العودة الى الصفحة السابقة
سيرة المسيح

سيرة المسيح

الكتاب السادس: دخوله أورشليم

الدكتور. جورج فورد


Bibliography

سيرة المسيح. الكتاب السادس: دخوله أورشليم. الدكتور. جورج فورد. الطبعة الأولى. 1986. Order Number SPB 7356 ARA. German title: Sein Einzug in Jerusalem (Heft 6). English title: His Entery into Jerusalem (booklet 6). Copyright © 1986 All Rights Reserved Call of Hope. P.O. Box 100827 D-70007 Stuttgart Germany Internet: http://www.call-of-hope.com - .

هذا الكتاب

يسر أسرة «نداء الرجاء» أن تصدر هذا الكتاب عن حياة السيد المسيح، في سبعة أجزاء.

وقد كتب هذا الكتاب في مجلد واحد باللغة العربية الدكتور جورج فورد في أوائل العشرينات من هذا القرن، بعنوان «كتاب القول الصريح في سيرة يسوع المسيح».

وقد قام محررو نداء الرجاء بإعادة كتابته في الصورة التي تراها الآن.

ونحن نأمل أن يتعرَّف القارئ الكريم على المسيح بطريقة شخصية، وأن يكون شعاره «نحن نحبه لأنه هو أحبّنا أولاً».

أسرة «نداء الرجاء»

1 - المسيح يبحث عن الضال

تذمر الفريسيون والكتبة في أحد الأيام على المسيح وقالوا عنه: «هذا يقبل خطاة ويأكل معهم». فقدَّم لهم ثلاثة أمثال تبيّن أن شر الأشرار لا يمنع المحبة الإلهية الأبوية عنهم، لأنه عند وقوع البنين في أشراك إبليس يشتعل الحبُّ الأبوي مضاعفاً أسفاً على تعاستهم، ورغبة في تخليصهم منها. وهذا ما نراه في الأب الذي له ولد قاصر أو مريض أو معتوه أو شارد. فتوبة الشرير عزيزة جداً عند الله، وعند جميع البشر الصالحين.

مثل الخروف الضال

«وَكَانَ جَمِيعُ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ. فَتَذَمَّرَ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ وَٱلْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: «هٰذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ». فَكَلَّمَهُمْ بِهٰذَا ٱلْمَثَلِ: «أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَأَضَاعَ وَاحِداً مِنْهَا، أَلا يَتْرُكُ ٱلتِّسْعَةَ وَٱلتِّسْعِينَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ، وَيَذْهَبَ لأَجْلِ ٱلضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟ وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحاً، وَيَأْتِي إِلَى بَيْتِهِ وَيَدْعُو ٱلأَصْدِقَاءَ وَٱلْجِيرَانَ قَائِلاً لَهُمُ: ٱفْرَحُوا مَعِي، لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي ٱلضَّالَّ. أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ هٰكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لا يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَة» (لوقا 15: 1-7).

صاغ المسيح أول الأمثال الثلاثة في قالب الاستفهام، عندما سأل سامعيه: من منكم له مئة خروف وأضاع واحداً منها؟». فكأنه في هذا السؤال يبكّتهم كرعاة الشعب على أنهم أهملوا الضالين، واكتفوا بالتسعة والتسعين التي يعتبرونها غير ضالة، وحسبوا أن الضال يستحق ما هو فيه من العذاب والخطر والهلاك.

يقدم المسيح نفسه كالراعي الصالح الأمين المحب، الذي يبذل كل جهد في تفتيشه عن كل نفس ضالة بمفردها، بل يرثي لضعفها ويحنّ لشفائها ويحملها على كتفيه فرحاً، ويأتي بها إلى بيته، وبهذا يميّزها عن التي لم تضل، ثم يدعو للاشتراك معه في فرحه الملائكة والقديسين في السماء، الذين يفرحون بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة.

فمَنْ يتجاسر أن يصف حوادث السماء، وكيفية أفراح أهلها؟ لا حقَّ لأحد في ذلك إلا المسيح الذي كان منذ الأزل في حضن الآب، وقد نزل من السماء. ومن هُم الذين يصفهم بالتسعة والتسعين باراً الذين لا يحتاجون إلى توبة؟ ليسوا ملائكة. لأنه يقول إن الملائكة لا تفرح بهم كفرحها بالضال التائب. وليسوا بشراً صالحين، لأن الرسول بولس يقول: «لَيْسَ بَارٌّ وَلا وَاحِدٌ. ٱلْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً» (رومية 3: 10 ، 12). إذاً هم الذين يتوهّمون ويدَّعون خطأً أنهم أبرار. وهذا ما كان يفعله سامعو المسيح من الفريسيين، ويفعله خلفاؤهم في كل جيل.

لكن على فرض أن هؤلاء كانوا أبراراً ولم يضلُّوا، واعتُبرت قيمتهم مئة ضعف العشارين والخطاة والضالين، فإن الراعي السماوي لا يكتفي بهم ويترك المحتقرين والمرفوضين منهم، بل إنه يُسَرُّ بتوبة خاطئ واحد أكثر من الفرائض المقدسة التي يمارسها الرؤساء في الهيكل في صلوات وأصوام وتقدمات، لأنه جاء من السماء ليخلِّص الخطاة. ثم أنه لا ينتظر الخطاة ليأتوا إليه أولاً، بل هو يقصدهم ويجدهم ويحثُّهم على الرجوع إلى الله وإلى بيت أبيهم الأصلي الحقيقي. فلو كان الفريسيون مثل أهل السماء لفرحوا بما فرح له أهل السماء. والخاطئ الذي يعرف أن توبته تجعل أجراس السماء تقرع فرحاً، يجد دافعاً قوياً وشريفاً يسرع به إلى المخلِّص.

مَثَل الدرهم المفقود

«أَوْ أَيَّةُ ٱمْرَأَةٍ لَهَا عَشْرَةُ دَرَاهِمَ، إِنْ أَضَاعَتْ دِرْهَماً وَاحِداً، أَلا تُوقِدُ سِرَاجاً وَتَكْنِسُ ٱلْبَيْتَ وَتُفَتِّشُ بِٱجْتِهَادٍ حَتَّى تَجِدَهُ؟ وَإِذَا وَجَدَتْهُ تَدْعُو ٱلصَّدِيقَاتِ وَٱلْجَارَاتِ قَائِلَةً: ٱفْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ ٱلدِّرْهَمَ ٱلَّذِي أَضَعْتُهُ. هٰكَذَا أَقُولُ لَكُمْ يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلائِكَةِ ٱللّٰهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ» (لوقا 15: 8-10).

في المثَل الثاني يصوِّر المسيح للنساء بين سامعيه عملاً بيتياً، ويجعل النسبة بين الضالين وغير الضالين كواحد إلى عشرة، فيعظِّم نسبة قيمة الخاطئ. ويوضح خسارة المالك السماوي الذي له الأرض وملؤها، المسكونة وكل الساكنين فيها (مزمور 24: 1). في المثل أضاعت المرأة درهماً من عشرة، وبعد التفتيش بواسطة تكنيس البيت على ضوء السراج، نجحت، ففرحت جداً بالعثور على الدرهم كما فرح صاحب الخروف، وأشركت الآخرين معها أيضاً في الأفراح.

يجوز القول إن المرأة تمثل الكنيسة، كما مثَّل الراعي المسيح رأس الكنيسة. فكنيسة المسيح الحقيقية تسير على خُطَّته، لأنه يقودها بروحه، ولذلك تفتِّش بكل اجتهاد على التائهين في قفار الخطية. والسراج الموقد بيدها هو كتاب الوحي الذي قال فيه داود: «سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلامُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي» (مزمور 119: 105). والكنيسة تَصْدُقُ في اعترافها: «الدرهم الذي أضعْتُه» لأن كثيراً من دم الهالكين يُطلب من الفاترين في الكنيسة، ومن الكنيسة إجمالاً بسبب تقصيرها. والراعي محقٌ في قوله «خروفي» أما المرأة فلا تقول «درهمي» لأن الملك ليس للكنيسة بل للمسيح رئيسها.

علّم المسيح في هذين المثلين أن مصدر الخلاص هو ما يعمله الله في طلب الخاطئ، لا عمل الخاطئ في طلب الخلاص، لأن طلب الخاطئ للخلاص هو نتيجة لعمل الله في قلبه. فليس في الدِّين قولٌ جوهري أكثر من القول إن الأصل في الدين ليس ما يعمله الإنسان لأجل الله، بل ما يعمله الله لأجل الإنسان.

مَثَل الابن الضال

«وَقَالَ: «إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ٱبْنَانِ. فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي ٱلْقِسْمَ ٱلَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ ٱلْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ. وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ ٱلٱبْنُ ٱلأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ. فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ، حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ ٱلْكُورَةِ، فَٱبْتَدَأَ يَحْتَاجُ. فَمَضَى وَٱلْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ ٱلْكُورَةِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلأَ بَطْنَهُ مِنَ ٱلْخُرْنُوبِ ٱلَّذِي كَانَتِ ٱلْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ. فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ ٱلْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعاً! أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ. فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ، فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ. فَقَالَ لَهُ ٱلٱبْنُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً. فَقَالَ ٱلأَبُ لِعَبِيدِهِ: أَخْرِجُوا ٱلْحُلَّةَ ٱلأُولَى وَأَلْبِسُوهُ، وَٱجْعَلُوا خَاتَماً فِي يَدِهِ، وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ، وَقَدِّمُوا ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ وَٱذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ، لأَنَّ ٱبْنِي هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاً فَوُجِدَ. فَٱبْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ»(لوقا 15: 11-24).

أما المثل الثالث فإنه الدُرَّة الفريدة بين أمثال المسيح كافة، وفيه تشبيهٌ لعمل الأولاد في العائلة، تنبيهاً للأولاد بين سامعيه. ويوضح ما لم يُعلَن في المثلين السابقين من عظمة مسئولية الذين يضلون عن الله وشرائعه. ونلاحظ أن هذا المثل يمتاز على المثلين الآخرين في القيمة التي يعطيها للضالين، لأن نسبتهم كواحد إلى واحد، ويمثلّهم بالابن العزيز الأصغر، لا بمعدن أو حيوان، كما أنه يوضح ضرورة العمل الإلهي الاساسي في الرجوع إلى الله بالتوبة والإرادة الحرَّة، الأمر الذي هو ثمر العمل الإلهي الاساسي في التفتيش عن الضالين وفتح الباب لخلاصهم. فضَمَّ المسيح هذه الأمثال الثلاثة إلى عقد واحد، ليشرح لنا أمر الخلاص شرحاً وافياً.

حَصَر المسيح الشعب اليهودي الذي خصَّه بخدمته في صنفين، يمثّلهما ابنان لأب واحد. فالابن الأكبر (الذي له شرعاً نصيبٌ مضاعف في الإرث) يمثّل الذين يحافظون على صورة الدِّين، وهم في أعين الناس، وأعين أنفسهم، أهل الدين والأمانة لله، لأنهم يحفظون بتدقيق فرائض الدين الخارجية، ولا يتيهون علانية في برية الآثام والمعاصي.

ويمثّل الابن الأصغر سائر أبناء الأمة، الذين يتبعون الأهواء المنكرة ولا يتقيدون بفروض الدين فينكرون المراحم الإلهية ويستخدمون عطايا الرب لهم في العصيان عليه، ويرفضون حرية البنوَّة الشريفة، إذ يبتعدون عن الله عمداً وظاهراً. لذلك يضلون دون خجل ودون تردد عن كتاب الله وعن عبادته وعن شعبه، فيبتعدون بذلك عن القداسة والسلامة والسعادة، وبالتالي عن صالحهم وصالح من هم حولهم في الدنيا والآخِرة.

ضلَّ هذا الابن الأصغر عن بيت أبيه، وعن أخيه الوحيد، وعن العناية الأبويَّة، وعن خيرات وطنه، وعن المعشر الصالح، وعن العمل لزيادة الثروة التي تأتيه بالإرث من أبيه. ملَّ ونفر من القيود البيتية الشريفة، والسلطة الأبويَّة المكرَّمة، واشتهى أن يحكم نفسه بنفسه، وأن يضلّ في الملذات الفاسدة بين الأشرار، فشقَّ عصا الطاعة البنويّة وعزم على الابتعاد عن أبيه، ليتصرف كما يشاء. فطلب من أبيه - وهو لا يزال حياً - نصيبه من الميراث.

ترك روح البنوَّة الذي يقول: «أبانا الذي في السموات. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم». وطلب دفعة واحدة كل نصيبه من أبيه، ليستقلَّ عنه تماماً. وهذا حال الخاطئ الذي يعيش لنفسه، دون نظر إلى إرادة الله، ويتباهى باستقلاله عن الرب مفتخراً بما يعيبه. ولما كانت الطاعة الإجبارية لا تحلو لأبٍ محب، وافق أبوه على طلبه، وأعطاه نصيبه من الميراث، كما نرى ذلك في معاملة الله للأشرار الذين يعطيهم من عنايته الفياضة خيراتٍ أرضية جزيلة حسب ما يرغبون. ولكن هذه العطايا ليست علامة الرضى الأبوي. ومع أن هذا الجاهل انفصل قلبياً عن أبيه، فإنه لم ينصرف حالاً من بيت أبيه، بل قضى في بيت أبيه أياماً سافر بعدها. هكذا الخاطئ أيضاً لا يبدأ حالاً بالانفصال الكلي عن الله، بل يصل إلى ذلك تدريجياً.

في البلدة البعيدة التي سافر إليها هذا الشاب، أطلق العنان للأهواء الفاسدة، حيث ليس من يردعه أو يُخجِله أو يذكّره بماضيه الصالح وأصله الشريف، وفيها بذَّر ماله بإسراف، حتى افتقر تماماً. واتفق عند فراغ جيبه حدوث مجاعة هناك، مما قسَّى قلوب أصحابه عليه، وقطع عنه القوت الضروري.

نتصوَّره في غربته يراعي بعض تقاليد شعبه في الأمور الخارجية، لكن لما عضَّه الجوع، لجأ إلى الخدمة عند صاحب خنازير، أرسله ليرعى خنازيره، فضحَّى بدينه في سبيل جوعه، ورضي بالنجاسة ليشبع، ولما كان يعود بالخنازير مساءً إلى مأواها كان صاحبها يعطيها عشاءها من الخرنوب، ليسدَّ به ما نقصها في المرعى بسبب القحط. وكان هذا المسكين يشتهي من شدة جوعه أن يتساوى مع هذه الحيوانات النجسة ويملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، ولم يعطه أحد.

كثيراً ما يستخدم اللّه الشدائد ليُرجع الناس إليه، لكن كثيرين تزيدهم الشدائد بعداً عنه. فما يقصده الله بركة للخلاص يحوّلونه لعنة للهلاك، والذي تردُّه الشدائد إلى بيت أبيه يبرهن بنويَّته الحقيقية. ولقد وجد الابن الضال في وسط محنته باب الخلاص، لأن الدخول إلى الخلاص، يكون أحياناً من باب اليأس.

لا يزال الابن الضال ابناً، وأبوه لا يزال أباً. وكما أن الطاعة لم تصيِّره ابناً، هكذا عصيانه لا يقطع هذه العلاقة التي هي وضع إلهي، لا يلاشيها إلا الموت. ولا يخفى أن في صدر كل خاطئ من بني البشر ومضة من البنوَّة لله. فمهما هبط شر الناس في حمأة الإثم، ومهما علت جبال خطاياهم، فهذه الومضة المباركة لا تنطفئ ما داموا على قيد الحياة، ما لم يميتوها عمداً بتجديفهم على الروح القدس، الذي وحده يوقظها ويحييها، ليلجأ صاحبها إلى المخلص الوحيد وينال الخلاص.

رجع هذا الشاب إلى نفسه لأن الفقر الشديد أعاد إليه الرشد، فكان رجوعه إلى نفسه مقدمةً لرجوعه إلى بيت أبيه. فلما عقد النية على هذا الرجوع كان تائباً متواضعاً واثقاً من رحمة أبيه.

ظهرت توبته في الكلام الذي أعدَّه ليقوله لأبيه عند المقابلة: «يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك». شعر أن خطيته ليست ضد أبيه فقط، بل بالأكثر ضد الله. ولا يُسمَّى عملٌ ما خطيئة بالنسبة إلى حقوق الناس فقط، بل النسبة إلى حقوق الله أيضاً.

وظهر صدق تواضعه في شعوره أنه أضاع كل حقوقه الأصلية، فطلب أن يعتبره أبوه أجيراً، ويكون قبول أبيه له كأجير فضلاً من أبيه عليه.

وظهر صدق إيمانه في رأفة أبيه في أنه قام وذهب غير خائف أن يطرده أبوه، مع أنه لا يستحق إلا الطرد.. وهذا الإيمان شرط لازم للتوبة، فالتوبة دون إيمان تكون فارغة، وتبقى ندامة فقط. والندامة لا تؤدي إلى الخلاص بدون التوبة الحقيقية. فالابن لم يعزم فقط على الرجوع، بل رجع. فأي نفع في أحسن عزم إنْ لم يخرج إلى حيز الفعل؟

وفيما هو يقترب من بيت أبيه كان قلب هذا الوالد ملتهباً بالحب الشديد لهذا الشارد، وعيناه تراقبان الطريق التي ذهب فيها، متوقّعاً عودته تائباً، لأنه عانى من أجل ابنه الضال كثيراً. وكان ثمر مراقبته الدائمة أنه رأى ابنه، إذْ كان لم يزل بعيداً، فلم ينتظر وصوله، ولم يفكر في أن يذله أو يعيِّره، ولم يذكر سيئاته لأنه يعلم أن الاستعباد لإبليس هو أعظم المصائب التي تدعو للشفقة. فهل يزيد عذاب ابنه بتأنيبه على ما مضى؟ إن القصد من التأنيب هو تحريك الضال للتوبة، فمتى ظهرت التوبة لا تعود للتأنيب حاجة.

ظهر الجمال الأبوي بكل معناه في هذا الأب، في القول إنه تحنن لما رأى ابنه. وهكذا لا ينتج خلاص الخاطئ عن مجرد الإشفاق الإلهي، بل عن محبة الآب لابنه الشارد في قفر الهلاك الروحي، والمقيَّد بسلاسل عدوه إبليس. هذا الابن هو من صُلب أبيه مهما شرد وأضاع المشابهة له. وهو يحمل اسم أبيه مهما لطخ شرف هذا الاسم، وهو وارث بيت أبيه مهما بذر من إرثه في المعاصي.

يتأنى الخالق سبحانه في كل شيء إلا في ملاقاة الخاطئ التائب، فالإشارة الوحيدة في الكتاب للاستعجال الإلهي وردت في هذا المثل، لأن المسيح قال عن هذا الأب إنه «تحنن وركض» ليلاقي ابنه، وقابله مقابلة محبٍّ حنون. نسي كل تاريخه المعيب إذ وقع على عنقه وقبّله، بالرغم من حالته القذرة. وعوَّض له عن خسارته وشقائه في الماضي باهتمام يفوق اهتمامه بابنه الذي لم يضل. ولم ينتظر الأب حتى يبرهن ابنه عن صدق توبته بسلوك حسن لمدة طويلة، ولكنه صالحه فوراً، لتكون طاعته المتواصلة بعد المصالحة والمغفرة والإكرام برهاناً أفضل لصحة توبته من الطاعة التي يقدمها للحصول على الإنعامات الأبوية. كما أن المغفرة التي تُعطى للخاطئ قبل الطاعة التامة، تكون نعمة إلهية، وكرماً، أكثر من التي تُعطى جزاءً بعد الطاعة.

ما أجمل هذه المقابلة الحبية الحارة التي فاق سرور الآب الصالح فيها على سرور ابنه التائب. لقد تجدد عزم الابن على التوبة لما وجد عواطف والده القوية وغفرانه المجاني. هكذا الخاطئ التائب يتأثر من الغفران الإلهي المجاني الحالي الكامل، وتزيد توبته الصادقة وتتقوى. ومن المستحيل أن يولِّد فيه هذا الغفران طمعاً في الحِلْم الإلهي ليؤجل إصلاح سيرته ويتساهل مع ميوله الشريرة، لأن هذا الغفران يكوِّن روابط جديدة بينه وبين إلهه، تجعله يبتعد عن كل ما لا يُرضي الله.

عند هذا اللقاء بدأ الابن الضال بالقول الذي رتبه لما رجع إلى نفسه، وهو بين الخنازير. لكن الآب اكتفى بالمقدمة وقاطعه في الكلام قبل وصوله إلى الطلب أن يكون أجيراً عنده، وأسرع يأمر عبيده أن يخدموه كالابن الأصغر الأعزّ. فأُعيدت إليه حقوقه في البيت مضاعفة. فبدلاً من الخِرق القذرة الرثّة التي أتى فيها أتوه بالحُلة الأولى، وبأفخر الموجود، إشارةً إلى صفاته الجديدة. هكذا يفعل الله مع الخاطئ التائب، إذ يمنحه ثوب البر ورداء الخلاص ليستره، فيظهر أمام الله مبرَّراً مطهَّراً يمجد مخلّصه (إشعياء 61: 10). ثم أمر الآب بإعطاء ابنه الخاتم، علامة السلطان البنوي الذي يخوّله حق الختم عن أبيه في المعاملات الرسمية. وفي هذا إشارة إلى السلطان الروحي الذي يهبه الروح القدس بحلوله في التائبين. وأمر له بحذاء ليتمكن من السعي الجدي في أعمال بيت أبيه، وفي هذا إشارة إلى الوقاية الروحية التي يحصل عليها كل تائب حقيقي. ثم أكمل الآب احتفاءه بتوبة ابنه بأن جهز وليمة يأكل فيها ابنه أفخر مأكولات البيت، تعويضاً عن آلام الجوع في ما مضى.

وشرح الأب لعبيده سبب كل ذلك بقوله: «لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجد». اعتبر الآب توغُّل ابنه في الشرور موتاً أدبياً وروحياً، كما أن غيابه أشبه بالموت الجسدي. فكان رجوعه كمن يقوم من قبره. فالخطية وليس موت الجسد هي الموت الحقيقي.

الابن الأكبر

«وَكَانَ ٱبْنُهُ ٱلأَكْبَرُ فِي ٱلْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ ٱلْبَيْتِ، سَمِعَ صَوْتَ آلاتِ طَرَبٍ وَرَقْصاً، فَدَعَا وَاحِداً مِنَ ٱلْغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هٰذَا؟ فَقَالَ لَهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ، لأَنَّهُ قَبِلَهُ سَالِماً. فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ. فَقَالَ لأَبِيهِ: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هٰذَا عَدَدُهَا، وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ، وَجَدْياً لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي. وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ ٱبْنُكَ هٰذَا ٱلَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ ٱلزَّوَانِي، ذَبَحْتَ لَهُ ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ. فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ، وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ. وَلٰكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ، لأَنَّ أَخَاكَ هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاً فَوُجِدَ» (لوقا 15: 25-32).

وبينما كانت الأفراح قائمة في البيت عاد الابن الأكبر في آخر النهار من الحقل. وتعجب إذ سمع أصوات الطرب وما يتعلق بها دون داعٍ يعلمه لذلك، فظهر على حقيقته السيئة، إذ لم يدخل ببساطة قلب فرحاً لما سيجده في بيته، بل دعا أحد الخدم بسوء ظن وخبث، وسأله عن الموضوع. وعند ذلك هاج حُمقاً وحسداً ورفض أن يدخل ليشترك في سرور أبيه وأخيه.

حقاً إنه لا يوجد في هذه الدنيا أفراح إلا وترافقها أكدار، كثيراً ما يسبّبها الأقربون. صوَّر المسيح في الابن الأصغر العشارين والخطاة الذين فتح لهم الله باب التوبة للخلاص فدخلوا. وصوَّر في الابن الأكبر أصحاب التديُّن الفارغ الذين بدلاً من الفرح لاهتداء الضالين يتذمرون لأجل رجوعهم. لم يرَ الابن الأكبر في أخيه إلا العيوب، حتى أنه لم يرضَ أن يسميه أخاه، بل قال لأبيه: «ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني».

قد يكون كلامه صدقاً، لكن ليس الصدق كله، لأنه سلب أخاه فضيلة التوبة، وفي كبريائه لم يرَ في ذاته إلا الفضائل، إذ قال لأبيه: «ها أنا أخدمك سنين هذا عددها، وقط لم أتجاوز وصيتك». فلو فرضنا أنه صادق في هذا القول فإنه ليس الصدق كله، لأن أفكاره في خدمته لأبيه ظهرت في قوله: «وجَدْياً لم تعطني قط لأفرح مع أصدقائي». استاء من فرح أبيه، وسيطرت الأنانية على روحه وتصرفاته، فوضعت بينه وبين أبيه هوَّة وابتعاداً أكثر مما وضعه الابن الأصغر في ذهابه إلى كورة بعيدة وشروره هناك. لكن أباه لم يعامله حسب استحقاقه، بل خرج إليه، وتنازل بدلاً من أن يوبخه أو يتركه. حتى بعد أن أهانه بتوبيخ مرّ، وبشيء من الاحتقار، أجابه بمحبة: «يا بنيَّ أنت معي في كل حين. وكل ما لي فهو لك». فالدليل من هذا أن الله لا يمنع الحب الإلهي والرحمة حتى عن المتكبرين القساة، بل يمتّعهم بكل وسائل التوبة والإيمان كما يفعل مع الخطاة وأكثر. ما عليهم إلا أن يتوبوا ويتركوا شرورهم كما فعل العشارون والخطاة قبلهم.

وتنتهي رواية هذا المثل دون أن نجد ذكراً لتوبة الابن الأكبر. لكننا نعلم أن الذين مثَّلهم (وهم الرؤساء والفريسيون) لم يتوبوا، بل استمروا مُصرِّين على خطئهم، وعلى الحسد الذي جعلهم يسلِّمون المسيح إلى بيلاطس للصلب، وعلى البُغض الذي ظهر في محاكمته أمام رؤسائهم، ومعاملتهم القاسية له.

نتعلم من قصة الابن الأكبر أن المتكبر الذي يتكل على صلاحه ليتبرر أمام الله هو أبعد عن الله وعن السماء من الشرير الذي شرُّه ظاهر ولا يدَّعي الصلاح، لأن الأمل في إصلاح الشرير أقوى، فإن الرياء والكبرياء من أكبر الموانع في سبيل الخلاص. وبسببها امتنع الفريسيون عن الإيمان والخلاص بالمسيح. وبسببها يعثر الكثيرون الآن. وفي مَثَل الابن الضال نرى التعليم الإلهي أن الله يعتبر إصرار الضال على ضلاله خسارة عليه كما أن رجوعه عن ضلاله ربحٌ وسرور لله. فما أعجب هذا الحب والتنازل الإلهي! وما أعظم هذا الباعث للامتناع عن الخطية!

2 - المسيح يروي مثلَيْن

مثل الوكيل الظالم

«وَقَالَ أَيْضاً لِتَلامِيذِهِ: «كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَهُ وَكِيلٌ، فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ. فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا هٰذَا ٱلَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لا تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ. فَقَالَ ٱلْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي ٱلْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ. قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ، حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ ٱلْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ. فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ، وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟ فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَٱجْلِسْ عَاجِلاً وَٱكْتُبْ خَمْسِينَ. ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَٱكْتُبْ ثَمَانِينَ. فَمَدَحَ ٱلسَّيِّدُ وَكِيلَ ٱلظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ، لأَنَّ أَبْنَاءَ هٰذَا ٱلدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ ٱلنُّورِ فِي جِيلِهِمْ. وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ٱصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ ٱلظُّلْمِ، حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي ٱلْمَظَالِّ ٱلأَبَدِيَّةِ. اَلأَمِينُ فِي ٱلْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضاً فِي ٱلْكَثِيرِ، وَٱلظَّالِمُ فِي ٱلْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضاً فِي ٱلْكَثِيرِ. فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ ٱلظُّلْمِ، فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى ٱلْحَقِّ؟ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا هُوَ لِلْغَيْرِ، فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا هُوَ لَكُمْ؟ لا يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ ٱلْوَاحِدَ وَيُحِبَّ ٱلآخَرَ، أَوْ يُلازِمَ ٱلْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ ٱلآخَرَ. لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا ٱللّٰهَ وَٱلْمَالَ» (لوقا 16: 1 - 13).

روى المسيح مثلاً يصوّر غنياً دعا إليه وكيله، ومدير أملاكه، وطلب منه الحساب، وأعلن له عزْلَه بسبب شكوى أتته بأنه يبذّر أمواله. وطلب منه في المحاسبة أن يقدّم صكوكاً يوقع عليها المزارعون، ويصدّق عليها هو باعتبار أنه الوكيل، تُبيِّن ما للمالك عند كل مزارع من حاصلات أملاكه. ولكن الوكيل الخائن لم يعترف بخيانته ويستغفر ويتعهد بالإصلاح، بل أخذ يفتكر في حيلة تنفعه بعد طرده من الوكالة. فالسلطة الشيطانية التي تجعل الآثام تولّد آثاماً أخرى، جعلته يخترع خيانة جديدة أردأ من الأولى، لأنه دعا المزارعين إلى الغش معه. والذي يقود غيره إلى الخطأ تكون دينونته مضاعفة.

