العودة الى الصفحة السابقة
سيرة المسيح

سيرة المسيح

الكتاب السابع: موته وقيامته المجيدة

الدكتور. جورج فورد


Bibliography

سيرة المسيح. الكتاب السابع: موته وقيامته المجيدة. الدكتور. جورج فورد. الطبعة الأولى. 1986. Order Number SPB 7355 ARA. German title: Sein Tod und Seine Auferstehung (Heft 7). English title: His Death and Resurrection (booklet 7). Copyright © 1986 All Rights Reserved Call of Hope. P.O. Box 100827 D-70007 Stuttgart Germany Internet: http://www.call-of-hope.com - .

هذا الكتاب

يسر أسرة «نداء الرجاء» أن تصدر هذا الكتاب عن حياة السيد المسيح، في سبعة أجزاء.

وقد كتب هذا الكتاب في مجلد واحد باللغة العربية الدكتور جورج فورد في أوائل العشرينات من هذا القرن، بعنوان «كتاب القول الصريح في سيرة يسوع المسيح».

وقد قام محررو نداء الرجاء بإعادة كتابته في الصورة التي تراها الآن.

ونحن نأمل أن يتعرَّف القارئ الكريم على المسيح بطريقة شخصية، وأن يكون شعاره «نحن نحبه لأنه هو أحبّنا أولاً».

أسرة «نداء الرجاء»

1 - القبض على المسيح في بستان جثسيماني

«حِينَئِذٍ جَاءَ مَعَهُمْ يَسُوعُ إِلَى ضَيْعَةٍ يُقَالُ لَهَا جَثْسَيْمَانِي، فَقَالَ لِلتَّلامِيذِ: «ٱجْلِسُوا هٰهُنَا حَتَّى أَمْضِيَ وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ». ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَٱبْنَيْ زَبْدِي، وَٱبْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ. فَقَالَ لَهُمْ: «نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى ٱلْمَوْتِ. اُمْكُثُوا هٰهُنَا وَٱسْهَرُوا مَعِي» (متى 26: 36-38).

كل قادم وراءه نور، يسبِقه ظلُّه. فالصليب قادمٌ وراءه نور الخلاص، لذلك يظهر الآن ظله كثيفاً بعد ظهوراته الخفيفة السابقة، لأنه قبل غروب الشمس مرة أخرى، يظهر الصليب ذاته. خرج الإسخريوطي من علية العشاء وكان ليلاً. وبعد خروجه رسم المسيح فريضة العشاء الرباني، وتحدث بمناسبتِهِ، ثم ألقى على تلاميذه عظته الوافية وصلاته الشفاعية. فلا بد أن الليل كان قد انتصف عندما كمُلت الصلاة. لكن المسيح لا يستغني في هذا الوقت الرهيب عن اختلاء خصوصي مع الآب استعداداً لِمَا ينتظره، فإن الاستعدادات العدائية في المدينة تتكامل.

خرج المسيح ومعه تلاميذه الإثنا عشر من العلية يمرُّون بالأزقة المسقوفة تحت ستار السكينة والظلام، ويجتازون وادي قدرون في نور البدر متوجِّهين شرقاً إلى بستان في سفح جبل الزيتون، يملكه أحد محبّي المسيح في منطقةٍ اسمها جثسيماني (معناها معصرة). لذلك نرجح أن شجر هذا البستان في معصرة جبل الزيتون كان من نوع الزيتون. وأن المسيح اختار ظل هذه الأشجار الكثيف مخدعاً للصلاة.

وعندما دخلوا البستان أجلس المسيح ثمانية من التلاميذ هناك، وأوصاهم أن يصلُّوا لئلا تتغلب عليهم التجربة التي تأتيهم. وتقدم أكثر إلى الداخل يرافقه تلاميذه الثلاثة: بطرس ويعقوب ويوحنا، فشاهدوا المسيح في حزن واكتئاب. كان الثلاثة قد رافقوه على جبل التجلي، وشاهدوا منه بهجة ومجداً وجلالاً. وكانت هذه المشاهدة الجديدة على جبل الزيتون ضرورية لإِعلان بشريته الحقيقية، كما أعلنت مشاهد جبل التجلي بنويته الحقيقية للّه. قد أراهم المسيح في جبل التجلي شمس عظمته في أفقها الأرضي، وها هو في جثسيماني يريهم بداءة كسوفها في آلام اتضاعه، كسوفاً لا يقلُّ عجباً عن مجدها. فالحادثان مرتبطان برباطٍ لا ينفصم.

اختار المسيح الانفراد التام في مصارعته الأخيرة مع إبليس، ومقابلته العظمى مع أبيه، وتسليمه التام لمشيئته. ونحن نتعجب أن المسيح الذي قَبْل هذا الوقت بساعة كان يقدِّم عظة ثم صلاة ملؤها الابتهاج والمجد، يقول الآن: «نفسي حزينة جداً حتى الموت». السبب أنه قد أتت الساعة التي لأجلها جاء من السماء. ثم أوصى رفقاءه الثلاثة قائلاً: «امكثوا ههنا واسهروا معي». وتقدَّم قليلاً وانفصل عنهم نحو رمية حجر، وجثا على ركبتيه وخرَّ على وجهه على الأرض، وكان يصلي. ما ألطف وأجمل وأكرم طلبه منهم «اسهروا معي»!

المسيح يصلي في جثسيماني

«ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلاً: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هٰذِهِ ٱلْكَأْسُ، وَلٰكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ». ثُمَّ جَاءَ إِلَى ٱلتَّلامِيذِ فَوَجَدَهُمْ نِيَاماً، فَقَالَ لِبُطْرُسَ: «أَهٰكَذَا مَا قَدَرْتُمْ أَنْ تَسْهَرُوا مَعِي سَاعَةً وَاحِدَةً؟ اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لِئَلا تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ. أَمَّا ٱلرُّوحُ فَنَشِيطٌ وَأَمَّا ٱلْجَسَدُ فَضَعِيفٌ». فَمَضَى أَيْضاً ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلاً: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هٰذِهِ ٱلْكَأْسُ إِلا أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ». ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهُمْ أَيْضاً نِيَاماً، إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً. فَتَرَكَهُمْ وَمَضَى أَيْضاً وَصَلَّى ثَالِثَةً قَائِلاً ذٰلِكَ ٱلْكَلامَ بِعَيْنِهِ. ثُمَّ جَاءَ إِلَى تَلامِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: «نَامُوا ٱلآنَ وَٱسْتَرِيحُوا. هُوَذَا ٱلسَّاعَةُ قَدِ ٱقْتَرَبَتْ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلْخُطَاةِ. قُومُوا نَنْطَلِقْ. هُوَذَا ٱلَّذِي يُسَلِّمُنِي قَدِ ٱقْتَرَبَ» (متى 26: 39-46).

ها هو المسيح بطل السماء الطاهرة، ووحيد الآب وواحد معه، لا يطيق ما يراه أمامه من ساعةٍ فيها يخفي هذا الآب وجهه عنه. وسبب ذلك أنه في موته الفدائي سيتحمَّل لعنة الشريعة كحامِل خطايا البشر. وهو لا يطيق ذلك، إنْ كان لدى الآب وسيلةٌ أخرى لتخليص البشر بغير هذا العذاب الفائق. إنه يأبى أن يتحمل غضب أبيه ولو لحيظة. هذه أسباب اكتئابه الآن وصراخِه في صلاته لكي تعبر عنه الساعة إنْ أمكن، وطلبه من الآب ثلاث مرات أن يُجيز عنه هذه الكأس. كان في جهادٍ يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دمٍ نازلة على الأرض.

علم المسيح أن إبليس لا يهاجمه وحده ليثنيه عن عزمه في تتميم الفداء بموته على الصليب، بل يهاجم أيضاً تلاميذه، فحذَّر تلاميذه من إبليس وأوصاهم أن يسهروا معه ويصلوا لأجله ولأجل ذواتهم. كنا نظن أن النوم يستحيل عليهم في ساعة كهذه، لكن الواقع أنهم استسلموا حالاً للنوم كما ناموا على جبل التجلي.

ثم ركع المسيح للصلاة، وتحدث مع أبيه. لم يطلب أن تعبر عنه هذه الكأس وسكت، لكنه مضى يقول: «لكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت».

بعد الصلاة الأولى عاد المسيح إلى تلاميذه وأيقظهم، ثم وجَّه توبيخه اللطيف إلى بطرس أولاً، ثم إلى الجميع بقوله: «لماذا أنتم نيام؟ أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة». وأردف توبيخه بعبارة الحنوّ: «أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف». ثم عاد إلى صلاته ثانية، وكانت مؤثرة أكثر من الأولى، وفيها لهجة المعاناة والألم. وبعدها وجد الثلاثة مثقَّلين أيضاً بالنوم، ولما أيقظهم لم يعلموا بماذا يجيبونه. ثم مضى وصلى ثالثة الصلاة السابقة قائلاً ذلك الكلام بعينه. من عدم استجابة الآب للمسيح في كل ما طلبه، وعلى الصورة التي طلبها في بشريته، عرفنا أهمية شُربه هذه الكأس، لأن محبة اللّه الغير محدودة لابنه الوحيد، لا يمكن أن تتركه في عذابات كهذه دون اضطرار كلي. لكن الآب الذي يحب البشر الساقطين الذين جعلوا أنفسهم أعداءه، لم يشفق على ابنه (الوحيد) بل بذله لأجلنا أجمعين (رومية 8: 32).

لما أيقظ المسيح بطرس ويعقوب ويوحنا ثالث مرة، أكد لهم أن فرصة السهر والصلاة قد فاتت، فنومهم ويقظتهم سيَّان. قال: «ناموا الآن واستريحوا. يكفي. قد أتت الساعة. هوذا ابن الإنسان يُسلَّم إلى أيدي الخطاة». محبُّوه نيام لكن الخائن يقظان. الإسخريوطي لا يحتاج إلى وصية أن يسهر. أليست هذه شهادة التاريخ أن «أَبْنَاءَ هٰذَا ٱلدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ ٱلنُّورِ فِي جِيلِهِمْ» (لوقا 16: 8)؟ مع أن سهر قوات الشر في العالم مدعاةٌ لمضاعفةِ سهرِ قواتِ الخير ويقظتها.

وأظهر المسيح مرة أخرى اهتمامه بيهوذا الذي باع نفسه، كما باع سيده بثلاثين من الفضة، مع أنه جاهد ليربّيه في الصلاح ويقوده إلى الخلاص، فقال: «هوذا الذي يسلّمني قد اقترب». سلّم المسيح نفسه لأبيه في هذا البستان قبل أن يسلّم جسده لأعدائه عند باب البستان، وبذلك التسليم تمَّ الفداء جوهرياً، وصار فِعْل الصليب وآلامه الجسدية تكملةً فقط لعمله الجوهري في جثسيماني.

يهوذا يقود الرؤساء

«وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، إِذَا يَهُوذَا أَحَدُ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ قَدْ جَاءَ وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَشُيُوخِ ٱلشَّعْبِ. وَٱلَّذِي أَسْلَمَهُ أَعْطَاهُمْ عَلامَةً قَائِلاً: «ٱلَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ». فَلِلْوَقْتِ تَقَدَّمَ إِلَى يَسُوعَ وَقَالَ: «ٱلسَّلامُ يَا سَيِّدِي!» وَقَبَّلَهُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «يَا صَاحِبُ، لِمَاذَا جِئْتَ؟» حِينَئِذٍ تَقَدَّمُوا وَأَلْقَوُا ٱلأَيَادِيَ عَلَى يَسُوعَ وَأَمْسَكُوهُ. وَإِذَا وَاحِدٌ مِنَ ٱلَّذِينَ مَعَ يَسُوعَ مَدَّ يَدَهُ وَٱسْتَلَّ سَيْفَهُ وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ، فَقَطَعَ أُذْنَهُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلسَّيْفَ بِٱلسَّيْفِ يَهْلِكُونَ! أَتَظُنُّ أَنِّي لا أَسْتَطِيعُ ٱلآنَ أَنْ أَطْلُبَ إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ ٱثْنَيْ عَشَرَ جَيْشاً مِنَ ٱلْمَلائِكَةِ؟ فَكَيْفَ تُكَمَّلُ ٱلْكُتُبُ: أَنَّهُ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ؟» (متى 26: 47-54).

نعود بالفكر إلى الإسخريوطي الذي قضى مع شيوخ اليهود هذه الساعات في التدبير لنجاح مشروعهم، بينما كان غيرهم من أهل المدينة مثقلين بالنوم بعد وليمة عشاء الفصح، والمسيح وتلاميذه في البستان. فارق الإسخريوطي المسيح والتلاميذ في علية العشاء، وهو يعلم أنه لا سلاح معهم إلا السيفين، ولا أنصار لهم بين الشعب في ساعات النوم، فطمأن شركاءه الرؤساء أن المسيح لن يستخدم قوته المعجزية ليتخلص منهم، لأنه أعلن مراراً نيّته أن يسلِّم نفسه للصليب، فلا صعوبة تُذكر في القبض عليه في العلية وتسليمه باكراً للحكومة الرومانية، ما دام الجمهور نائماً.

لكنهم لم يجدوه في العلية، فرأى الإسخريوطي أن يفتشوا عنه في بستان جثسيماني، حيث يُرجَّح وجوده. فزادوا القوة التي معهم وهيأوا ما يحتاجون إليه لأجل عملهم خارج المدينة. نعلم أن الذين بلغوا البستان هم يهوذا والجند الروماني المقيم بجوار الهيكل، الذين وضعهم الوالي تحت إمرة رؤساء اليهود، وخدام رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين وشيوخ الشعب، حتى أصبحوا جمعاً كثيراً بمشاعل ومصابيح وسلاح بسيوف وعصيّ. ولئلا يقع غلط في الليل ويقبض الجند على أحد التلاميذ بدلاً من المسيح فيتسنّى له الهرب من بينهم تحت جناح الليل، تم الاتفاق أن الإسخريوطي الذي يعرف المسيح جيداً يعطيهم علامة تقيهم من الغلط. وقال لهم: «الذي أقبله هو هو».

تقدم الإسخريوطي إلى المسيح وقال: «السلام يا سيدي». وقبّله لا قبلة واحدة بسيطة بل قبلات عديدة، كأنه أوفر الناس حباً له. أما المسيح فكان لا يزال يحاول أن يخلّصه من فساد قلبه إن أمكن، فقال له: «يا صاحب، لماذا جئت؟ يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟». وعمل المسيح هذا مع الإسخريوطي مثال مفيد يقدِّم لأعظم الخطاة رجاء بأن المخلِّص لا يهمله لكثرة شروره. وفيه درس لصيادي النفوس يجعلهم يتمسكون إلى النهاية بتخليص النفوس الهالكة مهما توغلت في الآثام.

يظهر أن يهوذا وبعض القادة دخلوا البستان، بينما بقي الباقون خارجاً ينتظرون أوامر القادة. وعندما خرج يهوذا مع المسيح من البستان، رأى المسيح الجمع المحتشد بالأسلحة، فكان همُّه الأول أن يحمي تلاميذه من الضرر، فسأل الجمهور: «من تطلبون؟» أجابوه: «يسوع الناصري». فقال لهم «أنا هو». فأرعبتهم هيبته جداً حتى رجعوا إلى الوراء، هم والخائن، وسقطوا على الأرض. بذلك تأكد لهم أنهم لا يأخذونه دون إرادته.

ولما نهضوا أعاد السؤال عليهم ثانية. فلما أجابوا كالأول، دون أن يتقدموا قال لهم: «قد قلتُ لكم إني أنا هو، فإنْ كنتمُ تطلبونني فدعوا هؤلاء (أي تلاميذه) يذهبون». وقف أمامهم كآمِرٍ فأطاعوا. ليست هذه المرة الأولى التي أرعب المسيح فيها جمهوراً معادياً فأحبط مقاصدهم ضده، لكنها أعظم تلك الحوادث وأغربُها. لقد اكتسب المسيح من سهره وصلاته وتسليمه للآب في البستان قوة وهَيْبة جديدة. وعندما شاهد أعداؤه هيبته ظهر جُبْنهُم، لأن ضمائرهم كانت تشهد ضدهم.

لم ينصرف التلاميذ عند قول المسيح لأعدائه: «دعوا هؤلاء يذهبون» لأنهم تذكروا وعْدَهم أنهم يذهبون معه للسجن والموت، وأن سيدهم قال لهم في هذا المساء: «مَنْ ليس له سيف فليبعْ ثوبه ويشتري سيفاً». ولما قالوا له: «هنا سيفان». قال لهم: «يكفي» ظنوا أنه يريدهم أن يدافعوا عنه بالقوة. فلما رأوا أن الذين أمسكوه لم يكتفوا بمَسْكه، بل أوثقوه (أي ربطوا يديه وراء ظهره، كعادتهم عند مَسْك أصحاب الجرائم الكبيرة» تحمَّسوا فسألوا سيدهم بعبارة التعظيم أمام خصومه: «يا رب، أنضرب بالسيف؟».

يظهر أن بطرس لاحظ أن المهاجِم الأعظم على سيده، كان عبد رئيس الكهنة، فلم يصبر ليسمع جواب المسيح، بل استَّل السيف الذي معه، وضرب به هذا العبد (واسمه ملخس) على رأسه ليقتله، لكنه لم يصِبْ إلا أذنه اليمنى فقطعها. اهتم المسيح حالاً بإصلاح خطأ بطرس، كما اهتم أن يُظهِر حبَّه لأعدائه واستعدادَه أن يفعل معجزة لخيرهم، وفي الوقت ذاته يوضح لأعدائه مقامه الحقيقي. لم يتسلطوا عليه إلا برضاه، فأظهر أولاً استياءه من فعل بطرس، وأمَرَه أن يردَّ سيفه إلى غمده. وذكَّره بالحكمة القديمة القائلة إن: «الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون». ثم علّمه أنه لا يحتاج إلى بشرٍ يخلِّصون، فهو لا ينتظر من التلاميذ أن يعِينوه بالقوة. ولو احتاج لمعونة لطلب من أبيه فيرسل له أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة. أَوَلا يعلم بطرس حتى الآن أن القبض على سيده ينبغي أن يكون لكي تُكمل نبوات التوراة؟ ثم طلب المسيح أن يقدموا ملخس إليه، وهذا يعني تخفيف القيود التي تقيد يدي المسيح. فلما حلوه، مد يده وشفى أذن ملخس وفقاً لوصيته: «أحسنوا إلى مبغضيكم». وكانت هذه المعجزة خاتمة معجزاته قبل صلبه.

ولما عرف التلاميذ أن المسيح لا يطلب مساعدتهم، وأن بقاءهم تحت الخطر لا يفيد سيدهم شيئاً، تركوه كلهم وهربوا. فتمت نبوته لهم وهم في العلية أنهم جميعاً سيتركونه.

2 - شيوخ اليهود يحاكمون المسيح

كان حق توقيع حكم الإعدام للوالي الروماني وحده، ولو أن الحكومة الرومانية، كانت تنفذ أحكام رؤساء الدين اليهودي بسهولة، منعاً للمشاكل.

وكان لليهود رئيسان للكهنة، أولهما حنان - الرئيس الشرعي. ولكن الوالي الروماني كان قد عزله منذ عشرين سنة، وأقام صهره قيافا رئيساً للكهنة بدله. وكان حَنّان صاحبَ نفوذ عند الشعب، كما كان صانع المكائد الأكبر ضد المسيح.

أخذ الجنود المسيح بعد القبض عليه في البستان إلى بيت حنان، وكان تلاميذه قد هربوا، لكن يوحنا التلميذ الحبيب رجع وانضم إلى الجمهور المتَّجه من البستان إلى دار رئيس الكهنة. ولأنه كان معروفاً ومقبولاً فيها، دخل مع الداخلين. ورجع سمعان بطرس أيضاً وتبعهم لكن من بعيد، فلما وصل بعد الآخرين أوقفتْهُ الجارية البوابة، فطلب منها أن تستدعي له من داخل صديقه ورفيقه يوحنا. فلما خرج يوحنا وتكلم مع الجارية أدخل بطرس معه إلى الدار، لكن ليس إلى غرفة الرئيس حيث دخل هو.

يظهر أن الرئيس قيافا أرسل حالاً فجمع ليلاً الذين أرادهم من رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ، لكي يُجْروا محاكمة غير رسمية يُصدِرون فيها حكماً رسمياً معجَّل التنفيذ، ليتمكَّنوا من تسليم المسيح باكراً للوالي الروماني، لكي ينفّذ حكمهم بالإعدام قبل يوم ذبيحة الفصح، لأن شريعة موسى كانت تحرم أي عمل مثل هذا يوم عيد الفصح وفي أيام العيد بعده.

أمام رئيس الكهنة

«فَسَأَلَ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ يَسُوعَ عَنْ تَلامِيذِهِ وَعَنْ تَعْلِيمِهِ. أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَنَا كَلَّمْتُ ٱلْعَالَمَ عَلانِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي ٱلْمَجْمَعِ وَفِي ٱلْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ ٱلْيَهُودُ دَائِماً. وَفِي ٱلْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ. لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا؟ اِسْأَلِ ٱلَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ. هُوَذَا هٰؤُلاءِ يَعْرِفُونَ مَاذَا قُلْتُ أَنَا». وَلَمَّا قَالَ هٰذَا لَطَمَ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْخُدَّامِ كَانَ وَاقِفاً، قَائِلاً: «أَهٰكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ ٱلْكَهَنَةِ؟» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيّاً فَٱشْهَدْ عَلَى ٱلرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَناً فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟» وَكَانَ حَنَّانُ قَدْ أَرْسَلَهُ مُوثَقاً إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ» (يوحنا 18: 19-24).

يا لغرابة الصورة التي أمامنا الآن! ها رئيس الكهنة الأصلي الحقيقي المُقام من اللّه (المسيح) يقف مكتوفاً مخفوراً ليُحاكَم أمام شخصٍ اختلس اسْمَ رئيس الكهنة ووظيفتَه ومقامَه، بعد أن حصل على موافقة والٍ شريرٍ وثني.

اتهم رئيس الكهنة المسيح أنه قائد مجموعة من المتآمرين لإثارة فتنة ضد الحكومة. بدليل مرافقة الجماهير له في جولاته، فسأله عن تلاميذه وتعليمه. وكان جواب المسيح: «في الخفاء لم أتكلم بشيء. لماذا تسألني أنا؟ إسأل الذين قد سمعوا ماذا كلمتُهم. هوذا هؤلاء يعرفون ماذا قلتُ أنا؟». ولو أن المسيح لبَّى طلب رئيس المحكمة وشَرحَ تعاليمه لَمَا كان لجوابه تأثيرٌ في المحاكمة القانونية، ولَمَا أقنع سائليه. ولم يعجب ردُّ المسيح واحداً من الخدم الواقفين في الغرفة فلطم المسيح ووبّخه على جوابه للرئيس. ولا شك أننا نذكر تعليم المسيح في وعظه على الجبل بأن المضروب على أحد خديه يحوّل للضارب خده الآخر، الذي لم يقصِدْ منه المعنى الحرفي، ولا أن إطلاقه يكون على كل الظروف. فبدلاً من خضوعه لهذه اللطمة بسكوت، وبَّخ الخادم الذي ضربه بكل رزانة وحق قائلاً: «إنْ كنتُ تكلمتُ ردياً فاشهد على الرديء، وإنْ حسناً فلماذا تضربني؟». أما اللطمات الأخرى التي أتته بعد حين فلم يعترض عليها بشيء.

شهود الزور

«وَكَانَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخُ وَٱلْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوا. وَمَعَ أَنَّهُ جَاءَ شُهُودُ زُورٍ كَثِيرُونَ، لَمْ يَجِدُوا. وَلٰكِنْ أَخِيراً تَقَدَّمَ شَاهِدَا زُورٍ وَقَالا: «هٰذَا قَالَ إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ ٱللّٰهِ، وَفِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيهِ». فَقَامَ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هٰذَانِ عَلَيْكَ؟» وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتاً. فَسَأَلَهُ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ: «أَسْتَحْلِفُكَ بِٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضاً أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ ٱلآنَ تُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ ٱلْقُوَّةِ، وَآتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ». فَمَزَّقَ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قَائِلاً: «قَدْ جَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ! مَاذَا تَرَوْنَ؟» فَأَجَابُوا وَقَالُوا: «إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ ٱلْمَوْتِ». حِينَئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ، وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ قَائِلِينَ: «تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا ٱلْمَسِيحُ، مَنْ ضَرَبَكَ!» (متى 26: 59-68).

أهتم الرؤساء كثيراً بتدبير شهود زور. لكن لم تتفق شهاداتهم. أخيراً تنسّموا نجاحاً من شاهدين يشهدان بأن المسيح قال إنه يهدم الهيكل ثم يُقيمه في ثلاثة أيام. وهذا تحريف لكلام قاله منذ ثلاث سنين في الهيكل لما طهَّره أول مرة، وكان يَقصد به هيكل جسده. لكن كلام الشاهديْن اختلف فسقطت شهادتُهما، فاحتدَّ الرئيس ووقف في الوسط وطلب من المسيح أن يدافع عن نفسه جواباً على الشهود. «فلم يجبه بكلمة». فتحققت نبوة إشعياء القائلة: «ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ» (إشعياء 53: 7).

عند ذلك قال الرئيس: «استحلفك باللّه الحي أن تقول لنا: أأنت المسيح ابن اللّه؟». لم يقدر المسيح أن يسكت عند هذا السؤال، لئلا يُؤخذ سكوته دليلاً على رجوعه عن تصريحاته السابقة بهذا المعنى، أو على خوفه من مضطهديه، لذلك أجاب حالاً بالإِيجاب. وزاد قوله إنهم سوف يبصرونه كابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء.كأنه يتنبأ للرئيس وللمحكمة عن يوم يأتي، حين تتبدَّل الأمور، فيكون هو الديَّان الذي يدين الرئيس وقومه.

ما هذا الكلام الغريب العظيم من مكتوفٍ يُحاكم، يوجِّهه إلى محاكميه الذين بيدهم حياته؟ وهل يحقُّ لمجرد بشرٍ أن يقول كلاماً كهذا؟ وتظاهر الرئيس بأنه لا يحتمل أن يسمع كلاماً يعارض العظمة الإلهية، فمزَّق ثيابه وقال: «قد جدف. ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ ها قد سمعتم تجديفه. ما رأيكم؟».

