العودة الى الصفحة السابقة
سيرة المسيح

سيرة المسيح

الكتاب الخامس: جوهره واتِّباعه

الدكتور. جورج فورد


Bibliography

سيرة المسيح. الكتاب الخامس: جوهره واتِّباعه. الدكتور. جورج فورد. الطبعة الأولى. 1986. Order Number SPB 7355 ARA. German title: Sein Wesen und Nachfolge (Heft 5). English title: His Essence and Discipleship (booklet 5). Copyright © 1986 All Rights Reserved Call of Hope. P.O. Box 100827 D-70007 Stuttgart Germany Internet: http://www.call-of-hope.com - .

هذا الكتاب

يسر أسرة «نداء الرجاء» أن تصدر هذا الكتاب عن حياة السيد المسيح، في سبعة أجزاء.

وقد كتب هذا الكتاب في مجلد واحد باللغة العربية الدكتور جورج فورد في أوائل العشرينات من هذا القرن، بعنوان «كتاب القول الصريح في سيرة يسوع المسيح».

وقد قام محررو نداء الرجاء بإعادة كتابته في الصورة التي تراها الآن.

ونحن نأمل أن يتعرَّف القارئ الكريم على المسيح بطريقة شخصية، وأن يكون شعاره «نحن نحبه لأنه هو أحبّنا أولاً».

أسرة «نداء الرجاء»

1 - من هو المسيح وماذا سيفعل؟

«ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَتَلامِيذُهُ إِلَى قُرَى قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ. وَفِي ٱلطَّرِيقِ سَأَلَ تَلامِيذَهُ قَائِلا: «مَنْ يَقُولُ ٱلنَّاسُ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابُوا: «يُوحَنَّا ٱلْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلأَنْبِيَاءِ». فَقَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ!» فَٱنْتَهَرَهُمْ كَيْ لا يَقُولُوا لأَحَدٍ عَنْهُ» (مرقس 8: 27-30).

ارتحل المسيح وتلاميذه شمالاً، سفر نحو يومين، إلى سفح جبل الشيخ في نواحي قيصرية فيلبس، وهناك وجَّه لهم السؤال: «من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟». وكعادته لم يكن سؤاله للاستفهام، بل لخير الذين يطلب منهم الجواب. طلب منهم أن يخبروه برأي الناس فيه كابن الإنسان فقط، لأن العامة لا يرون إلا ناسوته. فأجابوه أن الناس في حيرة من جهته. يعتبرونه نبياً عظيماً، لكن لا يتصورونه نبياً جديداً. يظنون أنه إيليا أو إرميا أو المعمدان أو نبي آخر قديم قد ظهر ظهوراً جديداً. والظاهر أن ليس أحد يقول إنه المسيح المنتظر.

هل هذه هي النتيجة بعد خدمته ثلاث سنين؟ هل ذهبت أتعابه أدراج الرياح؟ قد أصاب البشير بقوله: «إن النور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه» (يوحنا 1: 5). بعد إشباعه الخمسة الآلاف قال عنه الجمع: «إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم»(يوحنا 6: 14). أي النبي الذي ينبغي أن يظهر قبل مجيء المسيح ليعلن مجيئه.

كان سؤال المسيح عن رأي الناس فيه مقدمة للسؤال الأهم، عن رأي تلاميذه الذين ثبتوا بعد ارتداد الأكثرين عنه. وبعد سنوات الدرس والتمرين، أتت الساعة ليفحصهم فيعرف أفكارهم في شخصية المعلِّم وليس فقط في تعليمه. لذلك سألهم: «وأنتم من تقولون إني أنا؟» - دون حصر سؤاله كالمرة الأولى في كونه ابن الإنسان.

لا ريب أنهم كانوا قد تحدثوا في ما مضى وتحاوروا في الأمر الذي سألهم عنه الآن، وتمسكوا طوال حياتهم بالآمال السياسية العالمية المتعلقة بمجيء المسيح، فيكون تركها تماماً من أصعب الأمور. ولكن المسيح أراد أن يمحو هذه الفكرة منهم، وأن يقطعها نهائياً. ليت الجميع يدركون ضرورية «القطع والبتّ»، دون تردد أو إمهال في تقرير المعتقَد الديني، ومباشرة السلوك بموجبه.

وكم كان ابتهاج المسيح عظيماً لما أخذ من تلاميذه - بفم بطرس - ذلك الجواب المستوفي الصريح: «أنت المسيح ابن الله الحي»(يوحنا 6: 69). كان السؤال الأول للمسيح: ما القول فيه كابن الإنسان. فجاءه في الجواب الثاني «أنت ابن الله». فما أعظم سر التقوى الذي أشار الرسول بولس إليه وهو أن الله ظهر في الجسد (1 تيموثاوس 3: 16) أي أن القولين في المسيح إنه ابن الإنسان وإنه ابن الله الحي صادقان، على رغم ما بظاهرهما من التناقص. أخذ المسيح لنفسه لقب الاتضاع، واعترف بطرس له بلقب الارتفاع. لم يبتهج المسيح لهذا الجواب، لأن الشياطين سبقت إلى مثل هذا الاعتراف مراراً، وكذلك يوحنا المعمدان ونثنائيل. وبطرس ذاته أجاب قبلاً بهذه الألفاظ. لكن المسيح ابتهج لروح بطرس وزملائه، وللإيمان الثابت بعد تمحيص الحوادث السابقة. فطوَّب المسيح بطرس حالاً شخصياً تطويباً لم نقرأ أنه أسبغه على غيره إذ قال: «طوبى لك يا سمعان بن يونا» (متّى 16: 17).

ليس في هذا التطويب مديح لبطرس، بل تهنئة لحظِّه الممتاز. وقد ظهر هذا في قول المسيح لبطرس: «إن لحماً ودماً لم يعلن لك، لكن أبي الذي في السموات»(متّى 16: 17) فليس شيء مما قاله أو فعله بطرس مجلبة لهذا التطويب، بل ما ناله من كلام الإله الذي أعلن له بإلهام روحي تلك النبوة الفريدة. ونحن نعلم أن نور الخلاص - مثل هذا الإعلان لبطرس - لا يمكن أن يأتي من البشر، فالبشر يهيئون السراج والزيت، لكن النور من عمل الإله. وقد قال الرسول بولس: «لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ» إِلا بِٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (1 كورنثوس 12: 3).

أعطيك مفاتيح الملكوت

«فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَقَالَ: «أَنْتَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لٰكِنَّ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضاً: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هٰذِهِ ٱلصَّخْرَةِ أَبْنِي كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ ٱلْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا. وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى ٱلأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى ٱلأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي ٱلسَّمَاوَاتِ». حِينَئِذٍ أَوْصَى تَلامِيذَهُ أَنْ لا يَقُولُوا لأَحَدٍ إِنَّهُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ» (متى 16: 16-20).

ثم كرر المسيح لبطرس ذِكْر الإسم الذي دعاه به بياناً لثباته (بطرس معناه: صخرة) وكأن المسيح يقول لرسوله المقدام: «أنت يا بطرس قد برهنت ثباتك الصخري في هذه الأحوال الصعبة لما كررت بيان حقيقة كوني في شخصي الواحد: المسيح البشري وابن الله الحيّ. وأنا أصرح لك أني سأبني كنيستي على صخرة هذه الحقيقة الجوهرية التي نطقت بها الآن، بعد أن أُعلنت لك من أبي الذي في السماوات. وكل مقاومات العالم، وقوات الجحيم إلى آخر الأيام لا يمكن أن تتغلب على الكنيسة المؤسسة على هذه الحقيقة. أصرّح لك وللذين نُبت عنهم في الجواب، بأني قد عينتكم لتنوبوا عني وتكملوا عملي بعد صعودي إلى السماء. أعطيكم مفاتيح ملكوت السماوات، لتفتحوا باب الخلاص بتبشيركم في كل البلدان، وتدخلوا إلى كنيستي الذين ترونهم من أهل الخلاص، لأنهم أتّموا شروط الخلاص. أخوّلكم سلطاناً لتصرِّحوا بالهلاك الأبدي للذين يرفضون شروط الخلاص، ويتأخرون عن التوبة والإيمان والصلاح. تحلون وتربطون هذه أيضاً بواسطة كتابكم الإنجيل - يقودكم إلهام الروح الإلهي. فكل ما تضعونه في هذا الكتاب يكون مصدَّقاً في السماء، وكل ما تتركونه يكون متروكاً في السماء. لأن ما تكتبونه من الواجبات والمحرمات يكون ما سمعتموه مني، أو ما تأخذونه بإلهام روحي، فيصلح أن يكون قانون كنيستي إلى كل الأزمان. وسأعطيكم نصيباً خصوصياً وكافياً من روح النبوة وتمييز الأرواح، تأهيلاً لهذه المهمة الفائقة. وأجعلكم أهلاً له بسكب الروح القدس عليكم سكباً عجيباً، تحقق لكم ولجميع الناس، أنكم نوابي المفوّضين. وسأمنحكم ختماً لكل ذلك: قوة لفعل المعجزات العظيمة. أسلّمكم هذا العمل الخطير لأني أسندكم فيه فتستطيعونه».

ماذا سيفعل المسيح؟

«وَٱبْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً، وَيُرْفَضَ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. وَقَالَ ٱلْقَوْلَ عَلانِيَةً، فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَٱبْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ. فَٱلْتَفَتَ وَأَبْصَرَ تَلامِيذَهُ، فَٱنْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلاً: «ٱذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ، لأَنَّكَ لا تَهْتَمُّ بِمَا لِلّٰهِ لٰكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ» (مرقس 8: 31-33).

بعد اعتراف بطرس هذا، طلب المسيح من تلاميذه أن لا يقولوا لأحد إنه يسوع المسيح، لأن ساعته لم تأت بعد. ثم أعلن لهم لأول مرة صريحاً غاية مجيئه من السماء، فابتدأ يعلّمهم أنه سيتألم كثيراً في أورشليم ويرفضه الرؤساء ويقتلونه ثم يقوم في اليوم الثالث. انتظر إلى أن يرسخ في قلوبهم اليقين بسرّ تأنُّسه، ويعترفون به بلسانهم صريحاً ونهائياً قبل أن يعلن لهم أمر آلامه وموته ثم قيامته. لأن فهم عمل الفداء بموته يتوقف على تأنُّسه - أي طبيعته المزدوجة. فإن لم يعرفوه المسيح ابن الله وابن الإنسان، لا يدركون معنى موته وقيامته. وكل من يرفض حقيقة التأنُّس لا يترك مكاناً للفداء. لذلك ترى الذين ينكرون لاهوت المسيح ينكرون أيضاً كفارته، لأن القضيتين مرتبطتان برباط لا يُحل.

لكن هذا الإعلان الجديد خالف كل آمال التلاميذ، فلم يقدر بطرس أن يسكت، بل تجاسر وأخذ المسيح على جانب وابتدأ ينتهره. يا للعجب! إن الذي اعترف في هذه الساعة أن هذا السيد هو ليس المسيح العظيم فقط، بل ابن الله الحي، ينتهره ويكذَّبه بقوله: «حاشاك يا رب! لا يكون لك هذا». فما رآه بطرس في نفسه غيرةً حبية نحو سيده، كان بالحقيقة انتصاراً شيطانياً فتح له بطرس الباب، لأن الأسد الزائر إبليس كامنٌ لهذا الرسول المقدام، فوثب عليه في ساعة ارتفاعه، وأوقعه إلى الأرض مهشَّماً. كان خيراً لكل ناجح وممدوح ومرتفع لو تحذَّر من حيل الشيطان لإسقاطه. ولنا هذا التحذير في قول الرسول: «مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ فَلْيَنْظُرْ أَنْ لا يَسْقُطَ» (1 كورنثوس 10: 12). وقال سليمان الحكيم: «قَبْلَ ٱلْكَسْرِ ٱلْكِبْرِيَاءُ، وَقَبْلَ ٱلسُّقُوطِ تَشَامُخُ ٱلرُّوحِ» (أمثال 16: 18).

لم يحتمل المسيح هذا الكلام بل انتهر الشيطان الذي تكلم في بطرس. ووبخ بطرس توبيخاً مراً، وقال له: «اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس». رأى المسيح عالم الخفايا أن نوايا بطرس لم تخل من حب المجد العالمي، فاستحق هذا التوبيخ الصارم. ولأنه تلميذ حقيقي احتمله بمحبة، ولذلك وبخه. قال الحكيم: «وَبِّخْ حَكِيماً فَيُحِبَّكَ» (أمثال 9: 8). وأيضاً: «وَبِّخْ فَهِيماً فَيَفْهَمَ مَعْرِفَةً» (أمثال 19: 25).

شروط اتباع المسيح

«وَدَعَا ٱلْجَمْعَ مَعَ تَلامِيذِهِ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي. فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ ٱلإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي ٱلإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟» (مرقس 8: 34-37).

ثم دعا المسيح تلاميذه مع الجمع الذي كان قد انفرد عنه، وأعلن لهم الشروط الثلاثة الشهيرة المطلوبة من تابعيه.

  1. الشرط الأول: «إنكار الذات» أي تسليم زمام الذات والحياة له. لما أنكر بطرس المسيح قال: «لا أعرفه». ومن يتبع المسيح حقاً وينكر نفسه يقول: لا أعرف نفسي حاكماً في حياتي، بل ربي هو الحاكم. سأعطي كل السيطرة على حياتي للمسيح الذي أحبني.

  2. الشرط الثاني: حَمل الصليب يومياً. وهذا بالأكثر هو التمثُّل بالمسيح الذي حمل صليباً لم يضعه آخر عليه، بل هو قصده وأقامه وحمله حبّاً ليخلّص النفوس من الخطيئة والهلاك. وحَمْل الصليب وراء المسيح هو الإقدام على المصائب والمتاعب الجسدية - حتى الموت - تطوُّعاً لا إرغاماً، متى كان ذلك اهتماماً بتخليص النفوس، فليس هذا الشرط (في معظمه) احتمال صليب يوضع علينا، بل حمل صليب نقصده ونرفعه باختيارنا لخير الآخرين.

  3. الشرط الثالث: اتِّباع المسيح، أي السير في خطواته بالتدقيق، دون كلل أو فتور، ودون تردُّد أو ارتداد. هو الراعي الذي يتقدم خرافه فتسير وراءه أمينة وآمنة. ثم أوضح المسيح أن هذه الشروط الثلاثة مبنية على حقيقة رئيسية في شريعة النعمة، وهي أن الذي يطلب السلامة أولاً يخسرها، والذي يطلب الخدمة أولاً يجد السلامة أيضاً. والذي يتهم أولاً بأن يحمي ذاته لا يحميه الرب فلا يسلم، أما الذي يتفرغ أولاً لخدمة الرب ويرضى أن يهجم على المخاطر في سبيل هذه الخدمة، فهذا يحميه الرب فيسلَم.

ثم قال السيد المسيح: «ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، أو ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟» - هنا يسأل المسيح سامعيه: هل قيمة العالم بأسره تساوي قيمة نفس واحدة؟ والجواب: هذا غير ممكن، طالما العالم وكل ما فيه من الخيرات والأمجاد يزول، بينما النفس خالدة تبقى إلى الأبد. إذاً ما أعظم غباوة الذي يهمل أمور النفس في سيره وراء الأرباح العالمية. لأنه لو ربح العالم كله ثم أراد أن يشتري به الخلاص، يجد ذلك مستحيلاً.

وأخيراً أنذر المسيح سامعيه أن لا يستحوا به ولا بكلامه. ولو استهان ذلك الجيل الفاسق الخاطئ به وبهم، فإنه سيجيء يوماً في مجد أبيه مع الملائكة ليجازي كل واحد حسب عمله، ويستحي بالذي استحى به أولاً.

2 - المسيح على جبل التجلي

«وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ مُنْفَرِدِينَ وَحْدَهُمْ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدّاً كَٱلثَّلْجِ، لا يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى ٱلأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذٰلِكَ. وَظَهَرَ لَهُمْ إِيلِيَّا مَعَ مُوسَى، وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ مَعَ يَسُوعَ. فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقولُ لِيَسُوعَ: «يَا سَيِّدِي، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هٰهُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاثَ مَظَالَّ، لَكَ وَاحِدَةً وَلِمُوسَى وَاحِدَةً وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً». لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ. وَكَانَتْ سَحَابَةٌ تُظَلِّلُهُمْ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ ٱلسَّحَابَةِ قَائِلاً: «هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ. لَهُ ٱسْمَعُوا». فَنَظَرُوا حَوْلَهُمْ بَغْتَةً وَلَمْ يَرَوْا أَحَداً غَيْرَ يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُمْ» (مرقس 9: 2-8).

أعلن المسيح لتلاميذه أنه سيُقتل وبعد ثلاثة أيام يقوم. ولكن التلاميذ رفضوا الفكرة بلسان زعيمهم بطرس.

وأراد المسيح أن يثبت لهم ضرورة صليبه. فأخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا، وصعد بهم إلى جبل عال. أما التلاميذ التسعة الآخرون فتركهم مع الجمهور عند أسفل الجبل.

ولا نعرف كل تفاصيل ما حدث على هذا الجبل الذي سماه بعدئذ «الجبل المقدس» (2 بطرس 1: 18). لكن يرجح أن الأربعة بلغوا قمة الجبل في آخر النهار. وبينما كان المسيح منصرفاً بكليته إلى الصلاة، تثقَّل التلاميذ الثلاثة بالنوم. ولو علموا بخسارتهم في هذا النوم، لسهروا معه ولم يتركوه وحده في صلاته - لأنه بينما هم مثقلون بالنوم، طرأ على هيئته الطبيعية تغيير عجيب، فكأنه خلع ستار الاتضاع الوقتي، وأبرق نور مجده الأصلي الحقيقي. أي أن الآب استجاب صلاته ومجَّده لينشِّط ويثبِّت تلاميذه أيضاً. مجَّده بهيئته التي تغيّرت وبصحبة موسى وإيليا، لأنه لم يرسل له ملاكاً حسب المألوف في تاريخ شعبه - بل أرسل له رجلين ظهرا بمجد، وهما موسى زعيم الشريعة وإيليا زعيم الأنبياء.. موسى كليم الله وفخر بني إسرائيل الأعظم، المتَّصف بالحلم والوداعة. هذا دفنه الله قبل هذا الحادث بنحو 1500 سنة في رأس جبل، ولا يُعرف قبره إلى هذا اليوم، وربما تمجد جسده دون أن يرى فساداً.. وإيليا رجل الله الجبار المليء بالنشاط والغيرة ومحاربة الشر، حتى أنه سُمِّي بالنبي الناري، الذي صعد إلى السماء قبل هذا الحادث بنحو ألف سنة في مركبة نارية، ولم يمسه الموت الطبيعي. أعاد الله هذين الرجلين من عالم الأرواح إلى الأرض ليتكلَّما مع الابن الوحيد في موضوع صليب المسيح.

الصليب موضوع الحديث:

كان موضوع الحديث الذي دار بين هؤلاء على مقربة من الثلاثة النائمين، إعلان موت المسيح العتيد، الذي أزعج التلاميذ. والاسم الذي وضعه الإنجيل هنا للموت هو «الخروج»، وهو نفس الاسم الذي أتى في التوراة لإنتقال بني إسرائيل قديماً من عبودية مصر إلى أرض الميعاد، إذ قال البشير لوقا إن موسى وإيليا تكلما معه عن «خُرُوجِهِ ٱلَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يُكَمِّلَهُ فِي أُورُشَلِيمَ» (لوقا 9: 31). أي أن موت المسيح لا يكون قَسْراً كغيره، بل اختياراً، كعمل يقصده ويكمله.

في تلك الساعة فقط في التاريخ كله، تمثلت الكنيسة المسيحية الواحدة الجامعة التي تكلم عنها المسيح، لأن رأس الكنيسة الوحيد وقف على هذا الجبل يتكلم مع زعيمي العهد القديم اللذين يمثلان قيم الكنيسة الموجودة في السماء، على مسمع الرسل الثلاثة الممتازين، زعماء العهد الجديد الذين يمثلون القسم الأرضي من هذه الكنيسة الواحدة.

ولا عجب أن افتخر بولس بموضوع هذه المحادثة وأهميته ايضاً. إذ قال: «لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إِلا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً» (1 كورنثوس 2: 2) ويردد الملائكة والقديسون في السماء في تسابيحهم ذكر هذا الموت المجيد الذي هو إكليل فخر المسيح الممتاز، والذي لأجله يحبه الآب. ولا ريب أن الذين يسكتون عن موت المسيح الفدائي أو ينكرونه، يخسرون ويُخسِّرون كل من ينتمي إليهم، فقد قال هو: «إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ ٱلْحِنْطَةِ فِي ٱلأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلٰكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» (يوحنا 12: 24).

دهشة التلاميذ:

ربما كان المسيح قد انتهى من حديثه مع زائريه السماويين لما أفاق تلاميذه الثلاثة من نومهم الثقيل، ورأوا فجأة أن سيدهم لم يعد جاثياً يصلي كما كان عندما غلبهم النعاس. ولما نظروه يتكلم مع شخصين لم يصعدا معهم إلى هذا الجبل العالي، وعرفوهما، كان لرؤيتهما وقعٌ أعظم في أعينهم مما لو كانا ملاكين.. وها هم الآن يبصرون في يقظة، وليس في رؤيا، مجداً جديداً عجيباً لرفيقهم وسيدهم المسيح مع موسى وإيليا مسربلين أيضاً بمجد سماوي. ومما زاد أسفهم كثيراً على ما خسروه من هذا المجد في نومهم، ملاحظتهم أن موسى وإيليا يُهمَّان بالانصراف. ولهذا لا نتعجب أن بطرس العجول الجسور يحاول منعهما من الذهاب.

قد تعودنا أن نرى بطرس تائهاً عن الصواب في تجاسره. أما الآن فهو يتطفل ويقدم للمسيح رأياً للعمل. فاته أن الواجب عليه أن ينتظر آراء المسيح وإرادته الكاملة، لا أن يقدم آراءه للمسيح، كأنه أوفر حكمة من سيده. فاقترح أن يشتغل مع رفيقه في نصب أكواخ مثل التي تعوّدوا أن ينصبوها في ضواحي أورشليم في عيد المظال. فقال: «يا رب، جيد أن نكون ههنا». وقد درج هذا القول على ألسنة المؤمنين في كل آن ومكان، متى حضروا في أماكن الصلاة.