وأراد الوكيل الخائن أن يشتري لنفسه أصدقاء يعولونه في ضيقه بمال سيده، لقاء الأرباح التي تأتيهم بواسطته. فطلب من المزارعين أن يكتبوا صكوكاً بكميات أقل من الحق، ليصدّق عليها ويقدّمها للمالك. وقدَّم لضميره هذا العذر: «ماذا أفعل؟ لست أستطيع أن أنقب. وأستحي أن أستعطي». وكان أولى أن يقول: «لستُ أستطيع أن أختلس».

فلما اطَّلع مولاه على هذه الخيانة الجديدة دُهش لجسارته وفطنته. وحسب المثل السائر «أعط الشيطان حقه» مدحه على ما سمَّاه «حكمة» في ما فعل. لم يمدح السيد الوكيلَ على الخيانة في عمله، لأنه أطلق عليه لقب «وكيل الظلم». ولو أنه مدحه على الخيانة لأرجعه إلى وكالته.

ثم ختم المسيح هذا المثل بقوله إن أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم. وقدَّم نصيحة لسامعيه أن يستعملوا ما لديهم من مال الظلم في خدمة الآخرين، ولا سيما في خدمة مصالحهم الروحية الأبدية.

ليس في هذا المثل تقديم أعذار لمن يجمع مالاً بالظلم أو بالخداع لينفقه كله أو بعضه في سبيل الخير والإحسان - فإن أفضل بابٍ للتخلص سريعاً من مال الظلم، متى وُجد، هو بذله في سبيل الخير. ولا سيما ما يمهّد للذي يأخذه طريقه إلى السماء. لقد استخدم الوكيل في المثل مال الظلم ليربح له أصدقاء يقبلونه عندما يجيء عليه الضيق، فكم يجب أن يسعى الذي يريد أن يتخلص من مال الظلم الموجود بين يديه، ليربح بواسطته أصدقاء يستقبلونه في الديار الأبدية؟ وإن كان وكيل الظلم اجتهد بالحرام ليحقّق مستقبله الزمني، فكم يجب أن يجتهد كل حكيم ليحقق مستقبله الأبدي؟ والذي تظهر أمانته في الأمور الأرضية التي تُعَدُ زهيدة، هذا يختاره الله ليرزقه الكنوز الأثمن كثيراً - أي السماوية.

مثل الغني ولعازر

«كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ وَكَانَ يَلْبَسُ ٱلأَُرْجُوانَ وَٱلْبَزَّ وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهاً. وَكَانَ مِسْكِينٌ ٱسْمُهُ لِعَازَرُ، ٱلَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوباً بِٱلْقُرُوحِ، وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ ٱلْفُتَاتِ ٱلسَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ ٱلْغَنِيِّ، بَلْ كَانَتِ ٱلْكِلابُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ. فَمَاتَ ٱلْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ ٱلْمَلائِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ ٱلْغَنِيُّ أَيْضاً وَدُفِنَ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي ٱلْهَاوِيَةِ وَهُوَ فِي ٱلْعَذَابِ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ، فَنَادَى: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ ٱرْحَمْنِي، وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَِعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي، لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هٰذَا ٱللَّهِيبِ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ٱبْنِي ٱذْكُرْ أَنَّكَ ٱسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَذٰلِكَ لِعَازَرُ ٱلْبَلايَا. وَٱلآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ. وَفَوْقَ هٰذَا كُلِّهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ، حَتَّى إِنَّ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْعُبُورَ مِنْ هٰهُنَا إِلَيْكُمْ لا يَقْدِرُونَ، وَلا ٱلَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا. فَقَالَ: أَسْأَلُكَ إِذاً يَا أَبَتِ أَنْ تُرْسِلَهُ إِلَى بَيْتِ أَبِي، لأَنَّ لِي خَمْسَةَ إِخْوَةٍ، حَتَّى يَشْهَدَ لَهُمْ لِكَيْلا يَأْتُوا هُمْ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِ ٱلْعَذَابِ هٰذَا. قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: عِنْدَهُمْ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءُ. لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ. فَقَالَ: لا يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ. بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ. فَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانُوا لا يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ، وَلا إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ» (لوقا 16: 19-31).

ثم روى المسيح مثلاً آخر عن غنيّ يتنعَّم كل يوم مترفّهاً، وكان عند بابه رجل اسمه لعازر، مضروباً بالقروح ومطروحاً عند مدخل قصره ليلتقط طعامه من الفتات الساقط من مائدة الغني. وكان الدواء الوحيد لتنظيف قروحه هو ألسنة الكلاب عند الباب التي كانت تسابقه في التقاط الفُتات. وأخيراً مات الرجلان، وأُكرما في موتهما إكراماً متخالفاً. فالغني دُفن بمزيد الاحتفاء البشري وحُرم النصيب السماوي. أما لعازر فلم يجد من يكرمه في دفنه، لكن الملائكة التي تحلُّ حول خائفي الله حملتْهُ إلى حضن إبراهيم.

وفي الهاوية التي ذهبت روح الغني إليها، لعدم استعداده للسماء، رفع عينيه إلى النعيم ورأى سعادة لعازر هناك. فلم يجسر أن يطلب التخلُّص تماماً من عذابه في الجحيم، لكنه توهَّم أن تلطيف آلامه ممكن. وعلم أن الاسترحام من العزة الإلهية عَبَث بعد أن أهمل ربَّه كل مدة حياته، فاستنجد بإبراهيم زعيم مذهبه الأقدم، أب الأمة اليهودية وأب الآباء. كان قد تعوَّد في حياته أن يحتقر لعازر، والآن يتوهم أن يستخدمه لتخفيف عذابه، فطلب من إبراهيم: «يا أبي إبراهيم، ارحمني وأرسل لعازر ليبِلّ طرف أصبعه بماء ويبرّد لساني، لأني معذَّب في هذا اللهيب». اشتهى الغني قطرة ماء من أصبع لعازر، الذي كان يشتهي على الأرض أن يجد فُتات مائدة الغني.

فأجابه إبراهيم أن الذي يستوفي ملذاته في الحياة الدنيا، غير مبالٍ بالأبدية، لا بد أن يأتيه يومٌ يعرف مقدار خسارته الجسيمة. فالذي يتمّم شروط نيل السعادة الأبدية لا يهمُّه ما يصيبه في حياته الدنيا من الذل والعذاب لأن ساعة واحدة في حضن إبراهيم تعوّض كل ذلك، وتجعله ينساه. إن بين النعيم والجحيم هوَّة عظيمة مثبَتة يستحيل اجتيازها. فلا يمكن أن يسقط إلى الجحيم من قد نال النعيم، ولا أن يرتقي إلى النعيم من ذهب إلى الجحيم.

ولما تأكد الغني أن تلطيف عذابه مستحيل، تحوَّل فكره إلى إخوته الخمسة الذين تركهم في الدنيا، فطلب من إبراهيم أن يرسل لعازر إليهم ليخبرهم بما أصابه من العذاب، ويحذرهم من الانضمام إليه. فأجابه إبراهيم بما معناه أن حاجة إخوته العظمى ليست إلى زيادة البراهين العقلية، فإن الذين لا تكفيهم براهين الكتاب المقدس للإيمان لا يؤمنون مهما زيد لهم من البيِّنات العجيبة. عدم الإيمان عمى روحي لا تزيله البراهين الجديدة. كما أنه لا فرق عند الضرير بين درجات النور. فمهما زادت الشمس ضياء فلن يستنير بذلك.

ظن هذا الغبي أن إخوته الذين عرفوا لعازر في تعاسته على الأرض ينتبهون إذا رأوه آتياً من السماء ممجَّداً، ليبلغهم تحذير أخيهم المعذَّب، فيتوبون ويطلبون الخلاص. لكن جواب إبراهيم فنَّد زعمه هذا. نرى في هذا المثل إشارة إلى الارتباط الكلّي بين قسمي حياة الإنسان، وأن أحواله في الآخرة تتبع أحواله الروحية في الدنيا، وأن باب السماء لا يبقى مفتوحاً لغير التائبين بعد موتهم، وأن استنجاد الإنسان في حياته بالقديسين في السماء لا فائدة منه على الإطلاق.

3 - المسيح يُقيم لعازر من الموت

«وَكَانَ إِنْسَانٌ مَرِيضاً وَهُوَ لِعَازَرُ، مِنْ بَيْتِ عَنْيَا مِنْ قَرْيَةِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا أُخْتِهَا. وَكَانَتْ مَرْيَمُ، ٱلَّتِي كَانَ لِعَازَرُ أَخُوهَا مَرِيضاً، هِيَ ٱلَّتِي دَهَنَتِ ٱلرَّبَّ بِطِيبٍ، وَمَسَحَتْ رِجْلَيْهِ بِشَعْرِهَا. فَأَرْسَلَتِ ٱلأُخْتَانِ إِلَيْهِ قَائِلَتَيْنِ: «يَا سَيِّدُ، هُوَذَا ٱلَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ». فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ، قَالَ: «هٰذَا ٱلْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ، بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ ٱللّٰهِ، لِيَتَمَجَّدَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ بِهِ». وَكَانَ يَسُوعُ يُحِبُّ مَرْثَا وَأُخْتَهَا وَلِعَازَرَ. فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمَيْنِ» (يوحنا 11: 1-6).

جاء إلى المسيح رسول من بيت عنيا، من عند مرثا ومريم، ليبلغه أن لعازر أخاهم الذي يحبه مريض. لم تكن محبة أخيهما للمسيح هي الدافع على هذا الطلب، بل محبة المسيح لأخيهما، وهذه على الدوام لغة التقوى الحقيقية التي تعترف أن أساس السرور والرجاء والخلاص ليس في محبة الخاطئ للمخلِّص، بل في محبة المخلِّص للخاطئ. كانت مرثا ومريم تعلمان الخطر الذي يهدّد حياة المسيح وحياة تابعيه إن اقترب من أورشليم بعد سفره منها، فلم تدعواه ليأتي إليهما. ولربما تذكَّرا أنه كان أحياناً يشفي من بعيد، فيكفي أن يعرف خبر مرض أخيهما ليأمر من حيث هو لأخيهما بالشفاء.

كان جواب المسيح على هذه الرسالة وجيزاً، دون تقديم عذر لعدم ذهابه مع الرسول. قال: «هذا المرض ليس للموت، بل لأجل الله، ليتمجد ابن الله به».

وعاد الرسول إلى بيت عنيا ليجد أن لعازر قد مات. ماذا كانت أفكار ذلك الرسول؟ لعله قال إن المسيح كاذب لأنه قال إن هذا المرض ليس للموت؟

تُرى ماذا قالت مريم ومرثا عن تأخير المسيح عنهما؟ هل أصابهما الشك في محبته لهما؟

وفي اليوم الثالث طالب المسيح تلاميذه أن يستعدوا للذهاب إلى اليهودية، فعارضوه أولاً بقولهم: «يا معلم، الآن كان اليهود يطلبون أن يرجموك، وتذهب أيضاً إلى هناك؟». احتاروا في هذا الأمر الجديد، لأنه لو كان ذهابه ضرورياً لشفاء لعازر، فلماذا لم يذهب حالاً؟ وإن كان غير ضروري فلماذا يخاطر بنفسه وبهم؟

واستخدم المسيح اعتراض التلاميذ ليعلّمهم أن لا خوف على الذي يسير بإرشاد إلهي، لأن هذا هو النور، وعدمه الظلام. وقال لهم إنه يقصد بالذهاب إلى اليهودية أن يوقظ لعازر من النوم. ومن تسمية لعازر «حبيبنا» عرفنا لعازر شاباً ممتازاً في صفاته، يليق أن يكون صديقاً خصوصياً للمسيح وتلاميذه.

فكان جواب التلاميذ أن نوم لعازر علامة جيدة تدلّ على أنه يشرف على الشفاء. فلما رأى المسيح أنهم لم يفهموا كلامه أوضح الأمر بقوله: «لعازر مات». لقد أطلق المسيح على الموت «نوماً» لأن موت المؤمن وقتي، تعقبه يقظة القيامة والسعادة الأبدية.

أظهر المسيح لتلاميذه أن عدم وجوده في بيت عنيا ليشفي لعازر كان خيراً لهم، لأنه سيقوي إيمانهم تقوية عظيمة. لقد امتنع عن تقديم بركة الشفاء ليهب بركة أعظم جداً هي إقامة المريض بعد موته. وكثيراً ما يتعامل الله على هذا المنوال مع خائفيه. ويظهر أن التلاميذ تردَّدوا في أمر الطاعة، لكن توما تحمَّس أخيراً وقال: «لنذهب نحن أيضاً لكي نموت معه». فأظهر شدة حبه للمسيح واستعداده لأن يموت لأجله. هكذا بدأ سفر المسيح وتلاميذه إلى بيت عنيا.

«فَلَمَّا أَتَى يَسُوعُ وَجَدَ أَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ فِي ٱلْقَبْرِ. وَكَانَتْ بَيْتُ عَنْيَا قَرِيبَةً مِنْ أُورُشَلِيمَ نَحْوَ خَمْسَ عَشْرَةَ غَلْوَةً. وَكَانَ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلْيَهُودِ قَدْ جَاءُوا إِلَى مَرْثَا وَمَرْيَمَ لِيُعَزُّوهُمَا عَنْ أَخِيهِمَا. فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرْثَا أَنَّ يَسُوعَ آتٍ لاقَتْهُ، وَأَمَّا مَرْيَمُ فَٱسْتَمَرَّتْ جَالِسَةً فِي ٱلْبَيْتِ. فَقَالَتْ مَرْثَا لِيَسُوعَ: «يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ هٰهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي. لٰكِنِّي ٱلآنَ أَيْضاً أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَطْلُبُ مِنَ ٱللّٰهِ يُعْطِيكَ ٱللّٰهُ إِيَّاهُ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «سَيَقُومُ أَخُوكِ». قَالَتْ لَهُ مَرْثَا: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي ٱلْقِيَامَةِ، فِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَخِيرِ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ ٱلْقِيَامَةُ وَٱلْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى ٱلأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهٰذَا؟» قَالَتْ لَهُ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، ٱلآتِي إِلَى ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 11: 17-27).

قبل أن يصل المسيح وتلاميذه بيت عنيا سمعت مرثا بقدومهم، فأسرعت لملاقاة المسيح، تاركة أختها مريم تقوم بواجب المعزين الجالسين في البيت. ونستنتج من هذا أن بيت لعازر كان بيت غنى وسخاء.

وما أن وصلت مرثا للمسيح حتى قالت له: «يا سيد، لو كنت ههنا لم يمت أخي. لكني الآن أيضاً أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه». كان إيمانها بالمسيح قوياً، لكن غير كامل، لأنه لما قال لها: «سيقوم أخوك» لم تتوقع أنه سيُقيمه فوراً، بل أنه سيقوم مع سائر المؤمنين في اليوم الأخير. فأكرم المسيح إيمانها رغم ضعفه كما يفعل على الدوام، وذلك بإعلانٍ فائق إذ قال لها: «أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فسيحيا. وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد».

لكن من غير الله ينسب إلى نفسه صدقاً أن الموت والحياة يتوقّفان على الإيمان به، وأنه هو الحياة وهو القيامة؟ ومن يستطيع أن يصف أو يدرك مقدار التعزية التي حصلت للمؤمنين من هذا الكلام منذ قاله المسيح إلى هذا اليوم؟ وستحصل التعزية نفسها في المستقبل إلى أن يجيء بمجيئه الثاني العتيد المجيد، ويقيم بصوته جميع الذين في القبور. لما سأل مرثا: «أتؤمنين بهذا؟» أجابت: «نعم يا سيد، أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم». فكان كلامها الأول زهر الإيمان، وهذا الثاني ثمره الذي نضج سريعاً.

«وَلَمَّا قَالَتْ هٰذَا مَضَتْ وَدَعَتْ مَرْيَمَ أُخْتَهَا سِرّاً، قَائِلَةً: «ٱلْمُعَلِّمُ قَدْ حَضَرَ، وَهُوَ يَدْعُوكِ». أَمَّا تِلْكَ فَلَمَّا سَمِعَتْ قَامَتْ سَرِيعاً وَجَاءَتْ إِلَيْهِ. وَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ قَدْ جَاءَ إِلَى ٱلْقَرْيَةِ، بَلْ كَانَ فِي ٱلْمَكَانِ ٱلَّذِي لاقَتْهُ فِيهِ مَرْثَا. ثُمَّ إِنَّ ٱلْيَهُودَ ٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهَا فِي ٱلْبَيْتِ يُعَزُّونَهَا، لَمَّا رَأَوْا مَرْيَمَ قَامَتْ عَاجِلاً وَخَرَجَتْ، تَبِعُوهَا قَائِلِينَ: «إِنَّهَا تَذْهَبُ إِلَى ٱلْقَبْرِ لِتَبْكِيَ هُنَاكَ». فَمَرْيَمُ لَمَّا أَتَتْ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَسُوعُ وَرَأَتْهُ، خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً لَهُ: «يَا سَيِّدُ، لَوْ كُنْتَ هٰهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي». فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ تَبْكِي، وَٱلْيَهُودُ ٱلَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ، ٱنْزَعَجَ بِٱلرُّوحِ وَٱضْطَرَبَ، وَقَالَ: «أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟» قَالُوا لَهُ: «يَا سَيِّدُ، تَعَالَ وَٱنْظُرْ». بَكَى يَسُوعُ. فَقَالَ ٱلْيَهُودُ: «ٱنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ يُحِبُّهُ». وَقَالَ بَعْضٌ مِنْهُمْ: «أَلَمْ يَقْدِرْ هٰذَا ٱلَّذِي فَتَحَ عَيْنَيِ ٱلأَعْمَى أَنْ يَجْعَلَ هٰذَا أَيْضاً لا يَمُوتُ؟» (يوحنا 11: 28-37).

عند ذلك طلب المسيح من مرثا أن يرى أختها أيضاً. وانتظر حيث كان، بينما أسرعت مرثا إلى البيت وأخبرت مريم سراً بطلب المسيح. فلما قامت حالاً وخرجت، تبعها المعزون لأنهم ظنوا أنها تحتاج إلى من يلطِّف حزنها ويوقف بكاءها عند قبر أخيها. فكان لعملهم هذا فائدة عظمى، إذ رأى خصوم المسيح على غير قصدٍ منهم أعجب معجزاته كافة. وبعد أن رأوا إقامة لعازر من قبره يستحيل عليهم الشك أو الإنكار.

نتخيل هذا الموكب الوقور سائراً بسرعة من البيت إلى المقبرة تتقدمه الأختان الحزينتان. ثم ارتباك هؤلاء اليهود، لما فوجئوا برؤية المسيح الذي يبغضونه ويطلبون موته، ورأوا المرأة التي يتبعونها تسجد عند قدميه، وتصرخ كما صرخت أختها قبلها: «يا سيد، لو كنت ههنا لم يمت أخي». هو كلامٌ كانتا بلا شك تردّدانه كثيراً في الأربعة الأيام الأخيرة. ليس في كلامهما تلويم للمسيح على تأخيره في المجيء، لأن أخاهما مات يوم ذهاب رسولهما، فلم تقولا: «لو جئت» بل «لو كنت ههنا». تكلمت مريم ثم انفجرت ومعها الجميع بكاءً وعويلاً.

تحركت عواطف المسيح الرقيقة «وانزعج بالروح واضطرب». والمعنى الأصلي للكلمة اليونانية «انزعج» هو «اغتاظ». اغتاظ المسيح وهو يرى أمامه عدوَّه إبليس في هذه الساعة، كما كان يفعل كثيراً، لأنه يعلم أن إبليس هو السبب الأعظم للشقاء والبكاء والموت في العالم. ثم سأل عن مكان الدفن. فأجابوه: «يا سيد، تعال وانظر» فمشى معهم ودموعه تتساقط بهدوء حتى قال اليهود: «انظروا كيف كان يحبه».

ربما نتعجب كيف بكى مع أنه كان ذاهباً ليقيمه من قبره ويردَّه إلى بيته. فلماذا لم يكن مبتهجاً؟

لا يبتهج وأحباؤه مكتئبين، فهو يقدّم للعالم قدوة المواساة اللطيفة الصادقة، فبكى مع الباكين كما فرح مع الفرحين، بكى لأنه رأى في هؤلاء الباكين مثالاً لبكاء البشر جميعاً. بكى لشعوره مع البشر في مصائبهم التي لا تُحصى. فتعجب الرؤساء الحاضرون كيف لم يستعمل هذا الباكي قدرته المعهودة في شفاء شخص يحبه بهذا المقدار. وكان قد شفى أمام أعينهم من مدة قصيرة إنساناً غريباً في أورشليم ولد أعمى. فكيف لم يشْفِ حبيبه لعازر ويمنع عنه الموت؟

«فَٱنْزَعَجَ يَسُوعُ أَيْضاً فِي نَفْسِهِ وَجَاءَ إِلَى ٱلْقَبْرِ، وَكَانَ مَغَارَةً وَقَدْ وُضِعَ عَلَيْهِ حَجَرٌ. قَالَ يَسُوعُ: «ٱرْفَعُوا ٱلْحَجَرَ». قَالَتْ لَهُ مَرْثَا، أُخْتُ ٱلْمَيْتِ: «يَا سَيِّدُ، قَدْ أَنْتَنَ لأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَلَمْ أَقُلْ لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ ٱللّٰهِ؟». فَرَفَعُوا ٱلْحَجَرَ حَيْثُ كَانَ ٱلْمَيْتُ مَوْضُوعاً، وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ، وَقَالَ: «أَيُّهَا ٱلآبُ، أَشْكُرُكَ لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي. وَلٰكِنْ لأَجْلِ هٰذَا ٱلْجَمْعِ ٱلْوَاقِفِ قُلْتُ، لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي». وَلَمَّا قَالَ هٰذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجاً» فَخَرَجَ ٱلْمَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ، وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ» (يوحنا 11: 38-44).

لما أتوا إلى القبر تجدد انفعال المسيح ثانية بانزعاج الغيظ، لأنه زاد اقتراباً عند القبر من خصمه الروحي إبليس، ومن المصارعة القوية معه لخطف فريسة الموت من قبضته، لأنه يقابله الآن عند القبر الذي هو أمنع معاقله.

كان على باب المدفن حجر كبير يجب رفعه. وبما أن الواقفين يقدرون أن يرفعوه لم يرفعه المسيح بمعجزة. وفي هذا نموذج للخلاص. لا يجوز أن يتوقف الخاطئ عن العمل المطلوب منه، بحجة أنه ينتظر العمل الإلهي العجيب، بل كما يشترط المسيح لإقامة الميت أن يدحرج الناس الحجر، يشترط على الخاطئ أن يتوب ويؤمن قبل أن يخلصه من خطيته.

أما مرثا صاحبة الكلمة في أمر الفقيد، فاعترضت على رفع الحجر عن باب القبر بدافع الشك والاحترام، لأنها لم تشأ أن ترى جسد أخيها بعد أن بدأ فيه الفساد والفناء، وقالت: «يا سيد قد أنتن، لأن له أربعة ايام». فقابلها المسيح بتوبيخ لطيف في جوابه: «ألم أقُل لك إن آمنت ترين مجد الله؟».

ولما فتحوا باب القبر كان عمل المسيح الأول تحويل أفكار الحاضرين إلى أبيه الجالس على عرش الكون. الذي هو مرتبط معه ارتباطاً خوّله حقَّ القول في وقت آخر: «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يوحنا 10: 30). لقد أراد أن يعرِّف كل الحاضرين أنه لا يعمل عملاً مستقلاً عن الآب، ليُظهر اشتراك الآب معه في كل ما يعمله، فرفع عينيه إلى فوق وقال: «أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي». ثم لكي لا نتصور أنه يصلي كأحد الأنبياء الذين ينالون أحياناً ما يطلبونه، وأحياناً لا ينالونه، قال في صلاته: «أنا علمت أنك في كل حين تسمع لي». ولكي لا يظنوا أن صلاته كانت لاحتياج فيه، كأنه عاجز في ذاته، وقال: «ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت، ليؤمنوا أنك أرسلتني» والقاعدة لكل من يريد أن يخاطب موتى الذنوب والخطايا أن يخاطب الله أولاً في الصلاة لأجلهم، كما فعل المسيح في هذه الساعة.

ثم عند نهاية صلاته صرخ بصوت عظيم قائلاً: «لعازر، هلم خارجاً».

وقد أشعر الصوت العظيم الحاضرين بعظمة العمل وصعوبته، وذكّرهم أن النفس غير موجودة في هذا القبر، وأنه يناديها عن بُعد من وراء القبر. فعند هذا الصراخ السلطاني خرج الميت من قبره لابساً أكفانه التي قيَّدت حركته. فأمرهم المسيح: «حلُّوه ودعوه يذهب». فصحَّت الآن النبوَّة التي نطق بها: «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ يَسْمَعُ ٱلأَمْوَاتُ صَوْتَ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، وَٱلسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ» (يوحنا 5: 25).

«فَكَثِيرُونَ مِنَ ٱلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ جَاءُوا إِلَى مَرْيَمَ، وَنَظَرُوا مَا فَعَلَ يَسُوعُ، آمَنُوا بِهِ. وَأَمَّا قَوْمٌ مِنْهُمْ فَمَضَوْا إِلَى ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَقَالُوا لَهُمْ عَمَّا فَعَلَ يَسُوعُ. فَجَمَعَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ مَجْمَعاً وَقَالُوا: «مَاذَا نَصْنَعُ؟ فَإِنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً. إِنْ تَرَكْنَاهُ هٰكَذَا يُؤْمِنُ ٱلْجَمِيعُ بِهِ، فَيَأْتِي ٱلرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا». فَقَالَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَيَافَا، كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ ٱلسَّنَةِ: «أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئاً، وَلا تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ ٱلشَّعْبِ وَلا تَهْلِكَ ٱلأُمَّةُ كُلُّهَا». وَلَمْ يَقُلْ هٰذَا مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ إِذْ كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ ٱلسَّنَةِ، تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ ٱلأُمَّةِ، وَلَيْسَ عَنِ ٱلأُمَّةِ فَقَطْ، بَلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ ٱللّٰهِ ٱلْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ. فَمِنْ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوهُ» (يوحنا 11: 45-52).

كانت هذه المعجزة برهان صحة إرسالية المسيح السماوية وصدق تعليمه، وأقنعت كل من عنده قابلية ليقتنع بالحق. ومع ذلك لم يؤمن أغلب الموجودين بل ازدادوا قساوة وبغضاً، بتأثير رؤيتهم هذا البرهان القاطع. وقصدوا أن يكذّبوا قول المسيح إنه القيامة ومانح الحياة، بقضائهم عليه بالإعدام. فعقدوا جلسة خصوصية لمجمعهم الكبير للنظر في الظروف الجديدة التي أوجدتها إقامة لعازر من قبره، فاعترفوا أنه كان يعمل آيات كثيرة. فإن تركوه، يؤمن به الجميع بتأثير شخصه وتعليمه وآياته، فتحدث فتنة سياسية ضد الحكم الروماني، تحرِّك غضب الحكام وتجعلهم يُهلكون الأمة أو يبدّدونها بالسبي. وكانت هذه الجلسة توفيقاً عظيماً للدعوة المسيحية، لأنها أتت بشهادة جلية من خصوم المسيح.

في غضون الجلسة تكلم رئيسها قيافا (رئيس الكهنة) كلاماً نبوياً، أنطقه به الروح الإلهي على غير فهم منه. قال: «أنتم لستم تعرفون شيئاً، ولا تفكرون أنه خيرٌ لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها». قصد قيافا في كلامه نصيحة أن يقتلوا المسيح لئلا تهلك الأمة بسببه، وقصد الروح القدس الذي تكلم بواسطته أن يبيّن أن موت المسيح كان كفارة عن الأمة، وليس عن الأمة فقط بل «ليجمع أبناء الله المتفرِّقين إلى واحد».

كان قيافا، وأكثر رؤساء الكهنة، من طائفة الصدوقيين الذين ينكرون القيامة وعالم الأرواح، لذلك كانت إقامة لعازر من الموت ضربة مؤلمة عليهم، لأنها أعلنت للجميع فساد تعليمهم، الأمر الذي جعلهم يتّحدون مع خصومهم الفريسيين ليُهلكوا المسيح. ولا غرابة أن هذه القيامة مهدت الطريق كثيراً لتصديق قيامة المسيح الذي أقام لعازر، والتي حدثت بعد شهرين. ولا سيما أن المسيح لم يرقد في قبره المدة التي رقدها لعازر في قبره.

لم يصبر مجمع السنهدريم إلى جلسة أخرى، بل أصدر قراراً رسمياً بقتل المسيح، وهو أمر حاولوه مراراً من قبل لكن على غير جدوى، ولكنهم أخذوا يسعون من الآن أن ينفذوه بموجب مستند رسمي مصدَّق من مجمع السنهدريم، الذي لا يُستأنَف حكمه.

