العودة الى الصفحة السابقة
صراع أغسطينوس

صراع أغسطينوس

عبد السلام لوديي


Bibliography

صراع أغسطينوس. عبد السلام لوديي. Copyright © 2005 All rights reserved Call of Hope. الطبعة الأولى. 1990. SPB 7450 ARA. English title: The Struggle of Augustine. German title: Der Kampf Augustins. Call of Hope. P.O.Box 10 08 27 70007 Stuttgart Germany http://www.call-of-hope.com .

استهلال

ننبهر كثيراً بالمصنوع ولا نلتفت على الإطلاق إلى الصانع. نفتخر باللوحة الفنية الخلابة، ونطرب ونستمتع بسماع القطعة الموسيقية السجية الرائعة، ونعانق التمثال المنحوت.. ولا نتطلع إلى اليد التي تحمل الريشة والأصابع التي تعزف المقطوعة الموسيقية، فنمجد المخلوق وننسى أو نتناسى الخالق.

ليس المقصود هنا في هذا البحث القصير شخص أغسطينوس بالذات, بل اليد الخفية المتحركة التي كانت تعمل وتبدع. كما يصنع الفخاري من الطين آنية جميلة رائعة تخلب الألباب، إلى الصانع الحي الذي دعا أغسطينوس ليرفع مشعل النور وسط ظلمة الليل الحالك، الذي يغطي عالمنا. ليحمل رسالة المسيح في حياته وعلى شفتيه وبفكره ومداده.

هو القديس أغسطينوس الذي تفتخر به الكنيسة في الغرب كما في الشرق، وهو اللاهوتي الشهير الذي تستشهد بآرائه الحصيفة الكنيسة الجامعة, وهو الصوفي المسيحي الحق، والأسقف المتواضع، والخادم الأمين. وهو الرجل الذي كان باستمرار في بوتقة الصلاة ينصهر كل يوم في الله، فكان الناس يرون فيه بريق ولمعان سيده وفاديه. كانت فيه صورة المسيح واضحة للعيان، وكان قلبه ولسانه وفكره تشدو جميعها بالمديح والثناء للخالق سبحانه الذي أنعم عليه بالتوبة والغفران. فكان أغسطينوس أعجوبة أو معجزة صنعها الله في حياته؟ فعلينا نحن أيضاً أن نقدم شكرنا وحمد قلوبنا لله جلّ جلاله.

في هذا الكتيب لا نستهدف مدحاً للآنية المصنوعة الفانية، بل لصانعها وباريها. ونوجه الأنظار إلى ذاك الذي نادى قائلاً: «تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ اٰلْمُتْعَبِينَ وَاٰلثَّقِيلِي اٰلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ اٰلْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ» (متّى 11: 28-30).

نشأة أغسطينوس

أبصر أغسطينوس النور بتاريخ 13 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 354 بعد الميلاد في مدينة تغاسطا Thagaste المعروفة حالياً بسوق أهراس التابعة لولاية عنابة بالجزائر القريبة من تونس والتي كانت تسمى آنذاك «نوميديا».

كانت هذه المنطقة خاضعة للأمبراطوبية الروماينة التي حكمت بلاد شمال أفريقيا منذ سنة 164 قبل الميلاد حتى سنة 430 بعد الميلاد. نشروا في المغرب الكبير (تونس والجزائر والمغرب) لغتهم وحضارتهم وآدابهم وعلومهم. فظهر بين المغاربة مؤرخون وكتّاب وشعراء استطاعوا أن يقدموا لنا وصفاً دقيقاً عن الثقافة والحضارة المغربية في تلك الحقبة من الزمن باللغة اللاتينية. ورغم هذا التأثير الروماني ومحاولة طبع هذه الرقعة من العالم بطابع روماني محض، فإنّ الشعب المغربي ظل محافظاً على هويته المغربية في التحدث بالفينيقية، اللغة التي كانت منتشرة انتشاراً واسعاً آنذاك.

في زمن أغسطينوس كانت الديانة الوثنية والمسيحية منتشرتين على نطاق واسع, والبيت الذي نشأ وترعرع فيه كان يجمع الديانتين، حيث كان الوالد «باتركس» وثنياً والأم «مونيكا» مسيحية، تقية وغيورة لإيمانها متحمسة لدينها، مثلاً في سلوكها المسيحي وسط مجتمعها وأمام أفراد أسرتها. كان اهتمامها ومطمعها الوحيد أن ترى جميع أهل بيتها يدينون بدينها ويعيشون تحت ظل الإيمان بالمسيح، والسير في طريق الصلاح والتقوى. كان لمونيكا والدة أغسطينوس طفل أنجبته بعد أغسطينونس أسمته «نافيكس» وطفلة لم يُعرف اسمها.

عاشت «مونيكا» حياة التقوى والطهارة والعفة حتى أنّ حياتها كانت تشهد لعمل النعمة فيها مطيعة لزوجها خاضعة له رغم الحزن والمرارة التي كان يسببهما لها من وقت لآخر. مثالية في جميع تصرفاتها وتعاملها مع زوجها الشرير، حيث كانت تقابل شدته بالليونة والهدوء التام، وشره وبطشه بالصبر ورباطة الجأش، حتى أنّ الجيران والأقارب كانوا يتعجبون من سلوكها الحكيم هذا.