أما الجواب على اقتراحه فلم يأت من المسيح بل من السماء. لأنه «فيما هو يتكلم ظللتهم سحابة نيّرة، فخافوا لما دخلوا في السحابة». ثم زاد خوفهم جداً وسقطوا على وجوههم عندما سمعوا من وسط السحابة صوتاً من شخص غير منظور، قال في آذانهم: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت. له اسمعوا».

عندما أعلن المسيح أنه سيصلب انتهره بطرس قائلاً: حاشاك يا رب. ولكن الصوت الإلهي على جبل التجلي جاء يقول عن المسيح: «له اسمعوا». فكأن الله يقول للتلاميذ: «اقبلوا ما يقوله المسيح لكم! إن الصليب ضرورة حتمية!»

شهادة السماء لابن الله:

في الأسبوع الماضي وافق المسيح على شهادتهم أنه ابن الله وليس ابن الإنسان فقط. فالآن يثبت صوتٌ من السماء تلك الشهادة. فصار برهاناً حسيّاً كاملاً على ما شهدته عيونهم وسمعته آذانهم على هذا الجبل. فهل بقي مكانٌ بعد للشك؟ لما جاهر هؤلاء فيما بعد بهذه الحقيقة أسندوا تأكُّدهم منها إلى هذا الحادث الفريد.

أخذ التلاميذ من الصوت السماوي درساً مهماً جداً، وهو أن الاهتمام الأعظم يجب أن ينصرف إلى نوال الرضى الإلهي لا البشري، وكل من نال الرضى الإلهي لا يبالي بغيظ البشر، حتى أعظمهم، ولا بمقاومتهم حتى أمرّها! في قول الصوت «له اسمعوا» أتاهم تصديق على ما فعلوه من عدم استماعهم لرؤساء الكتبة والفريسيين ورؤساء الكهنة، وعلى إصغائهم إلى المسيح بدلاً منهم. ومع وجود موسى وإيليا معهم لم يكن الأمر الإلهي «لهما اسمعوا». أفلا يرنَّ في مسمع كل مؤمن هذا الصوت الإلهي القائل عن المسيح: «له اسمعوا». فيجعله يعدل عن الإصغاء إلى التعليم البشري، ما لم يكن ذلك التعليم صدى لتعليم المعلم الإلهي!

وبينما كان هؤلاء الثلاثة ساقطين على وجوههم خوفاً، ارتفعت السحابة نقلت موسى وإيليا رجوعاً إلى السماء، إذْ قد أتمَّا رسالتهما. فلم تؤيد السماء احتفاء التلاميذ الثلاثة بهما، بل كان الصوت الذي أمرهم أن يسمعوا للابن الحبيب بمثابة توبيخ لطيف على تمسُّكهم بموسى وإيليا، كأنهم يربحون بوجودهما أكثر مما هم حاصلون عليه. وكأن الصوت يقول لهم: إن مستقبلكم لا يرتبط بالذين لا يدومون معكم، مثل موسى وإيليا، بل بالذي هو رفيقكم الدائم، وإن كنتم لستم تعرفون قيمته بعد.

لكنهم لم يدروا بارتفاع السحابة وذهاب موسى وإيليا إلا بعد أن لمسهم المسيح وقال: «قوموا ولا تخافوا» فرفعوا أعينهم ونظروا حولهم بغتة، ولم يروا إلا المسيح وحده معهم. فنِعْمَ الخوف الذي تعقبه الطمأنينة من الله! ونِعم البصر الذي يحدق بالمسيح وحده، كما جرى لبطرس ويعقوب ويوحنا في هذه الساعة المباركة. لم يروا إلا الذي هو الكل وفي الكل، إذ ليست هناك حاجة إلى غيره، المخلِّص والشفيع وسيد حياتنا.

برهان الخلود:

زال كل شك بخصوص الخلود من أفكار التلاميذ بعد أن رأوا موسى وإيليا عياناً. ولما كان الصدوقيون ينكرون الخلود والأرواح، كان هذا البرهان المناقض لأضاليلهم غاية في الأهمية أمام الذين سيكونون معلمي الكنيسة المسيحية الجديدة. واستفاد التلاميذ أيضاً أنه يوجد جسد ممجد مرتبط بالجسد الأرضي الأصلي، وغير مقيَّد بالقيود التي كان مقيَّداً بها هنا في كل حركاته.

وقد تبرهن للتلاميذ أيضاً أن الذين ماتوا في الإيمان ليسوا في حالة سُبات، بانتظار يوم القيامة كما يزعم البعض، بل هم أمام العرش، مستعدون لخدمة الله ومقاصده، كما أنه سيكون لجميع المؤمنين أجسادٌ مجيدة وراء القبر.

3 - المسيح يشفي مسكوناً بروح نجس

«وَلَمَّا جَاءَ إِلَى ٱلتَّلامِيذِ رَأَى جَمْعاً كَثِيراً حَوْلَهُمْ وَكَتَبَةً يُحَاوِرُونَهُمْ. وَلِلْوَقْتِ كُلُّ ٱلْجَمْعِ لَمَّا رَأَوْهُ تَحَيَّرُوا، وَرَكَضُوا وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ. فَسَأَلَ ٱلْكَتَبَةَ: «بِمَاذَا تُحَاوِرُونَهُمْ؟» فَأَجَابَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْجَمْعِ: «يَا مُعَلِّمُ، قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكَ ٱبْنِي بِهِ رُوحٌ أَخْرَسُ، وَحَيْثُمَا أَدْرَكَهُ يُمَزِّقْهُ فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ. فَقُلْتُ لِتَلامِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا». فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَيُّهَا ٱلْجِيلُ غَيْرُ ٱلْمُؤْمِنِ، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ!». فَقَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا رَآهُ لِلْوَقْتِ صَرَعَهُ ٱلرُّوحُ، فَوَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ يَتَمَرَّغُ وَيُزْبِدُ. فَسَأَلَ أَبَاهُ: «كَمْ مِنَ ٱلزَّمَانِ مُنْذُ أَصَابَهُ هٰذَا؟» فَقَالَ: «مُنْذُ صِبَاهُ. وَكَثِيراً مَا أَلْقَاهُ فِي ٱلنَّارِ وَفِي ٱلْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ. لٰكِنْ إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئاً فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ، فَكُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ». فَلِلْوَقْتِ صَرَخَ أَبُو ٱلْوَلَدِ بِدُمُوعٍ وَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي». فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ ٱلْجَمْعَ يَتَرَاكَضُونَ، ٱنْتَهَرَ ٱلرُّوحَ ٱلنَّجِسَ قَائِلاً لَهُ: «أَيُّهَا ٱلرُّوحُ ٱلأَخْرَسُ ٱلأَصَمُّ، أَنَا آمُرُكَ: ٱخْرُجْ مِنْهُ وَلا تَدْخُلْهُ أَيْضاً!» فَصَرَخَ وَصَرَعَهُ شَدِيداً وَخَرَجَ، فَصَارَ كَمَيْتٍ، حَتَّى قَالَ كَثِيرُونَ: إِنَّهُ مَاتَ. فَأَمْسَكَهُ يَسُوعُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ، فَقَامَ. وَلَمَّا دَخَلَ بَيْتاً سَأَلَهُ تَلامِيذُهُ عَلَى ٱنْفِرَادٍ: «لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «هٰذَا ٱلْجِنْسُ لا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلا بِٱلصَّلاةِ وَٱلصَّوْمِ» (مرقس 9: 14-29).

صعد المسيح من وادي الاتضاع العميق لبرية التجربة إلى جبل التجلي العالي جداً، لينزل منه إلى وادي ذل أعمق من الأول في نهاية خدمته، عند آلامه وموته على الصليب. وكما كان المجد على رأس هذا الجبل كان الهوان عند سفحه، لأنه بينما كان بطرس ويعقوب ويوحنا في نعيم، كان رفقاؤهم التسعة في جحيم. لم ينل هؤلاء شيئاً مما حظي به الثلاثة تثبيتاً لإيمانهم بالمسيح، بعد الإنباء بموته. فيظهر أن إيمانهم تزعزع لأن المسيح كان قد أعطاهم جميعاً قوة ليعملوا المعجزات قبل هذا الوقت. والآن نراهم يحاولون في غياب سيدهم أن يُخرِجوا روحاً نجساً أخرس وأصم يسكن شاباً يقدمه إليهم والده، لكنهم فشلوا لضعف إيمانهم. وأكسبتهم خيبتهم استهزاء خصومهم بين الجمهور، فباتوا في خجل عظيم. وزاد عذابهم لما حاورهم هؤلاء العلماء وطرحوا عليهم أسئلة يعجز عن حلها البسطاء نظيرهم. وشعر الناس باقتراب المسيح ورفقائه نازلين من على الجبل ومعهم جمهور كان قد استقبلهم قبل وصولهم إلى التلاميذ التسعة. ومع علم المسيح بما جرى، طلب من الكتبة أن يخبروه بموضوع محاورتهم مع تلاميذه. لكن أبا الولد المصاب لم يعطهم الفرصة للجواب، إذ تقدم وجثا للمسيح وصرخ طالباً منه أن يفعل له ما عجز التلاميذ عن فعله. وقال للمسيح إن ولده وحيد وإن روحاً شريراً يسكنه، وحيثما أدركه يمزقه ويصرعه فيزبد ويصرّ بأسنانه وييبس ويتألم، وبالجهد يفارقه مرضضاً إياه، وكثيراً ما ألقاه في النار وفي الماء ليهلكه.

إن سلمنا بالعلاقة الكبيرة بين الأمراض الجسدية والروحية في كثير من الأحوال، يسهل علينا أن نفهم أن مرض هذا الشاب من خرس وصمم ناتج عن سلطة شيطانية، لذلك نرى المسيح يعتني ليس بإزالة الأعراض، بل بإزالة الأسباب أولاً. واستخدم أب الولد فشل التلاميذ التسعة حجة ثانية لاستنجاده بالمسيح، فكان جواب المسيح توبيخاً عاماً للحاضرين، يشمل الكتبة الذين حاوروا تلاميذه، ويشمل الذين فشلوا في ما باشروه، ويشمل الأب الذي قصر في إيمانه. قال المسيح: «أيها الجيل غير المؤمن والملتوي، إلى متى أكون معكم؟ إلى متى أحتملكم؟». فأثر هذا الكلام في الأب ليتواضع، استعداداً لتوليد الإيمان في قلبه. لكن المسيح لم يتركه في ذله، بل شجعه بقوله: «قدم ابنك إلى هنا». أليس هذا صوت المسيح على الدوام لكل الآباء: «قدّم ولدك إلى هنا»؟ وهذا التقديم هو ما يفعله الوالدون عندما يأتون بأولادهم القاصرين إلى العماد المسيحي. وهذا ما يفعله بالصلاة والإيمان كل مسيحي لخلاص ذويه الذين لا يزالون في قيود إبليس.

عمل المسيح على تنشيط إيمان الأب، وإظهار محبته له بسؤال بسيط عن مدة استيلاء هذه المصيبة على ابنه. فدلَّ جواب الأب على أنه لم يكن يعرف المسيح من قبل، ولا بد أنه فهم من التسعة أن المسيح أعطاهم سلطاناً كافياً لإخراج الأرواح. فلما وجدهم عاجزين عن شفاء ابنه ظنّ أن المسيح سيعجز أيضاً. لكن المسيح قال له: «كل شيء مستطاع للمؤمن». فكأنه يقول للرجل: «ليس الخلل في استطاعتي أن أشفي ابنك، بل في استطاعتك أن تؤمن». ففعل دواء هذا الطبيب فعله الشافي في هذه النفس العليلة، إذ صرخ أب الولد بدموع قائلاً: «أؤمن يا سيد، فأعن عدم إيماني». فأصاب في طلبه تقوية إيمانه.

صراخ هذا الرجل اليائس شعار مؤثر وصلاة جميلة لكل من يشعر بأهمية الإيمان وبتقصيره فيه، لأن الإيمان القلبي مفتاح الخيرات الإلهية. ليس للمفتاح فضل، لكنه الواسطة الوحيدة والكافية للحصول على كل ما في مخازن الله من بركات. وصارت دموع هذا الرجل مثالاً للتغيير الروحي في القلب الذي كان يرافق معجزات المسيح الشفائية. وصحّ فيه قول المرنم: «ٱلَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِٱلدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِٱلابْتِهَاجِ» (مزمور 126: 5). فانتهر المسيح الروح النجس بسلطان آمر مطاع قائلاً: «أيها الروح الأخرس الاصم، أنا آمرك، اخرج منه ولا تدخله أيضاً».

فعند ذلك بذل الشيطان منتهى قدرته قبل خروجه لكي يعذب الولد ويهلكه إن أمكن، لكنه وجد هناك من هو أقوى منه، الذي قيَّده لأنه أتى لينقض أعماله، وكما تتقدم أظلم ساعات الليل فجر النهار، كان أمر هذا الولد، لأن الشيطان صرخ وصرعه شديداً قبل خروجه، حتى قال كثيرون إنه مات. أما المسيح فمدَّ تلك اليد المحسنة والموصِّلة بينه وبين اليائسين، والحلقة التي تربط المعطي بالمستعطي، ونشل هذا الولد من باب الهاوية، وأقامه سالماً صحيحاً، وسلمه إلى أبيه. إن الخاطئ المتسلط عليه إبليس لا يسمع الأصوات الإلهية ولا ينطق بمجد الله، لكن الذين يحررهم المسيح من هذه السلطة يحررهم أيضاً من الخرس والصمم الروحيين، فيسمعون تعليمه ويتكلمون بأمجاده.

عرف الجميع أن المسيح عمل هذا باسم أبيه ولمجده، لذلك بُهتوا من عظمة الله. في هذا الكلام دليل على أن أغلب الجمهور في هذه البلاد الأممية كانوا وثنيين، ورأوا للمرة الأولى برهاناً ملموساً على الفرق بين آلهتهم الباطلة، وإله إسرائيل الحي القادر على كل شيء.

بعد ذلك دخل المسيح وتلاميذه بيتاً منفردين فسأله التسعة عن سبب فشلهم، لأنهم لم يتعلموا بعد أن سبب كل فشل لا يكون إلا داخلياً، لأن الفشل الناتج عن أسباب خارجية ليس فشلاً حقيقياً. ولم ينتبهوا لينظروا في قلوبهم ليجدوا علة هزيمتهم. ويُحتمل أن حب الذات منعهم عن السرور بنجاح المسيح في ما عجزوا عنه. ولما كان عدم إيمانهم سبب فشلهم قال المسيح لهم: «هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم».

في خاتمة كلامه أعلن المسيح قيمة الإيمان، بقوله: «لو كان لكم إيمان مثل حبة الخردل لكنتم تقولون للجبل انتقل من هنا إلى هناك، فينتقل». لا يخلو هذا القول من صعوبة في تفسيره، لكن لا يظن أحدٌ أن المسيح قصد به المعنى الحرفي، إنما الأقرب إلى الصواب أنه قصد المعنى الروحي المعنوي، فكم من جبال صعوبات انتقلت وزالت من أمام المؤمنين.

المسيح يدفع الضرائب

«وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى كَفْرِنَاحُومَ تَقَدَّمَ ٱلَّذِينَ يَأْخُذُونَ ٱلدِّرْهَمَيْنِ إِلَى بُطْرُسَ وَقَالُوا: «أَمَا يُوفِي مُعَلِّمُكُمُ ٱلدِّرْهَمَيْنِ؟» قَالَ: «بَلَى». فَلَمَّا دَخَلَ ٱلْبَيْتَ سَبَقَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: «مَاذَا تَظُنُّ يَا سِمْعَانُ؟ مِمَّنْ يَأْخُذُ مُلُوكُ ٱلأَرْضِ ٱلْجِبَايَةَ أَوِ ٱلْجِزْيَةَ، أَمِنْ بَنِيهِمْ أَمْ مِنَ ٱلأَجَانِبِ؟» قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «مِنَ ٱلأَجَانِبِ». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «فَإِذاً ٱلْبَنُونَ أَحْرَارٌ. وَلٰكِنْ لِئَلا نُعْثِرَهُمُ، ٱذْهَبْ إِلَى ٱلْبَحْرِ وَأَلْقِ صِنَّارَةً، وَٱلسَّمَكَةُ ٱلَّتِي تَطْلُعُ أَوَّلاً خُذْهَا، وَمَتَى فَتَحْتَ فَاهَا تَجِدْ إِسْتَاراً، فَخُذْهُ وَأَعْطِهِمْ عَنِّي وَعَنْكَ» (متى 17: 24-27).

رجع المسيح إلى وطنه كفر ناحوم بعد غياب طويل، وكان جباة مال الهيكل ينتظرون رجوعه ليأخذوا منه الدرهمين المفروضين على كل يهودي فوق سن العشرين. ويجوز أن هذا الطلب تقدم الآن لأول مرة بتحريك من الرؤساء، ليحقِّروا المسيح بحرمانه من حقوق الإعفاء الممنوحة للأنبياء ورؤساء الدين، أو لاتخاذ حجة لضرره إن رفض الدفع. ويجوز أنه كان يدفع سنوياً هذه الكمية الزهيدة. فالتقى الجباة ببطرس خارجاً، وسألوه: «أما يوفي معلمك الدرهمين، حسب عادته؟»

كان على بطرس أن يسأل المسيح قبل أن يجاوبهم، لكنه تطفل وقال لهم: «نعم». فلما عاد إلى البيت بيَّن المسيح له خطأه. وسأله: «ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية؟ هل تؤخذ من بني الملك؟ أو من رعاياه الذين هم أجانب بالنسبة إلى أولاده». فأجاب بطرس: «من الأجانب» فقال المسيح: «إذاً البنون أحرار. قد اعترفت أني ابن الله. فكيف يطلبون منّي جزية لبيت أبي؟».

اكتفى المسيح بأن صرّح بحقوقه ولم يتشبَّث بها، فلو أصرَّ على عدم الدفع يُعثِر الآخرين، لأن الرؤساء والجمهور لا يعترفون به كالمسيح. فيكون رفضه دفع الجزية في نظرهم تمرُّداً وتحقيراً للهيكل والدين. ولم تكن هذه الجزية من تقاليد الشيوخ، ليكون في رفضها فائدة تعليمية، بل هي من نظام موسى الأصلي، وهو لا يقصد إلغاء الفرائض الخارجية التي هي بوصايا إلهية، إلا بعد إتمامها وإكمال عمله الفدائي. فامتثل للنظام، وأعطى بذلك مثالاً لتابعيه أن لا يتشبّثوا بحقوقهم متى خشوا من ذلك حدوث ضرر أو خصام أو شكوك. فالسير على هذه القاعدة يزيل القسم الأعظم من المشاكل والخصومات بين الناس.

قد يكون الصندوق الذي كان في عهدة الإسخريوطي فارغاً في هذا الوقت، أو أن المسيح أراد أن يقرن خضوعه للنظام بمعجزة تقوّي إيمان بطرس، وتعلن أن هذا الخضوع لم يكن قسراً. فمع خضوعه للظلم في ما يتعلق ببيت أبيه المتواضع، المسمى بالهيكل، يستعمل سلطانه الشرعي في بيت أبيه الأوسع الذي هو الخليقة. لذلك أمر بطرس أن يُحضر المطلوب بواسطة مهنته - ليس بصيد رسمي بالشباك والسفينة، بل بالصنارة، لأجل السرعة. وأخبره أنه عندما يفتح فم أول سمكة يصطادها، يجد إستاراً يساوي أربعة دراهم تكفي لدفع الضريبة المفروضة عليه وعلى سيده. وقال: «أعطهم عني وعنك» لا: «عنا» لأن بطرس مكلَّف بالدفع قانونياً، ولكن المسيح غير مكلَّف، فيكون دفعه كرماً منه وتطوُّعاً.

4 - المسيح يعلّم عن العظمة الحقيقية

«فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ تَقَدَّمَ ٱلتَّلامِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ: «فَمَنْ هُوَ أَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ؟» فَدَعَا يَسُوعُ إِلَيْهِ وَلَداً وَأَقَامَهُ فِي وَسَطِهِمْ وَقَالَ: «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ ٱلأَوْلادِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. فَمَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مِثْلَ هٰذَا ٱلْوَلَدِ فَهُوَ ٱلأَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ. وَمَنْ قَبِلَ وَلَداً وَاحِداً مِثْلَ هٰذَا بِٱسْمِي فَقَدْ قَبِلَنِي» (متى 18: 1-5).

تحدث بعض التلاميذ عند رجوعهم من جبل التجلي، على غير مسمع من المسيح، في من هو الأعظم بينهم. ومن الطبيعي أن التلاميذ الذين لم يدَّعوا لأنفسهم الأولية، كانوا ينتصرون للذين يريدون لأنفسهم الكرامة الممتازة، فأوصلهم الحسد إلى الاحتجاج الذي ربما بنوه على بعض الامتيازات الشخصية في معاملات المسيح وكلامه. فما أشد هذه الضربة على قلب المسيح الرقيق المحب بوقوع هذه المشاحنة الصبيانية، بين الذين قد اصطفاهم من بين كل البشر رسلاً له، ويا له من هبوط عظيم في الآمال التي تعلَّقت عليهم!

وفاتح المسيح بعض تلاميذه في ما عسى أن يكون موضوع جدالهم الحماسي الذي لن يسمعه، فسكتوا. كان يجب عليهم أن يعترفوا ويصلحوا زلتهم، فقد قال إمام الحكماء سليمان: «مَنْ يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لا يَنْجَحُ، وَمَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ» (أمثال 28: 13). وقال نبي الله داود: «لَمَّا سَكَتُّ بَلِيَتْ عِظَامِي مِنْ زَفِيرِي ٱلْيَوْمَ كُلَّه.. قُلْتُ: «أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي» وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي» (مزمور 32: 3 و5) لكن بعد سكوتهم تقدموا وطلبوا إليه أن يفيدهم عن أساس العظمة في ملكوت السماوات ومن هو الأعظم فيه، فجمع الاثنى عشر جميعاً، ثم دعا ولداً إليه وأوقفه في الوسط ليراه الجميع، وكأنه يقول إن العظمة في ملكوته لا تكون إلا للذي لا يطلبها، وأن لا أحد يدخل هذا الملكوت إلا من يرجع إليه ويصير مثل ولد.

من أوصاف الولد بساطة التواضع بدلاً من ادعاء العظمة، وعدم المبالاة برفعة المقام، وسهولة الانقياد والطاعة دون تردد أو اعتراض، وسرعة المسامحة على الأذية بدلاً من التشبُّث بالانتقام والحقد طويلاً، والتطلُّع للأمام برجاء والنظر إلى المستقبل بسرور بدلاً من القنوط واليأس، والاكتفاء بالخير القليل بدلاً من الطمع، وتصديق ما يسمعه بدلاً من الشكوك والظنون السيئة.

