العودة الى الصفحة السابقة
سيرة المسيح

سيرة المسيح

الكتاب الثاني: تجربته وبداية خدمته

الدكتور. جورج فورد


Bibliography

سيرة المسيح. الكتاب الثاني: تجربته وبداية خدمته. الدكتور. جورج فورد. الطبعة الأولى. 1986. Order Number SPB 7352 ARA. German title: Seine Versuchung und sein Dienst (Heft 2). English title: His Temptation and Ministry (booklet 2). Copyright © 1986 All Rights Reserved Call of Hope. P.O. Box 100827 D-70007 Stuttgart Germany Internet: http://www.call-of-hope.com .

هذا الكتاب

يسر أسرة «نداء الرجاء» أن تصدر هذا الكتاب عن حياة السيد المسيح، في سبعة أجزاء.

وقد كتب هذا الكتاب في مجلد واحد باللغة العربية الدكتور جورج فورد في أوائل العشرينات من هذا القرن، بعنوان «كتاب القول الصريح في سيرة يسوع المسيح».

وقد قام محررو نداء الرجاء بإعادة كتابته في الصورة التي تراها الآن.

ونحن نأمل أن يتعرَّف القارئ الكريم على المسيح بطريقة شخصية، وأن يكون شعاره «نحن نحبه لأنه هو أحبّنا أولاً».

أسرة نداء الرجاء

1 - إبليس يجرب المسيح

رأينا في أخبار طفولة يسوع شيئاً من أعمال إبليس التي ظهرت في تصرُّفات هيرودس الملك. لكننا لم نعثر إلى الآن في تاريخ يسوع على ذكر إسم إبليس، ولا على أخبار صريحة عنه. أما الآن فقد وصلنا في درسنا إلى رؤية صورته بجلاء، إذ تُذكر أسماؤه الثلاثة «المجرب» و «إبليس» (أي: المشتكي) و «الشيطان» (أي: العدو). ويصوّره الإنجيل يهاجم يسوع ويريد أن يجعله يخطئ. ويروي لنا قصة تجريب إبليس للمسيح في إنجيل متى 4: 1-11 ، ولوقا 4: 1-13.

يتبيَّن من الكتاب المقدس أن الشيطان شخص حقيقي روحي، مجرَّد من المادة وشرير جداً، وأنه رئيس ملائكة الشر الذين أشار إليهم المسيح في كلامه عن «ٱلنَّارِ ٱلأَبَدِيَّةِ ٱلْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلائِكَتِهِ» (متى 25: 41). قيل «إن الله لم يشفق عليهم لأنهم أخطأوا ولَمْ يَحْفَظُوا رِيَاسَتَهُمْ، بَلْ تَرَكُوا مَسْكَنَهُمْ. ففي سلاسل الظلام طرحهم في جهنم، وسلّمهم محروسين للقضاء، وحَفِظَهُمْ إِلَى دَيْنُونَةِ ٱلْيَوْمِ ٱلْعَظِيمِ بِقُيُودٍ أَبَدِيَّةٍ تَحْتَ ٱلظَّلامِ» (يهوذا 6) ويُسمى أيضاً «رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 16: 11) و «إِلٰهُ هٰذَا ٱلدَّهْرِ» (2 كورنثوس 4: 4). و «رَئِيسِ سُلْطَانِ ٱلْهَوَاءِ» (أفسس 2: 2) لأنه بذكائه الفائق، يتسلَّط على البشر تسلُّطاً عظيماً وغريباً جداً. وأهم البراهين على أنه شخص حقيقي مهم ومقتدر أمر يسوع لتابعيه أن يذكروه في صلاتهم مهما اختصروها، ويقولوا: «نَجِّنَا مِنَ ٱلشِّرِّيرِ» (متى 6: 13) ليس من الشر ولا من الأشرار، بل «من الشرير».

ويتضح أيضاً من الكتاب المقدس أن هذا التسلُّط مقيَّد بالسماح الإلهي، وأن إبليس يعترف بذلك، ويطلب هذا السماح ويُعطاه أحياناً. إنما القصد الإلهي في هذا السماح هو حبّي محض نحو الذين يُجرَّبون، لأن المنتصرين منهم ينالون التزكية والتقوية والتمجيد. والذي يدفع كل ريب في مزية الحب الخالص في هذا السماح هو تجربة المسيح، لأن الروح القدس هو الذي أصعده إلى البرية ليجربه إبليس.

التجربة الأولى: إبليس يطلب أن يحوّل المسيح الحجارة إلى خبز (تجربة الجوع)

«ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى ٱلْبَرِّيَّةِ مِنَ ٱلرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ. فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيراً. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ ٱلْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هٰذِهِ ٱلْحِجَارَةُ خُبْزاً». فَأَجَابَ: «مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱللّٰهِ» (متى 4: 1-4).

ولا يخفى الفرق العظيم بين نوعي التجربة. هناك تجربة الألم لأجل الإمتحان الخيري بقصد التزكية والتقوية والتمجيد، مثل ما فعل الله بإبراهيم. وفيه يجد الرسول يعقوب سبباً عظيماً للفرح (يعقوب 1: 2) والثاني تجربة الشر لأجل إغواء الإنسان. وفي هذا قال الرسول ذاته: «لا يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ، لأَنَّ ٱللّٰهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِٱلشُّرُورِ وَهُوَ لا يُجَرِّبُ أَحَداً (بالشرور)» (يعقوب 1: 13).

وتجربة المسيح أصعب حوادث حياته تفسيراً. ومن جملة المصاعب: التوفيق بين طهارته التامة والقول بأنه «تجرَّب في كل شيء مثلنا» (عبرانيين 4: 15) فأين تجربة القدوس من تجربة الأثيم؟ إن ما نتيقَّنه تماماً من سموّ صفات المسيح لا يدع مجالاً للظن بأن تجربته كانت وهمية أو صورية. وقد أورد خبرها على الصورة الموجودة في الإنجيل المسيحُ وحده، إذ ليس آخر يعرف هذا الأمر ليخبر عنه. ولما كان المسيح يترفع كثيراً عن تصوير الوهم كأنه حقيقة، وعن إفادتنا بمحادثة لم تقع ومع شخص لا وجود له، كما يترفع رسله عن اختلاق خبر سري مهمٍ كهذا عن معلّمهم وسيدهم وربهم - فلا بد أن قصة التجربة حقيقية وليست وهماً.

يكشف المسيح بيده في خبر تجربته الستار عن سرٍ عميق من أسرار اختباراته الروحية، والمحنة الشديدة التي اجتازها منفرداً تماماً عن سائر البشر. وهذا الخبر هو الوحيد بين أخبار الإنجيل الذي يتوقف كشفه على المسيح وحده، فبناءً عليه يجب على المفسِّر أن يتحفَّظ من الجزم في شيء يتعلق بتجربة المسيح إلا ما ذُكر صريحاً، وأن يلتزم أيضاً مزيد الوقار.

يريد البعض أن يعتبروا أن الشيطان ليس إلا خيالاً يُستخدَم للتعبير عن الشر الداخلي الذي يقود الناس إلى الخطيئة، وأن القول باستقلاله الشخصي، هو من الخرافات التي لا تخلو من فائدة. لكن خبر تجربة المسيح يعارض هذا الرأي تماماً، لأن خلوَّ قلب المسيح وأفكاره التام من كل فساد، يؤكد أن التجربة للخطيئة لا يمكن أن تأتيه من داخل، فباب التجربة في قلبه لا يمكن فتحه إلا من خارج. وهذا يعني أن الذي جرّبه شخص شيطاني خارج عنه.

أشرف المسيح بانتهاء سني الاستعداد على بدء خدمته الجهارية. لكن عليه أن يمرَّ أولاً في أتون التجربة ليثبت أهليَّته ليكون المخلّص، فيصارع قائد قوات الشر ويقهره، لتتمّ أول النبوات التي أُعطيت للبشر، لما قال الله في جنة عدن لأبوينا الأولين إن نسل المرأة سيسحق رأس الحية (تكوين 3: 15). فعليه أن يقهر إبليس، هذا العاتي الذي لم يقهره بشرٌ بعد، لكي يفتح لغيره باب الفوز الوحيد بهذا الخصم الجبار، لأن غلبة كل من يَسْلَم من مخالبه المهلكة لا تكون إلا باسم المسيح، وبقوة الروح القدس الذي أصعده إلى برية التجربة، ثم كلله بالنصر.

خضع المسيح كابن الإنسان لقوانين الحياة الأرضية التي هي من وضعه أصلاً. منها أن وراء كل جبل مرتفع وادياً منخفضاً، وبعد كل ابتهاج عظيم انزعاج يضارعه. فارتفاع المسيح وابتهاجه في معموديته بالأمس، أُبدلا سريعاً باتّضاعه وانزعاجه في برية التجربة. وينبئنا التاريخ المقدس بأن الشيطان يترقّب زمن ارتفاع الإنسان ليُسقطه، وبذلك يتضاعف أذى الساقط مع افتخار الذي أسقطه. يكفينا شاهداً على ذلك موسى وإيليا وبطرس ويهوذا الإسخريوطي. لأن إبليس أسقط موسى في خطية الغضب التي حرمته من دخول أرض الميعاد بعد عناء أربعين سنة، وأفقدته نيْلَ أماني حياته الطويلة، وكان ذلك عند بلوغه أوج عظمته الفائقة (العدد 12: 3 ، 20: 8-13). وإيليا نال انتصاره الباهر على المملكة وملكها وكهنة أوثانها على جبل الكرمل، ولم يمرَّ عليه أكثر من يومٍ إلا ورماه إبليس في خطية اليأس، فهرب مخذولاً إلى برية سيناء بعيداً عن محل مأموريته، وطلب الموت لنفسه (1 ملوك 18: 30-40 ، 19: 1-9).

وبطرس ارتفع إلى السماء عندما مدحه يسوع بكلام بليغ، فحالاً أسقطه هذا العدو الروحي في خطية الكبرياء، وجعله ينتهر المسيح ليمنعه من طريق الصليب، محاولاً أن يفسد عمله الخلاصي، لذلك عنّفه المسيح تعنيفاً لم يعامل غيره به قائلاً له: «ٱذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ. أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي» (متى 16: 13-23). ويهوذا الإسخريوطي لما استكمل سني تمتُّعه بالوسائل الممتازة لترقيته الروحية، بمرافقته الدائمة للمسيح ثلاث سنين ونصفاً، أسقطه هذا المجرب المقتدر في خطيئة الطمع الفاحش، الذي أغرقه في الهوَّة العميقة التي جعلت اسمه إلى آخر الزمان مثال قساوة القلب الفائقة البربرية، والخيانة الشنيعة الدنيئة (أعمال 1: 15-20).

وقد اتخذ إبليس الطاغي هذه الخطة عينها مع المسيح. رآه ممجَّداً للغاية وقت المعمودية، ومبتهجاً بحلول الروح القدس عليه، وبرضى الآب الممتاز المعلن بصوته من السماء، فأسرع إلى الهجوم عليه بأقوى تجاربه مدة أربعين يوماً، ليسقطه في خطيئةٍ من الخطايا العديدة. فإنه أسقط قبل هذا الوقت نسل آدم جميعاً دون استثناء. والآن يتوقع أن يفوز على ابن مريم. ويرى أن أحوال المسيح الخارجية تسهّل له ذلك.

بين تجربة آدم وتجربة المسيح

عندما هجم إبليس على آدم الأول وأسقطه أول مرة، كان في جنة فاخرة، حاوية كل أسباب السرور، وكان محيطه خالياً من كل شر أو فساد، حتى أن الحيوانات على أنواعها كانت أليفة وطوع أمره. ولم يكن يعرف من الأتعاب ولا الأوجاع ولا الأحزان ولا الأسقام شيئاً، وهو عالمٌ أن ليس أمامه غير دوام هذا الرغد، ما دام باقياً على الوضع الإلهي الذي أوجده الله فيه.

أما الآن فإن الشيطان يجد المسيح، آدم الثاني، في برية مقفرة، خالية ليس فقط من أسباب الراحة، بل من الطعام الضروري أيضاً، تحيط به الوحوش الضارية. وحياته السابقة كانت بين جماعة كلهم خطاة، وأعظم من ذلك أنه عالمٌ بأنه إنْ لم يرجع عن قصده فليس أمامه سوى سنوات التعب والشقاء والإهانة والآلام المبرحة ثم موت الصليب. فكيف لا يكون إسقاطه سهلاً ومكفولاً؟

كانت الوحوش الضارية رفيقة المسيح في هذه البرية. ونستنتج من الكتاب أن آدم الأول كان قبل سقوطه متسلطاً عليها، وليس على الحيوانات الأليفة فقط، وأن عداوة الوحوش لبني آدم هي إحدى نتائج سقوطه. فلما نقرأ أن المسيح كان مع الوحوش، نتصوره يستعيد تلك السلطة، مُحاطاً بها مثل دانيال في جب الأسود (دانيال 6) تحفظه هيبته المقدسة من أنيابها المسنونة. أوَليس من شأن إزالة الخطيئة إعادة تلك السلطة المفقودة؟ أوَليس الرفق بالحيوانات من مقتضيات الدين والأدب؟.

لم يكن المسيح قد أكل شيئاً مدة الأربعين يوماً والأربعين ليلة التي قضاها في البرية، فاغتنم المجرب فرصة إعيائه الجسدي ليفرغ قواه في ثلاث تجارب قوية. كان صوم المسيح هذا أمراً عرضياً طبيعياً، أولاً لأن البرية لا تقدم له بسهولة طعاماً، وثانياً لأنه مشغول عن التفتيش عن الطعام بانصرافه إلى الأمور الروحية، ولا يرضى أن يترك البرية في طلب الطعام إلا بإرشاد الروح الإلهي الذي أصعده إليها. فلم يشعر كثيراً بالجوع، إلا عند نهاية هذه المدة الطويلة.

في إغواء حواء، اتخذ إبليس صورة حيوان، إذْ لم يكن لديه إنسان يستخدمه، لكن حالما تسلط عليها ترك الحية، واستخدم حواء في إغواء زوجها. ومن ذلك الحين يستغني إبليس عن الحيوانات، لأن الآلات البشرية متوفرة لديه. وللتجربة بواسطة المقرَّبين مفعولٌ مضاعَف. ولما قصد إبليس أن يحوِّل المسيح عن التكفير بموته عن خطايا العالم، استخدم رسول المسيح الممتاز: سمعان بطرس (مرقس 8: 33).

قد سكت الوحيُ تماماً عن بيان الصورة التي ظهر فيها إبليس للمسيح لما حاوره، إلا أن العقل يحكم بأنه لم يظهر في هيئة شيطانية، لأن ذلك يحذّر المسيح للكُرْهِ والمقاومة، ويعطّل سعي إبليس. والأغلب أن إبليس ظهر شخصياً للمسيح، فليس في المسيح أساس داخلي للشر حتى تأتيه التجربة من قلبه، ويحتمل أن إبليس ظهر أولاً بهيئة شخص اعتيادي أقبل على المسيح في البرية. فإنْ صحَّ هذا الفرض يكون إبليس قد أظهر تعجُّبه من جوع المسيح الناتج عن قيادة الروح الإلهي له إلى هذا القَفْر، ثم تركه بدون القوت الضروري الذي هو من حاجات الإنسان الأولية. ثم من باب التودُّد، ذكر للمسيح أن قوَّته كابن الله تجعل سدَّ هذه الحاجة أمراً سهلاً عليه جداً، لأن الذي خلق الحجارة في الأصل لا يعسر عليه تحويلها كيف شاء. وإنْ لم يفعل ذلك فإنه يزرع الشك في أنه حقاً ابن الله. وبما أن الآب قد أهمله ولم يعطه خبزاً، فلماذا ينتظر أمره؟ يحقُّ له إذاً أن يشك في محبة الآب، وأن يتذمر على تدبير العناية الإلهية.

ونحن نسأل اليوم: ما المانع من إجابة اقتراح هذا المجرب بأن يحوّل المسيح الحجارة إلى خبز ليسدَّ جوعه؟ وما هي الخطيئة أو الخطايا التي قصد إبليس أن يولِّدها في قلب المسيح؟

لا يصحُّ القول إن المسيح رفض هذا الاقتراح لمجرد أنه صدر من الشيطان، لأن المسيح لم يعترض في جوابه على المصدر، بل على الاقتراح، بغضِّ النظرِ عن مصدره. فلا تُعرَف ماهية التجارب التي ذُكرت في هذا الحادث إلا من شكل اعتراض المسيح وأجوبته على اقتراحات المجرِّب، لأن المسيح أخذ أجوبته من الكتاب المقدس وعليه بنى أحكامه.

ولما كانت إجابة المسيح الأولى «مكتوب» فقد أعلن لمجرِّبه وللعالم أنه قدَّم ذاته للتجربة لا كصاحب سلطان، بل كبشر تحت القانون والطاعة، وكخاضع مثل سائر البشر لأقوال الكتاب. وفي الوقت ذاته أظهر باستناده على أقوال الكتاب ما هو المرجع الحقيقي في أمور الدين. ومع أنه أقدر الناس على إفحام المجرب بالحُجج الفلسفية، أثبت بجوابه «مكتوب» أن قوة الاحتجاج الديني توجد في ما هو مكتوب في كتاب الله، لا فيما يُستنبَط من الفلسفة البشرية، لأن سيف الروح الماضي ذا الحدين الذي به وحده يقهر الإنسان عدوَّه الشيطان هو كلام الله. وقد استخدم المسيح هذا السلاح المُتاح لكل إنسان، وبه نال فوزه على إبليس.

تمسك المجرب بأن المسيح ابن الله، لأن افتخاره يزيد كثيراً إن تغلب على ابن الله لكنه رغم ذكائه الفائق نسي أن ابن الله لا يجوع ولا يأكل خبزاً، ولا يمكن أن يُجرَّب. فأصلح المسيح وَهْمَ إبليس لما أوضح له أنه يقابله، لا كابن الله، بل كابن الإنسان. لم يهتم المسيح كثيراً في كل حياته بتذكير الناس أنه ابن الله. فبينما يشير إلى ذاته في الإنجيل كابن الله أقل من عشر مرات، يشير نحو خمسين مرة إلى كونه ابن الإنسان. فلو أسندت طبيعته الالهية طبيعته البشرية وقت التجربة، لكان ذلك بمثابة اعتراف منه أن الطبيعة البشرية عاجزة عن التغلُّب عليها، ولَمَا صحَّ القول أنه تجرب مثلنا، ولا أن يكون مثالاً للناس. فهو لا يفعل في ساعة التجربة ما يعجز تابعوه عن أن يفعلوه. وهذا سببٌ كافٍ لعدم تحويله الحجارة خبزاً. فضلاً عن أنه يريد أن يذوق بنفسه مصيبة الجوع الشديد، لأن هذا نصيب كثيرين من بني البشر.