أما باتركس والد أغسطينوس فكان وثيناً شريراً كما ذكرنا. حاد البطع، خشن المعاملة، همه الوحيد هو تعليم ابنه مضحياً في سبيل ذلك بكل ما يملكه لتحقيق أمنيته العزيزة على قلبه، في أن يصل ابنه إلى أعلى درجة من العلم. وقد قيل أنّه قبل وفاته بقليل اعتنق الدين المسيحي، لكن سلوكه لم يطرأ عليه أي تغيير, وبقي لا يعبأ بالدين ولا يقيم له وزناً طيلة حياته.

كان العلم والثقافة العالية في المجمتع الروماني هما الركيزة الوحيدة لضمان النجاح في الحياة والتصدر في المجتمع. فكان على والدي أغسطينوس أن يدخلا ابنهما إلى المدرسة الابتدائية في مدينة تغاسطا (سوق أهراس) بين سنة 361-365، متوسمين في ابنهما الخير والنجاح. فبدآ يعدانه لمستقبل باهر. ويصف لنا أغسطينوس في كتابه «الاعترافات» أمنية الوالدين هذه بقوله:

«كم تلاعبا بي يوم اقترحا عليّ قاعدة لسلوكي في الحياة، أنا الحدث الطري العود، أن أطيع معلميّ كي ألمع بين الناس، وأبرع في الفنون الكثيرة الكلام التي تضمن لي مجداً بشرياً وثرات زائفة».

هذا هو واقع البيت والمجتمع الذي نما فيهما أغسطينوس وترعرع، إذ كانا يجمعان كل التناقضات الروحية: الإيمان والكفر، إيمان أم تقية ورعة، حياتها كلها صلاة وتضرع لله الخالق، وأب وثني شرير لا يكترث للدين ولا يهمه من الحياة إلا المجد والثروة. فعاش أغسطينوس في صراع مستمر باحثاً عن الراحة لنفسه القلقة المضطربة وسط تشابك مع المادة والروح، مع الحياة الزمنية الفانية والحياة الدهرية الخالدة.

شقاوة أغسطينوس

عندما أكمل أغسطينوس الثانية عشرة من عمره, انتقل إلى معهد شهير في مادورا لمتابعة تعليمه الثانوي من سنة 366-369. فانكبّ الفتى الطريّ العود الحادّ الذكاء على التهام العلم التهاماً عن أساتذة أكفاء. وفي هذا الوقت المبكر من حياته بدأ يتعلم الشقاوة واللهو والهزء بالغير. ويخبرنا عن هذه الفترة من حياته قائلاً: «أواه... ما كان أقبحني أمام ناظريك يوم كنت أسيء التصرف وأولئك الأشخاص أنفسهم، أساتذتي ومعلميّ ووالديّ، فأخدعهم مراراً لأشبع نهمي إلى اللعب وأروي ظمأي من المشاهد المسرحية المتهتكة المجونية».

وهكذا انطلق الفتى في درب المجون وقد أخذت الخطيئة والشهوة الرديئة بلب قلبه فابتدأ يغش أساتذته في المدرسة ورفاقه أثناء اللعب. وعندما بلغ سن السادسة عشرة من عمره بلغ أوج ذروة الشقاوة والتخاتل، حيث برع في فن السرقة وإيقاع الأذى بالناس, إلى أن صار يتزعم شرذمة من الأصحاب الأردياء.

ويحدثنا عن الدافع الذي جعله يسرق مرة، قائلاً: «قد سرقت، ولم يكن مني عن عوز، ولا عن ولع بالربح، ولكن نكاية بالحلال. وحباً بالحرام. وقد دفعني إليها فراغ قلبي من العدل وسأمه منه بسبب طغيان معاصيّ عليّ. سرقت شيئاً كنت أملك أفضل منه وأوفر، لا طمعاً بالمسروق عينه بل حباً بالسرقة والإثم».

ويسرد لنا في كتابه «الاعترافات» حادث السرقة التي كان يقوم بها, ويصف لنا اللذة التي كان يجنيها من وراء ذلك العمل المشين، وعن زيغه وطيشه قائلاً: «إلى جانب كرمنا, شجرة إجاص مجدلة بأثمارها، ولكن إجاصها لم يكن شهياً ولا لذيذ الطعم. قصدتها تحت جنح الظلام الحالك، مع زمرة من الصبيان الجهال، بعد أن قضينا وطراً من اللعب في الأزقة، طبقاً لعادتنا الكريهة، حتى بلغ الليل أشده, ثم قضينا منها وطراً وعدنا بأحمال ثقيلة، لا لنتلذذ بها، لأن ثمارها هذه غير الناضجة كان حقها أن تُرمى للخنازير، وغبطتنا ولذتنا كانت في أن نفعل ما كان محرماً ومكروهاً وبإتيان المنكر وحسب».

في هذه المرحلة من العمر - السادسة عسرة - لم يستطيع أبوه أن يؤمن له السفر لمدينة قرطاجة (مدينة تونس حالياً) لإتمام دراسته هناك، فعاد من مادورا مسافة 24 كلم إلى مدينة تاغسطا ومكث سنة كاملة توغل فيها في اللهو والمجون وانفتح باب الشقاوة أمامه على مصراعيه لارتكاب ما يحلو ويطيب أمام عينيه، إلى أن أصبحت هذه السنة من أشر سنوات حياته، غلب عليه تيار التحرر، فجره إلى مهاوي الرذيلة على شتى أنواعها واشكالها لم يسنها طوال حياته.