لذلك قال المسيح: «الأصغر فيكم جميعاً هو يكون عظيماً». وقد مرَّت تسعة عشر قرناً على البشر ولا يزال هذا التعليم مجهولاً من الكثيرين، ولم يفهم في التواضع إلا عدد قليل.. حتى تلاميذ المسيح أنفسهم لم يستفيدوا في ذلك الوقت إلا قليلاً من هذا التعليم، لأنهم جددوا هذه المجادلة فيما بعد. وفي هذا الوقت طلبوا أن يعرفوا مَن منهم يكون الأعظم في ملكوت السماوات. لذلك كانوا في خطر، ليس أن يفقدوا الامتياز فقط، بل أن يفقدوا الدخول إلى ذلك الملكوت. وما دام الذي يطلب العظمة لنفسه ولا يرجع ويصير مثل الأولاد لن يدخل ملكوت السماوات، فإن عليهم أن يتركوا السؤال عن العظمة، ويهتموا بالسؤال عن دخول الملكوت.

ثم علّمهم المسيح شيئاً عن كرامة اسمه، حتى أن كل ما يصنعه أحد باسمه يُحسب إكراماً له. ومن يكرم صغيراً باسمه يكون قد أكرمه. ومن يكرمه يكون قد أكرم الآب الذي أرسله. فما أجمل هذه الرابطة التي تربط الآب بالابن، ثم الابن بأصغر المؤمنين باسمه.

«وَقَالَ يُوحَنَّا: «يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِداً يُخْرِجُ شَيَاطِينَ بِٱسْمِكَ وَهُوَ لَيْسَ يَتْبَعُنَا، فَمَنَعْنَاهُ لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُنَا». فَقَالَ يَسُوعُ: «لا تَمْنَعُوهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُوَّةً بِٱسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعاً أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرّاً. لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا. لأَنَّ مَنْ سَقَاكُمْ كَأْسَ مَاءٍ بِٱسْمِي لأَنَّكُمْ لِلْمَسِيحِ فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لا يُضِيعُ أَجْرَهُ» (مرقس 9: 38-41).

على أثر هذا الكلام، أخبره يوحنا عما جرى معه ومع بعض رفقائه، لما التقوا بإنسان يخرج شياطين باسم المسيح، وهو ليس من تابعيه ظاهراً، ظناً منهم أن لا حقَّ لغيرهم في هذا الامتياز الذي منحه المسيح لهم. لكن طالما لا يقدر إلا المسيح أن يعطي هذا السلطان، فلا مانع من أن يكون قد أخذه من المسيح على غير علمهم. وأن المسيح أجاز له أن يعمل باسمه دون أن يرافقه، ودون أن يعرِّف التلاميذ به. وقد خطّأ المسيح يوحنا، وأظهر أن من ليس عليه فهو معه. أي أن لا حياد بالنسبة لملكوت البر. فلا يصحُّ أن يُقال مطلقاً في الدين: «لا معنا ولا علينا». والواجب على يوحنا أن يعرف أن كل إنسان صالح يسمِّي اسم المسيح سنداً لعمله، يسنده المسيح، لأن عمله يكون عزيزاً لدى المسيح. وحامل هذا الاسم باستحقاق يكون تحت حماية المسيح، وكل من يؤذيه يجازيه الملك، ويكافئ كل من يقدم خدمة باسمه.

تحذير من العثرات

«وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ هٰؤُلاءِ ٱلصِّغَارِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ حَجَرُ ٱلرَّحَى وَيُغْرَقَ فِي لُجَّةِ ٱلْبَحْرِ. وَيْلٌ لِلْعَالَمِ مِنَ ٱلْعَثَرَاتِ. فَلا بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ ٱلْعَثَرَاتُ، وَلٰكِنْ وَيْلٌ لِذٰلِكَ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي بِهِ تَأْتِي ٱلْعَثْرَةُ. فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَٱقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ ٱلْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي ٱلنَّارِ ٱلأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلانِ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَٱقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ ٱلْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمَ ٱلنَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ» (متى 18: 6-9).

ثم تطرَّق المسيح إلى موضوع آخر مهم جداً، وهو العثرات. وكان قد تكلم عنه في وعظه على الجبل، وكرره الآن كتعليم خاص للتلاميذ وحدهم. لقد أعطاهم نفسه قدوة لما جنَّبهم العثرة ودفع الجزية، ووبّخهم على غلطهم لما أعثروا التلميذ المجهول الذي كان يُخرج شياطين باسمه. ثم قال المسيح إن غرق الإنسان مثقلاً بحجر الرحى في لجة البحر، أفضل له من أن «يعثر أحد هؤلاء الصغار». ولا بد من أنه قصد بالإعثار أولاً أن يقود الإنسان غيره إلى الخطيئة، وقصد أيضاً الإهانة والتكدير في غير محله. فمن يفعل ذلك لأحد تلاميذه الحقيقيين ينال جزاءً مخيفاً، يجعله يتمنّى أن يبدل العقاب - لو أمكن - بالغرق في قعر البحر.

ولكي لا يولِّد كلام المسيح آمالاً فارغة في تلاميذه، فيظنون أنهم يستطيعون إزالة العثرات من العالم تماماً، قال: «لا بد أن تأتي العثرات». فهل هناك عذر لمن يُعثر غيره لأن العثرات لا بد أن تأتي؟ أسرع المسيح وتلافى هذا الوهم فقال: «لكن ويل لذلك الإنسان الذي به تأتي العثرة».

ثم نصح المسيح أن من تعثره يده فليقطعها، ومن تعثره عينه فيقلعها. وهذا بالطبع كلام مجازي، لأن قطع اليد أو قطع العين الحرفي لا يزيل الإثم الذي مركزه القلب، فقَطْع أعضاء الجسد لا يصلحها. يمكن أن يرتكب الإنسان جميع الخطايا في فكره وقلبه ولو قلع ليس العين اليمنى فقط، بل واليسرى أيضاً، وقطع يده اليمنى واليسرى أيضاً. فالإله الروح، الذي له وحده الحكم في أمر الخطيئة والهلاك، ينظر إلى ما في القلب وليس إلى ما في الأعضاء. والمقصود من هذا الكلام هو أن كل من يجرُّ الإنسان إلى الخطيئة يجب إبعاده ولو كان عزيزاً عند الإنسان، كعينه اليمنى أو يده اليمنى.

قصد الخالق أن تكون أعضاء الجسد بركة وآلة للخير في نفع الناس، لذلك يسمِّي الرسول بولس الأجساد هياكل للروح القدس (1 كورنثوس 6: 19) فالذي يشوهها يُهين الهيكل وصانعه. إنه لا يطلب قلعاً لأعضاء الجسد، بل يطلب صيانتها وتكريسها لخدمته. وهذه الخدمة تتعذر على من يتلف هذه الأعضاء.

ثم قال المسيح إن كل من يعثر غيره يتعرَّض لجهنم النار، حيث دودهم لا يموت والنار لا تُطفأ. وليس في هذا الكلام رائحة تهديد، بل هو تحذير وإنذار مقدَّم ممن أتى من السماء ليخلصنا من هذه الأبدية المرعبة. ولا يمكن أن محباً نظيره يبالغ في وصف المخاوف التي يخشى من أن تصيب الذين يحبهم.

تحذير من تعثير الصغار

«لا تَحْتَقِرُوا أَحَدَ هٰؤُلاءِ ٱلصِّغَارِ، لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مَلائِكَتَهُمْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ كُلَّ حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ. مَاذَا تَظُنُّونَ؟ إِنْ كَانَ لإِنْسَانٍ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَضَلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا، أَفَلا يَتْرُكُ ٱلتِّسْعَةَ وَٱلتِّسْعِينَ عَلَى ٱلْجِبَالِ وَيَذْهَبُ يَطْلُبُ ٱلضَّالَّ؟ وَإِنِ ٱتَّفَقَ أَنْ يَجِدَهُ، فَٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَفْرَحُ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ ٱلتِّسْعَةِ وَٱلتِّسْعِينَ ٱلَّتِي لَمْ تَضِلَّ. هٰكَذَا لَيْسَتْ مَشِيئَةً أَمَامَ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ هٰؤُلاءِ ٱلصِّغَارِ» (متى 18: 10-14).

ثم حذر المسيح تلاميذه من احتقار الصغار، لأن الله يعتني بهم، حتى أنه يقدم لهم خدمة ملائكية خصوصية. قال إن ملائكتهم ينظرون كل حين وجه الآب السماوي. فأيُّ حقٍ للناس أن يحتقروهم؟ ليس المقصود بهذا القول صغار السن وحدهم، بل يشمل أيضاً صغار النفوس، وعلى الأخص المؤمنين الواقعين تحت نيران الاضطهاد، أو الغرقى في بحر الاحتقار. ثم أوضح المسيح أن خلاصه يعمُّ جميع الأطفال، عندما قال: «ليست مشيئة أمام أبيكم الذي في السماوات أن يهلك أحد هؤلاء الصغار».

وأردف بهذا القول كلاماً جميلاً من غاية مجيئه من السماء، بيّن فيه تمسُّكه بلقب ابن الإنسان. وهو «لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك». ومثَّل عمله بتفتيش إنسان عن خروف أضاعه، فترك على الجبال التسعة والتسعين التي لم تضل لكي يفتش عن الضال. ومتى وجده يفرح به أكثر من التسعة والتسعين. حقاً إن اهتمام الله وفرحه بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة، يفوق إدراك البشر، وإن أفكاره ليست كأفكارهم.

إن أخطأ إليك أخوك

«وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَٱذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، فَخُذْ مَعَكَ أَيْضاً وَاحِداً أَوِ ٱثْنَيْنِ، لِكَيْ تَقُومَ كُلُّ كَلِمَةٍ عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَقُلْ لِلْكَنِيسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ ٱلْكَنِيسَةِ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ كَٱلْوَثَنِيِّ وَٱلْعَشَّارِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى ٱلأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطاً فِي ٱلسَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى ٱلأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي ٱلسَّمَاءِ. وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضاً: إِنِ ٱتَّفَقَ ٱثْنَانِ مِنْكُمْ عَلَى ٱلأَرْضِ فِي أَيِّ شَيْءٍ يَطْلُبَانِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُمَا مِنْ قِبَلِ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لأَنَّهُ حَيْثُمَا ٱجْتَمَعَ ٱثْنَانِ أَوْ ثَلاثَةٌ بِٱسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ» (متى 18: 15-20).

ثم تكلم المسيح عن عثرة أخرى لا بد من وقوعها بين أهل الإيمان ضمن الكنيسة. فكيف يتصرف المؤمن متى تعدى عليه أخٌ؟ أولاً: لا يجب أن يدخل معه في منازعة، بل عليه أن يحفظ نفسه من الغيظ. ثم عليه أن يراعي المحبة الأخوية، فلا يُفشي الأمر خشية تضخُّمه فيصعب إصلاحه. وعليه أن يعاتب المعتدي حبياً وعلى انفراد، أملاً برجوعه عن خطئه في الحال، ويمنعه من تكرار زلته. لأنه يُرجَّح أن المعتدي متى رأى عدوه في روح الحب والمسالمة، يخجل ويندم ويتوقف عن تكرار الاعتداء ويُصلِح ما فعل. ولهذا السبب قال المسيح: «إن سمع منك فقد ربحت أخاك».

أما إنْ قسّى المعتدي قلبه فالواسطة الثانية لتخجيله وإقناعه هي الاستعانة بلجنة صغيرة تسعى في إصلاح ذات البيْن، وتكون شاهداً على المعتدي إن لم يمتثل للحق، وللمعتدَى عليه ببرائته من الذنب. لكن إنْ أصرَّ على رفض هذه الوسائط الحبية، تُرفع القضية إلى المجلس الرسمي، أي الكنيسة، لتنظر في الأمر، وتسعى في إصلاح المذنب. وهذا الاستئناف مفيد، لأن من شأنه أن يجعل المعتدي يخضع للجنة، لئلا يزيد تخجيله وتُخفَض كرامته بسبب تقديم الشكوى عليه للكنيسة. فإنْ لم يخضع لحكم الكنيسة يحق للشاكي إن يجتنبه ولا يعتبره كأخ، لأنه قد برهن أن ليس فيه الشروط الجوهرية للأخوية المسيحية.

«حِينَئِذٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بُطْرُسُ وَقَالَ: «يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟» قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لا أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ» (متى 18: 21-22).

كانت الشريعة اليهودية تقضي بأن يغفر الإنسان لمن يسيء إليه، ثلاث مرات. وإنْ تكررت الإساءة لا يُكلَّف بتكرار المغفرة. وشعر بطرس أن شريعة المسيح الجديدة أوسع من القديمة، فسأل المسيح: «يا رب، كم مرة يخطئ إليَّ أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرات؟» ظن أن سبع مرات هي أكثر ما يُطلب منه، فيكون قد تكرم بقوله «إلى سبع مرات». فكم كان خجله لما أجابه المسيح: «لا أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة سبع مرات». يعني إلى ما لا نهاية له.

ما أصعب هذا الأمر على الإنسان، فإن الطبيعة البشرية لا تحتمله دون نعمة إلهية. لكن الروح الذي يقود إلى مسامحة مسيحية قلبية في المرة الأولى، يقود أيضاً في الثانية، وإلى ما لا نهاية له. ولا سيما إنه إذا غفر مرة يتقوى في هذه الروح، فيسهل تكرار الغفران أكثر من المرة الأولى. والذي ليس له في قلبه أن يسامح في المرة المئة يبرهن أن مسامحته الأولى لم تكن من روح مسيحي حقيقي. فكل من يشعر بفضل الإله الغفور، لا يمكنه أن يحاسب إخوته، مهما عُظمت تعدياتهم عليه.

مَثَل الملك الذي سامح

«لِذٰلِكَ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً أَرَادَ أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ. فَلَمَّا ٱبْتَدَأَ فِي ٱلْمُحَاسَبَةِ قُدِّمَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ مَدْيُونٌ بِعَشْرَةِ آلافِ وَزْنَةٍ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوفِي أَمَرَ سَيِّدُهُ أَنْ يُبَاعَ هُوَ وَٱمْرَأَتُهُ وَأَوْلادُهُ وَكُلُّ مَا لَهُ، وَيُوفَى ٱلدَّيْنُ. فَخَرَّ ٱلْعَبْدُ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ ٱلْجَمِيعَ. فَتَحَنَّنَ سَيِّدُ ذٰلِكَ ٱلْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ، وَتَرَكَ لَهُ ٱلدَّيْنَ. وَلَمَّا خَرَجَ ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ وَجَدَ وَاحِداً مِنَ ٱلْعَبِيدِ رُفَقَائِهِ، كَانَ مَدْيُوناً لَهُ بِمِئَةِ دِينَارٍ، فَأَمْسَكَهُ وَأَخَذَ بِعُنُقِهِ قَائِلاً: أَوْفِنِي مَا لِي عَلَيْكَ. فَخَرَّ ٱلْعَبْدُ رَفِيقُهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ قَائِلاً: تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ ٱلْجَمِيعَ. فَلَمْ يُرِدْ بَلْ مَضَى وَأَلْقَاهُ فِي سِجْنٍ حَتَّى يُوفِيَ ٱلدَّيْنَ. فَلَمَّا رَأَى ٱلْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُ مَا كَانَ، حَزِنُوا جِدّاً. وَأَتَوْا وَقَصُّوا عَلَى سَيِّدِهِمْ كُلَّ مَا جَرَى. فَدَعَاهُ حِينَئِذٍ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلشِّرِّيرُ، كُلُّ ذٰلِكَ ٱلدَّيْنِ تَرَكْتُهُ لَكَ لأَنَّكَ طَلَبْتَ إِلَيَّ. أَفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّكَ أَنْتَ أَيْضاً تَرْحَمُ ٱلْعَبْدَ رَفِيقَكَ كَمَا رَحِمْتُكَ أَنَا؟ وَغَضِبَ سَيِّدُهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى ٱلْمُعَذِّبِينَ حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ. فَهٰكَذَا أَبِي ٱلسَّمَاوِيُّ يَفْعَلُ بِكُمْ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مِنْ قُلُوبِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ لأَخِيهِ زَلاتِهِ» (متى 18: 23-35).

لما كان ضرورياً أن يبيّن المسيح أساس هذا القانون الصعب ليقنع تلاميذه بصوابه، أوضح لهم ذلك بواسطة مثل العبد الظالم، الذي بعد أن ترك سيده الملك ديناً عظيماً للغاية، لا يمكنه أن يوفيه مطلقاً، قبض ذلك العبد على أحد رفقائه العبيد بسبب ديْن زهيد كان عليه، وزَجَّه في السجن، رغم كل الاستراحامات والمواعيد وإحسان مولاه إليه، بتركه له هذا الدين العظيم. لم يلن قلبه ليصبر على رفيقه، بل أخذه بعنقه وألقاه في السجن حتى يوفي الدين. فلما أبلغ العبيد رفقاؤه مولاهم الملك بهذا الأمر، اغتاظ الملك جداً، وأحضر هذا العبد الظالم وأنّبه، وسلّمه إلى المعذِّبين حتى يوفي كل ما كان له عليه. فإن كان مفلساً قبل سجنه، فأي أمل له أن يفي الملايين وهو سجين؟ فلا مناص من بقائه إلى الأبد بين أيدي المعذِّبين!

في هذا المثل شبَّه المسيح الله بالملك، وشبَّه الخطاة بالعبيد المديونين. ولما كان الدَّين الذي على الخاطئ لله عظيماً، يستحيل على الخاطئ أن يوفيه. لكن الله برحمته، وبناءً على عمل الفداء، يغفر لأعظم الخطاة متى اعترف له وطلب منه الرحمة وتعهَّد أن يصلح أمره فيما بعد. أما دَيْن الخاطئ لرفيقه البشري فزهيد بالنسبة إلى دَيْن الرفيق لربه. فمتى حصل إنسان على الغفران الإلهي، لا حقَّ له أن يمسك عن رفيقه المغفرة على زلاته، مهما تكاثرت وتكررت. ولا يحق لإنسان أن يدين أخاه قبل مقابلته واستماع عذره. لعله أخطأ سهواً، أو ظلمه واشٍ. فما أرهب العبارة التي ختم بها المسيح جوابه على سؤال بطرس بقوله: «فهكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته».

ولنا في الصلاة الربانية برهان أهمية وجوب ترك الحقد، لما نصلي: «اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا» (متّى 6: 12). نَفْسَكَ؟»أَ لا ينتظر البريء أن يأتيه المذنب ليستغفر منه، بل يسبقه، إتماماً للقول: «اذهب وعاتبه بينك وبينه». تمثُّلاً بالمسيح الذي لم ينتظر الخاطئ إلى أن يتوب ويأتي إليه، بل قد أتى من السماء ليطلب ويخلص ما قد هلك.

5 - المسيح يغفر للزانية

«وَقَدَّمَ إِلَيْهِ ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱمْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِي زِناً. وَلَمَّا أَقَامُوهَا فِي ٱلْوَسَطِ قَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، هٰذِهِ ٱلْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ ٱلْفِعْلِ، وَمُوسَى فِي ٱلنَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هٰذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟» قَالُوا هٰذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَٱنْحَنَى إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ بِإِصْبِعِهِ عَلَى ٱلأَرْضِ. وَلَمَّا ٱسْتَمَرُّوا يَسْأَلُونَهُ، ٱنْتَصَبَ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلا خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَّوَلاً بِحَجَرٍ!» ثُمَّ ٱنْحَنَى أَيْضاً إِلَى أَسْفَلُ وَكَانَ يَكْتُبُ عَلَى ٱلأَرْضِ. وَأَمَّا هُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا وَكَانَتْ ضَمَائِرُهُمْ تُبَكِّتُهُمْ، خَرَجُوا وَاحِداً فَوَاحِداً، مُبْتَدِئِينَ مِنَ ٱلشُّيُوخِ إِلَى ٱلآخِرِينَ. وَبَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ وَٱلْمَرْأَةُ وَاقِفَةٌ فِي ٱلْوَسَطِ. فَلَمَّا ٱنْتَصَبَ يَسُوعُ وَلَمْ يَنْظُرْ أَحَداً سِوَى ٱلْمَرْأَةِ، قَالَ لَهَا: «يَا ٱمْرَأَةُ، أَيْنَ هُمْ أُولٰئِكَ ٱلْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟» فَقَالَتْ: «لا أَحَدَ يَا سَيِّدُ». فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «وَلا أَنَا أَدِينُكِ. ٱذْهَبِي وَلا تُخْطِئِي أَيْضاً» (يوحنا 8: 3-11).

ذهب المسيح إلى أورشليم، ودخل الهيكل. وأخذ يعلّم ويشرح للجمهور أمور ملكوته الروحي. وبعد قليل حصلت ضجة بين الحاضرين، لأن جماعة من علماء الدين طلبوا أن يفسح لهم الجمع الطريق ليصلوا إلى المسيح، وهم يجرُّون امرأة تعيسة أُمسكت في زنى. وتظاهروا في ريائهم المعهود بغيرة كاذبة على شريعة العفة، وباحترام كاذب للمسيح، إذ طلبوا حكمة في أمر يتعلق بشريعتهم الدينية المقدسة، ولقبوه بأكرم ألقابهم أي «معلم في الدين» وأوقفوا المذنبة في الوسط أمام الجمهور، وطلبوا منه أن يحكم: «هل تُعامل بمقتضى شريعة موسى فيرجمونها؟».

كانت الحكومة الرومانية قد منعت المحاكم الدينية اليهودية من الحكم بالإعدام. فإن حكم المسيح برجم هذه الخاطئة يخالف النظام السياسي الحاكم، ويغيظ كثيرين من الشعب الذي تعوَّدوا التساهل في الأحكام. وإن حكم بعدم رجمها، يفتح لهم باباً واسعاً لينتقدوه أمام الشعب كمخالفٍ لشريعتهم المقدسة. وبما أنهم يعلمون كيف تصرَّف أمامهم قبلاً بشريعة السبت، حاسباً ذاته أعظم من موسى، وغير مقيَّد بشريعته، كانوا يأملون أن يتصرف بذات الطريقة في شريعة الزنى أيضاً، فيهيّجون عليه كل من تهمُّه المحافظة على العفة والآداب الصحيحة. فقالوا له: «موسى يقول كذا وكذا. فماذا تقول أنت؟» كأنهم يعترفون له بحق مخالفة أحكام موسى، لو شاء.