لا يحقُّ لرئيس أن يعلن رأيه في قضية مطروحة لحكم المجلس، لأن ذلك يؤثر تأثيراً مهماً في الأصوات بعده. وكان القانون العبراني العادل يقضي بأن تُؤخذ في المجالس أصوات الأصاغر فيه قبل الأكابر. ومن هذا نرى أن قيافا فقد صلاحيته كحاكم في هذا الوقت، عندما أصدر حكمه أن المسيح جدف، الأمر الذي يعني قتل المسيح. ولكنه حصل على موافقة جميع زملائه في المجلس أن المسيح يستحق الموت.

ولما رأى الخدم والحرس العسكري أن الرؤساء حكموا بصوت واحد على المسيح بأعظم جريمة دينية ممكنة، وأنهم مستاؤون منه غاية الاستياء، أطلقوا العنان لميولهم الوحشية، عالمين أنهم بذلك يسُرُّون الرؤساء. ومع أن المحاكمة الرسمية لم تكن قد بدأت أخذوا يبصقون في وجه المسيح، ويغطُّون وجهه ويلكمونه، ويقولون: «تنبأ لنا أيها المسيح، من هو الذي ضربك؟» ثم جلدوه وأجروا عليه أنواع الإستهزاء المُهين، تحقيقاً للنبوة القديمة القائلة: «بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ ٱلْعَارِ وَٱلْبَصْقِ» (إشعياء 50: 6).

كانت محاكمة المسييح في غرفة تشرف على الدار الخارجية، حيث تجمَّع الخدم والعبيد. وفي أوائل نيسان يشتد البرد قبيل الفجر. فأضرموا جمراً في وسط الدار ليستدفئوا، وانضمَّ بطرس إليهم. ويظهر أن بطرس لم يعترض على شيء من الكلام المُهين الذي دار بينهم في حق سيده، فلم ينتقده أحد. لكن بعد حين تقدمت «البوابة» التي فتحت له، وتفرست فيه، وقالت له: «وأنت كنت مع يسوع الناصري الجليلي. ألست أنت أيضاً من تلاميذ هذا الإنسان؟». فأنكر قدام الجميع قائلاً: «لستُ أنا (أي لست من تلاميذ هذا الإنسان). لست أدري ولا أفهم ما تقولين. ولست أعرفه يا امرأة».

بطرس ينكر المسيح

«وَبَيْنَمَا كَانَ بُطْرُسُ فِي ٱلدَّارِ أَسْفَلَ جَاءَتْ إِحْدَى جَوَارِي رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ. فَلَمَّا رَأَتْ بُطْرُسَ يَسْتَدْفِئُ، نَظَرَتْ إِلَيْهِ وَقَالَتْ: «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ!» فَأَنْكَرَ قَائِلاً: «لَسْتُ أَدْرِي وَلا أَفْهَمُ مَا تَقُولِينَ!» وَخَرَجَ خَارِجاً إِلَى ٱلدِّهْلِيزِ، فَصَاحَ ٱلدِّيكُ. فَرَأَتْهُ ٱلْجَارِيَةُ أَيْضاً وَٱبْتَدَأَتْ تَقُولُ لِلْحَاضِرِينَ: «إِنَّ هٰذَا مِنْهُمْ!» فَأَنْكَرَ أَيْضاً. وَبَعْدَ قَلِيلٍ أَيْضاً قَالَ ٱلْحَاضِرُونَ لِبُطْرُسَ: «حَقّاً أَنْتَ مِنْهُمْ، لأَنَّكَ جَلِيلِيٌّ أَيْضاً وَلُغَتُكَ تُشْبِهُ لُغَتَهُمْ». فَٱبْتَدَأَ يَلْعَنُ وَيَحْلِفُ: «إِنِّي لا أَعْرِفُ هٰذَا ٱلرَّجُلَ ٱلَّذِي تَقُولُونَ عَنْهُ!» وَصَاحَ ٱلدِّيكُ ثَانِيَةً، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ ٱلْقَوْلَ ٱلَّذِي قَالَهُ لَهُ يَسُوعُ: «إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ ٱلدِّيكُ مَرَّتَيْنِ، تُنْكِرُنِي ثَلاثَ مَرَّاتٍ». فَلَمَّا تَفَكَّرَ بِهِ بَكَى» (مرقس 14: 66-72).

لكن إنكاره أوقد حريقاً في قلبه، فتركهم وخرج خارجاً إلى الدهليز. وبينما هو هناك سمع صوت صياح الديك. واعترضته جارية أخرى أكّدت للحاضرين أن هذا منهم. فأنكر بقَسَم تثبيتاً لإنكاره السابق لكي لا يكشفوا كذبه. أخيراً بعد ساعة زاد عليه الاعتراض من الذين أكدوا أنه أحد تلاميذ المسيح، ولا سيما أن لهجته الجليلية تدلُّ على ذلك، إلى أن ظهر بينهم نسيب ملخس الذي قطع أذنه في البستان، وقال إنه رآه مع المسيح هناك.

ولما رأى بطرس شدة الخطر الذي يتهدده، وعرف أن الإنكار البسيط كالسابق لا يكفيه، أخذ يحلف ويلعن مؤكداً أنه لا يعرف المسيح.

لم يفرغ بطرس من إنكاره الفظيع، إلا وصاح الديك ثانية. وكان المسيح ينتظر هذا الصياح لينقذ تلميذه من الهوَّة التي تورط فيها، فحوَّل اهتمامه عن عذابه في تلك المحاكمة وما يتبعها، ليسأل عن نفس هذا البطل الساقط. وأدار وجهه عن رئيس الكهنة والرؤساء لينظر إلى بطرس في الدار، فالتقَت عينا المسيح بعيني تلميذه، بالاتفاق مع صياح الديك. وأسَرَ المسيحُ قلْبَ بطرس بلفْتةِ الحب المقترن بالحزن. فابتدأت دموعه تسيل نهراً، وتغلَّبت فيه العواطف الشريفة على الدنيئة، وحلّت التوبة القلبية الصافية محل الجحود والإنكار، فعلم أن خطيئته قد غُفرت وأن صلاة المسيح لأجله لكي لا يفنى إيمانه قد استُجيبت. لم يعُد بطرس يسأل: ماذا يقول الناس عنه، ولا ماذا يتهدده من الخطر. لكنه سأل فقط عن رضى سيده حبيب نفسه. «فخرج إلى خارج وبكى بكاء مراً». ونال الغفران التام.

«هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَٱلْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَٱلثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَٱلدُّودِيِّ تَصِيرُ كَٱلصُّوفِ» (اش 1: 18). «أَنَا أَنَا هُوَ ٱلْمَاحِي ذُنُوبَكَ لأَجْلِ نَفْسِي، وَخَطَايَاكَ لا أَذْكُرُهَا» (إشعياء 43: 25) «طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ » (مز 32: 1). والمسيح الذي خلّص بطرس بلَفْتَتِه، ينجّي في كل حين من أعمال الإِثم ودركاته كلَّ من ينظر إليه نظرة الإيمان.

محاكمة المسيح صباحاً

«وَلَمَّا كَانَ ٱلنَّهَارُ ٱجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ ٱلشَّعْبِ: رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ، وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ قَائِلِينَ: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمسِيحَ فَقُلْ لَنَا». فَقَالَ لَهُمْ: «إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لا تُصَدِّقُونَ، وَإِنْ سَأَلْتُ لا تُجِيبُونَنِي وَلا تُطْلِقُونَنِي. مُنْذُ ٱلآنَ يَكُونُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ ٱللّٰهِ». فَقَالَ ٱلْجَمِيعُ: «أَفَأَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُوَ». فَقَالُوا: «مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شَهَادَةٍ؟ لأَنَّنَا نَحْنُ سَمِعْنَا مِنْ فَمِهِ». فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلاطُسَ» (لوقا 22: 66-23: 1).

كانت المحاكمة في الليل غير قانونية - وما أن أشرق صباح يوم الجمعة حتى قرَّر شيوخ اليهود أن يصدِروا حكمهم الذي اتفقوا عليه خلال الليل. ولما عقدوا جلستهم الرسمية سألوه إن كان هو المسيح المنتظر، فأجابهم: «إنْ قلتُ لكم لا تصدقون، وإنْ سألتكم لا تجيبونني». ثم كرر عبارته السابقة بخصوص جلوسه عن يمين القوة الإلهية. فسألوه: «أفأنت ابن اللّه؟» ولما أجابهم بالإيجاب قالوا: «ما حاجتنا بعد إلى شهود، لأننا نحن سمعنا من فمه؟».

فحكم هذا المجلس الملي المعظَّم على المسيح بالإِعدام، لارتكابه جريمة التجديف. فماذا يفعل المجلس الآن بعد حكمه هذا؟

كان لا بد أن يصدق الوالي الروماني بيلاطس على هذا الحكم، ليصبح نافذ المفعول. ولما كان اليوم التالي من أيام عيد الفصح الهامة التي تدوم أسبوعاً، كان عليهم أن يسرعوا للحصول على موافقة بيلاطس، لأنه لو لم ينفَّذْ هذا الحكم يوم الجمعة لاقتضى الأمر تأجيله أسبوعاً كاملاً. ومن يدري ما سيحدث خلال هذا الأسبوع؟ سيحاول الشعب أن يخلصه من الحكم الظالم.. لذلك قام كل جمهورهم وجاءوا إلى دار الولاية ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي.

ما هذه الصورة المحزنة والمكدرة؟ ها رؤساء الشعب معلمو الشريعة الإلهية الطاهرة، يسيرون في مقدمة جمع في شوارع المدينة المقدسة، ليسلّموا مسيحهم ورجاءهم الوحيد، ورجاء العالم أجمع، إلى والٍ قاسٍ ظالم وثني ليصلبه.

يهوذا ينتحر

«حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا ٱلَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ، نَدِمَ وَرَدَّ ٱلثَّلاثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخِ قَائِلاً: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً». فَقَالُوا: «مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ!» فَطَرَحَ ٱلْفِضَّةَ فِي ٱلْهَيْكَلِ وَٱنْصَرَفَ، ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ. فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ ٱلْفِضَّةَ وَقَالُوا: «لا يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي ٱلْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ». فَتَشَاوَرُوا وَٱشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ ٱلْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ. لِهٰذَا سُمِّيَ ذٰلِكَ ٱلْحَقْلُ «حَقْلَ ٱلدَّمِ» إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ. حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا ٱلنَّبِيِّ: «وَأَخَذُوا ٱلثَّلاثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ، ثَمَنَ ٱلْمُثَمَّنِ ٱلَّذِي ثَمَّنُوهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَعْطَوْهَا عَنْ حَقْلِ ٱلْفَخَّارِيِّ، كَمَا أَمَرَنِي ٱلرَّبُّ» (متى 27: 3-10).

وهنا شعر يهوذا الإسخريوطي أنه أجرم في حق المسيح. ربما تمنّى أن يُفلت المسيح من قبضتهم بقوته ومعجزاته. ولكن لما رأى أن المحاكمة ماضية في الطريق وأن المسيح يواجه الموت، أسرع لشيوخ اليهود يردُّ الثلاثين من الفضة ويقول: «قد أخطأت إذْ سلّمتُ دماً بريئاً». ولم يكن رؤساء اليهود يهتمُّون بمحاكمة عادلة، فجاوبوا يهوذا باحتقار قائلين: «ماذا علينا؟ أبصر أنت؟».

ألقى يهوذا بالفضة إليهم. ولكن تمسُّكهم الظاهري بالشريعة جعلهم يرفضون إعادتها للخزانة، فتغلَّبوا على المشكلة بأن اشتروا بالمال حقلاً جعلوه مقبرة للغرباء، فتحقَّقت نبوة هامة في التوراة (زكريا 11: 12 ، 13).

ولما رأى الإسخريوطي أن المسيح لم يَنْجُ من الموت، ندم غاية الندم، لكن ندمه كان مختلفاً عن ندم بطرس الذي أنكر، فقد سعى ليصلح أمره مع الناس فقط. اعترف للبشر أولاً، فلقي الفشل الذي يصيب كل من يقدِّم أولاً للبشر اعترافه بخطاياه. توهم أنه يقدر أن يصلح ما فعل وهذا مستحيل. كان عليه أن يستغفر من اللّه أولاً، ويطلب منه أن يصلح ما أفسده هو.

مسكين الإسخريوطي، أولاً وأخيراً... مضى وخنق نفسه. سقط على وجهه وانشقَّ من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها. فأي نتيجة مرعبة هذه التي تجانس خيانته العظيمة؟ هذه لمحة من عذاب جهنم، أبرقت منها على العالم عبرة ومثالاً. فمن لا يتَّعظ بها؟

3 - الوالي الروماني يحاكم المسيح

في الصباح الباكر من يوم الجمعة بلغ الوالي في مخدعه قدومَ رئيس الكهنة مع مجلسه الموقَّر، وأنهم أحضروا معهم النبيَّ الناصري الشهير، صانع المعجزات الفائقة، مكتوفاً ومخفوراً، على صورةٍ تدلُّ أنه ارتكب جريمة عظيمة. وكان رؤساء اليهود يتشبَّثون بعظمتهم حتى في علاقاتهم مع الولاة الرومان. وكان الولاة يحترمون رؤساء اليهود ويعترفون لهم بسلطة واسعة ونفوذ عظيم، فكانوا غالباً ينفّذون لهم أحكامهم الدينية دون مراجعة.

اهتم رؤساء اليهود أن يتصرف بيلاطس معهم حسب عادته، فلا يفحص القضية، لأن الوقت قد دهمهم. كما كانوا يخشون أن فَحْصَ القضية يعني إلغاء حكمهم الظالم. ولما كانت شريعتهم تقول إن دخولَهم إلى دار المحكمة الوثنية ينجسهم، ولا وقت ليتطهروا من هذا التنجُّس قبل العيد العظيم، تساهل الوالي معهم وخرج إليهم، وأدخل المسيح مع العسكر إلى الدار. ثم سأل الرؤساءَ في غياب المسيح: «أية شكاية تقدِّمون على هذا الإنسان؟» فأجابوه: «لو لم يكن فاعلَ شرٍ لما كُنا سلَّمناه إليك». محاولين بهذا الرد أن لا يفحص بيلاطس القضية. لكن الوالي تمسَّك بحقوقه القانونية، فاضطرُّوا أن يصوغوا دعواهم في قالب قانوني، مما يوجِب معاقبة المسيح بالإعدام.

اتهامات اليهود للمسيح

«ثُمَّ جَاءُوا بِيَسُوعَ مِنْ عِنْدِ قَيَافَا إِلَى دَارِ ٱلْوِلايَةِ، وَكَانَ صُبْحٌ. وَلَمْ يَدْخُلُوا هُمْ إِلَى دَارِ ٱلْوِلايَةِ لِكَيْ لا يَتَنَجَّسُوا، فَيَأْكُلُونَ ٱلْفِصْحَ. فَخَرَجَ بِيلاطُسُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: «أَيَّةَ شِكَايَةٍ تُقَدِّمُونَ عَلَى هٰذَا ٱلإِنْسَانِ؟» أَجَابُوا وَقَالُوا لَهُ: «لَوْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلَ شَرٍّ لَمَا كُنَّا قَدْ سَلَّمْنَاهُ إِلَيْكَ!» فَقَالَ لَهُمْ بِيلاطُسُ: «خُذُوهُ أَنْتُمْ وَٱحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ». فَقَالَ لَهُ ٱلْيَهُودُ: «لا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَداً». لِيَتِمَّ قَوْلُ يَسُوعَ ٱلَّذِي قَالَهُ مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ» (يوحنا 18: 28-32).

كانت الجريمة الأولى التي نسبها شيوخ اليهود للمسيح هي أنه يفسد الأمة، أي يثير فتنة سياسية ضد الحكومة. لكن لو صدق هذا القول لكان بيلاطس قد عرف هذا بواسطة جواسيسه دون تداخل الرؤساء الذين لا تسيئهم الفتنة ضد الحكومة.

وكانت الجريمة الثانية أن المسيح يمنع أن تُعطى جزية لقيصر. وهذا ما حاولوا أن يجعلوا المسيح أن يقوله، لكنه رفض وقال: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه».

وأما الشكاية الثالثة فكانت أنه «يقول إنه هو مسيحٌ ملك». وهذا أيضاً كذب، فليس في هذه التهمة أيضاً ما يؤثر على الوالي، لأنه يعلم جيداً أن هؤلاء اليهود يفتخرون بكل من يقاوم الحكم الروماني، فلا يمكن أن يسلِّموا يهودياً للقتْل بهذه التهمة لو كانت صحيحة.

فأجابهم الوالي بنفور وتحقير وتهكّم: «خذوه أنتم وأحكموا عليه حسب ناموسكم» مع أنه لا علاقة بين الجرائم التي ذكرها وبين ناموسهم. وكأنه يقول لهم: «لا تستطيعون أن تفعلوا ما تشاؤون بدوني، وأنا لا أخضع لمطاليبكم بدون فحص». فاضطر الرؤساء إلى التذلُّل لينالوا مرامهم، فقالوا: «لا يجوز لنا أن نقتل أحداً».

بيلاطس يستجوب المسيح

«ثُمَّ دَخَلَ بِيلاطُسُ أَيْضاً إِلَى دَارِ ٱلْوِلايَةِ وَدَعَا يَسُوعَ، وَقَالَ لَهُ: «أَأَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَمِنْ ذَاتِكَ تَقُولُ هٰذَا، أَمْ آخَرُونَ قَالُوا لَكَ عَنِّي؟» أَجَابَهُ بِيلاطُسُ: «أَلَعَلِّي أَنَا يَهُودِيٌّ؟ أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ. مَاذَا فَعَلْتَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هٰذَا ٱلْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هٰذَا ٱلْعَالَمِ لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لا أُسَلَّمَ إِلَى ٱلْيَهُودِ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا». فَقَالَ لَهُ بِيلاطُسُ: «أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ. لِهٰذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهٰذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي». قَالَ لَهُ بِيلاطُسُ: «مَا هُوَ ٱلْحَقُّ؟». وَلَمَّا قَالَ هٰذَا خَرَجَ أَيْضاً إِلَى ٱلْيَهُودِ وَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً» (يوحنا 18: 33-38).

حصل كل هذا في العراء أمام دار الولاية، وبعده دخل الوالي ودعا المسيح ليفحص أمره. وكان سؤاله الأول معقولاً ومناسباً، لأن اتهام اليهود له بأنه قال إنه مسيح ملك لم يكن في مواجهته فسأله: «أأنت ملك اليهود؟» ولم يستطع المسيحُ أن يجيب بنعم فقط، لئلا يأخذ الوالي هذا الجواب على معنى سياسي، بخلاف الواقع. ولم يستطع أن يقول كلا، لأنه بالحقيقة ملك اليهود، بل ملك كل العالم بالمعنى الروحي. وكان يعلم ما قاله اليهود للوالي، فأجاب: «أمِنْ ذاتك تقول هذا، أم آخرون قالوا لك عني؟». أي هل تطلب أن تعرف حقيقة أمري، أو فقط أن تعرف صِدْق الذين سلموني إليك؟ فنفى بيلاطس أنه يطلب معرفة الحقيقة بقوله: «ألعلي أنا يهودي؟». (يعني لماذا أهتمُّ أن أعرف مسيح اليهود؟») «أمَّتُك ورؤساء الكهنة أسلموك إليّ. ماذا فعلتَ؟».

حينئذ كلم المسيح بيلاطس بكلامٍ سامٍ بيَّن فيه ماهية ملكوته الروحي، وبرهان ذلك أن أتباعه لم يدافعوا عنه بالسلاح. بينما كانوا يستعملون السلاح لو كان فهموا ملكوته بالمعنى السياسي. لكن الوالي لم يكتفِ بهذا التصريح الروحي المُبهَم عنده، فطلب جواباً واضحاً على سؤاله، فقال المسيح: «أنت تقول إني ملك. لهذا قد وُلدت أنا. ولهذا قد أتيتُ إلى العالم لأشهد للحق (أي الحق الإلهي). وكلُّ مَنْ هو من الحق يسمع صوتي».

فقال بيلاطس بمزيج من الاستخفاف والاحترام، وهو خارجٌ ليقابل اليهود في الفسحة الخارجية: «ما هو الحق؟». أي من يقدر أن يعرف الحق بين الآراء الدينية الكثيرة المتضاربة؟ هل هو بجانب فلاسفة اليونان المتعبّدين للجمال وآلهته - أم بجانب الرومان المتعبدين للقوة وآلهتها - أم بجانب اليهود المتعبِّدين لإلهٍ واحد وهو روحٌ لا صورة ظاهرة له - أم بجانبك أنت المرفوضِ من أمَّتك اليهودية التي تخالفها، وتقول إنك أتيت من السماء لتشهد للحق؟».

سأل بيلاطس: «ما هو الحق؟» لكنه لم ينتظر الجواب، وما أكثر أمثاله في كل عصرٍ وقطر، الذين يسألون سؤال بيلاطس بالاستخفاف أو بالاحترام، لكنهم لا ينتظرون ليحصلوا على الجواب من الحق سبحانه، ولذلك لا يهتدون إليه. قال المسيح: «إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلامِي... تَعْرِفُونَ ٱلْحَقَّ وَٱلْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ» (يوحنا 8: 31 ، 32).

وخرج بيلاطس ليعلن لليهود: «أنا لست أجد فيه علة واحدة». إنْ صحَّ زعْمُ البعض، تكون امرأته قد زرعت فيه مَيْلاً إلى المسيح. والأمر ظاهر أنه كان يهاب المسيح ويحترمه.

«فَقَالَ بِيلاطُسُ لِرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْجُمُوعِ: «إِنِّي لا أَجِدُ عِلَّةً فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ». فَكَانُوا يُشَدِّدُونَ قَائِلِينَ: «إِنَّهُ يُهَيِّجُ ٱلشَّعْبَ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ مُبْتَدِئاً مِنَ ٱلْجَلِيلِ إِلَى هُنَا» (لوقا 23: 4 ، 5).

عند هذا التصريح من الوالي جدد اليهود شكاياتٍ متنوعة لم يْرضَ المسيح أن يجيب عليها. ولما سأله الوالي لماذا لا يدافعُ عن نفسه، لم يجِبْه بكلمة، لأنه يعلم أن كلامه يكون عبثاً. وتعجب الوالي من هذا السكوت، لكنه أظهر احترامه بإعادة شهادته أمام الرؤساء والجمهور ببراءة المسيح، فغضبوا وجددوا الشكوى بأن المسيح كان يحرك الشعب للفتنة، ليس فقط في ولاية بيلاطس، بل أكثر أيضاً في وطنه في ولاية هيرودس أنتيباس، في مقاطعة الجليل حيث قضى المسيح معظم سنيه.

ذكر رؤساء اليهود أن المسيح من الجليل ليهيِّجوا الوالي على المسيح ليقتله. لأن الجليليين أكثر الناس إثارةً للفتن السياسية. لكن الرؤساء ندموا على قولهم هذا، لأنه أدَّى إلى بطءٍ جديد في مشروعهم. فقد جعلوا الوالي يفكر في وسيلة جديدة للتخلُّص من هذه الدعوى المزعجة، بإحالتهم إلى حاكم الجليل اليهودي، رغم ما بينهما من الخلاف الشديد. فأرسل بيلاطسُ المسيحَ إلى قصر هيرودس في أورشليم، ومعه المشتكين عليه، وهو يحسب أن هذه الإِحالة تريحه من المسئولية تجاه اليهود وتجاه هيرودس أيضاً، ويكون فيها شيء من الاسترضاء، فينتهي العداء بينه وبين هيرودس، فنجح في الغاية الثانية، وصار بيلاطس وهيرودس صديقين مع بعضهما من ذلك اليوم. لكنه لم ينجح في التخُّلص من مشكلة إرضاء اليهود، ولا إراحة ضميره.

المسيح أمام هيرودس

«فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاطُسُ ذِكْرَ ٱلْجَلِيلِ، سَأَلَ: «هَلِ ٱلرَّجُلُ جَلِيلِيٌّ؟» وَحِينَ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ سَلْطَنَةِ هِيرُودُسَ، أَرْسَلَهُ إِلَى هِيرُودُسَ، إِذْ كَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْكَ ٱلأَيَّامَ فِي أُورُشَلِيمَ. وَأَمَّا هِيرُودُسُ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ فَرِحَ جِدّاً، لأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَنْ يَرَاهُ، لِسَمَاعِهِ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَتَرَجَّى أَنْ يَرَاهُ يَصْنَعُ آيَةً. وَسَأَلَهُ بِكَلامٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ. وَوَقَفَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ بِٱشْتِدَادٍ، فَٱحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَٱسْتَهْزَأَ بِهِ، وَأَلْبَسَهُ لِبَاساً لامِعاً، وَرَدَّهُ إِلَى بِيلاطُسَ. فَصَارَ بِيلاطُسُ وَهِيرُودُسُ صَدِيقَيْنِ مَعَ بَعْضِهِمَا فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ، لأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ قَبْلُ فِي عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا» (لوقا 23: 6-12).

لما وصل المسيح مع المشتكين عليه إلى قصر الملك هيرودس فرح هذا جداً، ليس فقط لافتخاره بتنازل الوالي له، بل لأنه منذ زمان كان يشتهي أن يرى المسيح، لأنه أشهر كل أفراد رعيته في الجليل. ولم يكن قد رآه حتى ذلك الوقت. وقد فرح هيرودس لأنه ظن أن المسيح سيُجري أمامه المعجزات التي قد سمع بها كثيراً. لكن ألا تكون رؤية المسيح موَثَقَاً بالقيود تذكيراً مؤلماً لهيرودس بيوحنا المعمدان لما أدخلوا أمامه رأسه على طبق؟... لما سمع سابقاً بالمسيح قال إنه يوحنا المعمدان الذي قام من القبر، فماذا يظن الآن؟

فحص هيرودس المسيح بكلام كثير لم يُحفظ لنا منه شيء، لكن المسيح لم يكترث ولم يجِبْه بشيء. كان هيرودس الشرير قد أسكت صوت اللّه بفم المعمدان، والآن لا يكلمه ابنُ اللّه بشيء. فاحتقره هيرودس. مع عسكره واستهزأ به وألبسه لباساً لامعاً وردَّه (دون حكم) إلى بيلاطس.

