسان، ونحن نرسل ليكون لنا تأثيرنا الفادي بين الناس. ونحن نعلنه ويكون لنا تأثيرنا الفادي لأجله على قدر ما نتبعه فقط، وعلى قدر ما نسمح له أن يحيا فينا وأن يعلن ذاته بواسطتنا.

التحدي: إن دعوة المسيح ومهمته المفوضة تطالباننا بأن نقدم أفضل ما لدينا، ونكون أفضل ما يمكننا أن نكون لأجله. إنه لا يريد أتباعاً فاتري الهمة، ضعفاء الرغبة. لقد كانت نصيحته: قف واعمل حساب النفقة، فما لم تكن راغباً أن تدفع الثمن فخير لك أن لا تبدأ في اتِّباعيِّ. ما من زعيم شعبي قدم لشعبه تحدياً مماثلاً لهذا.

هل شعرنا بتحدي دعوته؟ وأهم من ذلك، هل لبينا دعوته؟ إن المسيح لا يأمر بتجنيد أتباع غير راغبين. بل هو لا يقبل سوى المتطوعين. فيجب أن لا نقتنع بأن نكون مسيحيين اسميين أو مسيحيين عاديين. إن ضعف كثيرين ممن يدَّعون أنهم أتباعه وترددهم يُلحقان أضراراً كثيرة برسالة المسيح. نحتاج أن ندرك بأشد وضوح أننا مدعوون، ليس فقط إلى قبول المسيح مخلصاً لنا، بل إلى قبوله رباً لحياتنا.

إن كان المسيح رباً لنا، وهو ربنا طبعاً إن كنا من أتباعه، فنحن إذاً خدامه أو عبيده، ندين له بولاء تام فوق كل ولاء. وهذا يعني أن كل دائرة في حياتنا ينبغي أن تكون تحت تصرفه، وأن توضع تحت إمرته. إن أجسادنا هي له. نستخدمها لمجده (1 كورنثوس 6: 12-20) ونقدمها له «ذبائح حيّة» رومية 12: 1). وعقولنا وكل مكنونات شخصياتنا هي ملك له، تُكرَّس لإرادته، ولتحقيق غايته. وهذا يجعلنا نطلب أولاً ملكوت الله (متى 6: 33) ونعتبره اللؤلؤة الكثيرة الثمن، والكنز المخفي في حقل، ونرضى أن نبيع كل شيء في سبيله (متى 13: 44 - 46). هذا هو التحدي! فما هو جوابنا عليه؟

الثمن: إن اتخذنا هذا التحدي بطريقة جدية، وصممنا أن نفعل إرادة الله، وأن نطلب ملكوته أولاً، وأن نجعل المسيح رباً لحياتنا، فسنكتشف، حتى في أيامنا هذه، أن الثمن أغلى بكثير مما تصوره بعضنا. ولا يدهشنا هذا الأمر. فإن المسيح الذي جاء ليتمم إرادة الآب، كان عليه أن يسير إلى الصليب، في طريق جثسيماني. إن جعلنا إرادة الله إرادتنا، وسلكنا الطريق الذي سلكه يسوع، فسيقودنا هذا الطريق إلى الصليب، إذ أن الصليب هو العلامة الدائمة للتضحية وإنكار النفس الطوعي الفدائي. قال ديتريش بونهوفر المسيحي الألماني الشهير، الذي قُتل في أثناء الحرب العالمية الثانية، قبل أن يكمل أربعين عاماً من العمر، قال إن المسيح عندما يدعو إنساناً لاتِّباعه، يدعوه أن يأتي ويموت. وبعبارة أخرى، الصليب جزء لا يتجزأ من دعوة يسوع الأساسية، ومن دعوته المستمرة.

وقال بونهوفر أيضاً «إن النعمة الرخيصة هي ألد أعداء التلمذة الحقيقية. ومن دلائل هذه النعمة الرخيصة، الفكر المنتشر انتشاراً مريعاً، والقائل بأنه يمكن قبول المسيح مخلصاً دون قبوله سيداً ورباً وهو قول مرفوض أساساًِّ».

كثيرون منا لا يفكرون في معنى التتلمذ للمسيح إلا تفكيراً محدوداً جداً. فالتلميذ عندهم هو طالب يتعلم من معلمه. أما بخصوص معلمنا أو سيدنا. فأفضل سبيل للتعلم هو أن نسلك الطريق التي سلكها، طريق إنكار النفس والتضحية. وكم من مرة ذكر المسيح أنه لم يأت ليفعل إرادته بل إرادة الذي أرسله.

كانت إرادة الله محور حياة يسوع. ففي جثسيماني صلى قائلاً: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هٰذِهِ ٱلْكَأْسُ، وَلٰكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ» متى 26: 39). هذه هي الصلاة في أسماها وأفضلها. لقد تم الصلب داخلياً فيه. فكان مستعداً لكل ما سيأتي عليه.

لقد قبل إرادة الآب بالكمال والتمام في بستان جثسيماني، كما قبلها على الصليب. فإذا سلكنا الطريق الذي سلكه يسوع، فسيؤدي بنا إلى جثسيماني، فالجلجثة. وسنكتشف أن الصليب ليس فقط حيث صُلب المسيح، في مكان بعيد على الجبل، بل يصبح الصليب اختباراً حياً في حياتنا.

النتائج: قد يقول بعضكم «إني لا أعرف عدداً يذكر من المسيحيين، الذين يأخذون الدعوة لاتباع المسيح مأخذاً جدياً. إني لا أعرف كثيرين ممن ينكرون نفوسهم، ويحملون صليبهم، ويتبعون المسيح». وهذا صحيح للأسف الشديد، وهو يعطل عمل المسيح أكثر من أي شيء آخر. يا للعار، فما أقل الذين يحيون كما يجب أن يعيشوا.

أين نحن في سيرنا مع المسيح؟ وليكن السؤال شخصياً بصورة أدق: إلى أي حد تطلب أن تعرف إرادة الله وأن تتممها بأمانة؟ هل أنت تطلب إرادته في كل دائرة في حياتك، بغض النظر عما يقوله الآخرون أو يفعلونه؟

ما أمجد النتائج التي تنجم عن رغبتنا التامة في إتمام إرادة الله، في التعاون معه على تحقيق مقاصده! وهاك بعضها: إننا عندما نتمم إرادته نجد أعظم فرح دائم وسلام مقيم، وندرك شخصياً هذا الإتمام أعمق إدراك. سيكون للحياة معنى أعمق، وهدف أوضح، واتجاه أصح.

إن الدخول إلى ملكوت الله، أو ملكه، أو حكمه، مشروط بعمل إرادته (متى 7: 21). والقرابة ليسوع مؤسسة على عمل إرادة أبيه، «لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي» (متى 12: 50). ثم هناك نتيجة مجيدة أخرى. وهي أنه كلما كنا أكثر طاعة له، صرنا أكثر شبهاً له. إن من مقاصد الله لحياتنا، أن صورته داخلنا، تلك الصورة التي فسدت بسبب الخطية، تُستعاد إلى حقيقتها، وذلك يتم عن طريق اتحادنا بالمسيح. وإعادة هذه الصورة لا تتم بالكمال والتمام إلا عند نهاية سفرة الحياة. عندما نستيقظ بشبهه. إلا أننا سننمو في مشابهتنا له، عندما نسير معه في طاعة متواضعة.

المسؤولية: إن لأبينا السماوي إرادة لنا جميعاً، في كل ناحية من نواحي حياتنا. لكن مسؤوليتنا هي أن نستجيب لهذه الإرادة. هذه حقيقة رائعة، لكنها أيضاً مروعة. إنها حقيقة رائعة، في كوننا أحراراً، لكنها مروعة، إذ نذكر أننا وحدنا مسؤولون عما نفعله بحريتنا هذه. وكلما نمونا في حياة البلوغ المسيحي كأفراد، يصبح من المتعذر علينا أن نلقي بهذه المسؤولية على والدينا أو معلمينا أو أصدقائنا.

إن الله يحترم الإنسان الذي خلقه. لقد أعطاه إرادة، وهو لا يرغمه، ولا يذل إراداته قسراً، لا في الاختبار الأساسي عندما يصبح ابناً لله، ولا في التحدي المستمر الذي تقدمه دعوته على الدوام.

ما أعجب، وما أمجد أن يستطيع كل منا أن يقول مع المرنم «أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلٰهِي سُرِرْتُ» (مزمور 40: 8)!

الفصل الثاني: إرادته هي دائماً الأفضل

الرغبة في الحرية من أعمق رغائب الإنسان. والتعطش للحرية يوضح ما تلاقيه جماهير العالم من قلق واضطراب في عصرنا الحاضر، حيث ينتشر ويشتد بنوع خاص عند الشبيبة. فأنتم معشر الشباب تريدون أن تتحرروا من كل قيد، وتميلون إلى الهياج والسخط على كل القوانين والأنظمة. من الواضح أن أشد الشباب رغبة وأكثرهم صياحاً للتحرر من سلطة الكبار وتأثير الكبار، هم أشدهم خضوعاً وتأثراً بسلطة أترابهم، وانقياداً لآراء خلانهم، وتأثير الجماعات التي ينتمون إليها. فهذه الجماعة التي ينتمون إليها، تقرر الزي الذي يلبسونه، والموسيقى التي يفضلون الاستماع إليها، والكتب والمجلات التي يقرأونها والمحلات التي يرتادونها، كما تقرر أنواع نشاطاتهم ومقاييسهم الأخلاقية بوجه عام.

وسواء انطبق عليك هذا الأمر الأخير أم لم ينطبق، فأنت بلا شك من طلاب الحرية. فهل ترى تجدها في التخلص من كل قيد وشرط؟ هل يوجد فارق بين الحرية والإباحية؟ هل يمكن أن يصبح الإنسان عبداً لعادة التخلص من القيود؟

ترى كيف يجد ابن من أبناء الله حريته الأكمل؟ إنه يجدها داخل نطاق إرادة الله. هل يمنعه ذلك في بعض الأحيان من عمل أشياء يريد أن يعملها؟ إن الجواب بالإيجاب طبعاً. لكن الله لا ينتظر أبداً من أحد أبنائه أن يضحي بشيء، هو أفضل شيء بالنسبة له. إن الإنسان يصبح حراً، بأكمل معنى الكلمة، عندما يصير عبداً للمسيح، ويسلم إرادته لإرادة الله.

هذا لغز من أمجد ألغاز الإنجيل - حرية عن طريق العبودية. «إِنْ حَرَّرَكُمْ ٱلٱبْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً» (يوحنا 8: 36). إن الحرية المشار إليها هنا، هي أساسياً التحرر من عبودية الخطية. ونحن في أشد حاجة إلى هذه الحرية منا إلى أي شيء آخر. والسبيل الوحيد الذي به يستطيع المسيحي، أو غير المسيحي، أن يتحرر من عبودية الخطية، هو أن يصبح عبداً للمسيح، عبداً للبر (رومية 6: 12 - 23). يقول بولس «فَٱثْبُتُوا إِذاً فِي ٱلْحُرِّيَّةِ ٱلَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا ٱلْمَسِيحُ بِهَا، وَلا تَرْتَبِكُوا أَيْضاً بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ» (غلاطية 5: 1). هل أنت حر حقاً، أم أنت مستعبد لما تفسره بأنه حرية لك؟

يريد بعض الناس أن تكون لهم قوة على غيرهم من الناس. أما المسيحي الحقيقي فيريد أن تكون له قوة مع الناس. إنه يريد أن يؤثر فيهم للخير تأثيراً يقودهم إلى الله. إن سر هذه القوة هو في حضور الله، لكننا لا نستطيع أن نتمتع بحضوره ما لم نسلك داخل نطاق إرادته.

قال المسيح المقام لتلاميذه «أَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ ٱلأَعَالِيِ» (لوقا 24: 49). ما هو مصدر هذه القوة؟ الجواب نجده في كلام المسيح الذي نطق به بعد ذلك بقليل: «سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْكُمْ» (أعمال 1: 8).

ترى ماذا كان حدث لو لم يطيعوه ويمكثوا في أورشليم؟ ما كان الروح قد حل عليهم، وما كانت لهم قوة يوم الخمسين.

إن معظمنا لا يتمتعون بقوة في حياتهم لأنهم لا يقيمون في أورشليم حتى تأتي القوة. إن المكوث في التأمل والصلاة أمر من مخلصنا، مثل الشهادة. إننا في حاجة أن نذكر أن القوة الروحية ليست منا، ولا يمكن أن تكون بواسطتنا أو من داخلنا. إنها قوة تنطلق فينا. ولا يمكن أن تنطلق، إلا عن طريق قلوب طائعة وحياة ممتثلة. ما أعظم القوة المختزنة لنا الميسورة لنا، التي تنتظر انطلاقاً منا نحن أولاد الله جميعاً!

إن الله لا ينتظر منا أن نفعل شيئاً لا يعطينا القوة على إتمامه. إنه يعطينا القوة إذا نحن اعتمدنا عليه لنوالها. كثيرون منكم يعرفون هذا ولا شك من اختبارهم الشخصي. فكم من مرة، عندما كنت تتهيأ أن تتكلم، أو تعلّم، أو ترنم، أو تشهد، شعرت بحاجتك إلى معونة الله، وصرفت وقتاً طالباً منه أن يمنحك القوة التي تحتاج إليها، فشعرت نتيجة لذلك بقوته تسري فيك، وتفيض منك. وفي أوقات أخرى لم يكن لديك شعور عميق بحاجتك، واعتمدت على حكمتك ومواردك. فكانت النتيجة أن عرفت في أعماق قلبك أنك قد فشلت بقطع النظر عما ظنه الناس عن نجاحك. ما دمنا نعرف أنه يمكننا أن نحصل على قوة الله. فلماذا نقصر كثيراً في البقاء في حضرته إلى أن ننال قوته؟

لنذكر العبارة التي قالها يسوع «بِدُونِي لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً» (يوحنا 15: 5)، والتي قالها بولس «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي يُقّوِّينِيِ» (فيلبي 4: 13). بدون المسيح لا نستطيع أن نفعل شيئاً. ولكن بالمسيح نستطيع أن نفعل أي شيء ينتظر منا أن نفعله. وهنا رجاؤنا وظفرنا. إن المسيحي الذي يسير بحسب إرادة الله، أشبه بسفينة شراعية، قد بسطت قلاعها بطريقة صحيحة للريح، أو بطائرة اخترقت الهواء ووصلت إلى مجرى منه يحملها، فذلك المسيحي يملك قوة خارج طاقته الذاتية تسير به إلى الأمام.

ربما كنت في نزاع عنيف مع نفسك، بشأن إرادة الله لحياتك. ولكن عندما اتضحت لك بجلاء وصممت أن تتممها، حصلت على سلام لم تعرفه من قبل. إن أعمق سلام، بل أكمل سلام يحصل عليه أي واحد من أبناء الله، هو السلام الذي يأتي إلى نفسه، عندما يستطيع أن يقول بكل صدق وإخلاص «لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ» (متى 26: 39). هذه النقطة يمكن أن تكون جثسيماني النصرة له، وفيها يكتشف أن سر السلام الذي يفوق كل عقل (فيلبي 4: 7) يقوم في إدراك حضور المسيح المقام. ولا يمكن أن ندرك حضوره ما لم نسلك في طاعته. وهذا ينطبق ليس على عمل حياة الإنسان فقط، بل على كل قرار يتخذه في كل دوائر حياته اليومية.