وانصرفت أفكار المسيح من هذه المذنبة إلى طالبي رجمها، وهم أعظم منها إثماً، لأنه لم يكن يقبل أن يتساهل مع الظالم والخبيث. فكان جوابه الأول أنه انحنى وصار يكتب بإصبعه على الأرض، ليعطي سائليه فترة للتفكير. ولما تابعوا السؤال أجابهم قانونياً ما معناه: حسب شريعتكم متى ثبت جُرم الزنى على امرأة، فالشهود هم الذين يجب أن يبدأوا أولاً برجمها، وأنتم الشهود. ثم أن العدل يقضي بأن الذي يخطئ أولاً يُجازى أولاً. فالذي منكم خالف شريعة العفة قبل هذه المرأة، لا يحق له أن يطلب قصاصها قبله، فليبتدئ برجمها البريء منكم لا غيره.

ثم انحنى ثانية وصار يكتب بإصبعه على الأرض، فانسحبوا خجلين منكسرين، وخرجوا بالترتيب الذي دخلوا به حسب رتبهم: الشيوخ أولاً ثم الآخرون، حتى لم يبق منهم أحد، فإن الضمير يصيِّرنا جميعاً جبناء.

يُرجَّح أن التلاميذ والجمهور لم ينصرفوا مع الشاكين، بل انتظروا النتيجة في أمر المرأة التي بقيت واقفة في الوسط. واتّجه فكر المسيح الآن إليها، لأنه أتى ليطلب ويخلِّص ما قد هلك. «أين أولئك؟ أما دانك أحد؟» وأجابت: «لا أحد يا سيد». قال لها: «ولا أنا أدينك. إذهبي ولا تخطئي أيضاً».

بقوله: «ولا أنا أدينك» تصرف قانونياً، لأن هروب المدَّعين والشهود قبل استجوابهم يُسقط الدعوى، فليس في قوله هذا أقل تساهل مع الخطيئة التي اتُّهمت بها. ولما كان المسيح يكره الخطيئة ويحب الخاطئ، كان يسهل للخطاة أن يتركوا خطاياهم.

«ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً قَائِلاً: «أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلا يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاةِ». فَقَالَ لَهُ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً». أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ، لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلا تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي وَلا إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. أَنْتُمْ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ تَدِينُونَ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً. وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ، لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي، بَلْ أَنَا وَٱلآبُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي. وَأَيْضاً فِي نَامُوسِكُمْ مَكْتُوبٌ: أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ. أَنَا هُوَ ٱلشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي ٱلآبُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي». فَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلا أَبِي. لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً».

هٰذَا ٱلْكَلامُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي ٱلْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي ٱلْهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكْهُ أَحَدٌ، لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ.

قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: «أَنَا أَمْضِي وَسَتَطْلُبُونَنِي، وَتَمُوتُونَ فِي خَطِيَّتِكُمْ. حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا» فَقَالَ ٱلْيَهُودُ: «أَلَعَلَّهُ يَقْتُلُ نَفْسَهُ حَتَّى يَقُولُ: حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأْتُوا؟» فَقَالَ لَهُمْ: « أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هٰذَا ٱلْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هٰذَا ٱلْعَالَمِ. فَقُلْتُ لَكُمْ إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ، لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ». فَقَالُوا لَهُ: «مَنْ أَنْتَ؟» فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا مِنَ ٱلْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ. إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ، لٰكِنَّ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ. وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهٰذَا أَقُولُهُ لِلْعَالَمِ». وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ عَنِ ٱلآبِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «مَتَى رَفَعْتُمُ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ، وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي، بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهٰذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي. وَٱلَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ يَتْرُكْنِي ٱلآبُ وَحْدِي، لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ» (يوحنا 8: 12-29).

استأنف المسيح تعليمه للناس بعد المقاطعة التي سبَّبها حادث المرأة، فشبَّه ذاته وعمله بالنور، فإن من أشرف ألقابه «نور العالم». فاعترض الفريسيون على كلامه بحُجَّة أن شهادة الإنسان لنفسه لا تثبت، فأجابهم بما معناه أن هذا الحكم ولو صحَّ في الخطاة الذين تخدعهم الأنانية، أو يخدعون الآخرين عمداً، فلا يصح في المسيح الكامل الذي هو في حضن الآب. هذا فضلاً عن شهادة الآب غير القابلة للشك أو الاعتراض. فلما سألوه: «أين أبوك؟» أجاب بما لا يحقُّ لبشر أن يقوله، إذ قال: «لستم تعرفونني أنا ولا أبي. لو عرفتموني لعرفتم أبي ايضاً». ولما كرر كلامه السابق أنهم لا يقدرون أن يتبعوه إلى حيث يذهب بعد قليل، قالوا تهكُّماً: «ألعله يقتل نفسه حتى يقول هذا القول؟». فأجابهم بكلام آخر لا يسوغ لبشر أن يقوله. قال: «أنا لست من هذا العالم. أنا من فوق. إن لم تؤمنوا أني أنا هو، تموتون في خطاياكم. ولم يتركني الآب وحدي لأني في كل حيث أفعل ما يرضيه».

«وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهٰذَا آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ. فَقَالَ يَسُوعُ لِلْيَهُودِ ٱلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ: «إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلامِي فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تَلامِيذِي، وَتَعْرِفُونَ ٱلْحَقَّ وَٱلْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ». أَجَابُوهُ: «إِنَّنَا ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ نُسْتَعْبَدْ لأَحَدٍ قَطُّ. كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: إِنَّكُمْ تَصِيرُونَ أَحْرَاراً؟» أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ ٱلْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ. وَٱلْعَبْدُ لا يَبْقَى فِي ٱلْبَيْتِ إِلَى ٱلأَبَدِ، أَمَّا ٱلابْنُ فَيَبْقَى إِلَى ٱلأَبَدِ. فَإِنْ حَرَّرَكُمْ ٱلابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً. أَنَا عَالِمٌ أَنَّكُمْ ذُرِّيَّةُ إِبْرَاهِيمَ. لٰكِنَّكُمْ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي لأَنَّ كَلامِي لا مَوْضِعَ لَهُ فِيكُمْ. أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي، وَأَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَا رَأَيْتُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ». أَجَابُوا: «أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَوْ كُنْتُمْ أَوْلادَ إِبْرَاهِيمَ لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ! وَلٰكِنَّكُمُ ٱلآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي، وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِٱلْحَقِّ ٱلَّذِي سَمِعَهُ مِنَ ٱللّٰهِ. هٰذَا لَمْ يَعْمَلْهُ إِبْرَاهِيمُ. أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ أَبِيكُمْ». فَقَالُوا لَهُ: «إِنَّنَا لَمْ نُولَدْ مِنْ زِناً. لَنَا أَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللّٰهُ». فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَوْ كَانَ ٱللّٰهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي، لأَنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ وَأَتَيْتُ. لأَنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي، بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي. لِمَاذَا لا تَفْهَمُونَ كَلامِي؟ لأَنَّكُمْ لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي. أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ ٱلْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي ٱلْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِٱلْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو ٱلْكَذَّابِ. وَأَمَّا أَنَا فَلأَنِّي أَقُولُ ٱلْحَقَّ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي. مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ فَإِنْ كُنْتُ أَقُولُ ٱلْحَقَّ، فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي؟ اَلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ يَسْمَعُ كَلامَ ٱللّٰهِ. لِذٰلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ ٱللّٰهِ» (يوحنا 8: 30-47).

بعد أن تحدث المسيح عن نفسه أنه نور العالم، آمن به كثيرون. فصرح بأن الحق يحرر من يعرف الحق، وإن حررهم الابن فبالحقيقة يكونون أحراراً. وقال المسيح للذين اعترضوا على كلامه، بحجة أنهم لا يحتاجون إلى التحرير، إن العبودية الحقيقة هي الاستعباد للخطيئة، وإن كل من يفعلها هو عبد لها، والعبد لا يرث ولا يدوم في البيت. وقال للذين يُضمرون في قلوبهم قتله: «تطلبون أن تقتلوني لأن كلامي لا موضع له فيكم». أعلن لهم أن الإستعباد للخطيئة يعني البنوَّة لإبليس. فادّعاؤهم البنوَّة لإبراهيم ادّعاء بغير حق، لأنهم لا يعملون أعمال إبراهيم بل أعمال إبليس. فإبراهيم لم يطلب أن يقتل إنساناً لمجرد أنه تكلم بالحق. وكل من يفكر في قتل البريء، يعمل عمل إبليس لا عمل إبراهيم. ومثله الكذب الذي تعوَّدوه، لأن «إبليس كذاب وأبو الكذاب».

ثم قال قولاً آخر، لا يجوز لمجرد بشر أن ينطق به. قال: «من منكم يبكّتني على خطيئة؟» اعترف سائر الأنبياء بخطاياهم بتذلل وأسف وحزن، فمن هذا الذي يقول هذا القول عن نفسه؟ لو كان بشراً فقط لحقَّ لنا أن نحسبه دون أولئك الذي أقرُّوا بأنهم خطاة. ثم قال أيضاً: «الحق الحق أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يرى الموت إلى الأبد». وهذا القول أيضاً لا يحقُّ لبشر.. إنه كلام ابن الله.

فَأَجَابَ ٱلْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: «أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَناً إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «أَنَا لَيْسَ بِي شَيْطَانٌ، لٰكِنِّي أُكْرِمُ أَبِي وَأَنْتُمْ تُهِينُونَنِي. أَنَا لَسْتُ أَطْلُبُ مَجْدِي. يُوجَدُ مَنْ يَطْلُبُ وَيَدِينُ. اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كَلامِي فَلَنْ يَرَى ٱلْمَوْتَ إِلَى ٱلأَبَدِ». فَقَالَ لَهُ ٱلْيَهُودُ: «ٱلآنَ عَلِمْنَا أَنَّ بِكَ شَيْطَاناً. قَدْ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَٱلأَنْبِيَاءُ، وَأَنْتَ تَقُولُ: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ كَلامِي فَلَنْ يَذُوقَ ٱلْمَوْتَ إِلَى ٱلأَبَدِ». أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي مَاتَ. وَٱلأَنْبِيَاءُ مَاتُوا. مَنْ تَجْعَلُ نَفْسَكَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ أُمَجِّدُ نَفْسِي فَلَيْسَ مَجْدِي شَيْئاً. أَبِي هُوَ ٱلَّذِي يُمَجِّدُنِي، ٱلَّذِي تَقُولُونَ أَنْتُمْ إِنَّهُ إِلٰهُكُمْ، وَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. وَأَمَّا أَنَا فَأَعْرِفُهُ. وَإِنْ قُلْتُ إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُهُ أَكُونُ مِثْلَكُمْ كَاذِباً، لٰكِنِّي أَعْرِفُهُ وَأَحْفَظُ قَوْلَهُ. أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ». فَقَالَ لَهُ ٱلْيَهُودُ: «لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ، أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟» قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ». فَرَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. أَمَّا يَسُوعُ فَٱخْتَفَى وَخَرَجَ مِنَ ٱلْهَيْكَلِ مُجْتَازاً فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى هٰكَذَا» (يوحنا 8: 48-59).

قال المسيح إنه الحق الذي يحرر، فاتَّهمه خصومه أنه «سامري وبه شيطان» وكذَّبوا قوله بأن من يحفظ كلامه لن يرى الموت إلى الأبد، بحجة أن أب الآباء إبراهيم وسائر الآباء والأنبياء ماتوا. فكيف لا يموت كل من يحفظ كلامه؟ وسألوه: «من تجعل نفسك؟» فجواباً على هذا قال القول الشهير الذي يثبت بلا مراجعة إعلانه إنه ليس بشراً فقط، لأن حياته لم تبتدئ كسائر البشر لما وُلد، بل إنه منذ الأزل. قال: «أبوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومي، فرأى وفرح» فقال له اليهود: «ليس لك خمسون سنة بعد، افرأيت إبراهيم؟» فأجابهم: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يوحنا 8: 58). فرفعوا حجارة ليرجموه. لقد أدركوا المعنى الخطير الذي أعلنه بقوله: «قبل إبراهيم أنا كائن» - هذا إعلان لألوهيته، فكيف رآه إبراهيم ما لم يكن صاحب طبيعة أخرى أزلية كانت من البدء (يوحنا 1: 1) وقوله: «أنا كائن» هو نفس الاسم الذي أعلن الله نفسه به يوم أرسل موسى لليهود «وَقَالَ: «هٰكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ (أي أنا كائن) أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ» (خروج 3: 14) - لقد فهموا أنه يقول إنه الله، ويدَّعي لنفسه الأزلية، فأرادوا أن يرجموه، لكنه أفلت منهم، لأن ساعته لم تأت بعد، فاختفى وخرج من الهيكل مجتازاً في وسطهم ومضى.

6 - شروط اتباع المسيح

«وَحِينَ تَمَّتِ ٱلأَيَّامُ لارْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً، فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهاً نَحْوَ أُورُشَلِيمَ. فَلَمَّا رَأَى ذٰلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، قَالا: «يَا رَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ ٱلسَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضاً؟» فَٱلْتَفَتَ وَٱنْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ ٱلنَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ». فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى» (لوقا 9: 51-56).

في رحلة المسيح الأخيرة من الجليل في الشمال إلى اليهودية في الجنوب، قصد أن يمرَّ بالسامرة، وهي الجزء المعروف باسم «عبر الأردن» في كلام النبي إشعياء عن الأراضي التي سوف يبصر شعبها نوراً عظيماً (إشعياء 9: 2).

وأرسل المسيح خبراً إلى قرية سامرية قصد أن يبيت فيها مع تلاميذه، فهاج التعصُّب السامري لما سمعوا بقدوم جماعة من اليهود مع هذا المعلم الشهير، متَّجهين إلى أورشليم ليؤدّوا فيها فروض الدين، لأن السامريين يتمسكون بوجوب تأديتها في جبلهم المقدس. ولربما أخذتهم أيضاً غيرة الحسد، فنفروا من المسيح لإِهماله بلادهم، وخدمته لخراف بيت إسرائيل الضالة وحدها في إحساناته العجيبة. ولربما استصعبوا تقديم الضيافة لعدد كهذا من المسافرين. فرفضوا قبوله.

لما عاد المرسَلون بخبر الرفض، استاء التلاميذ جداً من هذه الإِهانة لقائدهم العظيم، ولهم. كنا نتوقع تحمُّس بطرس في مقدمة القوم، لكن سبقه ابنا زبدي: يعقوب ويوحنا، اللذان سمّاهما المسيح «ابني الرعد» وأستأذنا منه أن يُنزِل ناراً من السماء تهلك هؤلاء السامريين. ألم تسقط في هذه المقاطعة قديماً نار من السماء بطلب النبي إيليا، فأهلكت مئة رجل من جنود الملك أخزيا الذين أرسلهم للقبض على النبي؟ (2 ملوك 1: 10). أوَلمْ يتعلما أمساً على جبل التجلي أن معلمهما أعظم من إيليا؟ فما دام الغضب الإِلهي حلَّ ناراً على الذين أهانوا إيليا، فكيف لا يُجازَى بمثل ذلك الذين أهانوا سيدهم الذي عرفا واعترفا أنه ابن اللّه ومسيحه؟

لكن في بعض الأمور لا يصلح الاقتداء بالأنبياء. وانتهر المسيح يعقوب ويوحنا، وقال: لستما تعلمان من أي روح يجب أن تكونا وأنتما في صحبتي. إن ما جرى حتى الآن أمامكما كافٍ لتعلما ما هو روح المحبة الذي فيَّ، والذي يجب أن يكون في تلاميذي أيضاً. فالروح الذي ساقكما إلى هذا الطلب لا يخلو من اندفاع الشباب وانتقام الكبرياء. فهل رأيتما فيَّ شيئاً من هذا؟ قد ساقكما روح التعصب المذهبي الذي نشأتما عليه، فكنتما تحسبان هؤلاء السامريين كلاباً نجسة، فاستصعبتُما احتمال الإِهانة ممَّن تحتقرانهم. فهل رأيتما هذا فيّ؟ لما هاج عليّ جمهور الناصرة وجرُّوني إلى حافة الجبل ليقتلوني - هل عاقبتُ أحداً منهم؟ ولما قاموا عليّ في اليهودية ليرجموني، هل انتقمت من إنسان؟ ولما طردوني من كورة الجدريين، هل قاومتُ أحداً لذلك؟ ألم أقل تكراراً: «أحبوا أعداءكم. أحسنوا إلى مبغضيكم». فكيف تطلبان الآن أن تُفنيا بنار من السماء أهالي هذه القرية؟ ألستما تعلمان بعد كل هذا أني لم أت لأهلك الناس جسداً أو نفساً، بل لأخلصهم؟

رفض المسيح اقتراح تلميذيه بإحراق السامريين الذي رفضوه، وانتقل مع تابعيه إلى قرية أخرى. ويُرجَّح أن موقعها وراء الحدود السامرية، وقدم بذلك مثالاً للطف والحلم والوداعة في احتمال عمل سخيف. كانت أعمال الشفاء في هذه الرحلة أكثر من كافية لتشغل كل أوقاته، لكن البشير يقول: «وكعادته كان أيضاً يعلّمهم» لأن اهتمامه الأول بالتعليم الروحي. وهذا درس لجميع الذين يشتغلون في أعمال الرحمة للأجساد، أن يرافقوها بالتعاليم الروحية لأجل النفوس.

ثلاثة أمثال

«وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ فِي ٱلطَّرِيقِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ: «يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ». وَقَالَ لآخَرَ: «ٱتْبَعْنِي». فَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، ٱئْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «دَعِ ٱلْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَٱذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ». وَقَالَ آخَرُ أَيْضاً: «أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلٰكِنِ ٱئْذِنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ ٱلَّذِينَ فِي بَيْتِي». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى ٱلْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى ٱلْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ» (لوقا 9: 57-62).

جاء أحد علماء الدين المعروفين بالكتبة للمسيح. وبعد السلام قال: «يا سيد، أتبعك أينما تمضي». لربما ظن أن المسيح يفتخر بتابع كهذا ويرحب به كثيراً. لكن نستنتج من ردّ المسيح عليه أن في قلب هذا الكاتب مطامع عالمية. فلا نصيب له أو لأمثاله في صحبة المسيح الذي وهو الإِله المتأنِّس تنازل إلى أدنى درجات الفقر الزمني، تعزية لفقراء العالم، لكي لا ييأس أفقر البشر لشدة فقره. كان سريره مستعاراً لا مِلكاً، وقبره كذلك - ومثلهما كل ما استعمله بين المهد واللحد. كانت معيشته من مال المحبِّين. ولم يترك للإاقتسام بعد موته سوى الثياب التي عليه، والأكفان التي تركها في القبر عند قيامته. فكان جوابه لهذا الكاتب: «للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار. وأما ابن الإِنسان فليس له أين يسند رأسه». ثم انطفأ خبر هذا الكاتب.

وقدم المسيح بعد ذلك دعوة لأحد رفقائه المؤمنين ليكون تلميذاً ملازماً، فرضي، على شرط أن يعطيه المسيح مهلة ليذهب أولاً ويدفن أباه. وهو يقصد أن يلازم أباه العجوز إلى أن يموت - وكان هذا واجباً مقدساً، بعده يترك كل شيء ويتبع المسيح. لكن المسيح لم يتساهل معه لأنه لم يضع الواجبات للوالدين بعد الواجبات للّه. فأمره أن يترك للموتى روحياً تدبير أمر الموتى جسدياً، لأنه كحي روحياً بعد إيمانه الجديد يجب أن يلتصق بالأحياء روحياً مثله. لا ريب في تمسُّك المسيح بالوصية التي تأمر بإكرام الوالدين، وقد برهن ذلك في حداثته في الناصرة لما كان خاضعاً لأبويه. ونذكر أنه أنَّب رؤساء اليهود الذين كانوا ينقضون الواجبات للوالدين تحت حجة «قربان» (مرقس 7: 10-13) فيكون أن الذي جعله يأمر هذا الرجل أن يترك أباه ويتبعه هو، أنه يطلب لنفسه حقوق العزة الإِلهية. فمتى تضاربت الحقوق الإِلهية مع الواجبات الوالدية، تُقدَّم الحقوق الإلهية على كل شيء.

ثم تقدم رجل ثالث بقصد أن يتبع المسيح. إنما يطلب أن يغيب بعض الوقت ليودع أهل بيته، فلم يسمح المسيح له. يُحتمل أن بيته كان في بلدة بعيدة، أو أن المسيح عرف أن أحوال بيته تعاكس قصده الحسن، فإنْ رجع ليودّع أهله يضغطون عليه ويمنعونه. أو أن المسيح قصد أن يوضح أمام جميع تابعيه أنه لا يجوز تأخير دعوته مطلقاً ولو قليلاً، فأجابه على استئذانه: «ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت اللّه».

الإتِّباع العملي

«وَبَعْدَ ذٰلِكَ عَيَّنَ ٱلرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضاً، وَأَرْسَلَهُمُ ٱثْنَيْنِ ٱثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعاً أَنْ يَأْتِيَ. فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ ٱلْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلٰكِنَّ ٱلْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَٱطْلُبُوا مِنْ رَبِّ ٱلْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ. اِذْهَبُوا. هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلانٍ بَيْنَ ذِئَابٍ. لا تَحْمِلُوا كِيساً وَلا مِزْوَداً وَلا أَحْذِيَةً، وَلا تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي ٱلطَّرِيقِ. وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلامٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ ٱبْنُ ٱلسَّلامِ يَحِلُّ سَلامُكُمْ عَلَيْهِ، وَإِلا فَيَرْجِعُ إِلَيْكُمْ. وَأَقِيمُوا فِي ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ، لأَنَّ ٱلْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ. لا تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ. وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ، فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ، وَٱشْفُوا ٱلْمَرْضَى ٱلَّذِينَ فِيهَا، وَقُولُوا لَهُمْ: قَدِ ٱقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ، فَٱخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا: حَتَّى ٱلْغُبَارُ ٱلَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ. وَلٰكِنِ ٱعْلَمُوا هٰذَا أَنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ. وَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَكُونُ لِسَدُومَ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ» (لوقا 10: 1 12).