أغسطينوس في قرطاجة

كانت مدينة قرطاجة آنذاك (تونس حالياً) مزدهرة من عدة جوانب، وقدلعبت دوراً عظيماً في تاريخ شمال أفريقيا عسكرياً ومدنياً وتجارياً وفكرياً. كانت مدينة قرطاجة تنافس مدينة روما من حيث التقدم والازدهار الحضاري والعمراني وفي ميدان العلوم والآداب والصناعة والتجارة. كما أن الطابع التجاري كان غالباً عليها، والطبقة الأرستقراطية هي الحاكمة. كان طابع الترف والبذخ والغنى بادياً عليها، فيها العديد من المسارح ودور الملاهي والأندية المختلفة، كما أنها كانت العاصمة الفكرية لمنطقة شمال أفريقيا، حيث كان يتوافد عليها الطلاب من جميع أطراف بلاد شمال أفريقيا، لطلب العلم والمزيد من المعرفة، لأنّ التعليم العالي كان متوفراً فيها، من فلسفة ومنطق ومحاماة وعلوم البيان والأدب. كما أنّ البدع والهرطقات كانت رائجة هناك على اختلاف أنواعها.

وبعد أن قضى أغسطينوس سنة كاملة في تاغسطا متوقفاً عن التعليم، بسبب عدم إمكانية والده المادية في تأمين السفر له لمدينة قرطاجة لمتابعة تعليمه العالي هناك، قام أحد أثرياء تاغسطا يُدعى «رومانبانوس» «باتركس» والد أغسطينوس بمساعدته لاتمام دراسته في العاصمة العلمية قرطاجة. وهناك صار أغسطينوس يلتهم العلم التهاماً، يدرس بكل ما أوتي من قوة الذاكرة والاستيعاب دون كلل أو ملل، حتى أصبح بارعاً بين زملائه في فن الخطابة وظفر ببعض الشهادات العليا.

وعندما بلغ الثامنة عشرة من عمره تعرّف على امرأة اتخذها لنفسه خليلة أحبها حباً جنونياً، فأنجب منها ولداً غير شرعي سماه «أديوداتس» وقدة عاشر هذه المرأة مدة أربعة عشر عاماً.

ويصف لنا أغسطينوس العلاقة التي كانت تجمعهما قائلاً: «اتخذت لي زوجة ولم تكن شرعية. اتخذتها إشباعاً لشهوة جامحة ولم يكن لديّ سواها وحفظت جميع عهودي معها. ثم تحققت تماماً بنفسي الفرق بين الميثاق الزوجي العاقل المعقود في سبيل إعطاء الحياة وبين ما يرتكز على إشباع اللذة الحيوانية إيلاداً للبنين».

أما أمه «مونيكا»فقد وقفت تعارضه بالنسبة لمعاشرته هذه المرأة، إذ لم تكن على الإطلاق راضية بعلاقته معها، ولا بحياته التي هوت به للحضيض، بسبب بعده عن شريعة الله واتباعه شريعة العالم الشرير. فتسلحت الأم الحنون بسلاح الصلاة والتضرع إلى الله من أجل هداية ابنها الضال الذي قاده عمى قلبه وزيغه وطيشه إلى قعر الشر والرذيلة.

ففي هذه المدينة الكبيرة الضخمة تحقق حلم أغسطينوس في إغناء فكره بالعلوم وإشباع نفسه المتعطشة للسؤ والشهوة العارمة والمتأججة في أعماقه.

عواصف فكرية

«تهت... ورحت مع كل ريح» هكذا اعترف أغسطينوس. رياح عاتية تهب عليه من كل صوب، وتتلاعب به لجب البحر الهائج المضطرب الذي لا يسلم منه إلا من جاءه العون من الأعالي لإيصاله إلى شاطئ السلام والطمأنينة.

في التاسعة عشرة من عمره عكف على دراسة «شيشرون»، إذ بطريق الصدفة وقعت بين يديه محاورة «هورطانسيوس» «Hortansius»أو «De Pholosophi» «عن الفلسفة» لشيشرون الروماني (ولد 106 ق.م) الخطيب والفيلسوف الشهير. والحوار هذا عو عبارة عن تمجيد الفلسفة التي حاول أن يقلل من قيمتها «هورطانسيوس»، فحاول شيشرون أن يحببها لقلوب الرومان وحثهم على دراستها لأنها السبيل للوصول إلى الحق كما يقول شيشرون. فاتجهت نفس الإفريقي هذا نحو طلب الحكمة والسعي وراء الحق والبحث عن اليقين الذي ما بعده يقين، معتمداً في ذلك على قدرة عقله وإدراكه البشري. وتأثر بكتاب آخر لشيشرون هو «De Finibous Bonorum et Malorum» حدود الأعمال الخيرية والشريرة.

ويقع هذا الكتاب في خمسة أجزاء، ويعتبر من أهم كتابات شيشرون الفلسفية. إنه عبارة عن مقاومة بين المدارس الفكرية المختلفة (الأبيقورية والرواقية والمشائية) بخصوص موقفها من قضية الخير والشر. فاتجهت بهذا نفس الفتى أغسطينوس المتعطش لطلب الحكمة, فصار يروي ظمأه منها بدل الاقتصار على طلب اللذة والشهوة الصارخة في أعماقه، فاشتد الصراع في داخله بين حب اللذة وحب الحكمة، إلى أن وقع تحت تأثير شيعة المانويين. ويحدثنا بنفسه في كتابه «الاعترافات» عن إنزلاقه ووقوعه في فخ هذه البدعة، قائلاً: «طول تلك السنوات التسع الممتدة بين سن التاسعة عشرة والثامنة والعشرين من عمري كنا فريسة لشهوات مختلفة. كنا نغري الناس ويغروننا ونخدعهم ويخدعوننا، تارة علناً بواسطة العلوم وطوراً سراً تحت شعائر الدين الكاذبة».