الفصل الثالث: إرادة الله اختبار دائم

بسبب محدودياتنا لا نستطيع أن ندرك إرادة الله لحياتنا تمام الإدراك. ولهذا نجد الله، في بعض الأحيان، يكيف ويضبط إعلان إرادته لنا، بحيث يتفق ذلك مع طاقتنا على فهم إرادته، نحن أولاده. إنما نحن لا نزال أولاداً ناقصين لم نبلغ الكمال بعد، ولا يزال كثيرون منا أبعد بكثير عن الإدراك الذي يجب أن يكونوا عليه. وكم نظل أطفالاً في المسيح، في حين ينبغي أن نكون بالغين، أو على الأقل نامين نحو البلوغ، سواء كنا رجالاً أم نساء، نضع نصب عيوننا هدف حياتنا الأسمى وهو البلوغ «إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيح» (أفسس 4: 13). إننا جميعاً نقصر بشكل مؤسف عن إدراك المقياس الأعلى. وهذا يعني، ضمن ما يعني، أن إرادة الله في حياتنا يجب أن تكون اختباراً نامياً دائماً.

والله يعلم أيضاً في حكمته أن اكتشاف إرادته هو اختبار دائم، أو سلسلة متصلة من الاختبارات في حياتنا. فعلينا أن نأتي إليه مرة بعد أخرى، طالبين الحكمة والقوة. وهذا عامل مهم في نضوجنا الروحي. فلو كنا نستطيع أن نرى إرادة الله لحياتنا، إلى منتهى الطريق، لَمَا كنا نُجرب أن نعتمد على أنفسنا أكثر من اعتمادنا على الله، في نوال القوة لعمل إرادته.

ما أكثر المسيحيين المتقدمين في السن، ممن يستطيعون أن يشهدوا، أنه لم يكن من الأفضل لهم أن يروا كل الطريق أمامهم من البداية. وربما لم يكن لهم من الإيمان والشجاعة ما يجعلهم يستجيبون لدعوة المسيح بالرضى والقبول. بل قد يكون بينهم من ينكص (يعود) على أعقابه، ويحرم من البركات المجيدة في الشركة معه، كما فعل الشاب الغني.

لكن مهما كانت ظروفنا في الحياة، فإن الله يمكننا من جمع الحطام والبدء من جديد في البناء. فنستطيع أن نقول إن معرفتنا لإرادة الله ليست متدرجة فقط بل قابلة أيضاً للتعديل بمقتضى كل اختبار جديد.

وعلى قدر طاعتنا لقيادة الروح القدس الآن، نستطيع أن نتأكد من قيادته لنا في المستقبل. إن الطاعة لإرادة الله في قرارات الحياة اليومية تزيد إدراكنا لإرادته.

تقدم لنا حياة بولس إيضاحاً رائعاً لإرادة الله، تعلن بطريقة مستمرة وتدريجية في حياة الإنسان. فعندما التقى بولس بالرب المقام، وتمتع بذلك الاختبار الفائق الخارق في طريق دمشق، أُمر أن يدخل المدينة، فيعلن له ما يفعله.

الفصل الرابع: كيف نعرف إرادة الله؟

ربما سألت نفسك من قبل: كيف أستطيع أن أعرف إرادة الله؟ أو هل أستطيع أن أعرف إرادة الله؟

إن الجواب على السؤال الأخير يتوقف على ما نعني بالعبارة «إرادة الله» وبالكلمة «نعرف». هل نستخدم هذا التعبير وهذه الكلمة بمعنى نسبي أم بمعنى مطلق كامل؟ إن كان بمعنى نسبي فالجواب نعم. أما إن كان بمعنى مطلق فالجواب يكون بالنفي.

إن الإنسان يستطيع أن يعرف إرادة الله، لكنه لا يستطيع أن يعرفها معرفة تامة كاملة. إن إرادة الله أكبر وأوسع وأعمق من أن يدركها إنسان - مهما بلغ من النضج - إدراكاً تاماً. إلا أننا لسنا متروكين نُحمَل كريشة في مهب الريح في هذا العالم، بدون أي إدراك للتوجيه الإلهي. إن اختبارات الكثيرين من أولاد الله، واختباراتك أنت على الأرجح، تبرهن أننا نستطيع أن نحظى بإدراك إرادة الله، بصورة عميقة تكفي أن تساعدنا على اتخاذ الخطوة الضرورية التالية. فنستطيع أن نعرف ما نحتاج أن نعرفه في نقطة معينة، في الوقت المناسب، ونستطيع أن نتطلع إلى الأمام، بمزيد من الاختبارات الغنية، ونحن نطلب أن نتبع إرادة الله لحياتنا.

من ناحية أخرى، قد تجده صعباً في بعض الأحيان أن تعرف إرادة الله، كما يحدث معي كثيراً. وهذا أحد الأسباب التي تدعونا أن نستخدم كل مصدر ميسور لنا، وكل وسيلة في طاقتنا لمعرفة إرادة الله. وينبغي أن نجمع كل هذه المصادر والوسائل التي نستعين بها في سعينا لمعرفة إرادة الله، ونضمها معاً كما في حزمة واحدة. فكلها مرتبطة معاً، وتكمل إحداها الأخرى بطريقة ما. لذلك لا نستطيع أن نحذف شيئاً منها إذا أردنا أن نكون حكماء في الأمر. فهي جميعاً ضرورية مع اختلاف درجاتها لمعرفة إرادة الله. كلها هبات صالحة منحها لنا الله لننتفع بها في بحثنا عن معرفة إرادته.

وقبل أن نبحث أول «هبات الله الصالحة» هذه، أذكر افتراضاً، وأقدم عبارة، وأسأل سؤالاً. أما الافتراض فهو: افترض أنك نشيط في كنيستك - في برنامجها التعليمي والتدريبي، وفي خدمات عبادتها، وفي رسالتها التبشيرية والمرسلية للبعيدين. وأما العبارة فهي: إن أفضل ضمان لمعرفة إرادة الله للمستقبل، هو أن تكون داخل نطاق إرادة الله في الحاضر. وأما السؤال فهو: هل هناك شك في ذهنك أنك داخل نطاق إرادة الله في الحاضر؟

إن الكتاب المقدس يعلن جلياً أن الإنسان خُلق على صورة الله، فلما فسد تشوهت تلك الصورة وفسدت، ولكنها لم تتلف كلياً. وتستعاد هذه الصورة بمعنى ما، عندما يصبح الإنسان خليقة جديدة عن طريق اتحاده بالمسيح الذي هو صورة الآب بعينها. إلا أن هذه الصورة لا تستعاد بشكل كامل إلا عند نهاية رحلة الحياة، عندما نستيقظ بشبه المسيح.

وعدم كمال هذه الاستعادة يوضح الجوع الدائم عند أبناء الله، لاتصال أعمق وأكمل بالآب السماوي. وهذا الجوع الداخلي يزداد شدة في حياة أبناء الله الأكثر نضوجاً وبلوغاً. فكلما عرفنا أكثر عن طبيعة الله وإرادته وجدنا بأكثر جلاء أننا في مزيد الشوق لمعرفة أكثر.

هذه الرغبة العميقة المتزايدة، تتصل أوثق صلة، وتعتمد كل الاعتماد على رغبتنا القوية لإطاعة إرادته. إن الله ينتظر منا أن نستخدم كل طاقاتنا وإمكانياتنا في طلب معرفة إرادته. ويندر جداً أن يعلن إرادته لنا بطريقة معجزية. ولنا أن نثق أنه يستجيب لنا، إذا نحن طلبنا أن نعرف إرادته.

عقولنا: إن الله أعطانا طبيعة عاقلة، وينتظر منا أن نستخدمها. فاستخدام الإدراك الذي لنا، يساعدنا كثيراً في سعينا لتحقيق غرض الله.

أرغب أن أطبق هذا الإدراك المعقول على مثلين معينين. الأول إن الله لا يريد أن يستخدم كطبيب مرسل شاباً أهمل دروسه العلمية إهمالاً جعله لا يحصل على الدرجات التي تؤهله لدخول كلية طب. والمثل الثاني، إن الإدراك المعقول يرى أنه ليس من الحكمة لامرأة في سن الأربعين أن تتزوج شاباً في سن العشرين. هذان مثلان متطرفان لكنهما يبيِّنان أن استخدام العقل الذي منحك الله إياه، يساعدك فعلاً في كل قرار يختص بعمل حياتك أو بشريكة حياتك. فعندما تكون بصدد اتخاذ شيء من هذه القرارات الخطيرة، لا تسمح لعقلك أن يأخذ إجازة.

والمقدرة على التفكير السليم واستخدام العقل، تساعدك أيضاً المرة تلو الأخرى، في قرارات الحياة اليومية. فعندما تجابه موضوع الصواب والخطأ، أو الحلال والحرام، في أمر معين، فكر في النتائج المحتملة. لاحظ ما تركته قرارات الآخرين في مثل هذه الحالة من أثر في أعمالهم. لاحظ من مشاهداتك ومن الجرائد أثر الخمر على شاربيها مثلاً. وهكذا استخدم عقلك في الحكم على صوابية القرار الذي تتخذه، فإن العقل هبة من الله لك لاستخدامها.

قد تقول: «لكن هذا لا ينطبق عليّ، فإني أشرب ما أشاء من الخمر. وأحتفظ باتزاني وضبط نفسي». ترى هل تستطيع حقاً أن تضبط نفسك؟ كيف تعرف ذلك؟ إن الواقع أثبت أنه لا يستطيع أحد أن يتأكد إن كان يستطيع أن يقاوم عادة الشرب بعد أن بدأها أم يضعف أمامها. فإنه عندما يشرب الإنسان الكأس الأولى، قد يتخذ بذلك الخطوة الأولى التي تجعله عبداً للخمر.

إن العقل يأمر الإنسان أن لا يتناول الكأس الأولى، فإنه حتى لو تأكد الإنسان أنه لن يصير سكيراً، فتوجد براهين أخرى قاطعة ضد شرب الخمور.

كذلك يوصي العقل بعدم التدخين. إني أشعر أني لست في حاجة إلى إعلان خاص من الله ينهاني عن التدخين. يكفي ما أثبتته الأبحاث العلمية السليمة الحديثة عن علاقة التدخين بالسرطان.

إنك باستخدام الملاحظة الذكية وتطبيق العلم والإدراك السليم تجد خير مساعد، يعينك في إيجاد حل لكثير من المشاكل التي تجابهك.

ضمائرنا: ليس هذا مجال بحث فني عن طبيعة الضمير. إنما نكتفي بذكر عبارتين أو ثلاث لمساعدتنا في تحديد ما نقصده عندما نستخدم كلمة «الضمير». نحن لا نقصد أن للإنسان مقدرة فطرية غريزية ترشده إلى الصواب ولا تخطئ أبداً. بل نقصد أن الله وضع داخل الإنسان شعوراً بعمل ما يجب، واقتناعا داخلياً بأن هناك شيئاً يُعرف بالصواب أو بالخطأ. هذا الوجدان جزء مما منحه الله للإنسان ليعرف إرادته تعالى. وهذا ما يجعل الإنسان مسؤولاً أخلاقياً.

بعكس هذه الغريزة الفطرية بعمل ما يجب، نذكر أن رضى ضمير الإنسان بما يعتبره صواباً أو خطأ ليس غريزياً ولا فطرياً فيه، بل هو متوقف إلى حد كبير على حصيلة اختباره الأخلاقي، أي على ما تعلمه في البيت والمدرسة والكنيسة ومن الأصدقاء والمعارف والمجتمع، ومن الاختبار الشخصي.

فمع أننا جميعاً نتفق على وجود ما يسمى بالخطأ أو الصواب، إلا أننا كثيراً ما نختلف في تحديد الخطأ أو الصواب، وهذا معناه أن الإنسان قد يتبع ما يشير عليه ضميره بعمله ويكون على خطأ. ولهذا فالضمير في حاجة إلى تدريب وتهذيب حتى يتعود أن يكون حساساً. إن الضمير ليس «صوت الله» مع أنه قد يكون «أذن النفس» كما يقولون. وحتى لو صح ذلك فإن الأذن تحتاج إلى تدريب.

هل يعني ذلك أننا لا نستطيع أن نثق في الضمير، وبالتالي أنه لا ينبغي أن نتبع ضمائرنا؟ لقد أشرنا فيما سبق أن ضمائرنا ليست دائماً على صواب، إلا أننا يجب أن نفعل دائماً ما تقول ضمائرنا إنه صواب ومستقيم. هناك فرق بين عصمة الضمير وسلطة الضمير. الضمير قد يخطىء أحياناً، لكن يجب طاعته. إن أفضل ضمان لإمكانية حصولنا على ضمير حساس فيما بعد، هو أن نتبع الضمير الذي لنا الآن. وبعبارة أخرى، إن فعل الخطأ عمداً، أو مخالفة ضمائرنا سيؤثر تأثيراً عكسياً على أحكامنا الأخلاقية. ومعنى ذلك أنه من الخطأ، ومن عدم الحكمة، أن نفعل ما توحي به ضمائرنا أنه من الخطأ فعله.

إذاً علينا مسؤولية مزدوجة تجاه ضمائرنا: أن نطيع الضمير وأن نهذبه. وإذا راعينا هاتين المسؤوليتين المراعاة الواجبة، فسنجد أن ما نسميه ضميرنا سيساعدنا مساعدة كبرى في تحقيق إرادة الله.

محدودياتنا: قلنا فيما سبق إن إمكانيات الإنسان وموارده محدودة. وقلنا أيضاً إننا لو كنا نفكر تفكيراً سليماً مستقيماً، لرأينا حكمة إتمام إرادة الله. لكننا للأسف لا نستطيع أن نفكر تفكيراً مستقيماً كل الاستقامة، فلقد أثَّرت الخطية في شخصيتنا بجملتها، بما فيها طبيعتنا العاقلة. وعدم قدرتنا على التفكير المستقيم باستمرار يوضح ضرورة عدم الاعتماد على ضمائرنا. صحيح إننا محدودون، إلا أن الله ينتظر منا أن نستخدم ما عندنا. يجب أن نسلم بمحدودية مواردنا الطبيعية، ثم ندرك حاجتنا للمعونة ونحن نطلب أن نعرف إرادة الله وأن نتممها. وانطلاقاً من عدم مقدرتنا على أن نثق كل الثقة في مواردنا، قال الدكتور و.أ. كارفر عبارة ساعدتني كثيراً عند اتخاذي قراراً خطيراً. قال: «عندما تتأمل أمراً تأملاً دقيقاً من كل ناحية، ويرشدك عقلك إلى شيء، وقلبك إلى شيء آخر، فاتبع ما يرشدك إليه قلبك». كأنه يقول - إن كنت أفهم قصده تماماً - على المرء أن يتبع التوجيه الداخلي الذي يأتيه من قيادة الروح القدس. وفي تلك المناسبة تبعت قلبي أكثر من رأسي. وعلى مر السنين وأنا أشكر الله، الذي استخدم الدكتور كارفر ليقول هذه العبارة التي كانت مرشداً لحياتي.

لا تستنتج من هذا أن الرأس والقلب يتناقضان دائماً، فإنهما في معظم الأحيان يتفقان تمام الاتفاق، ويعلنان نفس الشيء الواحد. وعلى كل حال فمن الحكمة أن يطلب القلب مشورة من الرأس. ولا يستطيع أن يتبع نداءات القلب الداخلية إلا الشخص الذي يفكر دون أن يتأثر بالعوامل العاطفية.

الفصل الخامس: لتعرف إرادة الله ادرس الكتاب المقدس

إن أبانا السماوي لا يحابي في توزيع أفضل هباته. ومن أفضل هباته لنا الكتاب المقدس. ولكن أليس من المؤسف أن هذا كتاب مجهول إلى حد كبير، حتى من الكثيرين من أبناء الله؟ وهم يجهلونه لأنهم لا يفتحونه. وبالطبع لا يمكن أن نفوز بالإرشاد ما لم نعرف الكتاب المقدس، وما لم نأخذ وقتاً فيه نقرأ الكتاب، وندرسه، ونتأمل فيه مصلّين. قد يحتج البعض بأنهم لا يفهمونه عندما يقرأونه، وهم لذلك يفضلون أن يقبلوا معناه كما يقوله لهم بعض الناس، إنما لا ننس أن من عجائب الكتاب المقدس أنه - ولو أن العالم البليغ المتضلع لا يستطيع أن يستنفد أعماقه ويتقصى كل معانيه، إلا أن أي قلب باحث مخلص يستطيع أن يفهم حقائقه الأساسية.