هذه التجربة الأولى هي الحيلة التي نجح إبليس بواسطتها لمّا استخدمها في دفع حواء للتذمُّر على الله والاستقلال عنه، لحرمانه إياها الأكل من شجرة معرفة الخير والشر (تكوين 3: 3). وفي دفع بني إسرائيل للتذمُّر عليه والاستقلال عنه بحجة الطعام والشراب (خروج 16: 3). لكن المسيح أظهر لإبليس أنه لا يتذمر على الآب بسبب جوعه، لأن عنده كلامه، وهذا أهم جداً عنده من الطعام الجسدي، وأنه لا يستقل عن الآب في التدبير، ولا يسعى للتخلُّص من الجوع إلا بأمره. وقد ظهرت أفكاره من هذا القبيل في غير هذا الوقت لما قال: «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا 4: 34).

وقد قصد المجرب في هذه التجربة أيضاً أن يُغري المسيح على الاهتمام أولاً بخدمة ذاته. فإنْ أقنعه أن يفعل معجزته الأولى لمنفعته الشخصية، يُعَدُّ ذلك نجاحاً عظيماً له، لأنه يعطل عمل المسيح الخلاصي، إذْ يصير المسيح من الذين يعيشون لذواتهم. لكن المسيح جعل هدف كل معجزاته خدمة الآخرين، حتى أعداءه، كما في حادث شفاء أذن ملخس (لوقا 22: 51) ولم يفعل لمنفعته الخصوصية ولا معجزة واحدة، وقد صدق فيه قول الرسول بولس: «لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ أَيْضاً لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ» (رومية 15: 3) وصحَّ فيه تعيير مبغضيه وهو على الصليب: «خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا» (مرقس 15: 31). فصار هذا المبدأ قانونياً لتابعيه الذين وضع لهم شرطاً أولياً هو إنكار الذات. ومن أهم وصاياه «ٱطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ» (مت 6: 33). وفي أقواله كما في أفعاله حذَّرنا بقوة من الأنانية.

ثم أن لهذه التجربة معنى يتعلق بعمل المسيح بين الناس كمخلّص ومُصلح. أراد المجرب أن يغريه على تقديم الأمور الجسدية على الروحية، مراعاةً لمزاج عامة الناس، فينضم كثيرون إليه لهذا السبب، ويكون نجاحه في الظاهر سريعاً. فرفض المسيح هذه الحيلة، لأن مبدأه «اِعْمَلُوا لا لِلطَّعَامِ ٱلْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ ٱلْبَاقِي لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ» (يوحنا 6: 27). وبجوابه علّم البشر في كل مكان وزمان أن خدمة الأرواح تُقدَّم على خدمة الأجساد. وأن الإحسان الحقيقي هو ما ينفع النفوس قبل الأجساد. وأن الإحسان إلى الجسم الفاني يُقصد به أولاً أن يصير مقدمة ووسيلة للإحسان إلى النفس الخالدة.

ذاك الذي تجرب مثلنا ولأجلنا وانتصر، حاضرٌ معنا في كل معركة يثيرها علينا إبليس، فإن انتبهنا لحضوره حالاً في ساعات التجربة، يعطينا نصراً كانتصاره على عدوّنا وعدوه، فنتهلل مع الرسول مرنمين: «شُكْراً لِلّٰهِ ٱلَّذِي يُعْطِينَا ٱلْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (1 كورنثوس 15: 57).

وهكذا انتصر المسيح على إبليس في أول تجربة جرّبه بها، ورفض أن يحوّل الحجارة إلى خبز ليُشبع جوعه. انتصر عندما قال: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله».

التجربة الثانية: إبليس يطلب من المسيح أن يطرح نفسه إلى أسفل (تجربة حب الظهور)

«ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ ٱلْهَيْكَلِ، وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ فَٱطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلائِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لا تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَكْتُوبٌ أَيْضاً: لا تُجَرِّبِ ٱلرَّبَّ إِلٰهَكَ» (متى 4: 5-7).

أسفرت التجربة الأولى عن انكسار إبليس أمام المسيح. لكن إبليس لا ينثني بسهولة عن مشروعه الخبيث، إنما لفرط ذكائه يجدّد الهجوم على صورةٍ تخالف الأولى على خطٍ مستقيم، فقد ترك خُطة البساطة وأبدلها بخُطة الاحتيال، لأنه يعلم أن كل انتصار يفتح الباب لغيره، فيتظاهر بالرضى التام عن تصريح المسيح أنه تحت حكم ما هو مكتوب، وسلّم أيضاً بمبدأ أن المسيح لا ينفصل عن الآب، فطلب منه أن يتمسك بهذا الارتباط ويبرهن على ذلك. وتظاهر أنه سلم للمسيح بأفضلية الأمور الروحية على الجسدية، فطلب منه عملاً خطيراً خالياً من المنافع الجسدية، لكن فيه تعريض الجسد لخطرٍ عظيم.. طلب من المسيح عملاً يكون له تأثير ديني عظيم، فيه إنكار للنفس وتمسُّك بخدمة الآخرين، ليظهر لشعب الله المجتمع في الهيكل من رئيس الكهنة فما دون، أنه حقاً ابن الله ليؤمنوا به. والنقطة الوحيدة في تجربته الأولى التي تكررت في التجربة الثانية هي قوله: «إن كنت ابن الله».

يقول الإنجيل إن إبليس جاء بالمسيح إلى المدينة المقدسة أورشليم، وأوقفه على جناح الهيكل، وقال له: «إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل، لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك، وأنهم على أيديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجرٍ رجلك».

نظن أن الشيطان أخذ في هذه التجربة صورة ملاك نور، وأن بولس يشير إلى ذلك بقوله: «لأَنَّ ٱلشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاكِ نُورٍ» (2 كورنثوس 11: 14) وأنه ظهر كأحد الملائكة المشار إليهم في كلام المزمور، المكلَّفين أن يحملوه على أيديهم، لئلا تصدم بحجر رجله. وهو هنا كأنه يضمن للمسيح أن يصونه من الأذى في كل الأحوال، حتى ولو رمى بنفسه من هذا المرتَفَع، ولا سيما لأنه بذلك يقدم للجمهور وللعالم برهان نزوله من السماء من عند الله.

من جواب المسيح على هذه التجربة نستخلص ماهيتها. أجاب: «مكتوب أيضاً لا تجرب الرب إلهك». إذاً ما كُتب في مكان من الكتاب يُفسَّر وفقاً لما كُتب في باقي الكتاب، إذْ يجب أن نفسر كلام الوحي بمثله، فيكون مفتاح التفسير الصائب لكل آيات الكتاب ما ورد في الموضوع ذاته من الآيات الأخرى، مع مراعاة روح الكتاب إجمالاً. ويدل الاختبار على أن إِفراد بعض الآيات المقدسة، والتشبُّث بظاهر معناها فقط، قد أدى ويؤدي إلى ضلالات كثيرة ومضرة.

دعا إبليس المسيح في هذه التجربة ليفتخر بالقوة التي له، فيظهرها أمام الجمهور. لكن روح الكتاب وفحوى آياته هي أساسٌ كافٍ للقول إن الله لا يسمح للإنسان أن يقتحم المخاطر دون داعٍ يوجب ذلك، لأن الإتكال على حمايته في ذلك الاقتحام، يكون تجاسراً مُنكراً. فهل يليق أن يطلب إنسان من الرب أن يحفظه من أضرار تعرَّض لها تطفُّلاً أو افتخاراً أو امتحاناً؟ لقد تجنَّب المسيح في كل حياته المخاطر، إلى أن أتت الساعة التي وجب أن يقدم حياته ذبيحة إثم.

ثم أن الوجه الآخر في هذه التجربة هو دعوة إبليس للمسيح ليتخذ سياسة الإدهاش العقلي وسيلةً بها يجعل الناس يؤمنون به، فيعتمد على قوة المعجزة لا على قوة الحق وعلى الإقناع الفكري لا على الشعور القلبي، وعلى الإدهاش لا التعليم. ولو نجح إبليس في تحويل المسيح عن الاهتمام بالتأثير الروحي في القلوب، يكون إبليس قد حفظ سلطته على الناس، ولو شاهدوا من المسيح مدهشات كثيرة.

لم يسقط المسيح في هذه الحفرة التي حفرها له المجرِّب. ومع أنه مزمع أن يصنع معجزات كثيرة فيما بعد، فإنه لا يصنعها لأجل الإدهاش، ولا كوسيلةٍ لجذب الناس إلى الإيمان به، بل سيصنعها تثبيتاً للذين قد آمنوا. فلا يُبنى إيمان الناس به على قوته بل على قوة الحق، وعلى أساس صفاته المقدسة، وعلى أساس المحبة له. لأن مركز الدين هو القلب لا الرأس. وعبثاً يستنير إن لم يُمَسّ القلب أيضاً. لذلك رفض المسيح كثيراً طلب اليهود أن يريهم آيات السماء.

التجربة الثالثة: إبليس يطلب من المسيح أن يسجد له (تجربة الشرك بالله)

«ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضاً إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدّاً، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ ٱلْعَالَمِ وَمَجْدَهَا، وَقَالَ لَهُ: «أُعْطِيكَ هٰذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي». حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ٱذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ». ثُمَّ تَرَكَهُ إِبْلِيسُ، وَإِذَا مَلائِكَةٌ قَدْ جَاءَتْ فَصَارَتْ تَخْدِمُهُ» (متى 4: 8-11).

بعد فشل إبليس في خُطة البساطة ثم الاحتيال، لجأ إلى خطة الوقاحة، فنراه يغيّر نوع الطلب ويدعو المسيح إلى أمر منكر، هو السجود له، ويقدم مقابل ذلك شيئاً لا تُقدَّر قيمته. لأنه على كيفية نجهلها أصعده إلى جبل عالٍ جداً، وأراه جميع ممالك المسكونة ومجدها في لحظة من الزمان وقال له: «لك أعطي هذا السلطان كله، وهذه جميعها ومجدهنَّ، لأنه إليَّ دُفع، وأنا أعطيه لمن أريد. فإنْ خررْتَ وسجدتَ لي يكون لك الجميع».

ليس في جواب المسيح على هذه التجربة أقل إشارة إلى أن اقتراح إبليس كاذب ومواعيده فارغة، مع أن باستطاعة المسيح أن يرغم إبليس على القيام بما وعد، إن شاء ذلك. بل بنى رفضه على نوعية ما كلّفه إبليس به، وهو أن يقدّم السجود لغير الله، أو أن يقدم هذا السجود من باب النفاق لشخص لا يسجد له قلبياً. وأن يتخذ لأجل غاية حسنة وسيلةً سيئة، متساهلاً مع الشر القليل لأجل الخير الجزيل. وهذه على الدوام خدعة شيطانية تضيِّع على المتساهل كل ما يريده من الخير، وتجلب على رأسه ويلاً وبيلاً عقاباً على تساهله، فالغاية لا تبرِّر الوسيلة أبداً.

كانت هذه التجربة الشيطانية الثالثة تطلب من المسيح أن يتبنَّى خطة المجد العالمي في أمور الدين، كما يفعل رجال الدين جميعاً، حتى رسله، ويوحنا المعمدان، الذين كانوا يشتهون ويتوقَّعون ملكوتاً زمنياً مجيداً يقيمه المسيح متى جاء. وتعهد إبليس للمسيح أن يسهّل له إتمام هذه الرغائب اليهودية السائدة عند الجميع. وفي الوقت ذاته يغنيه عن الأتعاب والإهانات والآلام والصلب، وعن الصبر طويلاً مئات السنين لتأييد سلطته على البشر مكان سلطة إبليس. فينال المسيح غايته السامية بسرعة وسهولة.

ولا يُستبعَد أن هيئة إبليس في هذه التجربة أيضاً لم تكن شيطانية ظاهرة تولّد النفور منه مباشرة والاشمئزاز من تقديم السجود له. لكن وقاحة اقتراحه في طلبه من المسيح الطاهر أن يفعل أمراً منكراً في الدين، تكفي لتكشف عن حقيقة شخصه. لذلك قابله المسيح بالرفض القوي، وانتهره بقوله: «اذهب يا شيطان». ومع ذلك لم يمسك عنه قوة البرهان، بل سرد له عبارة من نفس خطاب موسى الذي اقتبس منه سابقاً: «مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلٰهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (تثنية 6: 13، 10: 20).

لما أمر المسيح إبليس بالذهاب، ولَّى مخذولاً. ولكنه فارقه إلى حين فقط. وحالما تقرر فوز زعيم البر على زعيم الإثم وهرب إبليس خاسراً، ظهرت مراقبة أهل السماء لهذا العراك الفاصل الخطير. لأنه يُقال: «وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه». كأنها تنقل إليه التهاني السماوية على فوزه، وبشائر الرضى الإلهي الممتاز، لأن الملائكة هم «أَرْوَاحٌ خَادِمَةً مُرْسَلَةٌ لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ ٱلْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا ٱلْخَلاصَ» (عبرانيين 1: 14). فكم يكون فرحهم وافتخارهم أن يخدموا الآن - ليس ورثة الخلاص - بل رئيس الخلاص ورئيس الإيمان ومكمّله.

في هذه البرية هاجمت المسيح أنواع التجربة الثلاثة «شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ ٱلْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ ٱلْمَعِيشَةِ» (1 يوحنا 2: 16) تجربة للجسد في أمر الطعام، وتجربة للعقل في أمر إعجاب الناس، وتجربة للنفس في أمر المجد العالمي. وفي هذه كلها تجرَّب مثلنا لكي يرثي لضعفاتنا. وبها تزكَّى وتقوى وتمجد، وشهد له إبليس شهادة ضمنية قوية، لأنه لم يقدم له أول الأمر تجربة في أمر شرير رديء، لكنه أتاه أولاً بتجارب ظاهرها شريف، حتى إذا سقط فيها يجذبه تدريجياً إلى ما وراءها من المنكرات وتعتبر تجربة المسيح في البرية معمودية المسيح الثالثة، وهي معموديته بالنار، بعد أن تعمد بالماء ثم بالروح القدس. وبقيت عليه معمودية رابعة هي المعمودية بالدم على الصليب.

في آدم الأول تمثَّل الجنس البشري كله، فلما تجرب وسقط، هوى مع كل نسله إلى الجحيم، فهبطوا جميعاً من الجنة وصاروا بعضهم لبعض عدو. وفي آدم الثاني (المسيح) تمثَّل الجنس البشري مرة ثانية، فلما تجرب ثبت ليصعد جنسُه معه إلى النعيم. بسقوط آدم الأول تحولت جنة عدن إلى برية، وبثبات آدم الثاني تتحول البرية جنة، فإذا برية الشر تصبح جنة البر، وبرية الخصام جنة السلام، وبرية السخط الإلهي والدينونة الأبدية جنة الرضى الإلهي والرحمة والحياة الأبدية، وبرية العداوة لله جنة البنوَّة لله، وبرية اليأس والهلاك جنة الرجاء والخلاص.

2 - المسيح يختار تلاميذه الأولين

«وَفِي ٱلْغَدِ أَيْضاً كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفاً هُوَ وَٱثْنَانِ مِنْ تَلامِيذِهِ، فَنَظَرَ إِلَى يَسُوعَ مَاشِياً، فَقَالَ: «هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ». فَسَمِعَهُ ٱلتِّلْمِيذَانِ يَتَكَلَّمُ، فَتَبِعَا يَسُوعَ. فَٱلْتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: «مَاذَا تَطْلُبَانِ؟» فَقَالا: «رَبِّي، (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ) أَيْنَ تَمْكُثُ؟» فَقَالَ لَهُمَا: «تَعَالَيَا وَٱنْظُرَا». فَأَتَيَا وَنَظَرَا أَيْنَ كَانَ يَمْكُثُ، وَمَكَثَا عِنْدَهُ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ. وَكَانَ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلْعَاشِرَةِ. كَانَ أَنْدَرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَاحِداً مِنَ ٱلِٱثْنَيْنِ ٱللَّذَيْنِ سَمِعَا يُوحَنَّا وَتَبِعَاهُ. هٰذَا وَجَدَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَانَ، فَقَالَ لَهُ: «قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا» (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: ٱلْمَسِيحُ). فَجَاءَ بِهِ إِلَى يَسُوعَ. فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَنْتَ سِمْعَانُ بْنُ يُونَا. أَنْتَ تُدْعَى صَفَا» (ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: بُطْرُسُ)» (يوحنا 1: 35 - 42).

كان يوحنا المعمدان واقفاً مع اثنين من تلاميذه، عندما رأى المسيح مقبلاً، فقال عنه: «هوذا حمل الله». وكان أحد هذين التلميذين أندراوس من مدينة بيت صيدا الواقعة على رأس بحيرة طبرية الشمالي في منطقة الجليل، فيكون قد أتى من محلٍ بعيد ليتتلمذ للمعمدان. أما الثاني يوحنا بن زبدي، فهو أيضاً من بيت صيدا. ولا نعلم كل ما سمعاه سابقاً من معلمهما المعمدان عن المسيح، لكنهما سمعاه يقول إنه حمل الله (يوحنا 1: 29 ، 36). ويؤيد هذه التسمية قول إشعياء النبي: «تَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ» (إشعياء 53: 7).

كان يوحنا المعمدان ابن كاهن. وعمل الكاهن الخصوصي هو ذبح الحملان في الهيكل، والشرط في الذبيحة أن تكون سالمة من كل عيب. فيوحنا وهو يطلق على المسيح لقب حمل الله يشهد بسلامة المسيح من كل عيب.

وبما أن هذا الناسك والواعظ القدير مملوء من الروح القدس، فقد علم جيداً أن الذبائح الحيوانية في الهيكل لم تكنْ إلا رمزاً للذبيحة الحقيقية الأصلية الوحيدة، التي هي «حمل الله» المذبوح حسب القصد الإلهي، من قبل تأسيس العالم، وأن الذبائح الحيوانية لا تصلح لرفع الخطايا، لأن هذا هو فعل ذبيحة حمل الله.

ظهر تأثير شهادة المعمدان عن المسيح في أنّ أندراوس ويوحنا تبعا المسيح فوراً بكل احترام، دون أن يقولا شيئاً، إلى أن شعر المسيح بمرافقتهما له، فسألهما: «مَاذَا تَطْلُبَانِ؟» (يوحنا 1: 38). والمسيح عادة يسأل كل شخص يتظاهر باتّباعه: «ماذا تطلب؟» لأن مطاليب تابعيه تختلف كثيراً، وعليه تختلف أيضاً معاملته لهم، وقد قال لبعضهم: «أَنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي... لأَنَّكُمْ أَكَلْتُمْ مِنَ ٱلْخُبْزِ فَشَبِعْتُمْ» فلم يقبلهم تلاميذ له (يوحنا 6: 26).

كانت إجابة أندراوس ويوحنا على سؤال المسيح باحترام وتحفُّظ، كأنهما يريدان في وقت آخر مناسب أن يأتيا ليسمعا كلامه ويتعلّما منه، فقالا: «يا معلم، أين تمكث؟» فلم يرْضَ أن يخبرهما، لأنه أراد أن يعلمهما أن المطلوب من كل واحد أن يتبعه حالاً، فهو يرفض دائماً الذين يؤجلون اتّباعه، ويلزمهم أن يتبعوه عاجلاً، وإلا فإنه لا يقبلهم، فقال لأندراوس ويوحنا: «تعاليا وانظرا». ولما أطاعاه أبقاهما عنده ذلك اليوم. ولا زال هذا هو الترتيب الإلهي - فالإنسان يتخذ الدين لا لأن غيره شهد له، بل لأنه هو اختبره شخصياً - فعليه أن يأتي وينظر حسب قول داود: «ذُوقُوا وَٱنْظُرُوا مَا أَطْيَبَ ٱلرَّبَّ!» (مزمور 34: 8).