هكذا قضى أغسطينوس تسع سنوات يتجرع فيها أفكارهم المسمومة وفلسفتهم الكاذبة مترنماً معهم الأنشودة التي ينشدونها كشعار وإقرار لإيمانهم التي تقول: «ربي هبني عفة الحياة، ولكن ليس الآن».

وشيعة المانوية تنتسب إلى ماني بن فاتك الذي ظهر زمان سابور بن أردسير (215-276) في بلاد الفرس. وقد قال ماني بأنّ العالم هو تحت سيطرة قوتين هما الخير والشر. وزعم أنّ العالم مصنوع من أصلين أحدهما النور والآخر الظلمة، وأنهما أزليان حتى ذهب أصحاب هذه البدعة إلى القول أن ليس في وسع المرء أن يخلص من هاتين القوتين، وبهذا وجد أغسطينوس ما يبرر سلوكه الشهواني الفاجر فكان هذا المذهب كفيلاً بإشباع حاجته المزدوجة: السعي وراء بلوغ اليقين والركض من إشباع نفسه باللذة والشهوة الجسدية. إلى أن فطن لهذا المذهب بسبب الإشكالات التي يطرحها دون أن يقدم أي جواب لها. فبدأ الشك يراوده بالنسبة لصحة العديد من تعاليم شيعة المانوبة، إلى أن اهتدى إلى كتب الشكاك (الاحتمالية) من رجال الأكاديمية الجديدة التي يقول أصحابها أنه من العسير على المرء أن يتوصل إلى معرفة يقينية ثابتة غير قابلة للجدل والشك، فكانت هذه النظرية موآتية لحالة أغسطينوس النفسية. فعكف على قراءة كتبهم والتنقيب فيها ومناقشة آرائهم، حتى ظن أنه اقتنع بفلسفتهم في استحالة الوصول إلى اليقين وضرورة الإقلاع عن كل بحث يستهدف المعرفة.

ابن الدموع

كانت مونيكا كأي أم مؤمنة، تطمع في أن ترى ابنها يتخلى بأخلاق حميدة وحياة طاهرة سامية وتواقع في أن يصبح فلذة كبدها مؤمناً سالكاً طريق الإيمان الصالح في الخير والهداية. فلقنته وهو بعد صغير كل ما كانت قادرة عليه من مبادئ الإيمان بالمسيح التي كانت تعرفها. إلا أن كل تلك التعاليم لم تلج قلبه ولم يكترث لها على الإطلاق. فتاه الفتى وانجرف مع كل تيار وراح يسبح في ماء عكر ولم يقم وزناً لنصائح أمه ولا لتوجيهاتها الحكيمة وإرشاداتها القويمة الصادرة من قلب ينبض بالمحبة الفياضة والعاطفة الجياشة، إلا أنه اعتبر جميع نصائحها حسب قوله: خزعبلات نساء، وأنّ الديانة المسيحية لا تصلح لأمثاله بل للبسطاء أمثال أمه. فكان يسخر من تعاليمها وإيمانها المسيحي.

أما الأم المسكينة مونيكا فلم تستسلم لليأس والقنوط، بل تسلحت بتقوى الله والاتكال عليه بالصلاة والدعاء والتضرع له حتى تنتصر على ابنها في محبته. فكانت ترفع عينيها للسماء ودموع الأسى تنهمر على خديها وهي غير فاقدة الرجاء من رحمة السماء كي تشمل ابنها ليعي حالته المزرية التعيسة. كانت دموعها دموع صلاة ورجاء لا دموع حسرة وفقدان الأمل. وبهذا تشبهت بإرمياء النبي في دموعه وبكائه على شعبه الساقط حين قال: « يَا لَيْتَ رَأْسِي مَاءٌ وَعَيْنَيَّ يَنْبُوعُ دُمُوعٍ، فَأَبْكِيَ نَهَاراً وَلَيْلاً قَتْلَى بِنْتِ شَعْبِي»(إرميا 9:1). لم تكل ولم تتوقف عن الصلاة ولم تقطع حبل الأمل والرجاء في خلاص ابنها الغائص في مستنقع الرذسلة والشهوة، والذي كان باستمرار ينبش في أحجرة الثعابين والأفاعي السامة منقاداً وراء كل تعليم.

في أحد الأيام ذهبت الأم المسكنية تطلب الإرشاد والنصيحة من أحد رجال الله الأتقياء، وهو القديس أمبروز. فقصت عليه حكايتها وابنها الضال عن الحق، والذي بهرته التعاليم الكاذبة الفاسدة من حكمة هذا الدهر الفاني. فسألها رجل الله القديس أمبروز: «هل تصلين بدموع من أجل ابنك هذا؟» فأجابته: «نعم». فرد عليها قائلاً: «كوني مطمأنة ولا تقلقي عليه، لأنّ ابن الدموع لا يمكن أن يضيع». وبكلمات معزية شدد القديس أمبروز عزيمتها، وطلب منها أن لا تكف عن الصلاة في طلب الهداية واللطف الإلهي من أجل ولدها، وأن لا تستسلم لليأس والضجر والقنوط. وهكذا استمرت تصلي من أجله إلى أن قادته العناية الإلهية إلى حظيرة الإيمان والسبيل المستقيم الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية.