بيلاطس يحاول أن ينقذ المسيح

«فَدَعَا بِيلاطُسُ رُؤَسَاءَ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْعُظَمَاءَ وَٱلشَّعْبَ، وَقَالَ لَهُمْ: «قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ ٱلشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هٰذَا ٱلإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَلا هِيرُودُسُ أَيْضاً، لأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَا لا شَيْءَ يَسْتَحِقُّ ٱلْمَوْتَ صُنِعَ مِنْهُ. فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ». وَكَانَ مُضْطَرّاً أَنْ يُطْلِقَ لَهُمْ كُلَّ عِيدٍ وَاحِداً، فَصَرَخُوا بِجُمْلَتِهِمْ قَائِلِينَ: «خُذْ هٰذَا وَأَطْلِقْ لَنَا بَارَابَاسَ!» وَذَاكَ كَانَ قَدْ طُرِحَ فِي ٱلسِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ حَدَثَتْ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَقَتْلٍ. فَنَادَاهُمْ أَيْضاً بِيلاطُسُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُطْلِقَ يَسُوعَ، فَصَرَخُوا: «ٱصْلِبْهُ! ٱصْلِبْهُ!» فَقَالَ لَهُمْ ثَالِثَةً: «فَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ هٰذَا؟ إِنِّي لَمْ أَجِدْ فِيهِ عِلَّةً لِلْمَوْتِ، فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ». فَكَانُوا يَلِجُّونَ بِأَصْوَاتٍ عَظِيمَةٍ طَالِبِينَ أَنْ يُصْلَبَ. فَقَوِيَتْ أَصْوَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ. فَحَكَمَ بِيلاطُسُ أَنْ تَكُونَ طِلْبَتُهُمْ. فَأَطْلَقَ لَهُمُ ٱلَّذِي طُرِحَ فِي ٱلسِّجْنِ لأَجْلِ فِتْنَةٍ وَقَتْلٍ، ٱلَّذِي طَلَبُوهُ، وَأَسْلَمَ يَسُوعَ لِمَشِيئَتِهِمْ» (لوقا 23: 13-25).

لما عاد الجمع بالمسيح إلى بيلاطس مع جواب أن هيرودس لم يقف له على ذنب حقيقي يستوجبُ قَتْله، دعا بيلاطس الشعب مع رؤساء الكهنة والعظماء، لعله يحصل من الشعب على مساعدةٍ ضد مكائد الرؤساء، واقترح على اليهود أن يكتفوا بجلْدِه، زاعماً أن هذا إشفاق على المسيح يخدم العدالة بتخليص بريء من الإِعدام، وفي الوقت ذاته يجتنب استياء اليهود منه، الذي لا بد سيحصل، لو أنه أطلق المسيح بدون أن يعذبه. فقال لهم: «أنا أؤدبه وأطلقه». بيلاطس يؤدب المسيح بعد أن برَّأه تماماً، والأمران ضِدان. هذا بداءة خطئه، الذي جرَّه إلى أخطاء أعظم.

عند ذلك تحوَّلت أفكار الجموع إلى أمرٍ آخر تعوَّدوه في مثل هذا الوقت من كل عام، وهو أن الوالي يُطلق أحد المسجونين تحت الحكم بالإِعدام هديةً لهم بمناسبة عيد الفصح. فلما طالبوا بيلاطس بهذه المنحة، رأى في ذلك بابَ فرجٍ للمسيح، فخيَّرهم مراعاةً لحريتهم بين المسيح وبين محكومٍ عليه بالإِعدام، اسمه باراباس، قائد زمرةِ لصوصٍ ارتكبوا فتنة وقتلاً. ولم يتصور بيلاطس أن الجمهور سيطلب منه أن يطلق لهم باراباس ويقتلَ المعلمَ الديني التقي الصالح، الذي شفى من مرضاهم عدداً لا يُحصى. وكان بيلاطس يظن أن الجمهور ليس مدفوعاً كالرؤساء بعوامل الحسد ليفضِّلوا لِصاً صانع فتنة على صانع المعجزات الذي اتهموه زوراً بأنه صانع فتنة. فسأل الجمهور: «من تريدون أن أطلق لكم، باراباس أم يسوع الذي يُدعَى المسيح ملك اليهود؟» ثم دخل بعد سؤاله وجلس على كرسي الولاية ليعطي فرصة للجمهور ليقرروا من يختارون.

وصية زوجة بيلاطس

«وَإِذْ كَانَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيِّ ٱلْوِلايَةِ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ ٱمْرَأَتُهُ قَائِلَةً: «إِيَّاكَ وَذٰلِكَ ٱلْبَارَّ، لأَنِّي تَأَلَّمْتُ ٱلْيَوْمَ كَثِيراً فِي حُلْمٍ مِنْ أَجْلِهِ». وَلٰكِنَّ رُؤَسَاءَ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخَ حَرَّضُوا ٱلْجُمُوعَ عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا بَارَابَاسَ وَيُهْلِكُوا يَسُوعَ. فَسَأَلَ ٱلْوَالِي: «مَنْ مِنَ ٱلٱثْنَيْنِ تُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ؟» فَقَالُوا: «بَارَابَاسَ». قَالَ لَهُمْ بِيلاطُسُ: «فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ ٱلَّذِي يُدْعَى ٱلْمَسِيحَ؟» قَالَ لَهُ ٱلْجَمِيعُ: «لِيُصْلَبْ!» فَقَالَ ٱلْوَالِي: «وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟» فَكَانُوا يَزْدَادُونَ صُرَاخاً قَائِلِينَ: «لِيُصْلَبْ!» فَلَمَّا رَأَى بِيلاطُسُ أَنَّهُ لا يَنْفَعُ شَيْئاً، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَغَبٌ، أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ قُدَّامَ ٱلْجَمْعِ قَائِلاً: «إِنِّي بَرِيٌّ مِنْ دَمِ هٰذَا ٱلْبَارِّ. أَبْصِرُوا أَنْتُمْ». فَأَجَابَ جَمِيعُ ٱلشَّعْبِ: «دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلادِنَا». حِينَئِذٍ أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ» (متى 27: 19-26 أ).

اتفق عند ذلك مجيء رسول من زوجة بيلاطس تحذّره من أن يحكم ضد المسيح الذي سمَّتْه «ذلك البار». لأنها تألمت كثيراً في ذلك اليوم في حلم من أجله. لا بد أن هذا الحلم ترك أثره في زوجها، لأنه مِثْلُ جميع الوثنيين تحت سلطة الخرافات، فيزيد خوفَه من أن يأخذ على نفسه مسئولية إعدام المسيح. لكن بينما كانت أسباب تبرئة المسيح تزيد في غرفة الوالي، كان العكس تماماً يزيد في خارجها، لأن الرؤساء بذلوا كل جهدهم ليقنعوا الجمهور أن يُصرُّوا على قَتْله بدعوى أنه جدَّف، إذْ أطلق على نفسه صفة الإله، فجريمته أعظم من جريمة باراباس، ولا سيما أنه أراد أن ينقُضَ هيكلهم المعظَّم. فلما طلب بيلاطس جوابهم، صرخوا جميعاً قائلين: «خُذْ هذا وأطلق لنا باراباس». ولما راجعهم لعل اختيارهم كان عن إسراعٍ أو سوء فهم، وكأنه يُظِهرُ لهم مرة أخرى مَيْله لأن يطلق المسيح، كان ينتظر أن يؤثر ذلك فيهم ليغيِّروا قرارهم، ولكنهم أصرُّوا على قرارهم الأول قائلين: «أطلِقْ لنا باراباس».

لم يكتفِ الوالي بهذا الجواب فسألهم: «ماذا تريدون أن أفعل بيسوع؟». فكرروا صراخهم: «اصلبه اصلبه».

لكن الوالي راجعهم ثالثة فقال: «وأي شرٍ عمل هذا؟ إني لم أجدْ فيه علة للموت. فأنا أؤدبه وأطلقه». غير أن قبوله أن يؤدِّب رجلاً، كرَّر هو تصريحَه ببراءته، يعني أنه سلَّم بعض الحكم والسلطة للجمهور، فتهيَّج طمعهم وعنادهم وتشبُّثهم بأن يفعل الوالي إرادتهم لا إرادته. وأخذوا يلجُّون بأصوات عظيمة ويزدادون جداً صراخاً قائلين: «اصلبه». فقويت أصواتهم وأصوات رؤساء الكهنة، وأصبح بيلاطس آلة بين أيديهم، واستسلم لجنون الجمهور وطلبهم أن يُصلَب. إلا أنه لم يسلِّم دون تحفظ، بل حاول التخلُّص تماماً من مسئولية هذا الغدر، ووضعها على الرؤساء والشعب. وعلامة لذلك أخذ ماءً وغسل يديه أمام الجَمْع قائلاً: «إني بريء من دم هذا البار». فقال جميع الشعب: «دمه علينا وعلى أولادنا».

ومن الغريب أن الذين قالوا: «دمه علينا وعلى أولادنا» اغتاظوا بعد حين على بعض رسل المسيح وقالوا لهم: «قَدْ مَلأْتُمْ أُورُشَلِيمَ بِتَعْلِيمِكُمْ، وَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْلِبُوا عَلَيْنَا دَمَ هٰذَا ٱلإِنْسَانِ» (أعمال 5: 28).

جَلْد المسيح

«وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ. فَأَخَذَ عَسْكَرُ ٱلْوَالِي يَسُوعَ إِلَى دَارِ ٱلْوِلايَةِ وَجَمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّ ٱلْكَتِيبَةِ، فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيّاً، وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «ٱلسَّلامُ يَا مَلِكَ ٱلْيَهُودِ!» وَبَصَقُوا عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا ٱلْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ» (متى 27: 26 ب-30).

في قانون اليهود كان لا بد لمن يُحكَم عليه بالصلب أن يُجلَد أولاً، وكان الجَلْد يوقف عند تسع وثلاثين جلدة على الأكثر، لكن العدالة الرومانية المشهورة كانت عديمة الإِشفاق، فكان جَلْد المجرمين يتجاوز في القساوة كل الحدود المعقولة، بأسواطٍ من جلد مربوط في أطرافها قطعٌ من حديد أو رصاص أو عظام. فكثيراً ما كان يُغمى على المضروب. وكان البعض يموتون في أثناء الجلد.

وقد أسلم بيلاطس المسيح للجلد، ولعله كان يأمل أن اليهود يكتفون بهذا القصاص الصارم، فيعدلون عن طلب الصلب.

أخذ الجنود الرومان المسيح وجعلوه ألعوبة بين أيديهم. سمعوا أنه تلقَّب ملكَ اليهود فقصدوا أن يسخروا به كملك. أخذوه إلى داخل دار الولاية، وجمعوا عليه كل الكتبة، وعرُّوه وألبسوه رداء قرمزياً (ثوب أرجوان) وضفروا إكليلاً من شوك ووضعوه على رأسه. وقصبة في يمينه (إشارةً إلى قضيب المُلْك والصولجان). وكانوا يجثون أمامه استهزاءً قائلين: «السلام يا ملك اليهود». وكانوا يخطفون من يده القصبة ويلطمونه ويضربونه بها على رأسه ويبصقون عليه، ثم يعيدون السجود له.

محاولة أخيرة لإنقاذ المسيح

«فَخَرَجَ بِيلاطُسُ أَيْضاً خَارِجاً وَقَالَ لَهُمْ: «هَا أَنَا أُخْرِجُهُ إِلَيْكُمْ لِتَعْلَمُوا أَنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً». فَخَرَجَ يَسُوعُ خَارِجاً وَهُوَ حَامِلٌ إِكْلِيلَ ٱلشَّوْكِ وَثَوْبَ ٱلأُرْجُوانِ. فَقَالَ لَهُمْ بِيلاطُسُ: «هُوَذَا ٱلإِنْسَانُ». فَلَمَّا رَآهُ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْخُدَّامُ صَرَخُوا: «ٱصْلِبْهُ! ٱصْلِبْهُ!» قَالَ لَهُمْ بِيلاطُسُ: «خُذُوهُ أَنْتُمْ وَٱصْلِبُوهُ، لأَنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً». أَجَابَهُ ٱلْيَهُودُ: «لَنَا نَامُوسٌ، وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ، لأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ». فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاطُسُ هٰذَا ٱلْقَوْلَ ٱزْدَادَ خَوْفاً. فَدَخَلَ أَيْضاً إِلَى دَارِ ٱلْوِلايَةِ وَقَالَ لِيَسُوعَ: «مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟» وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمْ يُعْطِهِ جَوَاباً. فَقَالَ لَهُ بِيلاطُسُ: «أَمَا تُكَلِّمُنِي؟ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لِي سُلْطَاناً أَنْ أَصْلِبَكَ وَسُلْطَاناً أَنْ أُطْلِقَكَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: « لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ ٱلْبَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ. لِذٰلِكَ ٱلَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ». مِنْ هٰذَا ٱلْوَقْتِ كَانَ بِيلاطُسُ يَطْلُبُ أَنْ يُطْلِقَهُ، وَلٰكِنَّ ٱلْيَهُودَ كَانُوا يَصْرُخُونَ: «إِنْ أَطْلَقْتَ هٰذَا فَلَسْتَ مُحِبّاً لِقَيْصَرَ. كُلُّ مَنْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ مَلِكاً يُقَاوِمُ قَيْصَرَ».

فَلَمَّا سَمِعَ بِيلاطُسُ هٰذَا ٱلْقَوْلَ أَخْرَجَ يَسُوعَ، وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ ٱلْوِلايَةِ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ «ٱلْبَلاطُ» وَبِالْعِبْرَانِيَّةِ «جَبَّاثَا». وَكَانَ ٱسْتِعْدَادُ ٱلْفِصْحِ وَنَحْوُ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ. فَقَالَ لِلْيَهُودِ: «هُوَذَا مَلِكُكُمْ». فَصَرَخُوا: «خُذْهُ! خُذْهُ ٱصْلِبْهُ!» قَالَ لَهُمْ بِيلاطُسُ: «أَأَصْلِبُ مَلِكَكُمْ؟» أَجَابَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ: «لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ إِلا قَيْصَرُ». فَحِينَئِذٍ أَسْلَمَهُ إِلَيْهِمْ لِيُصْلَبَ. فَأَخَذُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ» (يوحنا 19: 4-16).

أخيراً أخذ بيلاطس المسيح من بين أيدي الجنود، وخرج به متوَّجاً بإكليل الشوك، ومسربلاً بالثوب الأرجواني، وقدَّمه إلى الجمع المنتِظر، مكرراً مرة أخرى تبرئته قائلاً: «أُخرجه إليكم، لتعلموا أني لم أجد فيه علة واحدة. هوذا الإنسان». قال بيلاطس هذا وهو يشير إلى يسوع وقد أفرط في الاستهزاء به. فازدادت جرأة اليهود وصرخوا من جديد: «اصلبه اصلبه». فكرر بيلاطس حكمه مرة أخرى ببراءته قائلاً: «خذوه أنتم اأصلبوه، لأني لست أجد فيه علَّةً». فصرخوا: «لنا ناموس، وحسب ناموسنا يجب أن يموت، لأنه جعل نفسه ابن اللّه».

كان بيلاطس قد تحقق امتياز المسيح في الصلاح والحكمة، فلما سمع أنه قال عن نفسه إنه ابنُ اللّه، ازداد خوفاً، ورجع للمسيح إلى داخل الدار وسأله: «مِنْ أين أنت؟». فقابل المسيح سؤال الوالي الجدّي الجديد بالسكوت، لكن الوالي لم يتعود عدم إجابة أسئلته، وهو لا يحتمل ذلك، فقال له: «أما تكلمني؟ ألست تعلم أن لي سلطاناً أن أصلبك وسلطاناً أن أطلقك؟» كأنه يقول له: «ألم تلاحظ كل مساعيّ لأجل تبرئتك؟. فلماذا تمنعني بسكوتك عن أن أطلقك؟ قدم الأجوبة السديدة على هذه الشِكايات لكي أكون مسنوداً في إطلاقك».

ومن هذا الذي يدَّعي بالسلطان؟ هل لبيلاطس سلطان على القانون ليخالفه، أو على العدالة ليدوسها؟ هل له سلطان على نفسه ليضحك على الخوف ويتبع ضميره؟ هل له سلطان على أفكار الذين هُمْ تحت حكمه من اليهود؟ هل له سلطان على شهامة هذا الجريح الواقف أمامه والمنهوك القوى الجسدية، فيزحزحه بمقدار شعرةٍ واحدةٍ عن استقامته وقصده؟ كان أشرف لبيلاطس أن لا يتلفظ بكلمة عن السلطان، في ساعة الخضوعِ لرعاياه في الظلم والقسوة.

رأى المسيح أن هذا الادعاء يستحق الجواب، ويتطلَّب منه إظهار عظمته وسلطانه الحقيقيين، فقال له: «لم يكن لك عليّ سلطان البتة، لو لم تكن قد أُعطيت مِنْ فوق. لذلك، الذي أسلمني إليك له خطيئة أعظم». الذي أسلمه إلى بيلاطس هو رئيس الكهنة. فنفهم بكل سهولة كيف عظمَّ المسيحُ خطيئة الرئيس اليهودي على خطيئة بيلاطس الوثني. بيلاطس مدفوع من الرئيس. لكن الرئيس اليهودي مدفوع من عواطفه الشريرة.

هزت إجابة المسيح أعماق نفس بيلاطس، فأراد أن يطلقه حراً، بعد أن حدَّد المسيح في إجابته سلطان بيلاطس، وأشار إلى سلطة الرب على قوات الشر.

أخيراً فرغت كل حيل الرؤساء، فلجأوا إلى التهديد. لو كان بيلاطس مستقيماً لكان التهديد يزيد عزمه على إجراء العدالة والحق، لأن لا شيء يثبِّت الرجل الكبير المستقيم في عزمه الصالح كالتهديد. لكن الشكايات الصادقة التي سبق وقُدِّمت ضد بيلاطس للقيصر جعلت القيصر يستاء منه، ويريد أن يعزله لأَقل سبب. ولذلك هدد رؤساء اليهود بيلاطس بصراخهم: «إنْ أطلقتَ هذا فلست محباً لقيصر. كل من يجعل نفسه ملكاً يقاوم قيصر». يعني إنْ أطلقتَ هذا، نشكوك إلى مولاك الإمبراطور، بأنك انتصرت لإِنسانٍ قام لينازع القيصر على مُلْكه. وأنت تعلم ماذا تكون نتيجة ذلك عليك.

أناخت هذه الضربة الشيطانية بيلاطس تماماً أمامهم، فخرج وجلس على كرسي الولاية في موضع يُقال له البلاط وقال: «هوذا ملككم». فصرخوا أكثر: «خذه خذه. اصلبه». فقال لهم بيلاطس: «أأصلب ملككم؟» فصرخوا: «ليس لنا ملك إلا قيصر». واعتبروا ذلك حكمة سياسية تثبّت نفوذهم. في قولهم هذا ختموا على النبوَّة بزوال قضيب المُلْك من نسل داود متى جاء المسيح «شيلون» الذي «لَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ» (تكوين 49: 10).

لم يبْقَ لبيلاطس من حيلة، فأسلمه إليهم ليُصلب. ولما استلموه كرروا الاستهزاء به، ثم نزعوا الرداء الأرجواني وألبسوه ثيابه، وخرجوا ومضوا به للصلب.

وصف التاريخ بيلاطس بالعناد الزائد، وقد ظهر هذا العناد في دفاعه المتكرر في وجه رؤساء اليهود. فبعناده أثبت فوق كل ريب أن المسيح بريء، وأن شيوخ اليهود ظالمون. لكنه بالرجوع عن عناده، وتسليمه المسيح للصلب، أثبت قول المسيح إنه يموت صلباً ويُسفك دمه لأجل حياة العالم.

4 - المسيح يموت مصلوباً

«أسلمه بيلاطس للصلب» - هذا القول فاتحة فصل جديد في حياة المسيح الأرضية، حمل فيه خطايا البشر ليكفّر عنها، فاقت فيه آلامه كثيراً جداً ما سبقها من الآلام التمهيدية. لقد حقق رؤساء اليهود ما أرادوه. وها هي الجماهير ترى هذا الذي أجرى المعجزات منهوك القوى، دامي الجراح. ها حمل اللّه الذي يرفع خطية العالم يسير ليُذبَح عن البشر، ويجتازُ أزقَّة مدينته حاملاً صليبه - المذبح - الذي سيُرفع عليه، كما حمل قديماً جدُّه إسحق الحطب المهيَّأ لحرْقه ذبيحةً إلى الجبل المقدس.

المسيح يسقط تحت حمل الصليب

«وَبَعْدَ مَا ٱسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ ٱلرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ. وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ وَجَدُوا إِنْسَاناً قَيْرَوَانِيّاً ٱسْمُهُ سِمْعَانُ، فَسَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ. وَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ جُلْجُثَةُ، وَهُوَ ٱلْمُسَمَّى «مَوْضِعَ ٱلْجُمْجُمَةِ» أَعْطَوْهُ خَلاًّ مَمْزُوجاً بِمَرَارَةٍ لِيَشْرَبَ. وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ» (متى 27: 31-34).

لا نغفل الأسباب التي ذهبت بقُوى المسيح الجسدية في هذا النهار، حتى سقط تحت حمل الصليب، فاضطر أصحاب الأمر أن يحمِّلوا صليبه لغيره. ولا نجهل ما للآلام الروحية من التأثير على قُوى الإِنسان الجسدية. وندرك أن هذه الآلام الروحية كانت أعظم بما لا يُقاس من الجسدية، ففي الساعات الأولى من يوم الجمعة هذا، مع الليل الذي تقدمها، حُرم المسيح من النوم كلياً، وسِيق مكتوفاً من البستان في جبل الزيتون إلى قصر رئيس الكهنة، ثم دار المحكمة، فقصر بيلاطس فقصر هيرودس، ثم قصر بيلاطس ثانية. والوقوفُ في المحاكمات الطويلة، واللطمُ المتكرر وما تعلَّق به، والجَلْدُ الذي لا نعلم مقداره مع ما نزف من دمٍ بسببه.. كل هذه جعلت قواه تخور.

وما أكبر الآلام الروحية الساحقة لنفسٍ ذات رِقة وحب وشعورٍ كنفس المسيح. نذكر خيبةَ آماله في تلاميذه وهم يتشاجرون حول من منهم هو الأعظم، وخيانةَ يهوذا، وسقوطَ بطرس، وهروبَ كل التلاميذ والمصارعةَ العجيبة في البستان، وبعدها معاملاتُ العنف والتحقير والتخجيل والاستهزاء الوحشي، ناهيك عن الجوع والبرد القارص. كل هذه أسباب جعلته يسقط تحت حمل الصليب. وفي آلامه كما في تجربته كان ناسوته فقط في هذه المعصرة الرهيبة.

كان أربعة حراس يسوقون المصلوب إلى حيث صُلب، فلما رأوا عجز المسيح عن حمل الصليب، سخَّروا رجلاً قيراونياً من شمال أفريقيا اسمه سمعان، كان راجعاً من الحقل، ليؤدي هذه المهمة. لم يوجد من يتبرع بهذه المساعدة في كل ذلك الجمهور بسبب عار الصليب المشين الذي لا يتحمله أحد طوعاً. لكن ما كان وقتها عاراً تحوَّل فخراً، وأصبح سمعان القيرواني في مقدمة جيش شريف لا يُحصى عدده من حاملي صليب المسيح.

بعد هذا استأنف الجمهور سيره، ومعهم ثمانية حراس يسوقون مجرمَيْن، ويحملون ألواحاً ثلاثة مرفوعة فوق الرؤوس، يعلن كلٌ منها اسم أحد المصلوبين ووطنَه وجُرمه الذي يُعاقب عليه. أما اللوح الذي عليه اسم المسيح فكان مختلفاً لأنه مكتوب في ثلاث لغات: العبرانية لغة الدين، فكان ابن داود وابن اللّه. وباليونانية لغة العلم، لأنه نور العالم والحق الأزلي. واللاتينية لغة السياسة، لأنه ملك إسرائيل وملك القديسين وملك الملوك ورب الأرباب. كان الإعلان يقول: «هذا هو يسوع الناصري ملك اليهود». اسمه يسوع. ووطنه الناصرة. وجريمته ظهوره كأنه ملك اليهود، ثائراً ضد قيصر.

نساء أورشليم يبكين عليه

«وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ ٱلشَّعْبِ، وَٱلنِّسَاءِ ٱللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضاً وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ. فَٱلْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: «يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لا تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ٱبْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلادِكُنَّ، لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَٱلْبُطُونِ ٱلَّتِي لَمْ تَلِدْ وَٱلثُّدِيِّ ٱلَّتِي لَمْ تُرْضِعْ. حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: ٱسْقُطِي عَلَيْنَا وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا. لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِٱلْعُودِ ٱلرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هٰذَا، فَمَاذَا يَكُونُ بِٱلْيَابِسِ؟». وَجَاءُوا أَيْضاً بِٱثْنَيْنِ آخَرَيْنِ مُذْنِبَيْنِ لِيُقْتَلا مَعَه» (لوقا 23: 27-32).

تمسك بيلاطس إلى النهاية ببراءة المسيح. لكن لما أسلمه للصلب صار مُضطرّاً أن يبيّن أمام الجميع جريمةً تستوجب الصلْب، فلم يجد ذلك إلا بالتزوير. وفي هذا التزوير انتقم من اليهود بسبب ضغطهم عليه ليفعل ظلماً. وكتب «ملك اليهود». فصار العار على اليهود الذين صلب ملكهم، لذلك اعترض رؤساء الكهنة طالبين أن يغيّر الوالي هذا العنوان، حتى لا يكون المصلوب ملكهم، بل شخصاً قال إنه ملك اليهود. لكن بيلاطس أصرَّ على ما فعل. هذا الذي سأل استخفافاً: «ما هو الحق؟» خدم الحق وهو لا يدري.