تغيّرت حياة أندراوس ويوحنا تماماً بعد أن التقيا بالمسيح، ولو أن أندراوس لم يشتهر كثيراً فيما بعد، بل كان أعظم أعماله ما فعله في ذلك الوقت، إذ أتى بأخيه سمعان إلى المسيح. ويظهر أن سمعان كان تلميذاً معه للمعمدان، ففتش عنه حتى وجده، وأخبره عن كنز لا يُثمَّن قد اهتدى إليه مع رفيقه يوحنا، إذ قال: «وَجَدْنَا مَسِيَّا» (يوحنا 1: 41).

تتضمن هاتان الكلمتان طريق الخلاص كله. من وجد المسيح شخصياً فقد وجد كل شيء، ولا يحتاج إلى غيره، فهو الذي قال عنه النبي داود: «اَلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلا يُعْوِزُنِي شَيْءٌ» (مزمور 23: 1). هو «ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ» (يوحنا 14: 6). فمن وجد هذه الثلاثة وجد الكل. ولم يكتفِ أندراوس بالكلام، بل أردفه بالفعل، فجاء بأخيه إلى المسيح. وكل من وجد المسيح حقاً يسرع في دعوة الآخرين والإتيان بهم إليه، مبتدئاً بالأقربين، كما جاء أندراوس بأخيه سمعان.

وعرف المسيح سمعان حالما رآه، لا بل قبلما رآه، وعلم مزاياه ومواهبه ومستقبله، فأعطاه في هذه المقابلة الأولى اسماً جديداً: بطرس (في اليوناني) أو صفا (في الأرامي) وكلاهما معناه «صخرة». وهذا اسم لم يستحقه إلا بعد أن حلَّ عليه الروح القدس، فظهرت فيه المواهب التي أهَّلتْهُ لهذا الاسم.

«فِي ٱلْغَدِ أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى ٱلْجَلِيلِ، فَوَجَدَ فِيلُبُّسَ فَقَالَ لَهُ: «ٱتْبَعْنِي». وَكَانَ فِيلُبُّسُ مِنْ بَيْتِ صَيْدَا، مِنْ مَدِينَةِ أَنْدَرَاوُسَ وَبُطْرُسَ. فِيلُبُّسُ وَجَدَ نَثَنَائِيلَ وَقَالَ لَهُ: «وَجَدْنَا ٱلَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءُ: يَسُوعَ ٱبْنَ يُوسُفَ ٱلَّذِي مِنَ ٱلنَّاصِرَةِ». فَقَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: «أَمِنَ ٱلنَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟» قَالَ لَهُ فِيلُبُّسُ: «تَعَالَ وَٱنْظُرْ».

وَرَأَى يَسُوعُ نَثَنَائِيلَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ، فَقَالَ عَنْهُ: «هُوَذَا إِسْرَائِيلِيٌّ حَقّاً لا غِشَّ فِيهِ». قَالَ لَهُ نَثَنَائِيلُ: «مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «قَبْلَ أَنْ دَعَاكَ فِيلُبُّسُ وَأَنْتَ تَحْتَ ٱلتِّينَةِ، رَأَيْتُكَ». فَقَالَ نَثَنَائِيلُ: «يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» أَجَابَ يَسُوعُ: «هَلْ آمَنْتَ لأَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَحْتَ ٱلتِّينَةِ؟ سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هٰذَا!» وَقَالَ لَهُ: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ ٱلآنَ تَرَوْنَ ٱلسَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلائِكَةَ ٱللّٰهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ» (يوحنا 1: 43-51).

انضم سمعان حالاً إلى أندراوس ويوحنا. فضمَّ المسيح هؤلاء الثلاثة إليه كتلاميذ، وبذلك تم قصده من زيارته لبيت عبرة. واستعد ليذهب في اليوم التالي إلى وطنه الجليل. ولكن قبل سفره اتّخذ تلميذاً رابعاً اسمه فيلبس، وهو أيضاً من بيت صيدا، وجده المسيح ودعاه قائلاً: «ٱتْبَعْنِي» (يوحنا 1: 43). فإن القاعدة العمومية في الدين هي «اُطْلُبُوا تَجِدُوا» (متى 7: 7) «وَتَطْلُبُونَنِي فَتَجِدُونَنِي إِذْ تَطْلُبُونَنِي بِكُلِّ قَلْبِكُمْ» (إرميا 29: 13). لكن لهذه القاعدة شواذ، وكان فيلبس، مثل متى، من هذا الشواذ، فصحَّ فيهما قول النبي: «وُجِدْتُ مِنَ ٱلَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي» (إشعياء 65: 1).

ظهرت الغَيْرة لربح النفوس للمسيح في أندراوس، ثم ظهرت حالاً في فيلبس، لأنه وجد صديقاً خاصاً له اسمه نثنائيل من قانا الجليل، فأخبره عن المسيح، وقال له إنه هو الذي أخبر عنه موسى في أسفار شريعته، وكتب عنه الأنبياء بعد موسى، وإنه ابن يوسف من الناصرة (يوحنا 1: 45) ولم يصدق نثنائيل هذا الخبر، فقد ظن أن المسيح لا يمكن أن يجيء من الناصرة، إمّا لحقارتها، أو لأن صيتها كان رديئاً بسبب شرور أهلها. فاعترض نثنائيل على فيلبس بقوله: «أَمِنَ ٱلنَّاصِرَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟» (يوحنا 1: 46). فلم يشأ أن يحاجَّه في الأمر. لأنه كان يعلم أن مقابلة المسيح تفوق كل برهان آخر، وتُغني عن ذلك. وكثيراً ما يكون الجدال في المعتقدات الدينية فارغاً، وأحياناً مُضراً. أما أفضل برهان في فم المؤمن فهو جواب فيلبس لنثنائيل: «تعال وانظر». لقد تكلم الروح القدس في المسيح لما قال للتلميذين: «تعاليا وانظرا» وتكلم مرة أخرى في فيلبس بذات اللفظ، فاقتنع نثنائيل بهذه الدعوة ولم يطالب ببراهين تسندها، بل وضع ثقته في مدارك فيلبس واستقامته، وقبل أن يأتي ليقابل المسيح بنفسه.

كان المسيح يعلم خفايا تاريخ نثنائيل وصفاته، دون سابق مقابلة بينهما أو سماع خبر عنه من إنسان، فبينما نثنائيل آتٍ مع فيلبس لمقابلة المسيح قال للذين معه: «هوذا إسرائيلي حقاً لا غشَّ فيه». ولما تعجب نثنائيل من هذه الشهادة الممتازة من غريب سأل: «من أين تعرفني؟» فأظهر له المسيح أنه كان يراه ببصر غير طبيعي قبل أن دعاه فيلبس وهو جالس تحت التينة، مشغولاً بالصلاة والتأملات الروحية، بعيداً عن مراقبة الناس، وهو يظن أن لا أحد يدري به. أدرك نثنائيل أن المسيح يعرف الغيب، وبنى نثنائيل حالاً على كلام فيلبس له، فآمن فوراً إيماناً كاملاً وقال للمسيح: «يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ». قد يكون أن نثنائيل سمع من قبل بنفسه أو من آخرين شهادة المعمدان للمسيح أنه ابن الله، فأعاد شهادة معلّمه الأول. أما تسميته للمسيح بلقب «ملك إسرائيل» فهو أول من لفظ بها (يوحنا 1: 49).

أجاب المسيح على شهادة نثنائيل بقوله: «سوف ترى أعظم من هذا». سوف ترى أنت وغيرك من الآن أن السماء قد فُتحت للبشر، بعد أن كانت الخطيئة قد أغلقتها في وجوههم، وترون أنني أنا كابن الإنسان أوصّل بين الأرض والسماء. وأرسل الملائكة من السماء لخدمة البشر، فتحمل الملائكة إلى السماء صلاة المؤمنين، ثم أرواحهم متى انتهت حياتهم على الأرض. وتأتي لخدمتي كابن الإنسان أيضاً عند الاقتضاء (يوحنا 1: 50 و51).

لنا من الصوت السماوي وقت معمودية المسيح، ثم من فم المعمدان، ثم من فم نثنائيل شهادة مثلثة أن المسيح هو ابن الله. أما الآن فلنا لأول مرة شهادة من فم المسيح ذاته بأنه ابن الإنسان أي «ابن آدم». وهذا الاسم ليس مقصوراً على المسيح، بل تلقَّب به أنبياء قبله ولا سيّما حزقيال (حزقيال 2: 1). لكن المسيح لم يستصغره على ذاته بل افتخر به. ومع ذلك مدح نثنائيل لأنه آمن به أنه «ابن الله وملك إسرائيل». فهل يمدحه على كذب أو خرافة أو وهْم أو مبالغة، ويقبل كلاماً هو كُفْر، ما لم يكن صدقاً؟ وكيف يقبل لقب ملك إسرائيل، إن كان مجرد بشر، ابن مريم.

في كلام المسيح لنثنائيل نجد شهادته الأولى لنفسه، بكلام لا يجوز لنبي أو رسول أو بشر آخر أن يقوله عن نفسه، لأن ما يقوله إنسان فهيم ومستقيم عن نفسه مهمٌّ جداً لمعرفة حقيقة شخصه. ولهذا قال المسيح: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ، لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَب» (يوحنا 8: 14). فلا يمكن أن إنساناً مثل المسيح يشهد لنفسه شهادة غير صحيحة، لأن استقامته تحميه من استعمال الخداع، وفهمه يحميه من الإنقياد للأوهام. وكل من يقول عن نفسه قولاً غير حقيقي، إمّا أن يكون قاصراً في مداركه، أو مختلاً في آدابه، لأن الشريف يأبى أن ينسب الآخرون إليه فوق ما يحق له من الفضيلة أو المقدرة أو المقام. فكم بالحري إذاً يأبى كُليّاً أن يدّعي لنفسه ما يخالف الحقيقة.

علم رؤساء اليهود أهمية ما يقوله الرجل المستقيم عن نفسه، فأرسلوا المعمدان يسألونه: «مَنْ أَنْتَ؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟» (يوحنا 1: 22) فقال عن نفسه أقل ما يحق له من المقام والفضيلة والمقدرة، ولا يعتبر أحد أن المعمدان أصلَحُ أو أفهَمُ أو أصدق من المسيح، الذي قاد جميع الناس في الذكاء والصدق والتواضع، وأقواله أصحُّ الأقوال في العالم، ولذلك نعلّق أهمية عُظمى على ما يقوله المسيح عن نفسه.

والأمر واضح أنه لو قال غير المسيح ما قاله المسيح عن نفسه، لما نال من أذكياء البشر وأتقيائهم سوى التقبيح والتحقير. قال أحد الملحدين استخفافاً في حديث مع الكاتب الإنجليزي الشهير كارليل: «أستطيع أن أقول عن نفسي ما قاله يسوع عن نفسه: أنا والآب واحد». فأجابه كارليل: «نعم، لكن العالم صدَّق يسوع في قوله، أما أنت فمن يصدقك؟».

3 - أولى معجزات المسيح

«وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا ٱلْجَلِيلِ، وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ. وَدُعِيَ أَيْضاً يَسُوعُ وَتَلامِيذُهُ إِلَى ٱلْعُرْسِ. وَلَمَّا فَرَغَتِ ٱلْخَمْرُ قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا ٱمْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ». قَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: «مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَٱفْعَلُوهُ». وَكَانَتْ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ مَوْضُوعَةً هُنَاكَ، حَسَبَ تَطْهِيرِ ٱلْيَهُودِ، يَسَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِطْرَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «ٱمْلأُوا ٱلأَجْرَانَ مَاءً». فَمَلأُوهَا إِلَى فَوْقُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: «ٱسْتَقُوا ٱلآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ ٱلْمُتَّكَإِ». فَقَدَّمُوا. فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ ٱلْمُتَّكَإِ ٱلْمَاءَ ٱلْمُتَحَوِّلَ خَمْراً، وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ - لٰكِنَّ ٱلْخُدَّامَ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَدِ ٱسْتَقَوُا ٱلْمَاءَ عَلِمُوا - دَعَا رَئِيسُ ٱلْمُتَّكَإِ ٱلْعَرِيسَ وَقَالَ لَهُ: «كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ ٱلْخَمْرَ ٱلْجَيِّدَةَ أَّوَلاً، وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ ٱلدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ ٱلْخَمْرَ ٱلْجَيِّدَةَ إِلَى ٱلآنَ». هٰذِهِ بِدَايَةُ ٱلآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا ٱلْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ فَآمَنَ بِهِ تَلامِيذُهُ» (يوحنا 2: 1-11).

نحن من الذين يتمسكون بأنه لا يجوز أن يسمَّى حادثٌ ما معجزة، طالما يمكن أن يكون له تفسير طبيعي. إلا أن تصديق حدوث المعجزات قد زاد احتمالاً بسبب ما توصَّل إليه الإنسان في هذا الزمان من التسلُّط على قوانين الطبيعة، لكي يستخدمها لأجل نتائج مدهشة جداً. فقد تفوَّق علماء هذا العصر على رجال العصور الماضية، في إحداث غرائب كانت تُعدّ معجزات - كالطيران والسفر إلى القمر. فإذا كان المخلوق يصنع أحياناً ما يفوق العقل، فهل يُستصعب أن يفعل الخالق ما يشاء بالقوانين التي سنَّها؟ فالاكتشافات والاختراعات التي تتجدَّد وتزداد حيناً بعد آخر تؤكد إمكان حدوث المعجزات الإلهية وتجعلها معقولة، بل وضرورية أيضاً، لأنها برهانٌ ناطق حسي لوجود خالق متسلط على خليقته. وللبرهان الحسي أهمية كبرى. والمعجزات ضرورية أيضاً لأنها من أفعل الوسائل التي بها يعلن الإله للإنسان ما يريد أن يعرفه الإنسان عن ذات الله وإرادته.

ولا نقول إن تدوين معجزات المسيح ضروري لتأييد عظمته. ولم ينسب البشيرون إليه فعْل المعجزات في كل سني حياته السابقة لخدمته التبشيرية عند بلوغه سن الثلاثين، وفي ذلك دليل مهمٌّ على صدق أخبارهم. لكن إذا صدَّقنا حدوث معجزات فعلها أنبياء ورسلٌ بقوة إلهية مُنحت لهم، نصدق بالأحرى أن صاحب القوة الأصلي، أي الإله المتأنس متى ظهر بين الناس يفعل معجزات بقوته الذاتية، يمتاز فيها على كل من فعلها سواه.

كانت معجزات المسيح معجزات رحمة لا معجزات نقمة. ولم يفعل سوى معجزتين نتج عنهما أذى وخسارة مادية، وذلك بقصد تعليمنا درساً روحياً. ولم يفعل معجزة مطلقاً لأجل منفعته الذاتية، ولا لأجل إثارة الدهشة، ولا لأجل جذب الناس إلى الإيمان به، بل لأجل تثبيت الذين آمنوا، لأنه كان يرفض طلب اليهود بأن يريهم آيات لكي يؤمنوا. وفي عمل معجزته الأولى أظهر مجده فآمن به تلاميذه. وفي كل معجزاته معنى عميق وهدف روحي فبواسطتها كان يعلن أفكاره ومبادئه وتعاليمه السامية، وصفاته الفائقة جمالاً وقداسة.

ثم أن كثيراً من تحرُّكات المسيح وأسفاره ما كان ليُعرف لولا خبر معجزاته. من أمثلة ذلك سفره إلى نواحي صور وصيداء الذي ورد في قصة معجزته هناك، ومقدار حنوّه نحو الناس جميعاً، الواضح في معجزات الشفاء وإشباع الألوف. وسلطانه على مغفرة الخطايا الذي ظهر في معجزة شفاء المفلوج في كفر ناحوم، ونحو ذلك. فلو حُذف من أخبار المسيح قسم المعجزات والأمور المتعلّقة بها، لضاع القسم الأكبر من أخبار إنجيله، ولتعطَّلت سائر الأخبار لعدم معرفتنا صادقها من كاذبها. فضلاً عن ذلك فإن معجزاته أثبتت صدق دعواه أنه نزل من السماء. وقد شعر المُخلصون بذلك في زمانه كما شعر بها خصومه من رؤساء اليهود.

تحويل الماء إلى خمر

من المعجزات التي ليس لها تفسير طبيعي معجزة المسيح الأولى التي حدثت في قرية قانا الجليل، بلد تلميذه الجديد نثنائيل، الذي فاق كل زملائه في صراحة شهادته للمسيح وقوتها. ونستنتج أن هذا التلميذ في غيرته الجديدة، دعا سيده الجديد ورفقاءه في الإيمان ليكونوا ضيوفاً عليه كما فعل متى لما آمن (لوقا 5: 19-39)، وكما فعلت ليدية في أيام الرسل (أعمال 16: 15).

وفي أثناء زيارة المسيح لقانا، حدث فيها عرس دُعي إليه هو وأمه وإخوته وتلاميذه من مدينة الناصرة، على بُعد نحو ساعتين سيراً على الأقدام. ولا يُستبعَد أن تلاميذ المسيح توقعوا أن يرفض المسيح قبول هذه الدعوة، فقد حسبوه مثل معلمهم الأول المعمدان. وتصوّروا أن يتبع المسيح خطة المعمدان وسَلَفِه العظيم إيليا، ويتنحى عن الأفراح العالمية، ملتزماً طريقة النُسك والتقشف. ولربما يفتكرون أن رجلاً كبيراً من رجال الدين، مثل المسيح يترفع عن الامتزاج مع المحتفلين في العرس، لأن في أيام العُرس السبعة لا بد أن يتغلّب مهرجان الأفراح على الصبغة الدينية التي ألبسوها للأفراح، والتي جعلتهم يفرضون على العروسين قضاء اليوم السابق للعرس في الصلاة والصوم والاعتراف بخطاياهما، وكان يُطلب من العروس أن تحضِر كفَنَيْن تهدي منهما كفَناً لعريسها، فيرتديان هذا الرداء سنوياً في عيدي رأس السنة والكفارة.

لكن لا يصح لمخلِّص البشر جميعاً أن يتبع خطة سلفه المعمدان، من هذا القبيل فيقدم من الدين الوجه الغضوب العابس وينادي بالوعيد للخطاة، لكن يُنتظر منه أن يشارك كل البشر في أحوالهم المختلفة، في أتراحهم وفي أفراحهم، لأنه أتى ليُظهر محبة الله لجميع الناس. فعليه أن يمثّل الوجه الرضيّ البشوش منادياً بالسعادة، وهو صاحب البشارة المفرحة وموضوعها، وعليه أن يكمل صورة الدين بتأييد مبدأ صاحب البشارة والمؤانسة والأفراح الجسدية الشريفة، رمز الفرح الروحي الذي هو من أركان ملكوته.