الصراع الداخلي

صلاة أغسطينوس:

أواه... ترأف عليّ أيها الرب، أنا الفقير... انظر إلى قروحي فها هي مكشوفة لديك. أنت الطبيب وأنا المريض.

ترك أغسطينوس قرطاجة بعد وفاة باتركس والده وعاد إلى مدينته بعد أن أنهى تعليمه العالي. وكان عليه في هذه الأثناء أن يكسب لقمة عيشه بنفسه. فعمل كمعلم لمدة ثلاث عشرة سنة وبدأ أولاً في مدينته «تاغسطا». وقد كانت أمه متخوفة جداً بسبب اعتناقه المانوية وانحرافه عن الحق والصواب ثم بعدها عاد إلى قرطاجة واشتغل هناك لفترة وجيزة يدّرس فيها علم البلاغة وفن الخطابة. لكن العمل في قرطاجة لم يرقه، فصمم على الرحيل إلى مدينة المجد روما، المدينة التي بوسعه أن يصل فيها إلى قمة المجد بسرعة ويحقق أحلامه فيها، كما اعتقد.

هناك بدأ يراوده الشك في تعاليم المانوية وصحتها. كما تغلب على آراء رجال الأكاديمية الجديدة (الشكاك). وقد كانت تعاليم الأفلاطونية المحدثة مساعداً كبيراً في حل الكثير من مشكلاته العقلية. فوجد فيها ما يشبع نزعته العقلية التي تنشد اليقين وتبغي المعرفة. كما أنها اقتربت به من عتبة الكنيسة المسيحية. فمهّدت أمامه السبيل للاقنتاع بالإيمان المسيحي، مع العلم بأنّ الأفلاطونية المحدثة وحدها لم تشبع جوعه ولم تهدئ من الصراع القائم في داخله. فالصراع القوي بين المادة والروح كان يهزه هزاً في أعماقه، فلم تعرف روحه المضطربة طعم الراحة والسكينة آنذاك.

انتقل أغسطينوس بعد ذلك من روما إلى ميلانو حيث كان العمل في روما شاقاً وأصعب بكثير مما كان عليه في قرطاجة. فصار يعلم في ميلانو الخطاية والفصاحة سنة 384م. فعلمت أمه بوجوده في ميلانو فلحقت به إلى هناك وأصرت بإلحاح عليه أن ينفصل عن تلك المرأة التي كان يعاشرها والتي أنجب منها ابناً غير شرعي. وفي هذه الأثناء أطاع وعمل بكلامها وأبعد أم ابنه إلى الجزائر وأبقى ابنه معه، لكن الحالة هذه التي افترق بها عن أم ابنه لم ترقه. فطلبها وتزوجها بموجب القانون، فاختبر الفرق الشاسع بين المعاشرة غير الشرعية واقترانه بها بصورة شرعية.

وأثناء وجوده بميلانو بدأت نفسه تنفتح لروح الإنجيل والاستماع إلى كلمة الرب وحضور الاجتماعات المسيحية، وبدأ يعاشر المسيحيين المؤمنين الأتقياء كما أنّ يد الرب كانت تعمل فيه في الخفاء.

أغسطينوس في ميلانو

«أود أن أتخطى قوة طبيعتي، لأرتفع تدريجياً إلى خالقي» أغسطينوس

قادت العناية الإلهية أغسطينوس إلى ميلانو، وهناك بدأت الأحداث في حياة أغسطينوس تأخذ منحى آخر. وبدأ اتجاهه يتحول دون أن يدري إلى مواجهة جديدة تختلف كل الاختلاف عن كل الاتجاهات التي عاشها سابقاً.

كان في ميلانو أحد رجال الله المعروفين بتقواهم، وقد اختاره الله إناء صالحاً لخدمته ونشر كلمته الحقة. كان هذا الرجل هو القديس أمبروز الذي لعب دوراً كبيراً في حياة أغسطينوس، فقد جعله الرب سبب بركة لحياته الروحية.

ولكي نعرف التأثير الكبير الذي تركه هذا الرجل في حياة أغسطينوس، علينا أولاً أن نتعرف ولو قليلاً على أمبروز ذاته.

ولد «أمبروز» في مدينة «براير» بألمانيا الغربية حالياً، وكان لوالده مركز مرموق في الدولة. تلقى أمبروز تعليمه في روما. عيّن حاكماً على ولاية في شمال إيطاليا سنة 374م، وكان يقيم آنذاك في ميلانو التي كانت عاصمة الأمبراطورية في ذلك الحين.