يسبِّب موكبٌ كهذا تجمُّعاً عظيماً في أزقة المدينة وخارجها، فأخذ الحنان بعض النساء الكثيرات الواقفات لما رأين منظر المسيح المحزن، فأخذن ينُحْن بأصوات عالية ويلطِمْن على صدورهن، لا يخشين إظهار المواساة لهذا المغضوب عليه من رؤسائهن. ولما كان الرؤساء مطمئنِّين إلى انتصارهم، لم يبالوا بعمل النساء. واعترض المسيح على بكاء النساء - مع أن هذا البكاء كان الشيءَ الوحيد الذي يُعبّر عن مشاعر محبةٍ في ذلك اليوم. اعترض عليه مع أنه لم يعترض على شيء مما وقع عليه من معاملات عدائية، لأنه المحبُّ الصفوح. فلماذا يبكين عليه والبكاء على أنفسهن أوْلَى؟ إنه يرى ما لا يرَيْنه مما سيأتي عليهنّ وعلى أورشليم، مما يجعل الناسَ يطوِّبون الذين لا نْسلَ لهم، ويتمنُّون أن تسحقهم الجبال الشامخة تخلُّصاً من عذاباتٍ تجعل الموت رحمة لا نقمة، بسبب شدتها ومرارتها. فالتفت إليهم وقال: «يا بنات أورشليم لا تبكين عليّ، بل ابكين على أنفسكنّ وعلى أولادكن». وسألهنَّ هذا السؤال: «لقد سمحت العناية الإلهية للحاكم الروماني بأن يفعل كل هذا بإنسان هو كالعود الرطب، لأن حياة الصلاح فيه، فماذا يُنتظَر أن يفعل هؤلاء الرومان العتاة بعد حينٍ بصالبيه الظالمين الذين لا حياة صالحة فيهم، بل الذين يشبهون العود اليابس؟». لقد رأى المسيح ذلك اليوم الذي فيه تحل اللعنة على أورشليم وسكانها، حين تُنصَب الصلبان الكثيرة العدد، التي سيراها بعض سامعيه وقت خراب أورشليم، والمعلَّقون عليها هم صالبوه وعيالهم. لم تكن هنا حاجة لبكاء على شخص حقق ما يريد. صحيح أن المشاهدين رأوا المسيح في موقف الانكسار، وهو وحده علم ما لا يعلمه العالم: إن ذلك موقف الانتصار. فلا عجب أنه اعترض على بكائهم عليه.

ليس المسيح شهيداً

لم يجبر أحدٌ أن يقبل ما فعله به أعداؤه. فليس موت المسيح موت شهيد، فالشهداء يُقتَلون على رغم إرادتهم، ولو استسلموا للموت دون إكراهٍ لكان ذلك افتخاراً. وهذا حرام. لكنهم كانوا يريدون أن يعيشوا. نعم كانوا يريدون أكثر أن يُرضُوا اللّه، فلما اضطرهم مضطهدوهم للاختيار بين ترك الحياة وترك رضى اللّه، فضَّلوا الاستشهاد على مخالفة ما يطلبه اللّه منهم، ولكن لم تكن لهم قدرةٌ للتخلُّص من أعدائهم.

أما موقف المسيح فيختلف عن هذا كلياً.. لقد أوضح كثيراً سلطانه أنه قادر أن يخلِّص نفسه من أيدي أعدائه. وبما أن خلاص البشر يتوقف على استسلامه للصلب، يكون تخليصُه أعظم ضرر على الجنس الخاطئ. فالعقل أيضاً يؤيد الوحي في هذا الأمر. لذلك لا يكفي مطلقاً أن ننظر إلى صَلْب المسيح كحادث تاريخي مؤثر فقط، بل كحادث تتوقف عليه حياتنا الروحية وسعادتنا الأبدية. ولهذا قال الرسول بولس: «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لا أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية 2: 20) «عَالِمِينَ هٰذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا ٱلْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْ لا نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ» (رومية 6: 6).

المسيح يرفض المخدِّر

«وَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ جُلْجُثَةُ، وَهُوَ ٱلْمُسَمَّى «مَوْضِعَ ٱلْجُمْجُمَةِ» أَعْطَوْهُ خَلاًّ مَمْزُوجاً بِمَرَارَةٍ لِيَشْرَبَ. وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ»(متى 27: 33، 34).

لما بلغ هذا الموكب محلَّ الصلْب قدموا للمسيح مزيجاً مخدِّراً استعداداً لصلبه. ولما كان اليهود يستهجنون عادة العقاب بالصلب، ألّف نساؤهم لجاناً لأجل تخفيف آلام من يُصلب من قومهم، واستشهدوا بنصيحة سليمان الحكيم في أمثال 31: 6 فكانوا يمزجون مع الخمر بعضَ الأعشاب المخدِّرة ويقدمون هذا الشراب للمهيَّئين للصلْب قبل أن يبدأ تعذيبُهم. لكن المسيح قصد أن يشرب كأس الآلام على مرارتها حتى ثُمالتها. ولم يقبل مخدرات، ورفض حتى أخفَّ تخفيضٍ في صفاء أفكاره، لأن عليه في هذا الوقت أن يوجِّه من على الصليب كلاماً جوهرياً لسامعيه، وصلواتٍ مهمَّة لأبيه، وهذا يقتضي حفْظَ القوى العقلية والروحية سالمة تماماً من التدهور، فلما ذاق الشراب الذي قدموه له وعرف ما هو، رفض أن يشرب.

صلبوه بين لصين

«وَلَمَّا صَلَبُوهُ ٱقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِٱلنَّبِيِّ: «ٱقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً». ثُمَّ جَلَسُوا يَحْرُسُونَهُ هُنَاكَ. وَجَعَلُوا فَوْقَ رَأْسِهِ عِلَّتَهُ مَكْتُوبَةً: «هٰذَا هُوَ يَسُوعُ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ». حِينَئِذٍ صُلِبَ مَعَهُ لِصَّانِ، وَاحِدٌ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَوَاحِدٌ عَنِ ٱلْيَسَارِ» (متى 27: 35-38).

صُلب مع المسيح لصان، فوضع العسكر صليب المسيح بين صليبيهما. يقولون إنهما زميلا باراباس في اللصوصية والقتل، وإن صليب المسيح كان مُعدّاً لرئيسهما باراباس، فحلَّ المسيح محله. ويُؤخذ من بعض الكتابات أن اسم باراباس كان يشوع أي مخلص - وباراباس، اسمه الثاني يعني ابن الآب، وأن اسمه جعله يتوهم أنه يقدر أن يخلص شعبه من النير الروماني. وأن هذا كان أساس الجرائم التي سبّبت الحكم عليه بالإِعدام صلْباً مع زميليه. وأن هذا كان سبب انتصار الشعب له بطلب إطلاقه وصَلْب المسيح مكانه.

كان الحراس يربطون المحكوم عليه بالصلب على صليبه وهو مسطَّح على الأرض، ثم يدقُّون مسامير كبيرة في يديه وقدميه. ثم يرفعون الصليب ويغرزونه في الأرض. ولا تكون أقدام المصلوبين مرتفعة كثيراً عن الأرض، ثم يجلسون يحرسونه نهاراً وليلاً إلى أن يموت، لئلاّ يأتي أحد مريديه ويُنزِله عن الصليب. وكان المصلوب يعيش غالباً بعد صلْبه يومين أو على الأقل يوماً كاملاً. وإذْ كان لا بد من موته كان الحراس في توحُّشهم يستبيحون التسلية بتعذيبه، وتعجيلاً لموته كانوا يكسرون ساقيه بعصا من حديد. وكان الرومان يتركون الجثة معلقة على الصليب فريسة لوحوش البرية والطيور الكاسرة. لكن اليهود كانوا يطلبون تنزيلها قبل غروب الشمس. أما ثياب المصلوب فكانت قانونياً نصيبَ حراسه الأربعة.

المسيح يطلب الغفران لصالبيه

«فَقَالَ يَسُوعُ: «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ». وَإِذِ ٱقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ ٱقْتَرَعُوا عَلَيْهَا» (لوقا 23: 34).

لما ابتدأ العسكر صلْبَ المسيح كانت قد مضت ثلاث ساعات من النهار في محاكمته أمام المجمع اليهودي، ثم الوالي الروماني، ثم الملك هيرودس الأدومي، ثم من السيْر إلى محلّ الصلْب. وكان الجنود معتادين على صراخ الغضب والشتائم والألفاظ الكفرية التي يصبُّها المصلوبون على رؤوسهم، والمرجَّح أن اللصين ماثلا غيرَهما في ذلك. أما المسيح فسمعوه يصلّي لأجلهم صلاة محبة في كلمته الأولى على الصليب: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون». لم يطلب لهم المعذرة أو التبرئة بحجَّة جهلهم ما يفعلون، لكنه طلب لهم الغفران بحجة أن خطيتهم أخفُ مما كانت لو عرفوا تماماً من هو الذي يصلبونه. نذكر قول بولس الرسول: «لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْدِ» (1 كورنثوس 2: 8).

في صلاة المسيح: «يا أبتاه اغفر لهم» لهجةٌ جديدة لم نسمعها منه سابقاً. كان عادة يلفظ بالغفران كمَنْ له الحقُّ أن يمنح ذلك، لكنه الآن يتكلم كمن يسامحهم بحقوقه عليهم، ويهتمّ بأن ينصرف عنهم الغضبُ الإلهي على ما فعلوه به.

تحققت نبوات

لم يكن العسكر الروماني يعلمون ماذا يفعلون، لأنهم في ظلام العبادة الوثنية.. ولا عرف رؤساءُ اليهود ماذا يفعلون، لأنهم أغمضوا عيونهم للنور عمداً، فأتاهم العَمى الذي يأتي كلَّ من يحبس البصر طويلاً. لم يعلموا ما يفعلون لأنهم تمموا النبوات الصريحة بخصوص مسيحهم عن غير معرفة أو تقوى فأثبتوا بفعلهم أن يسوع مسيحُهم، بينما أنكروا ذلك بقولهم. مثالُ هذا اشتراكهم بتسمير جسده على الصليب، ليتمموا النبوة القائلة: «جَمَاعَةٌ مِنَ ٱلأَشْرَارِ ٱكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ» (مزمو 22: 16).

وبتعليقه بين لصين تمموا النبوة القائلة: «جُعِلَ مَعَ ٱلأَشْرَارِ قَبْرُهُ... وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ » (إشعياء 53: 9 ، 12).

هذا المصلوب مكلَّل بتاج من شوك، لأن فوق رأسه عنوان «ملك اليهود». فكل ذي بصيرة يرى تيجاناً أخرى مجيدة تزيّن جمالَ مُحيَّاه وتكلل جبهته. وفي التاج الشوكي نرى رمزها. نراه متوَّجاً بالحكمة الشديدة، والقدرة الخيرية، والقداسة السماوية. وكأن هذه التيجان تختلط لتؤلِّف تاجه الأعظم، تاجَ حبه الفدائي السائد في كلامه وحركاته. وقد برهن العسكر الروماني - عن غير قصد - أن هذا المصلوب هو مسيح اليهود الحقيقي الذي تنبأ بمجيئه الأنبياء، لأنهم لما اقتسموا ثيابه ليأخذ كل جندي حقَّه منها، أتمُّوا دون أن يقصدوا النبوَّة القائلة: «يقسمون ثيابي بينهم». ثم لما وصلوا إلى القميص المنسوج بغير خياطة، اقترعوا عليه، فأتمُّوا بقية النبوة القائلة: «عَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ». وبنَزْع ثيابه عنه، أتمُّوا الكلام الأول في تلك النبوة وهو: «أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ» (مزمور 22: 17 ، 18).

ما أعظم السخرية التي سمعها المسيح على الصليب. سخروا أولاً على ما حرّفوه من كلامه عن نقض الهيكل وبنائه في ثلاثة أيام، وثانياً على قوله إنه ابن اللّه، وثالثاً أنه جعل ذاته مخلِّص البشر، ورابعاً أنه ادَّعى بأنه المسيحُ مختار اللّه، وخامساً أنه يدَّعي بأنه يتكل تماماً على اللّه، وسادساً لأنه لما سأله بيلاطس: «أأنت ملك اليهود؟» أجاب بالإيجاب.

حسب أفكارهم السطحية كان الصليبُ تكذيباً كافياً لكل هذه البنود الستة، فطالبوا المسيحَ أن يخلِّص ذاته من الصليب ليؤمنوا به مخلصاً للآخرين، مع أن تخليصه نفسه من الصليب - وهو قادر على ذلك - يوقع البشر جميعاً في يأس الهلاك الأبدي. لكن هذا الاستهزاء كان تحقيقاً للنبوات التي منها: «كُلُّ ٱلَّذِينَ يَرُونَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ ٱلشِّفَاهَ وَيُنْغِضُونَ ٱلرَّأْسَ قَائِلِينَ: «ٱتَّكَلَ عَلَى ٱلرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ. لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ» (مزمور 22: 7 ، 8).

وانضم العسكر الروماني، ومعهم اللصين إلى صفوف المستهزئين. فقدَّم له العسكر خلاً للشرْب بدلاً من الخمر الذي يُقدَّم للملاك، قائلين: «إنْ كنتَ أنت ملك اليهود فخلِّصْ نفسك». وأما استهزاء اللصين فيُعذَر أكثر من غيره، لأن تعذيبهما هيَّج الشر في قلبيهما، ولأنهما يفكران أن يحمِّسا هذا القدير ليخلِّص ذاته إنْ أمكن، فيخلصْهما معه، وصدقَتَ بكلامهما نبوةٌ أخرى هي: «تَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ» (مزمور 69: 9).

توبة أحد اللصين

«وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُذْنِبَيْنِ ٱلْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!» فَٱنْتَهَرَهُ ٱلآخَرُ قَائِلاً: «أَوَلا أَنْتَ تَخَافُ ٱللّٰهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هٰذَا ٱلْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ، لأَنَّنَا نَنَالُ ٱسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هٰذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ». ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: «ٱذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ» (لوقا 23: 39-43).

قال المسيح مرة: «وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ» (يوحنا 12: 32) الذين يجذبهم إليه بواسطة صليبه هم كنجوم في فَلَك آلامه المظلم. وحالاً ظهر الكوكب الأول، أحد هذين اللصين، الذي اصطلح المفسرون على اعتباره معلَّقاً عن يمين المسيح. لقد رأى تصرفات المسيح وسكوتَه وصبره وصلاته لأجل صالبيه، ولا سيما احتماله بلطف تعييراته وتعييرات رفيقه المصلوب معه، فآمن بهذا المصلوب، وتاب عن فعله، وبدأ يخدم هذا المخلص بما في استطاعته، لأنه قاوم رفيقه ووبخه في وجه القوم المتجمعين مع رؤسائهم، ودافع وحده عن المسيح بجرأة عجيبة. وبذلك قام مقام التلاميذ الذين هربوا. قال لزميله: إنْ كان هذا الجمهور الذي ليس تحت حكم العذاب والموت، يعيِّر رفيقنا المصلوب، أيجوز لنا نحن المصلوبَيْن أن نفعل فعلهم؟ أَوَلاَ تخاف اللّه، إذْ أنت تحت هذا الحُكم بعينه؟ أما نحن فبعدلٍ، لأننا ننال استحقاق ما فعلنا. وأما هذا فلم يفعل شيئاً ليس في محلِّه».

ما أغرب هذا الصوت في آذان السامعين، ولا سيما في آذان المستهزئين. لص يقول للص: «أَوَلاَ أنت تخاف اللّه؟» ويعترف بأنه يستحق الصلْبَ لأجل آثامه. ويسمِّي المصلوب بجانبه رباً سوف يجيء منتصراً كملك. فصارت دموع أسفه على ماضيه كالعدسيات في المِرْقب، تمكّنه من رؤية ما كان بعيداً عن أبصار الآخرين. لقد رأى بالإيمان ملكوتاً روحياً ملِكُهُ هذا المصلوب. جعله يدعوه: «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك». فكم من الألوف استفادوا وتشجعوا وخَلَصوا بواسطة هذا المِثال، وكم من خاطئ قضى حياته بعيداً عن اللّه، ثم قدَّم أخيراً توبة حقيقية مقبولة عند اللّه، بسبب قبول المسيح توبة هذا اللص.

في الكتاب المقدس حادث واحد شهير يشجّع الذي لم يتُبْ في حياته السابقة على أن يقدِّم التوبة عند مماته. لكنه حادث وحيد، لئلا يطمع كلُّ خاطئ بسببه ويؤجل توبته إلى ساعة مماته. وسرعان ما قال المسيح للص: «الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس». وعد المسيح اللص بسعادة بعد موته حالاً، يكون هو رفيقه فيها، وفي هذا الوعد أظهر مرة أخرى سلطانَه الإلهي. وتمَّت في هذه الساعة نبوةٌ أخرى للنبي الإنجيلي إشعياء، قال فيها عن المسيح: «مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي ٱلْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا» (إشعياء 53: 11).

مثَّل اللصان الجنس البشري بأسره. فكان عن يسار المخلص المصلوب ممثِّلُ القسم الهالك من البشر، لأنهم يموتون في خطيتهم. وعن يمينه ممثّل القسم الذي يخلُص بخلاصٍ أبدي، لأنه يتوب ويؤمن بالمخلص الوحيد. فبينما كان الكهنة يقدمون في تلك الساعة للّه في هيكله الحُزْمة، التي هي باكورة حصاد الشعير، حسب شريعة موسى، قدم المسيح رئيس كهنتنا للآب في السماء باكورة حصاد الذين دعاهم بموته إلى الإِيمان والخلاص. نعلم من كلام المسيح عن الفرح الذي يكون في السماء بخاطئ واحد يتوب، أن فرحه بهذا التائب أنساه عذاباته. وأنه حسبه مكافأة عن كل ما تكبَّده في إتيانه من السماء بالنظر إلى قيمة النفس الواحدة. فكلمته هذه الثانية على الصليب هي كالأولى حباً، لا لنفسه بل للآخرين، وليس للقريبين منه بل للبعيدين عنه في الروح والأفكار والصفات.

المسيح يهتمّ بأمه العذراء

«وَكَانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ، أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا، وَمَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَٱلتِّلْمِيذَ ٱلَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفاً، قَالَ لأُمِّهِ: «يَا ٱمْرَأَةُ، هُوَذَا ٱبْنُكِ». ثُمَّ قَالَ لِلتِّلْمِيذِ: «هُوَذَا أُمُّكَ». وَمِنْ تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ أَخَذَهَا ٱلتِّلْمِيذُ إِلَى خَاصَّتِهِ» (يوحنا 19: 25-27).

وجَّه المسيح كلمته الأولى على الصليب إلى أبيه لأجل صالبيه. وجّه كلمته الثانية إلى تلميذه الجديد اللص التائب. ووجَّه كلمته الثالثة، وهي الأخيرة التي تختصُّ بغيره من البشر، إلى أمه مريم التي يجوز في نفسها السيف الذي أنبأها به سمعان الشيخ منذ ثلاث وثلاثين سنة، لما أخذ طفلها على ذراعيه (لوقا 2: 35). كان منظر مريم العذراء، هذه الأم الحزينة التي بلغ عمرها لا أقل من خمسين سنة، وهي غارقة بالدموع السخينة، منظراً مؤثراً جداً. وحقاً لا يمكن أن يعرف إلا العليمُ سبحانه مقدار حزنها المفرط في هذه الساعة الهائلة. فانصباب المسيح على مقاصده الروحية الفائقة، واحتماله كل آلامه الروحية والجسدية، لم يشغلاه عن الاهتمام الحبي بحاجات هذه الوالدة المقدسة، حتى الجسدية منها.

نظر المسيح إليها بالحنان البنوي، وأومأ برأسه إلى يوحنا الواقف بجانبها وقال: «هوذا ابنك». ثم قال ليوحنا: «هوذا أمك» لعِلْمه أن هذا الرسول الأمين المحب الغيور، يقوم بالخدمة البنوية نحوها في كل ما يجب، أفضل مما يفعل إخوته وأخواته، فاختاره وخصَّه بهذا الشرف العظيم. وفي كل هذا العمل نفى المسيح أن الذي يتخصّص لخدمة الدين يجوز له أن يستعفي من الاهتمام بحاجات عائلته الجسدية. فمن تلك الساعة أخذها يوحنا إلى خاصته. ومِنْ عدم ذكرها مع النساء اللواتي حضرن إنزال المسيح عن الصليب ودفْنه، نستدلُّ أن المسيح أمر يوحنا أن يأخذها حالاً من ذلك الموقف القاسي، ليحميها من مشاهدة حوادث تسليمه الروح وإنزاله عن الصليب، ثم وضعه في القبر.

إلهي، لماذا تركتني؟

«وَلَمَّا كَانَتِ ٱلسَّاعَةُ ٱلسَّادِسَةُ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى ٱلأَرْضِ كُلِّهَا إِلَى ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ. وَفِي ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِلُوِي إِلُوِي لَمَا شَبَقْتَنِي؟» (اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ: إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟) فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْحَاضِرِينَ لَمَّا سَمِعُوا: «هُوَذَا يُنَادِي إِيلِيَّا». فَرَكَضَ وَاحِدٌ وَمَلأَ إِسْفِنْجَةً خَلاًّ وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ قَائِلاً: «ٱتْرُكُوا. لِنَرَ هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا لِيُنْزِلَهُ!»

فَصَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ. وَٱنْشَقَّ حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ إِلَى ٱثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَلَمَّا رَأَى قَائِدُ ٱلْمِئَةِ ٱلْوَاقِفُ مُقَابِلَهُ أَنَّهُ صَرَخَ هٰكَذَا وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ، قَالَ: «حَقّاً كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ!» وَكَانَتْ أَيْضاً نِسَاءٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، بَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ ٱلصَّغِيرِ وَيُوسِي، وَسَالُومَةُ، ٱللَّوَاتِي أَيْضاً تَبِعْنَهُ وَخَدَمْنَهُ حِينَ كَانَ فِي ٱلْجَلِيلِ. وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ ٱللَّوَاتِي صَعِدْنَ مَعَهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ» (مرقس 15: 33-41).

لما انتصف النهار، دخل المسيح في دور جديد فاق كل ما سبقه أهمية، فقد حقّق نبوة إشعياء: «حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ ٱللّٰهِ وَمَذْلُولاً... وَهُوَ مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا... وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا... ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي... أَمَّا ٱلرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِٱلْحُزْنِ َهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ» (إشعياء 53: 4-6 و8 و10 و12).

فلما ابتدأ هذا الدور الجديد أظلمت الشمس في رائعة النهار، من الثانية عشرة ظهراً إلى الثالثة مساء. فكأن الطبيعة اشتركت في حزنه العميق ولبست الحداد.

عند دخول المسيح إلى العالم ظهر كوكب ليعلن مجيئه. وعند خروجه انحجبت الشمس لتعلن قرب تسليمه روحه إلى الموت الطبيعي. وبدلاً من النور الباهر الذي أضاء ليلاً على سهول بيت لحم عند ولادته، هبط على النهار ظلامٌ عمَّ الأرضَ كلها عند موته. والسر المكتوم الطبيعي في كيفية إظلام الشمس يقابله السرُّ الأعمق في كيفية حلول الغضب الإلهي على المسيح الإنسان الكامل، الذي كان أيضاً ابن اللّه الحبيب، المولود الجديد.

والأمر الذي يزيل كل ريب في هذا التفسير لذلك الظلام، هو كلمة المسيح الرابعة التي قالها في آخر الساعات الثلاث: «إلهي إلهي، لماذا تركتني؟» ليس لنا أن نتجاسر بالسؤال عما جرى بينه وبين الآب في تلك الساعات التي كان فيها مختلفاً عن البشر جميعاً، وفصلت بينه وبين الجماهير المزدحمة.

سمع صرخته هذه عدد كاف من الناس فقد قالها «بصوت عظيم» فعلموا أن الآب تركه في تلك الساعة، ليعلم العالم أن ذلك كان لأجل التكفير عن خطايا البشر، خصوصاً وأن صلاته اختلفت تماماً عن كل صلاة أخرى قدمها ذُكرت له. لم يصلّ كعادته «أيها الآب» أو «يا أبتاه» بل: «إلهي إلهي» - أي أنه يشعر بفاصل جديد وقتي بينه وبين الآب، يمنع عنه حق مخاطبة أبيه. وذلك أفضل برهان لتغيير العلاقة في تلك الساعة بينه وبين الآب - فقد كان في موقف النائب عن الجنس البشري - وقد حقَّق في هذه الكلمات النبوة التي جاءت في مزمور 22: 1.

أنا عطشان

«بَعْدَ هٰذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ، فَلِكَيْ يَتِمَّ ٱلْكِتَابُ قَالَ: «أَنَا عَطْشَانُ». وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعاً مَمْلُوّاً خَلاً، فَمَلأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ ٱلْخَلِّ، وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ» (يوحنا 19: 28 - 30).

بسبب المشابَهة بين لفظة «إلهي» واسم النبي إيليا في اللغة الأرامية، استنتج بعض الواقفين هناك أن المسيح يستنجد بالنبي إيليا. ويظهر أن هذه الصرخة فكَّت أغلال الظلام. فبزوال الألم الروحي عند انقشاع نور الشمس، عاد الألم الجسدي بشدة فقال (وليس صرخ): «أنا عطشان». هوذا معطي ماء الحياة الذي قال للسامرية: «من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش أبداً». يقول: «أنا عطشان». لأن عطشه جسدي، والماء الذي يعطيه هو الروح.

عند هذا ركض أحد الحراس وملأ أسفنجة خلاً ووضعها على قصبة وسقاه، فاعترضه بعض قساة القلوب قائلين: «أتركْهُ لنر: هل يأتي إيليا ليُنْزِله ويخلّصَه». أما المسيح فرضي أن يمتصَّ هذا الشراب المنعش، لأنه قصد أن يسلّم روحه بكل ما يمكن من النشاط. فعند كلمته هذه الخامسة تمت نبوة أخرى تقول: «فِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاًّ» (مزمور 69: 21).

قد أُكمل

بعد أن شرب المسيح الخل قال كلمته السادسة: «قد أُكمل». أعلن أنه أكمل أهمَّ حوادث التاريخ البشري في كل عصوره، وهو عمل الفداء الذي به تمَّت المصالحة بين الإله القدوس والبشر الخطاة. «لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ ٱلْمِلْءِ، وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ ٱلْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً ٱلصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ، بِوَاسِطَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا عَلَى ٱلأَرْضِ أَمْ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. وَأَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً أَجْنَبِيِّينَ وَأَعْدَاءً فِي ٱلْفِكْرِ، فِي ٱلأَعْمَالِ ٱلشِّرِّيرَةِ، قَدْ صَالَحَكُمُ ٱلآنَ فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِٱلْمَوْتِ، لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ وَبِلا لَوْمٍ وَلا شَكْوَى أَمَامَهُ» (كولوسي 1: 19-22). قد أكمل النظام الموسوي مع رموزه من كبيرها إلى صغيرها، وانتهى العهد القديم في العهد الجديد. «ٱلأَشْيَاءُ ٱلْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا ٱلْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2 كورنثوس 5: 17) قد أكمل سَيْر الإِله المتأنس بين الناس. ومن الآن فصاعداً لم يعد يخالط البشر كما كان يفعل، بل يظهر ظهوراتٍ متقطِّعةً فقط في جسد مجده الجديد أمام تلاميذه الأولين، ثم بعد قليل يتوارى تماماً عن أبصار العالم إلى يوم مجيئه الثاني المجيد.