بعض تعاليمه الخاصة: في مواضع كثيرة يتكلم الكتاب المقدس كلمة صريحة واضحة في موضوع معين أو مشكلة خاصة. وكلنا نتفق بالتأكيد أنه عندما يتكلم هكذا، تكون عبارته تعبيراً صريحاً عن إرادة الله. وفي الكتاب عبارات كثيرة جداً من هذا النوع، لا يسمح المجال بحصرها.

تقدم الوصايا العشر مثلاً صالحاً لهذه التعاليم الخاصة في الكتاب المقدس. وهي تلخص الشرائع الأخلاقية الأساسية في العهد القديم. وهي تقول صريحاً إن أبناء الله لا يكون لهم آلهة أخرى، ولا يصنعون لهم تمثالاً منحوتاً، ولا يتخذون اسم الله باطلاً. وإن يوم السبت يجب أن يُحفظ مقدساً، وإن الوالدين يجب أن يكرموا. وينص صريحاً بأنه من الخطأ، بل إنه ضد إرادة الله لأي إنسان أن يقتل أو يزني أو يسرق أو يشهد شهادة زور أو يشتهي ما للغير.

ويمكن تفسير بعض هذه الوصايا بطرق متنوعة، لكن هذا لا يؤثر في شرعيتها، كأساس لإرادة الله في دائرتها. ولا ننس أن هذه الكلمات يسندها سلطان الله المطلق التام في الكون. وهو يتكلم بها لكل عصر. فلما يقتل إنسان، أو يزني، أو يسرق، أو يشهد بالزور، أو يشتهي ما للغير، يكسر إحدى وصايا الله. ولا يستطيع الإنسان أن يكسر شريعة من شرائع الله الأساسية، بدون أن يلقى عقابه على هذا التعدي عاجلاً أم آجلاً.

ويوجد كثير من التعاليم الخاصة الأخرى، تتعلق بمواضيع عديدة في العهدين القديم والجديد، فلنلخص الموضوع في القول إننا عندما نقرأ هذه التعاليم ونفسرها التفسير الصحيح، نجد فيها تعبيراً عن إرادة الله في حياتنا.

يجدر بنا، في هذا المجال، أن نذكر كلمة تحذير. لا شك أنه يجب علينا أن نطيع ما نفسره بأنه صوت الله لنا في الكتاب، ولكن حذار من أن نتشدد في الجزم بأن تفسيرنا الخاص هو وحده التفسير الصحيح. فهناك فصول كثيرة يمكن أن تفسر بطرق متنوعة. إن من حقنا ومسؤوليتنا أن نقرأ وأن نفسر، وأن نطبق الكتاب المقدس لأنفسنا، لكن يجب أن نعترف للآخرين بمثل هذا الحق ونحترمه.

وعلينا أيضاً أن لا نحاول أن نجعل من الكتاب المقدس كتاب قانون أو شريعة نجد فيه حلاً صريحاً نهائياً لكل سؤال، وجواباً قاطعاً لكل مشكلة. بل علينا أن ندرك أننا لا نستطيع أن نجد أصحاحاً معيناً وآية معينة لحل كل مشكلة. ومن الخير لنا أن الكتاب ليس من هذا النوع. فلو كان كذلك، ما كان يتم لنا النضج عن طريق الكفاح، وعن طريق المعاناة في درس الكتاب بدقة وعناية وبالصلاة حتى نصل إلى معرفة إرادة الله لحياتنا. بل كنا نحرم الكثير من أعظم البركات التي لنا كأولاد الله.

ولو كان الكتاب كتاب قانون أو شريعة، لآل الأمر إلى جعل إرادة الله شكلية جامدة. والحال أن إرادة الله ليست جامدة، بل هي حية ديناميكية، ويجب أن تكون كذلك في حياتنا. ولسوف نجد، ونحن نسلك في إرادته، أنها دائمة الإتساع بالنسبة لنا. كما يصدق هذا على نظرتنا الثاقبة إلى تعبيرات إرادته في الكتاب المقدس. وقد يكون من الحكمة أن نشير مرة أخرى إلى أن طاعتنا لإرادة الله كما هي مبينة في الكتاب هي التي تمكننا من تفهم أعمق لما في الكتاب المقدس.

مبادئه العامة: أشرنا إلى المعونة التي نستطيع أن نحصل عليها من دراسة وتفسير وتطبيق تعاليم الكتاب الخاصة، بطريقة صحيحة. وكثيرون منا في مقدورهم أن يحصلوا على هذه المعونة بل أكثر منها في معرفة إرادة الله، عن طريق معرفة الآراء الأساسية أو المبادىء العامة للكتاب المقدس. فضلاً عن ذلك توجد آراء ومُثل عليا كامنة في هذه المبادىء من شأنها أن تقدم توجيهاً ولوناً لحياتنا. وهي لا تساعدنا فقط على معرفة إرادة الله، بل تعمق أيضاً رغبتنا في السير في إرادته. كما أنها تقدم أساساً للتفسير الصحيح لتعاليم الكتاب المقدس الخاصة.

كثير من هذه المبادىء الرئيسية مثل القداسة، والبر، والمحبة، والعدل، والرحمة، والإنصاف، وإنكار النفس، موجودة في كل الكتاب المقدس. إلا أنها هي وغيرها من المبادىء العامة ظاهرة بنوع خاص في حياة المسيح وتعاليمه. وقد اقتصر في تعليمه على إظهار هذه المبادىء والمثل العامة بنوع أخص. وهذا من الأسباب التي تجعل لتعاليمه قيمة ثابتة خالدة.

نكتفي أن نشير هنا إلى حادثة واحدة في حياة يسوع. لقد جاء إليه ناموسي يمثل الفريسيين، وسأله «يَا مُعَلِّمُ، أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ ٱلْعُظْمَى فِي ٱلنَّامُوسِ» فاقتبس يسوع وصيتين من العهد القديم (تثنية 6: 5 ولاويين 19: 18) وأجابه « تُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هٰذِهِ هِيَ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلأُولَى وَٱلْعُظْمَى. وَٱلثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. ثم أضاف قائلاً بِهَاتَيْنِ ٱلْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ ٱلنَّامُوسُ كُلُّهُ وَٱلأَنْبِيَاءُ» (متى 22: 34 - 40). فإذا فهمنا أن هذا يعني أن نحب الرب بكل مجموعة شخصياتنا، وأن نحب «قريبنا» من أي طبقة أو جنس يحتاج إلى محبتنا، وجدنا أن في هاتين الوصيتين ما يكفي لأن يتحدانا إلى نهاية رحلة الحياة كلها. وفيهما نجد المثُل العليا التي تمنحنا الإرشاد في وقت اتخاذ قرار.

معونته لنا بطريقة غير مباشرة: لا يعيننا الكتاب المقدس في معرفة إرادة الله بتعاليمه الخاصة ومبادئه العامة فقط، بل يعيننا أيضاً بالتأثير العام الذي يطبعه على حياتنا ونحن ندرسه. فروحه يتغلغل في حياتنا ويسيطر عليها، فتستنير عقولنا، وتنهض مشاعرنا، وتتحرك إرادتنا لطاعة قيادة الروح القدس. وهذا يعني ليس فقط أننا سنفهم إرادة الله بجلاء ووضوح، بل أننا سنزداد رغبة لعمل إرادته.

وغنيّ عن القول إن الذين ينعمون بهذه البركات هم الذين يقرأون الكتاب المقدس ويدرسونه بإمعان ويتأملون فيه بروح الصلاة، ومن المهم جداً أن ندرس بنوع خاص الأناجيل، فهي تتضمن سيرة حياة يسوع المسيح، الذي أعلن الآب إعلاناً كاملاً، وبالتالي أعلن تماماً الطريق التي يريدنا الآب أن نسلك فيها. فلنشبِّع أنفسنا بحياة المسيح وتعاليمه، ولنجعل روحه يسيطر على حياتنا.

الطريقة الصحيحة لدرسه: يجب أن نغرس في أنفسنا بعض العادات الثابتة لقراءة الكتاب المقدس ودرسه. فنقرأه لا مجرد مطالعة عابرة، ولا كما نراجع سجلاً مكتوباً، ولا لإعداد الدرس الذي سنلقيه في مدرسة الأحد، أو كواجب مدرسي. هذه أساليب مهمة ولا شك، لكننا نحتاج أن ندرسه بدقة أكثر إذا ابتغينا أن نجني فائدة تعبدية من درسه. فإذا أردنا أن ننال بركة من قراءة الكتاب ودرسه، توجب علينا أن نقترب منه بذهن مفتوح وقلب مخلص فاحص.

إذا أردت أن تجني الفائدة القصوى من درس الكتاب، فلا تدرسه مستعجلاً. فكم من أوقات تمسك بتلابيبك آية واحدة معينة من الكتاب المقدس. قف عندئذ وتأمل فيها. واجعل الحق الذي تعلنه لك هذه الآية من هذا العدد يتخلل كيانك، ويصبح جزءاً خالداً في حياتك.

كنت يوماً مسافراً في قطار حديدي، وقد استولى على نفسي الفشل والغم أكثر من أي وقت مضى. وكنت أقرأ جزءاً في الكتاب المقدس يتناسب مع ما كنت أكتبه في ذلك الوقت. وفجأة قفز إلى ذهني عدد من الصفحة التي كنت أقرأها. كان هذا العدد من ميخا 7: 8 «إِذَا سَقَطْتُ أَقُومُ. إِذَا جَلَسْتُ فِي ٱلظُّلْمَةِ فَٱلرَّبُّ نُورٌ لِي». ولم أذكر إني قرأت هذا العدد من قبل، أو سمعت واعظاً يعظ عنه، أو معلماً يقتبسه أو يشير إليه في رسالة. فقرأته، وقرأته، ثم قرأته مراراً. وأقفلت كتابي، وجعلت هذا الحق العظيم الذي أعلنه لي يتسرب إلى أعماق نفسي ويغوص في كياني. وكان هو الرسالة التي أحتاج إليها أشد احتياج. وقد استخدم الله هذا العدد فبارك به حياتي وقتئذ، وباركها به مراراً منذ ذلك الحين.

سلطانه: يتفق معظم المسيحيين في أن مصدر السلطة التي للإنسان تأتيه من خارج نفسه لا من داخلها، أي أن هناك مصدراً نهائياً أبدياً مطلقاً للسلطة، وهو إرادة الله. وحيث أن إرادة الله تتفق اتفاقاً تاماً وتنسجم انسجاماً كلياً مع طبيعة الله، لذلك فالمصدر النهائي المطلق لسلطة الإنسان هو في الله نفسه.

بأي معنى يتلاءم الكتاب المقدس وسلطانه مع ما سبق وذكرناه عن معرفة الله؟ إن الكتاب المقدس هو أعظم مصدر ملموس موضوعي لمعرفة طبيعة الله وإرادته. وهذا أساس سلطانه، فلا سلطان له مجرداً عن الله. لا بل أن سلطانه مؤسس في الله نفسه. ويمكننا أن نقول إن سلطان الكتاب لا يقوم في ذاته، وليست سلطة الكتاب مؤسسة أساسياً على الصفحة المطبوعة، بل على إعلان الله الذي أوحى بالكلمات. وفي التحليل النهائي نجد أن سلطة الكتاب هي في المسيح الذي يعلنه أكثر منها في الصفحات التي تؤدي دور الإعلان. وهذا لا يقلل من سلطان الكتاب المقدس، بل بالأحرى يزيده جداً.

الفصل السادس: لتعرف إرادة الله صلِّ

ليست الصلاة شيئاً نضيفه بعد أن نكون قد بذلنا كل وسيلة أخرى في طلب إرادة الله وفشلنا. بل من واجبنا أن نصلي ونحن نستخدم الموارد والوسائل الشخصية التي منحنا إياها الله. كما أنه علينا أن نتأمل بروح الصلاة في كل نصيحة يقدمها لنا الآخرون. ولا شك أن علينا أن نصلي دائماً ونحن نطالع الكتاب المقدس وندرسه.

الصلاة وإرادة الله: نستطيع أن نحصل بالصلاة على معونة بطريقة مباشرة وبطريقة غير مباشرة، كما نفعل ذلك من قراءة الكتاب المقدس ودرسه. ونعني بالمعونة المباشرة، المعونة التي نتلقاها استجابة لطلبة خاصة أو لحل مشكلة خاصة. يقول الكتاب المقدس «إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يُعْطِي ٱلْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلا يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ» (يعقوب 1: 5). لكن إن كان لا بد أن ينال ما يطلب فعليه أن «يَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ ٱلْبَتَّةَ» (يعقوب 1: 6). ألا نجد هنا السبب الذي لأجله لا يستجاب كثير من صلواتنا؟ إننا نطلب أن يعلن الله إرادته لنا، لكن أحياناً كثيرة لا نريد أن نعرف إرادته ما لم تتفق مع إرادتنا.

قد يبدو هذا متناقضاً مع ما ذكرناه من قبل. إلا أن الحقيقة الناصعة هي أن إرادتنا لا يمكن أن تنسجم مع إرادة الله، إلا عن طريق روح الصلاة الحقيقية. إن يسوع نفسه تجلى عندما كان يصلي (لوقا 9: 29) وتسربل بمجد الآب، الذي كان له قبل مجيئه إلى العالم، إن مجد الرب إنما يمكن أن يصبح حقيقة في حياتنا على قدر ما يمتلك كامل شخصياتنا، وعلى قدر ما تصبح إرادته إرادتنا.

إن ما ذكرناه سابقاً يفرض أن الصلاة ستساعدنا بطرق غير مباشرة لفهم إرادة أبينا السماوي بشكل أوفى وأكمل، فليست الصلاة مجرد طلب شيء لنا أو للآخرين من الله، ولا هي مجرد التعبير عن شكرنا له لأجل بركاته. بل هي، أساسياً، صلة (تحادث) بين الله والإنسان. وليس من المحتم أن تكون هذه الصلة بالكلام فقط، وإنما هي صلة بالروح قد تتم بالكلام أو بغير الكلام.

كان يسوع يصرف أحياناً ليلة بكاملها في الصلاة. هل هذا يعني أنه قضى كل الوقت يطلب شيئاً من أبيه؟ لا أظن ذلك. بل أعتقد أنه صرف معظم الوقت في الشركة مع الآب.

هذا النوع من الصلاة، أو بتعبير أفضل هذه الناحية من الصلاة تساعدنا بطرق كثيرة غير مباشرة أن نرى مقاصد الله في حياتنا بأكثر وضوح. وقد تشمل ما يسمى «الصمت البنّاء» أو «الاستجابة الهادئة». وقد يكون من الأفضل أن نضم الأمرين معاً، ونسميهما «الاستجابة البنّاءة».

والصلاة كشركة ليست بالضرورة صامتة أو مسترخية، مع أن هذه الناحية منها يجب أن تكون موجودة. من أعظم الاختبارات المثيرة الفعالة والمزعجة أحياناً التي قد تأتي لأي واحد من أبناء الله، ذلك الاختبار الذي يحصل عليه عادة عندما يدرك حضور المسيح المقام. بعض هذه الاختبارات لا تغمر حياة الكثيرين منا بكثرة كما يجب. وقد يكون هذا من الأسباب التي لأجلها لا نحصل على يقين فيما يتعلق بإرادة الله.

الصلاة ضمن إرادة الله: يقول يوحنا «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلثِّقَةُ ٱلَّتِي لَنَا عِنْدَهُ: أَنَّهُ إِنْ طَلَبْنَا شَيْئاً حَسَبَ مَشِيئَتِهِ يَسْمَعُ لَنَا» 1يوحنا 5: 14). لاحظ القول ) «حَسَبَ مَشِيئَتِهِ» أي أن الله يستجيب الطلبة التي تتفق مع قصده.