بعد أن توفي أسقف ميلانو الأريوسي المذهب، انتخب الشعب أمبروز ليكون أسقفاً على ميلانو. فقبل الدعوة ووهب كل ثروته للفقراء والكنيسة. ودرس اللاهوت، ثم صار واعظاً يُشهد له بالفصاحة والبيان. وقد امتاز بمواهب عديدة، وسرعان ما ذاع صيته وأصبح علماً من أعلام الدين. وقد عُرف أمبروز بشجاعته وبسالته الفذة في قوله الحق مهما كلفه الأمر، لأنه «يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اٰللّٰهُ أَكْثَرَ مِنَ اٰلنَّاسِ» (أعمال الرسل 5: 29). ومن أروع انتصاراته، قضية الأمبراطور تيودوسيوس الذي أمر بمذبحة رهيبة بشعة سنة 390م في مدينة تسالونيكي (سالونيك الحالية) لعقاب سكانها، بسبب قتلهم أحد الموظفين. وبعد المذبحة بقليل ذهب الأمبراطور بموكب رسمي إلى الكنيسة في ميلانو ليعبده هناك كعادته. فلقيه على الباب الأسقف أمبروز وبادره بقوله: «ليس إلا رب واحد وملك واحد لهذا الوجود كله». ومنعه من التقدم إلى المائدة المقدسة وأصرّ على أن يعترف بندمه جهاراً أمام الشعب على فعلته الشنعاء، فرفض «تيودوسيوس» الندم جهاراً، وتجنب الكنيسة ثمانية أشهر. وعند حلول عيد الميلاد اضطر أن يخضع لأمر الأسقف فندم وأعلن توبته جهاراً ودخل الأمبراطور الكنيسة متذللاً مثل أي مواطن عادي. وفضلاً عن هذه الأعمال الجليلة الباسلة فقد كتب أمبروز كتباً عدة في اللاهوت وفي الأخلاقيات المسيحية كما أنه وضع ترانيم تعبدية.

وهناك في ميلانو سمع أغسطينوس بالرجل العظيم أمبروز الذي علا صيته في كل مكان، فتعرف عليه وأصبح يتردد على الاجتماعات الدينية في كنيسته، يستمع إلى مواعظه القيمة والتي كانت ملتهبة كالنار. كما كان أمبروز قدوة حسنة له، فكان يعامله بكل محبة وحنان وطول بال، حتى أنّ أغسطينوس أحبه محبة شديدة.

كانت لمواعظ الأسقف فاعلية بل وجاذبية قوية في حياة أغسطينوس. فكان يداوم ويواظب على حضور اجتماعاته وأخذ يتلذذ باستماع كلمة الله. وكانت هذه هي بداية شعلة الروح تعمل في قلب التائه أغسطينوس.

الحياة الجديدة

«جلست على قمة العالم حينما أحسست في نفسي أني لا أشتهي شيئاً ولا أخاف شيئاً». أغسطينوس

هناك في ميلانو بدأ الرب يوقظ ضمير أغسطينوس، وبدأت النعمة تعمل عملها فيه بواسطة مواعظ أسقف أمبروز وقراءته الكتاب المقدس، ومعاشرته بعض المؤمنين المسيحيين الأتقياء، أمثال سبلشيانوس الكاهن. بدأ يشعر بفساد حياته وطبيعته الساقطة الخاطئة وخباثته الدفينة في قلبه، خاصة بعد أن قرأ بعض ما كتب عن حياة الرهبنة في مصر فأحس بالخزي والخجل أن يرى جماعة من أولئك الرهبان البسطاء الذين تركوا العالم ليتبعوا يسوع.

اشتد الصراع في داخله وضهب منفرداً مع نفسه إلى حديقة منزله يتأمل شريط ماضيه المرير وهناك سمع صوت صبي من منزل مجاور يقول له: «خذ واقرأ». فتناول نسخة من الكتاب المقدس وفتحها، فوقع نظره على الكلمات التالية : « لِنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي اٰلنَّهَارِ، لاَ بِاٰلْبَطَرِ وَاٰلسُّكْرِ، لاَ بِاٰلْمَضَاجِعِ وَاٰلْعَهَرِ، لاَ بِاٰلْخِصَامِ وَاٰلْحَسَدِ. بَلِ اٰلْبَسُوا اٰلرَّبَّ يَسُوعَ اٰلْمَسِيحَ، وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيراً لِلْجَسَدِ لأَجْلِ اٰلشَّهَوَاتِ» (رومية 13: 13-14).

فاعتبر كلمات الآيات هذه بمثابة رسالة بعث بها الله إليه. وبعد ذلك أحس بسلام في قلبه وارتياح في داخله، فسلم أغسطينون حياته لأعظم قيادة وتسلّم المسيح دفة حياته، وتجددت طبيعته تجديداً جذرياً.

وقد حدث اهتداؤه في صيف 386م. وفي عيد القيامة سنة 387م تعمّد بالماء بيد الأسقف أمبروز في ميلانو.

وبعد ذلك قرر العودة مع أمه وأخيه إلى مسقط رأسه. وفي طريق عودته اعتلت صحة أمه التقية في «أوسيتا» واستمر مرضها لمدة تسعة أيام، وقبل وفاتها قالت لأغسطينوس: «إن الله قد أمدّ في عمري لسبب واحد, وهو كي أراك مؤمناً ومخلصاً ومسيحياً بالحق قبل أن أموت، والله الغني قد أبقاني لأراك خادمه الأمين تحتقر المنظور».

وفي تاسع يوم لمرضها وهي في السادسة والخمسين فارقت روحها جسدها الفاني، فحزن أغسطينوس كثيراً لوفاة أمه في أرض الغربة وذرف الدموع السخينة من أجلها، وهي التي ظلت سنوات طويلة تذرف الدموع من أجل خلاصه. وكتب قصة موتها في كتاب يعدّ من أروع وأبدع الآثار المسيحية في الأدب المسيحي القديم.