لا شك أن عدداً كبيراً من الناس كان يتبع المسيح كتلاميذ له، كان من بينهم سبعون رجلاً يصلحون لأن يرسلهم للتبشير في القرى والمدن اثنين اثنين، وكلفهم أن يقدّموا للناس التعليم والشفاء، كما فعل لما أرسل الإثني عشر. وبإرسالهم اثنين اثنين تظهر أهمية العمل أكثر مما لو ذهبوا أفراداً، فيشجع الواحد منهم الآخر ويصلِح أغلاطه، ويتناوبان في الكلام والأعمال. فلو زاد عدد كل فريق عن اثنين يثقلون على مضيفيهم، وتقلّ أماكن تبشيرهم. وبمنحه إياهم قوة الشفاء يكتسبون انتباه الناس وثقتهم ومحبتهم، ويظهِرون اهتمام سيدهم بصالح الجميع، الزمني مع الروحي، ويبشرون بالملكوت الجديد الذي اقترب منهم، وبملك هذا الملكوت الذي أرسلهم أمامه.

وزوّد المسيح السبعين بمثل النصائح والإعلانات التي قدّمها للاثني عشر قبلهم، إلا أنه أضاف عليها وصيته أن لا يسلّموا على أحد في الطريق، لأن الوقت قصير، بالكاد يكفي للتعليم والشفاء. ومن عاداتنا الشرقية أننا نكثر السلامات التي تضيِّع الوقت. وأوصاهم أيضاً أن يأكلوا ما يُقدَّم لهم دون سؤال أو اعتراض، وأن يهملوا الطقوس اليهودية في أمر المأكولات، لئلا تقف حاجزاً بينهم وبين الذين يقبلونهم في بيوتهم، وأردف هذا بقوله: «لأن الفاعل مستحق أجرته».

«فَرَجَعَ ٱلسَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ: «يَا رَبُّ، حَتَّى ٱلشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِٱسْمِكَ». فَقَالَ لَهُمْ: «رَأَيْتُ ٱلشَّيْطَانَ سَاقِطاً مِثْلَ ٱلْبَرْقِ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَاناً لِتَدُوسُوا ٱلْحَيَّاتِ وَٱلْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ ٱلْعَدُّوِ، وَلا يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ. وَلٰكِنْ لا تَفْرَحُوا بِهٰذَا أَنَّ ٱلأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ ٱفْرَحُوا بِٱلْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (لوقا 10: 17-20).

نرجح أن السبعين مبشراً رجعوا تدريجياً، لكنهم رجعوا جميعاً بنغمة الفرح مع شيء من التعجُّب. يظهر أن السلطان الذي منحه المسيح لهم لم يتناول إخراج الشياطين، فلما شرعوا بإخراج الشياطين أيضاً ونجحوا فاض ابتهاجهم، حتى كان خبر هذا النجاح يشغل المحل الأول في تقاريرهم لمرسِلهم. قالوا: «يا رب، حتى الشياطين تخضع لنا باسمك». فلماذا اسم المسيح وليس اسم اللّه؟ وأي فعلٍ لمجرد الاسم، ما لم يكن المسيح معهم روحياً، رغم غيابه عنهم جسدياً؟

في جواب المسيح عليهم نبّههم إلى أن نجاحهم راجع إلى العمل الإِلهي في طرد إبليس من السماء التي سقط منها بسبب كبريائه. كأنه يقول لهم: أنتم رأيتُم فشل بعض الجنود، ولكني رأيت فشل رئيسهم وسقوطه. رأى المسيح بروح النبوَّة سقوط الشيطان التام في المستقبل، فسيأخذ المسيحُ إبليس أسيراً، ذلك الذي طالما أسر البشر لإرادته. لطالما قيَّد إبليسُ البشر بقيودِ الطبيعة المفسدة والعادات الذميمة. من لقبه «رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 16: 11) تظهر مملكته.. ومن لقبه «سُلْطَانِ ٱلْهَوَاءِ» (أفسس 2: 2) يظهر مسكنه.. ومن لقبه «سُلْطَانِ ٱلظُّلْمَةِ» (كولوسي 1: 14) يظهر نوع أعماله.. ومن لقبه «ٱلَّذِي يَعْمَلُ ٱلآنَ فِي أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ» (أفسس 2: 2) يظهر مَنْ هُمْ رعاياه.

كان المسيح قد قال: «كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟ فحينئذ أصرح لهم: إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم»(متّى 7: 22 و23). أفلا يعلمون أن نجاحهم في إخراج الشياطين محفوف بخطر الكبرياء، لأنه في الظاهر نتيجة عملهم، بينما النجاح الحقيقي الذي هو كتابة اسمائهم في السماوات هو عمل اللّه وهبة من نعمته المجانية؟ هنيئاً لهؤلاء الذين حقق المسيح لهم أن أسماءهم مكتوبة في السماء. لكن هل لمجرد إنسان بشري حق أن يصرح لأناس مخصوصين أن أسماءهم مكتوبة في السماوات؟ ألا يوضح لنا هذا أن المسيح هو ابن الإنسان وابن اللّه معاً؟

فرح المسيح بخدمة أتباعه

«وَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِٱلرُّوحِ وَقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ، رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا ٱلآبُ، لأَنْ هٰكَذَا صَارَتِ ٱلْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ». وَٱلْتَفَتَ إِلَى تَلامِيذِهِ وَقَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ ٱلابْنُ إِلا ٱلآبُ، وَلا مَنْ هُوَ ٱلآبُ إِلا ٱلابْنُ، وَمَنْ أَرَادَ ٱلابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ». وَٱلْتَفَتَ إِلَى تَلامِيذِهِ عَلَى ٱنْفِرَادٍ وَقَالَ: «طُوبَى لِلْعُيُونِ ٱلَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَهُ، لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكاً أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَلَمْ يَنْظُرُوا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا» (لوقا 10: 21-24).

في حياة المسيح كلها لم نقرأ أنه تهلل إلا في هذا الوقت، مع أننا نقرأ ثلاث مرات أنه بكى، وعدة مرات أنه انزعج أو اضطرب بالروح أو حزن.. تهلل لأنه رأى في غلبة تلاميذه على العدو، واستفادة الناس منهم، أعظم نجاح حصل إلى الآن في عمله. وفي تهلُّله اتجهت روحه طبيعياً، ليس نحو الناس، بل نحو الآب السماوي، فحمده بعبارات استعملها سابقاً. ثم قال لهم على انفراد: «إن أنبياء كثيرين وملوكاً أرادوا أن ينظروا ما أنتم تنظرون ولم ينظروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا».

لا نغفل الفائدة العظيمة التي حصلت لهؤلاء السبعين ولنا نحن أيضاً بواسطة إرساليتهم هذه. فعندما كلّف السبعين بالعمل الذي خصَّ به التلاميذ الاثني عشر سابقاً، علَّمنا أن التبشير ليس محصوراً في رجال الدين القانونيين، بل أن على كل مؤمن أن يكون مبشراً، وأن يخصص قسماً من أوقاته وأمواله للتبشير بالإِنجيل. متى أدرك المسيحيون هذه الحقيقة، وعملوا بموجبها، يفعلون المعجزات الروحية. وقد قال عنها المسيح لتلاميذه: «مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَٱلأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي» (يوحنا 14: 12) والحمد للّه أن الشواهد على صدق هذا القول واضحة في تاريخ الكنيسة قديماً في زمان الرسل والآباء، وحديثاً في تاريخ انتشار الإِنجيل في بلدان كثيرة.

7 - من هو قريبي؟

«وَإِذَا نَامُوسِيٌّ قَامَ يُجَرِّبُهُ قَائِلاً: «يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ؟» فَقَالَ لَهُ: «مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلنَّامُوسِ. كَيْفَ تَقْرَأُ؟» فَأَجَابَ: «تُحِبُّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ». فَقَالَ لَهُ: «بِٱلصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هٰذَا فَتَحْيَا». وَأَمَّا هُوَ فَإِذْ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّرَ نَفْسَهُ، سَأَلَ يَسُوعَ: «وَمَنْ هُوَ قَرِيبِي؟» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «إِنْسَانٌ كَانَ نَازِلاً مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَرِيحَا، فَوَقَعَ بَيْنَ لُصُوصٍ، فَعَرَّوْهُ وَجَرَّحُوهُ، وَمَضَوْا وَتَرَكُوهُ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيْتٍ. فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِناً نَزَلَ فِي تِلْكَ ٱلطَّرِيقِ، فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَكَذٰلِكَ لاوِيٌّ أَيْضاً، إِذْ صَارَ عِنْدَ ٱلْمَكَانِ جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَلٰكِنَّ سَامِرِيّاً مُسَافِراً جَاءَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ، فَتَقَدَّمَ وَضَمَدَ جِرَاحَاتِهِ، وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتاً وَخَمْراً، وَأَرْكَبَهُ عَلَى دَابَّتِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى فُنْدُقٍ وَٱعْتَنَى بِهِ. وَفِي ٱلْغَدِ لَمَّا مَضَى أَخْرَجَ دِينَارَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا لِصَاحِبِ ٱلْفُنْدُقِ، وَقَالَ لَهُ: ٱعْتَنِ بِهِ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ. فَأَيُّ هٰؤُلاءِ ٱلثَّلاثَةِ تَرَى صَارَ قَرِيباً لِلَّذِي وَقَعَ بَيْنَ ٱللُّصُوصِ؟» فَقَالَ: «ٱلَّذِي صَنَعَ مَعَهُ ٱلرَّحْمَةَ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ٱذْهَبْ أَنْتَ أَيْضاً وَٱصْنَعْ هٰكَذَا» (لوقا 10: 25-37).

بعد رجوع السبعين جاء أحد علماء الشريعة لكي يجرب المسيح فسأله: «يا معلم، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟».

لو كان سؤاله عدائياً لوبَّخه المسيح توبيخاً صارماً، لكنه كان سؤال مماحكة بسيطة، فأخذ جواباً يلائمه، هو ردُّ السؤال إلى السائل، ليجيب هو عليه، مما هو مكتوب في الشريعة. كان جواب هذا الكاتب ممتازاً كسؤاله. فقال: «تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل أفكارك، وقريبك مثل نفسك». فقال له المسيح: «بالصواب أجبت. افعل هذا فتحيا». قد أدرك هذا الرجل الشريعة الإِلهية إدراكاً كافياً، لكنه علم جيداً أنه لا يستطيع تماماً أن يحب اللّه وقريبه لهذه الدرجة. وأنه على هذه القاعدة ليس له ولا بغيره حق في الحياة الأبدية. إذاً فالمعرفة وحدها لا تريح الضمير بل تزعجه، ولا تزيل الدينونة بل تزيدها، وحفظ الناموس لا يخوِّل الخلاص ما لم يُحفظ تماماً.

لذلك يطلب اللّه من كل خاطئ أن يعرف ليس الشريعة فقط بل نفسه أيضاً وتقصيرها وعجزها. وكان عالِم الشريعة هذا ناقصاً في معرفة نفسه، فقصد أن يبرّر نفسه وهو ليس باراً. لم يقدر أن يسأل من هو اللّه لأحبه، فسأل: من هو قريبي لأعرف إنْ كنتُ أحبه كنفسي، فأرث الحياة الأبدية؟ وأجاب المسيح مرة أخرى بسؤال، ليجعل السائل نفسه يجيب على ما سأل. ولكي يمهد المسيح لتقديم السؤال الثاني روى مثلاً نعرفه باسم «مثل السامري الصالح».

روى المسيح لعالم الشريعة قصة مسافر يهودي كان ذاهباً من أورشليم إلى أريحا ووقع بين أيدي اللصوص، فسلبوه كل شيء حتى ثيابه، وأشبعوه ضرباً وجرحاً حتى لم يعد يقدر أن يصرخ أو يستجير، وتركوه بين حي وميت. وحدث أن كاهناً نزل في تلك الطريق فرآه.

حسب اصطلاح الناس، وحسب فكر هذا الكاهن، كانت مقابلة هذا الجريح تبدو صدفة، مع أنها من تدابير العناية الإِلهية، شفقة على هذا التعيس. وبصدفة كهذه، يمتحن اللّه كل واحد منّا: هل نلبي الدعوة الإِلهية الخفية التي تنتدبنا لأعمال الرحمة والخير؟

لما رأى الكاهن هذا المسكين «جاز مقابله». ولا بد أنه حاول أن يبرر نفسه بأعذار واهية، لكنه غير معذور في ما فعل. فالمصاب أخوه في الجنسية اليهودية، وهو مكلَّف رسمياً بإغاثة هذا المسكين، لأنه أحد رؤساء الدين، ومسئوليته خدمة الشعب في كل ما يمكن. وقد أُفرز ليكون قدوة للشعب في أعماله. لذلك كان هروبه من المسؤولية تقصيراً كبيراً.

بعد الكاهن مرَّ زميل له، وهو لاويّ - أي في المنزلة الثانية من رجال الدين. نراه أفضل من الأول، لأنه إذْ صار عند المكان «جاء ونظر». تحرك فيه بعض الحنان، لكنه لم يترجم شعوره إلى عمل، إذْ هو أيضاً «جاز مقابله».

لا يجهل الكاهن واللاوي الوصية المكررة في الشريعة والتي توجب مساعدة الأخ في ساعة الضيق. فكيف الأمر الآن وخادما دينٍ قد رأيا أخاهما في أسوأ حال، ولم يمدَّا له يد المساعدة؟ هل اعتذرا بأنهما قد عملا واجباتهما للّه وللناس، لأنهما أتمَّا كل الفروض الدينية؟ أو هل حسبا أن هذا الإنسان قارب الموت ولا فائدة من خدمته، بل إنْ مات بين أيديهما يتنجّسان، فيتعطّلان مؤقتاً عن ممارسة الفرائض الدينية؟ كان يجب عليهما أن يذكرا القول الإلهي: «إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لا ذَبِيحَةً» (هوشع 6: 6). هل اعتذرا بمخاطر الطريق التي أثبتها ما حدث للرجل الجريح، فحسبا الابتعاد ضروريا لأجل سلامتيهما؟ أو هل اعتذر الكاهن بأن اللاوي وراءه فترك له هذه الخدمة، واكتفى اللاوي بأن الكاهن الذي سبقه أرفع مقاماً منه في الدين وملزوم أكثر منه، حتى ما لا يُطالَب به الكاهن لا يُطالَب به اللاوي. هل بين أعذارٍ كهذه ما تقبله الشهامة أو ما يقبله اللّه؟

لقد أدان المسيح الكاهن واللاوي، ونجد في هذا برهاناً قوياً على أن الإنسان لا يُدان فقط على ما يفعله من الشر، بل أيضاً على ما يهمله من الخير. فمع أنه لم يُذكَر للكاهن واللاوي سيئة فعلاها، يلومهما الرأي العام، بسبب ما لم يفعلاه لما تغاضيا عن مصيبة أخيهما.

نلتفت الآن من صورة الكاهن واللاوي المحزنة، إلى صورة مبهجة تفاجئنا هي صورة مسافر ثالث غريب الجنس، سامري، يعتبرونه عدواً طبيعياً لليهودي الواقع بين اللصوص. لو كان الجريح في صحته وسلامته لكان يبصق على هذا السامري ويشتمه ويتنجس منه، لأنه أبعد الناس عنه. ولعل هذا السامري عرف أن أخوي هذا الجريح قد مرَّا به ولم يريا لزوماً للالتفات إليه. لكن على رغم هذا كله أطاع الأمر الإِلهي بمحبة القريب والتي أوردتها الأسفار الخمسة لموسى التي يعترف بها السامريون (لاويين 19: 15) فصحَّ مرة أخرى قول المسيح في الآخِرين الذين يصيرون أولين، والأولين الذين يصيرون أخِرين.

نزل هذا السامري عن دابته، ومال إلى الجريح وفحصه، ثم صبَّ على جروحه خمراً وزيتاً، وضمّدها. ثم أركبه على دابته ومشى ماسكاً به في هذه الطريق الوعرة إلى أن أوصله إلى الفندق. وهناك لم يستعْفِ من المسؤولية والتعب والخسارة، فدفع نفقة إعالة الجريح مالاً يعادل أجرة الفاعل مدة يومين، ووعد أن يسدّد فيما بعد ما ينفقه صاحب الفندق عليه فوق ذلك، إلى أن يُشفى ويواصل سفره.

لما أكمل المسيح هذه القصة سأل عالِم الشريعة: أي الثلاثة الذين مرُّوا بهذا الجريح تصرَّف كقريب يحب قريبه كنفسه. وكانت الإجابة الواجبة هي: «السامري». لكن التعصُّب لم يدعه ينطق باللفظ الصريح أن سامرياً أفضل من كاهن يهودي، فاكتفى بالتلميح وأجاب: «الذي صنع معه الرحمة». اكتفى المسيح بهذا الجواب وقال: «إذهب أنت أيضاً واصنع هكذا». أي: كُنْ أنت قريباً لكل من يحتاج مساعدة منك تستطيعها، ولو كان عدوك.

ذكر المسيح هذا السامري، لا ليكرم السامريين، ولا ليهين الكهنة واللاويين لكن ليعلّم أن الغريب عن الدين الذي يطيع شريعة المحبة خير من خادم الدين الذي يخالفها. سأل عالم الشريعة: «من يستحق أن يُعامَل كقريب؟» وكان الأوجب أن يسأل: «قريب من أنا؟ وهل تصرفي مع الناس هو تصرُّف قريبٍ يحبُّهم كنفسه؟». القريب هو الذي تلتقي طريقي بطريقه، والذي يمكن أن تصل إليه يدي، فمهما ابتعد قلبه عني وعاداني، لا يزال قريبي، ويطلب اللّه مني أن أحبه كنفسي، وأعامله معاملة تدلُّ على أن هذه المحبة حقيقية.

جدَّد المسيح في هذه القصة تعليمه الرئيسي بأن الدين لا يقوم بحفظ الفروض الخارجية والطقوس المذهبية، إذْ أن الشخصين اللذين أكملا هذه الفروض الحقَّة المعيَّنة من الله، وأكملاها في الهيكل المقدس، خالفا أساس الدين المتعلقِّ بمحبة القريب. ومن يخالف وصية محبة القريب لا يمكن أن يكون محباً حقيقياً للّه. إذاً فالكاهن واللاوي لم يحفظا شيئاً من جوهر الدين، بينما قبل اللّه السامري الذي لم يتمم فروض الدين الخارجية، وكان أجنبياً عن شعب اللّه المختار، ولكنه أظهر محبته للّه بمحبته لقريبه.

هدم المسيح بهذه القصة جداراً من الجدران الفاصلة بين المذاهب، وأوضح أن الجوهر في الدين لا يختص بالمذهب بل بالمحبة. يجب أن تربط المذاهب المختلفة رابطة روحية تثبت وحدة الإيمان رغم اختلاف التفسير. وأن لا يخلّ هذا الاختلاف بالمحبة الأخوية. إن الحق الجوهري واحد، والصالح واحد، والاهتداء إلى اللّه هو المقصود في كل فروع الدين.

مريم ومرثا تستقبلان المسيح

«وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ دَخَلَ قَرْيَةً، فَقَبِلَتْهُ ٱمْرَأَةٌ ٱسْمُهَا مَرْثَا فِي بَيْتِهَا. وَكَانَتْ لِهٰذِهِ أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَمَ، ٱلَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلامَهُ. وَأَمَّا مَرْثَا فَكَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ، فَوَقَفَتْ وَقَالَتْ: «يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدِمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي!» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «مَرْثَا مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلٰكِنَّ ٱلْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَٱخْتَارَتْ مَرْيَمُ ٱلنَّصِيبَ ٱلصَّالِحَ ٱلَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا» (لوقا 10: 38-42).

واصل المسيح وتلاميذه سفرهم نحو أورشليم، إلى أن بلغوا بيت عنيا، التي تبعد عن المدينة نحو ثلاثة أرباع ساعة سيراً على الأقدام. وبيت عنيا ذات رائحة ذكية في التاريخ، بسبب عائلة تقية سكنتها، منحها المسيح صداقة شخصية ممتازة، قابلتها بتقديم مكان مريح للمسيح وتلاميذه، يأوون إليه مسرورين كلما شاءوا. وعندما دخل المسيح هذا البيت مع تلاميذه وغيرهم من مرافقيه اجتمع قوم من أهل القرية فأخذ يعلّمهم كعادته. عند ذلك ظهر الفرق بين الأختين المتساويتين في الاهتمام الحبي بإكرام هذا الضيف الشهير وطلب رضاه، فمرثا الأكبر سناً، ومدبرة البيت، اهتمت بالخدمة الجسدية وارتبكت في تجهيز طعام كثير. ولا عجب، لأن عدد الضيوف الذين باغتوها، ومقام معلمهم النبي العظيم صانع المعجزات يستحقان هذا الارتباك.

أما مريم فقد قادتها بصيرتها إلى أن المسيح ليس كغيره من كبار القوم، يفرح بمظاهر الضيافة الكريمة، أو يسأل كثيراً عما قد يُقدَّم له من طعام، بل شعرت أن معظم سروره ينتج عن إصغاء الناس إلى تعاليمه. فقد قال: «طوبى للجياع والعطاش إلى البر» (متى 5: 6). فجلست عند قدميه تسمع كلامه. وبهذا مثلت تمثيلاً جميلاً القليلين الذين ليست الدنيا عندهم إلا تابعة للدّين وخاضعة له. ليس أنهم يقصدون ترك الدنيا وشرورها، بل يضعون الدين قبلها. هؤلاء هم الذين أسماؤهم مكتوبة في سفر الحياة، لأن اللّه قد اختارهم للحياة الأبدية، وعلى جبينهم علامة اختياره لهم.

كان خطأ مرثا في هذا الوقت هو تقديم الحسن الدنيوي على الأحسن الديني. وكثيراً ما يمنع الحسن الوصول إلى الأحسن. ولأن الخطأ لا يولّد إلا الخطأ تذمرت في قلبها على أختها، وحسدتها لجلوسها عند قدمي المسيح. ثم أنتج تذمُّرها تذمراً على المعلم ذاته. كان الأولَى بها أن تفرح لحصول أختها على هذه الفرصة الثمينة للاستفادة، أو على الأقل أن تقول لها: اعملي معي أولاً يا أختي، ثم نجلس سوية عند قدمي المعلم. لكنها وقفت وقالت: «يا رب، أما تبالي بأن أختي قد تركتني أخدم وحدي؟ فقُلْ لها أن تعينني».