قد يبدو صعباً بل متعذراً أحياناً أن نعرف إن كنا نصلي ضمن إرادة الله. فما أسهل أن نخدع أنفسنا! كما أنه توجد أوقات فيها لا نستطيع أن نصوغ صلواتنا في كلمات، ويبدو أننا لا نعرف أن نعبر عن رغائب قلوبنا. وإني أميل إلى الاعتقاد بأن هذا الأمر الأخير ينطبق على معظم اختباراتنا العظمى في الصلاة. فإن الكلمات قد تكون عائقاً بينما يكون هناك شيء في داخلنا يصرخ إلى الله. وربما هذا ما كان في ذهن بولس عندما قال «لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِيِ» (رومية 8: 26). إننا لا نعلم ما نصلي لأجله، ولا كيف نصلي لأجله. إنما ينبغي أن نشكر الله لأن الروح يعين ضعفاتنا ويشفع فينا بأنات لا يُنطق بها، أي أنه يتوسل من أجلنا ويدافع عنا، والله «ٱلَّذِي يَفْحَصُ ٱلْقُلُوبَ يَعْلَمُ مَا هُوَ ٱهْتِمَامُ ٱلرُّوحِ، لأَنَّهُ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ يَشْفَعُ فِي ٱلْقِدِّيسِين» (رومية 8: 26 - 27). هنا حق مجيد ومخيف أيضاً. إنه حق مجيد، لأننا نعلم أن الروح يستطيع أن يفسر أشواقنا ويفعل ذلك على أكمل وجه، ويوضح محاولاتنا الناقصة في الصلاة على أحسن صورة. لكن هذا قد يكون مخيفاً أيضاً لأننا لا نستطيع أن نخدع الله. فهو لا يصغي أساساً إلى الكلمات التي ننطق بها، بل إلى الرغائب العميقة في نفوسنا. قد نخدع الناس وقد نخدع أنفسنا أيضاً، لكننا لا نستطيع أن نخدع الله. فهو يعلم إن كنا نريد أن نعرف إرادته وأن نتممها حقاً أم لا. فلنسع جهدنا أن نكون «مُصَلِّينَ فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (يهوذا 20). عند ذلك نستطيع أن نعرف أن صلواتنا هي ضمن إرادة الله، وأنه سيستخدمها ويباركها لتحقيق إرادته في العالم.

الصلاة لطلب إرادة الله: لا نستطيع أن نصلي ضمن إرادة الله بأصدق معنى، دون أن نطلب أيضاً أن نتمم إرادة الله. إذاً دعونا نتأمل معاً هذه الناحية بتحديد أوضح قليلاً. إننا لا نصل إلى حالة النضوج والبلوغ في حياة الصلاة، حتى ينتقل الجزء الهام من صلاتنا من أنفسنا، بل حتى من معرفتنا إرادة الله وإتمامها إلى إتمام إرادته في حياتنا وفي العالم أيضاً. وعندما نصل إلى هذه الحالة الأخيرة في صلاتنا، نكون مستعدين أن يستخدمنا الله في إتمام غرضه ومقاصده للعالم.

لقد علّم المسيح تلاميذه أن يصلوا قائلين «لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ» (متى 6: 10).

وليس مصادفة أن تكون هذه من أولى الطلبات في الصلاة النموذجية. وحسناً قال جورج ترويت بأنه لا حق للإنسان أن يصلي قائلاً «خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا ٱلْيَوْم»، قبل أن يصلي «لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ»ِ. فلو تمَّت مشيئته على الأرض كما هي في السماء، لأتى ملكوته، أو ملكه. بمعنى آخر، هذه طلبة واحدة لا طلبتان، فإن ملكوته يأتي عندما تتم مشيئته في حياتنا، وفي العالم الذي نحيا فيه.

نحن نعمل لتحقيق ما نصلي لأجله، والعبارتان المتلازمتان معاً في الموعظة على الجبل: «لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ» «ٱطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ» (متى 6: 33) ترتبط كل منهما بالأخرى. فأول طلبة في صلواتنا، يجب أن نسعى لتحقيقها قبل كل شيء آخر. والصلاة والعمل لإتيان الملكوت، معناهما الصلاة والعمل لتحقيق مقاصد الله في العالم.

وإذ ننمو في النضوج في المسيح تصبح إرادة الله وخطته وقصده وسيادته وملكه أو ملكوته أكثر فأكثر المركز الموحد لصلواتنا وحياتنا بالإجمال،وننظر أكثر فأكثر إلى العالم الذي نعيش فيه بعين أبينا السماوي.

ممارسة الصلاة: يفيدنا كثيراً جداً، ونحن نطلب إرادة الله، أن نجعل ممارسة الصلاة عملاً دائماً في حياتنا. ومعنى هذا أن نكوِّن عادات صلاة منتظمة تصبح نموذجاً دائماً ثابتاً في حياتنا. لا يمكن أن نتصور كيف يمكن أن نشهد اليوم للرب بدون أن نصرف وقتاً في الشركة معه كما لا يمكن أن نبدأ عمل الرب بدون ممارسة أعمال الصباح الروتينية الدائمة، أو بدون الاستعداد لليوم. وعلى هذا المنوال ينبغي أن نرفع على الأقل صلاة قصيرة كجزء من استعدادنا للنوم.

ربما تريد أن تربط درس الكتاب والصلاة معاً. وقد تكون فترة التعبد هذه انفرادية خاصة بك، أو قد تشترك مع صديق أو زميل، أو في غرفتك مع أفراد أسرتك. ولكل شخص أن يختار خطته الخاصة، إنما إذا أردت أن تعرف إرادة الله لحياتك فدرِّب نفسك على ممارسة حضوره عن طريق درس الكتاب المقدس والصلاة بانتظام.

إن حياة الصلاة للمسيحي البالغ تتعدى عادات الصلاة المنتظمة. فإنه يكتشف بتزايد مستمر شعوره بحضور الرب، وهو يمارس أعماله اليومية. فهو لا يمارس الصلاة في مواعيد ثابتة منتظمة فقط، ولو أنه يدرك أهمية ذلك، لكنه أيضاً يصلي وهو يمشي في الطريق، وهو يتكلم، وهو يلعب، وهو يشتغل. ويجد أنه يشعر أكثر فأكثر بلمسة روح الله على روحه، وهو يلهج بصلاة لله في كل وقت، ليلاً ونهاراً. ولعل هذا ما عناه بولس بقوله «صَلُّوا بِلا ٱنْقِطَاعٍ»(1 تسالونيكي 5: 17) أو واظبوا على الصلاة أي لا تكفوا عن الصلاة. إننا نصلي بلا انقطاع عندما نحيا في جو الصلاة.

وكلما نمونا إلى النضوج في حياة الصلاة اكتشفنا أننا أكثر تيقظاً، وأشد تيقناً لمعرفة إرادة الله لحياتنا. وسنصلي لأنفسنا أقل، وسنصلي أكثر لإتمام إرادة الله في العالم. ويصبح فكرنا عن إرادة الله في العالم أوسع مدى. والمسيحي النامي نحو النضوج يصلي أقل لمعرفة إرادة الله، وأكثر حتى يستخدمه الرب لعمل إرادته في العالم. بمعنى آخر يصبح أقل تمركزاً في نفسه، وأكثر تمركزاً في الله. وليس النضوج في الحياة المسيحية مرتبطاً بالسن، فما أكثر الناضجين المسيحيين الأفذاذ من صغار السن.

الصلاة في الخفاء: يجني الإنسان فائدة كبرى من الصلاة مع زميل أو شريك، لكن الصلاة أساسياً هي أمر شخصي وخاص. هي أساسياً شركة النفس مع الله. قبل أن يقدم المسيح لتلاميذه الصلاة النموذجية، قال لتلاميذه «وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَٱدْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ ٱلَّذِي فِي ٱلْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ ٱلَّذِي يَرَى فِي ٱلْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلانِيَةً» (متى 6: 6). وقد قيل عن المسيح إنه «فِي ٱلصُّبْحِ بَاكِراً جِدّاً قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ» مرقس 1: 35). إن مكان الصلاة الحقيقية هو عادة المكان المنفرد. الذي يبتعد فيه) الإنسان عن الآخرين، ولو أنهم قد يكونون حاضرين. وفي هذه الأماكن الانفرادية روحياً، لا جغرافياً ولا اجتماعياً، يتكلم الله لنا بأشد وضوح.

في بستان جثسيماني ترك يسوع تلاميذه وانفصل عنهم «قليلاً»وهناك وهو وحده قَبِل طريق أبيه وإرادته لحياته. وهكذا، في وحدة «اختبار البستان»، يستطيع كثيرون منكم أن يصلوا «لتكن لا إرادتي بل إرادتك». إن اكتشاف إرادة الله، وعلى الخصوص الخضوع لها، هو دائماً اختبار شخصي خاص جداً.

الفصل السابع: إرادة الله موجودة لحياة كل إنسان

من الحقائق العملية الهامة التي وردت في الكتاب المقدس أن الله له إرادة خاصة في حياة كل إنسان. وحين نكتشفها ونتممها نحصل على نجاح وسعادة لا يمكن أن نحصل عليهما بأية وسيلة أخرى. وهذا التعليم الكتابي له أهمية كبرى ولا سيما للمؤمنين الأحداث الذين تمتد أمامهم الحياة بطولها.

والعالم لا يعرف شيئاً عن الحياة التي هي بحسب فكر الله، بل إن بعضاً من المؤمنين لا يدركون أهمية السلوك في مشيئة الله، مع أن الكتاب المقدس كله يتحدث عن هذا الموضوع بغاية الإسهاب والوضوح. ونتيجة ذلك أننا نتقابل مع كثيرين ممن أخطأوا السبيل وحادوا عن الطريق الإلهي المرسوم عند نقطة ما. لقد اختاروا طرقاً خاطئة، وضاعت منهم فرصٌ ذهبية، وأخيراً استسلموا لحياة مليئة بالبؤس والشقاء تظللها سحب الآمال الضائعة. ومع أنهم على استعداد أن يضحوا بكل شيء لكي يبدأوا حياتهم من جديد لكنهم بكل أسف لا يجدون حلاً لعلاج الخطأ القديم، وهو أنهم اختاروا لأنفسهم ففشلوا.

ولا ينبغي أن يخاف المؤمن الذي كرس نفسه لله من مثل هذا المصير لأن الله هو الذي صنعنا، وهو يعرف إمكانياتنا، وضعفاتنا، وإحساساتنا ومشاعرنا الداخلية. هناك خطة إلهية وتدبير إلهي من أجل كل واحد من أبناء الله. وهذه الخطة تتفق تماماً مع احتياجاتنا الخاصة حتى أنها تمكننا من استخدام أكبر كمية ممكنة من طاقاتنا وإمكانياتنا. وإرادة الله من جهتنا لا تنصب على حياتنا الحاضرة فحسب بل على حياتنا العتيدة أيضاً. ومن السهل أن نكتشف إرادة الله ونعرفها. بل إن الله يرغب في إعلان هذ الإرادة لنا أكثر مما نرغب نحن في معرفتها حتى أنه دبر كل الوسائط التي بها يمكن أن نعرف مشيئته بالنسبة لنا ونتممها. وإن كنا لم نحاول أن نعيش قبلاً بحسب مشيئة الله لكن يمكننا أن نبدأ الآن مهما كان عُمرنا.

هذا الحق على جانب كبير من الأهمية، وإن كان البعض يهملونه لكن ذلك لا يقلل من شأنه. ويكفي للبرهان على أهمية هذا الحق أن نتأمل في امتياز واحد من مزاياه العديدة، وهو أن الله قد وعد بأن يعطينا كل ما تشتهيه قلوبنا إن أتممنا شرطاً واحداً وهو التلذذ بالرب «وَتَلَذَّذْ بِٱلرَّبِّ فَيُعْطِيَكَ سُؤْلَ قَلْبِكَ» (مز 37: 4). ومن ذا يستطيع أن يقف جامداً أمام عرض كريم كهذا تسنده أمانة الرب وصدق مواعيده؟!

إنه مما يتفق مع العقل والمنطق أن يكون لله خطة في حياة كل مؤمن. أي شيء نعمله، سواء كنا نريد أن نبني بيتاً أو نصنع أثاثاً ينبغي أولاً أن نرسم له خطة للتنفيذ. وقبل أن نقوم برحلة علينا أن ندرس الخرائط ونتأكد من خط السير.

وحيثما ألقينا نظرة على العالم المحيط بنا نجد تخطيطاً يتفق مع العقل والمنطق، فالوردة إذا وضعت تحت الميكروسكوب ظهرت نقوشها وكأنها رسمت بكل إبداع وإتقان. والتلسكوب يبين لنا حركة النجوم والأجرام السماوية بكل دقة حتى أننا نضبط أوقاتنا عليها، وكل معدن من معادن الأرض له استعماله الخاص. وكذلك النباتات لها وظائف معينة فهي طعام للناس والحيوانات كما أنها تعطر الجو وتبعث في الحياة رونقاً وجمالاً.

وإذا أدخلنا في اعتبارنا أننا أسمى المخلوقات، وأن مقامنا الأبدي يفوق مقام الملائكة، وجدنا أنفسنا مضطرين لاعتناق المبدأ القائل إن الله لا بد أعدَّ لنا عملاً معيناً نتممه خلال مدة وجودنا على الأرض. هو الذي صنعنا، وكل موهبة نمتلكها هي من عنده، ولقد اشترانا بثمن عظيم للغاية هو دم ابنه، فلا يُعقل أنه يريدنا أن نعيش في حيرة وارتباك دون الوصول إلى هدف معين. نحن موضوع محبته وسروره، ولقد انشغل قلبه بنا «قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (اف 1: 4). وإن كان الله يقود القمر مع أنه جماد فلا بد أنه يقودنا بكيفية خاصة تشبع كل رغبة عنده من جهتنا. إنه مما يتفق مع العقل أن نؤمن بأن قانون الخليقة ينطبق علينا أيضاً، وأن لله إرادة في كل الكائنات التي خلقها.

والتاريخ المسيحي يحدثنا عن أمثلة كثيرة لرجال ونساء كرسوا حياتهم في عمل مشيئة الله. وسواء كان عملهم عادياً لا يستلفت النظر أو عملاً خارقاً للعادة جعلهم مشهورين فإنهم جميعاً ساروا مع الله بأمانة وثبات.

الفصل الثامن: المسيح وإرادة الله

من يتأمل في حياة المسيح يجد فيها مثلاً واضحاً للتسليم الكامل لإرادة الله، ودراستنا لموضوع الإرشاد الإلهي لا تكمل إلا بالتأمل في طاعة المسيح لفكر الله وإرشاد الله.

لما أشار الرسول بطرس للمسيح باعتباره مثلنا الأعلى استخدم تعبيراً فريداً «إِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ» (1 بط 2: 21). وكلمة «مثال» في اللغة اليونانية تطلق على النموذج المطبوع في أعلى الصفحة والذي يحاول التلاميذ أن يكتبوا مثله لكي يتدربوا على الكتابة وتحسين الخط، وهذا يعلمنا أننا ينبغي أن نكون كتلاميذ المدارس في علاقتنا بالمسيح. إنه مثالنا وعلينا أن نعكس صورته للعالم. حين نقبله مخلصاً تنقلب صفحة جديدة في حياتنا، وما أجمل أن نظهر نعمته وبركته ومحبته للذين حولنا.