وبعد وفاة أمه سافر إلى روما، وهناك تفرغ لخدمة الكتابة حيث تمجد الرب من خلال قلمه وشهادته الحية التي كان يقدمها لاسم من فداه وخلّصه من حمأة الخطية يسوع المسيح الفادي.

الخادم الأمين

بعد وفاة «مونيكا» أم أغسطينوس سافر إلى روما ليخبر الناس عن أعمال الله العظيمة ويرشدهم إلى ذاك الذي قال عن نفسه: «أَنَا هُوَ اٰلطَّرِيقُ وَاٰلْحَقُّ وَاٰلْحَيَاةُ» (يوحنا 14:6)، يسوع المسيح المخلص الوحيد من سلطان الخطية والموت الأبدي. ولكي يحذر من فلسفة المانويين وفساد تعليمهم والأفكار الشريرة التي يزرعونها في عقول الناس، خاصة أنه اختبر خزعبلاتهم وشرب من سمومهم وعاش تسع سنوات في أحضانهم غائصاً في وحل مستنقعاتهم. كيف لا يقدر أن يكشف للناس عيوبهم وتعليمهم العقيم السقيم؟

وبعد هذا عاد إلى أفريقيا قرطاجة أولاً حيث قضى هناك فترة قصيرة، ثم أقلع إلى تاغسطا مسقط رأسه، فباع كل ممتلكاته ووزعها على الفقراء والكنيسة، وظل يتابع قراءة الكتاب المقدس والتأمل في الذات الإلهية في عزلة تامة وشركة حميمة مع خالقه والاستمتاع به؟ فأحسّ بضرورة إنشاء دير هناك، لكن أحد أصدقائه دعاه لزيارة مدينة «هبون»(Hippone) عنابة حالياً، وكانت هذه المدينة مشهورة إذ كانت عاصمة مقاطعة نوميديا آنذاك. وفي سنة 391م رسم أغسطينوس قسيساً في تلك المدينة، وبعد وفاء الأسقف السابق انتخب باختياره أسقفاً على مدينة «هبون» (عنابة) سنة 395م فتراكمت عليه المسؤوليات الجسام من رعاية للكنيسة، والرد على البدع المتفشية في الكنيسة، فألف الكثير من الكتب القيّمة والدراسات الهامة، ووضع العديد من الرسائل الدقيقة والشروحات العميقة التي تفيض بالخير والخصب الروحي في تفسير أجزاء متفرقة من الكتاب المقدس. وفي أواخر سنة 397م أو أوائل 398م سجل هذا المؤلف شهادة حية لعمل النعمة في حياته، ولصلاح الله ومحبته الفائقة الإدراك. في هذا الكتاب حطّم أغسطينوس قيود الحياء البشرية وسحق الكبرياء وقضى على الأنانية التي في ذاته ووقف عارياً أمام خالقه.

لقد كان أغسطينوس باستمرار نوذجاً حياً للراعي الصالح آنذاك متشبهاً بذاك الذي دعاه ليرعى خرافه ويعتني بها.

قيل أنّ عظاته كانت بسيطة جداً وقصيرة وواضحة للغاية. واللغة العامية هي التي كان يستخدمها أثناء خدمته التعبدية في الكنيسة، لأنّ معظم الناس الذين كانوا يستمعون إليه لم يكونوا يعرفون أو يتقنون اللغة اللاتينية بل اللغة الفينيقية لغة المنطقة آنذاك. فكانت لكلماته وقع طيب وقوي على سامعيه، حيث كان الله يمسح عظاته بمسحة الروح القدس، حتى أصبح أعظم واعظ في زمانه، وأكبر مدافع ومناضل لرسالة المسيح التي ائتمنه عليها ولاهوتياً كبيراً، وأسقفاً مثالياً، ورجل صلاة.

وفي 28 أوغسطس سنة 430م انتقل إلى المجد وهو محتفظ بكامل قواه العقلية تاركاً وراءه ذخيرة روحية لا تثمن بثمن للأجيال اللاحقة. وبعد شهرين من وفاته أحرقت مدينة «هبون» ودمرت عن بكرة أبيها. وبهذا يعتبر أغسطينوس أخر أسقف لمدينة هبون.

وبعد خمس سنوات احتل الوندال معظم أطراف شمال أفريقيا الي كانت تحت سيطرة الأمبراطورية الرومانية. كما أن المسيحية بدأت بالأفول بسب سرطان النحل والبدع المتعددة التي تفشت فيها.

مواجهة التيارات

«نعم كنت في شوق دائم للحياة السعيدة. لكن، كنت أخشى أن أذهب إليها في مكانها. ومع ابتعادي عنها، كنت أطلبها, وكنت أتخيل أنني إذا تركت شهوة الجسد أصير شقياً. ولم يخطر على بالي لجهلي، أنّ نعمتك تقدر على إزالة هذا الضعف عنا». أغسطينوس.

قضى أغسطينوس أسقف عنابة ما يقرب من ثلاث وأربعين سنة، مكرساً حياته لخدمة سيده الذي دعاه من وسط الظلمة العالم إلى النور. فاستخدم الله مواهب عبده المتعددة لخدمة كنيسته ومواجهة التيارات المعادية لإنجيل المسيح.