مثّل المعمدان الصرامة الدينية، ومثّل المسيح بالأكثر اللطف الديني. ساق المعمدان الناس إلى التوبة، ودعاهم المسيح إليها. أتى المعمدان لا يؤاكل الناس ولا يشاربهم، وأتى المسيح يأكل ويشرب ويقبل الدعوات للولائم، وأن تُقام له الولائم الخصوصية. لبس المعمدان الجلد ووبر الإبل، ولبس المسيح أثواباً كانت موضوع طمع العسكر الروماني الذي صلبه. قال المعمدان في مقدّمة وعظه: «يَا أَوْلادَ ٱلأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ ٱلْغَضَبِ ٱلآتِي؟» (متى 3: 7). وابتدأ المسيح وعظه بقوله: «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِٱلرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 5: 3). فأخذ تلاميذ المسيح القدوة من معلمهم الجديد لما لبَّى الدعوة إلى العرس في قانا.

وفي أثناء العرس فرغت الخمر، فعلمت مريم العذراء بذلك بسبب معرفتها القريبة بأهل العرس، لكن المدعوّين لم يعلموا، فقالت أمه: «ليس لهم خمر» وذلك إمّا لأن آمالها به تجدّدت بواسطة الأخبار الجديدة عمّا حدث له على ضفة الأردن، فقصدت أن تدعوه ليرى الناس مقدرةً تليق بما تعلمه هي عن أصله ومقامه، أو لأنها حسبت مجيئه مع زمرة تلاميذه كان سبب فروغ الخمر، أو لأن روح افتخار الأمومة الطبيعي، جعلها تحسب أن تعظيم ابنها يُنيلها هي أيضاً عظمة، أو بدافع آخر نجهله نحن.

ومن إجابة المسيح عليها يتّضح أنها تدخّلت تدخُّلاً في غير محله، إذ قال لها: «مالي ولك يا امرأة. لم تأتِ ساعتي بعْد». ولا بد أن المسيح علم أنها تحتاج إلى تعليقٍ يحتوي شيئاً من القساوة، حتى تفهم جيداً شأنه الجديد، واختباراته الجديدة، والتغيير الكليّ في علاقاته العائلية. فكان كلامه بمثابة فاصل جديد بينه وبينها. كما ويبيّن لها في قوله «مالي ولك» أنها لم تعُدْ أمه كما كانت في الماضي، وليست إرادتها قانونه. إيضاحاً لذلك قال لها: «يا امرأة بدلاً من «يا أمي». قبل هذا الوقت كان يجوز أن يتعلم منها ويأتمر بأمرها، لكن الآن عليها أن تتعلم هي منه، وأن تأخذ كل الحذر من أن تلمّح أقل تلميح بأنه يفتقر إلى إرشاد بشري، كأنه قاصر في معرفة الواجب، أو مقصّر في إيفائه. وقد قبلت مريم التوبيخ اللطيف من ابنها وتسليمها له بكل رزانة، واحترامها إياه الذي ظهر عندما أمرت الخدام: «مهما قال لكم فافعلوه».

علم المسيح أن وقته قد جاء ليُجري المعجزات، فيظهر للجماهير ببراهين حسية إرساليته السماوية وسلطته الإلهية، فيعرف الكل ولا سيما تلاميذه - أن اتضاعه اختياري لا اضطراري، ويثبت إيمان الذين اتّبعوه حديثاً، ويربي شهرة تكفي لجذْب الجماهير إليه ليسمعوا تعاليمه، أما ساعته لأجل فعل المعجزة فلا تأتي إلا بعد ظهور العجز البشري الذي يبدأ عنده العون الإلهي.

كان في دار أهل هذا العرس ستة أجران حجرية، يتسع كل منها لنحو ثماني جرار ماء. وبسبب عدد المدعوّين الذين تمموا الغسلات اليهودية المطلوبة، فرغت تلك الأجران أو كادت أن تفرغ من مائها. ولما أتت ساعة المسيح ليصنع معجزته الأولى أمر الخُدّام أن يملأوا هذه الأجران ماء، فملأوها حسب أمره «إلى فوق». ثم أمر أن يستقوا منها، ويقدموا لرئيس المتكإ فأطاعوا. ولما ذاقها الرئيس، شهد للجودة الممتازة في هذه الخمر المقدمة أخيراً، وأدّى شهادته جهاراً، بعد أن نادى العريس وشكره لأنه قدم خمراً أجود مما شربوا أولاً.

كان قصد المسيح أن يخلّص أصحاب العرس في ساعة أفراحهم من العار، بسبب فروغ الخمر أثناء الوليمة، وأن يفعل ذلك بمعجزة واضحة لا تقبل الشك والتأويل، إذ قصد أن يقدم خمراً، فاختار آنية ماء لا آنية خمر، دفعاً للشك بأن آثار خمرٍ سابقة تكون قد حللت الماء بتأثير طبيعي، أو منحت الماء قليلاً من طعم الخمر. واختارها فارغة ليتحقق الجميع أن ما فيها هو ماء صرف. واختارها كبيرة حذراً من الظن أنه يمكن استحضار خمر من الخارج يكفي لملئها. وأمر أن يملأها خدام العريس وليس أتباعه هو، دفعاً لكل ظن بأن أعوانه استعملوا حيلة ومكراً ليعظّموه. وأمر أن يملأوها إلى فوق لكي لا يبقى محلٌ للقول إن خمراً أُضيفت إلى الماء بعد أن وضعه الخدام.

وهكذا شهد لحقيقة المعجزة عددٌ كاف من أهل القرية، هم الخدام، الذين لم يعرفوه قبلاً، وليسوا من أتباعه أو أنسبائه، فلا يظن أنهم يتواطئون معه في خدعة. بقي أن يشهد مسؤول لجودة الخمر، لكي لا يُقال إن التصوُّر ولَّد التصديق، وإن ما شربوه لم يكن خمراً حقيقية. وقد أدى هذه الشهادة أفضل شاهد، وهو رئيس المتكإ، إذْ نبَّه بكلامه جمهور الحاضرين. فلما تناقلت الألسن شهادة الخدام عن مصدر هذه الخمر الجديدة، عرف الجميع المعجزة الحقيقية التي صنعها المسيح. وبذلك «أظهر مجده فآمن به تلاميذه».

والذي أخبر بهذه المعجزة هو يوحنا الذي قال في المسيح: «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ» (يوحنا 1: 3). فلا عجب إذا كان المسيح الذي يحوّل الماء إلى خمر بأسلوب طبيعي في عروق الكرمة، ثم في الأوعية المعهودة، يكون له الحق والمقدرة أن يفعل الأمر نفسه، لكن على كيفية جديدة خارقة للعادة.

بشهادة ثلاث حواس، أي البصر والذوق والشم، ثبت صدق هذه المعجزة الأولى. ولا سبيل لغير الحواس في تحقيق أي معجزة كانت. ويماثل تحويل المسيح الماء خمراً أعماله الدائمة، فهو الذي يحوّل الحسن إلى أحسن والثمين إلى أثمن. حوَّل عهد الناموس القديم إلى عهد النعمة الجديد، وحوّل الرموز الوقتية إلى الحقائق الأصلية، كما يحوّل المعمودية بالماء إلى المعمودية بالروح القدس، ويحوّل كلمة الإرشاد الديني البسيطة إلى كأس الخلاص الأبدي في قلوب سامعيها.

ومن جملة الأمور التي تبيّن لنا أن المسيح قدوة للبشر: موافقته على استعمال الخمر وتقديمه للمحتفلين بالعرس. لأنه يعلم الخفايا، وعمله قدوة لكل من يعلم عِلْمَه، فليس المقصود هنا السُّكر بالخمر، لأن السكر يؤذي الإنسان، وما نعلمه عن المسيح وعن مبادئه وتصرفاته يجعلنا نجزم بأنه لو كان في استعمال الخمر التي صنعها ضرر في حينه، لكان مستحيلاً أن يصنعها لهم. ولو تحوَّل التلذُّذ بما هو جائز، إلى عثرةٍ للآخرين يصير هذا التلذُّذ محرَّماً. ونحن نعلم أن شرب الخمر خطأ، لو ألجأ إلى السُّكر، أو لو أعثر الآخرين.

كانت أولى معجزات المسيح في حفل عرس، وبهذا قدّس وتوّج بالرضى سُنّة الزيجة، التي هي أقدم الأنظمة البشرية، وهو الذي سنّها في جنة عدن، حين كان أبوانا الأولان في حالة القداسة التامة - وكل نظام سواه سُنَّ بعد سقوطهما. ولأسباب غنية عن البيان لم يدخل هو في رباط الزواج الشريف، لذلك كان تكريمه الزواج بحضوره هذا الحفل، ذا أهمية مضاعفة. إذ أثبت فعلاً في قانا الجليل ما قاله رسوله: «لِيَكُنِ ٱلزِّوَاجُ مُكَرَّماً عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ» (عبرانيين 13: 4). وبذلك حذَّر الناس سلفاً من الوهم المضر المستولي على الكثيرين، بأن الزواج هو من باب التساهل مع الضعف البشري، وقد سُنَّ لأجل ردع الناس عن الرذيلة، وأن الامتناع عن الزواج فضيلة، فنتج عنه هذا الظن الفاسد تحقير الزواج وتكريم التبتُّل. واحتفال المسيح بالعرس يدحض هذا الظن، كما يدحضه قول الله لآدم وحواء قبل السقوط: «أَثْمِرُوا وَٱكْثُرُوا وَٱمْلأُوا ٱلأَرْضَ» (تكوين 1: 28).

كان حضور المسيح هذا العرس مقدمة جميلة لحضوره كل عرس يُقام بين المؤمنين، لأنهم يذكرون قول الإنجيل إن الزواج ينبغي أن يكون في الرب. وسوف يُحتفل في آخر الأيام بعرس المسيح العظيم: الذي حوّل الماء خمراً في عرس قانا الجليل، عندما يجلس هذا العريس السماوي على عرشه الملكي، وتكون العروس هي كل جماعة المؤمنين الذين يؤلّفون كنيسته المحبوبة المختارة. ولا يدوم هذا العرس الروحي سبعة أيام فقط بل إلى ما لا نهاية. فطوبى للمدعوّين إلى عشاء عرس الحمل (رؤيا 19: 1-10).

وإكرام الزواج يتبعه إكرام العلاقات العائلية. فالأسباب في أحوال المسيح وتلاميذه التي اضطرتهم إلى بعض الإهمال في علاقاتهم العائلية، جعلت المسيح يُظهر اعتباره إياها في فاتحة خدمته، لئلا يظن التلاميذ أو غيرهم أنه لا يهتم بها، لأنها غير مهمة. ويؤيد المسيح المقام الرفيع لهذه العلاقات العائلية، وفي الوقت ذاته يقدّم عليها العلاقات الروحية الأولية الأسمى والأقدس والأهم التي تربط النفوس بإلهها، وبالمسيح مخلِّصها، وبأولاد الله الروحيين.

4 - المسيح يطهر الهيكل

«وَبَعْدَ هٰذَا ٱنْحَدَرَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ، هُوَ وَأُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ وَتَلامِيذُهُ، وَأَقَامُوا هُنَاكَ أَيَّاماً لَيْسَتْ كَثِيرَةً وَكَانَ فِصْحُ ٱلْيَهُودِ قَرِيباً، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَوَجَدَ فِي ٱلْهَيْكَلِ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَراً وَغَنَماً وَحَمَاماً، وَٱلصَّيَارِفَ جُلُوساً. فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ وَطَرَدَ ٱلْجَمِيعَ مِنَ ٱلْهَيْكَلِ، اَلْغَنَمَ وَٱلْبَقَرَ، وَكَبَّ دَرَاهِمَ ٱلصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. وَقَالَ لِبَاعَةِ ٱلْحَمَامِ: «ٱرْفَعُوا هٰذِهِ مِنْ هٰهُنَا. لا تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ». فَتَذَكَّرَ تَلامِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي». فَسَأَلَهُ ٱلْيَهُودُ: «أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هٰذَا؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ». فَقَالَ ٱلْيَهُودُ: «فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هٰذَا ٱلْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟» وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ. فَلَمَّا قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، تَذَكَّرَ تَلامِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هٰذَا، فَآمَنُوا بِٱلْكِتَابِ وَٱلْكَلامِ ٱلَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ. وَلَمَّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ ٱلْفِصْحِ، آمَنَ كَثِيرُونَ بِٱسْمِهِ، إِذْ رَأَوُا ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي صَنَعَ. لٰكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعَ. وَلأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي ٱلإِنْسَانِ» (يوحنا 2: 12-25).

غضب السيد المسيح على كهنة اليهود الذين جعلوا بيت العبادة مغارة لصوص، وفي غضبه طهّر الهيكل رمزاً لاستعداده أن يطهر هياكل الله التي هي قلوب البشر. أتى مستعداً ولم يبطئ في عمله، وصنع سوطاً من حبال وطرد من الهيكل كل ما لا يجب أن يكون هناك، لم يستعمل العنف مع الباعة والصيارفة أو يطردهم، لأنه أرادهم أن يعرفوا أن غضبه ليس موجّهاً ضد أشخاصهم، بل ضد أعمالهم الخاطئة. طرد المواشي وقلب موائد الصيارفة، لأن ليس من يدٍ تفعل ذلك غير يده، لكنه لم يفلت الحمام الذي إذا طار لا يعود، بل قال لأصحابها: «ارفعوا هذه من ههنا». ثم خاطب الجميع قائلاً: «لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة».

فمَنْ هذا الذي يفرز ذاته عن شعب الله جميعاً ويقول: «بيت أبي»؟. وهل تكلم هكذا في أي زمان نبيٌ أو رسول أو ملاك من السماء؟ ومن هذا الذي يقف أمام الجمع الغفير الذي غصَّت به دور الهيكل، يغيّر العوائد التي ألفوها، وينكر على العابدين تلك التسهيلات التي طالما استعانوا بها في «دار الأمم» لوجود حاجاتهم فيها، ويضطرهم إلى الخروج إلى شوارع المدينة ليشتروها؟ ومن هذا الذي يقاوم رؤساء الدين في الدائرة المخصصة لسلطتهم، وينقض عقود الإيجار التي أبرموها مع الباعة والصيارفة؟ بأي حقٍ يطرد بعنفٍ أبقار هؤلاء وأغنامهم، ويشوّش حساباتهم وترتيب دراهمهم؟ وكيف يخسّرهم الأرباح التي أباحها الرؤساء لهم في هذا الموسم؟ ولماذا يستهين بالرياسة المؤيَّدة من الأمة اليهودية بأسرها والحكومة الرومانية بعظمتها؟ وكيف يستطيع أن يقوم بعمل كهذا، بينما الكهنة واللاويون، وهم عصابة قوية، يحومون بالمئات يمارسون خدمتهم بملابسهم الرسمية؟ ألم يعطِ رئيسُهم الأعظم هؤلاء المطرودين حقَّ هذا الاتجار الذي عطّله المسيح؟ فضلاً عمّا تحت طلب هذا الرئيس من جنود الرومان المخصَّصين لتأييد تلك السلطة، وحفظ نظام الهيكل. فكيف يجسر المسيح أن يُقدِم على عمل كهذا؟ بل كيف يفلح فيه إن أقدم عليه.

الجواب أن ضمائر القوم تعينه على الفلاح، لأن الخاطئ جبان تجاه الناس وتجاه ضميره، بينما البار جريء. قال الحكيم: «اَلشِّرِّيرُ يَهْرُبُ وَلا طَارِدَ، أَمَّا ٱلصِّدِّيقُونَ فَكَشِبْلٍ ثَبِيتٍ» (أمثال 28: 1) فضمير رؤساء الهيكل وتجّارهم كان نصيراً لعمله، وقيّدهم، فلما انتهرهم كآمر ذي سلطان قائلاً: «ارفعوا هذه من ههنا. لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة» ذلُّوا أمامه. وقد أعانت المسيح في طرد الباعة شهادة المعمدان التي تقدمت للرؤساء بواسطة الوفد الذي أرسلوه إليه، ولربما بلغهم خبر المعجزات في قانا، التي تؤيد تلك الشهادة، ثم أن اليقظة الجديدة القوية التي نتجت عن خدمة المعمدان أعدَّت أفكار كثيرين للأعمال الإصلاحية، فيُنتظر أن الرؤساء يحسبون حساباً للأتقياء بين شعبهم، وإن كانوا قليلين.

مهدت أسباب كهذه، السبيل للسبب الأعظم الذي يرجع إليه نجاح المسيح في مقاومته الأولى لفساد الرؤساء. وهذا السبب هو هيبة القداسة فيه، المقرونة بإظهاره تفرُّده عن جميع البشر في علاقته مع الله، لما قال لهم «بيت أبي». وإن لبسالة القداسة هيبة لا تُقدَّر.

اكتفى الرؤساء في هذا الوقت أن يقاوموا بالكلام، فقالوا إنه لا يحقُّ له أن يعارضهم في سلطانهم على الهيكل ومتعلّقاته، ما لم يكن نبياً أو مرسلاً من الله. وإن كان كذلك فعليه أن يثبت رسالته الإلهية بمعجزة خاصة جديدة أمامهم، تضطرُّهم إلى الاعتراف بسلطانه الديني.

ولم يرضخ المسيح لطلب هؤلاء الأشرار بأن يمنحهم حقَّ الحكم فيما إذا كان له حقٌ أن يفعل ذلك. غير أنه لم يترك لهم حُجةً بسكوته، فأعطاهم جواباً عميقاً حيَّرهم وضاعف غيظهم عليه، إذ أجابهم بلغزٍ معناه أن شخصه معجزة كافية وأعظم المعجزات. وإن أرادوا أن يعرفوا ذلك فليقتلوه، وهو يقوم من الموت بعد ثلاثة أيام، قال: «انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه».

ولولا غلاظة قلوب هؤلاء البارعين في درس كلام أنبيائهم، لفطنوا لما كتبه إشعياء: «أَيْنَ ٱلْبَيْتُ ٱلَّذِي تَبْنُونَ لِي، وَأَيْنَ مَكَانُ رَاحَتِي؟... وَإِلَى هَذَا أَنْظُرُ: إِلَى ٱلْمِسْكِينِ وَٱلْمُنْسَحِقِ ٱلرُّوحِ وَٱلْمُرْتَعِدِ مِنْ كَلامِي» (إشعياء 66: 1 و2). وقد فسّر استفانوس هذا الكلام بقوله: «ٱلْعَلِيّ لا يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِٱلأَيَادِي» (أعمال 7: 48) فهاجوا عند الجواب الذي لم يفهموه، إذ حسب الرؤساء قوله: «انقضوا هذا الهيكل» تجاسراً كُفرياً، فكيف يدعوهم هذا المعلم الجديد - وهو يهودي - لينقضوا هيكل الله المقدس الذي هو فخر الأمة الأعظم؟ ومن هو هذا الذي يدَّعي بأنه قادر أن يبني مثله في ثلاثة أيام إن نقضوه؟ بينما هيرودس الملك مع كل غناه وسطوته واجتهاده الزائد لأجل ترميمه وتحسينه فقط، وبعد عمل متواصل مدة ست وأربعين سنة، لم يقدر أن يكمل ذلك. فكيف يقدر هذا الشاب الفقير الجليلي أن يقيمه جديداً في ثلاثة أيام.