4 - لقاءات وأحاديث للمسيح

شفاء عشرة بُرص

«وَفِي ذَهَابِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ ٱجْتَازَ فِي وَسَطِ ٱلسَّامِرَةِ وَٱلْجَلِيلِ. وَفِيمَا هُوَ دَاخِلٌ إِلَى قَرْيَةٍ ٱسْتَقْبَلَهُ عَشَرَةُ رِجَالٍ بُرْصٍ، فَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ وَصَرَخُوا: «يَا يَسُوعُ يَا مُعَلِّمُ، ٱرْحَمْنَا». فَنَظَرَ وَقَالَ لَهُمُ: «ٱذْهَبُوا وَأَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ». وَفِيمَا هُمْ مُنْطَلِقُونَ طَهَرُوا. فَوَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ شُفِيَ، رَجَعَ يُمَجِّدُ ٱللّٰهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ شَاكِراً لَهُ. وَكَانَ سَامِرِيّاً. فَقَالَ يَسُوعُ: «أَلَيْسَ ٱلْعَشَرَةُ قَدْ طَهَرُوا؟ فَأَيْنَ ٱلتِّسْعَةُ؟ أَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَرْجِعُ لِيُعْطِيَ مَجْداً لِلّٰهِ غَيْرُ هٰذَا ٱلْغَرِيبِ ٱلْجِنْسِ؟» ثُمَّ قَالَ لَهُ: «قُمْ وَٱمْضِ. إِيمَانُكَ خَلَّصَكَ» (لوقا 17: 11-19).

رجع المسيح إلى أورشليم لأن عيد الفصح - ميعاد تقديمه الذبيحة الكفارية - صار قريباً، وأثناء دخوله إحدى القرى لاقاه عشرة رجال مرضى بالبرص. ولا يخفَى أن المصائب تجمع حتى الأعداء. وهكذا اجتمع أولئك المرضى معاً. ولكن مراعاةً للقانون واللياقة وقفوا بعيداً وصرخوا: «يا يسوع، يا معلم، ارحمنا».

في بداءة خدمة المسيح كان يلمس البُرص الذين طهَّرهم، لأنه بذلك أظهر حنانه وتفضيله الرحمة على الفرائض الخارجية، أما الآن وقد اشتهر بكل ذلك. فلا حاجة إلى هذا اللمس. فأمر هؤلاء العشرة أن يُرُوا نفوسهم للكهنة في أورشليم، برهاناً على أنهم طهروا، فأطاعوا حالاً قبل أن يروا من التطهير شيئاً، لذلك أكرم المسيح إيمانهم الذي أثمر طاعة. وفيما هم سائرون طهروا.

أما التسعة اليهود فلم يبالوا بالذي قدم لهم الرحمة، فتابعوا سيرهم نحو أورشليم ناسين واجب الشكر للطبيب الشافي. لكن السامري الغريب تأثر من إحسان لم يتوقعه، فرجع وهو يمجد الله بصوت عظيم ليقدم الشكر أولاً للذي أنقذه من العار والخطر وحرمان الحقوق الدينية، وجثا عند قدمي المسيح. فنال جزاءه تلك الكلمة الثمينة: «إيمانك خلَّصك». ألاَ يمثِّل هذا الحادث أكثر ما يحدث في التاريخ البشري؟ وهل يؤدي أكثر من واحد في العشرة شكراً لله على مراحمه الوافرة؟

سؤال عن الملكوت

«وَلَمَّا سَأَلَهُ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ: «مَتَى يَأْتِي مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ؟» أَجَابَهُمْ: «لا يَأْتِي مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ بِمُرَاقَبَةٍ، وَلا يَقُولُونَ: هُوَذَا هٰهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ، لأَنْ هَا مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ دَاخِلَكُمْ». وَقَالَ لِلتَّلامِيذِ: «سَتَأْتِي أَيَّامٌ فِيهَا تَشْتَهُونَ أَنْ تَرَوْا يَوْماً وَاحِداً مِنْ أَيَّامِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ وَلا تَرَوْنَ. وَيَقُولُونَ لَكُمْ: هُوَذَا هٰهُنَا أَوْ: هُوَذَا هُنَاكَ. لا تَذْهَبُوا وَلا تَتْبَعُوا، لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ ٱلْبَرْقَ ٱلَّذِي يَبْرُقُ مِنْ نَاحِيَةٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ يُضِيءُ إِلَى نَاحِيَةٍ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، كَذٰلِكَ يَكُونُ أَيْضاً ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي يَوْمِهِ. وَلٰكِنْ يَنْبَغِي أَوَّلاً أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً وَيُرْفَضَ مِنْ هٰذَا ٱلْجِيلِ. وَكَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ نُوحٍ كَذٰلِكَ يَكُونُ أَيْضاً فِي أَيَّامِ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ. كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَيُزَوِّجُونَ وَيَتَزَوَّجُونَ، إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي فِيهِ دَخَلَ نُوحٌ ٱلْفُلْكَ، وَجَاءَ ٱلطُّوفَانُ وَأَهْلَكَ ٱلْجَمِيعَ» (لوقا 17: 20-27).

بعد هذا سأل الفريسيون المسيح: «متى يأتي ملكوت الله؟» فأجابهم بحقيقة أساسية متعلِّقة بملكوته، أنه لا يُقال عنه في مكان أو زمان معيَّن، أو أن هيئة أو طائفة أو كنيسة خصوصية هي ملكوت الله، بل «ها ملكوت الله داخلكم». أي أن القلوب التي حلَّ هو فيها، ويحكم عليها، هي التي تؤلِّف ملكوته.

ثم وجَّه المسيح كلامه إلى تلاميذه الذين يحلمون بالملكوت الزمني، وأشار مرة أخرى إلى ما أمامه من الآلام الكثيرة والرَّفض. وتكلَّم عن مخاوف اليوم الذي فيه يظهر ابن الإنسان، لأن ذلك اليوم يذكِّر العالم بأهوال الطوفان العظيم، وتدمير سدوم وعمورة بالنار والكبريت، حيث تصبح الأمة اليهودية جثة بالية تنقضُّ عليها النسور الرومانية وتقتنصها.

مَثَل عن ضرورة الصلاة المتواضعة

«وَقَالَ لِقَوْمٍ وَاثِقِينَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ، وَيَحْتَقِرُونَ ٱلآخَرِينَ هٰذَا ٱلْمَثَلَ: «إِنْسَانَانِ صَعِدَا إِلَى ٱلْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا، وَاحِدٌ فَرِّيسِيٌّ وَٱلآخَرُ عَشَّارٌ. أَمَّا ٱلْفَرِّيسِيُّ فَوَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هٰكَذَا: اَللّٰهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي ٱلنَّاسِ ٱلْخَاطِفِينَ ٱلظَّالِمِينَ ٱلزُّنَاةِ، وَلا مِثْلَ هٰذَا ٱلْعَشَّارِ. أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي ٱلأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ. وَأَمَّا ٱلْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لا يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: ٱللّٰهُمَّ ٱرْحَمْنِي أَنَا ٱلْخَاطِئَ. أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هٰذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً دُونَ ذَاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ» (لوقا 18: 9-14).

جدَّد المسيح كلامه للفريسيين ليُريهم صورتهم في مَثَلٍ متعلِّق بالصلاة، فضرب مثلاً عن فريسي معتدّ بنفسه، يصلي ويشكر الله في الهيكل لامتيازه في الفضائل. وعن عشار يصلي في ذات الوقت والمكان، متواضعاً عند مدخل الهيكل، ورأسه المنحني يدلُّ على خشوعه، وقَرْعُه على صدره يبيّن حزنه على آثامه، وكلامُه يكشف عن إيمانه بقوله: «اللهم ارحمني أنا الخاطئ». ألم يقل الكتاب إن «ذبائح الله هي الروح المنكسرة. القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره» (مزمور 51: 17)؟ فنزل العشار إلى بيته مبرِّراً دون الفريسي. «لأن كل من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع».

سؤال عن الطلاق

«وَجَاءَ إِلَيْهِ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ قَائِلِينَ لَهُ: «هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ ٱمْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ؟» فَأَجَابَ: «أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَراً وَأُنْثَى؟» وَقَالَ: «مِنْ أَجْلِ هٰذَا يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِٱمْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ ٱلٱثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً. إِذاً لَيْسَا بَعْدُ ٱثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَٱلَّذِي جَمَعَهُ ٱللّٰهُ لا يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ». فَسَأَلُوهُ: «فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلاقٍ فَتُطَلَّقُ؟» قَالَ لَهُمْ: «إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلٰكِنْ مِنَ ٱلْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هٰكَذَا. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ ٱمْرَأَتَهُ إِلا بِسَبَبِ ٱلّزِنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي، وَٱلَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي». قَالَ لَهُ تَلامِيذُهُ: «إِنْ كَانَ هٰكَذَا أَمْرُ ٱلرَّجُلِ مَعَ ٱلْمَرْأَةِ فَلا يُوافِقُ أَنْ يَتَزَوَّجَ!» فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسَ ٱلْجَمِيعُ يَقْبَلُونَ هٰذَا ٱلْكَلامَ بَلِ ٱلَّذِينَ أُعْطِيَ لَهُم، لأَنَّهُ يُوجَدُ خِصْيَانٌ وُلِدُوا هٰكَذَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَاهُمُ ٱلنَّاسُ، وَيُوجَدُ خِصْيَانٌ خَصَوْا أَنْفُسَهُمْ لأَجْلِ مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ. مَنِ ٱسْتَطَاعَ أَنْ يَقْبَلَ فَلْيَقْبَلْ» (متى 19: 3-12).

وجَّه الفريسيون للمسيح سؤالاً عدائياً في أمر الطلاق. ومع أن عندهم شريعة موسى، تظاهروا أنهم يكرمون المسيح ويعطونه الحق ليثبت أو يلغي تلك الشريعة، فأعاد المسيح الحكم للشريعة. ولما قالوا له إن الشريعة تُجيز الطلاق بشرط أن يتم رسمياً ويثبت بصك قانوني، أجابهم أن هذا كان تساهلاً من موسى بسبب قساوة قلوبهم، وأن الله أعطاهم أولاً شريعةً اقتصرت على ما يحتملونه ليحررهم من فساد عادات الأمم حولهم، وليقودهم تدريجياً إلى الوضع الإلهي الأصلي الذي قضى أن تكون امرأة واحدة لرجل واحد. لكن نظام ملكوته الجديد لا يُجيز الطلاق إلا لعلة الزنا. ومتى أُجري الطلاق على القانون اليهودي لا يجوز أن يتزوج المطلَّق فيما بعد، لأن زواجه الأول قائم أمام الله، ولا يوقفه إلا الموت أو الزنى.

فلما سمع تلاميذه هذا القانون الضيق بالنسبة إلى ما تعوَّدوه قالوا: «إن كان هذا أمر الرجل مع المرأة فلا يوافق أن يتزوج». فأظهر لهم أن الامتناع الحسن عن الزواج هو الذي يكون لأجل ملكوت الله.

رأيٌ في الأطفال

«حِينَئِذٍ قُدِّمَ إِلَيْهِ أَوْلادٌ لِكَيْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ وَيُصَلِّيَ، فَٱنْتَهَرَهُمُ ٱلتَّلامِيذُ. أَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ: «دَعُوا ٱلأَوْلادَ يَأْتُونَ إِلَيَّ وَلا تَمْنَعُوهُمْ لأَنَّ لِمِثْلِ هٰؤُلاءِ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ». فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمْ. وَمَضَى مِنْ هُنَاكَ» (متى 19: 13-15).

على أثر الكلام في العلاقة العائلية، تحدث المسيح بكلام جميل يختص بالأطفال، لأن احتقار الصغار ساد كثيراً في كل بلاد العالم. ولما كان هو مخلِّص الجميع، فلا بد أن يهتم بهذا القسم العظيم من البشر. وكان تكريمه للأطفال من أهم امتيازاته.

جاءه في هذا الوقت أناسٌ يقدّمون أطفالهم ليضع عليهم يديه ويصلي، لأنهم اشتهوا لأطفالهم بركة من المسيح كليّ الطهارة والمقدرة، فأراد التلاميذ أن يبعدوا عن سيدهم هذا الإزعاج، فانتهروهم ليذهبوا عنه، وقالوا لهم إن مهمَّة المسيح أعظم من أن تسمح له بأن ينظر إلى أمر طفيف كهذا.

ولم يقبل المسيح هذه المعاملة الخشنة التي تدلُّ على الفرق العظيم بين تفكيره هو وتفكير تلاميذه ومعاصريهم، وخطَّأهم في ذلك. وفي غيظه كما في رضاه تبرق جواهر الحكمة الإلهية، لأنه بكَّت تلاميذه بكلمات مؤثرة يتعلَّمها كل ولد مسيحي، وكم كان تأثيرها مباركاً في العالم منذ ذلك الوقت، وهي: «دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات». وصرح بأنه لا يدخل أحدٌ ملكوت السماوات إن لم يرجع ويصير مثل ولد.

إننا نوقن بأن فداء المسيح يعمُّ جميع الأطفال الذين يموتون في الطفولية في كل الأجيال، على اختلاف أحوال أهلهم الدينية والمدنية. وبناءً على هذا، ما أكثر الجمهور البشري الذي ينضمُّ إلى الجيش السماوي، مقابل العدد الغفير من البالغين الذين يموتون في خطاياهم.

حديث مع شاب غني

«وَإِذَا وَاحِدٌ تَقَدَّمَ وَقَالَ لَهُ: «أَيُّهَا ٱلْمُعَلِّمُ ٱلصَّالِحُ، أَيَّ صَلاحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ؟» فَقَالَ لَهُ: «لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحاً؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلا وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللّٰهُ. وَلٰكِنْ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ ٱلْحَيَاةَ فَٱحْفَظِ ٱلْوَصَايَا». قَالَ لَهُ: «أَيَّةَ ٱلْوَصَايَا؟» فَقَالَ يَسُوعُ: «لا تَقْتُلْ. لا تَزْنِ. لا تَسْرِقْ. لا تَشْهَدْ بِٱلزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَأَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». قَالَ لَهُ ٱلشَّابُّ: «هٰذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. فَمَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلاً فَٱذْهَبْ وَبِعْ أَمْلاكَكَ وَأَعْطِ ٱلْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي ٱلسَّمَاءِ وَتَعَالَ ٱتْبَعْنِي». فَلَمَّا سَمِعَ ٱلشَّابُّ ٱلْكَلِمَةَ مَضَى حَزِيناً، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ. فَقَالَ يَسُوعُ لِتَلامِيذِهِ: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 19: 16-23).

فيما المسيح خارج إلى الطريق، جاء رئيس يهودي غني جداً. وجثا له دلالة على أنه أتى بإخلاص ليستفهم منه عن طريق الخلاص، وأكرمه بقوله: «أيها المعلم الصالح، أيَّ صلاحٍ أعمل لأرث الحياة الأبدية؟» فأجابه المسيح بأن كل الناس حتى أصلحهم خالون من الصلاح الكامل، وأنه لا يجوز أن ننسب الصلاح إلا للّه وحده. إمَّا أن يكون المسيح صالحاً فعلاً، فيكون هو الله الذي ظهر في الجسد، أو يكون الشاب الغني مخطئاً.

لم يكن المسيح يقبل تحيةً في غير مكانها، وكان دوماً يريد أن يوضّح أن كماله وصلاحه ناتجان عن كونه «الله الذي ظهر في الجسد» - فليس بين البشر إنسان كامل الصلاح.

سأل الشاب الغني عن أي إصلاح يعمله ليرث الحياة الأبدية، فأفاده المسيح أن الصلاح الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية هو الصلاح الكامل فقط. وهذا معقول، لأن شهادة النجاح التي بها رسوب درس واحد تعني الرسوب كله، كما قال الرسول يعقوب: «مَنْ حَفِظَ كُلَّ ٱلنَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي ٱلْكُلِّ» (يعقوب 2: 10) ولما ادَّعى الرئيس أنه حفظ الناموس كله منذ حداثته، نظر إليه المسيح وأحبه لإخلاصه واجتهاده، وأراد أن يكشف له أن حفظ الناموس المقبول عند الله هو الحفظ الروحي لا الحرفي، فقال له: «يعوزك أيضاً شيء واحد. إن أردت أن تكون كاملاً، فاذهب وبعْ كل أملاكك وأعط الفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني حاملاً الصليب».

يلخّص المسيح الوصايا بمحبة الله فوق كل شيء، ومحبة القريب كالنفس. فإن كان هذا الشاب قد حفظ الوصايا كلها، فلا يصعب عليه أن يطيع ما أمره المسيح به. لكنه أثبت على نفسه بطلان ادّعائه، لأنه اغتمَّ من هذا القول ومضى حزيناً لأنه كان ذا أموالٍ كثيرة. وبهذا أثبت أنه يحب ماله أكثر من الله، وأن المال هو ربُه الحقيقي. أحب المسيح هذا الشاب وأسف جداً عليه لأنه فضَّل المال على ملكوت السماوات.

الدخول إلى ملكوت الله يبدأ هنا في هذه الحياة. والذين يدخلونه يدركون أن كل مقتنياتهم مكرَّسة للملك، فمتى طلب منها يقدِّمونه برغبة وسرور، فيزول بذلك كل تذمُّر يسبِّبه عن الفقر أو الخسارة المادية. والذي يتعلق قلبه بأمور الدنيا لا يجد في السماء ما يلذُّ له، وليس له كنز هناك، فذهابه إلى السماء يكون عبثاً، فضلاً عن كونه مستحيلاً.

«فَقَالَ يَسُوعُ لِتَلامِيذِهِ: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ. وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً: إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ». فَلَمَّا سَمِعَ تَلامِيذُهُ بُهِتُوا جِدّاً قَائِلِينَ: «إِذاً مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟» فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «هٰذَا عِنْدَ ٱلنَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلٰكِنْ عِنْدَ ٱللّٰهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ» (متى 19: 23-26).

بمناسبة هذا قال المسيح لتلاميذه: «ما أعسر دخول المتكلين على الأموال إلى ملكوت الله». ليبيّن أنه ليس فقط عسراً، قال إن دخول جمل من ثقب الإبرة أيسر من ذلك. ولما اعترض التلاميذ بقولهم: «إذاً من يستطيع أن يخلُص؟» أفهمهم أن ترْكَ الدنيا مستحيل على الطمع البشري، إنما كل شيء مستطاع عند الله. فمتى غيَّر الروح الإلهي قلب محبي المال، يستطيعون أن يدخلوا الملكوت الروحي، لأن قلبهم الجديد سيحبُّ الله أكثر من حبهم للمال.

«فَأَجَابَ بُطْرُسُ حِينَئِذٍ: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي فِي ٱلتَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً عَلَى ٱثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيّاً تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ. وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتاً أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً أَوِ ٱمْرَأَةً أَوْ أَوْلاداً أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ. وَلٰكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ» (متى 19: 27-30).

حرَّك ذِكْرُ المال بطرس ليسأل: «ها قد تركنا كل شيء وتبعناك. فماذا لنا؟» فأجابه المسيح بما يفيد أنهم ينالون التفاتاً خاصاً من العناية الإلهية في هذه الدنيا، مع اضطهادات لامتحان إيمانهم وزيادة ثوابهم. ثم في الدهر الآتي يرثون الحياة الأبدية. وفي هذه القرينة أعاد ما قاله سابقاً وسيقوله ثالثة بعد حين: «كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَٱلآخِرُونَ أَوَّلِينَ» (مرقس 10: 31).

مَثَل فعلة الكرم

«فَإِنَّ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلاً رَبَّ بَيْتٍ خَرَجَ مَعَ ٱلصُّبْحِ لِيَسْتَأْجِرَ فَعَلَةً لِكَرْمِهِ، فَٱتَّفَقَ مَعَ ٱلْفَعَلَةِ عَلَى دِينَارٍ فِي ٱلْيَوْمِ، وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى كَرْمِهِ. ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلثَّالِثَةِ وَرَأَى آخَرِينَ قِيَاماً فِي ٱلسُّوقِ بَطَّالِينَ، فَقَالَ لَهُمُ: ٱذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً إِلَى ٱلْكَرْمِ فَأُعْطِيَكُمْ مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَمَضَوْا. وَخَرَجَ أَيْضاً نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ وَٱلتَّاسِعَةِ وَفَعَلَ كَذٰلِكَ. ثُمَّ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلْحَادِيَةَ عَشْرَةَ خَرَجَ وَوَجَدَ آخَرِينَ قِيَاماً بَطَّالِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا وَقَفْتُمْ هٰهُنَا كُلَّ ٱلنَّهَارِ بَطَّالِينَ؟ قَالُوا لَهُ: لأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْنَا أَحَدٌ. قَالَ لَهُمُ: ٱذْهَبُوا أَنْتُمْ أَيْضاً إِلَى ٱلْكَرْمِ فَتَأْخُذُوا مَا يَحِقُّ لَكُمْ. فَلَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ قَالَ صَاحِبُ ٱلْكَرْمِ لِوَكِيلِهِ: ٱدْعُ ٱلْفَعَلَةَ وَأَعْطِهِمُ ٱلأُجْرَةَ مُبْتَدِئاً مِنَ ٱلآخِرِينَ إِلَى ٱلأَوَّلِينَ. فَجَاءَ أَصْحَابُ ٱلسَّاعَةِ ٱلْحَادِيَةَ عَشْرَةَ وَأَخَذُوا دِينَاراً دِينَاراً. فَلَمَّا جَاءَ ٱلأَوَّلُونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَكْثَرَ. فَأَخَذُوا هُمْ أَيْضاً دِينَاراً دِينَاراً. وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَ تَذَمَّرُوا عَلَى رَبِّ ٱلْبَيْتِ قَائِلِينَ: هٰؤُلاءِ ٱلآخِرُونَ عَمِلُوا سَاعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ سَاوَيْتَهُمْ بِنَا نَحْنُ ٱلَّذِينَ ٱحْتَمَلْنَا ثِقَلَ ٱلنَّهَارِ وَٱلْحَرَّ! فَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: يَا صَاحِبُ، مَا ظَلَمْتُكَ! أَمَا اتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ؟ فَخُذِ ٱلَّذِي لَكَ وَٱذْهَبْ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَ هٰذَا ٱلأَخِيرَ مِثْلَكَ. أَوَ مَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَفْعَلَ مَا أُرِيدُ بِمَالِي؟ أَمْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةٌ لأَنِّي أَنَا صَالِحٌ؟ هٰكَذَا يَكُونُ ٱلآخِرُونَ أَوَّلِينَ وَٱلأَوَّلُونَ آخِرِينَ، لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ» (متى 20: 1-16).

وجواباً على سؤال بطرس: «ماذا يكون لنا؟» روى المسيح مَثَل فعلة الكرم، فقال إن صاحب كرم استأجر فعلة ليعملوا في كرمه في ساعات مختلفة من النهار، بحيث ذهب الأخيرون قبل نهاية النهار بساعة واحدة. واتفق مع الذين ابتدأوا في أول النهار على أجرة دينار واحد. أما للأخيرين فقال: «أعطيكم ما يحقُّ لكم». وعند المحاسبة في آخر النهار ساوى بين الفعلة في الأجر، وأمر وكيله أن يحاسب الآخِرين أولاً ويعطيهم أجرة نهار كامل. فولَّد هذا الكرم آمالاً فارغة في الأوَّلين الذين ظنّوا أنهم يأخذون أجرة أكثر، لأنهم اشتغلوا ساعات أكثر. فلما أعطى كلاً منهم ديناراً واحداً حسب الشرط، تذمروا. فوبخهم صاحبُ الكرم، وذكّرهم أنه لا يحقُّ لهم أن يحكموا عليه كيف يتصرف بماله، كما أنه لا حقّ للذي يأخذ كامل حقوقه أن يحسد من يأخذ أكثر من حقوقه.

في هذا المَثَل درس دائم على خطأ الذين يتذمّرون بسبب نجاح الآخرين أكثر منهم، وخطأ الذين يحتجُّون على عدم المساواة في المعاملة الإلهية. وكل عاقل يعلم أن أتعس الناس في العالم، عنده من الخيرات الزمنية والرحمة الإلهية فوق ما يستحق، وأنه بالنظر إلى المعاملة الإلهية لا يوجد في كل المسكونة مظلوم واحد.

إعلان جديد عن الصليب

«وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيمَ أَخَذَ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ تِلْمِيذاً عَلَى ٱنْفِرَادٍ فِي ٱلطَّرِيقِ وَقَالَ لَهُمْ: «هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِٱلْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى ٱلأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ». حِينَئِذٍ تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ أُمُّ ٱبْنَيْ زَبْدِي مَعَ ٱبْنَيْهَا، وَسَجَدَتْ وَطَلَبَتْ مِنْهُ شَيْئاً. فَقَالَ لَهَا: «مَاذَا تُرِيدِينَ؟» قَالَتْ لَهُ: «قُلْ أَنْ يَجْلِسَ ٱبْنَايَ هٰذَانِ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَٱلآخَرُ عَنِ ٱلْيَسَارِ فِي مَلَكُوتِكَ». فَأَجَابَ يَسُوعُ: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا ٱلْكَأْسَ ٱلَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِٱلصِّبْغَةِ ٱلَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا؟» قَالا لَهُ: «نَسْتَطِيعُ» فَقَالَ لَهُمَا: «أَمَّا كَأْسِي فَتَشْرَبَانِهَا، وَبِالصِّبْغَةِ ٱلَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا تَصْطَبِغَانِ. وَأَمَّا ٱلْجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ إِلا لِلَّذِينَ أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ أَبِي». فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْعَشَرَةُ ٱغْتَاظُوا مِنْ أَجْلِ ٱلأَخَوَيْنِ. فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤَسَاءَ ٱلأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَٱلْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. فَلا يَكُونُ هٰكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيماً فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِماً، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلاً فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْداً، كَمَا أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (متى 20: 17-28).

وفي سير المسيح نحو أورشليم في مقدمة تلاميذه، زاد شبح الصليب وضوحاً أمامه، وزاد شعوره بثقل خطايا العالم التي أتى ليكفِّر عنها، فانفرد بتلاميذه وأنبأهم ثالثة بآلامه وموته بأكثر تفصيل من قبل. وبما أنهم سيكونون معه متى داهمته تلك الحوادث المخيفة، فهو لا يريد أن يرافقوه إلا باختيارهم، مع علمهم بما سيكون. فأوضح لهم أنه يُسلَّم أولاً لرؤساء الكهنة وللكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ثم يسلِّمونه للأمم خلافاً لنظامهم الملي. ويكون نصيبه الاستهزاء والجلد والشتيمة والبصق عليه. وفي النهاية يموت صلباً، ثم يقوم في اليوم الثالث.

ومع كل هذا الإيضاح ظهر أن التلاميذ لم يفهموا كلامه، إذ تقدم إليه التلميذان الممتازان، يعقوب ويوحنا مع والدتهما التي سجدت له احتراماً، كأنها تريد أن تطلب شيئاً. ولما سألها ماذا تريد، طلبت أن يكون لابنَيْها المقام الأول عندما يجلس المسيح على عرشه في ملكوته، فيجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره. وكانت سالومة واثقة بأنها ستنال طلبها من ابن أختها، سيَّما وأنها تركت بيتها وتبعته مع تلاميذه في أسفارهم، وخدمتهم من مالها، ولأنها لاحظت امتياز ابنيها في بيت يايرس وعلى جبل التجلي.

لم تعلم سالومة، ولا علم يعقوب ويوحنا أن الإنسان لا ينال الإكرام بمجرد الطلب، بل بالأهلية له، فالتضحية وإنكار الذات هما باب الإكرام الإلهي، لا الطمع ولا الطموح، لذلك قال المسيح لتلميذيه: «لستما تعلمان ما تطلبان. فهل أنتما مستعدان أن تشربا مثلي كأس الآلام، والاصطباغ بالموت المهين؟» فلما أجابا دون تروٍّ: «نستطيع» أكد لهما أنهما يقدران على ذلك، أما الامتياز في ملكوته فمحفوظٌ فقط للذين أعدَّه الآب لهم، وليس له كابن الإنسان أن يهبه.

وتضايق باقي التلاميذ من كلام يعقوب ويوحنا، فوبّخهم المسيح على الغيظ الذي تحرك في قلوبهم، وقال لهم: «من أراد أن يصير فيكم أولاً فليكن للجميع عبداً». وعندما يتّخذ كل رئيس صفة الخادم وعمله، طاعةً للسيد المسيح، نرى سريعاً انتشار الخير الروحي والصلاح في العالم.

المسيح يخلص زكا

«ثُمَّ دَخَلَ وَٱجْتَازَ فِي أَرِيحَا. وَإِذَا رَجُلٌ ٱسْمُهُ زَكَّا، وَهُوَ رَئِيسٌ لِلْعَشَّارِينَ وَكَانَ غَنِيّاً، وَطَلَبَ أَنْ يَرَى يَسُوعَ مَنْ هُوَ، وَلَمْ يَقْدِرْ مِنَ ٱلْجَمْعِ، لأَنَّهُ كَانَ قَصِيرَ ٱلْقَامَةِ. فَرَكَضَ مُتَقَدِّماً وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ لِكَيْ يَرَاهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُرَّ مِنْ هُنَاكَ. فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَهُ: «يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَٱنْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ ٱلْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ». فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَهُ فَرِحاً. فَلَمَّا رَأَى ٱلْجَمِيعُ ذٰلِكَ تَذَمَّرُوا قَائِلِينَ: «إِنَّهُ دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئٍ». فَوَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: «هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ٱلْيَوْمَ حَصَلَ خَلاصٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضاً ٱبْنُ إِبْرَاهِيمَ، لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لوقا 19: 1-10).