كان المسيح يعلم جيداً ضرورة الماديات، وكان يخدم ماديات الناس كثيراً مع روحياتهم. لكنه لم يغفل أن يشرح أنها إنْ كانت تقصد إرضاءه، فهو يسرُّ بمن يحب أن يسمع تعليمه أكثر ممن يقدم له خدمة جسدية.

فقال لها: «مرثا مرثا، أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة». كأنه يقول لها إن انهماكها في الأمور العالمية يحرمها الهدوء والسلام والسرور الناتجة عن طلب ملكوت اللّه، أي الخير الروحي، أولاً. ليس ضرورياً للإِنسان إلا أمر واحد وهو النصيب الصالح الذي اختارته مريم، وهو الذي سيبقى معها دائماً.

8 - المسيح يفتح عيني مولود أعمى

«وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلادَتِهِ، فَسَأَلَهُ تَلامِيذُهُ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هٰذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «لا هٰذَا أَخْطَأَ وَلا أَبَوَاهُ، لٰكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ ٱللّٰهِ فِيهِ. يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ. مَا دُمْتُ فِي ٱلْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ ٱلْعَالَمِ». قَالَ هٰذَا وَتَفَلَ عَلَى ٱلأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ ٱلتُّفْلِ طِيناً وَطَلَى بِٱلطِّينِ عَيْنَيِ ٱلأَعْمَى. وَقَالَ لَهُ: «ٱذْهَبِ ٱغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ». ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ. فَمَضَى وَٱغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً» (يوحنا 9: 1-7).

مرَّ المسيح في مدينة أورشليم برجل وُلد أعمى، فسأله تلاميذه: «من أخطأ، هذا أم أبواه، حتى وُلد أعمى؟». أجابهم المسيح بما معناه أن هذه المصيبة العظيمة لم تأتِ هذا الرجل نتيجة خطيئة ارتكبها هو أو والداه، إنما سمحت العناية الإِلهية بهذه الضربة لتظهر أعمال اللّه في المُصاب.

ما أعظم الفرق بين هذا الكلام المعزي من المسيح، وكلام التأنيب الموجِب لليأس الذي كان يسمعه ذلك الأعمى كل حياته من الجميع عن أسباب مصيبته. ها هو يسمع لأول مرة أن مصيبته هذه لا تدل على أنه مغضوب عليه من اللّه ومرفوض، بل بالعكس، أن للّه في مصيبته مقاصد صالحة، فنقله هذا الكلام من عالم اليأس إلى عالم الرجاء. سأل عن اسم من يكلِّمه، وعرف أن اسمه «يسوع». يا لمصيبة عماه! إنه لا يستطيع أن يرى هذا الذي انتصر له. لو قدم له المسيح في هذه الساعة ليس الدنانير النحاسية التي تعوَّدها، بل الذهبية أيضاً، لما أحسن إليه بمقدار إحسانه بهذا الجواب، حتى لو تركه وشأنه حالاً.

لكن هذه اللفتة كانت بداية عمل المسيح الصالح معه. نبَّه المسيح سامعيه أولاً إلى قِصَر الفرصة الباقية له للعمل. قال: «ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار. يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل». ثم أشار إلى وظيفته كالنور الحقيقي الآتي إلى العالم الذي ينير كل إنسان، وقال: «ما دمتُ في هذا العالم فأنا نور العالم». أي أن الظلمة الجسدية والروحية التي أعثرت هذا الضرير هي ضدي وأنا ضدها، فسأزيلها. ثم فعل المسيح ما قاله. تفل على الأرض وصنع طيناً، وطلى بالطين عيني الأعمى، وأمره أن يذهب ويغتسل في بركة سلوام، فمضى واغتسل وأتى بصيراً.

ظهرت القوة الإلهية في هذا العمل بواسطة الفرق العظيم بين طريقة الشفاء ونتيجته. إن الطين يُعمي العين السليمة، لكن الطلي بالطين كان مهماً لأجل تحقيق العلاقة بين الفاعل وفعله، ولأجل إحياء الإيمان في قلب هذا الأعمى. كان مهماً أيضاً إيضاح ضرورة الطاعة التي هي ثمر الإيمان. فعلى الأعمى أن يطيع وإلا فلا يستفيد من عمل المسيح. ليست النتيجة العجيبة التي حدثت ثمر عمل الأعمى، لكنها توقفت على ذلك الفعل. ولو لم يؤمن لما أطاع. لو لم يطع بعد إيمانه لما جاز أن يُقال إنه آمن. جاءه الشفاء لأنه آمن إيماناً يثمر بالطاعة. وهذه على الدوام قاعدة الخلاص والإيمان والأعمال. من يؤمن يخلص، ومن يؤمن لا بد له أن يعمل. فإن لم يعمل حسب الفرصة المُعطاه له يحكم أنه لم يؤمن، فيهلك، ليس لأنه لم يعمل بل لأنه لم يؤمن إيماناً صحيحاً.

نرى هذا الأعمى يسير بين الجمهور، بعد أن طلى المسيح عينيه بالطين، وقَبْل أن يغسلهما في بركة سلوام، ووجهه ملطخ بالطين، وسيْره جديٌّ فوق العادة، مما ينبّه الناظرين ويثير عليه الاستهزاء. لكن الاستهزاء لم يُثْنه عن طاعته، ولا نصائح العقلاء له أن لا ينقاد لكلام المسيح المكروه من قادة الدين، وان لا يعرض نفسه لغيظ الرؤساء، لأنه يعمل في السبت ضداً لتعاليمهم. كل هذه لم تطفئ فتيلة إيمانه المدخنة، ولم تردَّه عن الذهاب إلى حيث أمره المسيح. ولما نال البصر عاد إلى المكان الذي فارق فيه المسيح ليمتّع بصره الجديد برؤية الذي أنعم عليه بهذه الهبة التي لا تُثمَّن، وليقدم له الشكر اللائق والواجب، ويستمد منه إرشادات جديدة دينية. لكنه لم يجد المسيح هناك، ولم يجد من يهديه إليه.

هذه المعجزة رمز مناسب جداً للخلاص. لأنها منحت هذا المولود أعمى ما لم يكن له سابقاً. كانت مصيبة هذا الرجل الكبرى أنه مولود أعمى بالمعنى الروحي أيضاً، لأنه وُلد في الإِثم والخطيئة كما ذكَّره الرؤساء، فمنحه المسيح مع البصر الجديد الجسدي، ما هو أهم بما لا يُقاس، وهو بصر جديد روحي.

«فَٱلْجِيرَانُ وَٱلَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَهُ قَبْلاً أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى، قَالُوا: «أَلَيْسَ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي؟» آخَرُونَ قَالُوا: «هٰذَا هُوَ». وَآخَرُونَ: «إِنَّهُ يُشْبِهُهُ». وَأَمَّا هُوَ فَقَالَ: «إِنِّي أَنَا هُوَ». فَقَالُوا لَهُ: «كَيْفَ ٱنْفَتَحَتْ عَيْنَاكَ؟» أَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: «إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ يَسُوعُ صَنَعَ طِيناً وَطَلَى عَيْنَيَّ، وَقَالَ لِي: ٱذْهَبْ إِلَى بِرْكَةِ سِلْوَامَ وَٱغْتَسِلْ. فَمَضَيْتُ وَٱغْتَسَلْتُ فَأَبْصَرْتُ». فَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ ذَاكَ؟» قَالَ: «لا أَعْلَمُ» (يوحنا 9: 8-12).

نال المولود أعمى شفاءه في يوم سبت - وهو يوم راحة عند اليهود. وعندما رأى المتعصبون الرجل ماشياً في السبت يطلب الشفاء حنقوا عليه، وأرادوا أن يعاقبوه لأنه خالف شريعة السبت المقدسة. ولم يجسر أحد أن يدافع عمَّا فعله المسيح، ولا عمَّا جرى مع الأعمى، لأن الرؤساء كانوا قد أعلنوا جهاراً أنه إن اعترف أحدٌ بأنه المسيح يُحرَم من امتيازاته الدينية والمدنيّة، ويطردونه من ممارسة العبادة.

لما فشل الأعمى الذي أبصر أن يرى شافيه، رجع إلى بيته ليرى والديه وجيرانه لأول مرة في حياته التي لم تقلّ عن الثلاثين سنة.

ما أعظم التغيير الذي حصل في منظر هذا الرجل بسبب ما جرى له. فقد انفتحت عيناه، وضاء وجهه بالفرح، وتغيّرت لهجته، فلم يعرفه الذين كانوا يعرفونه بعض المعرفة السطحية فقط. لهذا السبب اختلف الرأي بخصوصه. اعتقد البعض أن شفاءه وَهْمٌ وخداع، وأن هذا البصير ليس هو ذاك الضرير بل شخص آخر يشبهه. أما هو فقال: «إني أنا هو». ولما سألوه عما جرى له، ومن شفاه، أجابهم بالواقع. لكن لما سألوه عن شافيه أين هو؟ قال: «لا أعلم». وهو يتمنى لو استطاع أن يهتدي إلى مكان المسيح ليهديهم إليه.

«فَأَتَوْا إِلَى ٱلْفَرِّيسِيِّينَ بِٱلَّذِي كَانَ قَبْلاً أَعْمَى. وَكَانَ سَبْتٌ حِينَ صَنَعَ يَسُوعُ ٱلطِّينَ وَفَتَحَ عَيْنَيْهِ. فَسَأَلَهُ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً كَيْفَ أَبْصَرَ، فَقَالَ لَهُمْ: «وَضَعَ طِيناً عَلَى عَيْنَيَّ وَٱغْتَسَلْتُ، فَأَنَا أُبْصِرُ». فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ: «هٰذَا ٱلإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ ٱللّٰهِ، لأَنَّهُ لا يَحْفَظُ ٱلسَّبْتَ». آخَرُونَ قَالُوا: «كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ خَاطِئٌ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ؟» وَكَانَ بَيْنَهُمُ ٱنْشِقَاقٌ. قَالُوا أَيْضاً لِلأَعْمَى: «مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟» فَقَالَ: «إِنَّهُ نَبِيٌّ». فَلَمْ يُصَدِّقِ ٱلْيَهُودُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى فَأَبْصَرَ حَتَّى دَعَوْا أَبَوَيِ ٱلَّذِي أَبْصَرَ. فَسَأَلُوهُمَا قَائِلِينَ: «أَهٰذَا ٱبْنُكُمَا ٱلَّذِي تَقُولانِ إِنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى؟ فَكَيْفَ يُبْصِرُ ٱلآنَ؟» أَجَابَهُمْ أَبَوَاهُ وَقَالا: «نَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا ٱبْنُنَا وَأَنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى، وَأَمَّا كَيْفَ يُبْصِرُ ٱلآنَ فَلا نَعْلَمُ. أَوْ مَنْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ فَلا نَعْلَمُ. هُوَ كَامِلُ ٱلسِّنِّ. ٱسْأَلُوهُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنْ نَفْسِهِ». قَالَ أَبَوَاهُ هٰذَا لأَنَّهُمَا كَانَا يَخَافَانِ مِنَ ٱلْيَهُودِ، لأَنَّ ٱلْيَهُودَ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا أَنَّهُ إِنِ ٱعْتَرَفَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ ٱلْمَسِيحُ يُخْرَجُ مِنَ ٱلْمَجْمَعِ. لِذٰلِكَ قَالَ أَبَوَاهُ: «إِنَّهُ كَامِلُ ٱلسِّنِّ، ٱسْأَلُوهُ» (يوحنا 9: 13-23).

لم يهتدِ المتعصبون إلى الذي سبَّب هذه المخالفة، فجرُّوا الأعمى الذي أبصر إلى مجلسهم ليحاكموه. ولما طلب أعضاء المجلس أن يسمعوا القصة من فمه رأساً قصَّها عليهم. ولما علموا أن المسيح الذي يبغضونه وينوون قتله فعل هذه المعجزة حاروا في أمرهم. إنْ هم حكموا على المسيح بمخالفة السبت يثبتون المعجزة ويشِيعُون خبرها، فيزيد تمسُّك الشعب بالمسيح. ولأنه وقت العيد العظيم لا يُستبعَد أن الشعب يثير حركة سياسية، وينادي بالمسيح ملكاً. وإنْ هم أنكروا حقيقة المعجزة، يخسرون الحُجَّة التي فرحوا لها للحكم عليه بأنه دنَّس السبت. لذلك ترددوا وناقضوا ذواتهم لأنهم أثبتوا المعجزة أولاً، وافتكروا الآن أن يلاشوا تأثيرها بقولهم إن فِعْلها في يوم السبت برهان أن الفاعل ليس من اللّه، بل قد فعلها بقوة الشياطين!

لكن قوماً في المجلس اعترضوا بقولهم: «كيف يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه المعجزة؟» فحصل انقسام في المجلس، وغيَّروا خطَّتهم وعمدوا إلى حيلة ضد الأولى، إذْ حاولوا إنكار المعجزة لعلهم ينجحون في اتهام المسيح بالاحتيال، وطلبوا أن يجبروا الرجل وأبويه على إنكار المعجزة. ولكنه قال: «أعلم شيئاً واحداً: أني كنتُ أعمى والآن أبصر». هذا القول هو شعار كل من اختبر الخلاص بالمسيح، بواسطة الإيمان الحي به، لأنه يقدم الشهادة عينها.

«فَدَعَوْا ثَانِيَةً ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي كَانَ أَعْمَى، وَقَالُوا لَهُ: «أَعْطِ مَجْداً لِلّٰهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ خَاطِئٌ». فَأَجَابَ: «أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَٱلآنَ أُبْصِرُ». فَقَالُوا لَهُ أَيْضاً: «مَاذَا صَنَعَ بِكَ؟ كَيْفَ فَتَحَ عَيْنَيْكَ؟» أَجَابَهُمْ: «قَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَلَمْ تَسْمَعُوا. لِمَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تَسْمَعُوا أَيْضاً؟ أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصِيرُوا لَهُ تَلامِيذَ؟» فَشَتَمُوهُ وَقَالُوا: «أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا تَلامِيذُ مُوسَى. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ ٱللّٰهُ، وَأَمَّا هٰذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ». أَجَابَ ٱلرَّجُلُ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ فِي هٰذَا عَجَباً! إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَقَدْ فَتَحَ عَيْنَيَّ. وَنَعْلَمُ أَنَّ ٱللّٰهَ لا يَسْمَعُ لِلْخُطَاةِ. وَلٰكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَّقِي ٱللّٰهَ وَيَفْعَلُ مَشِيئَتَهُ فَلِهٰذَا يَسْمَعُ. مُنْذُ ٱلدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَداً فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى. لَوْ لَمْ يَكُنْ هٰذَا مِنَ ٱللّٰهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً». أَجَابُوا قَالُوا لَهُ: «فِي ٱلْخَطَايَا وُلِدْتَ أَنْتَ بِجُمْلَتِكَ، وَأَنْتَ تُعَلِّمُنَا!» فَأَخْرَجُوهُ خَارِجاً» (يوحنا 9: 24-34).

ولما وجَّه الرؤساء أسئلتهم للأعمى الذي أبصر قال: «قلت لكم ولم تسمعوا. لماذا تريدون أن تسمعوا أيضاً؟ ألعلكم أنتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟» فشتموه مفتخرين بأنهم تلاميذ موسى، بينما هو تلميذ هذا الجليلي المجهول الأصل. شتموه بحجة أنه ضلَّ وكفر في تسميته المسيح نبياً. ولامهم الأعمى الذي أبصر لأنهم - وهو معلمو الدين - يجهلون أصل شخص عمل ما يبرهن أنه من اللّه. وختم جوابه بكلام قوي أظهر ذكاءه وشجاعته وإيمانه. إذ قال إن كل تاريخهم منذ نشأة العالم لا يذكر شخصاً واحداً منح البصر لمولود أعمى. ثم قال: «نعلم أن اللّه لا يسمع للخطاة، ولكن إنْ كان أحد يتّقي اللّه ويفعل مشيئته فلهذا يسمع. لو لم يكن هذا من اللّه ما قدر أن يفعل شيئاً».

ويستند قوله هذا على بعض آيات الكتاب، فالخاطئ الوحيد الذي يسمع له اللّه هو الذي يقدم توبة حقيقية صادقة. فاستشاطوا غيظاً وقالوا له: «في الخطايا وُلدت أنت بجملتك وأنت تعلّمنا!». ثم حكموا عليه بالحَرْم الأعظم وأخرجوه من المجمع.

«فَسَمِعَ يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجاً، فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: «أَتُؤْمِنُ بِٱبْنِ ٱللّٰهِ؟» أَجَابَ: «مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «قَدْ رَأَيْتَهُ، وَٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ». فَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ». وَسَجَدَ لَهُ» (يوحنا 9: 35-38).

وما أن خرج الرجل من المجمع مطروداً حتى لاقاه المسيح، فقال له: «أتؤمن بابن اللّه؟». لم يعلن المسيح ذاته كابن اللّه للعلماء في الأمة، لكنه أعلن ذلك لهذا الفقير الميَّال إلى الإيمان، والذي ظهر جوهره لما أجاب: «من هو يا سيد لأومن به؟» فأناره المسيح بقوله: «قد رأيتَه، والذي يتكلم معك هو هو».

ما أصعب هذا الجواب على مسامع يهودي متمسك بالتوحيد. كيف يكون هذا الرجل الذي أمامه ابن اللّه وكل ملامحه بشرية؟ فإنْ كان حقاً ابن اللّه فيجب أن يسجد له حالاً، وإلا فلا يجوز، بل يكون السجود له خطيئة عظيمة. لقد عرف أولاً واعترف أن المسيح نبي ولم يسجد له، وأما الآن فيسجد، لأنه صدَّق أنه ابن اللّه، وهذا يُجيز سجوداً له لا يُعطَى لنبي أو ملك أو ملاك.

في هذه الساعة تمَّ شفاء هذا الرجل من عماه الروحي الذي وُلد فيه، فأبصر جلياً ورأى أمامه بعينه الجسديتين يسوع الناصري ابن مريم، وبعين الإِيمان رأى ابن اللّه الوحيد. أخذ هذا المسكين من رؤسائه الشتيمة والحرم، لكن المسيح عوَّض عليه أضعاف الأضعاف بالبركة والخلاص. أولئك أخرجوه من المجمع وأغلقوا في وجهه باب النظام الديني والحقوق المذهبية، لكن المسيح أدخله إلى ملكوت اللّه وفتح له باب السماء. وبسبب عماه اهتدى إلى الخلاص الأبدي، وربح صداقة هذا الخِلّ السماوي، ونال ذكراً شريفاً أبدياً في التاريخ. ثم أنه خدم المسيح بنشر صيته انتشاراً جديداً بشهادته الصادقة له، وخدم ذوي القلوب السليمة حوله بإعطائهم أسباباً كافية ليلجأوا إلى هذا المخلّص وينالوا به خلاصاً. أفلا يحقُّ لنا أن نتصَّوره بين القديسين في السماء يقدم شكراً وافراً على الدوام، لأنه وُلد أعمى.

9 - المسيح الراعي الصالح

«فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «قَدْ رَأَيْتَهُ، وَٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ». فَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ». وَسَجَدَ لَهُ. فَقَالَ يَسُوعُ: « لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هٰذَا ٱلْعَالَمِ، حَتَّى يُبْصِرَ ٱلَّذِينَ لا يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى ٱلَّذِينَ يُبْصِرُونَ». فَسَمِعَ هٰذَا ٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا لَهُ: «أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً عُمْيَانٌ؟» قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ، فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ».

«اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ٱلَّذِي لا يَدْخُلُ مِنَ ٱلْبَابِ إِلَى حَظِيرَةِ ٱلْخِرَافِ، بَلْ يَطْلَعُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَذَاكَ سَارِقٌ وَلِصٌّ. وَأَمَّا ٱلَّذِي يَدْخُلُ مِنَ ٱلْبَابِ فَهُوَ رَاعِي ٱلْخِرَافِ. لِهٰذَا يَفْتَحُ ٱلْبَّوَابُ، وَٱلْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ، فَيَدْعُو خِرَافَهُ ٱلْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ وَيُخْرِجُهَا. وَمَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ ٱلْخَاصَّةَ يَذْهَبُ أَمَامَهَا، وَٱلْخِرَافُ تَتْبَعُهُ، لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ. وَأَمَّا ٱلْغَرِيبُ فَلا تَتْبَعُهُ بَلْ تَهْرُبُ مِنْهُ، لأَنَّهَا لا تَعْرِفُ صَوْتَ ٱلْغُرَبَاءِ». هٰذَا ٱلْمَثَلُ قَالَهُ لَهُمْ يَسُوعُ، وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مَا هُوَ ٱلَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُمْ بِهِ» (يوحنا 9: 39-10: 6).

فتح المسيح عيني الرجل الذي وُلد أعمى، ولكن شيوخ اليهود قاوموا المسيح. وهاجموا الأعمى الذي أبصر. وطردوه من مجمعهم، فكيف يكلمهم المسيح؟

لقد أطلق عليهم لقب «سُرَّاق ولصوص» لأنهم لم يدخلوا على وظيفتهم الرعائية من الباب الوحيد الذي عيَّنه اللّه، الذي هو المسيح ذاته، بل طلعوا من موضع آخر. ولم يدخلوا بدعوة إلهية، ولا لأهلية فيهم، بل لنجاحهم في الوسائط السياسية. دخلوا من الثغرات في سور الحظيرة، فقد نالوا وظيفتهم الكهنوتية الرعوية بالإِرث أو المحاباة أو التمليق أو الرشوة أو الحيلة أو الاستبداد. فما الفائدة من تسلسلهم الهاروني ورسامتهم القانونية، وغير ذلك من الشروط الرسمية الخارجية، طالما هم تائهون عن الباب؟ والمسيح ذاته هو الباب. وإلى اليوم لا دخول للخدمة الرعائية إلا من هذا الباب.

المسيح هو الباب

«فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَنَا بَابُ ٱلْخِرَافِ. جَمِيعُ ٱلَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ وَلُصُوصٌ، وَلٰكِنَّ ٱلْخِرَافَ لَمْ تَسْمَعْ لَهُمْ. أَنَا هُوَ ٱلْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى. اَلسَّارِقُ لا يَأْتِي إِلا لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ، وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ» (يوحنا 10: 7-10).