كان كلام المسيح هذا غامضاً على تلاميذه فلم يفهموا قصده، إلا بعد أن نقض اليهود هيكل جسده، بصلبه، وأقامه هو في اليوم الثالث - حينئذ ثبت إيمانهم بسيدهم الذي كانت أمّتهم قد رفضته، وعلموا أن جرأته في مقاومة رؤساء الأمة أتت إتماماً للقول النبوي: «لأَنَّ غَيْرَةَ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي، وَتَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ» (مزمور 69: 9).

وقد دام تأثير جواب المسيح في الرؤساء طويلاً، حتى جعلوه بعد سنين حُجَّة شكواهم عليه، لكي يميتوه، ولما تمَّ انتقامهم ورأوه معلَّقاً على الصليب عيَّروه به، ولما طلبوا من الوالي حرساً يُوضع على قبره ليمنع قيامته، بنوا طلبهم على هذا الكلام الذي أوقد في صدورهم نار البغضة المميتة التي التهمته أخيراً بتعليقه على الصليب. وبذلك صحَّ أن غيرته على بيت أبيه أكلته. وكان المسيح يعلم أن تأثير هذا التطهير سيزول قريباً، وترجع الأمور إلى مجراها القديم، ونراه مضطراً إلى تكرار هذا التطهير في مثل هذا العيد بعد ثلاث سنين. لكن لم يوقفه ذلك العِلْم عن العمل المطلوب، لأن اختفاء تأثير العمل الحسن لا يعطل حُسنه ولا يضيّع أجره.

ولما كان هذا الحادث هو الأول الذي أظهر فيه المسيح غضباً، يحقُّ لنا أن نسأل عن اتفاق هذا الغضب مع القول بكمال المسيح. والجواب أن الغضب قد يكون فضيلة كما قد يكون اللطف رذيلة، إذ يُشترط في الغضب الفاضل أن يخلو من كل غاية أنانية، ومن كل حركة مستقبَحة. ويُشترَط في اللطف الفاضل أن يخلو من الجُبْن والمحاباة. لقد رأينا المسيح يحتدم غضباً على تدنيس الأقداس، التي تمثّل أمور الإِله القدوس للحواس البشرية، فاسم اللّه وبيته ويومه وكلامه ورجاله هي أقداس، وتُحترم إكراماً للقدوس الذي تمثّله. وكل من يستخفُّ بشيء منها يحلُّ عليه غضب الحمل، كما حلَّ على الذين استباحوا لأنفسهم تدنيس الهيكل. وقد أوضح الرسول بولس فكرة الغضب المقدس في قوله: «اِغْضَبُوا وَلا تُخْطِئُوا. لا تَغْرُبِ ٱلشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ، وَلا تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً» (أفسس 4: 26 و27).

واحتدّ غيظ المسيح أيضاً على حب المال، الذي هو حسب قول الإِنجيل أصلٌ لكل الشرور (1 تيموثاوس 6: 10) وفي قول المسيح: «لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة» أوضح أن الربح التجاري كان قد حلَّ في قلوبهم محل الحب الإلهي، كأنه يقول لهم: «لا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا ٱللّٰهَ وَٱلْمَالَ» (متى 6: 24). إن فعلكم يبرهن أنكم تخدمون المال لا اللّه. وشر أثمار حب المال هو تدنيس الأقداس، وتسخير الدين لأجل الأرباح التجارية. فالتجارة التي قضى عليها المسيح هي في حدّ ذاتها جائزة، لا بل وأيضاً واجبة. والمال في حد ذاته صالح، لكن تفضيل المال على الواجب الديني يحوّل حب المال إلى عبادة الأوثان.

انتصر المسيح في هذه المعركة على رؤساء اليهود، وعلى إبليس الطاغي الخفي الذي تُعزَى إليه كل الشرور. ومع أنه رفض أن يصنع المعجزة التي طلبوها، لكنه باشر في أورشليم معجزاته الخيرية، فآمن كثيرون باسمه. كنا نفرح لهذا الإِيمان لولا قول البشير: «لٰكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعَ» (يوحنا 2: 24). ومن هذا ظهر أن إيمانهم كان عقلياً فقط لا روحياً قلبياً. فهُمْ كالأرض الخفيفة غير العميقة التي لا يدوم فيها الزرع كثيراً، فإذا اشتدَّت عليه حرارة شمس الاضطهاد، وطال الزمان، يجف وييبس. فبعض هؤلاء الذين آمنوا سيرتدّون متى اضطهدهم قومهم لأجل إيمانهم، أو متى تيقّنوا أن ليس لتابعي المسيح منافع زمنية، وليس من غرضه إنشاء ملكوت يهودي سياسي. ويقدم الإِنجيل شهادة للمسيح لم تُعْطَ إلا له، ولا تصحّ في غيره من البشر، لما قال: «لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي ٱلإِنْسَان» (يوحنا 2: 25) وهذا القول لم يرِدْ مثلُه في نبي أو رسول

ومن هذا نفهم جيداً أن اقتران الطبيعة الإِلهية بالطبيعة الإِنسانية في المسيح زاد إدراكه كثيراً. وهو تفسيرٌ كافٍ لمعرفته قلوب الجميع وخفياتهم. وسنرى خيراً عظيماً حصل من معرفته أسرار القلوب.

5 - نيقوديموس يزور المسيح

«كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ ٱلْفَرِّيسِيِّينَ ٱسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ، رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ. هٰذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ ٱللّٰهِ مُعَلِّماً، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هٰذِهِ ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ ٱللّٰهُ مَعَهُ». فَقَالَ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لا يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لا يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ». قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ: «كَيْفَ يُمْكِنُ ٱلإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لا يُولَدُ مِنَ ٱلْمَاءِ وَٱلرُّوحِ لا يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ. اَلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَٱلْمَوْلُودُ مِنَ ٱلرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. لا تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ. اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لٰكِنَّكَ لا تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلا إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هٰكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ ٱلرُّوحِ». فَسَأَلَهُ نِيقُودِيمُوسُ: «كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هٰذَا؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ وَلَسْتَ تَعْلَمُ هٰذَا! اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا، وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا. إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ ٱلأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّاتِ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلا ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ.

«وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لا يُدَانُ، وَٱلَّذِي لا يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ. وَهٰذِهِ هِيَ ٱلدَّيْنُونَةُ: إِنَّ ٱلنُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَأَحَبَّ ٱلنَّاسُ ٱلظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ ٱلسَّيِّآتِ يُبْغِضُ ٱلنُّورَ، وَلا يَأْتِي إِلَى ٱلنُّورِ لِئَلا تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ. وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ ٱلْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى ٱلنُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِٱللّٰهِ مَعْمُولَةٌ» (يوحنا 3: 1-21).

في ليلة هادئة جاء يهودي عظيم في قومه، اسمه نيقوديموس ليزور المسيح. كان لقبه «معلمٌ في إسرائيل» و «رئيس اليهود» و «مشير» أي عضو في السنهدريم، مجلس اليهود الملّي الكبير المكوَّن من سبعين عالِماً.

ونيقوديموس شخص مهم في سيرة حياة المسيح، لأنه أول قادة اليهود الذين أثَّر فيهم تعليم المسيح الديني، وكعالِمٍ سبَّب بزيارته خطابَ المسيح الديني الأول. ولا بد أن يكون موضوع هذا الخطاب مبدأ أولياً في الدين.

نتصوَّر المسيح وتلاميذه الذين أتوا معه من كفرناحوم، في جلسة مسائية مع أهل البيت الذي كانوا فيه ضيوفاً، ثم الحركة القوية بينهم عندما دخل هذا الرئيس بغتة بهيئته العظيمة وبملابسه الفاخرة، لأنه كفريسي يكون من الذين يعرّضون عصائبهم ويعظّمون أهداب ثيابهم، وكان يُقابَل أينما مرَّ في شوارع المدينة ودور الهيكل حتى وفي الدوائر الحكومية بالإِكرام الممتاز، لأنه يجمع في شخصه الغِنى والعِلم والرتبة والقيادة والصلاح والشيخوخة. فكيف لا يُحتفَى به وقد شرَّف هذا المحل البسيط في ساعة لا يُنتظر من مثله زيارة؟ ولكن مجيئه لا يخلو من الإِرهاب لأنه فريسي وعضو في المجلس الأعلى، وقد فاجأ المسيحَ وجماعَته على أثر تطهيره الهيكل وإغاظته الرؤساء بذلك.

نتصور وقوف الجميع احتراماً عند دخول الرئيس. وانتظر المسيح ورفقاؤه أن يفتتح الزائر الكريم الحديث، ويعلن القصد من زيارته. فلما تكلم نيقوديموس أظهر أولاً احترامه الشخصي للمسيح، واستهلَّ كلامه بقوله: «يا معلم» (ربي) الذي هو أعلى لقب ديني عند اليهود، ولا يُعطى إلا لخريجي مدارسهم العالية اللاهوتية. ولم يكن منتظَراً أن يطلِق نيقوديموس هذا اللقب الشريف على شاب لم يتخرج من تلك المدارس، لا بل لم يدخلها. وتلا ذلك اعتراف نيقوديموس: «نعلم أنك قد أتيتَ من اللّه معلّماً». وفي هذا الاعتراف رفع المسيح كثيراً فوق الربيين بين قومه، الذين لم يأتوا من اللّه، بل أخذوا تلك الرتبة من الرؤساء ومدارسهم. ثم دعم يقينه بالبرهان، لأنه كعالِمٍ لا يسلّم إلا لحُجَّة قوية، إذْ قال: «لأنْ ليس أحدٌ يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إنْ لم يكن اللّه معه». كان نيقوديموس مثل سمعان الشيخ «باراً تقياً، ينتظر تعزية إسرائيل». (أي مجيء المسيح). ولذلك جاء ليتحقّق هل هذا المعلم الجديد هو المسيح أم لا؟ ومن جواب المسيح نرى أن نيقوديموس كان معتدّاً بنفسه، ومتكلاً على صلاحه لأجل الخلاص، لأنه ابن إبراهيم ومن أفراد الشعب المختار، وقد تمَّم فرائض النظام الموسوي بكل تدقيق، فصار غنياً، ليس في المال فقط، بل في الأعمال الصالحة أيضاً. وكضليعٍ في الشرائع الإِلهية والمباحث الدينية ينتظر أن يسبق الجميع إلى ملكوت السماوات، وإذْ تكون رفعة مقامه، وكرامته بين شعبه، مقدمةً لمقامٍ سامٍ في مجلس القديسين في السماء. فما أكثر الذين يشبهون نيقوديموس في اتكالهم على المعرفة الدينية والفرائض المذهبية والحسنات الخارجية لأجل الخلاص.

نرجّح أن نيقوديموس ظنَّ أنه أكرم المسيح كثيراً بكلامه، وانتظر منه شكراً واعترافاً بذلك. ولا شك أن تلاميذ المسيح افتخروا واستبشروا بهذه الشهادة. لكن المسيح-كطبيب روحي أمين فكَّر في المرض الروحي المستشري في قلب زائره، فقصد أن يجرحه لكي يستخرج الأوهام، ويضع في الجرح الدواء المناسب. والخطوة الأولى في تخليص النفوس دائماً هي هدم الأركان الباطلة التي يُبنَى عليها رجاء الخلاص. وقد مزَّق المسيح دفعة واحدة بسيف فمه كل الغلافات التي غلَّف بها نيقوديموس رجاءه الوهمي بالخلاص. ولم يكترث بإكرامه إياه، بل أجابه: «الحق الحق أقول لك: إن كان أحدٌ لا يولد من فوق، لا يقدر أن يرى ملكوت اللّه». كأنه يقول له: «لأنك لم تولد من فوق، فأنت لا تقدر أن ترى ملكوت اللّه». لم يكن نيقوديموس يجهل موضوع الولادة الثانية لأنه موجود في التوراة. لكن اليهود فسَّروه بأنه يختص بالوثنيين الذين لا يخلصون إنْ لم يتهوَّدوا ويختَتنوا ويحفظوا سائر الفرائض اليهودية. وبما أن كل يهودي حاصل على ذلك، فلا يحتاج إلى الولادة الثانية. لذلك حار نيقوديموس في أمره، وأجاب بكلام ظهر منه ليس فقط الشك الشديد بصدق كلام المسيح، بل أنه أخذ الكلام أيضاً في الولادة بالمعنى الجسدي.

تنبأ إشعياء عن المسيح أنه: «قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لا يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لا يُطْفِئُ» (إشعياء 42: 3) تحققت هذه النبوة في عناية المسيح بأن ينمّي في نيقوديموس إيمانه الجديد، فلم يوبخه على غلاظة قلبه وتفسيره الحرفي للتعليم الروحي. بل أيَّد كلامه الأول بالتكرار، وأدخل مع الإِعادة شيئاً من التفسير، مبيناً أن الولادة من فوق هي ولادة من الماء والروح. وهو يشير بالماء إلى التوبة التي كان ماء المعمودية رمزاً إليها وختماً لها، ويعني بالروح: الروح القدس الذي هو الفاعل في «الميلاد الثاني».. فعل الروح القدس في التطهير الداخلي، وعلامته في التطهير الخارجي بماء المعمودية، وهذا ثمر ما يُسمَّى بالموت للخطية، والحياة الجديدة للبر. ولا يرث ملكوت السموات إلا أولاد اللّه. ولا سبيل للبنوَّة للّه إلا بالولادة منه. والولادة منه لا تكون إلا روحية. لأن «المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح».

كان المسيح يعلم أن الفلسفة العقلية لا تقبل هذا القول، لأنها لا تدركه. فلم يلوِّم نيقوديموس لعدم إدراكه حقيقة الولادة الثانية التي هي سرٌّ روحي، لكنه طلب منه أن يقبل ويسلِّم بأمور روحية لا يدركها. أتاه شاهداً على ذلك بالريح التي تهبُّ حيث تشاء وتسمع صوتها، ولكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. وختم بقوله: «هكذا كل من وُلد من الروح».

وإذ لم تنقشع بهذا الكلام غيومُ الشكوك عن أفكار نيقوديموس سأل: «كيف يمكن أن يكون هذا؟» إنه كرجل عِلم يطلب زيادة الإِيضاح. فحوَّل المسيح شكوكه إلى بركة فائقة للعالم على الدوام، إذْ أشعره أولاً بقصوره بتوبيخ لطيف، عندما قال له: «أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا؟» ثم ألقى عليه وعلى السامعين ذلك الخطاب الذي لا يُثمَّن، الذي من ضمنه الآية الذهبية التي اتفق العالم أنها أهم آيات الإِنجيل وأجملها، وهي «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16).

في أول الخطاب يثبت المسيح حقه أنه يتكلم بسلطان في الأمور السماوية، لأنه يتكلم بما يعلم ويشهد بما رأى. «وليس أحد صعد إلى السماء، إلا الذي نزل من السماء، ابن الإِنسان الذي هو في السماء». إذاً كلامه في وجوب الولادة من فوق يجب تصديقه مهما كان غامضاً لأنه جوهري، وأساسه أن قلب الإِنسان الخاطئ الطبيعي ميت في الذنوب والخطايا. وهذا موت روحي حقيقي. أما أهل السماء فأحياء روحياً، ولا محل للأموات بين الأحياء، ولا تناسُبَ بين الطبيعة الساقطة والسماء الطاهرة، ولو فُرض دخول صاحب الطبيعة الساقطة إلى السماء فلن يرضى بذلك أهلُ السماء الذين يكرهون الطبيعة الفاسدة كرهاً أشد من كره الأحياء للجثث البالية.

الدين حسب تعليم المسيح هو داخلي لا خارجي. هو عطية الحياة من اللّه أولاً، ثم بعد ذلك تظهر الأثمار الناتجة عن هذه العطية. والانتقال من حال الطبيعة الجسدية إلى حال النعمة هو وحده الذي يفتح الباب للانتقال من حال النعمة إلى المجد الأبدي. لذلك يجب أن تتغيَّر عقولنا بالاستنارة. وعواطفنا بالتقديس، وإرادتنا بالتجديد، وسيرتنا بالصلاح، وإلا فلا نرى المنازل السماوية.

هذا التغيير هو الذي يجعل المتجدّد يقول مع بولس: «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي يُقَوِّينِي» (فيلبي 4: 13) إذْ بالتجديد يقدر أن يفعل ما كان قبلاً يعجز عن فعله. من هذه المستحيلات محبة العدو، وتكريس الذات لخدمة الآخرين، وبذل الحياة لأجل الغرباء، والتلذُّذ الداخلي بالصلاة الإِنفرادية والمواضيع الروحية.

ثم أعلن المسيح أن النور الذي أتى به للناس ليس مقبولاً عندهم إجمالاً. وسبب هذه الغرابة هو أن أعمالهم أعمال ظلام، لا تقدر أن تظهر في النور، بينما فاعلو الصلاح يحبون النور، لا يخشون نتيجة كشف النقاب عن أعمالهم، لتظهر أعمالهم أنها باللّه معمولة.

في هذه المحاورة الدينية الأولى المسجّلة مع نيقوديموس، نجد تصريحاً كافياً لأعظم أركان الدين المسيحي. فيه نرى المسيح ابن الإِنسان وفي الوقت ذاته ابن اللّه الوحيد. ونرى ذِكراً للأقانيم الثلاثة في الإله الواحد تأييداً لحقيقة التثليث في اللّه مع التوحيد. كما نرى إعلان عمل المسيح النبوي والكهنوتي والملكي.

يحتاج البشر إلى أنبياء لأجل الإنباء والتفسير، وإلى كهنة لأجل الإِنابة والتكفير، ثم إلى ملوك لأجل الحكم والتدبير. وهذه الوظائف الثلاث تفي بالحاجات البشرية والدينية كافة، وقد جمعها المسيح في شخصه الواحد. ولم يشغلها شخص واحد في التاريخ الإِسرائيلي، لأن الأنبياء والكهنة والملوك كانوا جميعاً يرمزون إليه، وكانوا يخصِّصونهم بعلامة المسحة المقدسة، ويسمُّونهم أحياناً «مُسحاء». فجاء المسيح، اللّه، متمّماً إلى آخر الزمان ما كان يُطلَب من هؤلاء قبل مجيئه.

فهو النبي الذي يخبر بالسماويات، ويكشف عن الصفات والمشيئة الإِلهية وتفسيرها وعن خفيات القلب البشري. ولا يزال هو المعلم الذي بروحه يعلّم البشر كل الأمور الضرورية لخيرهم.

وهو الذي ينوب عن البشر ككاهن، إذ قدم نفسه ذبيحة إثم بدلاً عنهم وكفر عن خطاياهم كحمل اللّه، لكي لا يهلك كل من يؤمن به. فعل ذلك برفعه على الصليب كما رفع موسى الحية في البرية. ويصرّح بالغفران الكامل الحالي المجاني لكل نفس بمفردها إذ تتوب. ويقدم كشفيع عند الآب السماوي طلبات المؤمنين مشفوعة بواسطته.