في يديك أستودع روحي

«وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي». وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أَسْلَمَ ٱلرُّوحَ» (لوقا 23: 46).

كانت كلمة المسيح الرابعة: «إلهي إلهي، لماذا تركتني؟»... وقد أعلنت الانفصال الوقتي الرهيب بينه وبين الآب. فبصراخ آخر عظيم مثله، يعلن الآن للجماهير زوال ذلك الانفصال تماماً، ورضاه التام بأن يموت على الصليب لأنه يصرخ مصلياً: «يا أبتاه، في يديك أستودع روحي». فأتمَّ بهذه الكلمة السابعة على الصليب نبوة أخرى جاءت في مزمور 31: 5. وأظهر رجوع علاقته مع الآب بكلمته «أبتاه». فبهذه الكلمة السابعة والأخيرة، وبهذه العبارة المؤثرة التي كررها عدد غفير من تابعيه بعده في ساعات الاحتضار، ودَّع ابنُ مريم وابنُ الإنسان خدمته الأرضية اليومية الاعتيادية بين الناس لينزل إلى القبر هنيهة.

ثم نكس المسيح رأسه وأسلم الروح. ففي موته آية عظيمة أشار إليها قبلاً في قوله: «أنا أضع نفسي عن الخراف. ليس أحد يأخذها مني، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضاً. هذه الوصية قبلتُها من أبي» (يوحنا 10: 15 ، 18) أي أنه بفعل إرادته فصل نفسه عن جسده فقيل: «أسلم الروح» لأنه قد أتمَّ عمله المطلوب. وهذا يتفق مع موته السريع في مدة ست ساعات بعد صلبه، لأنه عُلّق على الصليب ساعة تقديم ذبيحة الصباح في الهيكل، وأسلم روحه في ساعة تقديم ذبيحة المساء. ولم يكن الصلب يُمِيت المصلوب في يومه.

الزلزلة وقيام الموتى

«وَإِذَا حِجَابُ ٱلْهَيْكَلِ قَدِ ٱنْشَقَّ إِلَى ٱثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَٱلأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ، وَٱلصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ، وَٱلْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ ٱلْقِدِّيسِينَ ٱلرَّاقِدِينَ وَخَرَجُوا مِنَ ٱلْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ، وَدَخَلُوا ٱلْمَدِينَةَ ٱلْمُقَدَّسَةَ، وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ. وَأَمَّا قَائِدُ ٱلْمِئَةِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ يَحْرُسُونَ يَسُوعَ فَلَمَّا رَأَوُا ٱلزَّلْزَلَةَ وَمَا كَانَ، خَافُوا جِدّاً وَقَالُوا: «حَقّاً كَانَ هٰذَا ٱبْنَ ٱللّٰهِ». وَكَانَتْ هُنَاكَ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُنَّ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَ يَسُوعَ مِنَ ٱلْجَلِيلِ يَخْدِمْنَهُ، وَبَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَيُوسِي، وَأُمُّ ٱبْنَيْ زَبْدِي» (متى 27: 51-56).

عندما سلم المسيح نفسه للموت ارتجفت الطبيعة لموت رب الحياة. قيل إن «الأرض تزلزلت والصخور تشققت والقبور تفتحت». وكان لتفتيح القبور نتيجة عجيبة، إذ قام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة، وظهروا لكثيرين. فهذه، والمعجزات الأخرى التي حدثت عند خروجه من العالم، تشبه المعجزات التي حدثت عند دخوله إلى العالم في أنه لم تشترك فيها يده أو يدٌ بشرية على الإِطلاق. وهذا ما يزيد كثيراً قوة شهادة هذه المعجزات لشخصه الفريد.

شقُّ حجاب الهيكل:

كان من جملة نتائج هذه الزلزلة وما تبعها أن حجاب الهيكل انشقَّ من وسطه إلى اثنين من فوق إلى أسفل. كان هذا الحجاب في وضعه الأصلي علامة بأن الرضى الإلهي محجوب عن البشر، حتى عن الكهنة منهم، بسبب خطاياهم. وأن السبيل إلى اللّه مغلق في وجه الجميع. إلا أن رئيس الكهنة استُثني لأنه يمثل الرئيس الأصلي، الابن الحبيب. وكان الحجاب أيضاً رمزاً لطبيعة المسيح البشرية التي كانت تحجب وتعلن طبيعته الإلهية في الوقت الواحد. فبتمزيق جسد المسيح على الصليب انفتح للبشر باب السماء، ولذلك لاق أن يتمزق أيضاً الستار في الهيكل الذي كان يشير إلى ذلك الجسد. وكان لشقِّ الحجاب معنى كبيرٌ يشمل أيضاً زوال النظام الموسوي، وطقوس الهيكل، والكهنوت البشري، والذبائح الحيوانية، والرموز القديمة، بناء على إتمام المرموز إليه في شخص المسيح.

حقاً كان هذا ابن اللّه:

كان مع الحراس الاثني عشر ضابط برتبة قائد مئة، يدير حركة صَلْب الثلاثة. ولا ريب أنه مع جنوده قد اطَّلع على الظلم في معاقبة المسيح، لذلك كان للمعجزات التي حدثت بسببه كالظلام والزلزلة تأثير عظيم يخيفه، كما يخيف كل من كان مشتركاً في هذه الجريمة. ألا يخشون عقاب اللّه؟ لذلك خافوا جداً. لكن مع خوفهم شعروا بأن يداً إلهية كانت مع المسيح تبرهن أنه ليس كالناس، فمجّدوا اللّه وشهدوا لصلاح المسيح. وفاق رئيسهم في شهادته لأنه فاقهم في إدراكه وقال: «حقاً كان هذا الإنسان ابن اللّه». فصار من الكثيرين الذين قال عنهم المسيح تكراراً في وعظه أنهم «سَيَأْتُونَ مِنَ ٱلْمَشَارِقِ وَٱلْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ، وَأَمَّا بَنُو ٱلْمَلَكُوتِ فَيُطْرَحُونَ إِلَى ٱلظُّلْمَةِ ٱلْخَارِجِيَّةِ» (متى 8: 11 و12). كما أن أفراد الجمهور انصرفوا وهم يقرعون على صدورهم عجباً وتخشُّعاً.

5 - المسيح في القبر

«ثُمَّ إِذْ كَانَ ٱسْتِعْدَادٌ، فَلِكَيْ لا تَبْقَى ٱلأَجْسَادُ عَلَى ٱلصَّلِيبِ فِي ٱلسَّبْتِ، لأَنَّ يَوْمَ ذٰلِكَ ٱلسَّبْتِ كَانَ عَظِيماً، سَأَلَ ٱلْيَهُودُ بِيلاطُسَ أَنْ تُكْسَرَ سِيقَانُهُمْ وَيُرْفَعُوا. فَأَتَى ٱلْعَسْكَرُ وَكَسَرُوا سَاقَيِ ٱلأَوَّلِ وَٱلآخَرِ ٱلْمَصْلُوبَيْنِ مَعَهُ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ، لأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ. لٰكِنَّ وَاحِداً مِنَ ٱلْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ. وَٱلَّذِي عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ. لأَنَّ هٰذَا كَانَ لِيَتِمَّ ٱلْكِتَابُ ٱلْقَائِلُ: «عَظْمٌ لا يُكْسَرُ مِنْهُ». وَأَيْضاً يَقُولُ كِتَابٌ آخَرُ: «سَيَنْظُرُونَ إِلَى ٱلَّذِي طَعَنُوهُ» (يوحنا 19: 31-37).

أسلم المسيح الروح قبل أن يبتدئ العيد العظيم بساعتين، فتيسرَّ للرؤساء عذرٌ لتجديد تعذيب المسيح، فطلبوا من الوالي أن يكسر سيقان المصلوبين، فلبَّى الوالي طلبهم وأمر بذلك، لأنه لا يتصور أن يموت أحد في هذا النهار. وكان الرؤساء يريدون أن يعاملوا عدوهم العظيم بعد موته معاملة المجرمين السياسين بعد صَلْبهم، فيطرحون جسده خارج المدينة لتفترسه الوحوش. لكن قانون خروف الفصح يمنع كلياً كَسْر عظم منه، وتقول إحدى النبوات عن المسيح إن عظماً منه لا ينكسر (مزمور 34: 20) فكيف يتحقَّق هذا الرمز، وكيف تتمُّ هذه النبوة، بعد أَمْر الوالي الذي ذُكر؟ الجواب في ما جرى. فبعدما نفذ العسكر أمر الوالي في اللصين أتوا إلى المسيح فوجدوه قد مات. وهكذا أوقفتهم يد اللّه عن كسر عظامه.

ولكن لو تركوا المسيح هكذا لنقَصتْ براهين موته الحقيقي، وهذا أمر مهم. لأنه بعد حين قامت جماعة أنكرت حقيقة القيامة، مدَّعية بأنه دُفن في سُبات طبيعي واستفاق في قبره. فاستدركت العناية الإلهية شكوكاً كهذه، وأوجدت ما ينافيها تماماً، فإن واحداً من العسكر طعن جنب المسيح بحربة فتحت جرحاً عميقاً، جعل المسيح يقول بعد قيامته لتوما: «هات يدك وضعها في جنبي». ومن هذا الجُرح «خرج دم وماء». لأجل تحقيق هذا الأمر المستغرَب أضاف البشير قوله: «وَٱلَّذِي عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ» (يوحنا 19: 35). ثم يستشهد بالنبوة القديمة «فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ، ٱلَّذِي طَعَنُوهُ» (زكريا 12: 10).

مات فعلاً:

هذه خاتمة حوادث الصلب. أن المسيح الذي كان بمجرد لَمْسه يحوِّل الأجسام المصابة بالأمراض الكريهة والمميته، إلى أجسام صحيحة، حوّل بلَمْسه صليباً مؤلماً معيباً، شعار اللعنة والتوحّش، إلى موضوعِ الإكرام والإجلال، فصار شعار التمدُّن واللطف والحب والإِشفاق والشرف والخلاص الأبدي. لما كتب بولس الرسول: «وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلا بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ ٱلْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ» (غلاطية 6: 14) - كاد أن يكون منفرداً في العالم بهذا الافتخار. أما اليوم فيزداد الافتخار كثيراً جيلاً بعد جيل، ويزداد عدد شركائه فيه.

طلب دفن المسيح

«وَلَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ، إِذْ كَانَ ٱلٱسْتِعْدَادُ - أَيْ مَا قَبْلَ ٱلسَّبْتِ - جَاءَ يُوسُفُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلرَّامَةِ، مُشِيرٌ شَرِيفٌ، وَكَانَ هُوَ أَيْضاً مُنْتَظِراً مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ، فَتَجَاسَرَ وَدَخَلَ إِلَى بِيلاطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. فَتَعَجَّبَ بِيلاطُسُ أَنَّهُ مَاتَ كَذَا سَرِيعاً. فَدَعَا قَائِدَ ٱلْمِئَةِ وَسَأَلَهُ: «هَلْ لَهُ زَمَانٌ قَدْ مَاتَ؟» وَلَمَّا عَرَفَ مِنْ قَائِدِ ٱلْمِئَةِ، وَهَبَ ٱلْجَسَدَ لِيُوسُفَ. فَٱشْتَرَى كَتَّاناً، فَأَنْزَلَهُ وَكَفَّنَهُ بِٱلْكَتَّانِ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْرٍ كَانَ مَنْحُوتاً فِي صَخْرَةٍ، وَدَحْرَجَ حَجَراً عَلَى بَابِ ٱلْقَبْرِ» (مرقس 15: 42-46).

كان للمسيح تلميذ في الخفاء اسمه يوسف، من الرامة، كان عضواً في مجلس اليهود الأعلى. وكان يملك بستاناً به قبر محفور في صخر - ولعله كان يريد أن يدفنوه فيه في أورشليم المدينة المقدسة. وكان يوسف الرامي صاحب مكانة بسبب مقامه وغناه، وكان له مركز طيب عند بيلاطس. فلما عرف يوسف بموته وطلب أن يأخذ جسد المسيح. ومع أنه لم يتبع المسيح ظاهراً أيام انتصاره، إلا أنه تبعه يوم انكساره، فأثبت شرفه الحقيقي وصِدْق إيمانه. ووافق بيلاطس على طلب يوسف بعد أن تحقق من موت المسيح. فاستدعى قائدَ المئة الذي تولَّى أمر الصلب. ولما تأكد منه أن المسيح قد مات، أصدر الأمرَ للحرس العسكري بالسماح ليوسف أن يأخذ الجسد.

تكفين المسيح ثم دفنه

«ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ ٱلَّذِي مِنَ ٱلرَّامَةِ، وَهُوَ تِلْمِيذُ يَسُوعَ، وَلٰكِنْ خُفْيَةً لِسَبَبِ ٱلْخَوْفِ مِنَ ٱلْيَهُودِ، سَأَلَ بِيلاطُسَ أَنْ يَأْخُذَ جَسَدَ يَسُوعَ، فَأَذِنَ بِيلاطُسُ. فَجَاءَ وَأَخَذَ جَسَدَ يَسُوعَ. وَجَاءَ أَيْضاً نِيقُودِيمُوسُ، ٱلَّذِي أَتَى أَوَّلاً إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً، وَهُوَ حَامِلٌ مَزِيجَ مُرٍّ وَعُودٍ نَحْوَ مِئَةِ مَناً. فَأَخَذَا جَسَدَ يَسُوعَ، وَلَفَّاهُ بِأَكْفَانٍ مَعَ ٱلأَطْيَابِ، كَمَا لِلْيَهُودِ عَادَةٌ أَنْ يُكَفِّنُوا. وَكَانَ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي صُلِبَ فِيهِ بُسْتَانٌ، وَفِي ٱلْبُسْتَانِ قَبْرٌ جَدِيدٌ لَمْ يُوضَعْ فِيهِ أَحَدٌ قَطُّ. فَهُنَاكَ وَضَعَا يَسُوعَ لِسَبَبِ ٱسْتِعْدَادِ ٱلْيَهُودِ، لأَنَّ ٱلْقَبْرَ كَانَ قَرِيباً» (يوحنا 19: 38-42).

اشترى يوسف الرامي كتاناً ثميناً لأجل التكفين، وجاء معه محبٌّ آخر يماثله في أنه مشير غني شريف وتلميذ خفي للمسيح، وهو نيقوديموس الذي «أتاه ليلاً» في أورشليم قبل هذا الوقت بثلاث سنين، وكلّمه المسيح عن الولادة الثانية من فوق (يوحنا 3). أتى الآن حاملاً مزيج مرٍّ وعودٍ للتحنيط نحو مئة مناً أي ما يقارب خمسة عشر رطلاً من الأطياب الثمينة، وهو ما يكفي لتحنيط جثة ملك. ولا بد أنه كان معهما خدم يساعدونهما في العمل الشاق الذي يقصدانه. ولا شك أن يوحنا انضمَّ إليهما في العمل.

مات المسيح منبوذاً حسب النبوَّة، لكنه دُفن بإكرام كملك، بفضل غيْرَة يوسف الرامي ونيقوديموس، فصحَّت النبوة الأخرى أنه «وَجُعِلَ مَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ» (إشعياء 53: 9) فبالنظر إلى غِنى يوسف لا بد أن يكون قبره «مغارة كبيرة» في جانبها المكان المُعدُّ لوضْع الجسد، فأخذوا الجسد عن الصليب وأتمُّوا الرسوم اللائقة من غَسْل وتحنيط وتكفين داخل المغارة. ولبثت النساء الأمينات واقفات في جوار المكان ينظرن إلى بعض ما حدث. ثم دحرجوا حجراً كبيراً على باب القبر.

حراسة القبر المختوم

«وَفِي ٱلْغَدِ ٱلَّذِي بَعْدَ ٱلٱسْتِعْدَادِ ٱجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلاطُسَ قَائِلِينَ: «يَا سَيِّدُ، قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذٰلِكَ ٱلْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ ٱلْقَبْرِ إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ، لِئَلا يَأْتِيَ تَلامِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ، وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ إِنَّهُ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، فَتَكُونَ ٱلضَّلالَةُ ٱلأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ ٱلأُولَى!» فَقَالَ لَهُمْ بِيلاطُسُ: «عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اِذْهَبُوا وَٱضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُونَ». فَمَضَوْا وَضَبَطُوا ٱلْقَبْرَ بِٱلْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا ٱلْحَجَرَ» (متى 27: 62-66).

لا بأس من تحويل النظر قليلاً من التلاميذ المحبِّين إلى شيوخ اليهود المبغضين، الذين ظنوا أنهم أفلحوا تماماً في المهمة التي شغلتهم كثيراً في هذه السنين الأخيرة، واستراحوا نهائياً من المسيح. لكن هل استراحوا حقاً كما يزعمون؟ وهل تسكت ضمائرهم عن تعذيبهم لسفكهم دماً بريئاً، مخالفين أقوال اللّه لأسلافهم؟ كان ما شاهدوه وسمعوه من قرائن الصَّلْب قد شوَّش أفكارهم لئلا يكون كلام المسيح أنه يقوم في اليوم الثالث صحيحاً، فذهبوا إلى بيلاطس يقولون: «يا سيد قد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حي: إني بعد ثلاثة أيام أقوم. فمُرْ بضبط القبر إلى اليوم الثالث، لئلا يأتي تلاميذه ليلاً ويسرقوه ويقولوا للشعب إنه قام من الأموات. فتكون الضلالة الأخيرة أشرَّ من الأولى». فأجابهم باستخفاف: «عندكم حراس. اذهبوا واضبطوه كما تعلمون». فمضوا وضبطوا القبر بالحُرَّاس وختموا الحجر. ويُرجَّح أنهم أفهموا الحراس بأن عملهم الخصوصي الذي وضعوهم هناك لأجله هو أن يقتلوا يسوع حالاً، فيما إذا قام كما قال.

في يوم الجمعة الذي فيه صُلب المسيح، يذكر الإنجيل بالاسم قليلين فقط من تابعي المسيح، فمن تلاميذه بطرس والإسخريوطي ويوحنا. ومن المؤمنين به سراً يوسف ونيقوديموس وربما سمعان القيرواني، ومن النساء أمه وأختها ومريم المجدلية وسالومة. إلا أنه يقول أيضاً: «كان جميع معارفه واقفين من بعيد ينظرون صَلْبه، ونساء كثيرات كُنَّ قد تبِعنْه من الجليل». وهؤلاء جميعاً يهدُّهم الفشل واليأس. لقد خطف الذئب الراعي، فأي رجاءٍ يبقى للقطيع؟

يقف المفكر المُخْلص تجاه ذلك القبر المختوم ليسأل نفسه: هل يقوم هذا المدفون، أو هل يبقى في القبر ليرى فساداً نظير جميع الذين ماتوا قبله وبعده. فإن قام، عليه أن يقوم دون واسطة بشرية. قال عند قبر لعازر: «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ» (يوحنا 11: 25) وأكد لليهود أن له سلطاناً أن يضع نفسه أو يأخذها أيضاً. وإنْ لبث في قبره يَصْدُق الذين صلبوه لما عيَّروه بأنه لا يصلح مخلِّصاً للعالم ما دام عاجزاً عن تخليص نفسه بنزوله عن الصليب.

فكيف ينتهي أمر المسيح؟

كان غروبُ شمس السبت بداءة اليوم الثالث بعد موت المسيح، فاعتُبر الليلُ كلّه من اليوم الثالث حسب الاصطلاح اليهودي، أما القيامة فكانت قبيل نهاية هذا الليل وبدون رؤية أحدٍ من البشر.

خرج جسد المسيح من أكفانه دون رفعها، فبقيت ملفوفة في مكانها كما كانت وهي محيطة بجسده، حتى أنه ذُكر صريحاً أن المنديل الذي كان على رأسه وُجد ملفوفاً (لم يقل مطوياً). وتحرر جسده من القيود الطبيعية، فصار يظهر بغتة دون أن يُرى له قدوم، ودون أن تعيقه الحواجز الطبيعية.

النساء يجئن صباح الأحد بالحنوط

«وَبَعْدَمَا مَضَى ٱلسَّبْتُ، ٱشْتَرَتْ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ، حَنُوطاً لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّهُ. وَبَاكِراً جِدّاً فِي أَّوَلِ ٱلأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى ٱلْقَبْرِ إِذْ طَلَعَتِ ٱلشَّمْسُ. وَكُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ: «مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا ٱلْحَجَرَ عَنْ بَابِ ٱلْقَبْرِ؟» فَتَطَلَّعْنَ وَرَأَيْنَ أَنَّ ٱلْحَجَرَ قَدْ دُحْرِجَ! لأَنَّهُ كَانَ عَظِيماً جِدّاً» (مرقس 16: 1-4).

اتفقت النساء الأمينات أن يأتين بالحنوط الذي أعدَدْنه مساء الجمعة، ويجتمعن باكراً صباح الأحد عند القبر لتجديد التحنيط بإتقان، وكان هذا لظنهنَّ أن المسيح باقٍ في قبره. فاهتمَّ بهن مجلس السماء بناءً على أمانتهن وغيرتهن في أصعب الأحوال. فلم يكد يبتدئ هذا الاجتماع عند شق فجر اليوم الأول، أي الأحد، إلا سبقتهن إلى القبر خدمة الملائكة.

كُنَّ قد شاهدن في ساعة الدفن الحجر الكبير الذي أُغلق به القبر، فتحيرن في كيفية دحرجته ليتمكنَّ من الوصول إلى الجسد، لأنه كان عظيماً جداً. لكنهن جهلن صعوبةً أعظم جداً، وهي ما عمله الرؤساء بعد مبارحتهن القبر. ولا ريب أنهن لو اقتربن إليه في وجود الحراس لاعتبروهنَّ آتياتٍ لسرقة الجسد، وعاملوهن أقسى معاملة. ولو سُمح لهن بالاقتراب، فماذا كنَّ يصنعن بختم الحكومة على الحجر؟ لكن بما أن صعوبة رفع الحجر التي يعرفنها لم تثنهنَّ عن الواجب الحبي، أزال اللّه مِن أمامهن ليس تلك فقط، بل أيضاً ما هو أعظم منها كثيراً مما يجهلنه وهو حراسة الحراس، التي أُخفيت عنهن، رحمةً بهن، لئلا تمنعهنّ عن تأدية خدمتهن الشريفة، أَوَليس أكثر ما تخفيه عنّا العناية الإِلهية (إذا لم نَقُلْ كلُّه) قد أُخفي رأفةً بنا؟

أرسل اللّه ملاكاً ليفعل ما لا تستطيعه النساء. نزل الملاك ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه، فحدثت عند نزوله زلزلة عظيمة، فارتعب الحراس وهربوا من دحرجة الحجر، ومن هيئة الملاك الذي كان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج.

نهضت النساء للمجيء إلى القبر والظلام باق، وسِرنْ إلى أن بلغْنَ المكان عند طلوع الشمس وعيونهن شاخصات إلى القبر من بعيد، ولم تكن أمُّ يسوع معهن لأنها كانت في بيت يوحنا الحبيب تستقبل تعزيات من يتجرأ من المحبين على زيارتها بمناسبة وفاة ابنها.

أما مريم المجدلية فكانت المتقدمة في زمرة النساء المتعبدات، لأنها كانت تشعر بعظمة دَيْنها لمخلِّصها - والذي غفر له المسيح كثيراً يحبُّ المسيح كثيراً - ولم تجد من الخدمة والإكرام ما يكفي ليعبِّر عن شكرها القلبي للذي فكَّ أسْرَها القديم من نير سبعة شياطين.

«وَفِي أَوَّلِ ٱلأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ إِلَى ٱلْقَبْرِ بَاكِراً، وَٱلظَّلامُ بَاقٍ. فَنَظَرَتِ ٱلْحَجَرَ مَرْفُوعاً عَنِ ٱلْقَبْرِ. فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى ٱلتِّلْمِيذِ ٱلآخَرِ ٱلَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ، وَقَالَتْ لَهُمَا: «أَخَذُوا ٱلسَّيِّدَ مِنَ ٱلْقَبْرِ وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ». فَخَرَجَ بُطْرُسُ وَٱلتِّلْمِيذُ ٱلآخَرُ وَأَتَيَا إِلَى ٱلْقَبْرِ. وَكَانَ ٱلٱثْنَانِ يَرْكُضَانِ مَعاً. فَسَبَقَ ٱلتِّلْمِيذُ ٱلآخَرُ بُطْرُسَ وَجَاءَ أَوَّلاً إِلَى ٱلْقَبْرِ، وَٱنْحَنَى فَنَظَرَ ٱلأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَلٰكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ. ثُمَّ جَاءَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ يَتْبَعُهُ، وَدَخَلَ ٱلْقَبْرَ وَنَظَرَ ٱلأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَٱلْمِنْدِيلَ ٱلَّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِهِ لَيْسَ مَوْضُوعاً مَعَ ٱلأَكْفَانِ، بَلْ مَلْفُوفاً فِي مَوْضِعٍ وَحْدَهُ. فَحِينَئِذٍ دَخَلَ أَيْضاً ٱلتِّلْمِيذُ ٱلآخَرُ ٱلَّذِي جَاءَ أَوَّلاً إِلَى ٱلْقَبْرِ، وَرَأَى فَآمَنَ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ يَعْرِفُونَ ٱلْكِتَابَ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ. فَمَضَى ٱلتِّلْمِيذَانِ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِهِمَا» (يوحنا 20: 1-10).

لما وقع نظر مريم على القبر ورأت الحجر مدحرجاً عن الباب، ظنّت أن شخصاً محباً أو مبغضاً أخذ الجسد الكريم، فكيف تطيق أن يهين المبغضون هذا الجسد؟ فرجعت راكضة إلى المدينة لتخبر بطرس ويوحنا، ولما وجدتهما قالت لهما: «أخذوا السيد من القبر، ولسنا نعلم أين وضعوه؟». فركض التلميذان إلى القبر مدفوعَيْن بمزيد الإهتمام والكدر. وسبق يوحنا بطرس، ولم يكتف بطرس بنظرة من بعيد، بل دخل القبر ليفحص بالتدقيق، لعله يجد سبباً يفسّر فُقدان الجسد. ثم دخل يوحنا مرة أخرى وراء بطرس، وفحصا المكان معاً، ورأيا هيئة الأكفان الغريبة، وبرهانَ اليد الإِلهية الظاهرة في بقاء منديل الرأس منفصلاً عن الأكفان، كما هي العادة في التكفين. وبعد المشاهدة مضى بطرس متعجباً في نفسه مما كان، أما يوحنا فرأى وآمن، بعد أن رأى الدلالة الواضحة على أن غياب الجسد لم يكن بعمل بشري، بل بقيامة خارقة للعادة. فإن هيئة الأكفان المرتّبة جيداً، وبقاءها في القبر، علامة كافية على أن عدم وجود الجسد لا يُعزَى إلى يدٍ أثيمة أو معادية. وكانا يعلمان جيداً أن ليس بين المحبين مَنْ أخذ الجسد من القبر، فأتمَّت الأكفانُ الغاية من ذِكرها، إذْ أقنعت بطرس ويوحنا أن المسيح قد قام حقاً ويقيناً.