في بدء الإيمان نتصرف كما يفعل الأطفال حين يحاولون المشي لأول مرة لأننا «أَطْفَالٍ فِي ٱلْمَسِيحِ» (1 كو 3: 1)، ونحاول أن نتمم الوصية «كَأَطْفَالٍ مَوْلُودِينَ ٱلآنَ ٱشْتَهُوا ٱللَّبَنَ ٱلْعَقْلِيَّ ٱلْعَدِيمَ ٱلْغِشِّ لِكَيْ تَنْمُوا بِهِ» (1 بط 2: 2). وحينئذ نعرف «ٱلْكُتُبَ ٱلْمُقَدَّسَةَ، ٱلْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاصِ» (2 تي 3: 15)، لكن سرعان ما ننمو في «ٱلنِّعْمَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِّ (2 بط 3: 18) ونصبح أكثر شبهاً للمسيح. نستطيع أن نجد في المسيح كل ما يختص بالمحبة والقداسة والطاعة الكاملة لمشيئة الآب وإتمام المقاصد الإلهية، ونستطيع أن نلاحظ طاعة المسيح متجسمة في كل أعماله وتصرفاته.

(1) في تجسده:

من أوضح الإعلانات المختصة بمجيء المسيح إلى العالم تلك الواردة في (يو 6: 38 «لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي». وهناك آية أخرى في غاية الوضوح جاءت في (عب 10: 5) «ِلذٰلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: «ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلٰكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً»، وهنا نجد دليلاً واضحاً على ألوهية المسيح وأزليته قبل التجسد، وقد جاء إلى العالم عندما ولد في بيت لحم اليهودية. ولم يكن وهو طفل مضجع في مذود أقل إدراكاً لغرض مجيئه عما كان عليه حين أخبر التلاميذ بأهمية الصلب وضرورته.

وقد كان موضوع الحديث بين الله الآب والله الابن عند مجيئه إلى العالم هو الغرض الذي كان مزمعاً أن يتممه في الجسد الذي أُعد له. ما أكثر الذبائح والمحرقات التي قدمت عن الخطية طوال الأجيال المتعاقبة لكنها كلها عجزت عن إبطال الخطية «بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرِّ» (عب 10: 6) وجاء اليوم الذي ولد فيه المسيح وقال «هَئَنَذَا أَجِيءُ... لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللّٰهُ» (عب 10: 7).

يا ترى ماذا كانت طبيعة إرادة الله من جهة ابنه؟ فالجواب نجده في (عب 10: 10) «بِهٰذِهِ ٱلْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً». لقد وُلد ليموت. هذا هو سبب مجيئه، حتى نصبح مقدسين لله بموته على الصليب.

هناك وجه شبه واضح بين المسيح وبين تابعيه. فنحن أيضاً لنا الامتياز أن نتمم قصداً إلهياً «مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ ٱلَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ» (أف 1: 11). «لأَنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ - أي عرف أنهم سيقبلون المسيح مخلصاً - سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ... وَٱلَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهٰؤُلاءِ دَعَاهُمْ أَيْضاً»ِ (رو 8: 29 و 30).

يقول الكتاب «ٱخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (أف 1: 4)، «ٱللّٰهَ ٱخْتَارَكُمْ مِنَ ٱلْبَدْءِ لِلْخَلاصِ» (2 تس 2: 13). إنه أمر جميل ومبهج أن نعرف هذه الأمور المختصة بإرادة الله من جهتنا، وجدير بنا أن نردد صدى كلمات المسيح مثالنا «أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلٰهِي سُرِرْتُ» (مز 40: 8).

(2) في حداثته:

يشير الكتاب إلى حادثة واحدة خلال الثلاثين سنة التي عاشها المسيح قبل خدمته الجهرية، وهذه الحادثة الوحيدة تشير إلى أن يسوع كان يتمم مشيئة الأب وهو بعد صبي صغير.

لما كان عمره اثنتي عشرة سنة وُجد في الهيكل وسط معلمي الناموس. ولما سُئل عما يفعله أجاب «أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟» (لو 2: 49).

والسبب في تسجيل هذه الحادثة في تاريخ المسيح هو قدوتها الحسنة للمؤمنين الأحداث، فهي تعلّمهم إمكانية العيشة حسب مشيئة الله حتى وهم تلاميذ في المدارس «ٱذْكُرْ خَالِقَكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ» (جا 12: 1).

(3) في علاقاته ومعاملاته:

فبالنسبة لكلام الله، كان اهتمام المسيح به أكثر من اهتمامه بالطعام. لما تعجب التلاميذ من أنه اهتم بربح نفس واحدة أكثر مما يهتم بإطعام جسده الجائع أجابهم بالقول «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ» (يو 4: 34).

وبالنسبة للآخرين، وضع المسيح أولئك الذين يتممون مشيئة الله في مستوى أسمى من مستوى إخوته وأخواته وأمه حسب الجسد، والعلاقة التي بينه وبين الذين يكرمون كلمة الله التي أكرمها هو، علاقة حقيقية وهامة أكثر من علاقته بالذين نشأوا معه تحت سقف واحد في الناصرة «لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي»(مت 12: 50). هذا الإعلان يجعله قريباً منا جداً ويمتعنا بشركته الحلوة.

وبالنسبة للصلاة، لم يطلب المسيح شيئاً بعيداً عن الغرض الذي من أجله أرسله الآب. وقد علمنا أن نتمثل به ونصلي قائلين «لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ» (مت 6: 10)، وهذه الطلبة تشمل إتمام مشيئة الله في حياتنا وكأننا نقول «لتكن مشيئتك فينا». هناك فرق بين الطاعة العملية الإيجابية وبين مجرد تكرار الصلاة بدون تفكير ) «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. بَلِ ٱلَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (مت 7: 21).

وبالنسبة لملكوت الله، فقد علّم المسيح أنه يتكوَّن من أولئك الذين هم بحسب مشيئة الله. وقد استخدم مثل الابنين، أحدهما أطاع الآب بالفعل بينما الآخر لم يطعه رغم أنه أظهر استعداده للطاعة (مت 21: 28 - 32). عندما يتوب الخاطئ المعاند ويفعل مشيئة الله كما فعل الابن الأول وكما فعل «العشارون والزوانى» (عدد 31) فإنهم يدخلون ملكوت الله، بينما يبقى صاحب البر الذاتي خارجاً. إن إرادة الله هي أن كل الذين يكرمون ابنه «تكون لهم حياة أبدية» «لأَنَّ هٰذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى ٱلٱبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَخِيرِ» (يو 6: 40).

(4) في أقواله وأعماله:

لم ينطق المسيح كلمة واحدة بإرادته هو بعيداً عن إرادة الآب «تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِيِّ» (يو 7: 16). ) «ٱلْكَلامُ ٱلَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلآبِ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي» (يو 14: 24). يجب أن نتعلم كيف نلجم ألسنتنا بالروح القدس (يع 3: 6). وإذا اتَّبعنا مثال المسيح في هذا الأمر فسوف يخلو حديثنا من كلمات «ٱلْقَبَاحَةُ، وَكَلامُ ٱلسَّفَاهَةِ وَٱلْهَزْلُ ٱلَّتِي لا تَلِيقُ» (أف 5: 4). ليتنا نقول مع داود «ٱجْعَلْ يَا رَبُّ حَارِساً لِفَمِي. ٱحْفَظْ بَابَ شَفَتَيَّ» (مز 141: 3).

والمسيح لم يفعل شيئاً بعيداً عن مشيئة الآب. كانت أعماله «ٱلأَعْمَالَ ٱلَّتِي أَعْطَانِي ٱلآبُ لأُكَمِّلَهَا» (يو 5: 36). وقد قال عن نفسه «لَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي، بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهٰذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي» (يو 8: 28). بنفس الكيفية ينبغي أن تخضع أعمالنا للوصية القائلة «كُلُّ مَا عَمِلْتُمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، فَٱعْمَلُوا ٱلْكُلَّ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ، شَاكِرِينَ ٱللّٰهَ وَٱلآبَ بِهِ» (كو 3: 17).

لقد أنكر المسيح إرادته الشخصية ولم يسع لتمجيد ذاته، وينبغي أن نتمثل به لأنه قد أعطانا مثالاً نقتدي به «لا أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ ٱلآبِ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِيِّ» (يو 5: 30) «أَنَا لَسْتُ أَطْلُبُ مَجْدِي» (يو 8: 50).

وكوننا نتمثل به بهذه الكيفية لا يجلب لنا أية خسارة، بل ربحاً. إنه يمتعنا بفرح الشركة مع الآب ويجعلنا نختبر ما قاله المسيح «ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ يَتْرُكْنِي ٱلآبُ وَحْدِي، لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ» (يو 8: 29). لن يتخلى الله عنا إن كنا نشتاق أن نرضيه، والطريق المعين من قبله لن يكون موحشاً ما دام هو يسير معنا «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلامِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً» (يو 14: 23).

(5) في آلامه وموته:

يضع الرسول بطرس شخص المسيح كمثالنا في جزء من رسالته يتعلق بالآلام «فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ» (1 بط 2: 21). ويتبعه بآيتين تشيران إلى آلام المؤمنين بحسب مشيئة الله «لأَنَّ تَأَلُّمَكُمْ إِنْ شَاءَتْ مَشِيئَةُ ٱللّٰهِ وَأَنْتُمْ صَانِعُونَ خَيْراً، أَفْضَلُ مِنْهُ وَأَنْتُمْ صَانِعُونَ شَرّاً. فَإِنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ مَرَّةً» (1 بط 3: 17 و 18). «فَإِذاً، ٱلَّذِينَ يَتَأَلَّمُونَ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ ٱللّٰهِ فَلْيَسْتَوْدِعُوا أَنْفُسَهُمْ كَمَا لِخَالِقٍ أَمِينٍ فِي عَمَلِ ٱلْخَيْرِ» (1 بط 4: 19). ومكتوب عنا أننا أعضاء في «شَرِكَةَ آلامِهِ...» (في 10: 3) لأننا أعضاء جسده، ونحن نعيش في عالم قد سبق وصلبه وهو يبغض كل من يتبعه «فِي ٱلْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ» (يو 16: 33).

نستطيع أن نجد في المسيح التصرف الصحيح تجاه الآلام. فمع أنه قد تطوع أن يجعل نفسه خطية لأجلنا، إلا أن طبيعته القدوسة لم تحتمل المصير المريع، لذلك صلى في جثسيماني قائلاً «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هٰذِهِ ٱلْكَأْسَ. وَلٰكِنْ لِتَكُنْ لا إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ » (لو 22: 42). ينبغي أن تكون هذه صلاتنا، فإن كان الله يريد فإنه يستطيع أن يخلصنا من الخطر الذي يهددنا، لكن إن لم تكن هذه إرادته فنحن نعلم أن مشيئته هي الأفضل. علينا أن نقبل بشكر ما سمح به الرب في محبته وحكمته.

لما ولد المسيح كانت هناك خطة محددة يسلك بموجبها. كان هدف حياته «أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ» (يو 4: 34). وجاءت اللحظة التي فيها يكمل العمل ويُرفَع على الصليب. وهكذا تمت كل النبوات التي تحدثت عنه فيما عدا نبوة واحدة تلك التي جاءت في (مز 69: 21) «فِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاًّ». لقد قدم له الخل فعلاً «وَٱلْجُنْدُ أَيْضاً ٱسْتَهْزَأُوا بِهِ وَهُمْ يَأْتُونَ وَيُقَدِّمُونَ لَهُ خَلاًّ» (لو 23: 36) لكن ذلك قبل أن يصلب ويشعر بالعطش الشديد. ولما يبس لسانه من العطش «بَعْدَ هٰذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ، فَلِكَيْ يَتِمَّ ٱلْكِتَابُ قَالَ: «أَنَا عَطْشَانُ». وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعاً مَمْلُوَّاً خَلاًّ، فَمَلَأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ ٱلْخَلِّ، وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ» (يو 19: 28 و29). لقد امتد إتمامه للنبوات ولكلمة الله حتى النهاية، وآلام الصليب لم تنسه لحظة واحدة واجبه في إتمام مشيئة الله بالكامل.

«فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ ٱلْخَلَّ قَالَ: «قَدْ أُكْمِلَ». وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ» (يوحنا 19: 30) وما أكثر ما قد أكمل عند موته، فخلاصنا أصبح حقيقة كاملة، وهزيمة الشيطان أضحت مؤكدة، وقوة الخطية قد انكسرت. لكن الأمر الذي يعنينا هنا هو أن المسيح قد أكمل إرساليته وأتم مشيئة الله، وهكذا وضع أمامنا مثالاً يجسِّم لنا كل ما يتعلق بالحياة التي هي بحسب مشيئة الله.

في حياة المسيح نستطيع أن نرى الحقائق التي سبق أن ذكرناها كبرهان على طاعتنا لإرشاد الله، فالمسيح قد انفصل عن الخطية، وصلى بلا انقطاع، وجال يصنع خيراً، وتألم بحسب مشيئة الله. وقد نفذ المبادئ الواردة في (مز 37) فاتكل على الآب، وتلذذ به، وسلم طريقه له. وهو أيضاً عمل بحكمة سليمان فتوكل على الرب بكل قلبه، وعلى فهمه لم يعتمد، وفي كل طرقه عرف الآب.

في الواقع أنه فيه هو، وفيه وحده، نستطيع أن نسلك حسب رضى الله فهو الذي يسكن بالإيمان في قلوبنا، وهو الذي يهبنا بروحه القوة والقدرة على أن نواجه المستقبل عالمين أنه في الإمكان أن ننفذ خطة الله في حياتنا.

الفصل التاسع: مبادئ كتابية لمعرفة إرادة الله؟

بعد أن تأملنا في الآيات الهامة المختصة بإرادة الله، وتطبيقها على حياتنا اليومية، نريد أن نستخلص مبادئ الكتاب التي بها يستطيع أي مؤمن مخلص أن يعرف قصد الله في حياته.

والمبدأ الرئيسي نجده في (رو 12: 1 و 2) «أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ ٱللّٰهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ ٱللّٰهِ، عِبَادَتَكُمُ ٱلْعَقْلِيَّةَ. وَلا تُشَاكِلُوا هٰذَا ٱلدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ ٱللّٰهِ ٱلصَّالِحَةُ ٱلْمَرْضِيَّةُ ٱلْكَامِلَةُ».

لاحظ أنها نصيحة مخلصة وليست أمراً. وفي إمكاننا أن نقاوم نصائح الله إن أردنا ذلك، لكننا سنخسر الآن وإلى الأبد. والنداء يتكون من ثلاثة عناصر: الأول والأخير إيجابيان بينما الثاني سلبي. علينا أن نقدم أجسادنا لله، وألا نشاكل هذا الدهر، وأن نتغير عن شكلنا بتجديد أذهاننا. ينبغي أن يكون تكريسنا لله كاملاً ومطلقاً حتى يأتي بنتيجة محسوسة. وحينئذ سوف يهدينا الرب فنختبر إرادته الصالحة المرضية الكاملة. وكما قدم المسيح ذاته ذبيحة لأجلنا ينبغي أن نقدم أجسادنا ذبيحة حية لأجل خدمته.

إن عملية التكريس لا تتم في لحظة فحسب بل ينبغي أن تكون عملية مستمرة لها مميزات ثلاث: فكذبيحة حية ينبغي أن نكف عن رغباتنا الشخصية وإرادتنا الشخصية، وكذبيحة مقدسة ينبغي أن نمتنع عن كل خطية معروفة، وكذبيحة مقبولة عند الله ينبغي أن نكون نافعين لخدمته خاضعين لإرادته.

لا تشاكلوا هذا الدهرِّ. نحن نعيش في عالم قد رفض المسيح ولا يوجد حولنا ما يهبنا السلام أو الفرح أو القداسة. لأجل ذلك يحذرنا الكتاب من التشبه بالعالم.

«تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم». وكلمة «تغيرواِّ» نجدها في أماكن أخرى في الكتاب، ففي (مت 17: 2، مر 9: 2) نقرأ عن المسيح أنه «تغيرت هيئته». هكذا نحن ينبغي أن نتغير «نَاظِرِينَ مَجْدَ ٱلرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا فِي مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ ٱلصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ ٱلرَّبِّ ٱلرُّوحِ» (2 كورنثوس 3: 18). ليس هذا التغيير خارجياً يأتي بعمل بعض الطقوس والفرائض، لكنه تغيير داخلي بعمل الروح القدس حين تنحصر أفكارنا ونظراتنا في شخص الرب يسوع.

والنتيجة الأكيدة لهذا التكريس هي أن «تختبروا إرادة الله الصالحة المرضية الكاملةِ» فنستطيع أن نكتشف قصد الله الخاص بنا، ونثبت للعالم المحيط بنا أن إرادة الله هي بالحقيقة كما وصفها الكتاب «صالحة ومرضية وكاملة»، وعوضاً عن أن نخاف من إرادة الله نسر بها، لأننا نعلم أنها صادرة من قلب محب يتمنى خيرنا وسعادتنا «نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ ٱللّٰهَ» (رو 8: 28).

ولكي نكتشف إرادة الله ينبغي أن تتوفر فينا شروط هامة كالولادة الجديدة، والانعزال عن الخطية، والإيمان بالكتاب المقدس باعتباره كلمة الله، وبعد ذلك تقابلنا خمسة مبادئ هامة.

(1) ينبغي أن تكون هناك رغبة مخلصة لعمل إرادة الله:

مع أن هذا الشرط يبدو بديهياً للغاية، وكأنه أمر مفروغ منه، إلا أنه كثيراً ما وقف حجر عثرة أمام مؤمنين كثيرين. هذا ما حدث حينما رفضت أورشليم شخص المسيح فقال لها «كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ... وَلَمْ تُرِيدُواِ» (مت 23: 37). ولم يعلموا أنهم إنما يرفضون بركته لهم.

نحن ميالون لتفضيل إرادتنا الخاصة. وأن يميل «كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ» (اش 53: 6). وإرادة الذات تحرمنا من التمتع بالحياة التي هي حسب قصد الله. مرات كثيرة نحتفظ بحقنا في رفض ما يختاره الله لنا، ونطلب منه أن يسمح لنا بعمل ما نريده نحن، بدلاً من أن نسلم لحكمته ومحبته.

ويقدم بلعام النبي لنا توضيحاً لذلك، فقد طلب منه ملك موآب أن يلعن إسرائيل، ولما سأل الرب جاءه الجواب «لا تَذْهَبْ مَعَهُمْ وَلا تَلْعَنِ ٱلشَّعْبَ، لأَنَّهُ مُبَارَكٌ» (عد 22: 12). كان هذا إرشاداً واضحاً «لما تحدده إرادة» الله. لكن بلعام لم يكتف بذلك. وإذ عرضت عليه إكرامات زمنية، ذهب للرب مرة أخرى علَّه يغير رأيه، وكان الجواب الذي حصل عليه في المرة الثانية «قُمِ ٱذْهَبْ مَعَهُمْ» (عد 22: 20). هنا نجد توضيحاً )لما تسمح به إرادة اللهِّ لكنه سماح مصحوب بالغضب الإلهي. «فَحَمِيَ غَضَبُ ٱللّٰهِ لأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ» (عد 22: 22). وذهب بلعام في طريق عصيان إرادة الله حتى وصل إلى الخطية العلنية وأصبح «كَلامِ بَلْعَامَ سَبَبَ خِيَانَةٍ لِلرَّبِّ» (عد 31: 16). وانتهى به الأمر إلى الموت مقتولاً إذ «قَتَلَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِٱلسَّيْفِ مَعَ قَتْلاهُمْ» (يش 13: 22).

(2) إرادة الله تتفق دائماً مع كلمة الله:

متى شعرنا برغبة أن نعمل شيئاً لا يتفق مع تعليم الكتاب فلنتأكد أن الدافع لذلك هو من الجسد أو العالم أو الشيطان، ولا يمكن أن يكون حسب إرادة الله، لأن الله لا يعارض نفسه بنفسه. وكل فرصة مواتية أو إرشاد في الفكر نظن أنه من عند الرب ينبغي أن يُمتَحن أولاً بما هو مكتوب.

نستطيع أن نستبعد وظائف معينة لأنها لا تتفق مع روح الكتاب. ينبغي أن نرفض العمل الذي يحملنا على إنكار المسيح وعدم الشهادة له، أو يضطرنا للتواطؤ مع الأشرار «لا تَدْخُلْ فِي سَبِيلِ ٱلأَشْرَارِ وَلا تَسِرْ فِي طَرِيقِ ٱلأَثَمَةِ. تَنَكَّبْ عَنْهُ. لا تَمُرَّ بِهِ. حِدْ عَنْهُ وَٱعْبُرْ» (ام 4: 14 و 15).

ففي الأمور التي أعطى الله من جهتها إرشادات واضحة لا ينبغي أن نتوقع من الله أن يعطي إعلاناً خاصاً لشخص يجهل الكلمة ويهملها أو يبغض تعاليمها، فالسرقة والقتل والزنا والحسد وسائر الخطايا الأخرى الواردة في الكتاب كلها محرمة وممنوعة مهما كانت الظروف.

قد تنشأ بعض الأخطاء نتيجة جهلنا في استخدام الكتاب المقدس لإرشادنا، فالبعض بدلاً من التغذي بتعاليم الكتاب كل يوم، يفتحونه حيثما اتفق ويقرأون أول آية تقع عليها عيونهم ويتخذونها كرسالة الله لهم في تلك اللحظة. لا شك أن الله يرسل مراراً آية معينة يلفت إليها نظر أحد أولاده في ظرف معين أو احتياج خاص، لكن كلمة الله لم تُكتب قط لكي نستخدمها بهذه الطريقة الخاطئة.

ويضع بعض الناس علامات قدام الرب كما فعل جدعون في ساعة ضعفه حين تثقل بمسؤولية جسيمة لم يتثقل بها الكثيرون منا. لكن لنعلم أن العلامة التي أُعطيت لجدعون في (قض 6: 17) أُعطيت لشخص ليس لديه الكتاب المقدس الذي يرشده، وفي وقت كان الله يؤيد فيه خدامه رغم أخطائهم حتى يتميزوا عن الأنبياء الكذبة.

لما طلب زكريا في العهد الجديد علامة تثبت صحة قول الملاك له، أُصيب بالخرس لأنه لم يصدق (لو 1: 18 - 20). وبالنسبة لما قاله المسيح «جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً» (مت 12: 39) ينبغي أن نتحذر لئلا تكون الآيات والعلامات التي نطلبها إنما هي نتيجة عدم الإيمان أو عدم الرغبة في عمل ما نظن أنه إرادة الله.

هناك طريقة أفضل في استخدام الكتاب وهي أن نخصص وقتاً طويلاً لقراءة الكتاب في روح الصلاة حتى يتكلم الله إلى قلوبنا من الكتاب بحسب حاجتنا الراهنة. احتار أحد المؤمنين في اختيار طريق من اثنين، وكان كلاهما يتفقان مع إرادة الله. فابتدأ يقرأ في سفر المزامير طالباً إرشاداً من الله، وأخيراً انشغل قلبه بآية تنطبق على حالته فاتخذها صلاة له، وكانت الآية «أَسْمِعْنِي رَحْمَتَكَ فِي ٱلْغَدَاةِ، لأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. عَرِّفْنِي ٱلطَّرِيقَ ٱلَّتِي أَسْلُكُ فِيهَا، لأَنِّي إِلَيْكَ رَفَعْتُ نَفْسِي »(مز 143: 8). وفي اليوم التالي جاءته رسالة تليفونية حددت موقفه وجعلت اختياره للطريق المطلوب أمراً سهلاً.

(3) الظروف التي ترتبها العناية الإلهية قد تبين إرادة الله:

حين يتضح لنا أن كل الظروف المحيطة تخالف ما نظن أنه إرادة الله لنا ينبغي أن ننتبه لئلا نكون مصممين على اتخاذ طريقنا نحن وليس طريقه هو. إنه إله الظروف، وهو يستطيع أن يغير كل الاتجاهات المتعلقة بالموقف الراهن إن كانت هذه هي إرادته.

شعر أحد الشبان بعد حصوله على اختبار التجديد أن الله يدعوه للالتحاق بمدرسة معينة في بلدة بعيدة. وقد كان متأكداً من نفسه حتى أنه ذهب في الحال، وكانت كل الظروف مهيأة فيما عدا ما يختص بظروفه العائلية. ولم يمض وقت طويل حتى اصطدم بآية في الكتاب كان قد أغفلها قبلاً، وهي الواردة في (1 تي 5: 8) «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لا يَعْتَنِي بِخَاصَّتِهِ، وَلا سِيَّمَا أَهْلُ بَيْتِهِ، فَقَدْ أَنْكَرَ ٱلإِيمَانَ، وَهُوَ شَرٌّ مِنْ غَيْرِ ٱلْمُؤْمِنِ» فرجع إلى البيت ثانية حتى يهيء الرب فرصة أخرى.

ولما أرسلت العناية الإلهية يوسف إلى أرض مصر كعبد لم يشك في صلاح إرادة الله، بل بالحري انتهز الفرصة في الشهادة للرب عن طريق أمانته في خدمة سيده. ربما اشتاق موسى أن يكون مع إخوته بدلاً من رعاية الأغنام في البرية، لكنه انتظر حتى تدخَّل الله وأحدث تغييراً في ظروفه. من المحتمل أن طابيثا كانت تفضل عملاً آخر غير حياكة الملابس لكنها أتمت عملها بأمانة لأجل الرب، لهذا أقامها الرب من الموت لتواصل عملها.

لا شك أن ظروف العناية الإلهية كانت متفقة مع الرؤيا التي رآها بولس فوجَّهته إلى أوروبا بدلاً من الذهاب إلى آسيا وبثينية (أع 16: 10). ومرات كان الرسول بولس يضطر أن يعمل في مهنته كخيَّام (أع 18: 3) تحت ضغط الظروف مع أنه «هٰكَذَا أَيْضاً أَمَرَ ٱلرَّبُّ: أَنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَ بِٱلإِنْجِيلِ، مِنَ ٱلإِنْجِيلِ يَعِيشُونَ» (1 كو 9: 14). وقد كتب يقول «تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِياً بِمَا أَنَا فِيهِ. أَعْرِفُ أَنْ أَتَّضِعَ وَأَعْرِفُ أَيْضاً أَنْ أَسْتَفْضِلَ. فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ ٱلأَشْيَاءِ فَدْ تَدَرَّبْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ، وَأَنْ أَسْتَفْضِلَ وَأَنْ أَنْقُصَ» (في 4: 11 و 12).

ينبغي أن نبدأ من الآن لنتمم قصد الله من جهتنا. إن انتقالنا إلى بيئة أخرى لن يجعلنا أكثر أمانة للرب إن كنا غير أمناء حيث نحن الآن. قال المسيح «وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ »(أع 1: 8). إن كنا لا نبدأ من البيت، في أورشليم، فلا ننتظر أن الرب يوسع تخومنا، أو أنه يفعل معنا تغييراً معجزياً في ظروفنا التي وضعتنا فيها عنايته الإلهية. دعونا نتكل على الرب حيث نحن، وننتظر بصبر ولا بد أنه سيوافينا في الوقت المعين.

(4) نستطيع أن نعرف إرادة الله بالصلاة:

بعد أن تجدد بولس وهو في طريقه إلى دمشق «سَأَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّرٌ: «يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ» (أع 9: 6). إن رغبتنا في معرفة قصد الله لا تساوي شيئاً بالنسبة لرغبة الله الأكيدة في إعلان إرادته لنا. ليتنا نصلي قائلين «صَخْرَتِي وَمَعْقِلِي أَنْتَ. مِنْ أَجْلِ ٱسْمِكَ تَهْدِينِي وَتَقُودُنِي» (مز 31: 3). «سَهِّلْ قُدَّامِي طَرِيقَكَ» (مز 5: 8). «عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ، أَسْلُكْ فِي حَقِّكَ» (مز 86: 11).

إن أولئك الذين لهم الشركة المستمرة بالرب هم أقل الناس ارتباكاً من جهة معرفة إرادته، إن كنا نصرف فرصة في الصباح الباكر في خلوة مع الله فإن آذاننا سوف تتدرب على سماع صوته طوال اليوم. وإذ نواجه مواقف حاسمة، من السهل أن نرفع قلوبنا إليه طالبين معونته. ينبغي ألا تطأ أقدامنا على أرض لم تطأها ركبنا المنحنية في الصلاة.

(5) إرادة الله يصحبها سلام في القلب:

من الواضح أن القصد الإلهي لا بد وأن يتمشى مع الذهن المستنير بالروح القدس. ينبغي ألا يكون هناك ما يثير شكوكنا في أننا عاملون إرادة الله. من حقنا أن نتمتع «بسَلامِ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ ( في 4: 7) «سَلامَةٌ جَزِيلَةٌ لِمُحِبِّي شَرِيعَتِكَ، وَلَيْسَ لَهُمْ مَعْثَرَةٌ» (مز 119: 165). إن لم يوجد هذا السلام فلا بد أن هناك خطأ، وعلينا أن نرجع ثانية لكلمة الله، والصلاة، ونراجع الظروف المحيطة مرة أخرى.

ينبغي أن تتفق جميع الوسائط التي بها نعرف إرادة الله، بعضها مع بعض، فالله لن ينكر نفسه، ولا يمكن أن يناقض نفسه بنفسه، ولذلك فإن تعاليم الكتاب، واستجابة صلواتنا، وظروف العناية الإلهية التي تحيط بنا، وسلام الذهن والقلب، كل هذه ينبغي أن تتمشى معاً في انسجام تام.

إن استراحة الذهن على إرشاد الله، واليقين بأن إرادته صالحة ومرضية وكاملة، الأمر الذي يهبنا السلام من جهة المستقبل، إنما هو عمل «رُوحِ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلإِعْلانِ فِي مَعْرِفَتِهِ» (أف 1: 17)، وهو الذي يهبنا العيون المستنيرة والبصيرة الروحية، وطالما أن العالم مليء بالأرواح الشريرة التي تحاول أن تخدع الغافلين فعلينا أن نحافظ على سلامة هذه البصيرة الروحية «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، لا تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ، بَلِ ٱمْتَحِنُوا ٱلأَرْوَاحَ: هَلْ هِيَ مِنَ ٱللّٰهِ؟»ِ (1 يو 4: 1). وإذ نسير بالقرب من الرب «فَٱلْمَسْحَةُ ٱلَّتِي أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ، وَلا حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ، بَلْ كَمَا تُعَلِّمُكُمْ هٰذِهِ ٱلْمَسْحَةُ عَيْنُهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ» (1 يو 2: 27).

ربما لا توجد طريقة سهلة وعملية بها نعرف إرادة الله كتلك التي سار عليها رجل الله العظيم «جورج مولر» حيث قال:

  1. إنني أحاول كل شيء لكي أجعل قلبي في الحالة التي فيها يُفطم عن أغراضه الشخصية. إن تسعة أعشار التعب عند هذه النقطة. وحين تتهيأ قلوبنا لعمل إرادة الله مهما كانت، فإننا سننتصر على تسعة أعشار المصاعب التي تقف أمامنا.

  2. بعد ذلك لا أترك النتيجة لمشاعري، لأني إن فعلت ذلك فإني أعرض نفسي للارتباك بإحساسات مختلفة.

  3. أبحث عن إرادة الله في الكلمة في نور وإرشاد الروح القدس. إذا نظرت للروح القدس وحده دون الكلمة فإنني حتماً سأرتبك. لا يمكن للروح القدس أن يرشدنا إلا في نطاق المكتوب ولن يتعارض مع الكلمة.

  4. بعد ذلك أُعطي اعتباراً للظروف المحيطة، ومتى اتفقت هذه الظروف مع إرشاد الروح القدس والكلمة، أصبح من السهل تحديد إرادة الله.