وفي يوم آخر دخل المسيح أريحا ليعطي الخلاص لبيت عشار خاطئ ويقدم التوبة والإيمان، وهو زكا الغني ورئيس العشارين، الذي لا بد أن يكون قد علم بما اشتهر به المسيح من فَتْح باب التوبة والخلاص للعشارين، فطلب أن يرى من هو المسيح، فلما تعذّر عليه التفرُّج على المسيح بسبب قِصر قامته والعدد الغفير المحيط بالمسيح، انتبه لجميزة تمتدُّ أغصانها فوق الطريق، فركض وصعد أغصان الجميزة فوق الطريق العام، دون أن يُعير التفاتاً لمن يستهزئ به، فكافأه المسيح عندما وصل إلى تحت الجميزة، إذ أوقف الجمهور وناداه باسمه، وأمره أن ينزل بسرعة ويستقبله في بيته. قصد المسيح بذلك أن يفعل فعلاً روحياً مهمّاً في هذا الشخص، لأن مهنته ورياسته وغناه وصفاته وتصرفاته الماضية تجعله من أبعد الناس عن ملكوت الله، فاختار هذا العشار ليخلِّصه، دون اكتراث لتذمُّر الجمهور معه بسبب ما فعل.

فاض كأس سرور المسيح لما وقف زكا أمامه وأمام الحاضرين في بيته، وأعلن توبته وثمرها وهو يقول: «ها أنا يا رب أعطي نصف أموالي للمساكين، وإن كنت قد اغتصبتُ شيئاً من أحد أردُّ أربعة أضعاف». فالذي رفض أن يفعله الرئيس الغني الفريسي الذي ادَّعى أنه حفظ الوصايا كلها، فعله الآن زكا الرئيس الغني العشار المرفوض عند ذلك الفريسي، لأن الله غيّر قلبه فاستطاع المستحيل، وأمات حب المال في قلبه، فمرَّ الجمل في ثقب الإبرة إلى ملكوت السماوات.

وهنا أعلن المسيح أن هذا الرجل صار من أهل الخلاص. وكرر بأن ابن الإنسان قد جاء لكي يخلص ما قد هلك.

زكا هذا، مثال للذين لا يسمحون لمانعٍ أن يمنعهم عن المجيء إلى المخلص، والذين يتجددون فجأة ويقدّمون فور تجديدهم برهاناً قاطعاً بصحة تجديدهم، لأن إيمانهم مثمر في أعمالهم. فكان بارتيماوس الأعمى وزكا العشار باكورة الكنيسة في أريحا. ويُرجَّح أنهما انضمَّا إلى الموكب الذي ترك أريحا صاعداً مع المسيح إلى أورشليم لحضور احتفالات العيد.

المسيح يزور بيت لعازر

«ثُمَّ قَبْلَ ٱلْفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، حَيْثُ كَانَ لِعَازَرُ ٱلْمَيْتُ ٱلَّذِي أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ. فَصَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً. وَكَانَتْ مَرْثَا تَخْدِمُ وَأَمَّا لِعَازَرُ فَكَانَ أَحَدَ ٱلْمُتَّكِئِينَ مَعَهُ. فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ مَناً مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ ٱلثَّمَنِ، وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ، وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا، فَٱمْتَلأَ ٱلْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ ٱلطِّيبِ. فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلامِيذِهِ، وَهُوَ يَهُوذَا سِمْعَانُ ٱلإِسْخَرْيُوطِيُّ، ٱلْمُزْمِعُ أَنْ يُسَلِّمَهُ: «لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هٰذَا ٱلطِّيبُ بِثَلاثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ؟» قَالَ هٰذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِٱلْفُقَرَاءِ، بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقاً، وَكَانَ ٱلصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ. فَقَالَ يَسُوعُ: «ٱتْرُكُوهَا. إِنَّهَا لِيَوْمِ تَكْفِينِي قَدْ حَفِظَتْهُ، لأَنَّ ٱلْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ» (يوحنا 12: 1-8).

وصل المسيح وتلاميذه قرية بيت عنيا حيث نزل ضيفاً على بيت حبيبه لعازر الذي أقامه من الأموات من عهد قريب. ودُعي إلى وليمة صنعوها له في بيت سمعان الأبرص الذي يقول التقليد إنه كان زوج مرثا قبل ترمُّلها. يذكر الإنجيل لعازر بين «المتكئين» معه في الوليمة، كما يذكر أخته مرثا بين المشتغلين بتدبيرها. وذكر مريم أيضاً لأنها أتت بقارورة طيب ناردين كثير الثمن، وكسرتها لتسكب الطيب على رأس المسيح ثم على قدميه. وبعد أن دهنتهما، مسحتهما بشعر رأسها علامة على شكرها وإكرامها لمخلِّصها. فامتلأ البيت من رائحة الطيب، كما تفوح في كل مكان الرائحة الذكية حتى لأصغر الأعمال التي يصنعها الإنسان حباً بالمخلص، ولو كان كأس ماء بارد يقدمه لأحقر تلاميذه.

لكن فاعل الخير لا ينتظر أن يَسْلَم من الانتقاد. فانسكب في هذا الوقت على رأس المسيح مع الطيب العطر انتقادٌ مر، بحجَّة ضرورة مساعدة الفقراء. والأرجح أن الإسخريوطي بدأ هذا الانتقاد، وأثار الآخرين لأنه «أمين الصندوق». وكان يوزِّع منه إحساناً على الفقراء، كما كان يسرق منه، فيكون دفاعه عن الفقراء نفاقاً. واشترك بعض التلاميذ في هذا الهجوم عن بساطة، منحازين إلى انتقاد الإسخريوطي أن عمل مريم كان إسرافاً في غير محله، وأن توزيع ثمن الطيب على الفقراء كان أفضل.

لم يترك المسيح مريم التائبة تحت نيران الانتقاد، بل وبَّخ المنتقدين وحكم بُحسن عملها. فكأنها بروح النبوة دهنت جسده بالطيب، استعداداً لتكفينه بعد أيام قليلة. وفنَّد حجة المنتقدين بقوله إنه يذهب عنهم قريباً، فيستحيل عليهم إكرام جسده بعد ذلك، أما الفقراء فلا ينقطعون عنهم أبداً، فيستطيعون إلى آخر الزمان أن يحسنوا إليهم. وعوَّض على مريم بقوله: «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: حَيْثُمَا يُكْرَزْ بِهٰذَا ٱلإِنْجِيلِ فِي كُلِّ ٱلْعَالَمِ، يُخْبَرْ أَيْضاً بِمَا فَعَلَتْهُ هٰذِهِ، تَذْكَاراً لَهَا» (مرقس 14: 9).

5 - المسيح الملك يدخل أورشليم

«وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ فَاجِي عِنْدَ جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ، حِينَئِذٍ أَرْسَلَ يَسُوعُ تِلْمِيذَيْنِ قَائِلاً لَهُمَا: «اِذْهَبَا إِلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي أَمَامَكُمَا، فَلِلْوَقْتِ تَجِدَانِ أَتَاناً مَرْبُوطَةً وَجَحْشاً مَعَهَا، فَحُلاهُمَا وَأْتِيَانِي بِهِمَا. وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ شَيْئاً فَقُولا: ٱلرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمَا. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُمَا». فَكَانَ هٰذَا كُلُّهُ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِٱلنَّبِيِّ: «قُولُوا لٱبْنَةِ صِهْيَوْنَ: هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِيكِ وَدِيعاً، رَاكِباً عَلَى أَتَانٍ وَجَحْشٍ ٱبْنِ أَتَانٍ». فَذَهَبَ ٱلتِّلْمِيذَانِ وَفَعَلا كَمَا أَمَرَهُمَا يَسُوعُ، وَأَتَيَا بِٱلأَتَانِ وَٱلْجَحْشِ، وَوَضَعَا عَلَيْهِمَا ثِيَابَهُمَا فَجَلَسَ عَلَيْهِمَا. وَٱلْجَمْعُ ٱلأَكْثَرُ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي ٱلطَّرِيقِ. وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَاناً مِنَ ٱلشَّجَرِ وَفَرَشُوهَا فِي ٱلطَّرِيقِ. وَٱلْجُمُوعُ ٱلَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَٱلَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرَخُونَ: «أُوصَنَّا لٱبْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي ٱلأَعَالِي!». وَلَمَّا دَخَلَ أُورُشَلِيمَ ٱرْتَجَّتِ ٱلْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً: «مَنْ هٰذَا؟» فَقَالَتِ ٱلْجُمُوعُ: «هٰذَا يَسُوعُ ٱلنَّبِيُّ ٱلَّذِي مِنْ نَاصِرَةِ ٱلْجَلِيلِ» (متى 21: 1-11).

خرج المسيح صباح يوم الأحد مع تلاميذه والجمهور التابع له من بيت عنيا قاصداً الهيكل، وسار جمهور المستقبلين من المدينة ليلاقوه، ثم أرسل أمامه تلميذين إلى قرية قريبة، حيث يجدان فيها جحشاً لم يُروَّض بعد، مربوطاً بجانب أمه، أمام أحد البيوت. فعليهما أن يحلاهما ويأتيا بهما إليه. فإذا اعترض صاحبهما على هذا العمل من شخصين غريبين، يجيبانه: «الرب محتاج إليهما». فحالاً يسمح بهما. فتمَّت نبوة المسيح لهما حرفياً. في هذا الحادث تثبيتٌ لعظمة المسيح بعلمه الغيب والمستقبل. فإذا عرفنا أن صاحب البهيمتين ليس من تلاميذه ولا محبيه تزيد عظمته، لسلطانه على أفكار هذا الرجل وإرادته.

وهنا نتساءل: ترى لماذا اختار المسيح هذا الموعد بالذات ليدخل أورشليم هذا الدخول الانتصاري؟

الإجابة: إن اليهود كانوا يفرزون خروف الفصح - الذي يرمز للمسيح - في اليوم العاشر من شهر نيسان القمري، ويعِدُّونه للذبْح ليأكلوه بعد خمسة أيام، فليس عبثاً أن نرى المسيح (حمل اللّه الذي يرفع خطية العالم) ُيفرَزُ علانية في اليوم ذاته، مع الأغنام الكثيرة التي كانت ترمز إليه، ثم يُذبح على الصليب وقت ذبحها في الهيكل بعد خمسة أيام.

وتثبيتاً لأهمية موته وما يتعلق به، نرى أن البشائر الأربع تخصص سدس أخبار 12400 يوماً، التي روت لنا أخبارها من حياة المسيح، ليوم واحد منها هو يوم موته وأخبار هذا اليوم، والسبعة الأيام التي قبله وبعده (التي نسميها أسبوع الآلام) تشغل أكثر من رُبع أخبار السنين الأربع والثلاثين التي تتضمنها سيرة المسيح المقدسة.

ركب المسيح الجحش بعد أن وضع بعضُ تابعيه ثيابهم عليه. ولما التقى جمهور الخارجين من المدينة بجمهور الداخلين إليها اشتدت الحماسة وتسابقوا في إكرام المسيح وهم ينشدون بمعجزته لما أقام لعازر من الموت في بيت عنيا. وفعلوا ما يفعلونه عادة في أيام عيد المظال عندما يطوفون حول المذبح حاملين سعف النخل، شارات النصر، صارخين «أوصنا» (ومعناها: خلِّصنا). وقطعوا أغصاناً من الشجر فرشوها في الطريق، كما فرشوا فيه ثيابهم.

أضفى الشعب على هذا الاحتفاء صبغة دينية، فصاروا يفرحون ويسبحون الله لأجل جميع المعجزات التي أجراها المسيح. وفي ابتهاجهم كانوا يصرخون: «أوصنا لابن داود. مبارك الآتي باسم الرب. مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب. سلام في السماء، ومجد في الأعالي. أوصنا في الأعالي». وهذه الهتافات مقتبسة من المزمور المئة والثامن عشر، لأن الشعب كان يعتقد أن يسوع هذا هو المخلِّص المنتظر، وابن داود الآتي ليعيد أمجاد مملكة داود السياسية، دون أن يفهموا معنى خلاصه الروحي من عبودية الخطية. ولذلك فإن هذا الذي يهتف له شعبه الآن كملك، سيرى عكس هذا الاحتفاء. سيتوّجونه في هذا الأسبوع (الذي نسمّيه أسبوع الآلام) لكن بإكليل من شوك استهزاءً، ويُلبسونه حلَّةً ملوكية، لكن سخرية، ثم ينزعونها عنه، ويضعون قصبةً كصولجان في يمينه، ثم يخطفونها من يده ويضربونه بها. سيسجدون أمامه ويحيُّونه كملك، لكن مكراً ووقاحة وإهانة. سيُجلسونه مرفوعاً على عرش، لكنه الصليب. سيقتله الذين اختلسوا مُلكه ويبدلون الصراخ: «أوصنا لابن داود ملك إسرائيل» بالصراخ: «اصلبه. اصلبه. ليس لنا ملك إلا قيصر».

ولم يكن ممكناً أن يتغاضى الفريسيون عن تجمهر كهذا، فانضمُّوا إلى الجمهور ليروا ماذا يحدث، وقالوا بعضهم لبعض: «انظروا. إنكم لا تنفعون شيئاً. هوذا العالم قد ذهب وراءه». لقد ضايقهم غاية الضيق عدم تنفيذ أوامرهم المشددة، وقراراتهم الرسمية. لقد ضاعت سطوتهم النافذة على الشعب فاجتمع فيهم الحسد الجديد مع البغض القديم، وخافوا لئلا يظن الوالي الروماني أن هذه المناداة بملكٍ جديد لإسرائيل هي باتفاق الشعب ورؤسائه، فيحسبها مكيدة سياسية، ويعاقب لأجلها الرؤساء أولاً. وكان الوالي قد حضر من عاصمته قيصرية ليراقب ما قد يحدث أثناء العيد ضد حكومته من الفِتن السياسية ليخمدها ويعاقب المسؤولين. لذلك تقدم بعض الفريسيين إلى المسيح وقالوا له: «يا معلم، انتهر تلاميذك».

لكن المقاصد الإلهية التي لا يعملها إلا هو تقضي بهذا الاحتفاء في هذا الوقت، حتى أنه لو تأخر البشر عن إتمامها لاضطرت الحجارة الصماء أن تقوم بها. ولذلك رفض المسيح طلب رؤساء اليهود، ومضى في موكبه وسط هتافات الجمهور له.

وكان لا بد أن يدخل المسيح أورشليم هذا الدخول الانتصاري، سبق النبي زكريا أن قال في التوراة: «اِبْتَهِجِي جِدّاً يَا ٱبْنَةَ صِهْيَوْنَ، ٱهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ٱبْنِ أَتَانٍ» (زكريا 9: 9).

وزكريا نبيٌّ من جملة الذين قادهم روح المسيح في النبوة. فأعلن المسيح سلطته العجيبة لما جعل الجمهور يشترك معه في إتمام هذه النبوة حرفياً، برغم مكائد الرؤساء. ففي بدء الاستعداد لهذا العيد العظيم دخل أورشليم بموكب عظيم، راكباً على جحش، بعد أن كان في كل سفراته يمشي على الأقدام.

المسيح يبكي على أورشليم

«وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا قَائِلاً: «إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضاً حَتَّى فِي يَوْمِكِ هٰذَا مَا هُوَ لِسَلامِكِ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ. فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ، وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ، وَلا يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ، لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ ٱفْتِقَادِكِ» (لوقا 19: 41-44).

ولما وصل هذا الموكب إلى أول مكان يرون منه المدينة المقدسة، وقع نظر المسيح عليها، أبرقت في بصيرته النبوية صورتها الساحرة للأبصار. صورة سوف يراها بعض هؤلاء المحتفلين به، فطار عنه كل ما ولَّده هذا الاحتفال الحبي البهيج من الفرح، ورفع صوته بالرثاء والبكاء المسموع. بكى على قبر لعازر بهدوء. أما الآن فيبكي بشدة على أورشليم التي ستُخرب، وهذا يعلّمنا أن نحب الوطن، وأن نحب الخطاة، ونبكي على مصيرهم الأليم.

وما كان أشد دهشة هذا الجمهور عندما سمعوا بكاءه دون أن يروا سبباً لذلك. إن كل آلامه الفائقة الوصف، حتى تعليقه على الصليب، لم تُنزل له دمعة ولا أَسمعَتْ له أَنَّة لكن حبه لهذه المدينة وشعبها العاصي أبكاه. أذابت خطاياهم والويلات التي تترصَّدهم قلبه الحنون، فبكى عليهم. لقد رأى بعلمه الفائق أورشليم بعد أربعين سنة وقد حاصرها الجيش الروماني والعذابات الهائلة التي ستحلّ بها، ثم الخراب التام للمدينة ولهيكل الله العظيم. رأى أسوارها تُهدم وتُطرح إلى الحضيض وتُحرق بالنار. رأى لوعة المجاعة التي جعلت الأمهات يبعن أولادهن للذبح، ويأكل بعضهن أولادهن في جنون الجوع. رأى الأمة تتشتَّت تشتُّتاً دائماً وتزول فرائضها المقدسة. وسيكون عذابهم وهلاك مدينتهم على يد القيصر الذي فضَّلوه عليه، وتباهوا بأنه ليس ملك إلا هو. رأى المسيح الرومان بعد أربعين سنة ينصبون متاريسهم في ذات المكان الذي يبكي فيه الآن، وهم يقذفون منه على أسوار المدينة آلاتهم المدمرة. وهناك يحفرون خنادق الحصار، فيتمّ بذلك القول النبوي القديم: «إِنَّ صِهْيَوْنَ تُفْلَحُ كَحَقْلٍ وَتَصِيرُ أُورُشَلِيمُ خِرَباً وَجَبَلُ ٱلْبَيْتِ شَوَامِخَ وَعْرٍ» (إرميا 26: 18). وقد حدث ما رآه المسيح فعلاً. وفي هذا الحصار ذاق اليهود تلك الأهوال التي جعلت المؤرخين يقولون إنها أشد من كل ما ورد في تاريخ العالم، حتى قيل إن القائد الروماني تيطس ذاته لما دخل المدينة، ورأى الجثث مكدسة في الأزقة، رفع يديه نحو السماء، واستشهد آلهته أنه ليس هو المسؤول عن هذا الخراب، ولكن الذين اضطروه إليه هم المسؤولون عنه.

كانت هذه الحوادث المؤلمة كلها مكشوفة لبصيرة المسيح. في هذه الساعة تحركت في صدره الرحب الصفوح عواطف حب الوطن والإنسانية، وشعور الإشفاق والغفران على الذين أرادوا أن يقتلوه، فتحوَّل فكره من احتفاء القوم به وسرور تلاميذه، إلى ذَرْف الدموع السخينة، ورثاء هذه المدينة، وبكائه عليها، وعلى شعبها المحبوب المتمرد، فقال مخاطباً أورشليم: «لو علمتِ أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك. لكن الآن قد أُخفي عن عينيك. فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة، ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيك، ولا يتركون فيك حجراً على حجر، لأنك لم تعرفي زمان افتقادك».

دخل هذا الموكب أورشليم من الباب الشرقي العظيم، بجانب الهيكل، فعرفت المدينة كلها من الهتاف المتواصل ورَفْعِ سعف النخل أن حادثاً خطيراً وقع في وسطهم. فتساءل المارَّة وسكان البيوت والتجار في حوانيتهم: «من هذا؟» وكان الجواب: «هذا يسوع النبي، الذي من ناصرة الجليل».

عندما وصل هذا الجمع إلى الهيكل كان النهار قد مال، فاكتفى المسيح بأن نظر حوله إلى ما يجري في الهيكل، ورأى أنه يستدعي عملاً هاماً وخطيراً يُطلب منه. وهذا لا يفعله إلا في اليوم التالي، لأن أبواب الهيكل تُغلق في المساء قبل أن يمكنه إتمامه. وهو لا يريد أن يبيت في المدينة لئلا يعرِّض نفسه لمكائد الرؤساء فيقضون عليه قبل أن تأتي ساعته. لذلك عاد مع تلاميذه إلى بيت عنيا.

6 - المسيح يطهر الهيكل

المسيح يلعن التينة غير المثمرة

«وَفِي ٱلْغَدِ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ بَيْتِ عَنْيَا جَاعَ، فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ مِنْ بَعِيدٍ عَلَيْهَا وَرَقٌ، وَجَاءَ لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهَا شَيْئاً. فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهَا لَمْ يَجِدْ شَيْئاً إِلا وَرَقاً، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ ٱلتِّينِ. فَقَالَ يَسُوعُ لَهَا: «لا يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْكِ ثَمَراً بَعْدُ إِلَى ٱلأَبَدِ». وَكَانَ تَلامِيذُهُ يَسْمَعُونَ.

وَفِي ٱلصَّبَاحِ إِذْ كَانُوا مُجْتَازِينَ رَأَوُا ٱلتِّينَةَ قَدْ يَبِسَتْ مِنَ ٱلأُصُولِ، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «يَا سَيِّدِي ٱنْظُرْ، اَلتِّينَةُ ٱلَّتِي لَعَنْتَهَا قَدْ يَبِسَتْ!» فَأَجَابَ يَسُوعُ: «لِيَكُنْ لَكُمْ إِيمَانٌ بِٱللّٰهِ. لأَنِّي ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ قَالَ لِهٰذَا ٱلْجَبَلِ، ٱنْتَقِلْ وَٱنْطَرِحْ فِي ٱلْبَحْرِ، وَلا يَشُكُّ فِي قَلْبِهِ، بَلْ يُؤْمِنُ أَنَّ مَا يَقُولُهُ يَكُونُ، فَمَهْمَا قَالَ يَكُونُ لَهُ. لِذٰلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ حِينَمَا تُصَلُّونَ، فَآمِنُوا أَنْ تَنَالُوهُ، فَيَكُونَ لَكُمْ. وَمَتَى وَقَفْتُمْ تُصَلُّونَ فَٱغْفِرُوا إِنْ كَانَ لَكُمْ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ، لِكَيْ يَغْفِرَ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ زَلاتِكُمْ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا أَنْتُمْ لا يَغْفِرْ أَبُوكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَيْضاً زَلاتِكُمْ» (مرقس 11: 12-14، 20-26).

دخل المسيح إلى أورشليم، وكان ذلك اليوم يوم الأحد. وفي صباح الإثنين ترك بيت عنيا وعاد إلى أورشليم. ويظهر أنه لم يتناول طعاماً فجاع. وكان جوعه مهماً لأنه من البراهين القاطعة على ناسوته، وأدى إلى تعليم رمزي مهم جداً، ضد النفاق، رسخ في أذهان تلاميذه وذاكرتهم بشهادة العين، والأذن أيضاً. لم يعاقب أحداً من البشر المرائين الذين وبَّخهم لأنه «لم يأتِ ليدين العالم، بل ليخلُص به العالم». لكنه فعل بالشجرة معجزة من باب الغضب - هي الوحيدة في بابها. إنها ليست بشراً، بل فقط شجرة تمثّل المرائين المتظاهرين بصلاح ليس في قلوبهم، فهي خضراء مورقة، لكنها لا تحمل ثمراً. وقد أيَّدت هذه المعجزة قول المعمدان في زمانه إن «قَدْ وُضِعَتِ ٱلْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ ٱلشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لا تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّارِ» (متى 3: 10).

رأى المسيح من بعيد شجرة تينٍ عليها علامات الإِثمار (وإنْ لم يكن وقت التين). لذلك استلفتت نظره، فقصدها لعله يجد فيها ثمراً. كانت بعض أشجار التين تحمل باكورة الثمر، وهي ثمار صغيرة الحجم، لكنها كثيرة الحلاوة. ولما كانت هذه الشجرة مورقة، فقد توقع المسيح منها باكورة التين، فلم يجد سوى الورق. فصارت تلك الشجرة مثال الخطية الإيجابية التي ارتكبوها وهي الرياء، والخطية السلبية وهي إهمال الصلاح، أي عدم الإِثمار، فلعنها بقوله: «لا يأكل أحد منك ثمراً بعد إلى الأبد». قال ذلك بغاية سامية ليعلّم تلاميذه وليعلمنا ضرورة الإتيان بالثمر. ولم يلعن التينة عن حمقٍ أو طيش، لأن ذلك لا ينطبق على صفاته وتاريخه.

المسيح يطهر هيكله

«وَجَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ ٱلْهَيْكَلَ ٱبْتَدَأَ يُخْرِجُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي ٱلْهَيْكَلِ، وَقَلَّبَ مَوَائِدَ ٱلصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ ٱلْحَمَامِ. وَلَمْ يَدَعْ أَحَداً يَجْتَازُ ٱلْهَيْكَلَ بِمَتَاعٍ. وَكَانَ يُعَلِّمُ قَائِلاً لَهُمْ: «أَلَيْسَ مَكْتُوباً: بَيْتِي بَيْتَ صَلاةٍ يُدْعَى لِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ؟ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ». وَسَمِعَ ٱلْكَتَبَةُ وَرُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ فَطَلَبُوا كَيْفَ يُهْلِكُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوهُ، إِذْ بُهِتَ ٱلْجَمْعُ كُلُّهُ مِنْ تَعْلِيمِهِ. وَلَمَّا صَارَ ٱلْمَسَاءُ خَرَجَ إِلَى خَارِجِ ٱلْمَدِينَةِ» (مرقس 11: 15-19).

في صباح يوم الإثنين عاد المسيح وتلاميذه إلى الهيكل، ليباشر العمل الإصلاحي الذي رأى الحاجة ماسةً إليه، لأن تأثير تطهيره الهيكل منذ ثلاث سنين كان قد اضمحل، وعادت العادات الذميمة إلى مجراها القديم، واستخدم اليهود دار الأمم للمرور العادي في الأشغال من جهة إلى جهة بين شوارع المدينة، ونصبوا فيها حوانيت التجارة.

كان هذا الهيكل يرمز إلى المسيح كوسيطٍ بين اللّه والناس، لأن به يتقدم الجميع إلى اللّه. وقد قال المسيح: «أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلا بِي» (يوحنا 14: 6) فكان يجب أن يطهر الهيكل مرة أخرى. ولما كان سيسلِّم ذاته بإرادته في هذا الأسبوع لسلطان أعدائه، فقد جدد برهان سلطانه الذي سيتنازل عنه لإتمام عمل الفداء - برهنه من جديد عندما طرد الباعة من الهيكل وأوقف التجارة فيه.

وفي التطهير الثاني للهيكل لم يدَع المسيحُ أحداً يجتاز فيه بمتاع. واستعمل كلاماً أقوى مما قاله في التطهير الأول للهيكل. في التطهير الأول قال: «لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة». أما في هذه المرة فقال: «بيتي بيت صلاة يُدعى. وأنتم جعلتموه مغارة لصوص». لأنه رأى نفاق التجار في فسحاته. ورأى معظم الأمة، بما فيها الرؤساء، يسلبون حقوق اللّه.

وصفت النبوة المسيح بأنه عادل ومنصور (زكريا 9: 9) ففي طرده الباعة أظهر عدله، وفي عجز الرؤساء عن منعه ظهر منصوراً. بعد تطهيره الأول للهيكل طلب منه اليهود آية، أما في التطهير الثاني فسألوه: «بأي سلطانٍ تفعل هذا؟» وطلبوا أن يهلكوه. لكنه بقي في المدينة وجوارها ثلاثة أيام.

طهَّر الهيكل وهو ربه ليستعمل بيته في خدمته المزدوجة. ابتدأ حسب عادته بآيات الشفاء وأردفها بآيات التعليم. فعلَّم العالم أن أعمال الرحمة تُعدُّ من خدمة الله وتليق ببيته كما بيومه أيضاً. فبانتصاره على الرؤساء، ثم على الأمراض، ثم على الجهل، زاد تعلُّق الشعب به، وعدد المؤمنين أيضاً. فقيل إن «الشعب كله كان متعلقاً به يسمع منه».

ولما صار المساء خرج المسيح إلى خارج المدينة كعادته، ثم عاد صباح الثلاثاء ليودع الهيكل الذي قد تحوَّل من بيت الله إلى مغارة لصوص، لأن تطهيره الثاني للهيكل لم يكن إلا مؤقتاً كالأول. وهو لا يرجع إليه بعد هذا اليوم. فلما وصلوا في طريقهم إلى حيث كانت التينة التي لعنها بالأمس، نبَّه بطرس سيده أنها يبست من الأصول. فرأى المسيح احتياجهم إلى درس جديد في الإيمان، وفي النتائج العظيمة العجيبة التي تتبع كل صلاة تُقدَّم بإيمان تام، فأعاد لهم الشرط الأساسي لاستجابة كل صلاة، وهو أن يغفر المصلي من كل قلبه لمن أساء إليه.