وهو يتسلط حبياً كملك على قلوب المؤمنين، ويدبر أمورهم ويقهر أعداءهم ويوّرثهم معه ملكوتاً روحياً أبدياً. فلو لم يكن هو الملك لأنه ابن اللّه، لَمَا طلب أن يؤمن الناس به للخلاص، بل طلب كالأنبياء أن يؤمن الناس باللّه. وفي مقامه هذا النبوي الكهنوتي الملوكي يُجرِي الآن في العالم معجزاته المادية (كالتي فعلها وهو ظاهر بين الناس) ومعجزات جديدة روحية أعظم جداً من تلك.

6 - المسيح يلتقي بالسامرية

«تَرَكَ ٱلْيَهُودِيَّةَ وَمَضَى أَيْضاً إِلَى ٱلْجَلِيلِ. وَكَانَ لا بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ ٱلسَّامِرَةَ. 5فَأَتَى إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ ٱلسَّامِرَةِ يُقَالُ لَهَا سُوخَارُ، بِقُرْبِ ٱلضَّيْعَةِ ٱلَّتِي وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ٱبْنِهِ. وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ ٱلسَّفَرِ، جَلَسَ هٰكَذَا عَلَى ٱلْبِئْرِ، وَكَانَ نَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّادِسَةِ. فَجَاءَتِ ٱمْرَأَةٌ مِنَ ٱلسَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً، فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ» - لأَنَّ تَلامِيذَهُ كَانُوا قَدْ مَضَوْا إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لِيَبْتَاعُوا طَعَاماً. فَقَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ ٱلسَّامِرِيَّةُ: «كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا ٱمْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟» لأَنَّ ٱلْيَهُودَ لا يُعَامِلُونَ ٱلسَّامِرِيِّينَ. أَجَابَ يَسُوعُ: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ ٱللّٰهِ، وَمَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّاً». قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ، لا دَلْوَ لَكَ وَٱلْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ ٱلْمَاءُ ٱلْحَيُّ؟ أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، ٱلَّذِي أَعْطَانَا ٱلْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هٰذَا ٱلْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلٰكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ، بَلِ ٱلْمَاءُ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ». قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هٰذَا ٱلْمَاءَ، لِكَيْ لا أَعْطَشَ وَلا آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «ٱذْهَبِي وَٱدْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى هٰهُنَا» أَجَابَتِ ٱلْمَرْأَةُ: «لَيْسَ لِي زَوْجٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «حَسَناً قُلْتِ لَيْسَ لِي زَوْجٌ، لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَٱلَّذِي لَكِ ٱلآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هٰذَا قُلْتِ بِٱلصِّدْقِ». قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ! آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا ٱمْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لا فِي هٰذَا ٱلْجَبَلِ، وَلا فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ - لأَنَّ ٱلْخَلاصَ هُوَ مِنَ ٱلْيَهُودِ. وَلٰكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ ٱلآنَ، حِينَ ٱلسَّاجِدُونَ ٱلْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِٱلرُّوحِ وَٱلْحَقِّ، لأَنَّ ٱلآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هٰؤُلاءِ ٱلسَّاجِدِينَ لَهُ. اَللّٰهُ رُوحٌ. وَٱلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَٱلْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا». قَالَتْ لَهُ ٱلْمَرْأَةُ: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا ٱلَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ» (يوحنا 4: 3-26).

أراد المسيح أن يهدم في تلاميذه التعصُّب العنصري العِرقي، وأن يلاشي منهم التزمُّت المذهبي، وأن يقنعهم أن ملكوت الله ليس محصوراً في نسل إبراهيم ولا قاصراً عليهم.

كان المسيح مسافراً من اليهودية إلى الجليل، وكانت الطريق الأسهل والأقرب الموصلة بين اليهودية في الجنوب وعاصمتها أورشليم، وبين الجليل وطن المسيح في الشمال، هي الطريق الغربيّة التي تمرُّ في السامرة الفاصلة بين اليهودية والجليل، فاختارها المسيح لأنه «كان لا بدَّ له أن يجتاز السامرة».

وكان البُغض المتبادل بين اليهود والسامريين قد ازداد بسبب العلاقات الطبيعية التي تربطهما، لأن عداوة الأنسباء أمرُّ العداوات. فكان اليهود يتنجسون من السامريين، باعتبار أنهم وثنيون، فلا يجالسونهم، ولا يكالمونهم، ولا يمرُّون في بلادهم إلا مضطرين. وكانت المنازعات التخريبية بين الشعبين كثيرة الوقوع حتى صار اسم «سامري» عند اليهود شتيمة يُعيَّرون بها. وإذ أراد المسيح أن ينزع هذا الروح من قلوب تلاميذه، ويلقي في طريقه بذاراً روحياً بين الغرباء عن شعب إسرائيل، قرر أن يجتاز في السامرة، وسافر على الطريق الرئيسية التي تمرُّ في مدينة شكيم (نابلس) في الوادي، بين جبلي عيبال وجرزيم.

وكان على الطريق العام في هذا الوادي وجنوبي هذه المدينة بئر يعقوب التي اشتهرت بسبب ما حدث هناك عند مرور المسيح عليها، فإنه وصل في رحلته إليها نحو الظهر، وكان شهر ديسمبر (كانون الأول) على ما يُرجَّح. وإذ كان متعباً جلس على خرزة البئر، بينما أرسل تلاميذه إلى سوخار ليبتاعوا طعاماً له ولهم. ونستنتج من هذا أن المسيح مع فقره وفقر رفقائه لم يعتمد على الضيافات ولا على الاستعطاء لأجل المعيشة، بل اعتمد على الشراء بالمال الذي كان يقدمه له مريدوه حباً وإكراماً. وكان يسلّم المالية لأحد تلاميذه.

وفي هذه الساعة نراه يختبر الإعياء والجوع والعطش، ليماثلنا في هذه الضيقات، فيقدر أن يرثي للمصابين بها. ورُبَّ سائل يقول: لماذا لم يخلق طعاماً له ولهم بمعجزة؟ فنجيب أنه حيث تكون الوسائط الطبيعية كافية فلا لزوم لمعجزة. كما أن المسيح لم يفعل قط معجزة لأجل إعالة ذاته أو منفعته الشخصية، فلما جاع في برية التجربة، ولم يكن من وسائط طبيعية لسدّ جوعه، لم يصنع معجزة، لكن الملائكة جاءت وخدمته.

وبينما كان ينتظر عودة تلاميذه، جاءت امرأة سامرية من المدينة المجاورة لتملأ جرتها من هذه البئر، إمَّا لأنها اعتبرت ماءها مقدساً ففضلته على الماء الأقرب، أو لأنها مكروهة عند أهل بلدها بسبب صفاتها السيئة، ففضلت الابتعاد عن الناس. ولا ريب أنها اشمأزت لما رأت عند البئر يهودياً، لا سيما وأن هيئته ولباسه يدلاّن على أنه معلّم دين. وأمثاله هم المتطرفون في كره السامريين واحتقارهم.

كانت هناك فواصل مهمة بين المسيح وبين هذه المرأة تستدعي النظر.

  1. هي امرأة سامرية، وهو معلم ديني يهودي. شعبها مزيج من اليهود والوثنيين، وأشدُّ نزاعٍ في العالم بين الشعوب هو النزاع الديني، وأقربها بعضاً لبعض نسباً هي أبعدها أدباً عند وقوع النزاع.

    كان اليهود قد رفضوا اشتراك السامريين معهم عند ترميم الهيكل بعد رجوعهم من سبي بابل، وعاملوهم بالخشونة. فانتقاماً منهم دنّس السامريون الهيكل بعظام الموتى، فاتّسع الخلاف بين الشعبين كثيراً، ورفض اليهود دخول السامريين هيكل أورشليم. فاختار السامريون موقعاً لعبادتهم على قمة جبل جرزيم، قالوا إنه أقدس من هيكل أورشليم لأنه أقدم في التاريخ المقدس، واستندوا في قولهم على آيات من التوراة، وزادوا على ذاك أن إبراهيم أتى بإسحق إلى هذا الجبل ليقدمه ذبيحة للرب.

  2. الفاصل الثاني أنها امرأة، وهي تعلم كم يحتقر رجال اليهود، لا سيما معلّمو الدين بينهم، جنس النساء. إذ كانوا يأنفون أن يكلّموا امرأة أمام أعين الناس، ولو كانت زوجة أو أختاً. وكان من جملة صلاتهم شكر العزة الإلهية لأنهم وُلدوا ذكوراً لا أناثاً، فكم يكون احتقارهم لنساء السامريين خصومهم.

  3. الفاصل الثالث أنها امرأة ساقطة، فأي شيء يقدر أن يوفق بين المعلم اليهودي الجليل المهوب الصالح، وهذه التعيسة التي قضت حياتها في الآثام، ولا تزال مقيَّدة بها.

بسبب هذه الفواصل الثلاثة يصحُّ القول إن السامرية اشمأزت لما رأت المسيح جالساً على البئر التي قصدتها من محلها البعيد. ولم تتصور مطلقاً أن يكلّمها، كما وأنها لا تريد أن تكلمه. لكن المسيح ينظر إلى نفس السامري بذات المحبة التي ينظر بها إلى نفس اليهودي، لأنه هو خالق ومخلّص وديّان الجميع. والسامري المتجدد لا تنقص فائدته في العالم عن فائدة اليهودي المتجدد، فلا فرق عند المسيح بين محب ومبغض، لأنه يرغب أن يُخلِّص نفوس الجميع، ولذلك فهو لا يشارك اليهود في احتقار النساء، لأن احترام النساء من الفضائل المهمة ولأنه يولّد الفضيلة، فالرذيلة هي بنت احتقار النساء، إذ يؤدي هذا الاحتقار إلى الفساد. إذاً فالمطلوب هو الدين في القلوب، والشريعة في العقول، والتهذيب في العادات.

يطلب المسيح المخلّص جميع البشر، النساء كما الرجال. ولهذا لا يمكنه أن يصرف نظره عن هذه السامرية لأنها امرأة. إنه ليس كالمعمدان الناسك، مقيَّداً بكثير من تقاليد شعبه، فيأنف مقابلة النساء، فقد سمح لهن أن يتبعنه ويكرمنه ويقدمن له من أموالهن. وقد أظهر المسيح في لقائه مع السامرية اهتمامه بالهدى الديني بين النساء. وكما أسرع إبليس في إسقاط حواء في بداءة التاريخ البشري، أسرع المسيح في بدء خدمته في إنهاض بناتها.

ومن امتيازات التعليم المسيحي تأثيره في ترقية النساء مادياً وأدبياً وروحياً، فإنه بواسطة ولادة المسيح من مريم امَّحى العار الذي لصق بجنس النساء بسبب سقوط حواء أولاً قبل آدم في جنة عدن. وفي كل سني خدمة المسيح وعند صليبه كما عند قيامته أكرم المسيح النساء، وقد ثبت أنهن سبقن الرجال في الغيرة الدينية والأمانة نحو المخلِّص.

قلنا إن هذه السامرية امرأة ساقطة، فكيف رضي المسيح أن يجالسها أو يباحثها أو يعيرها أقل التفات؟ تساءل الرسول بولس: «أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَٱلإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ ٱلظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ ٱتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ أية خلطة للبر والإثم؟» (2 كورنثوس 6: 14 و15). لكننا نعلم مبدأ المسيح من كلامه في قوله: «أنه جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لوقا 19: 10). وقال أيضاً في بيت متى العشار: «لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ» (لوقا 5: 32) فحُجّة الذي يحضر أمام الطبيب مرضه لا صحته. واهتمام الطبيب ينصرف إلى المرضى لا إلى الأصحاء، ثم إلى أصحاب العلل المميتة قبل البسيطة.

أظهر المسيح اهتمامه بخلاص الشبان والفقراء والبسطاء في زمرة الذين دعاهم للتلمذة فتبعوه، ثم اهتم بعد ذلك بخلاص شيخ غني صالح هو نيقوديموس. وهؤلاء جميعاً من شعب إسرائيل. فبقي عليه أن يظهر اهتمامه بخلاص شخص يمثل النساء وأسافل القوم، والذين ليسوا من شعب إسرائيل. فبواسطة هذه السامرية أعلن قيمة النفس الخالدة حتى بعد توغُّلها بالآثام، وأنه قادر أن يخلص إلى التمام حتى أشرّ الخطاة.

لم يبال المسيح بهذه الفواصل، بل فتح الحديث مع السامرية بطلبه منها أن تسقيه. والذي ساقه إلى هذا الطلب ليس عطشه إلى الماء، بل عطشه إلى تخليص هذه النفس الهالكة. وهذا الطلب من معلم يهودي فيه التنازل والإكرام لها، كأنه يفتقر إلى ما تستطيع هي أن تعطيه، فأعطى بذلك نموذجاً في كيفية صيد النفوس. أما هي فأجابت بشيء من الخشونة، كما يُنتظر من امرأة مثلها وقالت: «كيف تطلب مني لتشرب، وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية؟». عند ذلك غيَّر لهجته ليُشعرها بمقامه الحقيقي، وأنه ليس مفتقراً إليها، بل هي مفتقرة إليه، لأنه يعطيها «عطية الله» إن طلبت منه. هذه العطية أشبه بالماء الحي (أي ماء النبع الجاري). ولما أظهرت مع التعجب عدم إدراك معناه، زاد على قوله إن هذا الماء يختلف عن الماء الذي تطلبه من بئر يعقوب، لأن الماء الحي يروي إرواءً أبدياً، وينبع إلى حياة أبدية. فكانت نتيجة هذا التشويق أنها طلبت من الذي قال لها أولاً «اسقيني» أن يسقيها هو من هذا الماء العجيب.

من الشروط الأولى لخلاص النفس إيقاظ الضمير، ليشعر الخاطئ باحتياجه إلى مخلِّص، ويقدم توبة صادقة. لذلك نرى هذا الطبيب يجرحها تمهيداً للشفاء، وقد ظهرت مهارة الطبيب من كيفية الجرح الذي أجراه، لينقّي الجسد الذي أفسده الداء، فطلب المسيح منها أن تدعو زوجها، ولما اعترفت أن ليس لها زوج، كشف لها المسيح أنه يعرف سيرتها المعيبة الماضية، وحالتها الأليمة الحاضرة، فلم يكن لطفه ناتجاً عن جهله بحالتها الفاسدة. وهذا مَثَلٌ قدَّمه المسيح في كيفية صيد النفوس، وإن كانت النفوس لا تُصاد غالباً بالهجوم المُرّ على عيوبها. لكن إبليس عدوّ الأنفس سهران دائماً، فلما رآها ابتدأت تستسلم لهذا المخلص لجأ إلى إحدى حيله الشهيرة، وقصد أن يلهيها بالجدال المذهبي القائم بين اليهود والسامريين في أمر مكان العبادة. فقادها إلى الحُجَّة التي خدعت وتخدع الملايين، وهي تسلسل اليقين الديني من السلف إلى الخلف. وبموجب هذه الحجة يكتفي الإنسان بما كان عليه أسلافه من أمر الدين. لكن الإيمان تولَّد في قلب السامرية بعد إيقاظ ضميرها. فرأت في هذا الغريب اليهودي نبياً، قالت له: «أرى أنك نبي» وبهذا فتحت باباً جديداً للمسيح ليكشف لها حقائق الدين.

من على هذا المنبر - أي حافة بئر في البرية - وأمام شخص واحد فقط، هو امرأة ذات تاريخ قبيح، وهي نصف وثنية، ألقى المسيح عظة من أشهر عظاته، يعادل سموُّها اختصارها، إذ أعلن فيها أن القداسة ليست في المعابد وما فيها من الآنية المكرسة، بل في القلوب. وأن بمجيئه قد زال الزمان الذي فيه تنحصر عبادة الله في أماكن خاصة يتوجَّب على الناس أن يحجُّوا إليها من بعيد، ليقدموا فيها ذبائحهم وتقدماتهم، فإن الآلهة الوثنية الكاذبة مقيَّدة في أماكن محددة لكن الإله الوحيد الحقيقي روح، يقبل الذين يسجدون له بالروح والحق، في أي مكان كان، ولا يقبل غير هؤلاء ولو سجدوا في أقدس الأماكن، فقد جاء الزمان الذي تنبأ عنه ملاخي لما قال: «فِي كُلِّ مَكَانٍ يُقَرَّبُ لٱِسْمِي بَخُورٌ وَتَقْدِمَةٌ طَاهِرَةٌ، لأَنَّ ٱسْمِي عَظِيمٌ بَيْنَ ٱلأُمَمِ» (ملاخي 1: 11).

ومع أن هذا لا ينفي تخصيص أماكن العبادة، وتوقيرها اللائق، لأن هذا واجب ديني، لكنه ينفي التطرف في نسبة القداسة إلى هذه الأماكن، وينفي العقائد الخرافية التي تجعل الناس يستمدُّون البركة من مصادر مادية نظير آثار القديسين، والمواد في أسرار الكنيسة، وملامسة الأشخاص والأبنية الممتازة في الدين.

فلما جرد المسيح هذه القداسة الخصوصية الممتازة عن أورشليم، نفاها طبعاً عن كل مكان سواها، لأن دين الإله الذي هو روح لا يكون إلا روحياً، فلا يتألف بالدرجة الأولى من فرائض خارجية بل من عواطف داخلية.

أوضح المسيح للسامرية بهذا التصريح أن باب القبول عند الله مفتوح لكل من يسجد له بالروح والحق، وهذا القبول يتناول المرفوضين من هيكل أورشليم، لأنهم ليسوا يهوداً. والذين كانت سيرتهم الماضية معيبة. فالتغيير الذي حصل في قلبها جعلها تشتهي مجيء المسيح ليخبر بكل ما يقتضي أن يعرفه الناس من أمر الدين. فلما فتحت قلبها لنور الحق. زادها الله نوراً في الحال، وشرّفها بإعلان لم يمنحه للرؤساء، ولا لنيقوديموس الموالي له، ولا لرفقائه التلاميذ. وبناءً على طلبها قال لها: «أنا الذي أكلمك هو». ولم يقل يسوع قبل الآن لأحدٍ إنه المسيح. أما لهذه السامرية فيحقق أنه المسيح، لأنها اعترفت أنه نبي، والنبي الحقيقي لا يكون إلا صادقاً.

«وَعِنْدَ ذٰلِكَ جَاءَ تَلامِيذُهُ، وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ ٱمْرَأَةٍ. وَلٰكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: مَاذَا تَطْلُبُ أَوْ لِمَاذَا تَتَكَلَّمُ مَعَهَا. فَتَرَكَتِ ٱلْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا وَمَضَتْ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ وَقَالَتْ لِلنَّاسِ: «هَلُمُّوا ٱنْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هٰذَا هُوَ ٱلْمَسِيحُ؟». فَخَرَجُوا مِنَ ٱلْمَدِينَةِ وَأَتَوْا إِلَيْهِ.