  5. وفي الحال أصلي طالباً من الله أن يعلن إرادته.

  6. وهكذا عن طريق الصلاة لله، ودرس الكلمة، وإرشاد الروح القدس، أصل إلى قرار معين يتفق مع تفكيري السليم، وعقلي الواعي، وإذا شعرت بسلام، واستمر هذا السلام بعد الصلاة مرتين أو ثلاثاً فإنني أتقدم للأمام. وقد اختبرت صحة هذه الطريقة سواء في الأشياء التافهة أو في المواقف الخطيرة والتطورات الهامة.

الفصل العاشر: معرفة إرادته تبني إيماننا

يتجه تفكير الكثيرين إلى أن إرادة الله شيء يمكن أن يُعرَف بطرق محسوسة ملموسة ويتجهون بكل طاقاتهم لهذه الطرق. وينادي البعض أن الإنسان الروحي يصل إلى شفافية روحية يعرف بها إرادة الله بسهولة ويسر. إن محاولة الوصول إلى اكتشاف إرادة الله موضوع خلافات كثيرة في الرأي. والبعض يخلط بينه وبين المفاهيم القدرية المترسبة في مجتمعنا الشرقي.

وقد أخطأ بعض المفكرين العصريين عندما نادوا بأن الله أكبر من الفرد ولا يعتني بالفرد، وحاولوا أن يبنوا نظريتهم على أن الله دعا إبراهيم ليكون شعباً، ثم تعامل الله مع الناس «كشعوب» وليس كأفراد، وأن الله أكبر من أن يضيع وقته على أفراد. وهل ينسى أولئك معاملات الله للبشر كأفراد؟

إن كان الله يهتم بالفرد، فهل يريد الله أن يخفي إرادته عن الفرد؟ أم أن الله يريده أن يعرف إرادته؟ إن الله يعلن سره لأبنائه المؤمنين. يحدثنا بولس الرسول في رسالته إلى أفسس (1: 9) قائلاً: «إِذْ عَرَّفَنَا (الله) بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ ٱلَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ». ويقول الرسول بولس أيضاً (رومية 12: 2) «تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ ٱللّٰهِ» فإنه لا يكفي أن نعرف إرادة الله معرفة العقل، بل أن نختبرها عملياً في حياتنا.

إن معرفة مشيئة الله جزء طبيعي من بناء حياة الإيمان المسيحي. فإن البنوة لله تعتمد أساساً على معرفة الابن لأبيه، وبالتالي معرفة الابن لإرادة أبيه خاصة بالنسبة له. إن مشيئة الله ليست لغزاً يترك الإنسان حائراً، قد يكتشفه أو لا. إن طبيعة العلاقة بين الآب والابن أن تكون مشيئة الآب واضحة للابن.

أعلن الكتاب المقدس إرادة الله الصادقة لخلاص البشرية. وكان واضحاً أن الله يعلن إرادته في الكتاب المقدس، مهاجماً قوات الشر محطماً إبليس. فإن إبليس - عدو كل إنسان - يريد أن يحطم حياة البشر ويهلكها. لذلك أعلن الله إرادته الصريحة لخلاص البشرية. وكان آخر إعلان مجيد لها تجسد السيد في شخص المسيح، يكون الإعلان كاملاً موضحاً للبشرية صورة صادقة لذات الله. وبتجسد المسيح صار إعلان الله لما أسماه «ملكوت الله» أو «ملكوت ابن الله» أو «ملكوت ابن محبته»ِ أو «ملكوت السماء» ويمثل هذا الملكوت أنشطة من شكل جديد، وحياة جديدة، وأخلاق سلوكية للبشر تعلن عن ذات الله وعن عمل إرادته.

من هذا نرى أن الخلاص هو إرادة الله للجميع. قال يسوع: «لأَنَّ هٰذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى ٱلٱبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَخِيرِ» (يوحنا 6: 40) «ٱلَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1 تيموثاوس 2: 4). ويتعمق بولس في قوله: «إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ » (أفسس 1: 5) أو قوله «ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا، لِيُنْقِذَنَا مِنَ ٱلْعَالَمِ ٱلْحَاضِرِ ٱلشِّرِّيرِ حَسَبَ إِرَادَةِ ٱللّٰهِ وَأَبِينَا» (غلاطية 1: 4) كيف لا، وقد «شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ ٱلْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلائِقِهِ» (يعقوب 1: 18).

إلا أن الإنسان وهو يواجه إرادة الله للخلاص يواجه صراعاً نفسياً وروحياً مريراً. وقد وصف يسوع حالة البشر على هذا النحو، قال «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ ٱلْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي ٱلْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِٱلْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو ٱلْكَذَّابِ» (يوحنا 8: 44). لذلك كان تدبير الله المبارك أن يخلص الخطاة، «فَيَسْتَفِيقُوا مِنْ فَخِّ إِبْلِيسَ إِذْ قَدِ ٱقْتَنَصَهُمْ لِإِرَادَتِهِ» (تيموثاوس الثانية 2: 26).

إن إرادة الله السامية للإنسان هي أن ترفع الإنسان من هوة الهلاك، إلى حياة روحية مقدسة ممتلئة من روحه، وتجهِّزه لحياة مجيدة في خدمة مباركة مثمرة.

وهنا قد يتساءل شخص: هل هذا يشملني أنا؟ وقد ارتكبت شروراً عديدة، وصنعت الشر أمام عيني الله؟ نعم... إنه يشرق شمسه على الأبرار كما يشرق شمسه على الأشرار. إن كل البشر أبناء لله بحكم الخلق وبحقه. والله يعطف على كل البشرية. هذا إلى جانب أنه لا يوجد من لم يخطىء. وهل يميز الله بين من أخطأ بالكثير ومن أخطأ بالقليل؟ فالكل قد انحرفوا عنه، زاغوا وفسدوا ليس من يعمل صلاحاً، ليس ولا واحد. وكان قصد الله الأزلي أن يخلق البشرية في شخص المسيح يسوع ابن الله المتجسد، وفعلاً كان أن إرادة الله لجميع الناس أن يخلصوا وأن يعيشوا حياة البر والتقوى مع الله.

إننا عندما ندرس الإرشاد الإلهي، ندرس أمراً من أخطر الأمور في تعامل الله مع البشر. فإن علاقة الله مع البشر تتم عن طريق الإيمان به من ناحية البشر، وإرشاد الله لهم من جانب الله. إن أعمالاً عديدة في إطار العالم تتوقف على إرشاد الله اليومي للبشر، فإن المسيح عندما قال على الصليب «قد أكمل»، كان يعلن انتهاء عمل الله الفدائي لخلاص البشرية. ففي صليبه تمت علاقة الخالق بالمخلوق، وإنتصار المحبة الإلهية للبشر على جميع العوامل الأخرى. لقد نزل يسوع ليعلن للبشرية إرادة الله. لهذا فإن اهتمام الله بإعلان إرادته، وبالتفاعل والاندماج بينه وبين البشر في هذا المجال كان الخطوة الكبرى في سبيل وصولنا لمعرفة هذه الإرادة. والذي ينتظره الله أن تكون هناك علاقة «الأخذ والعطاءِّ» بينه وبين البشر، ليصل البشر إلى معرفة حقيقة هذه الإرادة. ولا تتم هذه العلاقة إلا بالإيمان بالله من جانب البشر. ولعل هذا هو معنى قول الرسول لكنيسة رومية (12: 2) «تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ... لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ ٱللّٰهِ». ولعل بولس يتابع في هذا الحديث نداءه عن لبس الجديد الذي يتجدد كل يوم حسب معرفة خالقهِّ. فإن حياة الإيمان «جِدَّةِ ٱلْحَيَاةِ»، تتجدد كل يوم، تختبر إرادة الله يوماً بعد يوم. ويقول الرسول بولس أن الإنسان ينمو في المعرفة الروحية «حَتَّى تُمَيِّزُوا ٱلأُمُورَ ٱلْمُتَخَالِفَةَ». (فيلبي 1: 9، 10) ولعل الرسول يقصد بهذا القول أن المؤمن يختار الحسن بدلاً من الرديء، ويختار الأحسن بدلاً من الحسن. ولا بد للمؤمن الحي من مقدرة على التمييز بين هذه الأمور.

ولعل الله في حكمته أراد أن يترك لكل إنسان أفق الفكر ليتصرف في حدود الإرادة السماوية. ولماذا لا يستخدم الله طاقات الإنسان الفكرية والعملية والعاطفية التي خلقها فيه؟... يدفعنا هذا إلى مواجهة حقيقية للموقف في المسيحية. إن إرادة الله بالنسبة لسلوك الفرد قد لا يتحتم أنها حرفية تنطبق على كل إنسان. فإن أحس إنسان بأن سلوكاً ما لا يتفق معه ومع إيمانه فإن هذا السلوك قد «يوافق» غيره. فلا يتحكم في ضميره فرد آخر، وطوبى لمن لا يدين نفسه فيما يستحسنه (رومية 14: 22). هذا السلوك في حدود واضحة، أي أنه لا يجوز أن يستخدم إنسانٌ الجسد فرصة للأهواء والشهوات.

الفصل الحادي عشر: حرية الإنسان وإرادة الله

وعندما خلق الله الإنسان، خلقه على صورته في البر وقداسة الحق (أفسس 4: 24). معنى ذلك أنه خلقه متمتعاً بقدر وافر من الذكاء وبقدر كاف من الحرية. وهنا نجد الفرق بين الإنسان والحيوان، فالإنسان ذكي حر الإرادة. ثم أحال الله للإنسان مسؤولية إدارة الكون والسيادة على الخليقة كلها. وبذلك صار الإنسان «كائناً أخلاقياً».

لقد خُلق الإنسان على «صورة اللهِّ». فأخذ صفات من صفات الله. فالإنسان ذات حرة، له كيانه وشخصيته. له حرية التصرف والحركة، وعندما أعطاه الله سلطاناً على الكائنات صار الإنسان قوة لا يُستهان بها. لقد أخذ الإنسان سلطات واسعة من الله يدير بها الكون. لذلك ليس غريباً أن تطأ قدما الإنسان أرض القمر، وليس غريباً أن يتقدم العالم إلى ما هو أعظم من ذلك. بل لقد أعطى الله الإنسان أن يعمل «ٱلأَعْمَال ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَاِ» (يوحنا 14: 12).

لقد أعد الله لكل واحد عملاً خاصاً واتجاهات خاصة. قد ننظر إلى الأعمال العظيمة أنها مخططة بإرادة الله، ونحتقر الحياة العادية. والواقع أن الأعمال العظيمة قد يكون الوصول إليها أسهل من الحياة العادية المستمرة المتواصلة الفعالة. ولا يجوز أن ننسى أن الأعمال العظيمة تتولد دائماً من الحياة العادية. تأمل داود بين أغنامه وأليشع خلف محراثه، ونحميا يقدم كأسه، وحنة تحمل بين جنبيها قلباً حزيناً... كل هؤلاء أناس متواضعون اكتشفوا برنامج الله لهم وحققوه. بل هناك أناس عاشوا عيشة عادية، واستمروا فيها وأدوا رسائل عظيمة كأناس عاديين. لم تلمع أسماؤهم بين الكواكب المشهورة، لكنهم كواكب في جَلَد السماء، ولهم أهميتهم التي تفوق في فاعليتها الكواكب الكبيرة ظاهرياً. هناك برنابا الذي قدم شاول للكنيسة، ومتّى الذي لم يظهر منه سوى سفره، وأندراوس الذي أتى ببطرس للمسيح، وغيرهم كثيرون في موكب التاريخ الذين اكتشفوا إرادة الله فعرفوا أن الله سبق فأعدَّ لهم برامج حية مباركة لحياتهم، فساروا على نهجها.

إن خطة الله لحياة الإنسان تتناسب مع مواهب الإنسان واستعدادته الفطرية والاكتسابية، وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمقدرات الإنسان الفعلية، وتبدأ منها. ومن هذا نرى ارتباط الخلق بالحياة كلها. فلقد «خلقنا» الله لأعمال صالحة سبق أن أعدها لنا أفسس 2: 10). فإنه مع الخلق سبق الله فأعد للإنسان برنامج حياته. ولهذا جاءت إرادة الله وخطته لكل فرد، خطة حكيمة عاقلة، واضحة المعالم، محددة الإتجاه، صالحة لحياته.

لقد تعددت طرق تفسير دور إرادة الله في حياة البشر بكل محتوياتها. فإن المفسرين يحاولون توضيح مكان الله من الشر والألم الذي يحدث في العالم. فإنه ليس من السهل أن نرى أن الله المحب يكون مصدراً للشر والألم في هذا العالم.

خلق الله العالم وكوَّنه ووضع نظمه وقوانينه، وتركه يسير ويعمل، والعالم نتيجة لذلك يعيش في سعادة وتعاسة، فرح وحزن، نهار وليل، نور وظلمة، طريق الإيمان وطريق العصيان ولعل هذه ترتبط أساساً بحرية الإنسان. فللإنسان أن يختار ما يريد، كما أن الطبيعة تعطي الشمس بخيراتها والبراكين والزلازل، والأعاصير بكل شرورها. ومع ذلك فإن الله ليس هو أصل الشر والألم. وفي ضوء العهد الجديد، لسنا نرى أن الله يزور «يفتقد» العالم عن طريق الكوارث، كما فهم العهد القديم «فإن الله» - في ضوء مفاهيم العهد الجديد، وفي الإعلان الصادر في شخص الرب يسوع المسيح - ليس قاضياً. وليس منتقماً جباراً، ولكنه «محبة». إن إرادة الله تظهر في تصرفات الحب والرحمة. إن الله نور وليس فيه ظلمة. إن العقاب ظلمة، وكوارث الدهر ظلمة، ولا يمكن أن تكون من الله.

ولعلنا نقف بحيرة أمام هذا التناقض الظاهري. كيف يكون الله مصدر الخير فقط؟ وربما لا نزال نتساءل عن تغيير ظواهر الشر والألم في الطبيعة؟ وكيف يمكن أن تكون هذه الطبيعة تحت سلطان الله، وليس لله سلطان عليها؟ أين سيادة الله وربوبيته؟ وإن كان الشر والألم من الله، فأين قداسته؟ وهل هو قدوس؟ وهل يستحق منا أن نعبده ونخضع له؟

ولعلنا نتساءل أيضاً هنا: هل الله الذي ينشىء عالماً على هذا النحو، إله صالح؟ وهل يصح لنا أن نعبده؟ لا شك أنه صالح، فإن قصد الله هو أن ينبع الصلاح من داخل الإنسان وبإرادته الحرة، لا أن يُفرض الصلاح عليه. إن الله الذي كتب مسرحية العالم كله وتركه يدور بنظامه الذي وضعه له، لم يترك المسرحية وحدها بكاملها، بل تدخل يعمل في العالم عن طريق علاقته الشخصية بالبشر. ولعل هذا كان الدافع الرئيسي الذي يجعله يرسل ابنه الحبيب إلى العالم ليحيا العالم به. ولتتكون عن طريقه علاقة «شخصية» و «مباشرة» بينه وبين الإنسان.

في مرات عديدة، يقول إنسان: سأترك كل الأمور تسير كما هي، فالنتيجة التي أصل إليها هي إرادة الله الحتمية.

ليست كل الحوادث الجارية دائماً مخططة بإرادة الله القصدية، وليس كل ما يجري في العالم هو من صُلب إرادة الله القصدية. إنه يسمح بها، لأنه يسمح للإنسان أن يمارس حريته، وفي ممارسته لحريته قد لا يختار ما يتفق مع إرادة الله. إن الإنسان الذي يرتكب الشر لا ينفذ إرادة الله بل يعارضها. ليس كل زواج زواجاً إلهياً. وليس كل نجاح أو رسوب في الامتحان إرادة إلهية محضة، فالعنصر البشري يلعب دوراً كبيراً. وهكذا شاءت إرادة الله أن يكون الإنسان حراً. إن الله يسمح للإنسان أن يتصرف بحريته، لأنه يقدِّر هذه الحرية.