سؤال عن سلطان المسيح

«وَجَاءُوا أَيْضاً إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي فِي ٱلْهَيْكَلِ أَقْبَلَ إِلَيْهِ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ وَٱلشُّيُوخُ، وَقَالُوا لَهُ: «بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هٰذَا، وَمَنْ أَعْطَاكَ هٰذَا ٱلسُّلْطَانَ حَتَّى تَفْعَلَ هٰذَا؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ: «وَأَنَا أَيْضاً أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً. أَجِيبُونِي، فَأَقُولَ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هٰذَا: مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا: مِنَ ٱلسَّمَاءِ كَانَتْ أَمْ مِنَ ٱلنَّاسِ؟ أَجِيبُونِي». فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ: «إِنْ قُلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاءِ، يَقُولُ: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَإِنْ قُلْنَا مِنَ ٱلنَّاسِ». فَخَافُوا ٱلشَّعْبَ. لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ عِنْدَ ٱلْجَمِيعِ أَنَّهُ بِٱلْحَقِيقَةِ نَبِيٌّ. فَأَجَابُوا: «لا نَعْلَمُ». فَقَالَ يَسُوعُ: «وَلا أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هٰذَا» (مرقس 11: 27-33).

بعد أن طهر المسيح الهيكل، اجتمع رؤساء اليهود ليقرروا الخطة التي يتخذونها لتنفيذ غايتهم في صلب المسيح. ولم يروا وسيلة لإسقاطه إلا فصل قلوب الشعب عنه أولاً بواسطة أسئلة يجعلونها أشراكاً يصيدونه بها. وهم يرجون أن يجيب عنها بما يجعل الشعب ينفر منه، حتى إذا حاولوا أن يقبضوا عليه لا يعارضهم الشعب.

فبينما كان المسيح يتمشَّى في الهيكل، سألوه عن مصدر سلطانه الذي استعمله في تطهير الهيكل، لأنهم هم وكلاؤه ورؤساؤه، وقد تسلموا سلطانهم على الهيكل قانونياً من أسلافهم بالمَسْح والرسامة مع تصديق الحكومة. أما هو فمِن أين سلطانه؟ قد نسوا السلطة النبوية في تاريخهم. لأنه منذ مئات السنين لم يظهر نبي إلا المعمدان، الذي لم يؤمن به الرؤساء - والسلطة النبوية في كل الأزمان، تأتي رأساً من الله الذي يُقيم الأنبياء دون استشارة أو استئذان، ودون تقيُّد بالتسلسل.

ذكَّر المسيح الذين سألوه بسلطان المعمدان، آخر الأنبياء وأعظمهم، وبشهادة المعمدان له أنه ابن الله، وطلب منهم أن يقرروا أولاً مصدر سلطان المعمدان. فإن اعترفوا أنه أخذه من مصدر سماوي يدينون نفوسهم لأنهم لم يقبلوا رسالة المعمدان. وإن أنكروا يخشون أن يرجمهم الشعب الذي كان يعتبر المعمدان نبياً حقيقياً، فلجأوا في حيرتهم إلى الكذب وقالوا: «لا نعلم» فأنزل جوابهم الكاذب على رؤوسهم احتقار الشعب لهم. ورفض المسيح أن يقول لهم بأي سلطان يتصرف، لأنه عرف خفايا قلوبهم الرافضة.

مثل الابنين

«مَاذَا تَظُنُّونَ؟ كَانَ لِإِنْسَانٍ ٱبْنَانِ، فَجَاءَ إِلَى ٱلأَوَّلِ وَقَالَ: يَا ٱبْنِي، ٱذْهَبِ ٱلْيَوْمَ ٱعْمَلْ فِي كَرْمِي. فَأَجَابَ: مَا أُرِيدُ. وَلٰكِنَّهُ نَدِمَ أَخِيراً وَمَضَى. وَجَاءَ إِلَى ٱلثَّانِي وَقَالَ كَذٰلِكَ. فَأَجَابَ: هَا أَنَا يَا سَيِّدُ. وَلَمْ يَمْضِ. فَأَيُّ ٱلٱثْنَيْنِ عَمِلَ إِرَادَةَ ٱلأَبِ؟» قَالُوا لَهُ: «ٱلأَوَّلُ». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ ٱلْعَشَّارِينَ وَٱلّزَوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، لأَنَّ يُوحَنَّا جَاءَكُمْ فِي طَرِيقِ ٱلْحَقِّ فَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ، وَأَمَّا ٱلْعَشَّارُونَ وَٱلزَّوَانِي فَآمَنُوا بِهِ. وَأَنْتُمْ إِذْ رَأَيْتُمْ لَمْ تَنْدَمُوا أَخِيراً لِتُؤْمِنُوا بِهِ» (متى 21: 28-32).

سكت رؤساء اليهود، لكن المسيح لم يسكت، بل ضرب لهم مثلاً بابنين أمرهما أبوهما ليعملا في كرمه، فرفض الابن الأول أمر أبيه، ثم ندم وأطاع. أما الابن الثاني فوعد بالقيام بالعمل لكنه لم ينفِّذ. أخطأ الابن الأول في قوله وأصاب في فعله. أما الابن الثاني فخطيته كانت التقصير بالفعل، الذي هو أعظم كثيراً من التقصير بالقول. وقصد المسيح بذلك أن الرؤساء المعترضين عليه يعلّمون الشريعة، فأقوالهم حسنة. لكنهم يخالفونها فلا يعملون مشيئة الله. بينما غيرهم لا يتظاهرون بالتديُّن كثيراً، لكنهم يحفظون الشريعة الإلهية أكثر من الرؤساء. ثم لما سألهم: «أي الابنين عمل إرادة أبيه؟» أجابوه: الأول. فأوضح لهم أن قصة المعمدان قد برهنت أن العشارين والزواني يشبهون الابن الأول، لأنهم تابوا عن شرورهم لما سمعوا وعظ المعمدان واعتمدوا منه. بينما الفريسيون يشبهون الابن الثاني المذموم، لأنهم يدَّعون التقوى بأقوالهم ويخالفونها بأفعالهم، فجوابهم يثبت أفضلية العشارين والزواني عليهم.

مَثَل الكرامين الأردياء

«اِسْمَعُوا مَثَلاً آخَرَ: كَانَ إِنْسَانٌ رَبُّ بَيْتٍ غَرَسَ كَرْماً، وَأَحَاطَهُ بِسِيَاجٍ، وَحَفَرَ فِيهِ مَعْصَرَةً، وَبَنَى بُرْجاً، وَسَلَّمَهُ إِلَى كَرَّامِينَ وَسَافَرَ. وَلَمَّا قَرُبَ وَقْتُ ٱلأَثْمَارِ أَرْسَلَ عَبِيدَهُ إِلَى ٱلْكَرَّامِينَ لِيَأْخُذَ أَثْمَارَهُ. فَأَخَذَ ٱلْكَرَّامُونَ عَبِيدَهُ وَجَلَدُوا بَعْضاً وَقَتَلُوا بَعْضاً وَرَجَمُوا بَعْضاً. ثُمَّ أَرْسَلَ أَيْضاً عَبِيداً آخَرِينَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلأَوَّلِينَ، فَفَعَلُوا بِهِمْ كَذٰلِكَ. فَأَخِيراً أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ٱبْنَهُ قَائِلاً: يَهَابُونَ ٱبْنِي! وَأَمَّا ٱلْكَرَّامُونَ فَلَمَّا رَأَوْا ٱلٱبْنَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هٰذَا هُوَ ٱلْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ! فَأَخَذُوهُ وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ ٱلْكَرْمِ وَقَتَلُوهُ. فَمَتَى جَاءَ صَاحِبُ ٱلْكَرْمِ، مَاذَا يَفْعَلُ بِأُولَئِكَ ٱلْكَرَّامِينَ؟» قَالُوا لَهُ: «أُولٰئِكَ ٱلأَرْدِيَاءُ يُهْلِكُهُمْ هَلاكاً رَدِيّاً، وَيُسَلِّمُ ٱلْكَرْمَ إِلَى كَرَّامِينَ آخَرِينَ يُعْطُونَهُ ٱلأَثْمَارَ فِي أَوْقَاتِهَا». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ فِي ٱلْكُتُبِ: ٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ. مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ كَانَ هٰذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا؟ لِذٰلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ. وَمَنْ سَقَطَ عَلَى هٰذَا ٱلْحَجَرِ يَتَرَضَّضُ، وَمَنْ سَقَطَ هُوَ عَلَيْهِ يَسْحَقُهُ». وَلَمَّا سَمِعَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ أَمْثَالَهُ عَرَفُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَإِذْ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يُمْسِكُوهُ خَافُوا مِنَ ٱلْجُمُوعِ، لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِثْلَ نَبِيٍّ» (متى 21: 33-46).

ثم قدم المسيح مثلاً يسمَّى «الكرامين الأردياء» كشف فيه عن خطية رؤساء الشعب في ما ينوونه عليه وما سيتمّمونه في هذا الأسبوع. هؤلاء الكرامون بعدما أهانوا وقتلوا الرسل الذين أرسلهم المالك ليأخذوا حقَّه من الأثمار، قتلوا أخيراً ابنه الوحيد ليثبتوا استبدادهم في الكرم. ولما سألهم المسيح: «ماذا يفعل صاحب الكرم بهؤلاء الأشرار؟» أجابه البسطاء منهم: «أولئك الأردياء يهلكهم هلاكاً ردياً، ويسلّم الكرم إلى كرامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها». أما الذين أدركوا حقيقة المثل فأجابوا: «حاشا». فصدَّق المسيح على جوابهم بقوله: «إن ملكوت الله يُنزع منكم، ويُعطى لأمةٍ تعمل أثماره». وذكرهم بقول نبيهم داود أن «ٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ» (مزمور 118: 22). فالذين يقاومونه يترضضون، أما الذين يقاومهم هو فيُسحَقون. فحفظ الرسول بطرس هذا القول وأعاده لما اضطهده هؤلاء الرؤساء بعد صعود المسيح، وسجله بعد ذلك في رسالته الأولى (أعمال 4: 11 ، 1 بطرس 2: 7).

مَثَل عرس ابن الملك

«يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً صَنَعَ عُرْساً لٱبْنِهِ، وَأَرْسَلَ عَبِيدَهُ لِيَدْعُوا ٱلْمَدْعُوِّينَ إِلَى ٱلْعُرْسِ، فَلَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَأْتُوا. فَأَرْسَلَ أَيْضاً عَبِيداً آخَرِينَ قَائِلاً: قُولُوا لِلْمَدْعُوِّينَ: هُوَذَا غَدَائِي أَعْدَدْتُهُ. ثِيرَانِي وَمُسَمَّنَاتِي قَدْ ذُبِحَتْ، وَكُلُّ شَيْءٍ مُعَدٌّ. تَعَالَوْا إِلَى ٱلْعُرْسِ! وَلٰكِنَّهُمْ تَهَاوَنُوا وَمَضَوْا، وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ، وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ، وَٱلْبَاقُونَ أَمْسَكُوا عَبِيدَهُ وَشَتَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْمَلِكُ غَضِبَ، وَأَرْسَلَ جُنُودَهُ وَأَهْلَكَ أُولٰئِكَ ٱلْقَاتِلِينَ وَأَحْرَقَ مَدِينَتَهُمْ. ثُمَّ قَالَ لِعَبِيدِهِ: أَمَّا ٱلْعُرْسُ فَمُسْتَعَدٌّ، وَأَمَّا ٱلْمَدْعُوُّونَ فَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ. فَٱذْهَبُوا إِلَى مَفَارِقِ ٱلطُّرُقِ، وَكُلُّ مَنْ وَجَدْتُمُوهُ فَٱدْعُوهُ إِلَى ٱلْعُرْسِ. فَخَرَجَ أُولٰئِكَ ٱلْعَبِيدُ إِلَى ٱلطُّرُقِ، وَجَمَعُوا كُلَّ ٱلَّذِينَ وَجَدُوهُمْ أَشْرَاراً وَصَالِحِينَ. فَٱمْتَلأَ ٱلْعُرْسُ مِنَ ٱلْمُتَّكِئِينَ. فَلَمَّا دَخَلَ ٱلْمَلِكُ لِيَنْظُرَ ٱلْمُتَّكِئِينَ، رَأَى هُنَاكَ إِنْسَاناً لَمْ يَكُنْ لابِساً لِبَاسَ ٱلْعُرْسِ. فَقَالَ لَهُ: يَا صَاحِبُ، كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ ٱلْعُرْسِ؟ فَسَكَتَ. حِينَئِذٍ قَالَ ٱلْمَلِكُ لِلْخُدَّامِ: ٱرْبُطُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَخُذُوهُ وَٱطْرَحُوهُ فِي ٱلظُّلْمَةِ ٱلْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ. لأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ» (متى 22: 2-14).

أغاظ مثل الكرامين الأردياء الرؤساء، لأن المسيح قاله لدينونتهم، فجددوا السعي لإلقاء القبض عليه. ولكن خوفهم من الشعب قيَّد أيديهم، فتركوه ومضوا. لكن المسيح لم يمض، لأنه لم يكن قد أكمل بعد تعليمه الوداعي في الهيكل، فزاد مثلاً ثالثاً يسمَّى مثل عرس ابن الملك. قال إن الملك صنع عرساً لابنه، وأعطى كل واحد من المدعوين حُلة ملكية. ولما دخل الملك ليرحب بالمتّكئين الذين امتلأ العرس منهم، رأى إنساناً لم يكن لابساً لباس العرس، بل اكتفى بثوبه الذي أتى به، لأنه كان يعجبه أكثر من الثوب الذي أهداه الملك لجميع المدعوين. كان يفتخر بثوبه هو. ورفض أن يماثل الآخرين. كما لم يرد أن يكون تحت فضل الملك في أمر كسوته. ولما سأله الملك عن سبب مخالفته نظام العرس، سكت. وكان سكوته برهاناً كافياً لذنبه، فنال جزاءه. لأن نظام الملوك إعدام كل من يخالف أوامرهم. فقال الملك لرجاله: «اربطوا رجليه ويديه وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان». ولم يكن طرده من حضرة الملك لشرٍّ فعله، بل لخير أهمله. فمهما كان الإنسان صالحاً في عيني نفسه وأعين الآخرين، فإن الله يعاقبه على اكتفائه ببره، وإهماله ارتداء ثوب البر الذي يقدّمه له الله.

في هذه الأمثال الثلاثة المتوالية: «مثل الابنين، ومَثَل الكرّامين الأردياء، ومثل عرس ابن الملك» صرَّح المسيح بأن رفض الرؤساء له يقابله قبول العشارين له. وأن رفض الأمة له يقابله قبول الأمم الأخرى له في ما بعد. أما قول المسيح في آخر المثل إن «كثيرين يُدعون وقليلين يُنتخَبون» فلا نرى أنه يشمل الأزمنة كافة، بل أنه يشير خصوصاً إلى زمانه، ولا سيما إلى الأمة اليهودية.

7 - المسيح يجاوب على أسئلة شيوخ اليهود ثم يسألهم

كما يطلب المحارب المغلوب حلفاء جدداً لعله ينتصر أخيراً، تحالف رؤساء اليهود مع خصومهم من الهيرودسيين أنصار الملك هيرودس. وبعد أن تشاوروا اتفقت القوة السياسية مع الدينية على هجوم جديد.

ما لقيصر لقيصر

«ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْماً مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ وَٱلْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلا تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لا تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ ٱلنَّاسِ، بَلْ بِٱلْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ ٱللّٰهِ. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لا؟ نُعْطِي أَمْ لا نُعْطِي؟» فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ اِيتُونِي بِدِينَارٍ لأَنْظُرَهُ». فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَنْ هٰذِهِ ٱلصُّورَةُ وَٱلْكِتَابَةُ؟» فَقَالُوا لَهُ: «لِقَيْصَرَ». فَأَجَابَ يَسُوعُ: «أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّٰهِ لِلّٰهِ». فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ» (مرقس 12: 13-17).

كانت الحيلة أن الهيرودسيين يتظاهرون بالتديُّن لكي يصطادوا المسيح ويمسكوه بكلمة، فيسلِّموه إلى حكم الوالي وسلطانه. فتقدموا إليه وتملَّقوه واستشاروه إن كانوا يدفعون الجزية للحكومة الرومانية أو لا يدفعونها، أملاً أن يمسكوه في شبكتهم مهما كانت إجابته، فإن قال بدفع الجزية ينفر الشعب منه، لأنهم ضجروا من هذه الضريبة التي هي علامة استعبادهم للرومان، ولأنهم ينتظرون مجيء المسيح ليحررهم منها. وكانوا يسألون: «كيف يمكن أن يكون المسيح ملك إسرائيل - كما هتف له الشعب بالأمس في الهيكل، ويحكم أن ندفع الجزية لقيصر؟». وإن أجاب بعدم دفعها كما يرغب الهيرودسيون (وهو ما كانوا يرجّحونه) يحصلون على حجة كافية ليسلموه للحكومة، كمثير للفتنة ضد القيصر الذي وضع هذه الضريبة.

علم المسيح رياءهم وخبثهم، وأن الجواب الذي يروق للفريسيين لا يروق للهيرودسيين - ومع ذلك اتفق الفريقان على امتحانه، فأجاب: «لماذا تجربونني يا مراؤون؟ أروني معاملة الجزية». ولما أتوا بدينار. كانت صورة الإمبراطور مرسومة عليه. ومعنى هذا أنهم يعترفون بسلطان قيصر عليهم. فقال: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله». أي أعطوا كل ذي حق حقه. بهذا الجواب حطم الشَّرَك المنصوب له، ونطق بهذا القول المأثور قاعدة للواجبات في الدين والدولة. فلم يقدروا أن يمسكوه بكلمة قدام الشعب وتعجبوا من جوابه وسكتوا، وتركوه ومضوا.

من تعليم المسيح هذا نرى أن الواجبات للدولة مقدسة وضمن الواجب الديني... ليس السؤال: هل نخضع لقيصر أم لله، لأن الخضوع للاثنين واجب، والخضوع لقيصر في ما لا يخالف الخضوع لله هو من أصل الخضوع لله، لأن الله هو الذي سمح لقيصر أن يتسلَّط عليهم. فعليهم أن يخضعوا لهذا التأديب. وكما تذكِّرهم صورة القيصر على الدينار، بما عليهم له، يجب أن تذكّرهم صورة الله التي خُلق فيها الإنسان، بما عليهم لله.

إله أحياء، لا إله أموات

«وَجَاءَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ ٱلصَّدُّوقِيِّينَ، ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَيْسَ قِيَامَةٌ، وَسَأَلُوهُ: «يَا مُعَلِّمُ، كَتَبَ لَنَا مُوسَى: إِنْ مَاتَ لأَحَدٍ أَخٌ، وَتَرَكَ ٱمْرَأَةً وَلَمْ يُخَلِّفْ أَوْلاداً، أَنْ يَأْخُذَ أَخُوهُ ٱمْرَأَتَهُ، وَيُقِيمَ نَسْلاً لأَخِيهِ. فَكَانَ سَبْعَةُ إِخْوَةٍ. أَخَذَ ٱلأَوَّلُ ٱمْرَأَةً وَمَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ نَسْلاً. فَأَخَذَهَا ٱلثَّانِي وَمَاتَ، وَلَمْ يَتْرُكْ هُوَ أَيْضاً نَسْلاً. وَهٰكَذَا ٱلثَّالِثُ. فَأَخَذَهَا ٱلسَّبْعَةُ، وَلَمْ يَتْرُكُوا نَسْلاً. وَآخِرَ ٱلْكُلِّ مَاتَتِ ٱلْمَرْأَةُ أَيْضاً. فَفِي ٱلْقِيَامَةِ، مَتَى قَامُوا، لِمَنْ مِنْهُمْ تَكُونُ زَوْجَةً؟ لأَنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةً لِلسَّبْعَةِ». فَأَجَابَ يَسُوعُ: «أَلَيْسَ لِهٰذَا تَضِلُّونَ، إِذْ لا تَعْرِفُونَ ٱلْكُتُبَ وَلا قُوَّةَ ٱللّٰهِ؟ لأَنَّهُمْ مَتَى قَامُوا مِنَ ٱلأَمْوَاتِ لا يُزَوِّجُونَ وَلا يُزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلائِكَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ ٱلأَمْوَاتِ إِنَّهُمْ يَقُومُونَ: أَفَمَا قَرَأْتُمْ فِي كِتَابِ مُوسَى، فِي أَمْرِ ٱلْعُلَّيْقَةِ، كَيْفَ كَلَّمَهُ ٱللّٰهُ قَائِلاً: أَنَا إِلٰهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلٰهُ إِسْحَاقَ وَإِلٰهُ يَعْقُوبَ؟ لَيْسَ هُوَ إِلٰهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلٰهُ أَحْيَاءٍ. فَأَنْتُمْ إِذاً تَضِلُّونَ كَثِيراً» (مرقس 12: 18-27).

أخيراً اتفقت جميع الأحزاب الكبرى الدينية والسياسية على مهاجمة المسيح هذا اليوم الأخير في الهيكل، فانضمَّ الصدوقيون إلى الفريسيين والكتبة ورؤساء الكهنة وشيوخ الشعب، ونصبوا للمسيح شركاً آخر علقوه على فلسفتهم الطبيعية. كان الصدوقيون يستخفُّون بالدِّين إجمالاً، ولا يؤمنون بالقيامة ولا الملائكة ولا الأرواح، فكان يُنتظر منهم أن يسألوا سؤالاً هزلياً جدياً، ليثيروا الاستهزاء بالمسيح.

وبما أن أفكارهم كانت جسدية، فقد لفّقوا مشكلة تتصل بالعالم الروحي الذي تسكنه الأرواح بعد الموت الجسدي. كانت شريعة موسى توجب على إخوة كل رجل متزوج يموت دون أن ينجب نسلاً أن يتزوج أحدهم بأرملة المتوفَّى ليقيم للأخ الميت نسلاً. ولأجل غايتهم الهزلية تخيل الصدوقيون امرأة تزوجت بسبعة إخوة، الواحد بعد الآخر. وسألوه لمن من هؤلاء السبعة تكون زوجة في القيامة؟

كان الفريسيون يشاركون المسيح في الإيمان بالقيامة وبعالم الأرواح، فهزيمته هنا أمام الصدوقيين تكون هزيمة لهم أيضاً. ونجاح المسيح في الجدل، يساعد الفريسيين من هذا الوجه. ولو أنه يكون مصيبة عليهم، لأنه يرفع مقام المسيح فيتعلَّق الشعب به أكثر من قبل.

نلاحظ في جواب المسيح على الصدوقيين أنه ترفَّق بهم أكثر مما بالفريسيين، وتلطَّف في توبيخهم، لأنه كان يحسب رياء الفريسيين أشر من كفر الصدوقيين، فلم ينطق عليهم بالويل أو يناديهم: «يا مراؤون». بل أجاب: «أليس لهذا تضلون، إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله؟» إن خطية الصدوقيين أخف من خطيئة الفريسيين الذين يعرفون ولا يعملون بما يعرفونه.

وأعطاهم المسيح برهاناً من أسفارهم الموسوية أن الله ليس إله أموات بل إله أحياء. إذاً توجد قيامة حقيقية. وهو سبحانه روح. إذاً يوجد عالم روحي واسع وأعظم جداً من العالم المادي. فلو كانوا يعرفون الكتب المقدسة لما كانوا ينكرون القيامة. ولو كانوا يعرفون قوة الله لما حددوها وحصروها في عالم الماديات الصغير.

وأفهم المسيح سامعيه أن العالم الروحي لا يقاس تماماً على العالم المادي، فالزيجة الجسدية لا وجود لها هناك، إذ يكون كل من له نصيب في قيامة الأبرار كملائكة الله في السماوات. فبُهت الجموع من تعلميه، وفرح بعض الكتبة بفشل الصدوقيين أكثر مما تكدروا لانتصار المسيح، وقالوا له: «يا معلم، حسناً قلت». وتوقف قليلاً تيار الاعتراض على هذا المعلم الناصري، ولم يتجاسروا أيضاً أن يسألوه عن شيء.

الوصية العظمى

«فَجَاءَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْكَتَبَةِ وَسَمِعَهُمْ يَتَحَاوَرُونَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ حَسَناً، سَأَلَهُ: «أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ ٱلْكُلِّ؟» فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ ٱلْوَصَايَا هِيَ: ٱسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. ٱلرَّبُّ إِلٰهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هٰذِهِ هِيَ ٱلْوَصِيَّةُ ٱلأُولَى. وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ». فَقَالَ لَهُ ٱلْكَاتِبُ: «جَيِّداً يَا مُعَلِّمُ. بِٱلْحَقِّ قُلْتَ، لأَنَّهُ ٱللّٰهُ وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ. وَمَحَبَّتُهُ مِنْ كُلِّ ٱلْقَلْبِ، وَمِنْ كُلِّ ٱلْفَهْمِ، وَمِنْ كُلِّ ٱلنَّفْسِ، وَمِنْ كُلِّ ٱلْقُدْرَةِ، وَمَحَبَّةُ ٱلْقَرِيبِ كَٱلنَّفْسِ، هِيَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ ٱلْمُحْرَقَاتِ وَٱلذَّبَائِحِ». فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ أَنَّهُ أَجَابَ بِعَقْلٍ قَالَ لَهُ: «لَسْتَ بَعِيداً عَنْ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ». وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ بَعْدَ ذٰلِكَ أَنْ يَسْأَلَهُ»(مرقس 12: 28-34).

ثم سأله أحد علماء الشريعة المعروفين بالكتبة، وهو يريد أن يمتحن معرفته بالناموس: «يا معلم، أية وصية هي العظمى في الناموس وأول الكل؟» أجاب المسيح إن أول كل الوصايا هي «اسمع يا إسرائيل: الرب إلهك رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل مقدرتك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء». ثم وصف المسيح عالِم الشريعة هذا بأنه «ليس بعيداً عن ملكوت الله». فهل عرف عالِم الشريعة أن حالة الذي ليس بعيداً عن الملكوت ولا يدخله، هي حالة أصعب من الذي هو بعيد؟ ما أمرَّ هلاك الواقفين عند باب الملكوت.

قال الرب لربي

«ثُمَّ سَأَلَ يَسُوعُ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي ٱلْهَيْكَلِ: «كَيْفَ يَقُولُ ٱلْكَتَبَةُ إِنَّ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنُ دَاوُدَ؟ لأَنَّ دَاوُدَ نَفْسَهُ قَالَ بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ: قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي: ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي، حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ. فَدَاوُدُ نَفْسُهُ يَدْعُوهُ رَبّاً. فَمِنْ أَيْنَ هُوَ ٱبْنُهُ؟» وَكَانَ ٱلْجَمْعُ ٱلْكَثِيرُ يَسْمَعُهُ بِسُرُورٍ» (مرقس 12: 35-37).

ترقب المسيح وهو يعلّم في الهيكل فرصة اجتماع الفريسيين ليمتحنهم كما امتحنوه، فطلب منهم تفسير هذه الآية في مزامير داود: «قَالَ ٱلرَّبُّ لِرَبِّي: «ٱجْلِسْ عَنْ يَمِينِي» (مزمور 110: 1). هنا تُكلِّم العزة الإلهية شخصاً يسميه ربَّه. وهذا الشخص حسب تفسير اليهود جميعاً هو المسيح، وفي ذات الوقت هو المسيح ابن داود. فكيف يكون بشراً محضاً، ويكون ربَّ داود وابن داود في الوقت نفسه؟ لا يحل هذه المعضلة إلا القول بطبيعة المسيح المزدوجة التي تجعله رب داود من جهة لاهوته، وابن داود من جهة ناسوته، وهذا هو الوصف الذي يطلقه سفر الرؤيا على المسيح «أَصْلُ وَذُرِّيَّةُ دَاوُدَ» (رؤيا 22: 16). فبما أنهم ينكرون لاهوته لم يستطع أحد أن يردّ بكلمة. فأسكت جميع معانديه وأسعد الجمع الكثير بكلامه. ويناسب هنا أن نذكر الشهادة التي قدمها سابقاً رسل خصومه الفريسيين بقولهم: «لم يتكلم قط إنسان هكذا مثلُ هذا الإنسان». ويؤيد العدد الذي لا يُحصى من الذين سعدوا بكلامه من ذلك الوقت إلى يومنا هذا.

المسيح يمدح عطاء الأرملة

«وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ ٱلْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي ٱلْجَمْعُ نُحَاساً فِي ٱلْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيراً. فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ، قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ. فَدَعَا تَلامِيذَهُ وَقَالَ لَهُمُ: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هٰذِهِ ٱلأَرْمَلَةَ ٱلْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ ٱلَّذِينَ أَلْقَوْا فِي ٱلْخِزَانَةِ، لأَنَّ ٱلْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هٰذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا»(مرقس 12: 41-44).

ثم انتقل المسيح من قسم الهيكل الداخلي إلى الدار الخارجية التي كانوا يسمُّونها دار النساء (لأنهم كانوا يسمحون بدخول النساء إليها). وكان هناك ثلاثة عشر بوقاً مخصّصة لوضع التقدمات النقدية لخدمة الهيكل وأعمال الرحمة. وكان العابدون بعد غياب طويل يعودون في أيام العيد العظيم ليقدِّموا لهذا المعبد الفريد مبالغ وافرة، فجلس المسيح تجاه الأبواق في محل «الخزانة» يراقب العابدين وهم يدفعون عطاياهم. فلما وضعت أرملة فلسين، وهي أقل قيمة يجوز تقديمها، دعا تلاميذه لينظروا وقال «إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة، لأن الآخرين ألقوا من فضلتهم، وأما هي فألقت كل معيشتها». للعطاء أهمية كبيرة في الدين، وقد علّم المسيح أن مقياس السخاء ليس مقدار التقدمة، بل مقدار ما يبقى للمعطي بعد أن يقدمها. ويخطئ الذين يقدمون في الإحسان قليلاً ويسمُّونه «فلسي الأرملة»، لأن هذا الاسم لا يُطلق على العطاء القليل، إلا إن كان كل ما عند المعطي.