كان القبر الفارغ برهاناً على القيامة لا يقبل الريب. فلو أن الأعداء أخذوا الجسد، لفنَّدوا القول بأنه قام، لأن جسده الميت بين أيديهم. والمحبون لا يجدون سبيلاً إلى أخذه، لأن ضعفهم ويأسهم، وختم الحكومة، والحراس، وسطوة خصومهم، موانع كافية تحول دُون ذلك. ولو فرضنا أنهم تمكّنوا من سرقة الجسد حسب تهمة اليهود، لكي يدّعوا أنه قام، فكيف نفسر اختباءهم في علية أورشليم مساء ذلك الأحد، وهم خائفون وغير مصدِّقين أنه قام؟

6 - المسيح قام.. بالحقيقة قام

«فَقَالَ ٱلْمَلاكُ لِلْمَرْأَتَيْنِ: «لا تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ ٱلْمَصْلُوبَ. لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا، لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ. هَلُمَّا ٱنْظُرَا ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي كَانَ ٱلرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ. وَٱذْهَبَا سَرِيعاً قُولا لِتَلامِيذِهِ إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ. هَا أَنَا قَدْ قُلْتُ لَكُمَا» (متى 28: 5-7).

بعد أن رأى بطرس ويوحنا القبر الفارغ رجعا إلى المدينة، أما النساء فمكثْنَ عند القبر ثم دخْلنَه. وفيما هنَّ مُحْتارات في أمر فقدان الجسد، ظهر لهنَّ ملاك فاندهشن. فلما رأى الملاك دهشتهن طمأنهنَّ وأظهر أنه يعرف غايتهن، وأن المسيح حقق وعده وقام، ثم دعاهن لينظرْنَ الموضع الذي كان نائماً فيه. وبينما هن خائفات ومنكسات وجوههن إلى الأرض ظهر لهن ملاكان بثياب براقة، وبّخاهن لأنهن يطلبْنَ الحي بين الأموات، ودعاهن لينظرن الموضع الذي كان الجسد مضطجعاً فيه، ثم أمرهن بالإِسراع إلى التلاميذ (مخصّصين منهم التلميذ الساقط الحزين بطرس). ليبَشرْنهم بقيامة سيدهم، ويخبرْنَهم بأنه يسبقهم إلى الجليل، وهناك يرونه حسب وعده لهم.

فخرجن سريعاً من القبر، وهربْنَ من المكان بخوف وفرح - بخوف بسبب هذه الظهورات الغريبة التي لا سوابق لها، وبفرح لأن سيدهن حقاً قام. وساقهن هذا الخوف مع هذا الفرح حتى ذهبن راكضات لإبلاغ الخبر للتلاميذ سريعاً.

عندما قام جسد المسيح الجديد الممجَّد لم ترافقْهُ الأكفان من قبره، فأكفان المسيح إحدى صفحات تاريخه، نام فيها حيناً، لكن الذين فتشوا عنه فيها لم يجدوه، لأنه كان حاضراً بينهم حياً غير منظور. والذين يفتشون عن المسيح في التاريخ، كما عن سِير المشاهير القدماء، لا يجدونه لأنه حاضر بينهم حياً غير منظور، والتاريخ لا يريه كما هو، بل تراه عينُ الإِيمان فقط. ولا يعرف أحد المسيح إلا باختبار حضوره المبارك معه شخصياً. وتجديد الإختبار ضروري، لأن الماضي منه لا يفي بالمطلوب. نرى ذلك في تلاميذ المسيح، لأن اختبارهم في المسيح قبل موته لم يفِ بالمطلوب بعد قيامته، واختبارهم الماضي صوَّره لهم في قبره، فاحتاجوا لاختبارٍ جديد يريهم إياه في جسد مجده.

المسيح يظهر لمريم المجدلية

«أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ وَاقِفَةً عِنْدَ ٱلْقَبْرِ خَارِجاً تَبْكِي. وَفِيمَا هِيَ تَبْكِي ٱنْحَنَتْ إِلَى ٱلْقَبْرِ، فَنَظَرَتْ مَلاكَيْنِ بِثِيَابٍ بِيضٍ جَالِسَيْنِ وَاحِداً عِنْدَ ٱلرَّأْسِ وَٱلآخَرَ عِنْدَ ٱلرِّجْلَيْنِ، حَيْثُ كَانَ جَسَدُ يَسُوعَ مَوْضُوعاً. فَقَالا لَهَا: «يَا ٱمْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟» قَالَتْ لَهُمَا: «إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ». وَلَمَّا قَالَتْ هٰذَا ٱلْتَفَتَتْ إِلَى ٱلْوَرَاءِ، فَنَظَرَتْ يَسُوعَ وَاقِفاً، وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَسُوعُ. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا ٱمْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟» فَظَنَّتْ تِلْكَ أَنَّهُ ٱلْبُسْتَانِيُّ، فَقَالَتْ لَهُ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُهُ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا مَرْيَمُ!» فَٱلْتَفَتَتْ تِلْكَ وَقَالَتْ لَهُ: «رَبُّونِي» ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «لا تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلٰكِنِ ٱذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلٰهِي وَإِلٰهِكُمْ». فَجَاءَتْ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ ٱلتَّلامِيذَ أَنَّهَا رَأَتِ ٱلرَّبَّ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا هٰذَا»(يوحنا 20: 11-18).

كانت مريم المجدلية قد عادت إلى القبر المقدس، بعد أن أخبرت بطرس ويوحنا، فأخذها البكاء الشديد عند باب القبر. وانحنت لتنظر لأول مرة داخله، فما كان أعظم عجبها لرؤية الملاكَيْن جالسيْن وجهاً لوجه عند طرفي القبر. لم يُذكَر أنها دُهشت كغيرها أو جزعت عند رؤية الملاكين، لأن تأثير الحزن الشديد في قلبها لم يترك للخوف مجالاً.

وسأل الملاكان مريم عن سبب بكائها، فأعادت ما قالته لبطرس ويوحنا. نراها في شدة حزنها مثالَ الذين يبكون وينوحون في ظروف تستدعي السرور، لأنها بكت لفراغ القبر، بينما هذا أعظم داع للسرور والابتهاج، ولو أنها عرفت الحقيقة. فكم من مرةٍ في حياتنا حزنّا لأمورٍ حسبناها مصائب، وهي بالحقيقة بركات.

الظاهر أن رفيقات مريم كنَّ قد ابتَعدْن عنها، وأنها لم تعلم بظهور الملاكين لهن. طلبت الجسد الميت لتكرمه، فنالت رؤية ظهوره حياً قبْلَ ظهوره لأحدٍ غيرها. لأنها لم تكَدْ تجيب الملاك حتى سمعتْ ما جعلها تلتفت إلى الوراء، فنظرت رجلاً بهيئةٍ بسيطة، حسبْتهُ حارس البستان، سألها: «يا امرأة لماذا تبكين؟ من تطلبين؟».

في هذا السؤال المزدوج بعض التبكيت، لأن كلامه المكرر السابق عن قيامته لم يرسخ في ذهنها، فأجابت على سؤاله أنها مستعدة أن تستلم الجسد، وتجد له قبراً آخر مناسباً - وربما حوَّلت نظرها عنه منتظرة جوابه - فقال لها: «يا مريم». بذات الصوت الذي ألفته مدة اتِّباعها إياه. هو الراعي الصالح الذي يدعو خرافه الخاصة بأسمائها، وخاصته تعرفه. فلما دعاها باسمها عرفته، والتفتت وكل عواطفها متيقظة، وقصدت أن تقبِّل قدميه. ونادته: «ربوني». أي «يا معلمي».

ولكن المسيح أوقفها عن هذه الحركة، ليشعِرها بالتغيير الكامل الذي نتج عن قيامته وأظهر لها السبب بقوله: «لأني لم أصعد بعد إلى أبي». أراد أن يُفهِمَها ويُفْهِمَ العالمَ بواسطتها أن الواجب في التمسُّك به هو التمسك الروحي لا الجسدي. فعلى شعبه المسيحي أن يتعلم ذلك، «اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يوحنا 4: 24). وأن لا يطلبوا تمثيلاً خارجياً أو حضوراً محسوساً. وأمر المسيح مريم أن تذهب حالاً وتبشّر تلاميذه بأنها رأته، وقد قام، وأنه يصعد قريباً إلى اللّه أبيه (في طبيعته الإلهية) وإلهه (في طبيعته البشرية).

شرّف المسيح تلاميذه بلقب جديد دلَّ على لطفه وتواضعه. دعاهم قبلاً تلاميذه وأصدقاءه وأحباءه. أما الآن فلأول مرة يدعوهم «إخوتي». فما أعظم الحب الذي جعله يحتضنهم كإخوة، بعد كل ما صدر منهم مما ينافي هذه الأخوية الروحية له. وما أعظم التواضع الذي فعل ذلك بعد ما حصل له من التمجيد الجديد بالنسبة إلى الماضي. إلا أنه لم يشملهم معه بصيغة الجمع، ليقول: «أصعد إلى أبينا وإلهنا». بل حافظ على التفرُّد بقوله: «أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم». لأن اللّه أبوه بالولادة الذاتية، كما قال في المزمور: «أَنْتَ ٱبْنِي. أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ» (مزمور 2: 7). لكنه أبوهم بالتبني الروحي. بنوة المسيح للّه بنوَّة أصيلة، أما بنوة التلاميذ للّه فهي بنوة مكتسبة، في المسيح.

المسيح يظهر للنسوة

«فَخَرَجَتَا سَرِيعاً مِنَ ٱلْقَبْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ، رَاكِضَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلامِيذَهُ. وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلامِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لاقَاهُمَا وَقَالَ: «سَلامٌ لَكُمَا». فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَهُ. فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «لا تَخَافَا. اِذْهَبَا قُولا لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى ٱلْجَلِيلِ، وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي» (متى 28: 8-10).

ثم ظهر المسيح ظهوره الثاني كالأول، وليس لتلاميذه ولا لرجالٍ من تابعيه، بل للنساء وهنَّ ذاهبات راكضات ليتممْن وصية الملائكة، ويبشرن التلاميذ بالقيامة، فتممن ذلك بأن أخبرن التلاميذ الأحد عشر ومن معهم، فلم يصدقوهن، ولا سيما قولهن إنهن قد رأين المسيح، بل نسبوا إليهن الهذيان.

ولقد حوّلت العناية الإِلهية عدم تصديق التلاميذ إلى أعظم بركة، لأن ذلك أصبح من أهم البراهين الدامغة على صِدْق القيامة. قال أحد المفسرين إن شكوك التلاميذ لم تَزُلْ إلا شيئاً فشيئاً عند توالي البراهين القاطعة. فشكُّهم الأول يقوي ثقتنا بشهادتهم بعد تيقُّنهم. شكُّوا وقتاً قصيراً لكي لا نشك أبداً.

الحراس يُبلِغون بالقيامة

«وَفِيمَا هُمَا ذَاهِبَتَانِ إِذَا قَوْمٌ مِنَ ٱلْحُرَّاسِ جَاءُوا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ وَأَخْبَرُوا رُؤَسَاءَ ٱلْكَهَنَةِ بِكُلِّ مَا كَانَ. فَٱجْتَمَعُوا مَعَ ٱلشُّيُوخِ، وَتَشَاوَرُوا، وَأَعْطَوُا ٱلْعَسْكَرَ فِضَّةً كَثِيرَةً قَائِلِينَ: «قُولُوا إِنَّ تَلامِيذَهُ أَتَوْا لَيْلاً وَسَرَقُوهُ وَنَحْنُ نِيَامٌ. وَإِذَا سُمِعَ ذٰلِكَ عِنْدَ ٱلْوَالِي فَنَحْنُ نَسْتَعْطِفُهُ، وَنَجْعَلُكُمْ مُطْمَئِنِّينَ». فَأَخَذُوا ٱلْفِضَّةَ وَفَعَلُوا كَمَا عَلَّمُوهُمْ، فَشَاعَ هٰذَا ٱلْقَوْلُ عِنْدَ ٱلْيَهُودِ إِلَى هٰذَا ٱلْيَوْمِ» (متى 28: 11-15).

أما الحراس فقد أسرعوا يخبرون بما جرى عند القبر. واحتار رؤساء اليهود ماذا يفعلون؟

لم يكن المسيح بعد قيامته يظهر لكل الناس، بل لخاصته فقط من التلاميذ. فعقد رؤساء اليهود مجمعاً ليبحثوا الأخبار التي حملها إليهم الحراس، ودفعوا لهم رشوة ليقولوا إن تلاميذ المسيح سرقوا جسده من القبر بينما الحراس نيام. لقد زادت خطية الرؤساء لأن قيامة المسيح كانت بقوة الروح القدس، ونسبوها إلى السرقة، فصار عملهم هذا تجديفاً على الروح القدس، مثلما فعلوه لما نسبوا قوة المسيح في المعجزات إلى الشياطين. وماذا يُقال عن هؤلاء الذين كرروا قولهم للمسيح إنهم يؤمنون به إنْ أعطاهم آية من السماء. فأيّةُ آيةٍ من السماء أعظم من آية قيامته وما رافقها من الآيات الفائقة؟ وأي معجزة أعظم: أن ينزل عن الصليب وهو حي كما طلبوا منه، أو أن يقوم من القبر في اليوم الثالث بعد موته؟

لو كان الإيمان متوقّفاً على البراهين لآمنوا لا محالة، لأن البراهين كانت متواصلة ومتزايدة مدة الثلاث سنين، حتى انتهت بأعظمها وهي قيامته. ألَمْ يقل المسيح في مَثَل الغني ولعازر إن الذين لا يؤمنون بواسطة الكتب المقدسة، لا يؤمنون ولو قام واحد من الأموات؟ (لوقا 16: 31) فليس الإيمان ثمر البراهين وحدها، لأن الإيمان الخلاصي أول وقبل كل شيء هبة إلهية، وعلى ذلك فإنه يتوقف على حالة القلب ومدى استعداده لقبول الهبة. والمنطق وحده مهما كان دقيقاً وصادقاً لا يوصّل إلى السماء. فلا يتوهم صاحب البراهين الدامغة أنه يربح النفوس بمجرد الجدال، مهما كانت معارفه سامية ولسانه طلِقاً في البيان.

أكبر برهان على القيامة:

أما أثبت البراهين على قيامة المسيح، فجاء في الحوادث التابعة لصعوده. فبعد صَلْبه بسبعة أسابيع فقط نرى تلاميذه يجاهرون أمام الجموع المتجمهرة في أورشليم ذاتها، بحقيقة قيامته. ويوبخون الرؤساء صراحة في مركز سطوتهم على قتلهم المسيح الذي أقامه اللّه من الأموات، ونرى الألوف يؤمنون حالاً بتأثير هذه المجاهرة، وتأثير المعجزات التي فعلها رسله ونسبوها إلى قوة المسيح الذي قام من قبره ممجَّداً. فلو كان تكذيب خبر القيامة ممكناً، لما استطاع التلاميذ أن يجاهروا. ولو لم يقم المسيح حقاً لَمَا تجرأوا أن يعلنوا ما أعلنوه.

ثم أنه لا يُعقل أن الرؤساء المبغِضين الذين بذلوا غاية الجهد حتى يصلبوا المسيح يسكتون عن تلاميذٍ سرقوا الجسد ويسكتون عن حراسٍ أقاموهم ليمنعوا التلاميذ عن عملٍ كهذا، فقصَّروا في مهمتهم. لو تجاسر تلاميذه وسرقوا الجسد، فماذا يربحون من سرقة الجسد. لأن مَنْ يصدق قولهم بقيامة سيدهم لمجرد فروغ القبر من جسده؟ وبأي حق يجعلون قيامته أساس وعظهم، وليس لديهم برهان إلا وجود القبر فارغاً؟

ثم أن المحبين الذين يسرقون الجسد في وجود الحراس (على فرض نومهم كما قال اليهود) لن يجرأوا أن يبقوا في القبر أكثر من الدقائق الضرورية لأخذ الجسد، فلا يمكن أن يهتموا بأن يرفعوا الأكفان عن الجسد، ثم يضعوها ملفوفة بترتيب. وأي عاقلٍ يُسلِّمُ بأنهم يسرقون الجسد ويتركون لأعدائه وأعدائهم الأكفان الثمينة؟ وكيف يرفعون الحجر الضخم الذي على باب القبر بدون أن يوقظوا الحراس؟ وكيف يسرقون الجسد ثم يرفض قادتهم من التلاميذ تصديق قيامته، وينسبون الهذيان إلى النساء القائلات بها؟ وكيف يسرق التلاميذ جسده ليلاً ثم في الصباح تتوجَّه النساء اللواتي كُنَّ في مقدمة تابعيه، وبعضهن أمهات بعض التلاميذ آخذات الحنوط إلى القبر؟

ثم أن الصفات والمبادئ السامية القويمة التي اشتهر بها تلاميذه سريعاً بعد موته، واستشهادَهم دون تردد انتصاراً لقيامته، أمورٌ لا تتّفق مطلقاً مع اتِّهامهم بحيلةٍ كاذبة لهذه الدرجة.

لو كانت القيامة اختلاقاً:

ثم أنه لو كانت قصة القيامة اختلاقاً، لذكر الرواةُ ظهورَ المسيح لغير تلاميذه، ليزيد برهانُ ما يدَّعونه. ولَمَا خطر على بالهم أن يحصروا ظهوره بالتلاميذ وحدهم. لأن المختلِق الذكي لا يترك هذا الباب دون أن يطرقه. ونعلم من التاريخ أن هذا الانتقاد حصل باكراً من أعداء المسيحية. أما الذين يقولون باستحالة المعجزات فيضطرون طبعاً لإِنكار القيامة التي هي أعظمها.

وهناك من يقول إن التلاميذ لم يختلقوا خبر القيامة، لأنهم رجال صالحون صادقون، لكنهم رأوا رؤى ظنوها حقيقة. لكننا يجب ألاَّ نغفل أن تحقيق قيامة المسيح لم تبتدئ بمشاهدة شخصه، ليصحَّ القولُ إنه رؤيا، بل ابتدأ بالبرهان الحسّي في فراغ قبره. ومعلوم أن الرؤيا الوهمية تأتي الإِنسان طِبقاً لتصوُّراته. وقد كان التصوُّر بقيامة المسيح، بعيداً عن كل استعدادات التلاميذ الفكرية السابقة. ونعود إلى القول بأن البشيرين لم يوردوا خبراً من الأخبار التحليلية، بل اقتصروا على ما هو تحت حكم حواس البصر والسمع واللمس، وبذلك ختموا على أهمية شهادة الحواس في الدين. نعلم أنه لما ظهر المسيح لهم ألزمهم أن يلمسوه ويطعموه لكي يعرفوا أنه بالحقيقة قام.

كان الرسل في وعظهم يعودون إلى حقيقة القيامة، دون أي معجزة أخرى، كشهادة بأن المسيح ابن اللّه. وعلى تصديق القيامة يتوقف تصديق المعجزات كافة.

7 - المسيح يظهر بعد القيامة

ظهوره لتلميذي عمواس

«وَإِذَا ٱثْنَانِ مِنْهُمْ كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ إِلَى قَرْيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أُورُشَلِيمَ سِتِّينَ غَلْوَةً، ٱسْمُهَا «عِمْوَاسُ». وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بَعْضُهُمَا مَعَ بَعْضٍ عَنْ جَمِيعِ هٰذِهِ ٱلْحَوَادِثِ. وَفِيمَا هُمَا يَتَكَلَّمَانِ وَيَتَحَاوَرَانِ، ٱقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا. وَلٰكِنْ أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ. فَقَالَ لَهُمَا: «مَا هٰذَا ٱلْكَلامُ ٱلَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟» فَأَجَابَ أَحَدُهُمَا، ٱلَّذِي ٱسْمُهُ كَلْيُوبَاسُ: «هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ ٱلأُمُورَ ٱلَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ؟» فَقَالَ لَهُمَا: «وَمَا هِيَ؟» فَقَالا: «ٱلْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ ٱلنَّاصِرِيِّ، ٱلَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيّاً مُقْتَدِراً فِي ٱلْفِعْلِ وَٱلْقَوْلِ أَمَامَ ٱللّٰهِ وَجَمِيعِ ٱلشَّعْبِ. كَيْفَ أَسْلَمَهُ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَحُكَّامُنَا لِقَضَاءِ ٱلْمَوْتِ وَصَلَبُوهُ. وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ. وَلٰكِنْ، مَعَ هٰذَا كُلِّهِ، ٱلْيَوْمَ لَهُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ مُنْذُ حَدَثَ ذٰلِكَ. بَلْ بَعْضُ ٱلنِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِراً عِنْدَ ٱلْقَبْرِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلائِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ. وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ ٱلَّذِينَ مَعَنَا إِلَى ٱلْقَبْرِ، فَوَجَدُوا هٰكَذَا كَمَا قَالَتْ أَيْضاً ٱلنِّسَاءُ، وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْهُ». فَقَالَ لَهُمَا: «أَيُّهَا ٱلْغَبِيَّانِ وَٱلْبَطِيئَا ٱلْقُلُوبِ فِي ٱلإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ٱلأَنْبِيَاءُ، أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهٰذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟» ثُمَّ ٱبْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ ٱلأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا ٱلأُمُورَ ٱلْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ ٱلْكُتُبِ. ثُمَّ ٱقْتَرَبُوا إِلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَيْهَا، وَهُوَ تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ. فَأَلْزَمَاهُ قَائِلَيْنِ: «ٱمْكُثْ مَعَنَا لأَنَّهُ نَحْوُ ٱلْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ ٱلنَّهَارُ». فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا. فَلَمَّا ٱتَّكَأَ مَعَهُمَا، أَخَذَ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا، فَٱنْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ ٱخْتَفَى عَنْهُمَا، فَقَالَ بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ: «أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي ٱلطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا ٱلْكُتُبَ؟» فَقَامَا فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ وَرَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَوَجَدَا ٱلأَحَدَ عَشَرَ مُجْتَمِعِينَ، هُمْ وَٱلَّذِينَ مَعَهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: «إِنَّ ٱلرَّبَّ قَامَ بِٱلْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ»(لوقا 24: 13-34).

كان ظهور المسيح الثالث لتلميذين ليسا من رسله المختارين هما تلميذا عمواس. ويُرجَّح أن عدم ظهوره لتلاميذه أولاً، وفي عدم ذكر ظهوره لوالدته مطلقاً، قصد خصوصي، هو تخفيف خطر المبالغة في إكرام الذين لهم المقام الأول في الكنيسة. ويوضح هذا الظهور الثالث التغيير الذي حصل لجسد المسيح بموته ثم قيامته، فنقرأ أنه ظهر «بهيئة أخرى» لاثنين من الذين معه، وهما منطلقان في ذلك اليوم إلى قرية عمواس التي تبعد عن أورشليم، ستين غلوة (أي نحو عشرة كيلو مترات). يُستنتج أنه ظهر بغتة ومشى وراءهما مسافة قصيرة، ثم أدركهما وكلَّمهما فظنَّاه أحد المسافرين، إذ لا شيء في هيئته الظاهرة يذكّرهما بسيدهما. وسألهما وهو يمشي معهما: «ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسَيْن؟» يُحتمَل أن بعض عبوستهما نتج عن تعرُّض رجلٍ لهما، ظنَّاه غريباً، بينما حديثهما في مصابهما الجسيم بسبب صلب المسيح كافٍ للعبوسة. سمعهما يرددان عبارات اليأس ثم الرجاء، وبراهين الشك ثم اليقين، وقد ظهر من كلامهما صدق إيمانها ومحبتهما للمسيح، وجرأتهما في إظهار علاقتهما معه لهذا الغريب في هذه الأحوال الحرجة. فعلى سؤاله أجاب أحدهما - وهو كليوباس - مستغرباً كيف أن إنساناً قادماً من المدينة يجهل هذا الموضوع الذي يشغل أفكار الجميع. فلما حثَّهما المسيح ليوضِّحا ما يشيران إليه، أجابا أنه عن الأمور المختصَّة بيسوع الناصري، الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول، أمام اللّه وجميع الشعب. فمَنْ لا يغتاظ ويأسف على عمل رؤساء الكهنة الذين أسلموه لحكم الموت وصلبوه؟

لما وجد كليوباس من هذا الغريب إصغاءً وُدِّياً، كشف له سرَّهما في قوله: «نحن كنّا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل». كانا كغيرهما ينتظران من المسيح متى جاء خلاصاً سياسياً، لأن معظم التاريخ اليهودي كان حوادثَ الخلاص السياسي الذي ناله هذا الشعب بواسطة عظمائه، كموسى ويشوع وداود وحزقيا وأمثالهم. ثم اعترف كليوباس بأن مرور ثلاثة أيام على صَلْب المسيح، قد أيَّد يأسهم. فهل في كلام كليوباس تلميحٌ إلى ما قاله المسيح تكراراً عن أنه سيقوم في اليوم الثالث؟ أو إلى كونهم انتظروا في أورشليم إلى ختام اليوم الثالث، ولما لم يروه زاد يأسهم وتوجهوا إلى قريتهم؟

اعترف كليوباس قائلاً: «بعض النساء منّا حيَّرْننا إذْ كنَّ باكراً عند القبر، ولما لم يجدْنَ جسده، أتيْنَ قائلات: إنهن رأين منظر ملائكة قالوا إنه حي. ومضى قوم من الذين معنا إلى القبر، فوجدوا هكذا كما قالت أيضاً النساء، وأما هو فلم يروه». فهل استخفَّا بأخبار النساء لأنهنّ نساء؟ أم استبعدا أن الملائكة تظهر للنساء، ولا تظهر للرسل، أو لوالدته المكرمة المكتئبة؟

اضطر المسيح أن يلقي عليهما تعاليمه قبل أن يعلن عن نفسه لهما. «أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان». إنه يصف الشاكِّين بالغباوة لأنهم لا يصدقون ما ورد في التوراة. وقد دعاهما غبيين لأنهما لم يفهما النبوات التي أعلنت لزوم آلام المسيح قبل دخوله إلى مجده. فلو فهما الكتاب لعلما عندما رأياه يتألم أنه لا بد أن يتمجد أيضاً. افتكرا أن ما قاساه نفيٌ للقول بأنه المسيح المنتظَر. والحق أن ما قاساه هو شرط لازم لكونه المسيح. فلم يوبخهما لعدم تصديقهما النساء والملائكة والقبر الفارغ، بل لعدم فهمهما الكتاب الإلهي أساس اليقين الثابت، ولأنهما نسيا أن الأنبياء صرحوا بأن طريق المجد تمرُّ على الرَّفض والآلام والقبر.