قال أحد اللاهوتيين: «إن الراعي الحقيقي بين البشر هو الذي يتقلّد هذه الوظيفة حباً للمسيح، ويقصد تمجيد المسيح، ويعمل عمله بقوة المسيح، ويعلّم تعليم المسيح، ويسلك في خطوات المسيح، ويسعى ليأتي بالنفوس إلى المسيح». ولا يصحُّ الخروج أيضاً إلا من هذا الباب. والذي قال: «الحق الحق أقول لكم إني أنا باب الخراف. إنْ دخل بي أحدٌ فيخلص، ويدخل ويخرج، ويجد مرعى» (يوحنا 10: 7 و9). فالباب للرعاة هو الباب أيضاً للرعية، أي لأفراد المؤمنين.

فسَّر البعض أن الباب المذكور في هذا المثل هو الروح القدس. يعني أن وصول الراعي إلى قلوب رعيته، بقوة روحية لخلاصهم وبنيانهم، لا يكون إلا بفعل هذا الروح. كما أن تأثير المسيح في تبشيره كان يُعزَى إلى هذا الروح.

المسيح هو الراعي الصالح

«أَنَا هُوَ ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ، وَٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ ٱلْخِرَافِ» (يوحنا 10: 11).

ثم وصف المسيح نفسه بأنه الراعي الصالح، لهذا يصلي صاحب المزامير: «يَا رَاعِيَ إِسْرَائِيلَ ٱصْغَ، يَا قَائِدَ يُوسُفَ كَٱلضَّأْنِ» (مزمور 80: 1) ويقول النبي إشعياء: «هُوَذَا ٱلسَّيِّدُ... كَرَاعٍ يَرْعَى قَطِيعَهُ. بِذِرَاعِهِ يَجْمَعُ ٱلْحُمْلانَ وَفِي حِضْنِهِ يَحْمِلُهَا، وَيَقُودُ ٱلْمُرْضِعَاتِ» (إشعياء 40: 11) ثم أن أحلى المزامير كلها مزمور الراعي (مزمور 23) يقول مطلعه: «الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء».

ليست مهنة الراعي مهنة فخر ودلال، بل هي محفوفة بالمتاعب والمخاطر في الوعور بين الوحوش الضارية. والمسيح كالراعي الصالح تحمَّل أعظم المتاعب والمخاطر، ثم بذل حياته ليخلَّص خرافه الخاصة. بينما الذين سمّاهم «سُرَّاقاً ولصوصاً» لا يأتون إلا ليسرقوا ويذبحوا ويهلكوا. والذين سمّاهم «أَجْرى» لا يدافعون عن الخراف في ساحات الخطر، بل يهربون ويتركون القطيع يتشتت ويُفترس «لأنهم لا يبالون بالخراف».

أما المسيح فهو الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخراف. فلكي تَسْلم الخراف من مخالب إبليس ذاق المسيح موتاً لا يستحقه، وأحيا الموتى بموته الذي برهن القيمة العظيمة التي يقدّر بها خرافه جملة وأفراداً. وهو يعرف كل فرد من قطيعه معرفة تامة، تتناول أسماءهم وجميع أسرارهم وخفياتهم. ومعرفته الدقيقة واهتمامه التام بكل فرد من رعيته التي لا تُحصى ليست بأقل الآن مما كانت عليه لما أسلم نفسه على الصليب.

الراعي يبذل نفسه

«وَأَمَّا ٱلَّذِي هُوَ أَجِيرٌ، وَلَيْسَ رَاعِياً، ٱلَّذِي لَيْسَتِ ٱلْخِرَافُ لَهُ، فَيَرَى ٱلذِّئْبَ مُقْبِلاً وَيَتْرُكُ ٱلْخِرَافَ وَيَهْرُبُ، فَيَخْطَفُ ٱلذِّئْبُ ٱلْخِرَافَ وَيُبَدِّدُهَا. وَٱلأَجِيرُ يَهْرُبُ لأَنَّهُ أَجِيرٌ، وَلا يُبَالِي بِٱلْخِرَافِ. أَمَّا أَنَا فَإِنِّي ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ، وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي، كَمَا أَنَّ ٱلآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ ٱلآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ ٱلْخِرَافِ. وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ. لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي» (يوحنا 10: 12-18).

لاحظ المسيح أثناء خطابه أنهم لم يفهموا كلامه، فكرره وفسَّره موضِّحاً لهم أنه يضع نفسه عن الخراف طوعاً، فيحقُّ له القول: «لهذا يحبني الآب، لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً. هذه الوصية قبلتُها من أبي». وهذا يشبه قول إشعياء «آثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ ٱلأَعِّزَاءِ وَمَعَ ٱلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ» (إشعياء 53: 11 ، 12). وأوضح لهم أيضاً أن له سلطاناً أن يسترد حياته البشرية بعد أن يبذلها - أي أن يقوم من الموت بقوته الذاتية بعد هذا الخضوع الإختياري للموت.

ثم صرح أيضاً باهتمامه بالخراف الأُخر التي ليست من هذه الحظيرة. فقال «ينبغي أن آتي بتلك أيضاً، لأنها لي، فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراعٍ واحد». فهو يقصد ضمَّ الأمم الخارجية إلى شعب اللّه المختار.

«فَحَدَثَ أَيْضاً ٱنْشِقَاقٌ بَيْنَ ٱلْيَهُودِ بِسَبَبِ هٰذَا ٱلْكَلامِ. فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ: «بِهِ شَيْطَانٌ وَهُوَ يَهْذِي. لِمَاذَا تَسْتَمِعُونَ لَهُ؟» آخَرُونَ قَالُوا: «لَيْسَ هٰذَا كَلامَ مَنْ بِهِ شَيْطَانٌ. أَلَعَلَّ شَيْطَاناً يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ أَعْيُنَ ٱلْعُمْيَانِ؟».

وَكَانَ عِيدُ ٱلتَّجْدِيدِ فِي أُورُشَلِيمَ، وَكَانَ شِتَاءٌ. وَكَانَ يَسُوعُ يَتَمَشَّى فِي ٱلْهَيْكَلِ فِي رِوَاقِ سُلَيْمَانَ، فَٱحْتَاطَ بِهِ ٱلْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: «إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا؟ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ ٱلْمَسِيحَ فَقُلْ لَنَا جَهْراً». أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. اَلأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِٱسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي. وَلٰكِنَّكُمْ لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنْ خِرَافِي، كَمَا قُلْتُ لَكُمْ. خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلا يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي ٱلَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ ٱلْكُلِّ، وَلا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي. أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يوحنا 10: 19-30).

كانت هذه التعاليم فوق مستوى سامعيه، فقالوا: «به شيطان وهو يهذي. لماذا تسمعون له؟» أما القسم الآخر، وهم الأقلية، فلم يسكتوا عن التهمة بل أجابوا: «ليس هذا كلام من به شيطان». واستندوا في جوابهم على المعجزة الأخيرة، التي كانت سبب إلقاء هذا الخطاب، وتساءلوا: «ألعل شيطاناً يقدر أن يفتح أعين العميان؟». أما نحن فنضيف على برهانهم الإستفهامي برهاناً آخر ونسأل: على فرض أن الشيطان فتح أعين العميان، هل يمكن أن يعمل الشيطان عملاً صالحاً؟ ألا تكفي الرحمة في هذا الشفاء برهاناً أنه ليس فعلاً شيطانياً؟ لو أراد الخير للناس لما كان شيطاناً.

وهكذا أظهر الرؤساء غباوة عندما نسبوا أعمال المسيح الصالحة إلى الشيطان، فأثبتوا صدق حكم المسيح عليهم بأنهم عميان. ولماذا نسي هؤلاء العلماء أن منح البصر للعميان في التوراة علامة من جملة علامات المسيح وأفعاله؟

أوضح المسيح أنه الراعي الصالح، وأن خرافه تعرفه وتسمع صوته وتتبعه. أما رؤساء اليهود فليسوا من خرافه، ولذلك يرفضون أجلى البراهين على كونه مسيحهم، ويرفضونه لأنه لا يجاريهم في رغباتهم وأفكارهم. أما جاذبيته القوية للأشخاص الذين يستحقون اسم الخراف بالمعنى الروحي، فبرهان على أنه المخلِّص الآتي، لأن هؤلاء بفعل الروح الإلهي في تجديدهم يميلون إلى الراعي الصالح، الذي نعرفه من مَيْل الخراف إليه واتّباعهم له.

ثم قال المسيح عن خرافه: «لن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحدٌ من يدي. أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل. ولا يقدر أحد يخطف من يد أبي». أما الذين يُحسبون ويحسبهم الناس من خرافه ثم يرتدّون عنه، فأمرهم موضَّح في قول الرسول يوحنا: «مِنَّا خَرَجُوا، لٰكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنَّا، لأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا. لٰكِنْ لِيُظْهَرُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا جَمِيعُهُمْ مِنَّا» (1 يوحنا 2: 19). من تحقق أنه من خراف المسيح أصبح في ضمانته فلا يهلك. ويستحيل على إبليس وعلى العالم أن يخطفاه من يد راعيه السماوي. وإن ضلَّ، فهذا الراعي يردُّ نفسه ويهديه «إِلَى سُبُلِ ٱلْبِرِّ مِنْ أَجْلِ ٱسْمِهِ» (مزمور 23: 3).

وعندما يضع المؤمن ثقته في هذه الآية مع أمثالها يجد مرساه مؤتمَنة لنفسه، ولا سيما في ساعة السقوط. ولكن لئلا يتصور أحد هذا اليقين يفتح الباب للاستمرار في الخطيئة طمعاً في ضمان المسيح، نقول إن الحياة الأبدية التي يعطيها المسيح لخرافه هي حياة سماوية تجعلنا نكره الخطية ونحب إرضاء الآب السماوي. لأن كل من يرضى أن يبقى في أي نوع من الإثم ويراعي إثماً في قلبه، يبرهن بذلك أنه ليس من خراف المسيح الخاصة. ومن يطلب فقط الخلاص من عذابات الآخرة لا محلَّ له بين الخراف التي يجمعها الملك عن يمينه في يوم الحساب. وكل من يحب المخلِّص حباً صادقاً، ويقصد باستقامة ثابتة أن يتخلَّص من كل ما يخالف إرادة هذا المخلص، يحقُّ له أن يطمئن برغم سقطاته، وأن يتمسك بقول الرسول بولس: «ٱلَّذِي ٱبْتَدَأَ فِيكُمْ عَمَلاً صَالِحاً يُكَمِّلُ إِلَى يَوْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (فيلبي 1: 6). ويقول الحكيم قبله: «ٱلصِّدِّيقَ يَسْقُطُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَيَقُومُ» (أمثال 24: 16). ولا يُعقَل أن المخلّص القدير يبتدئ خلاصاً ويفشل في تكميله. ليس لغير خرافه أن يدركوا هذا السر الذي يعني ويهمّ الخراف فقط.

في هذا الخطاب تظهر جلياً براهين طبيعة المسيح الإلهية التي خوَّلته حقَّ التكلُّم على صورة لا تجوز لإنسان هو مجرد بشر أن ينطق بها، لأنه سمَّى المؤمنين خرافه، وقال إنها تسمع صوته. وليس أنها تسمع صوت الرب كما كان يقول الأنبياء. وإن الكلام كلامه (لم يقل كلام الرب) وإن الخراف تتبعه، وإنه هو الذي يعطيها حياة أبدية، وأنها في يده هو. ولا أحد يخطفها من يده. وله الحق أن يقول إنها لن تهلك أبداً. قال أولاً إنها لا تُخطَف من يده، ثم إنها لا تُخطف من يد أبيه. فلئلا يظن أحد أن هذين القولين متناقضان ختم خطابه بالقول: «أنا والآب واحد». وفي هذه العبارة أعلن التوحيد والتثنية في الله في وقت واحد.

وقع هذا الختام الخطير على الرؤساء السامعين كصاعقة أثارتهم حتى لم يعد لهم إلا الاختيار بين أمرين: إما أن يعبدوه كالمسيح ابن الله الوحيد، أو أن يرجموه كمجدف حسب نص ناموسهم. «فتناولوا حجارة ليرجموه». لكنه قابل هذه الحركة بالبسالة قائلاً: «أعمالاً كثيرة حسنة أريْتُكم من عند أبي. بسبب أي عمل منها ترجمونني؟!». أجابوه: «إنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً». فأجابهم: «الذي قدَّسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له إنك تجدف لأني قلت إني ابن الله؟» (يوحنا 10: 32 و33 و36).

لا يقول نبي عن نفسه إن الآب قدسه وأرسله إلى العالم. ولما نفى المسيح عن نفسه التجديف في قوله إنه ابن الله، عرفنا صدق هذا القول. فلما حاول اليهود ثانية أن يمسكوه، خرج من أيديهم، وذهب إلى المكان الذي عمَّد فيه يوحنا المعمدان، ونجح هناك في تبشيره، إذ آمن به كثيرون.

10 - من تعاليم المسيح

تعليم عن الصلاة

«وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ، لَمَّا فَرَغَ، قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلامِيذِهِ: «يَا رَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضاً تَلامِيذَهُ». فَقَالَ لَهُمْ: «مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ ٱسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي ٱلسَّمَاءِ كَذٰلِكَ عَلَى ٱلأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ، وَٱغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا، وَلا تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لٰكِنْ نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ». ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «مَنْ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ صَدِيقٌ، وَيَمْضِي إِلَيْهِ نِصْفَ ٱللَّيْلِ وَيَقُولُ لَهُ: يَا صَدِيقُ أَقْرِضْنِي ثَلاثَةَ أَرْغِفَةٍ، لأَنَّ صَدِيقاً لِي جَاءَنِي مِنْ سَفَرٍ، وَلَيْسَ لِي مَا أُقَدِّمُ لَهُ. فَيُجِيبَ ذٰلِكَ مِنْ دَاخِلٍ وَيَقُولَ: لا تُزْعِجْنِي! اَلْبَابُ مُغْلَقٌ ٱلآنَ، وَأَوْلادِي مَعِي فِي ٱلْفِرَاشِ. لا أَقْدِرُ أَنْ أَقُومَ وَأُعْطِيَكَ. أَقُولُ لَكُمْ: وَإِنْ كَانَ لا يَقُومُ وَيُعْطِيهِ لِكَوْنِهِ صَدِيقَهُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَجْلِ لَجَاجَتِهِ يَقُومُ وَيُعْطِيهِ قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ. وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ٱسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ. فَمَنْ مِنْكُمْ، وَهُوَ أَبٌ، يَسْأَلُهُ ٱبْنُهُ خُبْزاً، أَفَيُعْطِيهِ حَجَراً؟ أَوْ سَمَكَةً، أَفَيُعْطِيهِ حَيَّةً بَدَلَ ٱلسَّمَكَةِ؟ أَوْ إِذَا سَأَلَهُ بَيْضَةً، أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَباً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلادَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ ٱلآبُ ٱلَّذِي مِنَ ٱلسَّمَاءِ، يُعْطِي ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ!» (لوقا 11: 1-13).

في ذات مرة، لما فرغ المسيح من الصلاة طلب منه أحد تلاميذه أن يعلِّمهم الصلاة كما فعل المعمدان، فأجابه المسيح بتكرار الصلاة الربانية، مختلفة قليلاً عن صورتها في موعظته على الجبل. وأردف هذه الصورة بمَثَل الصديق الذي يأتي ليلاً ليقترض من صديقه خبزاً، ولا ينجح أولاً. ولكنه ينجح أخيراً بسبب إلحاحه ولجاجته. وبنى على هذا المثل نصيحته الشهيرة: «اسألوا تُعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم». أي أولاً سؤال بسيط. وإن لم يكف فأقوى منه: أي طلب. وإن فشل الطلب فالقرع. فما نُعطاه فوراً هو خير. وما نجده بعد الطلب هو خير أعظم. وما نناله بعد القرع هو كمال الخير.

ثم أوضح المسيح علاقة المؤمنين البنوية مع الله. فهذه تضمن لهم نوال الخير منه. إذ يستحيل أن يمنعه عن الذين يحبهم كأولاده. طالما الأب هو بشر لا يخدع ولده ولا يتأخر عنه، فكيف يمكن أن الآب السماوي الكامل يخدع أو يتأخر؟ ولا سيما إن طلب منه أولاده عطية الروح القدس، أثمن عطاياه.

تعليم عن عناية الله

«وَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْجَمْعِ: «يَا مُعَلِّمُ، قُلْ لأَخِي أَنْ يُقَاسِمَنِي ٱلْمِيرَاثَ». فَقَالَ لَهُ: «يَا إِنْسَانُ، مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِياً أَوْ مُقَسِّماً؟» وَقَالَ لَهُمُ: «ٱنْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ ٱلطَّمَعِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ». وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلاً قَائِلاً: «إِنْسَانٌ غَنِيٌّ أَخْصَبَتْ كُورَتُهُ، فَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قَائِلاً: مَاذَا أَعْمَلُ، لأَنْ لَيْسَ لِي مَوْضِعٌ أَجْمَعُ فِيهِ أَثْمَارِي؟ وَقَالَ: أَعْمَلُ هٰذَا: أَهْدِمُ مَخَازِنِي وَأَبْنِي أَعْظَمَ، وَأَجْمَعُ هُنَاكَ جَمِيعَ غَلاتِي وَخَيْرَاتِي، وَأَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَٱشْرَبِي وَٱفْرَحِي. فَقَالَ لَهُ ٱللّٰهُ: يَا غَبِيُّ، هٰذِهِ ٱللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهٰذِهِ ٱلَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟ هٰكَذَا ٱلَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيّاً لِلّٰهِ».

وَقَالَ لِتَلامِيذِهِ: «مِنْ أَجْلِ هٰذَا أَقُولُ لَكُمْ: لا تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ، وَلا لِلْجَسَدِ بِمَا تَلْبَسُونَ. اَلْحَيَاةُ أَفْضَلُ مِنَ ٱلطَّعَامِ، وَٱلْجَسَدُ أَفْضَلُ مِنَ ٱللِّبَاسِ. تَأَمَّلُوا ٱلْغِرْبَانَ: أَنَّهَا لا تَزْرَعُ وَلا تَحْصُدُ، وَلَيْسَ لَهَا مَخْدَعٌ وَلا مَخْزَنٌ، وَٱللّٰهُ يُقِيتُهَا. كَمْ أَنْتُمْ بِٱلْحَرِيِّ أَفْضَلُ مِنَ ٱلطُّيُورِ! وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا ٱهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ لا تَقْدِرُونَ وَلا عَلَى ٱلأَصْغَرِ، فَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِٱلْبَوَاقِي؟ تَأَمَّلُوا ٱلّزَنَابِقَ كَيْفَ تَنْمُو! لا تَتْعَبُ وَلا تَغْزِلُ، وَلٰكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلا سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ ٱلْعُشْبُ ٱلَّذِي يُوجَدُ ٱلْيَوْمَ فِي ٱلْحَقْلِ وَيُطْرَحُ غَداً فِي ٱلتَّنُّورِ يُلْبِسُهُ ٱللّٰهُ هٰكَذَا، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي ٱلإِيمَانِ؟ فَلا تَطْلُبُوا أَنْتُمْ مَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَشْرَبُونَ وَلا تَقْلَقُوا، فَإِنَّ هٰذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا أُمَمُ ٱلْعَالَمِ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَبُوكُمْ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هٰذِهِ. بَلِ ٱطْلُبُوا مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ، وَهٰذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ.

«لا تَخَفْ أَيُّهَا ٱلْقَطِيعُ ٱلصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ ٱلْمَلَكُوتَ» (لوقا 12: 13-32).

جاء رجل إلى المسيح يطلب منه أن يستعمل سلطانه ليقنع أخاه أن يقاسمه الميراث، فرفض المسيح التداخل في الأمر، لأنه يحصر مساعدته الزمنية في الحاجات الضرورية التي لا يقدر غيره أن يؤديها، ولأن خدمته الدينية خالية من كل صبغة سياسية مذهبية، فلا يرضى أن ينظر الناس كرئيس مذهب يقضي في أمور تابعيه الزمنية. وبمناسبة هذا الحادث هاجم المسيح خطيئة أخرى أعم من الرياء، ولكنها غير مستقبحة عند العموم، وهي خطيئة الطمع، أي تعلُّق القلب بالمال.

ولكي يوضح ما هو الطمع، قدم مَثَلاً عن غني زادت خيراته الزمنية، لكنه لم يهتم أن يكون غنياً لله، بل رضي أن يعيش غنياً عنه تعالى. لما زادت محاصيله كان يجب أن يشكر الله ويعترف بفضله، لكنه لم يفعل. وكان عليه أن يعرف أن أمواله ليست له بل لربِّه، وأنه موكّل عليها ليستخدمها في ما يهديه الله من الأعمال المفيدة له ولغيره، ولكنه لم يفعل. فأي حقٍّ له أن يعتني الله به، ما دام لا يبالي بالله ولا بالناس، بل بذاته فقط؟ فكان نصيبه أن نقصت حياته بقدر ما زادت حاصلاته، لأنه سمع صوت الرب قائلاً: «يا غبي، هذا الليلة تُطلب نفسك منك. فهذه التي أعددتها لمن تكون؟».. لا يحصر الله خيراته الزمنية في الذين يتقونه، بل يُنعم بشمسه وهوائه ومائه على الظالمين كما على الأبرار. لكي لا يفسد الدين بسبب استخدامه للمطامع الزمنية.

وبعد أن كرر المسيح لتلاميذه فكرة اعتناء الله بحاجياتهم الزمنية، الواضحة من عنايته بالنبات والحيوان. وبعد أن طمأنهم بأنه على رغم ضعفهم الكلي قد سُرَّ الآب السماوي أن يعطيهم الملكوت، حثَّهم على العطاء، مبيناً أن ما يبذله الإنسان في عمل الخير هو الذي يبقى له. وما يذخره لنفسه فهذا يخسره، وإن بذل المال في سبيل البر يقرِّب القلب إلى الله. لأنه «حيث يكون الكنز هناك يكون القلب أيضاً».