قدمت الأرملة ما عندها متكلة على العناية الإلهية التي تدبر كل أعوازها، ولذلك نالت مدح المسيح على محبتها لله، وعلى ثقتها في عنايته.

اليونانيون يطلبون المسيح

«وَكَانَ أُنَاسٌ يُونَانِيُّونَ مِنَ ٱلَّذِينَ صَعِدُوا لِيَسْجُدُوا فِي ٱلْعِيدِ. فَتَقَدَّمَ هٰؤُلاءِ إِلَى فِيلُبُّسَ ٱلَّذِي مِنْ بَيْتِ صَيْدَا ٱلْجَلِيلِ، وَسَأَلُوهُ: «يَا سَيِّدُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ» فَأَتَى فِيلُبُّسُ وَقَالَ لأَنْدَرَاوُسَ، ثُمَّ قَالَ أَنْدَرَاوُسُ وَفِيلُبُّسُ لِيَسُوعَ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا: «قَدْ أَتَتِ ٱلسَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ. اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ ٱلْحِنْطَةِ فِي ٱلأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلٰكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هٰذَا ٱلْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ. إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ ٱلآبُ. اَلآنَ نَفْسِي قَدِ ٱضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا ٱلآبُ نَجِّنِي مِنْ هٰذِهِ ٱلسَّاعَةِ. وَلٰكِنْ لأَجْلِ هٰذَا أَتَيْتُ إِلَى هٰذِهِ ٱلسَّاعَةِ. أَيُّهَا ٱلآبُ مَجِّدِ ٱسْمَكَ». فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ: «مَجَّدْتُ، وَأُمَجِّدُ أَيْضاً». فَٱلْجَمْعُ ٱلَّذِي كَانَ وَاقِفاً وَسَمِعَ، قَالَ: «قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ». وَآخَرُونَ قَالُوا: «قَدْ كَلَّمَهُ مَلاكٌ». أَجَابَ يَسُوعُ: «لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هٰذَا ٱلصَّوْتُ، بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ» (يوحنا 12: 20-30).

من المشرق البعيد أتى قوم، هم المجوس العلماء، ليروا المسيح في طفولته. والآن أتى قوم آخرون من المغرب البعيد من اليونان بلاد العلماء، ليروا المسيح في خاتمة خدمته. وقفوا في الدار الخارجية من الهيكل، وهي المكان المخصص لعبادة اللّه لغير اليهود، يقدمون العبادة للإله الواحد إله إسرائيل. وأبلغوا تلميذ المسيح فيلبس شوقهم لرؤية المسيح. وحدَّث فيلبس أندراوس، واتفقا أن يقولا لسيدهما هذا الأمر.

رأى المسيح في أولئك اليونانيين مقدمةً للجمهور الذي لا يُحصى من الأمم المزمعين أن يطلبوه بالإيمان، فقال: «قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان». سيتمجد بالرغم من رفض أمته له، فلا يكون هذا فشلاً له ولا لعمله.

التقى المسيح باليونانيين وقال لهم: «الحق الحق أقول لكم، إنْ لم تقع حبةُ الحنطة في الأرض وتمُتَ، فهي تبقى وحدها، ولكن إنْ ماتت تأتي بثمر كثير. من يحب نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية». كلّمهم عن موت هو مقدمة الحياة - هو موته الفدائي ليحيي نفوساً بلا عدد. وهو موت المؤمن عن الخطية ليحيا للبر.

في هذا الوقت وفي هذا المقام اعترف المسيح أن نفسه اضطربت لشدة هول ساعة موته. لكن بما أنه قد أتى من السماء لأجل هذه الساعة، هل يمكن أن يطلب التخلُّص منها؟ كلا ثم كلا. لأن طلبه الوحيد هو أن يتمجد اسم الآب. فصلَّى أوجز صلواته وآخرها في الهيكل قائلاً: «أيها الآب مجد اسمك». فأكرم الآب هذا التسليم التام وإنكار الذات، وجاء صوت من السماء يقول: «مجدت وأمجد أيضاً».

عندما غلب المسيح إبليس في البرية وقت التجربة، أرسل الآب له ملائكةً جاءت وصارت تخدمه، لكن هذه الغلبة الجديدة على تجربة الاستعفاء من الصليب وما يتعلق به أشهُر من تجربة البرية، وهذه الساعة أعظمُ من تلك. فأسْمَعَ الآبُ صوتَه للمرة الثالثة في حياة المسيح على الأرض. أما أعداؤه فسمعوا صوتاً دون أن يفهموا الكلام، فقالوا: «قد حدث رعد». وأما مريدوه فسمعوا كلاماً، لكن غير مفهوم، فقالوا «كلَّمه ملاك». لكن المسيح الذي وحده فهم كلام الصوت، أكَّد لجميع السامعين أنه لم يكن لأجله بل لأجلهم، وإنْ لم يكن مفهوماً عندهم.. جاءهم صوت اللّه تأييداً لشخص المسيح وتعليمه، فبواسطة هذه الغلبة الجديدة أثبت المسيح مرة أخرى صلاحيته كمخلّص العالم. وصلاحيتُه تضمن نجاحه، لأنه بارتفاعه على الصليب «يجذب إليه الجميع». وهذا الجاذب الفعال لا يزال يشتغل بنجاحٍ في العالم، فوق ما كان يتصوره بشر. يجذب الأفراد ويجذب الشعوب، ولا يتوقف عن عمله الخلاصي، إلى أن تُسمع الأصواتُ في السماء قائلة: «قَدْ صَارَتْ مَمَالِكُ ٱلْعَالَمِ لِرَبِّنَا وَمَسِيحِهِ، فَسَيَمْلِكُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤيا 11: 15).

8 - المسيح يعلن أموراً آتية

«وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنَ ٱلْهَيْكَلِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلامِيذِهِ: «يَا مُعَلِّمُ، ٱنْظُرْ مَا هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةُ وَهٰذِهِ ٱلأَبْنِيَةُ؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ: «أَتَنْظُرُ هٰذِهِ ٱلأَبْنِيَةَ ٱلْعَظِيمَةَ؟ لا يُتْرَكُ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لا يُنْقَضُ». وَفِيمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ، تُجَاهَ ٱلْهَيْكَلِ، سَأَلَهُ بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا وَأَنْدَرَاوُسُ عَلَى ٱنْفِرَادٍ: «قُلْ لَنَا مَتَى يَكُونُ هٰذَا، وَمَا هِيَ ٱلْعَلامَةُ عِنْدَمَا يَتِمُّ جَمِيعُ هٰذَا» (مرقس 13: 1-4).

كان المسيح في طريقه إلى خارج الهيكل، حين لاحظ تلاميذه جمال البناء العظيم - وكان الملك هيرودس قد بنى هذا الهيكل وعمل فيه أبواباً مغطَّاة بالفضة والذهب، وكانت حجارته كبيرة جداً... فقد كان طول بعضها خمسة وأربعين ذراعاً، وعرضه ستة أذرع، وسُمْكه خمسة أذرع. لقد كان بناء الهيكل عظيماً.

ولفت التلاميذ نظر المسيح إلى الحجارة والأبنية، فنظر إليها وقال: «هذه الأبنية العظيمة.. لا يترك حجر على حجر لا يُنقَض».

ومضى المسيح وتلاميذه إلى جبل الزيتون، وهناك سأله التلاميذ سؤالين: «قل لنا متى يكون هذا؟» «وما هي العلامة عندما يتم جميع هذا؟».

كان التلاميذ يريدون أن يعرفوا الوقت، وكانوا يريدون أن يعرفوا بعض العلامات حتى يقدروا أن يميّزوا الوقت. وبدأ المسيح يخبر عن حوادث مقبلة. تكلم المسيح أولاً عن خراب أورشليم، ثم تكلم عن مجيئه الثاني.

علامات كاذبة على خراب أورشليم

«فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «ٱنْظُرُوا! لا يُضِلُّكُمْ أَحَدٌ. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِٱسْمِي قَائِلِينَ: إِنِّي أَنَا هُوَ. وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَبِأَخْبَارِ حُرُوبٍ فَلا تَرْتَاعُوا، لأَنَّهَا لا بُدَّ أَنْ تَكُونَ، وَلٰكِنْ لَيْسَ ٱلْمُنْتَهَى بَعْدُ. لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ، وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ زَلازِلُ فِي أَمَاكِنَ، وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَٱضْطِرَابَاتٌ. هٰذِهِ مُبْتَدَأُ ٱلأَوْجَاعِ» (مرقس 13: 5-8).

سأل التلاميذ عن الوقت الذي يتمُّ فيه خراب الهيكل، ثم سألوا عن علامة ذلك الخراب. وجاوب المسيح عن السؤال الثاني أولاً، فتكلم عن العلامات، وبدأ المسيح بالعلامات الكاذبة «انظروا.. لا يضلكم أحد» هذه هي العلامات الكاذبة:

  1. العلامة الأولى الكاذبة على خراب أورشليم هي مجيء مضلين كثيرين (آية 6) «كثيرون سيأتون ويقولون إنهم المسيح، ويُضلون كثيرين.. لا تصدِّقوهم». وقد حدث فعلاً قبل خراب أورشليم أن ظهر مسحاء كذبة، وقالوا لليهود إنهم سيخلصونهم من عبودية الرومان، ولكنهم كانوا كاذبين (إقرأ أعمال 21: 38).

  2. والعلامة الثانية الكاذبة على خراب أورشليم هي الحروب (آية 7). وقد حدثت فعلاً حروب كثيرة بين اليهود وبين الشعوب الأخرى قبل خراب أورشليم. حدثت حرب بين يهود الإسكندرية وبين المصريين سنة 38 بعد ولادة المسيح. وحرب في سلوكية مات فيها خمسون ألف يهودي.

  3. العلامة الثالثة الكاذبة على خراب أورشليم هي حدوث زلازل ومجاعات واضطرابات (آية 7). وقد حدثت فعلاً زلازل في كريت وروما وأورشليم. كما حدثت مجاعات، منها التي تنبأ عنها أغابوس (أعمال 11: 28) كما حدثت اضطرابات بين اليهود والسامريين، وبين اليهود واليونانيين، مات فيها عشرون ألف يهودي. كل هذا حدث قبل خراب أورشليم. وكل هذا كان علامات كاذبة. وهي مبتدأ الأوجاع.

علامات صحيحة على خراب أورشليم

«فَٱنْظُرُوا إِلَى نُفُوسِكُمْ. لأَنَّهُمْ سَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ، وَتُجْلَدُونَ فِي مَجَامِعَ، وَتُوقَفُونَ أَمَامَ وُلاةٍ وَمُلُوكٍ، مِنْ أَجْلِي، شَهَادَةً لَهُمْ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلاً بِٱلإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ ٱلأُمَمِ. فَمَتَى سَاقُوكُمْ لِيُسَلِّمُوكُمْ، فَلا تَعْتَنُوا مِنْ قَبْلُ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ وَلا تَهْتَمُّوا، بَلْ مَهْمَا أُعْطِيتُمْ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ فَبِذٰلِكَ تَكَلَّمُوا، لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ بَلِ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ. وَسَيُسْلِمُ ٱلأَخُ أَخَاهُ إِلَى ٱلْمَوْتِ، وَٱلأَبُ وَلَدَهُ، وَيَقُومُ ٱلأَوْلادُ عَلَى وَالِدِيهِمْ وَيَقْتُلُونَهُمْ. وَتَكُونُونَ مُبْغَضِينَ مِنَ ٱلْجَمِيعِ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي. وَلٰكِنَّ ٱلَّذِي يَصْبِرُ إِلَى ٱلْمُنْتَهَى فَهٰذَا يَخْلُصُ. فَمَتَى نَظَرْتُمْ «رِجْسَةَ ٱلْخَرَابِ» ٱلَّتِي قَالَ عَنْهَا دَانِيآلُ ٱلنَّبِيُّ، قَائِمَةً حَيْثُ لا يَنْبَغِي - لِيَفْهَمِ ٱلْقَارِئُ - فَحِينَئِذٍ لِيَهْرُبِ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجِبَالِ، وَٱلَّذِي عَلَى ٱلسَّطْحِ فَلا يَنْزِلْ إِلَى ٱلْبَيْتِ وَلا يَدْخُلْ لِيَأْخُذَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئاً، وَٱلَّذِي فِي ٱلْحَقْلِ فَلا يَرْجِعْ إِلَى ٱلْوَرَاءِ لِيَأْخُذَ ثَوْبَهُ. وَوَيْلٌ لِلْحَبَالَى وَٱلْمُرْضِعَاتِ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ. وَصَلُّوا لِكَيْ لا يَكُونَ هَرَبُكُمْ فِي شِتَاءٍ. لأَنَّهُ يَكُونُ فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ ضِيقٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ٱبْتِدَاءِ ٱلْخَلِيقَةِ ٱلَّتِي خَلَقَهَا ٱللّٰهُ إِلَى ٱلآنَ، وَلَنْ يَكُونَ. وَلَوْ لَمْ يُقَصِّرِ ٱلرَّبُّ تِلْكَ ٱلأَيَّامَ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلٰكِنْ لأَجْلِ ٱلْمُخْتَارِينَ ٱلَّذِينَ ٱخْتَارَهُمْ قَصَّرَ ٱلأَيَّامَ. حِينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَذَا ٱلْمَسِيحُ هُنَا أَوْ هُوَذَا هُنَاكَ فَلا تُصَدِّقُوا. لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ، وَيُعْطُونَ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ، لِكَيْ يُضِلُّوا - لَوْ أَمْكَنَ - ٱلْمُخْتَارِينَ أَيْضاً. فَٱنْظُرُوا أَنْتُمْ. هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ»(مرقس 13: 9-23).

  1. العلامة الأولى على خراب أورشليم هي «اضطهاد وتبشير» (آيات 9-13). يقول المسيح لتلاميذه: «انظروا إلى نفوسكم». فهو يفتح عيونهم على الآلام التي ستأتي عليهم، وعلى الأمجاد التي بعدها. أولها اضطهادات من الخارج، من مجالس اليهود ومجامعه، حيث يجلدونهم ويوقفونهم أمام ولاة وملوك، من أجل شهادة المسيح (آية 9).

    ويشجع المسيح تلاميذه حتى لا يقلقوا ويجهزوا الدفاع عن أنفسهم، لأن الروح سوف يتكلم فيهم، ويعطيهم الرد الصحيح (آية 11).

    ثم هناك اضطهادات من الداخل - من الإخوة والآباء (آية 12) - ويقول متى البشير: «حينئذٍ يعثر كثيرون، ويسلمون بعضهم بعضاً، ويبغضون بعضهم بعضاً» (متى 24: 10). فإن بعض المسيحيين سوف يضعفون في الإيمان، ويسلمون إخوتهم المسيحيين للاضطهاد والعذاب. ثم يقول المسيح لتلاميذه: «وتكونون مبغَضين من الجميع من أجل اسمي» (آية 13).

    ولكن في وسط الاضطهاد هناك تشجيع، هو أنه «ينبغي أن يُكرز أولاً بالإنجيل في جميع الأمم» (آية 10) فإن الاضطهاد سوف يوّصل رسالة الإنجيل إلى جميع الأمم، وذلك قبل خراب أورشليم، ويقول بولس الرسول في كولوسي 1: 6 «الإنجيل الذي قد حضر إليكم كما في كل العالم أيضاً». ويقول في نفس الأصحاح في آية 23 «الإنجيل الذي سمعتموه، المكروز به في كل الخليقة التي تحت السماء».

    إذاً فليتشجع التلاميذ، لأن اضطهادهم يوصِّل رسالة المسيح للجميع.

    وهنا تشجيع آخر، هو أن «الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص» (آية 13) فالذي يصبر وسط هذه جميعها يخلص.

  2. العلامة الثانية الصحيحة على خراب أورشليم هي «رجسة الخراب» (آيات 14-23) أي الرجسة التي هي سبب الخراب.. وقد تكلم عنها دانيال النبي في سفره (دانيال 9: 27 ، 11: 31 ، 12: 11).

    وقد قصد دانيال في نبوته أنتيوخس أبيفانيس الذي أبطل الذبيحة في الهيكل وأقام بدلها عبادة الأصنام، وذلك قبل ولادة المسيح بوقت طويل. والمسيح يقول إن شيئاً كهذا سيحدث مرة أخرى.

    وقد قصد المسيح من القول «رجسة الخراب» أن عساكر الجيش الروماني سوف يدخلون أورشليم وهم يحملون تماثيل النسور، وتماثيل ملوكهم، وهم يعبدونها. وهكذا فإن تلك التماثيل والأصنام سوف تكون «حيث لا ينبغي» (آية 14).

    ويقول لوقا البشير «أورشليم محاطة بجيوش» (لوقا 21: 20). فتكون رجسة الخراب هي جيش الرومان وتماثيلهم، حيث لا ينبغي أن تكون، أي في الهيكل المقدس والمدينة المقدسة.

    هذه هي العلامة الصحيحة: أورشليم وحولها جيش الرومان الذي يريد أن يخربها، والمسيح يحذر تلاميذه من تلك الأيام، فالذي في اليهودية يجب أن يهرب بعيداً إلى الجبال، والذي على السطح يجب أن يهرب ولا ينزل إلى البيت ليأخذ حاجاته، والذي في الحقل يجب أن يهرب ولا يرجع إلى البيت ليأخذ ثوبه. أما الحبالى والمرضعات فسوف تكون ظروفهنَّ قاسية صعبة، لأنهن يحملن حمل أنفسهن وحمل أطفالهن.

    ويطلب المسيح من تلاميذه أن يصلُّوا حتى لا يكون ذلك كله في شتاء، ذلك لأن الضيق الذي سيأتي على أورشليم سيكون أعظم ضيق رأته المدينة.

    وفي وسط هذه الصورة الحزينة يقدم المسيح تشجيعاً (آية 20) هو أن تلك الأيام ستكون قصيرة، وقد جعلها اللّه قصيرة من أجل المختارين. على أن الضيق العظيم سيجعل الناس مستعدين أن يتعلَّقوا بأي قشة من أمل، فعندما يأتي الأنبياء الكذبة والمسحاء الكذبة ويقولون إن عندهم الخلاص، يثق الناس بهم، فيُضِلُّون كثيرين، ولو أمكن المختارون أيضاً.

    وقد حدث كل الكلام الذي تنبأ المسيح به في خراب أورشليم.

    فقد حاصر غالوس الروماني أورشليم سنة 66 بعد ولادة المسيح، ثم حاصرها فسبسيانوس الروماني سنة 68. وعند هذا الحصار الثاني هرب المسيحيون الذين عرفوا كلام المسيح، ولم يهلك منهم أحد. لقد فهم القارئ المسيحي نبوَّة المسيح، وهرب، فلم يصبه سوء، كما قال مرقس «ليفهم القارئ» (آية 14).

    ثم حاصر تيطس الروماني أورشليم سنة 70 حتى سقطت في يده، وقتل من اليهود مليون ونصف مليون يهودي تقريباً، وصلب منهم كثيرين حتى لم يكن مكان لصلبان أكثر. وهكذا تم كلام المسيح: «ضيق لم يكن مثله منذ ابتداء الخليقة» (آية 19).

    وهُدم الهيكل وأشعل أحد العساكر فيه النار، فلم يَبْقَ فيه حجر على حجر لم يُنقض. وقد كانت مدة حصار أورشليم قصيرة. قصيرة بالنسبة للوقت الذي كانوا يحاصرون فيه المدن في ذلك الزمان. وقصيرة بالنسبة لمدينة أورشليم ومناعتها الطبيعية، لأنها كانت مبنية على جبل.

    وقال تيطس الروماني الذي فتحها: «اللّه أعطانا النجاح في حصار هذه المدينة» ورفض أن يأخذ مكافأة على نجاحه في حصار أورشليم وفتحها.

    وقد كان ذلك النجاح والانتصار لتيطس من اللّه بسبب خطية اليهود. وفي ختام كلام المسيح عن خراب أورشليم قال: «انظروا أنتم، ها أنا قد سبقت وأخبرتكم بكل شيء» (آية 23).

    لقد أخبر المسيح تلاميذه بالحوادث المقبلة، وقد فهموا ونجوا من الضيق العظيم الذي جاء على أورشليم.

مجيء المسيح ثانية

«وَأَمَّا فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ بَعْدَ ذٰلِكَ ٱلضِّيقِ، فَٱلشَّمْسُ تُظْلِمُ، وَٱلْقَمَرُ لا يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَنُجُومُ ٱلسَّمَاءِ تَتَسَاقَطُ، وَٱلْقُوَّاتُ ٱلَّتِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً فِي سَحَابٍ بِقُوَّةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ، فَيُرْسِلُ حِينَئِذٍ مَلائِكَتَهُ وَيَجْمَعُ مُخْتَارِيهِ مِنَ ٱلأَرْبَعِ ٱلرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ ٱلأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ ٱلسَّمَاءِ» (مرقس 13: 24-27).

بعد أن تكلم المسيح عن خراب أورشليم، بدأ يتكلم عن مجيئه ثانية. قال: «في تلك الأيام، بعد ذلك الضيق..» وهو يقصد خراب أورشليم، فإن ألف سنة عند الرب مثل يوم واحد. «الشمس تظلم، والقمر لا يعطي ضوءه، ونجوم السماء تتساقط، والقوات التي في السموات تتزعزع» (آيتا 24 ، 25) والمقصود بذلك أن عظماء سيسقطون، وملوكاً يتزعزعون.

كما أن المقصود أن السماوات تزول بضجيج محترقة ملتهبة، وأن العناصر تنحل وتذوب، وأن الأرض والمصنوعات التي فيها تحترق (إقرأ بطرس الثانية 3: 8-13).

حينئذٍ يأتي ابن الإنسان في السحاب، بقوة كثيرة فيقيم الأموات ويدين العالم. ويأتي بمجد وعظمة، ويرسل الملائكة ليجمعوا مختاريه من كل أطراف الأرض ومن كل مكان يوجدون فيه.

زمن خراب أورشليم

«فَمِنْ شَجَرَةِ ٱلتِّينِ تَعَلَّمُوا ٱلْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصاً وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقاً، تَعْلَمُونَ أَنَّ ٱلصَّيْفَ قَرِيبٌ. هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً، مَتَى رَأَيْتُمْ هٰذِهِ ٱلأَشْيَاءَ صَائِرَةً، فَٱعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى ٱلأَبْوَابِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لا يَمْضِي هٰذَا ٱلْجِيلُ حَتَّى يَكُونَ هٰذَا كُلُّهُ. اَلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولانِ، وَلٰكِنَّ كَلامِي لا يَزُولُ. وَأَمَّا ذٰلِكَ ٱلْيَوْمُ وَتِلْكَ ٱلسَّاعَةُ فَلا يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلا ٱلْمَلائِكَةُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَلا ٱلٱبْنُ، إِلا ٱلآبُ. اُنْظُرُوا! اِسْهَرُوا وَصَلُّوا، لأَنَّكُمْ لا تَعْلَمُونَ مَتَى يَكُونُ ٱلْوَقْتُ» (مرقس 13: 28-33).

عندما ذكر المسيح خراب هيكل أورشليم، سأله تلاميذه: «متى يكون هذا؟» ثم سألوه: «وما هي العلامة التي عندها يتم جميع هذا؟».

وجاوب المسيح على السؤال الثاني، فأخبرهم عن العلامات، ثم أجاب على السؤال الأول عن الوقت. قال المسيح: «حين تُخرِج شجرة التين أوراقها، تعلمون أن الصيف قريب، وهكذا عندما ترون العلامات التي ذكرتُها، تعلمون أن الوقت قريب على الأبواب. «لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله». وقد رأى كثيرون من المسيحيين خراب أورشليم في حياتهم. وأراد المسيح أن يؤكد الأمر لتلاميذه فقال: «السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول» .

هنا يتكلم المسيح عن وقت خراب أورشليم بالتقريب. أما اليوم والساعة فإن أحداً لا يعرفهما إلا الآب السماوي. لا الملائكة في السماء، ولا ابن الإنسان.

ولا بد أن تسأل: كيف لا يعرف المسيح؟

والإجابة: إن المسيح هو اللّه الذي ظهر في الجسد (1 تيموثاوس 3: 16) فهو إله كامل وإنسان كامل.. والمسيح ابن الإنسان قد أخلى نفسه وأخذ صورة عبد وصار في شبه الناس. وإذ أخلى نفسه لم يعرف اليوم ولا الساعة التي يكون فيها خراب أورشليم. المسيح الإله يعرف كل شيء، لكن المسيح الإنسان لا يعرف اليوم ولا الساعة.

ونحن أمام شخص المسيح نقف باحترام كامل، لأننا لا نعرف كيف يكون هذا، لكننا نؤمن به، لأنه هو بنفسه الذي قال هذا. «وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ» إِلا بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (1 كورنثوس 12: 3).

وختم المسيح كلامه للتلاميذ بقوله: «انظروا! اسهروا وصلّوا لأنكم لا تعلمون متى يكون الوقت».

اسهروا

«كَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ تَرَكَ بَيْتَهُ، وَأَعْطَى عَبِيدَهُ ٱلسُّلْطَانَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ عَمَلَهُ، وَأَوْصَى ٱلْبَوَّابَ أَنْ يَسْهَرَ. اِسْهَرُوا إِذاً لأَنَّكُمْ لا تَعْلَمُونَ مَتَى يَأْتِي رَبُّ ٱلْبَيْتِ، أَمَسَاءً، أَمْ نِصْفَ ٱللَّيْلِ، أَمْ صِيَاحَ ٱلدِّيكِ، أَمْ صَبَاحاً. لِئَلا يَأْتِيَ بَغْتَةً فَيَجِدَكُمْ نِيَاماً! وَمَا أَقُولُهُ لَكُمْ أَقُولُهُ لِلْجَمِيعِ: ٱسْهَرُوا» (مرقس 13: 34-37).

تكلم المسيح عن خراب أورشليم، ثم تكلم عن مجيئه ثانية. وفي وقت لا يعرفه أحد يتم ما تكلم عنه السيد المسيح. ولذلك فإن ما أقوله لكم أقوله للجميع: اسهروا.

ثم ضرب المسيح مثلاً: قال فيه: إن رجلاً مسافراً ترك بيته وأعطى عبيده أعمالاً، وأوصى البواب أن يسهر. والعبيد لا يعلمون متى يعود رب البيت.

كان الليل مقسوماً إلى أربعة أقسام، كل قسم منها ثلاث ساعات. القسم الأول هو المساء، والثاني هو نصف الليل، والثالث هو صياح الديك، والرابع هو الصباح. ولا يعلم العبيد في أي قسم من أقسام الليل يأتي سيدهم.

عزيزي القارئ، ما هو العمل الذي كلفك اللّه به؟ كيف تتصرف كزوج وكأب في البيت؟ ما هو سلوكك وسط زملائك في العمل؟ لا تنْسَ أن «لكل واحد عمله» - ما هو العمل المطلوب منك، هل تعمله بأمانة؟ نحن اليوم نعلم أن المسيح آت، ولكننا لا نعلم اليوم ولا الساعة، ويقول لنا المسيح: «اسهروا» لأن العدو يحيط بكم من داخلكم ومن خارجكم. اسهروا لأن عليكم مسئولية في خدمة اللّه. إسهروا لأنه بعد سهر قصير يأتي ربكم ويكافئكم. أرجو أنه عندما يجيء المسيح يجدنا ساهرين.

مثل العذارى العشر

«يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ عَشْرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ ٱلْعَرِيسِ. وَكَانَ خَمْسٌ مِنْهُنَّ حَكِيمَاتٍ، وَخَمْسٌ جَاهِلاتٍ. أَمَّا ٱلْجَاهِلاتُ فَأَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَلَمْ يَأْخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيْتاً، وَأَمَّا ٱلْحَكِيمَاتُ فَأَخَذْنَ زَيْتاً فِي آنِيَتِهِنَّ مَعَ مَصَابِيحِهِنَّ. وَفِيمَا أَبْطَأَ ٱلْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ. فَفِي نِصْفِ ٱللَّيْلِ صَارَ صُرَاخٌ: هُوَذَا ٱلْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَٱخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ! فَقَامَتْ جَمِيعُ أُولٰئِكَ ٱلْعَذَارَى وَأَصْلَحْنَ مَصَابِيحَهُنَّ. فَقَالَتِ ٱلْجَاهِلاتُ لِلْحَكِيمَاتِ: أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ فَإِنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئُ. فَأَجَابَتِ ٱلْحَكِيمَاتُ: لَعَلَّهُ لا يَكْفِي لَنَا وَلَكُنَّ، بَلِ ٱذْهَبْنَ إِلَى ٱلْبَاعَةِ وَٱبْتَعْنَ لَكُنَّ. وَفِيمَا هُنَّ ذَاهِبَاتٌ لِيَبْتَعْنَ جَاءَ ٱلْعَرِيسُ، وَٱلْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى ٱلْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ ٱلْبَابُ. أَخِيراً جَاءَتْ بَقِيَّةُ ٱلْعَذَارَى أَيْضاً قَائِلاتٍ: يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ، ٱفْتَحْ لَنَا. فَأَجَابَ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ. فَٱسْهَرُوا إِذاً لأَنَّكُمْ لا تَعْرِفُونَ ٱلْيَوْمَ وَلا ٱلسَّاعَةَ ٱلَّتِي يَأْتِي فِيهَا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ» (متى 25: 1-13).