وَفِي أَثْنَاءِ ذٰلِكَ سَأَلَهُ تَلامِيذُهُ: «يَا مُعَلِّمُ، كُلْ» فَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُمْ». فَقَالَ ٱلتَّلامِيذُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «أَلَعَلَّ أَحَداً أَتَاهُ بِشَيْءٍ لِيَأْكُلَ؟» قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ. أَمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي ٱلْحَصَادُ؟ هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ٱرْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَٱنْظُرُوا ٱلْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ٱبْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ. وَٱلْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ، لِكَيْ يَفْرَحَ ٱلزَّارِعُ وَٱلْحَاصِدُ مَعاً. لأَنَّهُ فِي هٰذَا يَصْدُقُ ٱلْقَوْلُ: إِنَّ وَاحِداً يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُدُ. أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ. آخَرُونَ تَعِبُوا وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ».

فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ ٱلسَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كَلامِ ٱلْمَرْأَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ: «قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ». فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ ٱلسَّامِرِيُّونَ سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ، فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ. فَآمَنَ بِهِ أَكْثَرُ جِدّاً بِسَبَبِ كَلامِهِ. وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: «إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كَلامِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا هُوَ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱلْمَسِيحُ مُخَلِّصُ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 4: 27-42).

لم يكن أحد من تلاميذ المسيح حاضراً أثناء المحاورة بينه وبين السامرية، فلا بد أن يكون البشير يوحنا قد سمع بالخبر إما من المسيح أو من المرأة. ولكنه يخبر عن تعجبه وتعجب رفقائه لما عادوا من سوخار بالطعام الذي مضوا ليبتاعوه. تعجبوا لأنهم رأوا معلمهم يحادث امرأة غريبة سامرية حديثاً جدياً. ورأوا انفعالها الشديد لما تركت جرتها وأسرعت إلى المدينة كأنه لغرض مهم جداً. فلا نستغرب تعجُّب التلاميذ بل نمدحهم لأنهم حافظوا على اللياقة والاحترام، ولم يقل أحدهم: «ماذا تطلب أو لماذا تتكلم معها؟». ولما بسطوا الطعام الذي أتوا به، ولم يُقْدِم المسيح عليه كما انتظروا، قالوا له: «يا معلم كُلْ». وكما تعجبوا من حديثه مع المرأة، تعجبوا أيضاً لأنه لم يأكل، وزاد عجبهم عند جوابه: «لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم».

كلم المسيح نيقوديموس عن الحياة الجديدة بالولادة من فوق فلم يفهم. وكلم السامرية عن الماء الحي المحيي فلم تفهم. والآن كلم تلاميذه عن الطعام الخفي المشبع فلم يفهموا، بل سألوا بعضهم بعضاً: «ألعل أحداً أتاه بطعام في غيابهم؟ هل هذه السامرية؟». فأسرع المسيح يزيل حيرتهم، وأفهمهم أنه لا يشبع من الخبز البائد بل من عمل مشيئة الآب الذي أرسله.

ومن شدة ابتهاج السامرية بأنها قد رأت المسيح وسمعت كلامه وآمنت به، تركت جرتها عند البئر، وأسرعت إلى سوخار لتبشّر مواطنيها. ولكن من يبالي بكلام امرأة ساقطة مثلها؟ هل يمكن أن يظهر المسيحُ ذاته لمثلها أولاً؟ مع ذلك نرى فعلاً أن لكلامها تأثيراً، نستنتج منه أن التغيير في قلبها ظهر في تغيير هيئتها ولهجتها وحركاتها، فاحترموا شهادتها لما قالت لأهل المدينة: «هلموا انظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت. ألعل هذا هو المسيح؟» فهي تطلب منهم أن يحكموا في الأمر بعد أن يروه ويسمعوه. لقد أدّت شهادتها وتركت النتيجة لأفكار السامعين وضمائرهم. وبذلك قدمت نموذجاً مفيداً في الإِرشاد الديني.

إن قوة التبشير الديني هي بالأكثر في الشهادة لا في النصيحة. والمبشر الفهيم يقول كما قال صاحب المزمور: «ذُوقُوا وَٱنْظُرُوا مَا أَطْيَبَ ٱلرَّبَّ!» (مزمور 34: 8).

لما ودع المسيح رسله عند صعوده أوضح لهم أن وظيفتهم الخصوصية هي: «تَكُونُونَ لِي شُهُوداً إِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ» (أعمال 1: 8). وقد نتج التأثير العجيب الذي رافق تبشيرهم عن حفظهم هذه الوصية واهتمامهم بهذه الشهادة. وكل عاقل يستخرج من الشهادة التي يُعطَاها النصيحة التي تحويها، فتأتيه النصيحة قوية. لكن النصيحة بدون الشهادة تكون ضعيفة. ولهذا زال افتخار السامرية ببئر يعقوب في وجه اهتمامها بماء الحياة الذي ابتدأت تعرف قيمته، وصار فيها ينبوعاً ينبع إلى حياة أبدية ليروي الآخرين أيضاً.

أثّر كلام المرأة في أهالي سوخار فخرجوا من المدينة وأتوا إليه. وبينما هم قادمون رآهم المسيح عن بُعْد، فخاطب تلاميذه بكلام آخر مجازي. قال إنه يرى الحقول قد ابيضّت للحصاد، مع أنه كان باقياً للحصاد المألوف أربعة أشهر. وقصد بقوله هذا السامريين القادمين المستعدِّين لقبول بشارة الخلاص، فهم تلك الحقول المبيضة. فرح بهم لأنهم باكورة الحصاد الأكبر الذي بين الأمم، ولأنهم أتوا لا بجاذبية معجزات الشفاء، ولا لمنافع أخرى سطحية أو زمنية، بل لكي يروا المسيح ويسمعوا تعاليمه، ولأنهم ثمر تعبه في هداية المرأة التي أتى بها إلى الخلاص بالتوبة والإيمان.

«فآمن به من تلك المدينة كثيرون من السامريين بسبب كلام المرأة». وآمن به عدد أكثر جداً بسبب كلامه بعد حضورهم إليه، فسألوه أن يمكث عندهم. فصحَّ بذلك قول النبي: «أَصْغَيْتُ إِلَى ٱلَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا. وُجِدْتُ مِنَ ٱلَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي. قُلْتُ: «هَئَنَذَا هَئَنَذَا» لأُمَّةٍ لَمْ تُسَمَّ بِٱسْمِي» (إشعياء 65: 1) فخالف المسيح تقاليد أمته واضطر تلاميذه أن يفعلوا مثل ما فعل، ومكث عند أهل السامرة يومين. وكان هذا الحصاد مقدمة لحصاد آخر عظيم في تلك البلاد في زمان الرسل.

وما أجمل شهادة أهل السامرة للمسيح، فقد قالوا عنه إنه بالحقيقة المسيح مخلّص العالم - فكانت رؤيتهم له شاملة كاملة.

فما أكرم تلك البئر التي أُتيح لها أن تريح الجسم البشري الذي حلَّ فيه الأقنوم الثاني، الابن الأزلي، الذي هو في حضن الآب. وما أعذبها أيضاً لأن هذه المرأة الهالكة التي لم تعرف الماء الحي قصدتها طالبة إرواء عطشها الجسدي مؤقتاً فوجدت هناك «مسيا» الذي أعطاها ماءً حياً ينبع إلى حياة أبدية.

7 - المسيح الطبيب المعلم

لم يفتتح المسيح خدمته في الجليل بالمعجزات، بل كان يكرز في مجامعهم بالخبر السار، بشارة ملكوت الله. ولم تكن لهجة كرازته لهجة التخويف والتأنيب، بل لهجة المخلِّص المحب الذي أتى من السماء ليعلن محبة الله للخطاة، ويؤسس ملكوت البر والسلام والفرح، فمجَّده الجميع رغم علمهم بأصله الفقير

وقد وعظ المسيح عن «اكتمال الزمان» إشارة إلى النبوات القديمة التي تختصُّ بظهوره. وهو «ملء الزمان» الذي ذكره الرسول بولس (غلاطية 4: 4). ولذلك اتفق وعظه مع وعظ المعمدان. «قد اقترب ملكوت السموات. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل». أي بالبشارة بمجيء المسيح ملك هذا الملكوت

شفاء ابن خادم الملك

«فَجَاءَ يَسُوعُ أَيْضاً إِلَى قَانَا ٱلْجَلِيلِ، حَيْثُ صَنَعَ ٱلْمَاءَ خَمْراً. وَكَانَ خَادِمٌ لِلْمَلِكِ ٱبْنُهُ مَرِيضٌ فِي كَفْرِنَاحُومَ. هٰذَا إِذْ سَمِعَ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ جَاءَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجَلِيلِ، ٱنْطَلَقَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ وَيَشْفِيَ ٱبْنَهُ لأَنَّهُ كَانَ مُشْرِفاً عَلَى ٱلْمَوْتِ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لا تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!» قَالَ لَهُ خَادِمُ ٱلْمَلِكِ: «يَا سَيِّدُ، ٱنْزِلْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ٱبْنِي». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ٱذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ». فَآمَنَ ٱلرَّجُلُ بِٱلْكَلِمَةِ ٱلَّتِي قَالَهَا لَهُ يَسُوعُ، وَذَهَبَ. وَفِيمَا هُوَ نَازِلٌ ٱسْتَقْبَلَهُ عَبِيدُهُ وَأَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ: «إِنَّ ٱبْنَكَ حَيٌّ». فَٱسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ ٱلسَّاعَةِ ٱلَّتِي فِيهَا أَخَذَ يَتَعَافَى، فَقَالُوا لَهُ: «أَمْسٍ فِي ٱلسَّاعَةِ ٱلسَّابِعَةِ تَرَكَتْهُ ٱلْحُمَّى». فَفَهِمَ ٱلأَبُ أَنَّهُ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ ٱلَّتِي قَالَ لَهُ فِيهَا يَسُوعُ إِنَّ ٱبْنَكَ حَيٌّ. فَآمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّهُ. هٰذِهِ أَيْضاً آيَةٌ ثَانِيَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ لَمَّا جَاءَ مِنَ ٱلْيَهُودِيَّةِ إِلَى ٱلْجَلِيلِ» (يوحنا 4: 46 - 54).

وبعد سنة كرّر المسيح زيارته لقانا الجليل محل معجزته الأولى، حيث صنع معجزته الثانية. نقول إنه أجرى المعجزة الثانية في قانا، ولكن الذي نال الشفاء لم يكن في قانا، فإن المسيح وهو في قانا شفى إنساناً في كفر ناحوم على بُعْد يوم كامل. فقد جاء إلى المسيح ذات يوم إلى قانا أحد رجال بلاط الملك هيرودس أنتيباس وكان يسكن في كفر ناحوم التي تبعد ساعات قليلة عن العاصمة طبرية. ومع أن المسيح لم يكن قد صنع بَعْدُ معجزة شفاء في الجليل، إلا أنه لما اشتدَّ مرض ابن هذا الرجل، وأشرف على الموت، وفرغت كل الوسائط لشفائه، افتكر في المسيح، واستعلم عن محل وجوده، فلما عرف أنه في قانا صعد إليه، وطلب منه أن ينزل معه إلى كفر ناحوم ليشفي ابنه.

وبما أن رجل البلاط الملكي يكون مرعيَّ الجانب، معتاداً أن يحصل على مطالبه بسهولة، تصوَّر أن المسيح سيلبّي طلبه حالاً بكل احترام، ويحسبه شرفاً عظيماً أن يدعوه رجلٌ مثله ليشفي ابنه، وظن أن المسيح يتمنَّى فرصة كهذه ليُظهر فيها قوته العجيبة. أما أفكار المسيح فليست هكذا، فقد قاد الرجل إلى التذلُّل وانكسار القلب لأجل الخير، لأن البركات الإلهية هي للمتواضعين. وقصد أيضاً أن يعزّز مكانه كممثل الإله العظيم، وإنْ كانت أحواله الخارجية خالية من إمارات العظمة، فقال للرجل: «لا تؤمنون إنْ لم تروا آيات وعجائب». أي أنه لا يريد الإيمان الناتج عن رؤية العجائب، بل الذي يأتي نتيجة ما يرونه فيه ويسمعونه من التعليم والصفات والأعمال الحسنة الطبيعية.

أما رجل البلاط فلم يأته صبرٌ على هذا الكلام، لأن ابنه كان مشرفاً على الموت، فألحَّ عليه قائلاً: «يا سيد، انزل قبل أن يموت ابني». فاستجاب المسيح جوهر طلبه لا حرفيّته، لم ينزل معه لكنه شفى ابنه. وبدلاً من الذهاب معه قال له «اذهب، ابنك حي». فآمن الأب إيماناً عجيباً بأن المسيح يقدر أن يشفي شخصاً عن بُعد، دون أن يلمسه أو يكلمه أو يراه، فاتَّجه إلى بيته. وبينما هو في الطريق لاقاه عبيده المسرعون إليه إلى قانا، وبشَّروه بشفاء ابنه الفجائي في كفر ناحوم. ولما دقَّق الأب في معرفة موعد شفاء ولده، اتَّضح له أن ابنه شُفي «في تلك الساعة التي قال له فيها يسوع إن ابنك حي». فزاد إيمانه، وشاركه كل أهل بيته في إيمانه الجديد، لأن التأثير الديني عندما يكون قوياً لا بد أن يتجاوز من المؤمن إلى أعضاء أسرته.

تحوّلت مصيبة هذا الرجل في مرض ابنه الشديد إلى بركة روحية عظيمة جداً. ومن قلب مصيبته خرج خلاص أبدي له ولأهل بيته، لأن الآب السماوي في حكمته وحبه يريد أن تأتي كل المصائب بالبركات.

تعليم في الناصرة

«وَجَاءَ إِلَى ٱلنَّاصِرَةِ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَرَبَّى. وَدَخَلَ ٱلْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ ٱلسَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ، فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَاءَ ٱلنَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ ٱلسِّفْرَ وَجَدَ ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي كَانَ مَكْتُوباً فِيهِ: «رُوحُ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ ٱلْمُنْكَسِرِي ٱلْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاقِ ولِلْعُمْيِ بِٱلْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ ٱلْمُنْسَحِقِينَ فِي ٱلْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ ٱلرَّبِّ ٱلْمَقْبُولَةِ». ثُمَّ طَوَى ٱلسِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى ٱلْخَادِمِ وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَجْمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ. فَٱبْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّهُ ٱلْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ». وَكَانَ ٱلْجَمِيعُ يَشْهَدُونَ لَهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَلِمَاتِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلْخَارِجَةِ مِنْ فَمِهِ، وَيَقُولُونَ: «أَلَيْسَ هٰذَا ٱبْنَ يُوسُفَ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «عَلَى كُلِّ حَالٍ تَقُولُونَ لِي هٰذَا ٱلْمَثَلَ: أَيُّهَا ٱلطَّبِيبُ ٱشْفِ نَفْسَكَ. كَمْ سَمِعْنَا أَنَّهُ جَرَى فِي كَفْرِنَاحُومَ، فَٱفْعَلْ ذٰلِكَ هُنَا أَيْضاً فِي وَطَنِكَ، وَقَالَ: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ مَقْبُولاً فِي وَطَنِهِ. وَبِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ أَرَامِلَ كَثِيرَةً كُنَّ فِي إِسْرَائِيلَ فِي أَيَّامِ إِيلِيَّا حِينَ أُغْلِقَتِ ٱلسَّمَاءُ مُدَّةَ ثَلاثِ سِنِينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ، لَمَّا كَانَ جُوعٌ عَظِيمٌ فِي ٱلأَرْضِ كُلِّهَا، وَلَمْ يُرْسَلْ إِيلِيَّا إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا، إِلا إِلَى أَرْمَلَةٍ، إِلَى صِرْفَةِ صَيْدَاءَ. وَبُرْصٌ كَثِيرُونَ كَانُوا فِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِ أَلِيشَعَ ٱلنَّبِيِّ، وَلَمْ يُطَهَّرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلا نُعْمَانُ ٱلسُّرْيَانِيُّ». فَٱمْتَلَأَ غَضَباً جَمِيعُ ٱلَّذِينَ فِي ٱلْمَجْمَعِ حِينَ سَمِعُوا هٰذَا، فَقَامُوا وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ ٱلْمَدِينَةِ، وَجَاءُوا بِهِ إِلَى حَافَّةَ ٱلْجَبَلِ ٱلَّذِي كَانَتْ مَدِينَتُهُمْ مَبْنِيَّةً عَلَيْهِ حَتَّى يَطْرَحُوهُ إِلَى أَسْفَلُ. أَمَّا هُوَ فَجَازَ فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى» (لوقا 4: 16-30).

عاد المسيح من قانا إلى الناصرة، بعد غيابه عنها نحو سنة وربع. وقد جرت خلال هذه الأشهر حوادث غيّرت هيئته وحركاته تغييراً ظاهراً، فرآه مواطنوه كأنه شخص جديد. ولأنهم قد سمعوا خبر معجزاته في بلاد أخرى، توقَّعوا أن يفعل مثلها، وأكثر منها في بلده وبين الأقرباء والأصدقاء. أما هو فما كان يهتم بالمعجزات بل بالتعليم، فقدّم عظته الأولى أمام جمهور في مجمعهم في يوم سبت. قال البشير إنه: «دخل المجمع حسب عادته». لأن زيارته في المجمع في بلده مدة نحو ثلاثين سنة تُعَدُّ بالألوف. ولما دخل المجمع رأى الهيئة المألوفة وسمع الصلاة القانونية. لكن لما جاء وقت القراءة من الأسفار النبوية، وقف إعلاناً لاستعداده أن يقرأ، إنْ سمح له رئيس المجمع. وقد كان، فأعطوه الدَّرْجَ المقدس الذي فيه سفر إشعياء النبي... نرجّح أن الجزء الذي فتحه وقرأه هو الذي كان معيّناً لذلك اليوم، وأن ملائمة هذا الجزء لمقصده كان من تدبير العناية الإلهية. دارت نبوَّة هذا الجزء عن غرض مجيء المسيح وعن طبيعة ملكوته الذي نادى باقترابه منهم. وأشار أولاً إلى المسحة التي تعطيه لقب المسيح، لأن الله مسحه نبياً وكاهناً وملكاً، فوظيفته كالمسيح هي أن يبشر المساكين ببشارة مضمونها شفاء منكسري القلوب، وإطلاق المأسورين، وتفتيح أعين العمي، وتحرير المنسحقين، والكرازة «بسنة الرب المقبولة».

أما «سنة الرب المقبولة» فهي سنة اليوبيل التي تجيء مرة كل خمسين سنة، وربما اتّفق وقوعها في تلك السنة. وقد ظنَّ سامعوه أن إطلاق المأسورين وتحرير المنسحقين هو التخلُّص من النير الروماني والعبودية لملك وثني، أما عند المسيح فسنة الرب المقبولة ليست سنة واحدة من كل خمسين سنة، بل هي تشمل كل السنين.