ثم ألقى المسيح تعليماً وافياً على هذين المجهولين في التاريخ، الخارجين عن صف الرسل. ابتدأ من موسى وجميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصَّة به في جميع الكتب. فلو سُئلنا ما هي أعظم خسارة من أقواله التي لم تحفظ، نجيب أنها الشرح الذي فسَّر فيه النبوات والإِشارات والرموز المختصَّة به في كل أسفار التوراة، ولا سيما التي تشير إلى آلامه وموته وكفارته. فما أعظم اندهاش تلميذي عمواس في أثناء هذا الشرح الذي استمر مدة ساعتين، مضتا كأنهما دقيقتان، بسبب تلذُّذ كليوباس ورفيقه واستفادتهما - لأن التوراة صارت دفعة واحدة كأنها كتاب جديد. فتح هذا المتكلم ذهنيهما للفهم، وأشعل قلبيهما للشعور. وهذا الفعل المزدوج هو فعل روحه على الدوام، في كل من يصغي إليه بإخلاص، إذْ يترجم لفهمه أقوال الكتاب ثم يطبعها على قلبه. وصف كليوباس ورفيقه شعورهما بقولهما «ألم يكن قلبنا ملتهباً فينا إذْ كان يكلّمنا في الطريق، ويوضح لنا الكتب؟».

أخيراً اقتربوا من قرية عمواس، فودعهما كأنه قاصد أن يتقدم إلى مكان أبعد، إنْ سمحا له، فأوقفاه بقولهما: «امكث معنا لأنه نحو المساء وقد مال النهار». فقبل دعوتهما ودخل ليمكث معهما. مكث معهما جسدياً فترة قليلة ليحقق لهما أنه يمكث معهما روحياً على الدوام. لكن لما جلسوا على مائدة العشاء، اتخذ مقام صاحب البيت لا مقام الضيف، لأنه أخذ الخبز وبارك وكسر وناولهما، فانتبها وانفتحت أعينهما فرأيا مسيحهما المفقود. فكان ردُّ الفعل عظيماً فيهما، من اليأس إلى الابتهاج. لكن حالما عرفاه اختفى عنهما. فقاما فوراً وعادا إلى أورشليم ليبشّرا محبي المسيح اليائسين. ولو كان كلُّ من يظهَر له المسيح روحياً، يسرع ليبلغ الآخرين الشهادة بفضله ورحمته الخلاصية، لحدثت أعظم بركة له ولمن يسمع شهادته.

المسيح يظهر لبطرس

«وَأَنَّهُ ظَهَرَ لِصَفَا» (1 كورنثوس 15: 5).

بينما كان كليوباس ورفيقه راجعَيْن إلى أورشليم في نور البدر، ظهر المسيح ظهوره الرابع لبطرس. «الرب قام بالحقيقة، وظهر لسمعان». لكننا نجهل مكان ذلك الظهور وساعته وكيفيته، وما دار فيه من الكلام بين المخلِّص وزعيم تلاميذه. لكننا نرجح أن المسيح قصد بهذا الظهور أن يؤكد لبطرس استمرار حبه له وثقته فيه وقبوله توبته على أثر سقطته الهائلة، ليَسْلَم من خطر اليأس بسبب هذا السقوط.

المسيح يظهر لعشرة من تلاميذه

«وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ، وَهُوَ أَوَّلُ ٱلأُسْبُوعِ، وَكَانَتِ ٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ ٱلتَّلامِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ ٱلْخَوْفِ مِنَ ٱلْيَهُودِ، جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ، وَقَالَ لَهُمْ: «سَلامٌ لَكُمْ». وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ، فَفَرِحَ ٱلتَّلامِيذُ إِذْ رَأَوُا ٱلرَّبَّ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: «سَلامٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي ٱلآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا». وَلَمَّا قَالَ هٰذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: «ٱقْبَلُوا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ» (يوحنا 20: 19-23).

وفي مساء هذا اليوم المجيد اجتمع التلاميذ سراً، خوفاً من أن يتعقَّبهم الرؤساء ليهلكوهم كما أهلكوا سيدهم، ولا سيما أن خبر قيامة المسيح هيَّج الرؤساء كثيراً، فغلَّقوا الأبواب تحفُّظاً. وكان توما غائباً عن هذا الاجتماع لأسباب نجهلها.

في هذا الاجتماع حكى بطرس لرفاقه خبر ظهور المسيح له. وفي أثناء ذلك وصل كليوباس ورفيقه، فوجدا المجتمعين يتحادثون في أن المسيح قام بالحقيقة وأنه ظهر لبطرس. فأخبراهم بما حدث في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر الخبز. ويظهر أن بعض الحاضرين كانوا لا يزالون يشكُّون في حقيقة قيامته، ويفسِّرون ظهور المسيح للمجدلية ثم للنساء ثم لبطرس أنه وهمي، فقيل: «إنهم لم يصدقوا ولا هذين».

ففي هذا الاجتماع مساء يوم قيامته، ظهر المسيح فجأة، ودون فتح بابٍ لدخوله. ووقف في الوسط وقال لهم: «سلام لكم». لم يقل: «سلام عليكم» كأنه سلام خارجي زمني بل «سلام لكم» لأنه سلام داخلي روحي يهبه هو لهم في وسط الجزع والاضطراب. هذا السلام هو الميراث الذي تركه لهم في خطابه الوداعي لما قال: «سَلاماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلامِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي ٱلْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا» (يوحنا 14: 27) كان السلام هو أول ما كلَّمهم به في اجتماعه الأول بهم كجماعة.. فسكّن اضطراب قلوبهم بقوله: «السلام لكم»، كما سكَّن سابقاً بكلمة منه اضطراب البحيرة. به وحده يحصل المؤمن على سلامٍ مع اللّه، ومع ضميره الذي يدينه، ومع البشر في المعاشرة اليومية، وفقاً للوصية الرسولية: «حَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ ٱلنَّاسِ» (رومية 12: 18).

لم يكن التلاميذ مستعدين لهذا السلام المقدَّم لهم بسبب ضعف إيمانهم، فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم رأوا روحاً. فعَذَرهم لأن هيئته غير معروفة عندهم. كان ظهوره كل مرة بعد قيامته، بهيئة غير القديمة، ضرورياً ليؤكد لهم التغيير العظيم الذي حصل لجسده في قيامته. فلا عجب أنه حيَّر التلاميذ جداً، لأنه كان يظهر ويختفي فجأة، ويظهر كل مرة بهيئة جديدة.

وبما أن المسيح كان يكلّمهم كثيراً بأمثال، فقد حسبوا كلامه عن موته وقيامته من الأمثال، فلم يكترثوا له كثيراً، ولا اكترثوا لشهادة النساء، لأنهم حسبوهنَّ أكثر عُرضة للأوهام. فلأسباب كهذه كان شكُّهم أقربَ إلى المعقول، وكان توبيخُ المسيح لهم لطيفاً. قال: «ما بالكم مضطربين؟» ونفى أنه خيال كما توهموا بسبب كيفية دخوله، وتلطَّف بدعوتهم ليلمسوه قائلاً: «أنظروا يديَّ ورجليَّ. إني أنا هو. جسُّوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي». وأراهم جنبه أيضاً.

هذه مرة أخرى أكرم فيها المسيح شهادة الحواس إثباتاً للحقيقة، وأيَّدها في أهم القضايا، وهي قيامته. أضاف المسيح على ما سبق أنه طلب طعاماً. ولما ناولوه من العسل والسمك المشوي الجاهز لديهم، أخذ وأكل قدامهم. ثم فعل مع هؤلاء المجتمعين ما فعله مع التلميذين في طريق عمواس، لأنه فتح ذهنهم ليفهموا الكتب، وذكَّرهم بالنبوات القديمة وبإنباءاته هو المتكررة. فجاز له الآن بعد أن سكَّن خوفهم أن يوبخهم على عدم إيمانه وقساوة قلوبهم، لأنهم لم يصدقوا قول الذين كانوا قد رأوه بعد ما قام، لا سيَّما وأن شهادة هؤلاء كانت تطابق أقوال التوراة.

ثم أكد المسيح أهمية الكرازة باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم، مبتدئاً من أورشليم، وأنهم يكونون شهوداً في كرازتهم لِمَا عاينوه وسمعوه وتيقنوه، وأعاد لهم وعده بأن يرسل لهم الروح القدس الذي وعدهم به الآب أيضاً، وأوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بعد صعوده قبل أن يُلبِسهم هذا الروحُ قوة من الأعالي، وسلَّمهم وظيفته في قوله: «كما أرسلني الآب أرسلكم أنا».

ثم قال لهم: «اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تُغفَر له، ومن أمسكتم خطاياه أُمسكت». هذا هو «الكلمة» الذي «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يوحنا 1: 3). والذي به أيضاً عمل اللّه العالمين (عبرانيين 1: 2). فكما نفخ في الإنسان الأول نسمة الحياة الطبيعية، نفخ الآن في هؤلاء اليائسين نسمة الحياة الروحية الجديدة.

المسيح يقدِّس يوم الأحد:

قدَّس المسيح اليوم الأول في الأسبوع بقيامته يوم الأحد، وبظهوراته الخمسة التي ذكرناها، فلا عجب أن قدَّس تابعوه يوم الأحد، لأن المسيح وضع فيه نظاماً جديداً وأساساً لكنيسة جديدة ولعالم جديد، بمعنى روحي. وكرسه ليكون على الدوام يوماً خصوصياً لتابعيه، بدلاً من السبت اليهودي الذي كان تذكار إتمام الخلق الطبيعي وجعل هذا اليوم الأول تذكاراً لإِتمام الخليقة الجديدة في عمل الفداء. ومما يؤيِّد هذا اليقين غيابُه عن تابعيه أسبوعاً كاملاً قبلما ظهر ظهوره السادس في يوم الأحد الذي بعده، ثم أثبت هذا الاستبدال بِسكْبه الروح القدس لميلاد الكنيسة المسيحية يوم الأحد في عيد الخمسين. وقد اهتم البشيرون كلهم أن يوردوا خبر هذا الظهور الخامس أمام الرسل العشرة، خلافاً للظهورات الأخرى.

المسيح يظهر للأحد عشر

«أَمَّا تُومَا، أَحَدُ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلتَّوْأَمُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ. فَقَالَ لَهُ ٱلتَّلامِيذُ ٱلآخَرُونَ: «قَدْ رَأَيْنَا ٱلرَّبَّ». فَقَالَ لَهُمْ: «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لا أُومِنْ». وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تَلامِيذُهُ أَيْضاً دَاخِلاً وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوعُ وَٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ وَقَالَ: «سَلامٌ لَكُمْ». ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: «هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلا تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً». أَجَابَ تُومَا: «رَبِّي وَإِلٰهِي». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يوحنا 20: 24-29).

لما ظهر المسيح في الأحد الثاني للمرة السادسة، كان التلاميذ داخل علية كما كانوا في المرة السابقة، وتوما معهم. فجاء المسيح والأبواب مغلقة، ووقف في الوسط وحيَّاهم بذات ألفاظِ تحيته الأولى.

والظاهر أن المسيح جاء بالأكثر في هذه المرة لأجل توما، لأنه دعاه ليفعل ما طلبه لكي لا يكون غيرَ مؤمنٍ بل مؤمناً. ذلك أن توما أصرَّ على عدم الإيمان بالقيامة حتى يرى ويلمس، ورفض البراهين الكثيرة القوية التي أقنعت رفقاءه، وأصرَّ على أن يبصر أثر المسامير في يدي سيده ويضع إصبعه فيها، وأن يضع يده في جنبه المجروح بطعنة حربة الجندي الروماني.

لا نعلم هل خجل توما من كلام المسيح، وتنحَّى عن وَضْع إصبعه ويده أم لا، إنما نعلم أنه حالاً طرح شكوكه وصرَّح بإيمانه التام قائلاً: «ربي وإلهي». فأعلن كامل الإيمان. لكن المسيح وبَّخه وأوضح له أفضلية الإِيمان الذي لا يتطلَّب العيان، لأن الإِيمان لا يكون إيماناً بعد أن يرى الإنسانُ بعينه، فطوبى للذين آمنوا ولم يروا. وهذه الطوبى مذخورة لجميع المؤمنين في كل الأزمان، فلا يحسدنَّ أحدٌ أولئك الذين بنوا إيمانهم على رؤيته.

نمدح توما لأنه طلب البراهين الكافية قبل أن يقبل قضية دينية جوهرية، لأنه لا يجوز تعليق اليقين الديني على خيوط العنكبوت، ولا يكتفي الفهيم بأنه تناول اليقين الديني من أسلافه، لئلا يكون قد تناول الضلال، لأن الضلال يتسلسل كما يتسلسل الحق. ولا يكتفي أن يتناول يقينه من علماء جيله، دون أن يقف على البراهين التي يستندون عليها. ويجوز لنا أن نقول إن الشك في الدين هو باب اليقين، لأن الشك يؤدي إلى الفحص، والفحصُ إلى اليقين، ولا يقينَ حقيقي إلا بعد الفحص.

إذاً لماذا وبَّخ المسيح توما؟

وبَّخه لأنه تجاوز الحد المعقول في إصراره على براهين أكثر من الكافية، لأنه أظهر عدم الميل إلى اليقين، كأنه يطلب عذراً يتذرَّع به لأجل الإِنكار. أخطأ توما لأنه تشبث بالبراهين الحسية، كأنه يزدري بالبراهين المعنوية والروحية. فإذا كنَّا لا نلومه على إصراره أن يرى كما رأى غيرُه، نلومه على عدم قبوله شهادتهم. ولو فعل القضاة في أحكامهم فِعْل توما لما أمكنهم أن يحكموا في أية قضية، لأنه لم يُسمَع في الزمان أن قاضياً أصرّ على أن يرى بعينه ما رآه الشهود في دعوى تقدمت له. ولو اقتدى الناس بتوما في ما فعل، لبَطَلَ التبشير تماماً، واختنقت الكنيسة المسيحية في مهدها.

المسيح يظهر لسبعة تلاميذ

«بَعْدَ هٰذَا أَظْهَرَ أَيْضاً يَسُوعُ نَفْسَهُ لِلتَّلامِيذِ عَلَى بَحْرِ طَبَرِيَّةَ. ظَهَرَ هٰكَذَا: كَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ، وَتُومَا ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلتَّوْأَمُ، وَنَثَنَائِيلُ ٱلَّذِي مِنْ قَانَا ٱلْجَلِيلِ، وَٱبْنَا زَبْدِي، وَٱثْنَانِ آخَرَانِ مِنْ تَلامِيذِهِ مَعَ بَعْضِهِمْ. قَالَ لَهُمْ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «أَنَا أَذْهَبُ لأَتَصَيَّدَ». قَالُوا لَهُ: «نَذْهَبُ نَحْنُ أَيْضاً مَعَكَ». فَخَرَجُوا وَدَخَلُوا ٱلسَّفِينَةَ لِلْوَقْتِ. وَفِي تِلْكَ ٱللَّيْلَةِ لَمْ يُمْسِكُوا شَيْئاً. وَلَمَّا كَانَ ٱلصُّبْحُ، وَقَفَ يَسُوعُ عَلَى ٱلشَّاطِئِ. وَلٰكِنَّ ٱلتَّلامِيذَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَسُوعُ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «يَا غِلْمَانُ أَلَعَلَّ عِنْدَكُمْ إِدَاماً؟». أَجَابُوهُ: «لا!» فَقَالَ لَهُمْ: «أَلْقُوا ٱلشَّبَكَةَ إِلَى جَانِبِ ٱلسَّفِينَةِ ٱلأَيْمَنِ فَتَجِدُوا». فَأَلْقَوْا، وَلَمْ يَعُودُوا يَقْدِرُونَ أَنْ يَجْذِبُوهَا مِنْ كَثْرَةِ ٱلسَّمَكِ. فَقَالَ ذٰلِكَ ٱلتِّلْمِيذُ ٱلَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ لِبُطْرُسَ: «هُوَ ٱلرَّبُّ». فَلَمَّا سَمِعَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنَّهُ ٱلرَّبُّ، ٱتَّزَرَ بِثَوْبِهِ، لأَنَّهُ كَانَ عُرْيَاناً، وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي ٱلْبَحْرِ. وَأَمَّا ٱلتَّلامِيذُ ٱلآخَرُونَ فَجَاءُوا بِٱلسَّفِينَةِ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعِيدِينَ عَنِ ٱلأَرْضِ إِلا نَحْوَ مِئَتَيْ ذِرَاعٍ، وَهُمْ يَجُرُّونَ شَبَكَةَ ٱلسَّمَكِ. فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى ٱلأَرْضِ نَظَرُوا جَمْراً مَوْضُوعاً وَسَمَكاً مَوْضُوعاً عَلَيْهِ وَخُبْزاً. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «قَدِّمُوا مِنَ ٱلسَّمَكِ ٱلَّذِي أَمْسَكْتُمُ ٱلآنَ». فَصَعِدَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَجَذَبَ ٱلشَّبَكَةَ إِلَى ٱلأَرْضِ، مُمْتَلِئَةً سَمَكاً كَبِيراً، مِئَةً وَثَلاثاً وَخَمْسِينَ. وَمَعْ هٰذِهِ ٱلْكَثْرَةِ لَمْ تَتَخَرَّقِ ٱلشَّبَكَةُ. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «هَلُمُّوا تَغَدَّوْا». وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ مِنَ ٱلتَّلامِيذِ أَنْ يَسْأَلَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ إِذْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلرَّبُّ. ثُمَّ جَاءَ يَسُوعُ وَأَخَذَ ٱلْخُبْزَ وَأَعْطَاهُمْ وَكَذٰلِكَ ٱلسَّمَكَ. هٰذِهِ مَرَّةٌ ثَالِثَةٌ ظَهَرَ يَسُوعُ لِتَلامِيذِهِ بَعْدَمَا قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (يوحنا 21: 1-14).

أمر المسيح تلاميذه أن يسبقوه إلى الجليل. وفي هذا حكمة، لأن معظم المؤمنين موجودون في الجليل. فيحقُّ لهؤلاء أن يسمعوا من مواطنيهم التلاميذ وغيرهم من رجالٍ ونساء، خبر آلام المسيح وموته وقيامته. فذهبوا إلى الجليل، وهناك ظهر المسيح لنخبة منهم ظهوره السابع بعد قيامته. أما قول يوحنا إن هذه «مرة ثالثة ظهر يسوع لتلاميذه بعدما قام من الأموات». فيعني أنها المرة الثالثة التي ظهر فيها لجماعةٍ من التلاميذ، بقطع النظر عن ظهوراته الأخرى الفردية.

اختار المسيح شاطئ بحر الجليل الذي قدستْهُ قدماه الطاهرتان، مكاناً لهذا الظهور السابع، وهو أجمل موقع في الأرض المقدسة، واختار وقتها سبعةً من أفضل تابعيه في سفينة واحدة. وهم سمعان بطرس، ويوحنا بن زبدي الملقَّب بالحبيب. ويعقوب أخو يوحنا. وتوما الذي شُفي من مرض الشكوك. والخامس كان ذلك النبيل الذي قال عنه المسيح إنه لا غش فيه، وهو نثنائيل أو برثلماوس. أما السادس والسابع فلم يُذكرا بالاسم، والأرجح أنهما أندراوس وفيلبس.

كان التلاميذ صيادي سمك، ولما دعاهم المسيح ليتبعوه تركوا شباكهم وانضموا لخدمته. ولكن يبدو أن صَلْب المسيح وموته جعلهم في حالةٍ من اليأس، دفعتهم للعودة إلى وظيفتهم القديمة، بعد أن نسوا كل ما تعلموه.

وحالما اقترح بطرس عليهم مصاحبته في الصيد انضمُّوا إليه. في تلك الليلة لم يصيدوا شيئاً، فقد منعت العناية الإلهية عنهم السمك لتفتح عيونهم إلى ما هو أعظم. وهكذا تعمل العناية معنا دوماً.

ولما مضى الليل دون أن يصيدوا شيئاً، سحبوا الشباك إلى السفينة وتوجَّهوا إلى البَرّْ. ولما وصلوا إلى بُعْد نحو مئتي ذراع عن البَرّ جاءهم صوتٌ من شخص غريب واقف على الشاطئ يناديهم: «يا غلمان، ألعل عندكم إداماً؟» (الإدام هو ما يؤكل مع الخبز) فلما أجابوه: «لا». أمرهم أن يلقوا الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن فيجدوا، ففعلوا، لكن دون أمل بالنجاح، فكوفئوا بأنهم لم يعودوا يقدرون أن يجذبوا الشبكة من كثرة السمك.

وأدرك يوحنا الحبيب ببصيرته الروحية من هو هذا الغريب، فقال لرفيقه بطرس: «هو الرب». فاتَّزر بطرس بثوبه، وألقى بنفسه في البحر ليأتي إلى المسيح، وتبعه بقية التلاميذ الستة في السفينة ومعهم السمك، فنظروا عند ذلك جمراً وسمكاً موضوعاً عليه وخبزاً. وطلب منهم المسيح أن يقدموا من السمك الذي في الشبكة، ولما أحصوه وجدوا أنه مئة وثلاثٌ وخمسون سمكة كبيرة، فاندهشوا.

كان المسيح يعلَمُ مقدار تعبهم كل الليل، ثم جوعهم، فبحكمته اهتمَّ أولاً بحاجتهم الزمنية، ودعاهم للطعام، وأخذ الخبز وأعطاهم وكذلك السمك. وبعدما أكلوا أعطى المسيحُ لبطرس التفاتاً خاصاً ليعلَمَ هو ورفقاؤه أنه قد قَبِلَ توبته بعد سقوطه العظيم، وأن مركزه الرسولي محفوظ عند سيده. وكان هذا الإلتفات مقروناً بتأنيب معنوي لطيف للجميع، ولا سيما لبطرس، لأنهم تركوا صيد النفوس ليصيدوا السمك.

ثم عاد بهم بالفكر إلى العلية في أورشليم، وقت عشاء الفصح، حين قال الجميع إنهم لا يتركونه، فقال بطرس مفتخراً: «إني مستعد أن أمضي معك حتى إلى السجن وإلى الموت. وإنْ شكَّ فيك الجميع فأنا لا أشك. ولو اضطُررت أن أموت معك لا أنكرك». فهل صَدَقَ في افتخاره الحبي؟ وهل فاق رفقاءه في ساعة الامتحان الشديد؟

أتحبني أكثر؟

«فَبَعْدَ مَا تَغَدَّوْا قَالَ يَسُوعُ لِسِمْعَانَ بُطْرُسَ: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هٰؤُلاءِ؟» قَالَ لَهُ: «نَعَمْ يَا رَبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ: «ٱرْعَ خِرَافِي». قَالَ لَهُ أَيْضاً ثَانِيَةً: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟» قَالَ لَهُ: «نَعَمْ يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ: «ٱرْعَ غَنَمِي». قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: «يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، أَتُحِبُّنِي؟» فَحَزِنَ بُطْرُسُ لأَنَّهُ قَالَ لَهُ ثَالِثَةً: أَتُحِبُّنِي؟ فَقَالَ لَهُ: «يَا رَبُّ، أَنْتَ تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ. أَنْتَ تَعْرِفُ أَنِّي أُحِبُّكَ». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ٱرْعَ غَنَمِي» (يوحنا 21: 15-17).

كطبيب روحي جرح المسيح بطرس ليشفيه، فسأله: «أتحبني أكثر من هؤلاء؟» أي أكثر مما يحبني رفقاؤك التلاميذ، الذين مع أنهم تركوني خوفاً، لكنهم لم ينكروني؟ فأجابه على النصف الأول من سؤاله: «نعم يا رب، أنت تعلم أني أحبك». لم يقُلْ: «أحبك أكثر من هؤلاء». يسأل المسيحُ عادةً عن الأساس قبل البناء، وعن الأصل قبل الفرع. لذلك لا نسمعه يسأل بطرس عن أعماله، ولا عن معارفه، ولا عن مقاصده، بل عن أصل كل هذه وأساسها: أي عن حالة القلب. سأله عن شعوره الداخلي. لو سأله عن أعماله لما نال بطرس غير الدينونة والخجل. ولصمَتَ عن الجواب، لأن ظواهره كانت سيئة.. الإنسان الذي ظواهره الحسنة تخالفُ بواطنَه السيئة هو المرائي. أما بطرس فكانت ظواهره الضعيفة تخالف بواطنه الصالحة واستعدادته الطيبة.

ولما كانت حالة القلب تستلزم أعمالاً تناسبها وتبرهنها، لم يكتفِ المسيح بأن يعلِنَ بطرسُ حبَّه له، بل طلب منه العمل أيضاً، فقال له: «ارع خرافي» معِيداً له بهذا الكلام الوظيفة الرسولية التي سقطت عنه بسقوطه، ومُبْدلاً صورة صياد النفوس بصورة راعي النفوس، لأن بطرس أخطأ، ليس فقط في تَرْكه صَيْد النفوس ليصيد السمك، بل أيضاً في تركه رعاية غيره لأجل رعاية ذاته. في هذه الوصية بالخراف، نرى درساً لجميع الرعاة الروحيين، أن يبتدئوا في خدمتهم بالصغار، صغار السن وصغار النفوس، كالفقراء والضعفاء واليائسين.

ثم كرر المسيح سؤاله لبطرس، وقال: «ارع غنمي». فأخذ ذات الجواب الأول. لقد قال بطرس ثلاث مرات إنه لن ينكر المسيح، ثم كرر إنكاره ثلاث مرات. فالآن يكرر المسيح ثلاث مرات سؤال الإمتحان. جَرَحت المرةُ الثالثة بطرس أكثر، فحزن وأجاب بانفعالٍ ممتزجٍ بالحب: «يا رب أنت تعلم كل شيء، أنت تعرف أني أحبك». لأن المحب لا يمكن إلا أن يطيع إلهاً يحبُّه، ولا يمكن أن يفعل إلا الخير لقريبه المحبوب، ولا زال المسيح يسألك: «أتحبني؟». فماذا ستقول له؟.