ثم روى المسيح مَثَليْن، أولهما مَثَل العشر عذارى المكرَّر فيه تشبيهه بعريس لم يأتِ عرسُه بعد، وينقسم المشتركون في عرسه قسمان: قسم مستعد وقسم غير مستعد. ظن غير المستعدين أنهم يقدرون أن يستعينوا عند مجيء العريس بالمستعدِّين، أو أنهم يستعدون بعد مجيئه. لكن لما حضر العريس وابتدأ العُرس، عرفوا خطأهم في الفكرتين. ولما طلبوا الرحمة أجابهم السيد بالكلام المخيف المحزن أن العريس لا يعرفهم ولهذا لا يفتح لهم.

ويقصد المسيح بهذا المثل ضرورة الاستعداد لمجيئه الثاني ويوم الحساب، وبطلان زعم الذين يتصورون أن صلاح القديسين يفيض فيساعد غيرهم على نَيْل الغفران والدخول إلى السماء. كما أن المثل يقطع رجاء الذين يتصورون أن الرحمة الإلهية نحو الخطاة تمتدُّ إلى ما وراء القبر.

مثل الوزنات

«وَكَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ دَعَا عَبِيدَهُ وَسَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ، فَأَعْطَى وَاحِداً خَمْسَ وَزَنَاتٍ، وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزْنَةً - كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ. وَسَافَرَ لِلْوَقْتِ. فَمَضَى ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَتَاجَرَ بِهَا، فَرَبِحَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ. وَهٰكَذَا ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْوَزْنَتَيْنِ، رَبِحَ أَيْضاً وَزْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ. وَأَمَّا ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْوَزْنَةَ فَمَضَى وَحَفَرَ فِي ٱلأَرْضِ وَأَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ. وَبَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَتَى سَيِّدُ أُولٰئِكَ ٱلْعَبِيدِ وَحَاسَبَهُمْ. فَجَاءَ ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَقَدَّمَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، خَمْسَ وَزَنَاتٍ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا خَمْسُ وَزَنَاتٍ أُخَرُ رَبِحْتُهَا فَوْقَهَا. فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ وَٱلأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى ٱلْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ. ثُمَّ جَاءَ ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْوَزْنَتَيْنِ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، وَزْنَتَيْنِ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا وَزْنَتَانِ أُخْرَيَانِ رَبِحْتُهُمَا فَوْقَهُمَا. قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ ٱلأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى ٱلْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ. ثُمَّ جَاءَ أَيْضاً ٱلَّذِي أَخَذَ ٱلْوَزْنَةَ ٱلْوَاحِدَةَ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ. فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي ٱلأَرْضِ. هُوَذَا ٱلَّذِي لَكَ. فَأَجَابَ سَيِّدُهُ: أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلشِّرِّيرُ وَٱلْكَسْلانُ، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ ٱلصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ ٱلَّذِي لِي مَعَ رِباً. فَخُذُوا مِنْهُ ٱلْوَزْنَةَ وَأَعْطُوهَا لِلَّذِي لَهُ ٱلْعَشْرُ وَزَنَاتٍ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَٱلَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ. وَٱلْعَبْدُ ٱلْبَطَّالُ ٱطْرَحُوهُ إِلَى ٱلظُّلْمَةِ ٱلْخَارِجِيَّةِ، هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ» (متى 25: 14-30).

أما المثل الثاني فيُسمَّى مثل الوزنات، وهو يوضح أن مواهب اللّه للناس متفاوتة. لكن عندما يتساوى أصحابها في اجتهادهم وأمانتهم في استعمالها، يكون جزاؤهم متساوياً. فالذي أكسب سيده وزنتين مدحه سيده بذات الكلام الذي مدح به الذي أكسبه خمس وزنات. أما من يهمل ما وُهب له فيكون كأن لا شيء له. إنه لم يختلس ولم يفعل شراً ولكنه أهمل، فكان نصيبه قول الديان: «والعبد البطال اطرحوه إلى الظلمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان». لا ريب أن أعظم ما يهبُه اللّه للإنسان هو الخلاص الأبدي، فالدينونة العظمى، وأشد البكاء وصرير الأسنان، تكون لمن يهمل هذه الهبة الفائقة التي اشتراها المسيح بموته على الصليب.

يوم الدينونة العظيم

«وَمَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ ٱلْمَلائِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ ٱلشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ ٱلرَّاعِي ٱلْخِرَافَ مِنَ ٱلْجِدَاءِ، فَيُقِيمُ ٱلْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَٱلْجِدَاءَ عَنِ ٱلْيَسَارِ. ثُمَّ يَقُولُ ٱلْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا ٱلْمَلَكُوتَ ٱلْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ ٱلأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَارَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَاناً فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيباً فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَاناً فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ ٱلْمَلِكُ وَيَقُولُ لَهُمُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هٰؤُلاءِ ٱلأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ.

«ثُمَّ يَقُولُ أَيْضاً لِلَّذِينَ عَنِ ٱلْيَسَارِ: ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاعِينُ إِلَى ٱلنَّارِ ٱلأَبَدِيَّةِ ٱلْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلائِكَتِهِ، لأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَلَمْ تَأْوُونِي. عُرْيَاناً فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضاً وَمَحْبُوساً فَلَمْ تَزُورُونِي. حِينَئِذٍ يُجِيبُونَهُ هُمْ أَيْضاً قَائِلِينَ: يَارَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً أَوْ عَطْشَاناً أَوْ غَرِيباً أَوْ عُرْيَاناً أَوْ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟ فَيُجِيبُهُمْ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هٰؤُلاءِ ٱلأَصَاغِرِ فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا. فَيَمْضِي هٰؤُلاءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَٱلأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (متى 25: 31-46).

كانت خاتمة هذا الخطاب للتلاميذ على جبل الزيتون مؤثرة ومفيدة للغاية، إذْ صوَّر المسيح فيها اجتماع البشر في يوم الدين، عندما يتَّخذ المخلص الرؤوف صفته كالديَّان، ويجيء في مجده وجميع الملائكة القديسين معه، ويجلس على كرسي مجده. حينئذٍ يجتمع أمامه جميع الشعوب، وكالراعي الصالح الذي يعرف خاصته، يفرز الخراف فيضعها عن يمينه في مقام الرضى والإِكرام، ويضع الجداء (الذين ليسوا خرافه) عن يساره في مقام الرفض والإبعاد، ولا يجد الذين على اليسار لنفوسهم عذراً، عندما يرون المسيح الذي يرثي لضعفات البشر، لأنه جُرِّب مثلهم، والذي في حبه المتناهي مات عنهم فدية، لأنهم لم يلتجئوا إليه للخلاص.

ثم يعلن هذا الديَّان النصيب الصالح الذي للخراف، وهو الميراث المُعدّ لهم منذ تأسيس العالم، لأنهم مباركو أبيه الذين أعده لهم. ويعلن نصيب الجداء الذي لم يعدَّه لهم، وهو النار الأبدية التي أعدها لإبليس وملائكته. لقد اختاروا الانقياد إلى إبليس وملائكته رغم إرادة اللّه والوسائط التي أعدَّها لهم لأجل الخلاص، فلا عذر لهم إنْ أرسلهم اللّه إلى محل إبليس، الرئيس الذي تبعوه في حياتهم الأرضية، وفضَّلوا طاعته على طاعة المخلِّص الجالس على كرسي الدينونة. أما السبب الأصلي للدينونة فهو عدم إيمانهم به. ولأنهم لم يؤمنوا ولم يعملوا ما يطلبه من تابعيه، وقد أهملوا العمل الخصوصي الذي يذكّرهم به، وهو معاملة البؤساء ولا سيما أتباعه منهم، الذين دعاهم «إخوتي هؤلاء الأصاغر».

في هذا المثل يوضّح المسيح أن إطعام الجائعين وكساء العراة وافتقاد المسجونين وإضافة الغرباء وزيارة المرضى، وأمثال ذلك من الإحسان الذي يفعله الإنسان حباً للمسيح، يكون كأنه لذات شخص المسيح، فيُثاب الفاعل، ليس على ما فعل فقط، بل على قصده في فعله. وأما الذي لعدم حبه للمسيح لا يفعل هذا الإِحسان، فكأنه منعه ليس عن المساكين بل عن المسيح ذاته. وفيه أيضاً يبيّن المسيح أن الخير الذي يهمله الإنسان، وليس فقط الشر الذي يعمله، يوقعه في الهلاك. وهذه من أصعب الدروس، وقليلون جداً هم الذين يحفظونها.

استسلم يهوذا الإسخريوطي تماماً لقيادة إبليس الذي لم يفلته ولو قليلاً إلى أن أوصله إلى النار المُعدَّة لإبليس وجنوده. ظهر انفصال يهوذا القلبي عن المسيح قبل هذا الوقت بثلاثة أيام لما اعترض على مريم إذْ دهنت قدميّ المسيح بالطيب في بيت عنيا، ولم ينتبه لذلك باقي التلاميذ لسلامة قلوبهم. ويُرجَّح أنه بينما كان المسيح يكلم التلاميذ على جبل الزيتون، دبَّر يهوذا حُجّة معقولة ليتركهم ويعود إلى المدينة ليسعى بما وسوس إليه إبليس الشرير. نتصوَّر أن ضميره حاربه جداً وهو يفتكر كيف يستخدم مقاصد اليهود ضد المسيح وسيلة ليربح أولاً مالاً، وثانياً صداقتهم للحصول على معيشته، عندما تتوقّف إعالته من إيراد الصندوق الذي كان يختلس منه. ألم ينتبه إلى تصريحات المسيح بأن ملكوته ليس زمنياً؟ وبأن نصيب تابعيه هو الخسائر والمقاومات والإهانات والاضطهادات المهينة؟ أوَلَمْ ينتبه أيضاً إلى تكرار المسيح عبارات تدلُّ على معرفته أسراره؟ فما دام لا مَيْل له للتوبة والتقوى، لا بد أن هذه العوامل تزيد انفصاله عن المسيح. حينئذٍ دخل الشيطان فيه، وترأس على قلبه.

شيوخ اليهود يتآمرون

«وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هٰذِهِ ٱلأَقْوَالَ كُلَّهَا قَالَ لِتَلامِيذِهِ: «تَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ يَكُونُ ٱلْفِصْحُ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ لِيُصْلَبَ». حِينَئِذٍ ٱجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةُ وَشُيُوخُ ٱلشَّعْبِ إِلَى دَارِ رَئِيسِ ٱلْكَهَنَةِ ٱلَّذِي يُدْعَى قَيَافَا، وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يُمْسِكُوا يَسُوعَ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُوهُ. وَلٰكِنَّهُمْ قَالُوا: «لَيْسَ فِي ٱلْعِيدِ لِئَلا يَكُونَ شَغَبٌ فِي ٱلشَّعْبِ».

حِينَئِذٍ ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ، إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَقَالَ: «مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُونِي وَأَنَا أُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ؟» فَجَعَلُوا لَهُ ثَلاثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ. وَمِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ كَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ»(متى 26: 1-5 ، 14-16).

ترأس الشيطان اجتماعاً في ذلك اليوم في دار قيافا رئيس الكهنة حضره رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب ليقرروا بعد البحث كيف يقبضون على المسيح ليقتلوه، لأنهم لم يقدروا أن يحتملوا منه أكثر، وأرادوا أن يقبضوا عليه قبل العيد إن أمكن. لكن العقلاء بينهم أدركوا أن الشعب أقوى منهم ولا يجاريهم في قصدهم. فأقنعوا الآخرين أن يصبروا إلى أن يمضي العيد وتنصرف الجماهير ولا سيما مواطنيه الجليليين. هذا ما قرره مجلس السنهدريم. وأما مجلس السماء فقرر منذ الأزل أن يُذبح حملُ اللّه في عيد الفصح الذي رُسم إشارةً لهذه الضحية، فيكون قرار مجلس السنهدريم المخالف باطلاً.

وعد يهوذا الرؤساء أن يسهّل عليهم القبض على المسيح سراً قبل العيد، لقاء مبلغ معين. ولا شك أن الرؤساء عاملوه أولاً بتحفظ، لأنهم استبعدوا أن يسلِّمه أحد تلاميذه، فطلبوا من يهوذا براهين كافية تؤكد إخلاصه لهم. فلما طلب منهم مالاً أظهر كمال خيانته للمسيح. ولربما استبشر شيوخ اليهود بمجيء يهوذا أنهم قريباً ينجحون في أن يحذو رفقاءُ يهوذا حذوه ويتركوا المسيح. وفرحوا جداً بوعد يهوذا أنه يمكّنهم من القبض عليه سراً، فيسرعون بتسليمه للحكومة الرومانية. ولا خوف بعدئذ من انتصار الشعب له.

ولا نتعجب إن كانت الأجرة التي اتفقوا عليها مع يهوذا زهيدة، لأن الرؤساء لم يكونوا محتاجين لمساعدة يهوذا لهم بعد العيد، فيكون أنهم دفعوا ليهوذا أجرة الإِسراع فقط في القبض على المسيح. وكان على يهوذا أن يراقب وقتاً يكون فيه المسيح منفرداً لكي يمسكوه بسهولة. وقد قبل يهوذا هذا المبلغ الضئيل لأنه ظنَّ أن لا تأثير لعمله، وقد استفاق على غلطه استفاقةً مريعةً كما سنرى.

9 - المسيح يرسم فريضة العشاء الرباني

عاد المسيح إلى بيت عنيا في المساء يرافقه تلاميذه، ويهوذا معهم. وقضى يومي الأربعاء والخميس هناك، فلم يتيسَّر للخائن أن يوفي بوعده للرؤساء سريعاً. ولعلهم تصوّروا أنه خابرهم امتحاناً، وأنه لا ينوي أن يوفي بوعده. أما هو فاستسلم أكثر للطمع والرياء في وظيفته الجديدة كجاسوس على سيده ووليّ نعمته، وأخذ يراقب فرصةً مناسبة ليسلّمه. وهكذا انقضى يوم الثلاثاء. أما يوم الأربعاء فلم يذكر الكتاب عمّا جرى فيه شيئاً. لكن يُرجَّح أن المسيح وتلاميذه قضوه في هدوء في بيت عنيا.

ولما أشرقت الشمس صباح الخميس كان قد بقي للمسيح ليل واحد قبل صَلْبه، قضاه في العشاء الفصحي ثم الرباني، والصلاة في البستان. ثم تسليم يهوذا له، ومحاكمته محاكمة غير قانونية في دار رئيس الكهنة. ثم أعقب ذلك الليل ليلان وجسده الكريم في القبر، وبعد ذلك جسد القيامة الممجَّد الذي لا يحتاج إلى نوم.

«وَفِي أَوَّلِ أَيَّامِ ٱلْفَطِيرِ تَقَدَّمَ ٱلتَّلامِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ لَهُ: «أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ لَكَ لِتَأْكُلَ ٱلْفِصْحَ؟» فَقَالَ: «ٱذْهَبُوا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ، إِلَى فُلانٍ وَقُولُوا لَهُ: ٱلْمُعَلِّمُ يَقُولُ إِنَّ وَقْتِي قَرِيبٌ. عِنْدَكَ أَصْنَعُ ٱلْفِصْحَ مَعَ تَلامِيذِي». فَفَعَلَ ٱلتَّلامِيذُ كَمَا أَمَرَهُمْ يَسُوعُ وَأَعَدُّوا ٱلْفِصْحَ»(متى 26: 17-19).

لم يُظهِر المسيحُ صباح هذا الخميس استعداداً للذهاب إلى أورشليم. وربما استُنتج أنه يريد أن يأكل الفصح في بيت عنيا. وكان هذا الخميس الواقعُ في اليوم الرابع عشر من الشهر القمري - اليومَ الأول في عيد الفطير، وفيه كانوا يجهِّزون كل ما يلزم لعشاء الفصح في مسائه. لكن كانت تهيئة الخروف والأعشاب المُرَّة والخمر وآنية الاغتسال وسائر تفاصيل العشاء، تستغرق وقتاً ليس بقليل، لذلك لم يصبر التلاميذ، بل تقدموا للمسيح وسألوه: أين يُعِدّون العشاء. وكان جوابه أن أرسل التلميذين بطرس ويوحنا بتعليمات غامضة تحجب عن الإسخريوطي معرفة المكان. وتنبأ المسيح للتلميذين أنهما سيصادفان في المدينة منظراً غير عادي، رجلاً يحمل جرة ماء في الطريق. وأفهمهما أن يقولا لصاحب البيت الذي يدخله هذا الرجل: «يقول لك المعلم إن وقتي قريب. عندك أصنع الفصح مع تلاميذي». فمضيا ووجدا فِعلاً كما قال لهما. فأخذهما هذا الرجل الكريم إلى علية كبيرة مفروشة جاهزة، لأن يهود أورشليم كانوا يجهّزون كل ما يمكنهم في منازلهم، للمسافرين الغرباء ليلة عشاء الفصح. فهناك أعدَّا كل شيء حسب شريعة موسى.

المسيح يغسل أرجل تلاميذه

«أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ ٱلْفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هٰذَا ٱلْعَالَمِ إِلَى ٱلآبِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى ٱلْمُنْتَهَى. فَحِينَ كَانَ ٱلْعَشَاءُ، وَقَدْ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ ٱلإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ، يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ ٱلآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ ٱللّٰهِ خَرَجَ، وَإِلَى ٱللّٰهِ يَمْضِي، قَامَ عَنِ ٱلْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَٱتَّزَرَ بِهَا، ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ، وَٱبْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ ٱلتَّلامِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِٱلْمِنْشَفَةِ ٱلَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا. فَجَاءَ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ. فَقَالَ لَهُ ذَاكَ: «يَا سَيِّدُ، أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!» أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ ٱلآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ، وَلٰكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ». قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «لَنْ تَغْسِلَ رِجْلَيَّ أَبَداً!» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ لا أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ». قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ، لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً يَدَيَّ وَرَأْسِي». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ٱلَّذِي قَدِ ٱغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلا إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ، بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلٰكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ، لِذٰلِكَ قَالَ: «لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ» (يوحنا 13: 1-11).

ولما صار المساء نزل المسيح وتلاميذه العشرة إلى علية الفصح وانضموا إلى بطرس ويوحنا. وكان عليهم قَبْل أن يتكئوا حول المائدة أن يغسلوا أرجلهم من غبار السفر، لأن النعال التي كانوا يلبسونها لا تغطي إلا إخمص القدم. وكان الخدم عادة يؤدون هذه الخدمة، وحيث لا يُوجد خدم كان التلاميذ يغسلون بعضهم أرجل بعض. لكن بما أن هذا العشاء رسمي، كما أنه عظيم، أخذ كل واحد منهم يستصعب القيام بهذه الخدمة لرفقائه، كأنهم أرفع منه مقاماً، لذلك تشاجروا في من هو أعظم بينهم، ليعرفوا من يجب أن يخدمهم.

يُرجَّح أن البادئ والمحرك الأعظم في هذه المشاجرة كان الإسخريوطي، الذي يطلب لنفسه الرِفعة بحجَّة أنه من اليهودية، وبيده أمانة الصندوق، فإن هذه المشاجرة بدأت «حين ألقى الشيطان في قلب يهوذا الإسخريوطي أن يسلِّمه».

اهتم البشير يوحنا أن يذكر قبل هذا الخبر أن المسيح كان في تلك الساعة يعلم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يده، وأنه من عند اللّه خرج وإلى اللّه يمضي. فهذه المعرفة الحقيقية بمقامه العظيم، تزيد قيمة مثال التواضع الذي يقدمه لنا. أهمل الإثنا عشر غَسْل الأرجل، فنهض المسيح من مكانه بعد أن اتكأوا حول مائدة العشاء، وخلع الرداء الذي يميّزه كمعلِّم، واتَّزر بمنشفة كالعبيد، وأتى بالمغسل والماء، وأخذ يغسل أرجل التلاميذ الذين أبوا أن يغسل الواحد للآخر. لكن لئلا يُؤخذ فعله في هذه الساعة كأنه عن حِدة غضب، ذكر البشير أن المسيح أحبَّ خاصته الذين في العالم حتى المنتهى، أي أن عاطفة الحب العظيم الثابت، وليس انفعال الغضب الوقتي هي التي حرّكته ليغسل أرجلهم، ليعطيهم من نفسه مثالاً. وقد بقي هذا الحب إلى منتهى وجوده معهم في الجسد، بالرغم مما أظهروه من التقصير والسقوط. وإثباتاً لهذه الحقائق، غسل أيضاً رجلي يهوذا الخائن المتربص ليسلِّمه للقتل. ألم يكن هذا العمل من الوسائل التي استعملها هذا المخلِّص العظيم مع يهوذا الشرير ليليِّن قلبه القاسي ويجذبه إلى التوبة والصلاح؟

يقول القديس يوحنا فم الذهب إن المسيح ابتدأ بيهوذا في غسل الأرجل، لأنه الأقرب إليه في المتكأ عن شماله، ويُرجَّح أن بطرس كان قدام يوحنا وعن يمين المسيح، فيكون المسيح قد غسل أرجل الجميع ما عدا يوحنا قبل وصوله إلى بطرس. فلما جاء دور بطرس اعترض بصورة المستفهِم المستغرِب، ولم يقتنع لما أجابه المسيح بأنه سيفهم فيما بعد ما لا يفهمه الآن، فاعترض من جديد بقوة وقال: «لن تغسل رجليّ أبداً». فهو يخطِّئ سيده، ويقبِّح في نفس الوقت عمل رفقائه الذين قد سلَّموا له بهذا العمل، كأنهم أقل منه في الإدراك واللياقة. فنال جزاءه في كلام المسيح القوي: «إنْ كنتُ لا أغسلك فليس لك معي نصيب» - وهنا تهوَّر بطرس وطالب المسيح بأكثر مما قصد المسيح أن يفعله، لأنه قال: «ليس رجليَّ فقط بل أيضاً يديَّ ورأسي». سلَّم بطرس، لكن ليس تسليم التواضع، بل كان تواضعه من باب ما يُعرف بكبرياء التواضع، لأن التواضع الحقيقي يجعل صاحبه يهمل ذاته، ويفكر في غيره. وقد أصلح المسيح خطأ بطرس وبيَّن له أن لا حاجة لغسل يديه ورأسه.

في هذا الجواب تعليم في التطهير من الخطية، فمن يحصل مرة على الغفران عندما يتوب ويؤمن، لا يحتاج إلى إعادته فيما بعد، لأن اسمه كُتب في سفر الحياة، وقد تبنَّاه الروحُ الإِلهي، وصار من أولاد اللّه. لكن بما أنه لا يخلو تماماً من السقوط في بعض الزلات، عجزاً أو سهواً، يحتاج إلى غفرانٍ يختلف عن الأول، كما يختلف غفران خطية الابن عن غفران خطية العدو. ويشبّه بغسل الأقدام بالنسبة إلى غسل الجسد كله. فلأن التلاميذ كلهم متجددون إلا الإسخريوطي، تتنوَّع خطاياهم عن خطاياه. لذلك قال المسيح: «أنتم طاهرون ولكن ليس كلكم». وقال البشير: «لأنه عرف مسلِّمه». والذي يتوب مرة توبة حقيقية لا يعود إلى حالته القديمة، بل يُصِرُّ على التخلُّص من الخطية، فغفرانه ثابت وخلاصه مقرَّر، لأنهما لا يتوقفان على أعماله وطاعته، بل على مواعيد اللّه ورحمته المجانية. فإنْ عاد إلى القديم تكون توبته غير حقيقية، فقد قال الرسول يوحنا عن مثل هؤلاء: «مِنَّا خَرَجُوا، لٰكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لٰكِنْ لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا» (1 يوحنا 2: 19).

«فَلَمَّا كَانَ قَدْ غَسَلَ أَرْجُلَهُمْ وَأَخَذَ ثِيَابَهُ وَٱتَّكَأَ أَيْضاً، قَالَ لَهُمْ: «أَتَفْهَمُونَ مَا قَدْ صَنَعْتُ بِكُمْ؟ أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً، وَحَسَناً تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذٰلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا ٱلسَّيِّدُ وَٱلْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً. اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ، وَلا رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ. إِنْ عَلِمْتُمْ هٰذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ. لَسْتُ أَقُولُ عَنْ جَمِيعِكُمْ. أَنَا أَعْلَمُ ٱلَّذِينَ ٱخْتَرْتُهُمْ. لٰكِنْ لِيَتِمَّ ٱلْكِتَابُ: اَلَّذِي يَأْكُلُ مَعِي ٱلْخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ. أَقُولُ لَكُمُ ٱلآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ. اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمُ: ٱلَّذِي يَقْبَلُ مَنْ أُرْسِلُهُ يَقْبَلُنِي، وَٱلَّذِي يَقْبَلُنِي يَقْبَلُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا 13: 12-20).

لما أكمل المسيح غسل أرجل الجميع، نزع المنشفة عن حقويه ولبس رداءه واتكأ في مكانه على رأس المائدة، وقال إن العظمة الحقيقية التي يسعى لأجلها العاقل التقيّ لا تنتج عن الأموال أو المقام أو الذكاء أو المعارف، بل عن الخدمة ونفع الآخرين، ومقدار هذا النفع هو قياس هذه العظمة. ثم جدد المسيح إشارة محزنة إلى خيانة يهوذا، وقال إنها تثبت صحة كلام الوحي، وتتفق مع المشورة الإلهية، لئلا يظن أحد أن عمل يهوذا يعارض القضاء الإلهي أو يفسده. لا شك أن الإسخريوطي كان قد تعمد بمعمودية يوحنا كغيره من التلاميذ، والآن غسل المسيح رجليه رمزاً للتطهير من الخطية. فصار شاهداً ناطقاً على أن أفضل الوسائط الخارجية الدينية - كأسرار الكنيسة وأنظمة العبادة - لا تُنتج خلاص الذين ينالونها، ما لم يرافقها شعور داخلي يناسبها.

المسيح يأكل الفصح

«وَلَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ اتَّكَأَ مَعَ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ. وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ قَالَ: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي». فَحَزِنُوا جِدّاً، وَٱبْتَدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ: «هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟» فَأَجَابَ وَقَالَ: «ٱلَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي ٱلصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي. إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ ٱلَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذٰلِكَ ٱلرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ». فَسَأَلَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ: «هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟» قَالَ لَهُ: «أَنْتَ قُلْتَ» (متى 26: 20-25).

رأينا المسيح يتسلط على هيكل أورشليم فيطهره، وعلى السبت اليهودي فيحرره، وعلى الكتاب الإلهي فيفسره، والآن نراه يتسلط على الفصح العبراني ويغيّره. قضت الفريضة في التوراة أن تمارس كل عائلة عشاء الفصح معاً، ولكن المسيح فضَّل العلاقات الروحية على العلاقات الجسدية، فجعل تلاميذه أهل عائلته وفقاً لقوله: «من هي أمي ومن هم إخوتي؟ من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي». لقد كانت أمه وقت الفصح في أورشليم ومعها إخوته. فيكونون قد مارسوا الفصح في مكان آخر منفصلين عن قريبهم الأعظم. وهذا يُظهر لنا المقام الممتاز الذي وهبه المسيح للتلاميذ وليس لغيرهم.

في هذا العشاء امتزاج الابتهاج والكآبة في قلب المسيح. وقد ظهر ابتهاجه من قوله: «شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم». ابتهج وهو يشترك مع تلاميذه في عيد الفصح الغني بالمعني، والذي يشير في رسمه وتفاصيله وممارسته إلى عمله الخلاصي، الذي سيتمّمه سريعاً، لأن ساعة انتصاره على قوات الجحيم ورئيسها قد اقتربت - وقتها يسحق رأس الحية التي سمح لها أن تسحق عقبه. وقد ابتهج المسيح أيضاً لقرب رجوعه إلى حضن أبيه - وهذا يبهجه ويبهج تلاميذه أيضاً، لأنه يثبتهم ويجعلهم يقومون بأعمالهم العظيمة وينجحون نجاحاً باهراً في المستقبل القريب، ولهذا قال لهم: «أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي، وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً» (لوقا 22: 28 و29).

ومع كل ابتهاج المسيح نراه يكتئب، لأن سعيه كل هذه المدة لإصلاح يهوذا الخائن ذهب أدراج الرياح. ومرارة هذه الخيانة أصعب من مرارة مقاومة الرؤساء. يكتئب المسيح لأنه يعلم أن تلاميذه جميعاً يشكُّون في تلك الليلة وتتحقق نبوة التوراة «اِضْرِبِ ٱلرَّاعِيَ فَتَتَشَتَّتَ ٱلْغَنَمُ» (زكريا 13: 7). وأن عميدهم الصخرة، سمعان بطرس، سيفوق الجميع في الارتداد الوقتي. يكتئب المسيح لأن هذه الساعة هي ساعة فراق مؤلم، ولا سيما لتلاميذه الأحباء الضعفاء والمتكلين على قيادته الشخصية. وهو يكتئب كابن الإنسان لما ينتظره من العذابات الجسدية والنفسية الأصعب منها.