لقد وضع الله خطة حياة لكل فرد، إذ حدد - بمقتضى الفداء الإلهي الكامل - مسلك الإنسان. لكنه ترك للإنسان الحرية الكاملة أن يختار هذا المسلك أو أن يرفضه.

إن الإيمان المسيحي يعتمد على إرادة هذا الإله العاقلة الهادفة المجيدة، التي تسعى لخير الإنسان، وفي هذه النظرية يحمل الإنسان مسؤولية كاملة عن كثير من مجريات الحوادث التي تمر بحياته. إن الإنسان ليس مسيَّراً يخضع لقوة تسيطر عليه وتدفعه لارتكاب الشر وعمل الخير معاً.

قد يترك إنسان الأمور تتم في المكاتب الحكومية أو غيرها من إجراءات بيروقراطية - أياً كانت، صالحة أو طالحة - ثم يفسرها أنها إرادة الله؟ ليس كل ما يتم من إرادته القصدية، وليس كل الواقع الذي نحياه من إرادته القصدية. إن بعض التصرفات التي تحدث يسمح بها الله. لكنها قد لا توافق إرادته. إن إرادة الله لا تمنع بذل الجهد، والسهر، ووضع الخطط والبرامج بكل حكمة ومراعاة الظروف، والاحتراس من العثرات والتفكير الخلاق إلى غير ذلك.

إلا أن البعض يظنون أن الله يكلمهم عن طريق مشكلات ومعطلات تعترض سبيلهم. ونحن نتساءل: هل يمكننا أن نحكم على أن شيئاً ما يتفق مع إرادة الله بقدر المشكلات التي تواجهه؟ فلو زادت المشكلات قلنا إن الأمر يتعارض مع إرادة الله، وإن قلَّت المشكلات قلنا إن الأمر يتفق مع إرادة الله؟ هل نحس أن الأمور التي تسير بهدوء وسلام وتتم في وفاق هي دائماً إرادة الله؟

إن بعض المشكلات والمعطلات جزء طبيعي من الطريق الذي يختاره الإنسان، وبعضها الآخر ناشئ عن فساد المجتمع وعيوبه. وإن كان هذا لا يمنع أن الله أحياناً يستخدم من المعطلات والمشكلات ليعاون الإنسان على أن يدرك شيئاً من إرادته.

من هذا نرى أن وجود مشكلات أو عدمه لا يحدد إذا كان المشروع يتفق مع مشيئة الله. فإن طريق الصليب هو الطريق الصادق الذي ينطبق على مشيئة الله، ومع ذلك كان مريراً، ومليئاً بالمشكلات. كما أن الله أحياناً يعطينا أن نحقق أهدافنا بالعرق وبالجهاد أو على طريق مليء بالأشواك، وأحياناً بغاية الراحة والهدوء.

يعتمد البعض على وسائل ملموسة محسوسة لمعرفة إرادة الله. وجدير بالذكر أن علاقة الله بنا وعلاقتنا نحن بالله هي علاقة «الإيمان»، والإيمان لا يستند إلى المحسوسات والملموسات، بل يعتمد على الثقة في غير المنظور.

يحاول الإنسان أن يكتشف إرادة الله بكافة الوسائل والطرق. وهناك طرق بدائية ساذجة، يسعى بها الإنسان إلى معرفة مقاصد الله الحية بالنسبة له، لذلك يخطىء السبيل. إن حياة الإنسان تعتمد إلى حد كبير على اكتشافه لهذه الإرادة السامية. فلو سار في متاهات ضل طريقه وهو يظن أنه في طريق الله، وهذه كارثة كبرى. سار شاول الطرسوسي في طريق خاطئ وهو مخلص جداً، وفي إخلاصه اضطهد المسيحيين بوحشية قاسية، ظناً منه أنه يخدم الله، ولكنه كما قال عن نفسه، إنه فعل بجهل في عدم إيمان (1 تيموثاوس 1: 13).

يلجأ كثيرون إلى القرعة كوسيلة لمعرفة إرادة الله. وهنا أيضاً ينبغي أن نكتشف طريقة الله في التعامل. فإن الله - كما سبقت الإشارة - لا يمكن إلزامه بطريقة معينة في العمل أو في إعلان ذاته. قد تصيب القرعة مرة، وتفشل مرات عديدة. ولهذا فإن القرعة لا يمكن الاعتماد عليها أساساً لمعرفة إرادة الله.

هناك من يحددون علامات معينة ينتظرون أن يكلمهم الله بها. ولكن كيف نجد الله في علامات نحددها نحن؟ قد يريد الله أن يحدثنا عن طريق هذه العلامات وقد لا يريد. فإن لم تتحقق العلامة ظننا أن الله لا يوافق على المشروع المقترح. ومن أدرانا أن الله يريد هذه العلامة لتكون علامة مميزة؟ إن العلامات التي جاءت في مرات عديدة لشعب الله كانت علامات مختارة من الله، إن عمود السحاب نهاراً وعمود النار ليلاً كانا علامة وضعها الله لإثبات مواعيده للبشر. إن العليقة التي كانت تتقد ولا تحترق كانت علامة من السماء، لم يقصدها موسى ولم يكن يتصور أنها تحدث.

من الجائز أن يتعامل الله مع شعبه عن طريق علامات معينة، إلا أن العلامات التي يريدها هو، هي التي تصدر منه أساساً، فهو الذي يختارها لتوضيح إرادته وإعلانها. أما العلامات التي يختارها البشر، فليس الله مرتبطاً بها دائماً، ولا تعبر نتائجها عن مشيئة الله دائماً.

عندما تغلق الأبواب أمام الإنسان، ولا يجد لنفسه مخرجاً منها، يلجأ على الفور إلى الله «اِعمل معجزة يا ربِّ». وقد يصنع الله المعجزة، إلا أنه في غالب الأحيان لا يصنعها. مرة طلب أناس من المسيح آية ولكنه رفض أن يصنعها (متى 12: 39).

إن انتظارنا الكبير لمعجزة تحل مشكلاتنا تعبير صادق عن رغبتنا في الهروب من المشكلة وعدم مواجهتها. أليس من الأفضل أن نواجه مشكلاتنا بأنفسنا، فنتحمل الألم، أو نبحث عن حل واقعي؟ وفي وقت المحنة لماذا لا نصبر ونفكر واقعياً بدل أن يكون تفكيرنا خيالياً بعيداً، وبدل أن نركز اهتمامنا واتجاهنا في «معجزة» تطور الواقع وقد لا تحدث المعجزة.

ليست المعجزة في حد ذاتها - هدفنا، فلم يصنع المسيح المعجزة ليبرز ذاته، أو للمعجزة ذاتها، بل كان يهدف لما هو أسمى، وهو خدمة حاجات الناس.. ومع ذلك دعنا نتساءل: أي الموقفين أهم: أن تحل المشكلة بمعجزة أو أن تحل بالحل الطبيعي بمواجهتنا لها، وبصراعنا معها. أليس الأخير معجزة أكبر؟ أليست المعجزة الحقيقية أننا نواجه الظروف ونفكر فيها بعمق ونبذل الجهد والعرق لنصل إلى حل، ونختبر الناس والحياة، ونفهم عن كثب أموراً أكثر. إن الذين يصلون إلى حل مشكلاتهم بمعجزة ليسوا أعمق روحياً ممن يصلون إلى حل مشكلاتهم بأنفسهم. كما أن الذين يرون في منامهم المسيح والقديسين ليسوا أكثر قدسية وإيماناً وعمقاً من الذين لا يشاهدونهم. إن الحياة المليئة بالواقعية والمواجهة أكثر خبرة وأدق فهماً وأعمق إيماناً من الحياة التي تعتمد على الخيال وحده.

الفصل الثاني عشر: طرق إعلان إرادة الله

هل نستمع لصوت الله أم لصوت البشر؟ وهل صوت البشر من صوت الله؟ وإن اختلفت نصائح البشر، فأيُّها يتفق مع إرادة الله؟ هل تتفق إرادة الله مع إرادة الناصحين، أم أن إرادة الله ضد ما يراه الناس صواباً؟ هذه وغيرها كثير من الأسئلة المحيرة للبشر.

الحياة مليئة بالناصحين والمرشدين. منهم من يرشدنا في كلمة الله، وهؤلاء نحتاج لسماعهم ولتعليم الإنجيل منهم. قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين «أَطِيعُوا مُرْشِدِيكُمْ وَٱخْضَعُوا، لأَنَّهُمْ يَسْهَرُونَ لأَجْلِ نُفُوسِكُمْ كَأَنَّهُمْ سَوْفَ يُعْطُونَ حِسَاباً، لِكَيْ يَفْعَلُوا ذٰلِكَ بِفَرَحٍ، لا آنِّينَ، لأَنَّ هٰذَا غَيْرُ نَافِعٍ لَكُمْ»(13: 17). وفي مكان آخر (عبرانيين 13: 7) يقول «اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ ٱلَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ. ٱنْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ». وفي هذا دعوة للتعمق في الإيمان مع جماعة المؤمنين الذين جاهدوا قبلاً جهاد الأبطال.

قد يأتيك من يقول لك: إن الله يريد منك أن تعمل كذا وكذا... ويدعوها بذلك رسالة خاصة من السماء لك. إن الله - إن أراد أن يكلمك - فهو يكلمك مباشرة. إنه لا يستخدم الوساطة، وجميع الوسائط والناصحين ينبغي أن يوضعوا موضع الفحص الدقيق. إن الله لا يرسل رسائله عن طريق أناس أياً كانوا. وليس من حق أحد أن يقول: «هكذا يقول الرب لكِّ لأن مثل هذا القول يُنقص من قيمة شخص المسيح، كمال الإعلان الإلهي للبشر».

إن الإرشاد الإلهي المباشر يتحقق عن طريق عقل متفتح ورغبة جادة مخلصة لمعرفة إرادة السيد، والعمل بما يطابقها بمجرد اكتشافها. وكلما بذل الإنسان جهداً لمطابقة إرادته مع إرادة الله، وكلما حاول أن يعيش بنقاوة القلب، أمكنه أن يدرك إرادة الله المباشرة عن طريق روح الله القدوس.

ليست مشيئة الله فوق طبيعية. إنها ليست مستحيلة أو معجزية. ففي استطاعة الإنسان أن يفهمها ويعرفها. قال الرسول بولس «مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ لا تَكُونُوا أَغْبِيَاءَ بَلْ فَاهِمِينَ مَا هِيَ مَشِيئَةُ ٱلرَّبِّ»(أفسس 5: 17)، إلا أن مشيئة الله عميقة وترتبط بنفس الإنسان وهي أيضاً عميقة ومعقدة. وسر تعقيدها أن الإنسان يصعب عليه أن يميز بين إرادة الله وإرادته الذاتية.

إن مشيئة الله بالنسبة لك ترتبط بإرادته السامية في كلمة الله. فإنه يريد الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون. كما أنه يريدك أن تحيا حياة البر والقداسة. ألم يقل «أُعَلِّمُكَ وَأُرْشِدُكَ ٱلطَّرِيقَ ٱلَّتِي تَسْلُكُهَا. أَنْصَحُكَ. عَيْنِي عَلَيْكَ»(مزمور 32: 8). وقد قال كاتب الأمثال (3: 6): «فِي كُلِّ طُرُقِكَ ٱعْرِفْهُ وَهُوَ يُقَوِّمُ سُبُلَكَ».

إن الله يتحدث إلينا عن طريق العقل. فكيف نعرف مشيئته إلا عن طريقه؟ وكيف تنبع أفكارنا بعيدة عن مشاعرنا وإحساساتنا وميولنا؟ أليس الإنسان بكل مشاعره وإحساساته وفكره جزءاً واحداً لا يتجزأ؟ ألم يخلقنا الله هكذا؟ إن الفتى وهو يختار شريكة حياته لا بد أنه يفكر بعقله وينفعل بعواطفه، ومن يقول بغير ذلك، يخدع نفسه. إن رغبة الإنسان في الزواج ترتبط بميوله الجنسية، وهي ميول مقدسة خلقها الله فيه، كما ترتبط بميوله السيكولوجية للبحث عن رفيق، وهي أيضاً ميول طبيعية أوجدها الله لخدمة الإنسان.

قد يدَّعي شخص أنه يسمع صوت الله يتحدث إليه في أذنه. لا شك أن هذا الإنسان مخدوع. فصوت الله لنا يتحدث إلينا عن طريق عقولنا وإحساساتنا، لا بصوت مسموع كصوت البشر المسموع.

إن الاعتماد على الإيمان اعتماد عاقل، وإيماننا بالله إيمان عاقل، ولا بد من التفكير الصحيح لنصل إلى معرفة صحيحة لمشيئة الله بالنسبة لنا. إن عقل الإنسان جزء من حياة إيمانه، ومشاعر الإنسان وإحساساته كذلك لا تنفصل عن قرارات الإيمان. إن كل أفكار وإحساسات إنسانية تنبع بالضرورة من إيمان الفرد، فبعضها خاطىء، وبعضها صواب، إلا أنه لا يوجد تصرف من تصرفات الإيمان يتم دون عمل العقل فيه.

إن حياة المؤمن، تتجه بكاملها إلى الله، وتحاول خلال مسيرة الحياة أن تكتشف خطة الله لها. وكلما نما الإنسان في الحياة الروحية الإيمانية، والخبرة اليومية، والنضوج الفكري والعاطفي، اقترب من معرفة إرادة الله.

مسابقة لكتاب: إرادة الله في حياة الإنسان

أيها القارئ العزيز،

إن تعمقت في قراءة هذا الكتاب تستطيع أن تجاوب على الأسئلة بسهولة. ونحن مستعدون أن نرسل لك أحد كتبنا الروحية جائزة على اجتهادك. لا تنسَ أن تكتب اسمك وعنوانك كاملين عند إرسال إجابتك إلينا.

  1. لمن يُظهر الله مشيئته؟

  2. ما هي دعوة المسيح الأساسية؟

  3. ما هي (النعمة الرخيصة)؟

  4. ما معنى التعبير (الحرية عن طريق العبودية)؟

  5. لماذا لا يكشف الرب لنا كل طريقنا من البداية؟

  6. لماذا يجب أن نستخدم عقولنا في محاولتنا معرفة إرادة الله؟

  7. ما هو الفرق بين (عصمة الضمير) و(سلطة الضمير)؟

  8. ما هي الطريقة الصحيحة لدراسة الكتاب المقدس؟

  9. كيف تكون صلاتنا (ضمن إرادة الله)؟

  10. ما هو الفرق بين الصلاة مع زميل والصلاة في الخفاء؟

  11. ما هو البرهان على أن الله يرغب في إعلان إرادته لنا أكثر من رغبتا نحن في معرفتها؟

  12. ما معنى (مثال المسيح) كما جاء في 1 بطرس 2: 12؟

  13. اذكر حادثة من حياة المسيح توضح نموذجيته في اتِّباع إرادة الله.

  14. كيف يتغيّر شكلنا، طاعة للوصية الرسولية في رومية 12: 2؟

  15. اشرح كيف تتفق إرادة الله دائماً مع كلمته؟

  16. كيفت ساعدتنا بعض الظروف على معرفة إرادة الله؟

  17. ذكر جورج مولر ست طرق لمعرفة إرادة الله. اذكر ثلاثاً منها.

  18. هل تتعارض إرادة الله مع حرية الإنسان؟

  19. كيف يخطئ الإنسان، ويكون مخلصاً في خطئه؟ أعطِ نموذجاً من حياة شاول الطرسوسي.

  20. كيف يساعدنا مرشدونا الروحيون في معرفة إرادة الله؟


Call of Hope 
P.O.Box 10 08 27 
D-70007
Stuttgart
Germany