المسيح يظهر لأكثر من 500

«وَبَعْدَ ذٰلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ، أَكْثَرُهُمْ بَاقٍ إِلَى ٱلآنَ. وَلٰكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا» (1 كورنثوس 15: 6).

يقول سفر الأعمال عن المسيح إنه «أَرَاهُمْ أَيْضاً نَفْسَهُ حَيّاً بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ، بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ، وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْماً، وَيَتَكَلَّمُ عَنِ ٱلأُمُورِ ٱلْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ» (أعمال 1: 3). قضى المسيح في أول خدمته أربعين يوماً في مصارعة إبليس في البرية، والآن يقضي أربعين يوماً يظهر لتلاميذه معلِناً انتصاره الأخير على إبليس. وليسهِّل لهم ولجميع المؤمنين أن يفهموا حضوره معهم روحياً على الدوام.

ومن أهم ظهورات المسيح الظهور الثامن، وهو أيضاً الثاني والأخير في وطنه الجليل، عندما ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمئة أخٍ كان أكثرهم لا يزال حياً عندما كتب بولس عنهم في رسالته لأهل كورنثوس. ويقول البشير متى: «ولما رأوه سجدوا له، لكن بعضهم شكُّوا». وشكُّ هؤلاء معقول بالنظر إلى التغيير الكلي في هيئة المسيح الخارجية البشرية، مما صعَّب التصديق بأنه هو.

واجتماع خمسمئة أخٍ في وقت واحد دليل على نجاحٍ ليس بقليل. والتقاء هؤلاء في أحد جبال الجليل حسب تعيينٍ سابق كان ضرورياً، ليتمكَّن عدد كهذا من مشاهدة المسيح دفعة واحدة. وفي خبر هذا الاجتماع أوضَحُ دليلٍ على حقيقة قيامة المسيح، لأنه يحتوي على كلام قاله لتلاميذه يستحيل اختراعه-لو أن المسيح لم يقم.

لنستمِعْ إلى بعض أقوال المسيح القوية: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (متى 28: 18). فأي منطق يُنسَب إلى شخص صُلِبَ بإهانةٍ فائقة، أمام جماهيرٍ من أنحاء العالم، يفوه بكلام كهذا؟ ثم لنسمع قوله: «فَٱذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلٱبْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (متى 28: 19). معلومٌ ما هو تعليم اليهود ومشربهم منذ القديم، في أنهم يتشبَّثون بالانفراد عن غيرهم من الأمم، ويحصرون الدِّين وفوائده في جماعتهم، ويحتقرون كل الشعوب الأخرى دينياً.

وهل يُعقَل أن التلاميذ يستنبطون تعليماً مبنيّاً على معرفة طبيعة الإِله الواحد في ثلاثة أقانيم، بينما هذا لم يُذْكَر في تعاليمهم اليهودية؟

لكن أعظم ما قاله المسيح، وأقواه برهنةً للقيامة قوله: «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ. مَنْ آمَنَ وَٱعْتَمَدَ خَلَصَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ» (متى 28: 20 ، مرقس 16: 16). فإذا كان لم يَقُمْ، لا يمكن أن يكون معهم. وإنْ كان معهم حقاً فلا يبقى ريْبٌ في قيامته. فبما أن حضوره معهم لا يكون إلا روحياً، أراد أن يحققه لهم بواسطة علامات ظاهرة للحواس في السنين الأولى بعد اختفائه، أي بواسطة معجزات يعطيهم أن يفعلوها. ومتى دوَّنوا خبرها في تاريخ صادق، يكفي ذلك شهادة للعالم فيما بعد، ولا يعود يلزم تكرارها جيلاً بعد جيل.

لذلك وعدهم أن هذه الآيات تتبع المؤمنين: يُخِرجون الشياطين باسمه، ويتكلمون بألسنة جديدة، ويحملون حيَّات. وإنْ شربوا شيئاً مميتاً لا يضرُّهم. ويضعون أيديهم على المرضى فيبرأون (مرقس 16: 17 ، 18). لذلك كانت الآيات التي صنعها الرسل فيما بعد باسمه، إثباتاً كافياً لكل ما ورد في هذا الخطاب، لأن هذه الزُّمرة الضعيفة نشرت التعليم المسيحي في أكثر البلدان الراقية، وفي وقت قصير جداً. وانضمَّ ملايين من الأمم إلى الكنيسة الجديدة. فأخبار هذا النجاح الصادقة تبرهن أن القيامة قد حدثت فعلاً، وتبرهن نسبة هذه الأقوال القوية إلى المسيح نفسه.

يرتبط كلام المسيح في هذا الخطاب الوداعيّ لتلاميذه في الجليل بعضه ببعض ارتباطاً فلسفياً متيناً. فلما كان قوله إنه صاحب السلطان في السماء وعلى الأرض يحتاج إلى برهان، أعطاهم الآيات التي يُجريها بواسطة المؤمنين به. وفي الوقت ذاته تفتقر هذه الآيات إلى عاملٍ قادرٍ أن يجريها، وهذا يستدعي حضوره معهم كل الأيام. فهذه القضايا الثلاث تستلزم كلٌّ منها الأخرى، ويُثْبِتُ كلُ واحدةٍ منها الأخرى. ولا يقدر المسيح أن يمكِّن رسله من فعل المعجزات بحضوره معهم، وأن يكون صاحب سلطان كهذا، ما لم يصعد إلى السماء بعد قيامته، ويجلس عن يمين العرش في الأمجاد السماوية.

أمر المسيح تلاميذه أن يبشروا العالم بإنجيله، وهذا أمرٌ عام ودائم لكل فرد من تابعيه. ويتوقف وعده لهم بأنه يكون معهم كل الأيام على إتمام هذه الوصية. لا يوجد عمل بشري أشرف وأسمى وأجزل من هذا العمل التبشيري. لكن النجاح الذي وعد المسيح تلاميذه به في تبشيرهم، يتوقَّف على فعل الأقنوم الثالث في الإِله الواحد، الروح القدس، الذي نعتمد عليه في الأعمال الروحية، ولا سيما بعد صعود الأقنوم المتأنِّس المُقام إلى السماء.

لذلك أوصى المسيح رسله أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الآب، وقال: «وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، لَيْسَ بَعْدَ هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ بِكَثِيرٍ». «لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا ٱلأَزْمِنَةَ وَٱلأَوْقَاتَ ٱلَّتِي جَعَلَهَا ٱلآبُ فِي سُلْطَانِهِ، لٰكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ» (أعمال 1: 5، 7، 8).

المسيح يظهر ليعقوب

«وَبَعْدَ ذٰلِكَ ظَهَرَ لِيَعْقُوبَ، ثُمَّ لِلرُّسُلِ أَجْمَعِينَ» (1 كورنثوس 15: 7).

أما ظهور المسيح التاسع بعد قيامته فكان ليعقوب الرسول وحده. ونلاحظ أن ظهوراته كافة (بعد قيامته) حُصرت في تابعيه المؤمنين. وهذا الحَصْر في محله، لأنه يعلم أن ظهوره لخصومه لا يأتي بهم إلى الإِيمان. قال مرة: «إِنْ كَانُوا لا يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ، وَلا إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ» (لوقا 16: 31). فالبرهان الحسي لا يكفي لتوليد الإِيمان بالأمور الروحية. مثال ذلك أن رؤساء اليهود علموا يقيناً بواسطة الحراس الذين استخدموهم بأن المسيح حقاً قام. لكنهم لم يؤمنوا.

المسيح يظهر لشاول الطرسوسي

«وَآخِرَ ٱلْكُلِّ كَأَنَّهُ لِلسِّقْطِ ظَهَرَ لِي أَنَا. لأَنِّي أَصْغَرُ ٱلرُّسُلِ، أَنَا ٱلَّذِي لَسْتُ أَهْلاً لأَنْ أُدْعَى رَسُولاً، لأَنِّي ٱضْطَهَدْتُ كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ» (1 كورنثوس 15: 8، 9).

لا يُستثنى من هذا الحَصْر في ظهورات المسيح ظهوره الأعظم والأهم الذي حدث بعد صعوده، لما ظهر لشاول الطرسوسي، لأنه قاد هذا المضطهِد، حالاً وفجأة إلى الإِيمان به. ولهذا الظهور الأخير فائدة، هي نفي أقوال المعترِضين بأن الذين تصوَّروا هذه الظهورات ورووا أخبارها هم محبُّوه سابقاً، وتصوَّروها بسبب شدة حبّهم له وتمسُّكهم به، وأن شهادتهم شهادة مغرضين له، فهي ليست ثابتة.

ملكوت المسيح الروحي

«أَرَاهُمْ أَيْضاً نَفْسَهُ حَيّاً بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ، بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ، وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْماً، وَيَتَكَلَّمُ عَنِ ٱلأُمُورِ ٱلْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ. وَفِيمَا هُوَ مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَنْ لا يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ، بَلْ يَنْتَظِرُوا «مَوْعِدَ ٱلآبِ ٱلَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي، لأَنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِٱلْمَاءِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ، لَيْسَ بَعْدَ هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ بِكَثِيرٍ». أَمَّا هُمُ ٱلْمُجْتَمِعُونَ فَسَأَلُوهُ: «يَا رَبُّ، هَلْ فِي هٰذَا ٱلْوَقْتِ تَرُدُّ ٱلْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا ٱلأَزْمِنَةَ وَٱلأَوْقَاتَ ٱلَّتِي جَعَلَهَا ٱلآبُ فِي سُلْطَانِهِ، لٰكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ» (أعمال 1: 3-8).

أطفأ موتُ المسيح آمال التلاميذ السابقة في الملكوت الزمني، لكن قيامته أحيت وجددت هذه الآمال. فلنا في سؤالهم في هذا الوقت برهانٌ آخر لحقيقة قيامته. إذْ سألوه: «يا رب، هل في هذا الوقت تردُّ المُلْك لإِسرائيل؟» فكان جوابه لهم بيان خطئهم في السؤال، مع بيان الآمال التي يجوز لهم إحياؤها، وهي الآمال بالقوة الروحية التي تكفل لهم النجاح في عملهم الجديد كشهود للمسيح المخلص. علَّمهم أن يبتدئوا بالقريب في تبشيرهم، ولكن لا يقفوا عند هذا الحد، بل يمتدوا فيه إلى أقصى الأرض.

أشعةٌ نور من صباح القيامة:

ليس عبثاً أن يسمّي المسيحيون صباح القيامة «صباح النور». لأن أعظم نورٍ رآه العالم، أبرق عندما قام من قبره، ذاك الذي قال: «أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 8: 12). والحق أن قبر المسيح المفتوح منبعٌ عظيم للنور الروحاني.

  1. فالشعاع الأول من هذا النور يُثبِّت مجيءَ المسيح من السماء، وكمالَ عمله الخلاصي، وتحقيقَ صلاحيته كابن للّه وابن للإنسان لأن يكون المخلص الكافي والوحيد لبني البشر.

  2. والشعاع الثاني إنارةُ القبر المظلم سابقاً، حتى يزول رعبُه من قلوب المؤمنين. نزل المسيح إلى القبر أمامنا، فلا نخاف نحن عند نزولنا وراءه. قال مرة: «لَيْسَ ٱلْعَبْدُ أَفْضَلَ مِنْ سَيِّدِهِ» (متى 10: 24). فلا نخاف مما ذاقه سيدنا قبلنا. لذلك نادى بولس: «أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ قد «ٱبْتُلِعَ ٱلْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ» (1كورنثوس 15: 55 و54). فقد اشترك المسيح مع البشر «فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ... لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَوْفاً مِنَ ٱلْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ ٱلْعُبُودِيَّةِ» (عبرانيين 2: 14 ، 15).

  3. والشعاع الثالث من نور القيامة هو تحقيق قيامة المؤمنين بالمجد، لأن قيامة المسيح مثالٌ وعربون لذلك. وبهذا المعنى يُسمَّى المسيح «بِكْرٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (كولوسي 1: 18). لأنه أول من مات وقام لكي لا يعود إلى الموت.

  4. والشعاع الرابع من نور القيامة هو أن قيامة المسيح مقدمة لصعوده في جسده الممجد ليجلس إلى الأبد كابن الإنسان وابن اللّه عن يمين العرش الإلهي في السماء، يمارس عمله الشفاعي، ويُنير بمجده البهيّ الديار السماوية. فلا عجب إذا كتب الرسول بولس إلى الكنيسة في فيلبي أنه يحسب كل شيء خسارة ونفاية لكي يعرف قوة قيامة يسوع المسيح (فيلبي 3: 8).

  5. والشعاع الخامس هو تعزية الحزانى الذين يموت أعزاؤهم ممن لهم الحق بالطوبى القائلة: «طُوبَى لِلأَمْوَاتِ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي ٱلرَّبِّ مُنْذُ ٱلآنَ - نَعَمْ يَقُولُ ٱلرُّوحُ، لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ أَتْعَابِهِمْ، وَأَعْمَالُهُمْ تَتْبَعُهُمْ» (رؤيا 14: 13). لأن هؤلاء الحزانى لهم أيضاً الطوبى الأخرى «طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ» (متى 5: 4).

كان المسيحيون في زمان الرسل والآباء يلبسون الأبيض عند موت ذويهم، إشارة إلى مجد قيامتهم العتيدة، ويحسبون يوم موت المؤمن يوم ميلاده، ومن جملة أعمال المسيح المجيدة وعده للمؤمنين أن يمسح كل دمعة من عيونهم، فيقول كل مؤمن مع بولس: «لأَنَّ لِيَ ٱلْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ» (فيلبي 1: 21) لأن المؤمن سيقوم بناء على قيامة المسيح.

8 - المسيح يصعد للسماء

«وَلَمَّا قَالَ هٰذَا ٱرْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ، إِذَا رَجُلانِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ وَقَالا: «أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هٰذَا ٱلَّذِي ٱرْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ سَيَأْتِي هٰكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى ٱلسَّمَاءِ». حِينَئِذٍ رَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنَ ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي يُدْعَى جَبَلَ ٱلّزَيْتُونِ، ٱلَّذِي هُوَ بِٱلْقُرْبِ مِنْ أُورُشَلِيمَ عَلَى سَفَرِ سَبْتٍ» (أعمال 1: 9-12).

بعد أن أُكمل العمل الذي كان يستدعي وجود المسيح جسدياً وظاهراً بين الناس، هيأ المسيح تلاميذه للفراق الجسدي النهائي. فبعد عودتهم إلى أورشليم طاعةً لأمره، ظهر لهم وأخرجهم إلى بيت عنيا إلى مكان في جبل الزيتون، وهناك رفع يديه وباركهم، ثم انفرد عنهم وارتفع وصعد إلى السماء وهم ينظرون، وأخذته سحابة عن أعينهم. وبينما هو منطلق وقف أمامهم ملاكان بهيئة رجلين بلباس أبيض وقالا لهم: «أيها الرجال الجليليون، ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟ إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء، سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء». حينئذ سجدوا له بعد أن زاد يقينهم بوحدته مع اللّه.

ثم رجع التلاميذ من الجليل إلى المدينة بفرح عظيم. وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون اللّه. رجعا بفرح عظيم على رغم خسارتهم الجسيمة في فقدهم حضور المسيح جسدياً معهم. وفرحوا لأن عمل سيدهم الخطير قد كمل. وفرحوا لأنه سلَّمهم عملاً يتبع عمله ويؤيده، وأرسلهم كما أرسله الآب. وفرحوا لتأكيده لهم أنه يكون معهم كل الأيام، وفرحوا لأنه وعدهم بقوة كافية ليكونوا شهوده إلى أقصى الأرض.

وكان من أعظم الأسباب الموجبة للفرح حينئذ، بشارة الملاكين برجوع سيدهم ثانية إلى العالم. كان المسيح قد قال هذا كثيراً، لكن الأرجح أن تأثير هذا الكلام في التلاميذ كان ضعيفاً، فكان قول الملاكين ضرورياً ومناسباً في ساعة افتراقه عنهم. وموضوع مجيء المسيح ثانية بالمجد من أهم المواضيع لكنيسة المسيح الآن. هذا رجاء الكنيسة العظيم، ولو أننا لا نعرف موعده. ولا يجوز الجَزْم بتفاصيل مجيئه متى جاء، لأن الكلام الحرفي لا يُفصَل عن الكلام المجازي في النبوَّات المختصة بمجيئه. ومع ذلك فإن صلاة المؤمنين الأمناء المنتبهين إلى وصايا سيدهم هي التي وردت في آية خاتمة الإِنجيل: «يَقُولُ ٱلشَّاهِدُ بِهٰذَا: «نَعَمْ! أَنَا آتِي سَرِيعاً». آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا ٱلرَّبُّ يَسُوعُ» (رؤيا 22: 20).

التلاميذ يكرزون

«ثُمَّ إِنَّ ٱلرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ٱرْتَفَعَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ. وَأَمَّا هُمْ فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَٱلرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيُثَبِّتُ ٱلْكَلامَ بِٱلآيَاتِ ٱلتَّابِعَةِ»(مرقس 16: 19 ، 20).

بعد صعود المسيح خرج التلاميذ ليكرزوا في كل مكان، والرب يعمل معهم ويثبّت الكلام بالآيات التابعة، لأن سيدهم بسط فوقهم من عرشه السماوي بساط حمايته، ولم يسمح لأعدائه أن يفعلوا بهم في تلك الأيام كما فعلوا به. ومع أننا لا نعلم ماذا حفظوا وماذا نبذوا من اصطلاحات العبادة اليهودية في تردُّدهم إلى الهيكل، إلا أنهم قدّموا أهمَّ التقدمات والذبائح المُرضِية للّه، أي تقدمات الروح المنكسرة، وذبائح الحمد والشكر (مزمور 51: 17 ، عبرانيين 13: 15).

ولئلا نظن أن هذه الأخبار هي كل ما يهمّ في تاريخ المسيح. قيل في خاتمة البشارة الرابعة: «وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ ٱلْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ ٱلْكُتُبَ ٱلْمَكْتُوبَةَ» (يوحنا 21: 25). هذه نهاية أخبار هذا الشخص الفريد الإلهي، مدة وجوده ظاهراً على الأرض.

كان لقبه المعروف بين الناس «المعلِّم» في سنيه الثلاث ونصف وهو يمارس وظيفته، كان عمله الأكثر والأعظم ليس المعجزات بل التعليم.

علّم المسيح أن الإله الواحد الذي هو روح، هو أب البشر جميعاً، وأنه يحبهم بالرغم من شرورهم. وأن الأصل في الدين ليس ما يعمله الإِنسان طاعة وإرضاءً للّه، بل ما يعمله الإِله للإنسان وما يهبُه له حباً. علّم أن الأعمال البشرية مهما حسُنت ولا تمنح من يقوم بها خلاص النفس، لأن الخلاص يُعطَى فقط بالإِيمان، بالذبيحة التي قدَّمها المسيح لما قدم نفسه، وأن قيمة الدنيا وكل ما فيها زهيد جداً بالنسبة إلى الصلاح الحقيقي والرضى الإِلهي، وأن الدين لا يقوم بالطقوس والفرائض الخارجية، لأن هذه مهما كانت حسنة وضرورية ليست سوى الثوب الخارجي اللائق للدين، لأن جوهر الدين داخلي وروحي، ومركزه الحقيقي في القلوب لا في الأبدان حتى ولا في العقول. وأن الرياء والنفاق في الدين، أي التظاهر بما ليس في القلب هو أكره جميع أنواع الشر لدى اللّه. وأن الخطاة أقربُ إلى ملكوت السماوات من رؤساء الدين إن كانوا مرائين، وأن خدمة الإنسان لغيره أساس عظمته الحقيقية، وأن الإكرام ليس للمتكبر بل للمتواضع، وأن الأصل في كتاب الوحي هو روح كلامه لا حرفه، وأن لا يجوز إضافة التقاليد البشرية إلى التعاليم الإِلهية كقانون يربط الضمير.

المسيح حي هنا والآن:

إنجيل يسوع المسيح هو لكل العالم وإلى كل الأيام حتى انقضاء الدهر. ليس هو مجرد خبر عن أمور ماضية وشخص غائب، كغيره من أخبار العظماء، بل هو إعلانٌ بمخلِّص حاضر وبأمور حالية تهمُّ كل إنسان. ففوق ضجيج أعظم أنواء الحياة، يسمع المؤمن صوت هذا العظيم قائلاً: «لا تخف. أنا هو الأول والآخر، الكائن والذي كان والذي يأتي، وها أنا حي إلى أبد الآبدين. ثق يا بنيَّ، أنا قد غلبتُ العالم. بحسب إيمانك ليكن لك». ويشعر بلمْسِ يديه القادرتين، ويعلم أن لمسهما يمنحه الشفاء والحياة، لأنه بمعرفته يجد الحياة الأبدية. والذي يدرس سيرة يسوع المسيح يجد أن كثيراً من القياسات البشرية لا تصِحُّ فيه، فيشعر بأن هذا الخروج عن تلك القياسات نتيجة لازمة عن طبيعته الأخرى الإِلهية الحقيقية.

ينال المؤمن من رفيقه «عمانوئيل» العزاء في زمان الوحشة، والفرج في زمان الضيق، والتشجيع في ساعة الخوف، والتحذير في ساعة التجربة، والتوبيخ في ساعة السقوط، والتنشيط في ساعة العمل، والهُدى والتدريب في ساعة الحيرة والشك والقصور، والمغفرة في ساعة التوبة، والمديح في ساعة الانتصار.

بعد أن سمعنا تهليل الملائكة حول مهده، ورأينا شهادة نجم المجوس لعظمته، وفَتْح السماوات ليحلَّ الروح القدس عليه عند نهر الأردن، ومجيءَ الصوت من السماء الذي أعلن مقامه عند اللّه، وخدمةَ موسى وإيليا له من السماء، وصوتَ الآب ثانية لابنه الحبيب على جبل التجلي، يقول: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت، له اسمعوا». والصوتَ الثالث الإلهي في دار الهيكل في أسبوع الآلام يقول «مجدت وسأمجد أيضاً». وخدمة الملائكة له في بستان جثسيماني، وإظلام الشمس وزلزلة الأرض وشقَّ الصخور وفتحَ القبور في الجلجثة، والزلزلة الثانية التي أفزعت الحُرَّاس. والملاكَ الذي دحرج الحجر عن باب القبر، وظهوراتِ الملائكة المتكررة حول القبر، وظهوراتِه العشرة لتلاميذه بعد قيامته، ثم سهولة صنعه معجزاته طول أيامه ووفرة عددها وبهجة أسلوبها، وكمالاته الأخلاقية والروحية، ثم صعوده الممجَّد إلى السماء في مركبته السحابية، وجلوسه عن يمين اللّه.. بعد مشاهدتنا هذه كلها نفهم فاتحة يوحنا البشير لما كتب: «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ.. وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» (يوحنا 1: 1 ، 14).

في تعاليم المسيح وتأثيرها الفائق الوصف، وفي حبه الصبور المتفاني، ولطفه الحنون المتسامح، كما في غضبه الحاد الصالح، وتوبيخه المرّ الصادق، وفي احتماله العجيب المتناهي لمحبيه ومبغضيه، ثم في انتصاره التام على كل المكائد العدوانية، وكل ذلك لخلاص البشر، نرى الأساس الكافي لخاتمة البشارة ذاتها لما كتب يوحنا: «وَأَمَّا هٰذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِٱسْمِهِ» (يوحنا 20: 31).

مسابقة الكتاب

عزيزي القارئ، إن أرسلت إلينا إجابة صحيحة على عشرين سؤالاً من الأسئلة الخمسة والعشرين التالية، نرسل لك كتاباً جائزة من كتبنا المختلفة. نرجو أن ترسل مع الإجابة اسمك وعنوانك واضحين لنرسل لك الجائزة.

  1. ما معنى اسم جثسيماني؟ ما هو المعنى الذي تستفيده من هذا الاسم في ما جرى للمسيح؟

  2. اكمل العبارة الآتية: «رأى التلاميذ على جبل التجلي شمس عظمة المسيح في أفقها الأرضي. وها هو في جثسيماني يريهم.........................».

  3. ماذا فعل شيوخ اليهود ليتأكدوا أنهم يقبضون على المسيح وليس على شخص آخر غيره؟

  4. ماذا تتعلم من قول المسيح ليهوذا في البستان: «يا صاحب، لماذا جئت؟»؟

  5. قطع بطرس أذن ملخس، ولكن المسيح شفاه. ماذا تتعلم من هذا؟

  6. سأل رئيس الكهنة المسيح: أأنت المسيح ابن الله؟ - ماذا كان جواب المسيح؟

  7. اكتب كلمات الآيات التالية: مزمور 32: 1 ، إشعياء 1: 18 ، 43: 25.

  8. كيف شرح المسيح لبيلاطس أن ملكوته روحي؟

  9. ماذا تعرف عن باراباس؟

  10. ماذا قالت زوجة بيلاطس لزوجها وقت محاكمة يسوع؟

  11. اذكر أربع كلمات من الكلمات السبع التي نطق بها المسيح على الصليب.

  12. لماذا طلب بالمسيح من بنات أورشليم أن يبكين على أنفسهن وعلى أولادهن؟

  13. ماذا رأى اللص التائب في المسيح حتى قال له: «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك»؟

  14. لماذا قال المسيح: «إلهي إلهي لماذا تركتني»؟

  15. ماذا قال قائد المئة الذي أشرف على عملية الصلب عن المسيح؟

  16. كيف تأكد بيلاطس ورؤساء اليهود أن المسيح قد مات فعلاً وهو على الصليب؟

  17. ما هي النبوة التي تحققت عند دفن المسيح في قبر يوسف الرامي؟

  18. كيف تأكد بطرس ويوحنا أن المسيح قد قام فعلاً من الموت؟

  19. من أول شخص رأى يسوع بعد قيامته من الأموات؟

  20. اشرح لماذا يستحيل أن يسرق التلاميذ جسد يسوع.

  21. كيف عرف تلميذا عمواس المسيح؟

  22. لماذا قدس المسيح يوم الأحد بدل السبت؟ اذكر براهين ذلك.

  23. كيف قشع المسيح شكوك توما؟

  24. اذكر ثلاثة أشعة من أنوار القيامة.

  25. ماذا قال الملاكان للتلاميذ بعد صعود المسيح؟

أرسل الإجابة فقط بدون تعليقات أخرى لئلا تُهمل. ونحن بانتظار إجابتك.


Call of Hope
P.O.Box 100827 
D-70007 
Stuttgart 
Germany