ثم قال المسيح لتلاميذه إن واحداً منهم سيسلّمه ليد أعدائه شيوخ اليهود. ولما سأله الإسخريوطي: «هل أنا يا سيد؟» قال له: «أنت قلت». ثم غمس لقمة في الأعشاب المُرَّة وناولها له.

انتهى عشاء الفصح اليهودي، ويهوذا يرفض أن ينقاد إلى المحبة التي قدَّمها له المسيح، فمع اللقمة المغموسة «دخله الشيطان» أي قوَّى سلطته فيه، فقال له المسيح: «ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة». أما رفقاؤه فبعد كل ما قيل في مسامعهم وحدث أمام عيونهم، لم يفهموا هذا القول، ولا تصوَّروا أن المسيح يشير إلى خيانة يهوذا، بل إلى أعمال خيرية هي مسئوليته لأنه أمين الصندوق. فلما أخذ يهوذا اللقمة خرج للوقت وكان ليلاً. وأيُّ ليلٍ هذا الذي ليس بعده ليالٍ أظلم منه بما لا يقاس في الدينونة الأبدية. وعن مقام عال شريف بين تلاميذ المسيح هوى منه يهوذا الآن بنفسه إلى أعماق الخيانة والقساوة، ثم اليأس والعذاب والعقاب في النار الأبدية.

سقط يهوذا من ذلك النعيم إلى هذا الجحيم تدريجياً كغيره. سقط لأنه لم يسهر ويصلِّ ليسلَم من الطمع والرياء، فوصل إلى ما وصل إليه. وزادت قساوة قلبه لرفعة مقامه السابق، ولأنه رفض الوسائط الحسنة التي قدَّمها المسيح له. سار مع ميوله الفاسدة، وكان لم يزل سهلاً عليه أن يقهرها ويميتها، فقويت عليه وأهلكته.

خرج الإسخريوطي من بين التلاميذ ليفتش عن شركائه الجدد، ويخبرهم أن المسيح في المدينة، ويمكّنهم أن يلقوا القبض عليه بسهولة. وارتفع عن قلب المسيح ثِقلٌ، فقال: «الآن تمجد ابن الإنسان وتمجد الله فيه. وأن الله سيمجده في ذاته سريعاً».

هنا تأكد التلاميذ أن سيدهم يُسلَّم إلى مبغضيه ويقتلونه صلباً. لكنهم لم يدركوا معنى ذلك، فأوضح لهم ذلك المعنى بواسطة فريضة جديدة حسيّة، هي العشاء الرباني الجديد، الذي ربطه بعشاء الفصح القديم، ليسهّل عليهم قبوله وفهم تعليمه.

«وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ ٱلْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى ٱلتَّلامِيذَ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا. هٰذَا هُوَ جَسَدِي». وَأَخَذَ ٱلْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: «ٱشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ، لأَنَّ هٰذَا هُوَ دَمِي ٱلَّذِي لِلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ ٱلَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مِنَ ٱلآنَ لا أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ ٱلْكَرْمَةِ هٰذَا إِلَى ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ أَبِي». ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ» (متى 26: 26-30).

أخذ المسيح قطعة من خبز الفطير الذي يشير إلى الخلوّ من الخمير العتيق والفساد، وشكر وكسر وبارك وأعطى التلاميذ، وقال: «خذوا كلوا. هذا هو جسدي المكسور لأجلكم الذي يُبذل عنكم. اصنعوا هذا لذكري».

في الشكر ذكّر المسيح تلاميذه أنه عند تناول خيرات الأرض نشكر رب السماء، مصدر كل عطية صالحة وكل موهبة تامة. وفي التكسير نذكر أنه كما أن الخبز لا يحيي الأجساد إلا بعد كسره، كذلك لا يحيي المسيح موتى الذنوب والخطايا إلا بعد أن يتألم ويُصلب أولاً. وفي المباركة ذكّرهم المسيح أنه صاحب السلطان المعطى له من الآب. هو الذي بركته «تُغْنِي، وَلا يَزِيدُ ٱلرَّبُّ مَعَهَا تَعَباً» (أمثال 10: 22). وفي إعطاء الخبز من يده ليدهم تذكَّروا أنه هو الطريق والحق والحياة، وليس أحد يأتي إلى الآب إلا به. وفي قوله: «خذوا كلوا» ذكّرهم أن كل ما يعمله لأجل خلاصهم وحياتهم الروحية يذهب سُدى ما لم يأخذوه روحياً، ويخصّصوا شخصه وعمله لنفوسهم فرداً فرداً بالإيمان، بفعل روحي يشابه الأكل الجسدي.

في قوله: «هذا هو جسدي المكسور لأجلكم» أوضح لهم أنه قد عيَّن الخبز المكسور في هذا العشاء الجديد، رمزاً لجسده المكسور لأجل حياة العالم. سبق له من مدة سنة أن قال كلاماً قوياً لليهود في مجمع كفر ناحوم في موضوع أكل جسده وشرب دمه، بمعنى روحي. ولو أن كلامه أعثر السواد الأعظم من تابعيه (يوحنا 6) فليس جديدٌ في تعليمه أن جسده، خبز الحياة، يؤكل روحياً في ممارسة العشاء الرباني. ويكفي ذلك الكلام القديم تفسيراً لهذا الكلام الجديد، ونفياً للتفسير الحرفي الذي حذرهم منه وقتئذ.

يقصد المسيح بقوله: «هذا هو جسدي» قصداً روحياً لا حرفياً. وما ينفي التفسير الحرفي لذلك قول المسيح: «اَلرُّوحُ هُوَ ٱلَّذِي يُحْيِي. أَمَّا ٱلْجَسَدُ فَلا يُفِيدُ شَيْئاً. اَلْكَلامُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ» (يوحنا 6: 63). وينفيه أيضاً أن جسده لم يكن مكسوراً عندما قال: «هذا هو جسدي المكسور». بل كان سالماً، وكان الخبز موضوعاً على حدة، فلا يكونان شيئاً واحداً. ولم يتكلم في صيغة المستقبل ليؤخذ كلامه عن أمر سيحدث بعدما تكلم. وينفيه كلام الرسول بولس الذي يقول: «كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هٰذَا ٱلْخُبْزَ» بعد قوله: « هٰذَا هُوَ جَسَدِي» (1 كورنثوس 11: 24 ، 26) وتنفيه شهادة الحواس التي هي وضع إلهي، والوسيلة الوحيدة لتحقيق المعجزات، لأنه لا توجد معجزة واحدة بين كل ما ذُكر في الكتاب إلا ظهر برهانها للحواس. فمعجزة تحويل الخبز إلى جسد لا تصدّقها حاسة واحدة، بل تخالف تماماً شهادة الحواس الأربع، أي البصر واللمس والشم والذوق. صحيح أن الأمور الروحية خارجة عن شهادة الحواس وفوقها، لكن تحويل الخبز إلى جسد، أمر مادي تدركه الحواس.

ثم ناول المسيح تلاميذه كأس الخمر بعد أن شكر، وقال: «هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا».

كان للدم أعظم أهمية في كل التعليم الإلهي لشعب العهد القديم، منذ أيام هابيل الذي قبِلَ الله تقدمته الدموية، بعد أن رفض تقدمة أخيه غير الدموية. وكان سفك الدم أساس النظام الموسوي كله، لكن لا معنى ولا فائدة لدم التيوس والعجول والحملان في الدين، إلا كرمز لدم المسيح حمل الله الذي يُسفك لأجل رفع خطية العالم. لأنه كما أنقذ الدم الموضوع على القوائم والأعتاب في بيوت العبرانيين في مصر الأبكار من الملاك المُهلك (خروج 12: 13)، ينقذ دم حمل الله الخاطئ من الهلاك الأبدي. لذلك لا تشبه كأس العهد الجديد الكأس التي شربوها بحضور الإسخريوطي والمباحة لجميع أفراد نسل إبراهيم، بصرف النظر عن صفاتهم، بل هي رمز للدم الذي بعد بضع ساعات سيُهرق على الصليب، وتُخصَّص فائدته للمؤمنين الحقيقيين.

ضرورة العشاء الرباني

في قول المسيح: «اصنعوا هذا لذكري» أوجب على كل تابعيه الأمناء - من ذلك الحين إلى أن يجيء ثانية - أن يطيعوا أمره ويمارسوا هذا السر المقدس، فتمتلئ أفكارهم بذكر موته الكفاري لأجل البشر، وذكر عشاء العرس المُعدّ لجميع المؤمنين. وهو عشاء تفيض فيه كأس ابتهاجهم إذ يتمتعون بالقداسة التامة والسعادة الكاملة إلى أبد الآبدين.

وهذا العشاء الرباني دليل الاشتراك الحبي بين المؤمنين وعربونه أيضاً. لذلك قال المسيح في وليمة الحب هذه: «يا أولادي، وصية جديدة أنا أعطيكم، أن تحبوا بعضكم بعضاً. كما أحببتُكم أنا تحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إنْ كان لكم حبٌ بعضاً لبعض». هذا هو الحب الأخوي المتبادل بين المؤمنين الحقيقيين الذي يجعل الأخ في الإيمان أقرب من الأخ الطبيعي الخارج عن الإِيمان.

«حِينَئِذٍ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ ٱلرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ ٱلرَّعِيَّةِ. وَلٰكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ». فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «وَإِنْ شَكَّ فِيكَ ٱلْجَمِيعُ فَأَنَا لا أَشُكُّ أَبَداً». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ فِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُنِي ثَلاثَ مَرَّاتٍ». قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «وَلَوِ ٱضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لا أُنْكِرُكَ!» هٰكَذَا قَالَ أَيْضاً جَمِيعُ ٱلتَّلامِيذِ» (متى 26: 31-35).

لما قال المسيح لتلاميذه إنه سيفارقهم عن قريب إلى حيث لا يستطيعون أن يأتوا تحمس بطرس واعترض كعادته، وكان كلامه جميلاً ناتجاً عن نيَّة صادقة وحب قلبي، لكنه لم يعرف ضعفه. فاضطر المسيحُ أن يفهمَه أنه قبل أن يصيح الديك في الصبح القادم ينكر سيده ثلاث مرات. ولئلا يفتخر التلاميذ أو يشمتوا في بطرس قال أيضاً: «كلكم تشكون فيّ (أي تتركونني) في هذه الليلة». فتصحُّ النبوة «اِضْرِبِ ٱلرَّاعِيَ فَتَتَشَتَّتَ ٱلْغَنَمُ» (زكريا 13: 7). كان المسيح قد أوصاهم أن يحبوا بعضهم بعضاً كما أحبهم هو، وهي وصية تقضي على كلٍ منهم أن يدافع عن إخوته، وينفي عنهم احتمال الارتداد، فخالف بطرس حالاً روح هذه الوصية في دفاعه عن نفسه وعدم دفاعه عن إخوته. لا بل سلّم ضِمناً بإمكانية سقوط إخوته واستحالة سقوطه هو، فلم يتَّعظ بتحذير سليمان الحكيم في قوله: «قَبْلَ ٱلْكَسْرِ ٱلْكِبْرِيَاءُ، وَقَبْلَ ٱلسُّقُوطِ تَشَامُخُ ٱلرُّوحِ» (أمثال 16: 18).

تشجيع لبطرس

«وَقَالَ ٱلرَّبُّ: «سِمْعَانُ سِمْعَانُ، هُوَذَا ٱلشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَٱلْحِنْطَةِ! وَلٰكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لا يَفْنَى إِيمَانُكَ. وَأَنْتَ مَتَى رَجَعْتَ ثَبِّتْ إِخْوَتَكَ». فَقَالَ لَهُ: «يَا رَبُّ، إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى ٱلسِّجْنِ وَإِلَى ٱلْمَوْتِ». فَقَالَ: «أَقُولُ لَكَ يَا بُطْرُسُ، لا يَصِيحُ ٱلدِّيكُ ٱلْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ تُنْكِرَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ أَنَّكَ تَعْرِفُنِي».

ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ بِلا كِيسٍ وَلا مِزْوَدٍ وَلا أَحْذِيَةٍ، هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَيْءٌ؟» فَقَالُوا: «لا». فَقَالَ لَهُمْ: «لٰكِنِ ٱلآنَ، مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذٰلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضاً هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ. لأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي لَهُ ٱنْقِضَاءٌ». فَقَالُوا: «يَا رَبُّ، هُوَذَا هُنَا سَيْفَانِ». فَقَالَ لَهُمْ: «يَكْفِي» (لوقا 22: 31-38).

عرف المسيح أن بطرس سيسقط سقوطاً سريعاً ومخيفاً. وأراد أن يشجعه لينهض بعد السقوط، ويحذّره لئلا يفتخر بعد نهوضه، فقال له: «سمعان، سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة. ولكني قد طلبتُ من أجلك لكي لا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعت فثبِّت إخوتك».

من قول المسيح: «الشيطان طلبكم» نتعلم أن الشيطان يخطّط أموراً كهذه، وأن اللّه يسمح بها أحياناً لمقاصد خيريّة بحتة. ميَّز المسيح بطرس في شفاعته لأن سقوط بطرس سيكون أشرَّ من سقوط رفقائه، وذلك على رغم افتخاره عليهم. لم يطلب المسيح لأجله أن لا يتزعزع إيمانه، لأن بطرس يحتاج إلى درس قوي يعلّمه التواضع والتوكل - درس يتعلمه من تزعزع إيمانه، ومن نتيجة ذلك في إنكاره الفظيع. بل طلب المسيح أن لا يفنى إيمان بطرس كما فني إيمان يهوذا، فشنق نفسه، وقد استُجيب هذا الطلب.

علّم المسيح بطرس ما عليه من الاهتمام بإخوته المعرَّضين للسقوط، لأنه يقدر أن يجعل اختباره في السقوط ثم في النهوض نافعاً لهم أيضاً. لكن بطرس أصرَّ على ثقته بنفسه أنه لا يسقط، وكرر تأكيده أنه يمضي مع سيده إلى السجن وحتى إلى الموت، فاضطر المسيح أن يؤكد له بعبارة أقوى من الأولى أنه سيسقط، لكنه مع كل ذلك كرر ثالثة اختلافه مع إعلان المسيح، وهو لا يدرك أنه بتكراره هذا يجعل المسيح كاذباً. فارتقاء المؤمن في النجاح الديني لا يرجع إلى قوته، بل يقول مع الرسول بولس: «مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لا يَسْقُطَ» (1كورنثوس 10: 12).

ثم ذكَّر المسيح تلاميذه بعنايته السابقة بهم، فإنه عندما أرسلهم للكرازة لم يحتاجوا إلى شيء، لكن الأحوال تغيَّرت الآن. فعندما أرسلهم للكرازة الأولى كان ذلك لزمن قصير، وفي بلادهم (لوقا 9: 3). أما الآن فسيسافرون طويلاً ليكرزوا وسط الغرباء، فيلزم أن يتغير الأمر، فليأخذوا معهم نقوداً. ومن ليس له نقود فليبع ثوبه ليشتري سيفاً للدفاع عن النفس ضد اللصوص. والمسيح يقصد أن يستخدم المؤمن حكمته في الدفاع عن نفسه، عندما يقف العالم ضده.

وواضح أن المسيح لم يكن يتكلم عن دفاع تلاميذه عنه بالسيف المعدني، لأنه يقول إن ما تنبأت به التوراة عن موته لا بد أن يحدث. ولما قالوا له: «يا رب هوذا هنا سيفان» قال لهم: «يكفي» وهي كلمة كان علماء الدين يستخدمونها ليُسكِتُوا بها جهالة بعض تلاميذهم عندما لا يفهمون المعاني العميقة لتعاليمهم. وعندما لم يفهم التلاميذ قصد المسيح، قال لهم: «ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلسَّيْفَ بِٱلسَّيْفِ يَهْلِكُونَ» (متى 26: 52) فلم يكن المسيح يطالب تلاميذه باستخدام العنف للدفاع عنه.

10 - خطاب المسيح في العلية (يوحنا 14-16)

بعد أن رسم المسيح فريضة العشاء الرباني، ألقى على تلاميذه حديثاً يشغل الأصحاحات 14-16 من بشارة يوحنا. يبتدئ بقوله: «لا تضطرب قلوبكم. أنتم تؤمنون باللّه فآمنوا بي. في بيت أبي منازل كثيرة، وإلا فإني كنت قد قلتُ لكم. أنا أمضي لأُعدَّ لكم مكاناً، وإنْ مضيتُ وأعددتُ لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً». أليس هذا كلاماً مدهشاً جداً من إنسان يعلم جيداً أنه قبل غروب شمس الغد يكون تلاميذه الذين يكلّمهم هكذا، مشتَّتين يختبئون من أمام أعدائه وأعدائهم؟ ويكون هو جثة هامدة على صليب بين لصين؟ فبأي حقٍ يتكلم كغالبٍ وليس كمغلوب؟ وماذا نقول في كلماته التالية: «أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي. الذي رآني فقد رأى الآب. الحق الحق أقول لكم: من يؤمن بي، فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً، ويعمل أعظم منها، لأني ماضٍ إلى أبي. مهما سألتم باسمي فذلك أفعله ليتمجد الآب بالابن».

ثم يأتيهم بأعظم مواعيده، لأن عليه يتوقف حُسن مستقبلهم، وكيان كنيسته، ونجاح أفرادها في كل الأزمان. قال: «أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم. وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلّمكم كل شيء، ويذكّركم بكل ما قلتُه لكم». ويكرر كلاماً في ارتباط المحبة له مع حفظ وصاياه، ويبيّن النتيجة الجميلة لحفظ وصاياه في قوله: «إنْ أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً».

أي تفسير لهذا كله إلا أن المسيح - اللّه الذي ظهر في الجسد - يقول هذا الكلام العظيم بسلطان إلهي عظيم... هو رئيس السلام الذي كان السلام موضوع بشارة الملائكة عند ولادته، فيقول: «سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا». ليس «عليه السلام» كالأنبياء بل «منه السلام» كما صرح بذلك الرسل في الرسائل. ولكي لا يستسلموا للحزن يقول: «لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني قلت أمضي إلى أبي، لأن أبي أعظم مني».

ثم تنتقل أفكاره من تلاميذه إلى ما يجري في المدينة بقربهم في نصف الليل، لأنه يرى ما يرونه من التجمهُر في دار رئيس الكهنة، استعداداً لأعظم جريمة في التاريخ. ويرى ليس فقط الرؤساء وأعوانهم، وحركات الإسخريوطي الخائن بينهم، بل يرى أيضاً رئيس الشياطين الذي يقوده هؤلاء في مكائدهم الأثيمة، دون أن يشعروا بحضوره الروحي بينهم. ووقفته ورؤيته في كلامه عند قوله: «لا أتكلم معكم أيضاً كثيراً، لأن رئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيّ شيء». كان للشيطان رئيس هذا العالم في كل نبي شيء. لكن ليس للشيطان شيء في ابن الإِنسان، الكامل الخالي من كل خطية وخطأ.

مَثَل الكرمة

«أَنَا ٱلْكَرْمَةُ ٱلْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي ٱلْكَرَّامُ. كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لا يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ، وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ. أَنْتُمُ ٱلآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ ٱلْكَلامِ ٱلَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ. اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ. كَمَا أَنَّ ٱلْغُصْنَ لا يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي ٱلْكَرْمَةِ، كَذٰلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ» (يوحنا 15: 1-4).

في هذه الكلمات أوضح المسيح العلاقة المتينة بينه وبين المؤمنين به، عندما شبَّه ذاته بالكرمة وشبَّههم بالأغصان، وعلَّمهم أن المهم فيه وفيهم هو الإثمار، لأن بهذا يتمجد اللّه.. إنه يُظهِر أثماره بواسطتهم كما تُظهِر الكرمة أثمارها بواسطة أغصانها. أما الذين لا يثمرون فيُقطَعون ويُحرَقون. والوسيلة الوحيدة والكافية للإثمار هي الثبات فيه، أي الالتصاق التام به. فأيُّ انفصال بين الكرمة والغصن يمنع الإِثمار، ويجفف الغصن ويميته. والثبوت فيه يحقق ثبوت فرحه فيه، وهذا ما يرغب ويقصد أن يتمتعوا به. وما أعجب تفكير المسيح وتكلُّمه بالفرح في هذه الساعة الهائلة!

ثم صرح المسيح برُكن متين لإيمانهم هو أنه اختارهم قبل أن يختاروه. وجعل طاعتهم لوصيته الجديدة (التي هي المحبة الأخوية) برهان محبتهم له. وذكّرهم أنه لم يتصرف معهم حسب حقوقه كسيد مع عبيده، بل كحبيب بين أحباء. ويقول برهاناً لذلك: «لأني أعلمْتُكم بكل ما سمعتُه من أبي». وشجعهم لأجل سنوات الاضطهاد التي تنتظرهم قائلاً إن العالم قد أبغضه أولاً، وإنه تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلهم أنه يقدم خدمة للّه، وإن سبب عدم إيضاحه لذلك من البداية أنه كان معهم بالجسد، «فليس العبد أعظم من سيده. ولا التلميذ أفضل من معلمه». وسبب بُغْض العالم هو أشرف سبب، لأنهم ليسوا من العالم ليحبهم، ولأن العالم لا يعرف الآب ليحب أولاده، أو ليحب الابن الوحيد الذي نزل من حضنه في السماء.

حزن التلاميذ كثيراً من كلام المسيح هذا، لأنه فوق حزنهم على تأكيده بأنه سيتركهم، طلب منهم أن يتوقعوا الاضطهاد المميت، فنبَّههم إلى فوائد المصيبة الأولى، أي تركه إياهم، فقال: «لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم؟ أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إنْ لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. لكن إنْ ذهبت أرسله إليكم. متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمعه يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية. كل ما هو للآب فهو لي».

ثم كرر المسيح إشارته السابقة إلى أنهم سيتركونه عن قريب وحده، ولكننا لا نجد في كلامه أقل غيظ أو مرارة، بل بالعكس. لأنه يقول: «كلَّمتُكم بهذا ليكون لكم فيّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم».

المسيح يصلي لأجل تلاميذه (يوحنا 17)

بعد أن انتهى المسيح من تعليمه، رفع عينيه نحو السماء في الصلاة، وقدم الصلاة المؤثرة الشفاعية التي هي أعظم ما كُتب من صلواته، وتستحق أن يدرسها المطالع بدِقَّة في الإنجيل، وأن يلاحظ اتّفاقها مع الخطاب الذي سبقها. وفيها ردَّد نغمة المجد ونغمة الوحدة. نراها خالية من الأنين والحزن بالرغم من الظروف الخارجية الداعية إلى ذلك، بل نراها عامرة بأصوات المجد والابتهاج والوحدة. وإليك بعض ما جاء فيها:

«أَيُّهَا ٱلآبُ، قَدْ أَتَتِ ٱلسَّاعَةُ. مَجِّدِ ٱبْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ٱبْنُكَ أَيْضاً، إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلْطَاناً عَلَى كُلِّ جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ. وَهٰذِهِ هِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ ٱلإِلٰهَ ٱلْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ ٱلَّذِي أَرْسَلْتَهُ. أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. ٱلْعَمَلَ ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ. وَٱلآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا ٱلآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِٱلْمَجْدِ ٱلَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ ٱلْعَالَمِ. «أَنَا أَظْهَرْتُ ٱسْمَكَ لِلنَّاسِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ ٱلْعَالَمِ. كَانُوا لَكَ وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي، وَقَدْ حَفِظُوا كَلامَكَ. وَٱلآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ، لأَنَّ ٱلْكَلامَ ٱلَّذِي أَعْطَيْتَنِي قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ، وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِيناً أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ، وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي. مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ ٱلْعَالَمِ، بَلْ مِنْ أَجْلِ ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لأَنَّهُمْ لَكَ. وَكُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ، وَمَا هُوَ لَكَ فَهُوَ لِي، وَأَنَا مُمَجَّدٌ فِيهِمْ. وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي ٱلْعَالَمِ، وَأَمَّا هٰؤُلاءِ فَهُمْ فِي ٱلْعَالَمِ، وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ. أَيُّهَا ٱلآبُ ٱلْقُدُّوسُ، ٱحْفَظْهُمْ فِي ٱسْمِكَ. ٱلَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا نَحْنُ» (يوحنا 17: 1-12).

تكشف هذه الصلاة عن محبة عجيبة لا متناهية في قلب المسيح نحو تلاميذه، تتجاوز منهم إلى كل من يؤمن بالمسيح بواسطة كلامهم، ونحن منهم. وهي أساس الرجاء بالخلاص، لأنه ما دام المخلِّص المقتدر يحب هكذا، ويتعهد للآب أن يحفظ جميع الذين أعطاهم له الآب حتى لا يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك، يحقُّ لكل مؤمن حقيقي أن يثق بأن هذا المخلص سيحفظه ويصلحه ويقدمه أخيراً أمام عرش الآب مكمَّلاً.

بعد الصلاة والخطاب سبَّحوا، ثم خرج المسيح ومضى كالعادة مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون إلى جبل الزيتون. أما تسبحتهم فكانت تلك الترتيلة التي رنموها وقت الانصراف بعد عشاء الفصح. فكم كان تأثُّر التلاميذ وهم يرنمون: «ٱكْتَنَفَتْنِي حِبَالُ ٱلْمَوْتِ. أَصَابَتْنِي شَدَائِدُ ٱلْهَاوِيَةِ. كَابَدْتُ ضِيقاً وَحُزْناً. ٱلرَّبُّ لِي فَلا أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُ بِي ٱلإِنْسَانُ. ٱلْحَجَرُ ٱلَّذِي رَفَضَهُ ٱلْبَنَّاؤُونَ قَدْ صَارَ رَأْسَ ٱلزَّاوِيَةِ. مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ كَانَ هٰذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا. مُبَارَكٌ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ. بَارَكْنَاكُمْ مِنْ بَيْتِ ٱلرَّبِّ. ٱلرَّبُّ هُوَ ٱللّٰهُ وَقَدْ أَنَارَ لَنَا. أَوْثِقُوا ٱلذَّبِيحَةَ بِرُبُطٍ إِلَى قُرُونِ ٱلْمَذْبَحِ. ٱحْمَدُوا ٱلرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى ٱلأَبَدِ رَحْمَتَهُ» (مزامير 116: 3، 118: 6 و22-29).

مسابقة الكتاب

عزيزي القارئ،

إن أرسلت إلينا إجابة صحيحة على عشرين سؤالاً من الأسئلة الخمسة والعشرين التالية، نرسل لك كتاباً جائزة من كتبنا المختلفة. نرجو أن ترسل مع الإجابة اسمك وعنوانك واضحين لنرسل لك الجائزة.

  1. اذكر أسماء الأمثال الثلاثة التي رواها المسيح في لوقا 15 ولماذا رواها؟

  2. كيف ظهرت توبة الابن الضال؟

  3. ما هو الشيء الذي لا يتأنى فيه الخالق أبداً؟

  4. اذكر درساً تتعلمه من مثل الابن الأكبر.

  5. اذكر درساً تتعلمه من مثل الوكيل الظالم.

  6. اذكر فائدة حصلت عليها من مثل الغني ولعازر.

  7. ماذا كانت نبوة قيافا عن المسيح؟

  8. اذكر فائدة حدثت من إقامة لعازر من الموت.

  9. ما هي الآية الجميلة التي قالها المسيح عن الأطفال؟ اكتب شاهدها.

  10. لماذا قال المسيح للشاب الغني: «ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله؟»

  11. ماذا تفعل لو أردت أن تكون أولاً؟

  12. كيف برهن زكا أنه قد حصل على الخلاص؟

  13. لماذا قبل المسيح أن يحتفل به الشعب كملك يوم الدخول الانتصاري لأورشليم؟

  14. لماذا بكى المسيح على أورشليم؟

  15. ماذا تتعلم من لَعن التينة غير المثمرة؟

  16. بأي سلطان طهر المسيح الهيكل للمرة الثانية؟

  17. لماذا رفض المدعو للعرس أن يلبس الحلة الملكية؟ وما هو الدرس الذي تتعلمه من هذا؟

  18. كيف برهن المسيح أن الله إله أحياء؟

  19. ما هي أعظم وصية؟

  20. اشرح مزمور 110: 1.

  21. ماذا يعلمنا مثل العذارى الحكيمات والجاهلات؟

  22. ما هي العلامة التي تميز الخراف من الجداء؟ (انظر متى 25: 31-46).

  23. اذكر درسين تعلمتهما من غسل المسيح أرجل تلاميذه.

  24. كيف ترى أن المسيح قصد بقوله: «هذا هو جسدي» قصداً روحياً لا حرفياً؟

  25. ما هي علاقة الكرمة بالأغصان - وكيف تصف هذه العلاقة صلة المؤمن المتينة بالمسيح؟

أرسل الإجابة فقط بدون تعليقات أخرى لئلا تُهمل، ونحن بانتظار إجابتك.


Call of Hope
P.O.Box 100827 
D-70007 
Stuttgart 
Germany