تعليم عن المجيء الثاني

«بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا صَدَقَةً. اِعْمَلُوا لَكُمْ أَكْيَاساً لا تَفْنَى وَكَنْزاً لا يَنْفَدُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ، حَيْثُ لا يَقْرَبُ سَارِقٌ وَلا يُبْلِي سُوسٌ، لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكُمْ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكُمْ أَيْضاً. لِتَكُنْ أَحْقَاؤُكُمْ مُمَنْطَقَةً وَسُرُجُكُمْ مُوقَدَةً، وَأَنْتُمْ مِثْلُ أُنَاسٍ يَنْتَظِرُونَ سَيِّدَهُمْ مَتَى يَرْجِعُ مِنَ ٱلْعُرْسِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقَرَعَ يَفْتَحُونَ لَهُ لِلْوَقْتِ. طُوبَى لأُولَئِكَ ٱلْعَبِيدِ ٱلَّذِينَ إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُمْ يَجِدُهُمْ سَاهِرِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدِمُهُمْ. وَإِنْ أَتَى فِي ٱلْهَزِيعِ ٱلثَّانِي أَوْ أَتَى فِي ٱلْهَزِيعِ ٱلثَّالِثِ وَوَجَدَهُمْ هٰكَذَا، فَطُوبَى لأُولَئِكَ ٱلْعَبِيدِ. وَإِنَّمَا ٱعْلَمُوا هٰذَا: أَنَّهُ لَوْ عَرَفَ رَبُّ ٱلْبَيْتِ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ يَأْتِي ٱلسَّارِقُ لَسَهِرَ، وَلَمْ يَدَعْ بَيْتَهُ يُنْقَبُ. فَكُونُوا أَنْتُمْ إِذاً مُسْتَعِدِّينَ، لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لا تَظُنُّونَ يَأْتِي ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ» (لوقا 12: 23-40).

أعلن المسيح أنه سيجيء ثانية إلى أرضنا مجيئاً مفاجئاً، وهذا يوجب على كل عبيده أن يسهروا ويستعدوا ليلاقوه بفرح. فالذين يراهم عند مجيئه مستعدين، يكافئهم ويتكئهم ويتقدم ويخدمهم، ويكونون حقاً مطوبين. ولما سأله بطرس: «ألنا تقول هذا المَثَل أم للجميع ايضاً؟» قدم لهم مثلاً آخر أظهر فيه نصيب عديمي الأمانة في ما وكلهم الله عليه. هؤلاء: «يقطعهم سيدهم، ويجعل نصيبهم مع الخائنين». فالذي يعطيه الله كثيراً يطالبه بالكثير، والذي عنده قليل يطالبه بالقليل، لكنه لا يعفي أحداً من المطالبة. ولا يطالب الله الإنسان فقط بما عنده أو بما أعطاه له، بل يطالبه أيضاً بما كان يمكنه أن يحصل عليه لو سعى جدياً، فيجازي الإنسان ليس فقط على مخالفة ما يعرفه من الواجب، بل أيضاً على ما يهمله من الوسائط لزيادة المعرفة.

تعليم عن التوبة

«وَقَالَ هٰذَا ٱلْمَثَلَ: «كَانَتْ لِوَاحِدٍ شَجَرَةُ تِينٍ مَغْرُوسَةٌ فِي كَرْمِهِ، فَأَتَى يَطْلُبُ فِيهَا ثَمَراً وَلَمْ يَجِدْ. فَقَالَ لِلْكَرَّامِ: هُوَذَا ثَلاثُ سِنِينَ آتِي أَطْلُبُ ثَمَراً فِي هٰذِهِ ٱلتِّينَةِ وَلَمْ أَجِدْ. اِقْطَعْهَا. لِمَاذَا تُبَطِّلُ ٱلأَرْضَ أَيْضاً؟ فَأَجَابَ: يَا سَيِّدُ، ٱتْرُكْهَا هٰذِهِ ٱلسَّنَةَ أَيْضاً، حَتَّى أَنْقُبَ حَوْلَهَا وَأَضَعَ زِبْلاً. فَإِنْ صَنَعَتْ ثَمَراً، وَإِلا فَفِيمَا بَعْدُ تَقْطَعُهَا» (لوقا 13: 6-9).

أظهر المسيح أيضاً في خطابه إنه أتى إلى العالم بتعاليم هي كنار تحرق أشواك الأباطيل والمتمسّكين بها، لأنه متى جاء النور إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور، لا بد من الخصام بين أنصار النور وأنصار الظلام. لأن من طبيعة أنصار الظلام الخصام. فحيثما يكون الكل ظلاماً أو الكل نوراً، فلا خصام. أما متى أقبل النور على الظلام، فإن الظلام يهاجمه فيحدث الانقسام، فالانقسام إذاً نتيجة حتمية لمجيء المسيح لبث تعاليمه.

ثم شبَّه المسيح أمته اليهودية بشجرة تين قُضي عليها لعدم إثمارها، وأمر بقطعها لأنها تعطل الأرض. وشبَّه الخالق سبحانه بصاحب الكرم، وشبَّه المسيح نفسه بالكرَّام. فهو الوسيط بين الله أبيه والناس الخطاة، يستدرك الغضب الإلهي الذي استحقوه لعدم إتيانهم بالأثمار الصالحة، ولتعطيلهم الأرض بقدوتهم الشريرة بين الأمم، ويسترحم الصبر الإلهي عليهم حتى يتمَّ ما يقصده لخلاصهم. يعترف بأن الله صبر عليها ثلاث سنين، بينما كان هو يعلّمهم ويخدمهم بطرق متنوعة. ولم تبْقَ له غير واسطة وحيدة وأخيرة يقدمها لعلهم بسببها يتوبون، وهي أنه يقدم ذاته أمام عيونهم ذبيحة إثم عنهم، فإن قبلوا هذه الواسطة يسلمون، وإلا فيُقطعون. وقد تدوَّنت على صفحات التاريخ بعد صعود المسيح، الخاتمة المحزنة لِما صوَّره المسيح في هذا المثَل الذي تمَّ به كلام المعمدان لما قال: «وَٱلآنَ قَدْ وُضِعَتِ ٱلْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ ٱلشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لا تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي ٱلنَّارِ» (متى 3: 10).

تعليم عن عمل الخير يوم السبت

«وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي أَحَدِ ٱلْمَجَامِعِ فِي ٱلسَّبْتِ، وَإِذَا ٱمْرَأَةٌ كَانَ بِهَا رُوحُ ضُعْفٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُنْحَنِيَةً وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَنْتَصِبَ ٱلْبَتَّةَ. فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ دَعَاهَا وَقَالَ لَهَا: «يَا ٱمْرَأَةُ، إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ مِنْ ضُعْفِكِ». وَوَضَعَ عَلَيْهَا يَدَيْهِ، فَفِي ٱلْحَالِ ٱسْتَقَامَتْ وَمَجَّدَتِ ٱللّٰهَ. فَرَئِيسُ ٱلْمَجْمَعِ، وَهُوَ مُغْتَاظٌ لأَنَّ يَسُوعَ أَبْرَأَ فِي ٱلسَّبْتِ، قَالَ لِلْجَمْعِ: «هِيَ سِتَّةُ أَيَّامٍ يَنْبَغِي فِيهَا ٱلْعَمَلُ، فَفِي هٰذِهِ ٱئْتُوا وَٱسْتَشْفُوا، وَلَيْسَ فِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ» فَأَجَابَهُ ٱلرَّبُّ: «يَا مُرَائِي، أَلا يَحُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ ثَوْرَهُ أَوْ حِمَارَهُ مِنَ ٱلْمِذْوَدِ وَيَمْضِي بِهِ وَيَسْقِيهِ؟ وَهٰذِهِ، وَهِيَ ٱبْنَةُ إِبْرٰهِيمَ، قَدْ رَبَطَهَا ٱلشَّيْطَانُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُحَلَّ مِنْ هٰذَا ٱلرِّبَاطِ فِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ؟» وَإِذْ قَالَ هٰذَا أُخْجِلَ جَمِيعُ ٱلَّذِينَ كَانُوا يُعَانِدُونَهُ، وَفَرِحَ كُلُّ ٱلْجَمْعِ بِجَمِيعِ ٱلأَعْمَالِ ٱلْمَجِيدَةِ ٱلْكَائِنَةِ مِنْهُ» (لوقا 13: 10-17).

دخل المسيح مجمع إحدى القرى في يوم سبت وصار يعلّم، وكان بين العابدين امرأة منحنية الظهر، لا تقدر أن تنتصب البتة منذ ثماني عشرة سنة، حتى لم يعد لها أمل بصحة الجسم. لكن تقواها جذبتها إلى المعبد برغم العلة. لا يظهر أنها استنجدت بالمسيح، بل كانت تُصغي إلى تعليمه، فدعاها ليشفيها ثم يجدد تعليمه في قضية السبت وبركاته. فلما تقدمت إليه وضع يديه عليها كطبيب يقوّم ظهرها المنحني وقال: «يا امرأة، إنك محلولة من ضعفك». فانتصبت حالاً صحيحة من دائها، وأظهرت إيمانها وفِعْلَ النعمة في قلبها بأنها مجدت الله. فاغتاظ رئيس المجمع مدَّعياً المحافظة على وصية السبت. ومع احترامه للمسيح صوَّب توبيخه نحو الجَمع وأمرهم أن لا يطالبوا بالشفاء في السبوت ما دام لهم ستة أيام أخرى لذلك.

أما المسيح فرفع عن هذه المسكينة، وعن الجموع، هذا الحكم الظالم. وذكّر هذا الرئيس المرائي أنه يسمح للناس أن يعملوا في السبوت أعمالاً للمحافظة على مواشيهم تزيد على ما عمله المسيح للمحافظة على هذه المرأة. فإذا كانوا يقودون في السبوت مواشيهم إلى المياه بعد أن يحلوها من مرابطها، كيف يدينون من يحل شخصاً من قيود استمرّت سنوات، بفعل الشيطان، ليقودها إلى الصحة الجسدية، ثم إلى الحياة الأبدية ففرح الجمع بكلام السيد المسيح وبجميع أعماله المجيدة، وخجل جميع الذين كانوا يعاندونه.

تعليم عن دعوة المساكين

«وَإِذْ جَاءَ إِلَى بَيْتِ أَحَدِ رُؤَسَاءِ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ فِي ٱلسَّبْتِ لِيَأْكُلَ خُبْزاً، كَانُوا يُرَاقِبُونَهُ. وَإِذَا إِنْسَانٌ مُسْتَسْقٍ كَانَ قُدَّامَهُ. فَسَأَلَ يَسُوعُ ٱلنَّامُوسِيِّينَ وَٱلْفَرِّيسِيِّينَ: «هَلْ يَحِلُّ ٱلإِبْرَاءُ فِي ٱلسَّبْتِ؟» فَسَكَتُوا. فَأَمْسَكَهُ وَأَبْرَأَهُ وَأَطْلَقَهُ. ثُمَّ أَجَابَهُمْ وَقَالَ: «مَنْ مِنْكُمْ يَسْقُطُ حِمَارُهُ أَوْ ثَوْرُهُ فِي بِئْرٍ وَلا يَنْشِلُهُ حَالاً فِي يَوْمِ ٱلسَّبْتِ؟» فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُجِيبُوهُ عَنْ ذٰلِكَ. وَقَالَ لِلْمَدْعُوِّينَ مَثَلاً، وَهُوَ يُلاحِظُ كَيْفَ ٱخْتَارُوا ٱلْمُتَّكَآتِ ٱلْأُولَى: «مَتَى دُعِيتَ مِنْ أَحَدٍ إِلَى عُرْسٍ فَلا تَتَّكِئْ فِي ٱلْمُتَّكَإِ ٱلأَوَّلِ، لَعَلَّ أَكْرَمَ مِنْكَ يَكُونُ قَدْ دُعِيَ مِنْهُ. فَيَأْتِيَ ٱلَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ لَكَ: أَعْطِ مَكَاناً لِهٰذَا. فَحِينَئِذٍ تَبْتَدِئُ بِخَجَلٍ تَأْخُذُ ٱلْمَوْضِعَ ٱلأَخِيرَ. بَلْ مَتَى دُعِيتَ فَٱذْهَبْ وَاتَّكِئْ فِي ٱلْمَوْضِعِ ٱلأَخِيرِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ٱلَّذِي دَعَاكَ يَقُولُ لَكَ: يَا صَدِيقُ، ٱرْتَفِعْ إِلَى فَوْقُ. حِينَئِذٍ يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ أَمَامَ ٱلْمُتَّكِئِينَ مَعَكَ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ». وَقَالَ أَيْضاً لِلَّذِي دَعَاهُ: «إِذَا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً فَلا تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ وَلا إِخْوَتَكَ وَلا أَقْرِبَاءَكَ وَلا ٱلْجِيرَانَ ٱلأَغْنِيَاءَ، لِئَلا يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضاً، فَتَكُونَ لَكَ مُكَافَاةٌ. بَلْ إِذَا صَنَعْتَ ضِيَافَةً فَٱدْعُ ٱلْمَسَاكِينَ: ٱلْجُدْعَ، ٱلْعُرْجَ، ٱلْعُمْيَ، فَيَكُونَ لَكَ ٱلطُّوبَى إِذْ لَيْسَ لَهُمْ حَتَّى يُكَافُوكَ، لأَنَّكَ تُكَافَى فِي قِيَامَةِ ٱلأَبْرَارِ» (لوقا 14: 1-14).

دعا أحد الفريسيين المسيح ليتناول الطعام في بيته في يوم سبت. ولم تكن الدعوة عن حب وإخلاص، ولكن المسيح المتواضع المتسامح قبلها.

وصادف المسيح في هذا البيت رجلاً مريضاً بالاستسقاء، فسأل الذين كانوا يراقبونه: «هل يحل الإبراء في السبت؟» فتحيَّروا لأنهم إن قالوا: «نعم»، يكونون قد فتحوا له باباً لفعل المعجزة، ولا يمكنهم أن ينتقدوه عليها، فيزيد تعلُّق الشعب به وبتعليمه. وإن قالوا «لا» يخجلهم من كتبهم كما فعل سابقاً، فسكتوا. فأبرأ المستسقي وأطلقه. ثم بكّت مقاوميه مرة أخرى على أفكارهم السرية في انتقادهم عمله في السبت.

وإذ لاحظ المسيح كيف تسابق ضيوف هذا الفريسي أثناء الوليمة إلى المتكأ الأول على المائدة، الذي هو الأشرف حسب اصطلاحهم، بنى على ذلك تعليمه أن «كل من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع». ونصح الحاضرين أن لا يعرّض أحدهم نفسه للخجل باختياره الموضع الأول. فالتعظُّم ذميم، والتواضع باب الكرامة الحقيقية.

ثم التفت المسيح إلى صاحب البيت وذكّره أن الذي يدعو أصحابه والأغنياء من جيرانه ليأكلوا عنده ينال مكافأته في هذه الدنيا، لأنهم فيما بعد يدْعُونه إلى موائدهم. أما الذي يريد المكافأة في قيامة الأبرار فعليه أن يدعو ويطعم أهل الفاقة والذل، فالفضل الحقيقي الذي يسخو لمجرد حبه لربه ولبني جنسه، دون نظر إلى العَوَض، لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة. والإكرام الإلهي مضمون لمثل هذا.

الأكل في ملكوت السماوات

«فَلَمَّا سَمِعَ ذٰلِكَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلْمُتَّكِئِينَ قَالَ لَهُ: «طُوبَى لِمَنْ يَأْكُلُ خُبْزاً فِي مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ». فَقَالَ لَهُ: «إِنْسَانٌ صَنَعَ عَشَاءً عَظِيماً وَدَعَا كَثِيرِينَ، وَأَرْسَلَ عَبْدَهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعَشَاءِ لِيَقُولَ لِلْمَدْعُّوِينَ: تَعَالَوْا لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ. فَٱبْتَدَأَ ٱلْجَمِيعُ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ يَسْتَعْفُونَ. قَالَ لَهُ ٱلأَوَّلُ: إِنِّي ٱشْتَرَيْتُ حَقْلاً، وَأَنَا مُضْطَرٌّ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْظُرَهُ. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي ٱشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ أَزْوَاجِ بَقَرٍ، وَأَنَا مَاضٍ لأَمْتَحِنَهَا. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ بِٱمْرَأَةٍ، فَلِذٰلِكَ لا أَقْدِرُ أَنْ أَجِيءَ. فَأَتَى ذٰلِكَ ٱلْعَبْدُ وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ بِذٰلِكَ. حِينَئِذٍ غَضِبَ رَبُّ ٱلْبَيْتِ، وَقَالَ لِعَبْدِهِ: ٱخْرُجْ عَاجِلاً إِلَى شَوَارِعِ ٱلْمَدِينَةِ وَأَزِقَّتِهَا، وَأَدْخِلْ إِلَى هُنَا ٱلْمَسَاكِينَ وَٱلْجُدْعَ وَٱلْعُرْجَ وَٱلْعُمْيَ. فَقَالَ ٱلْعَبْدُ: يَا سَيِّدُ، قَدْ صَارَ كَمَا أَمَرْتَ، وَيُوجَدُ أَيْضاً مَكَانٌ. فَقَالَ ٱلسَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: ٱخْرُجْ إِلَى ٱلطُّرُقِ وَٱلسِّيَاجَاتِ وَأَلْزِمْهُمْ بِٱلدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي، لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ أُولٰئِكَ ٱلرِّجَالِ ٱلْمَدْعُّوِينَ يَذُوقُ عَشَائِي» (لوقا 14: 15-24).

علق أحد الحاضرين على تعليم المسيح عن الولائم، وقال: «طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله». حاسباً نفسه من هؤلاء المطوَّبين. فقدَّم المسيح مثلاً اتّخذ فيه الوليمة رمزاً إلى الدين، لأن الدين الحقّ يغذي النفوس ويلذُّ لها، ولأن الله يقدّمه للناس مجاناً، ولأنه يترك للمدعوين تمام الحرية بقبول الدعوة أو رفضها، ولأنه يجمع كل الذين يلبُّون الدعوة. تحدث المسيح في المثل عن إنسان شريف دعا أشخاصاً إلى عشاء عظيم في بيته، فقدّموا أعذاراً مختلفة، وتأخروا عن العشاء.

هكذا يوجِّه الله الدعوة للمتديّنين، لكن لأنهم رفضوا دعوته فإنه يوجهها إلى العشارين والخطاة. وهؤلاء يشبهون أهل الشوارع والأزقة في مدينة الملك. ولما كان عشاؤه يكفي كثيرين، فإنه يعمّم الدعوة إلى الذين في الطرق والسياجات خارج المدينة - أي الشعوب الوثنية، فيقبلون ما رفضه رجال الدين اليهود، ويجدون طريقهم إلى التوبة والإيمان.

شبَّه المسيح رؤساء الدين بالذي يقول: «اشتريتُ حقلاً وأنا مضطرٌّ أن أخرج وأنظره. أسألك أن تعفيني». ثم بآخر يقول: «اشتريت خمسة أزواج بقر، وأنا ماض لأمتحنها. أسألك أن تعفيني». وبثالث يقول: «إني تزوجت بامرأة، فلذلك لا اقدر أن أجيء» (إن أعفيتني أو إن لم تعفني). فالاعتذار الباطل في الدين هو اصطلاح قديم ومنتشر كثيراً ومُهْلك. وقد وضَّح المسيح غضب الله من الأعذار على أنواعها، لأنها تدل على الاستخفاف بدعوته الإلهية لوليمة الخلاص، وعلى غباوتهم الفائقة لأنهم وضعوا أرباح الدنيا قَبْل أرباح السماء، وظنوا أن أعذارهم تفيدهم، وأن الباب يبقى مفتوحاً لهم إن أتوا متأخرين.

عزيزي القارئ، هل وصلتك دعوة المسيح إلى وليمة محبته لتجد فيها شبع نفسك؟ إنه يريدك أن تتعشى معه وهو معك (رؤيا 3: 20).

فهل تقبل الدعوة؟ هل تفتح له باب قلبك؟

اترك الأعذار، ومتِّع نفسك معه بالشبع العظيم...

مسابقة الكتاب

عزيزي القارئ،

إن أرسلت إلينا إجابة صحيحة على عشرين سؤالاً من الأسئلة الخمسة والعشرين التالية، نرسل لك كتاباً جائزة من كتبنا المختلفة. نرجو أن ترسل مع الإجابة اسمك وعنوانك واضحين لنرسل لك الجائزة.

  1. ماذا كانت إجابة بطرس على سؤال المسيح: «من تقولون إني أنا»؟

  2. كيف جاء النور لبطرس فأجاب إجابته التي مدحها المسيح؟

  3. لماذا جاء المسيح إلى عالمنا؟

  4. هناك ثلاثة شروط لاتباع المسيح - ما هي؟

  5. ماذا كان موضوع حديث موسى وإيليا مع المسيح على جبل التجلي؟

  6. لماذا قال الله للتلاميذ: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. له اسمعوا»؟

  7. ماذا نتعلم من قول المسيح: «قدم ابنك إلى هنا»؟

  8. كيف دبر المسيح أن يدفع هو وبطرس الجزية؟

  9. ماذا نتعلم من دفع المسيح للضرائب؟

  10. اذكر بعض صفات الأولاد التي يجب أن تكون في المؤمنين بالمسيح.

  11. ماذا تفعل إن أخطأ إليك أخوك؟

  12. اكتب مختصراً لقصة الملك الذي سامح الرجلين المديونين له.

  13. اذكر المناسبة التي كتب فيها المسيح بإصبعه على الأرض.

  14. ماذا نتعلم من سؤال المسيح لأعدائه: «من منكم يبكتني على خطية»؟

  15. قال المسيح: «قبل إبراهيم أنا كائن» - لماذا غضب اليهود من هذا القول؟

  16. اشرح معنى قول المسيح: «أنا كائن».

  17. اذكر ثلاثة أمثلة لطول أناة المسيح وغفرانه لأعدائه.

  18. من هو قريبك؟

  19. لماذا نلقي اللوم على الكاهن واللاوي في مثل السامري الصالح؟

  20. كيف أكرمت مرثا المسيح، وكيف أكرمته أختها مريم؟

  21. لماذا وُلد الرجل الأعمى الذي جاءت قصته في يوحنا 9 فاقد البصر؟

  22. لماذا لم يعرف الناس المولود أعمى بعد فتح عينيه؟

  23. اذكر ثلاثة أشياء يفعلها الراعي الصالح مع خرافه.

  24. في لوقا 12: 16-21 مثل الغني الغبي - اكتب له ملخصاً.

  25. إن عملت وليمة، فمن عليك أن تدعو؟ ولماذا تخصص الدعوة لهم؟

ارسل الإجابة فقط بدون تعليقات أخرى لئلا تُهمل، ونحن بانتظار أجابتك.


Call of Hope
P.O.Box 100827 
D-70007 
Stuttgart 
Germany