قاوم أغسطينوس بقوة وحماس كبير الزنادقة والبدع والهرطقات العديدة والمذاهب الفلسفية والدينية كالأكاديمية والمانوية، التي سبق أن انبهر ببريقها طويلاً، فرد على المانويين بشدة في مناقشات عمومية وفي المؤلفات التي صوّر فيها أخلاقهم وكشف عن عيوبهم وضعف عقيدتهم. كما أنه قام بهدم تعليم البلاجية - التي تنسب إلى راهب إنجليزي يُدعى مورجان - وقد قالت البلاجية: إنّ خطيئة آدم كانت فقط قدوة سيئة للجنس البشري وإنها لم تؤثر إلا في آدم وحواء، ولم ينجم عن السقوط أي فساد في الطبيعة البشرية، وإنّ الإنسان يولد في حالة البرارة وله نفس القوة الأدبية والطهارة اللتين كانتا لآدم وحواء عندما خلقهما الله، وله قوة الاختيار بين الخير والشر, ولا لزوم لعمل النعمة في قلب الخاطئ، لأنّ في داخل الإنسان قوة تجعله يسمو إلى أعلى درجة من القداسة. وهكذا تجاهل أصحاب هذه البدعة قول الكتاب القائل: «لأَنَّكُمْ بِاٰلنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِاٰلإِيمَانِ، وَذٰلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اٰللّٰهِ» كما أننا(أفسس 2:8). كما أننا نقرأ في الوحي المقدس قوله الحق: « فَإِذاً كَمَا بِخَطِيَّةٍ وَاحِدَةٍ صَارَ اٰلْحُكْمُ إِلَى جَمِيعِ اٰلنَّاسِ لِلدَّيْنُونَةِ، هٰكَذَا بِبِرٍّ وَاحِدٍ صَارَتِ اٰلْهِبَةُ إِلَى جَمِيعِ اٰلنَّاسِ، لِتَبْرِيرِ اٰلْحَيَاةِ. لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ اٰلإِنْسَانِ اٰلْوَاحِدِ جُعِلَ اٰلْكَثِيرُونَ خُطَاةً، هٰكَذَا أَيْضاً بِإِطَاعَةِ اٰلْوَاحِدِ سَيُجْعَلُ اٰلْكَثِيرُونَ أَبْرَارا»(رومية 5: 18 و19).

ثم وجّه قلمه للرد على بدعة آريوس (256-335) - كان آريوس ليبيّ المولد والمنشأ. أمّ الاسكندرية وتعلّم فيها - أكد آريوس على وحدانية الآب وقلل من منزلة الابن فلم يكن سوى إله فالآب وحده يستحق لقب الإله. أما الابن فلم يكن سوى إله ثانوي منخفض في الرتبة والمنزلة. وهذا التعليم شبيه جداً بتعليم شهود يهوى اليوم - وهاجم «الدوناتية» Donatisme. كانت هذه الحركة سياسية ترمي إلى التحرر من الاستعمار الروماني وسلطة الكنيسة الرومانية في منطقة شمال أفريقيا. فجاءت في ثوب حركة دينية واستخدمت الانشقاق الديني مبرراً لها في إقامة الفتنة داخل كنيسة المسيح. ومن بين هذه الجماعة: إنه حينما تكون أخلاق الأسقف مشبوهة ولا تليق بالرسالة المسيحية التي يحملها وبشر بها، فإنّ الطقوس الدينية التي يقوم بها ذلك الأسقف تكون باطلة. فردّ عليهم أغسطينوس بأنّ أخلاق الأسقف لا تؤثر مطلقاً على صحة أعمال وخدمات كنيسته.

وفي سنة 410 م حلت بروما الأزمة الكبيرة، إذ هجم الغوط على روما بقيادة الأريك واحتلوها بعد حصار طويل. فساروا يقتلون ويضطهدون الشعب وينهبون ممتلكاتهم وكل ما بالمدينة، فدبّ الرعب والخوف في قلوب المسيحيين المؤمنين. وفي هذه الأثناء قام خصوم المسيحيين يحملونهم مسؤولية هذه الكارثة، لأن الآلهة في رأيهم أنزلت غضبها الشديد على روما بسبب الدين المسيحي والمسيحيين. فقاوم أغسطينوس بتهدئة الأفكار وتثبيت الإيمان في النفوس التي تزعزعت، وقد رد على هجوم الأعداء واتهاماتهم للإيمان المسيحي في كتابه القيّم «مدينة الله»، مميزاً فيه بين زيف المجتمعات الدنيوية الفانية وبين مدينة الله الأزلية، بين نظام الحكم الأرضي والحكم السماوي، موضحاً فيه فشل الفلسفات والديانات الوثنية. وكان هذا أروع ما كتبه أغسطينوس. وقد ألف كتابه هذا ما بين سنة 413 م وسنة 426 م في اثنين وعشرين كتاباً.

كما أنه كتب خطباً كثيرة لم يبق منها إلا مئتان وست وسبعون رسالة لها أهمية كبيرة بالسنبة للتاريخ الديني وفهم نفسية الكاتب. وقد ترك لنا مؤلفات عديدة قيّمة جداً منها رسالته «الرد على الأكادميين»وكتاب «الحياة العتيدة» و «حرية الإرادة» ثم كتاب «خلود النفس» و «النعمة». ومن أعظم مؤلفاته كتابه الكبير المعروف باسم «مدينة الله» وترجمته الذاتية «الاعترافات».


Call of Hope 
P.O.Box 10 08 27 
D-70007
Stuttgart
Germany