ولم يكن النير الذي أتى المسيح ليخلّص الناس منه نيراً سياسياً زمنياً، بل نير إبليس الذي بسببه وقع عليهم نير الرومان. لأن عبيد إبليس لا يمكن أن يَسْلموا من العبودية الجسدية، إذْ هي نتيجة العبودية الروحية لإبليس. فإنْ أنقذهم مسيحهم من نير جسدي يعرفونه، فلا بد أن يقعوا تحت نيرٍ آخر أكبر منه. وإذْ كان المسيح يعلم هذا جيداً فقد جاء ليخلّصهم من نير إبليس أولاً، فإنْ قبلوه يخلّصهم أيضاً من نير الرومان، ومن كل نير إلا نيره الهيّن، ومن كل حمل إلا حمله الخفيف.

كانت العادة عند اليهود أن القارئ الذي يريد أن يشرح الجزء الذي قرأه يعلن ذلك بجلوسه أمام الجمهور، عند انتهائه من القراءة. فلما طوى المسيح السفر وسلّمه للخادم، جلس. فتحولت إليه أبصار الجمهور، لأنهم كانوا يعرفون ابن بلدتهم شخصياً. وقد زاد احترامهم له بسبب سماعهم عنه الأمور الكثيرة العظيمة مدة غيابه، فابتدأ وعظه بقوله: «اليوم قد تمَّ هذا المكتوب في مسامعكم». بهذا الكلام قدَّم ذاته لهم كمسيحهم، وفي الوقت ذاته لاشى كل آمالهم الزمنية إنْ قبلوه كمسيح. ثم تابع كلامه المؤثر. وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه، ويقولون: «أليس هذا ابن يوسف؟».

من القول «كلمات النعمة» عرفنا نسق وعظه، فقد كان تعليمه كالماء البارد للظمآن، لأنه اهتم أن يعظ بالبشارة بملكوت جديد روحي جاء هو ليعلنه - وهو يعلم أن أفكار الجمهور لا تزال بعيدة عن أفكاره، وأن شهادتهم لكلمة النعمة من فمه شهادة سطحية، وأنهم يريدون الملكوت الزمني والمنافع المادية والمجد العالمي والاندهاش بمعجزاته، فأتاهم أولاً بمثليْن من الأمثال الدارجة بياناً لمعرفته أفكارهم، إذ قال: «على كل حال تقولون لي هذا المثل: أيها الطبيب اشْفِ نفسك». يعني أن وطنك الناصرة أحقُّ من قانا الجليل ومن كفر ناحوم، فلماذا لا يتمتع بمعجزاتك المدهشة والخير الناتج عنها؟ لكن إلى الآن لم نر منك معجزة. ثم أشار إلى المثل الثاني: «ليس نبيٌّ مقبولاً في وطنه». يعني خذ وعظك للذين يجهلون أصلك الحقير، ولا تنتظر منا خضوعاً لتعاليمك الجديدة.

وغضب أهل الناصرة على المسيح، فأخذوه إلى حافة الجبل الذي بُنيت عليه مدينتهم ليطرحوه إلى أسفل، فترك مدينته الناصرة، واتّجه إلى كفر ناحوم.

ولا بد أن المسيح حزن على أهل بلده، لأنهم لم يقبلوا بشارة النعمة ورفضوا مخلّصهم الوحيد. تُرى هل بكى على الناصرة وهو يتركها كما بكى على أورشليم؟ وكيف لا يحزن وهو يترك وطنه تركاً نهائياً، بعد كل أتعابه فيه، وبعد تأثير قدوته وكلامه بين قومه؟.. لم يأخذ تلميذاً واحداً من الناصرة، حتى ولا من إخوته.

8 - المسيح يدعو أربعة تلاميذ

«وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي عِنْدَ بَحْرِ ٱلْجَلِيلِ أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي ٱلْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ ٱلنَّاسِ». فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا شِبَاكَهُمَا وَتَبِعَاهُ. ثُمَّ ٱجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ قَلِيلاً فَرَأَى يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، وَهُمَا فِي ٱلسَّفِينَةِ يُصْلِحَانِ ٱلشِّبَاكَ. فَدَعَاهُمَا لِلْوَقْتِ. فَتَرَكَا أَبَاهُمَا زَبْدِي فِي ٱلسَّفِينَةِ مَعَ ٱلأَجْرَى وَذَهَبَا وَرَاءَهُ» (مرقس 1: 16-20).

كان المسيح ذات يوم يمشي على شاطئ بحيرة طبرية عندما رأى تلاميذه الأربعة الأولين، أندراوس وأخاه سمعان بطرس، ويعقوب ويوحنا أخاه، يشتغلون في صيد السمك، وكان الأخوان الأولان يطرحان شبكة في البحر، من سفينتهما أو من على الشاطئ. وكان الأخوان الآخران مع أبيهما زبدي وعمّالهم في سفينتهم يصلحان الشباك بعد الصيد. فأتى إلى الأوليْن ودعاهما ليعلّمهما صيداً أفضل وأكثر ضرورة، وهو صيد الناس بشباك الإنجيل لتخليصهم من بحر الهلاك، وتوصيلهم إلى شاطئ السلام. ثم مشى إلى الأخوين الآخرين وقدم لهما الدعوة ذاتها. فلبُّوا حالاً جميعاً هذه الدعوة وتبعوه فوراً، تاركين الأب والعمال والسفينتين والشباك والمهنة وكل شيء. كانوا قد تبعوه سابقاً بالقلب والإيمان، ورافقوه في بعض رحلاته، لكن من الآن فصاعداً أصبحوا ملازمين له. وكان قد قدّم في اليهودية والسامرة أمثلة في اصطياد النفوس. لكنه قصد الآن أن يحوّلهم عن أشغالهم الزمنية ليتمكن من تعليمهم وتدريبهم في المهنة الجديدة أكثر فأكثر.

ترك ابنا زبدي أباهما في السفينة وتبعا المسيح، فصارا أول سلسلة الذين أطاعوا ويطيعون أمر المسيح، فيتركون الأهل عند الاقتضاء لكي يتبعوه. ولكن لا يحقُّ دينياً ولا أدبياً لإِنسان، هو مجرد بشر، أن يطلب من الناس أن يفضّلوه على أهلهم، الذين تربطهم بهم العلاقات المتينة، التي هي وضْعٌ إلهي. ولو كان المسيح مجرد إنسان، لَمَا كان يحقُّ له أن يعطل الوصية الخامسة التي تأمر بإكرام الوالدين، ولَمَا طلب من ابني زبدي أن يتركا أباهما لأجله، ولم يخالف ابنا زبدي هذه الوصية، إلا ليقينهما أن للمسيح حقوقاً إلهية تسبق الحقوق البشرية كافة حتى أقدسها. وبما أنه واضِعُ هذا الناموس فإنه يقدر أن يحوِّره كما يشاء.

ترك إبراهيم خليل اللّه وطنه الأصلي في أور الكلدانيين إجابة للدعوة الإلهية، فتولَّد من صُلبه شعب اللّه المختار إسرائيل، ولذلك سُمّي أب المؤمنين، إذْ قال له اللّه: «تَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ» (تكوين 22: 18).

وإجابةً لدعوة اللّه ترك موسى قصور الفراعنة والبنوَّة الملكية والراحة والرفاهية والعلوم والغِنى والمجد، ليقود هذا الشعب وينظّمه ويستلم الشريعة الإلهية الطاهرة التي منها النظام الشهير والعهد القديم الذي هو أساسٌ في الدين.

وعلى مثال إبراهيم وموسى ترك هؤلاء التلاميذ الأربعة مهنتَهم وبيوتهم وأهلهم ليتبعوا هذا المعلم الفقير المحتقر آنئذٍ، فتأسست منهم ومن رفقائهم القليلين الضعفاء الكنيسة المسيحية، والنظام المسيحي الجديد الروحي، الذي غيّر هيئة العالم.

جاء في التوراة أن الله اختار داود عبده وأخذه من حظائر الغنم، وأتى به ليرعى شعبه. والآن نرى المسيح يختار أندراوس وسمعان ويعقوب ويوحنا من بين صيادي السمك ليرقّيهم إلى درجة الرسولية، ويُجري معجزات عديدة في حياتهم، ويُجري بهم معجزات روحية عامة أكثر وأعظم منها جداً، هي نتيجة الإنجيل الذي كتبوه.

وبعد أن دعا المسيح تلاميذه الأربعة الأولين تبعوه إلى المدينة بصفة جديدة كمعلم دين يلازمه أشخاص من أتباعه، يؤلّفون وإياه عائلة جديدة يرأسها هو، ويباشر تدريبهم... حتى وهو يعظ ويعلّم الناس في السبوت كان هدفه الأساسي تعليمهم أولاً.

وبُهت الذين حضروا وعظه في مجمع كفر ناحوم... ومع أنهم سمعوا وعّاظاً كثيرين وشهيرين قبلاً، كان هؤلاء جميعاً يُسندون أقوالهم إلى أقوال العظماء من أسلافهم، ويمتازون بحُسن الذاكرة والاعتناء في حفظ كلام أئمَّتهم الأقدمين عن ظهر قلب، فكانوا يكثرون من سرده على مسامع الجمهور، وعلى هذا بنى الجمهور افتخاره بهم ومدحه إياهم.

أما الآن فقد ظهر واعظ جديد لا يبالي بالعلوم المألوفة، ولا الفلسفة ولا أقوال أولئك المشاهير، وبدلاً من أن يقول: «قال الربيُّ الفلاني» كان يقول: «الحق الحق أقول لكم» وإنْ أعاد كلاماً قديماً كان يصيّره جديداً في معناه وتأثيره. وفي تفسير التوراة كان يُريهم روح التعليم وليس حرفه فقط.

9 - المسيح يخرج الشياطين

«وَٱنْحَدَرَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ، مَدِينَةٍ مِنَ ٱلْجَلِيلِ، وَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ فِي ٱلسُّبُوتِ. فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ، لأَنَّ كَلامَهُ كَانَ بِسُلْطَانٍ. وَكَانَ فِي ٱلْمَجْمَعِ رَجُلٌ بِهِ رُوحُ شَيْطَانٍ نَجِسٍ، فَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «آهِ مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ! أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ ٱللّٰهِ». فَٱنْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: «ٱخْرَسْ وَٱخْرُجْ مِنْهُ». فَصَرَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فِي ٱلْوَسَطِ وَخَرَجَ مِنْهُ وَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئاً. فَوَقَعَتْ دَهْشَةٌ عَلَى ٱلْجَمِيعِ، وَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: «مَا هٰذِهِ ٱلْكَلِمَةُ! لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ يَأْمُرُ ٱلأَرْوَاحَ ٱلنَّجِسَةَ فَتَخْرُجُ». وَخَرَجَ صِيتٌ عَنْهُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ فِي ٱلْكُورَةِ ٱلْمُحِيطَةِ» (لوقا 4: 31-37).

عندما كان المسيح في كفر ناحوم ذهب إلى المجمع، وكان من جملة المجتمعين للعبادة في أحد أيام السبت شخص به روح نجس، كان مصاباً بالحلول الشيطاني فيه، جعله يصرخ بصوت عظيم قائلاً: «آه. ما لنا ولك يا يسوع الناصري. أتيت لتهلكنا. أنا أعرفك من أنت، قدوس الله». فظهر روح العداوة الشيطاني في قوله: «ما لنا ولك؟». ودلَّ استعمال صيغة الجمع على أن في المتكلم شخصاً آخر يتكلم فيه. وفي القول: «أتيتَ لتهلكنا» اعترافٌ بسطوة المسيح عليه وعلى الشيطان الحال فيه. والقول الآخر: «أعرفك من أنت؟» يدلُّ على معرفة عجيبة ليست لهذا الرجل البسيط، بل للشيطان الذي يفوق أكثر البشر في المعرفة العقلية.

هجم إبليس على المسيح في انفراده في البرية، وهاجمه أيضاً في تهييجه أهالي الناصرة عليه، وبقي إبليس متخفياً. أما الآن فهجم على هذا المعلم الجديد هجومه الأول العلني. ولم يرْضَ أن يسكت بينما كان المسيح يُظهر الحقائق الروحية، ويشرح طريق الخلاص، وينادي بملكوت الله، ويُوضّح شروط الدخول فيه. علم إبليس أن المسيح قد جاء لكي يحاربه، وينقض أعماله ويدمّر ملكوته الفاسد ويسحق رأسه، فكيف يمكنه أن يسكت

لربما نستغرب شهادة إبليس الصريحة للمسيح بأنه «قدوس الله». لعلها كانت النتيجة الأولى من سطوة المسيح عليه ثم طرده من هذا الرجل. وبما أن لشهادة العدو قيمة مضاعفة، أراد المسيح أن يعترف الجمهور أن الشيطان أيضاً مضطرٌّ أن يشهد له. وهذه شهادة الشيطان الأولى للمسيح أمام الناس ولكنها ليست الأخيرة. حالما أدّى المصاب هذه الشهادة الواضحة، انتهر المسيح الشيطان قائلاً: «اخرس واخرج منه» فانتظر الجمهور كله ليرى ماذا يحدث. ففي الحال صرع الشيطان الرجل وصاح بصوت عظيم وخرج منه، ولم يضرّه شيئاً - فلا عجب إذ وقعت دهشة على الجميع وتحيّروا كلهم. وظهرت في ذلك المجمع اليهودي حركةٌ لم تحدث فيه قبلاً. وصاروا يتساءلون: من هو هذا الشخص المقتدر الذي أتى ليسكن بينهم؟ وما هو هذا التعليم الجديد المقرون بمعجزات كهذه؟ ومن أين حصل ابن النجار على سلطةٍ تمكّنه من أن يجعل الأرواح الشريرة تطيعه.

أثبت المسيح في معجزته الأولى (وهي تحويل الماء إلى خمر) سلطته على النواميس الطبيعية، وفي معجزته الثانية (وهي شفاء ابن خادم الملك) أظهر سلطته على الأمراض الجسدية، في هذه المعجزة الثالثة أعلن سلطته على القوات الشيطانية. وهذه المعجزات الثلاث في بداءة خدمته برهنت أهليَّته لأن يكون مخلِّصاً للبشر بكل معاني الكلمة.

تطاير سريعاً هذا الخبر عن أول واقعة علنية حدثت بين «رئيس بيت داود» و «رئيس هذا العالم» فيها ذلَّل المسيح إبليس وقهره. «فخرج صيت عنه للوقت في كل الكورة المحيطة بالجليل». في البرية دافع المسيح عن نفسه في محاربته إبليس، وفي كفر ناحوم دافع عن غيره وأبان لتلاميذه الجُدد، ولإبليس ذاته، ولسكان الجليل، ولكل أجيال البشر أنه قادر أن يقهر إبليس، ليس في صدره هو فقط، بل أيضاً في صدور الآخرين.

لا يسعنا السكوت تجاه هذا الحادث الغريب، دون طلب توضيح أمر السكن الشيطاني الذي يُذكَر كثيراً في أيام المسيح وبعده، كأنه من أهم الأمور. والمرجَّح أن الشيطان بمناسبة مجيء المسيح مخلصاً إلى العالم ضاعف قوته، وتسلط على البشر فوق المعتاد. ولم يكن ذلك إلا بسماح من الله. لتكون غلبة المسيح عليه أبهج، ونتيجتها أعظم. لما كان الشيطان يعرف قيمة قوة العقل في الإنسان، كان الجنون رفيقاً لاستيلاء الشيطان على البشر. وكثيراً ما كان المصاب يُسمَّى مجنوناً فقط، فهل كان ما يسميه الإنجيل «الاحتلال الشيطاني» هو مجرد الاختلال العقلي الذي نسمِّيه الآن «جنوناً».

كان يجوز هذا التفسير لو كان المسيح من الذين ينقادون إلى الخرافات الجارية، أو لو كان من الذين يتساهلون في الأوهام الدينية، ويستخدمونها لأغراض يعتبرونها حسنة.. فعندما نسمعه يخاطب الشيطان كشخص غير الشخص الذي يقف أمامه، ويقول: «اُخرج منه أيها الروح النجس». «اِخرس واخرج منه» - نعلم أن المسيح العاقل المستقيم لا يمكن أن يقول ذلك لو كانت الإصابة هي مرض الجنون المعهود. ولو كان كلام الشخص الذي به شيطان كلام اختلال عقلي فقط، لَما كان ينطق بشهادات عجيبة في مواضيع لم يكن أحد يعرفها في ذلك الوقت، ولا يوجد في شفاء الجنون ما يشبه الصرع والآلام المرافقة لإخراج الشياطين.

ويُلاحظ أيضاً أن إخراج الشياطين كان فرعاً خاصاً من أعمال المسيح ورسله، مستقلاً عن شفاء الأمراض. بناء على أسباب كهذه، نقول إن هذا النوع من الإصابات التي لا يسمّيها الإنجيل «شفاء» بل يسميها «إخراج شياطين» لا يجوز اعتباره مجرد مرض الجنون المألوف.

10 - شفاء كثيرين في كفر ناحوم

«وَلَمَّا قَامَ مِنَ ٱلْمَجْمَعِ دَخَلَ بَيْتَ سِمْعَانَ. وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ قَدْ أَخَذَتْهَا حُمَّى شَدِيدَةٌ. فَسَأَلُوهُ مِنْ أَجْلِهَا. فَوَقَفَ فَوْقَهَا وَٱنْتَهَرَ ٱلْحُمَّى فَتَرَكَتْهَا! وَفِي ٱلْحَالِ قَامَتْ وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ. وَعِنْدَ غُرُوبِ ٱلشَّمْسِ، جَمِيعُ ٱلَّذِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ سُقَمَاءُ بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدَّمُوهُمْ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَشَفَاهُمْ. وَكَانَتْ شَيَاطِينُ أَيْضاً تَخْرُجُ مِنْ كَثِيرِينَ وَهِيَ تَصْرُخُ وَتَقُولُ: «أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ!» فَٱنْتَهَرَهُمْ وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ، لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ أَنَّهُ ٱلْمَسِيحُ» (لوقا 4: 38-41).

ذهب المسيح ومن معه إلى بيت سمعان بطرس، إمّا لأن المسيح كان ساكناً هناك، أو لأن بطرس دعاه ليضيّفه، إظهاراً لامتنانه للشرف الذي منحه له بدعوته أن يصير صياد الناس وأن يلازمه كتلميذٍ دائم. وربما اشتركت مع عاطفة الشكر عاطفة الأمل أن معلّمه وسيده يُجري في بيته قوة الشفاء التي أظهرها في بيت خادم الملك، منذ عهد قريب في هذه المدينة، إذ كانت حماة بطرس مريضة في بيته، وقد أخذتها حمى شديدة. يظهر أن بطرس لم ير من اللياقة أن يكلّف المسيح أن يشفيها، لكنه وجد من ينوب عنه. فأخبروه عنها وسألوه من أجلها. ولا نعلم بأي كلام انتهر المسيح الحمى، لكنه أقام حماة بطرس من فراشها ماسكاً بيدها فتركتها الحمى حالاً. وكان شفاؤها معجزة مزدوجة، لأن الضعف الكلي الذي يتولد من حمى شديدة زال بغتة، حتى أمكنها أن تمارس حالاً شغل البيت. وبذلك صارت أول النساء، اللواتي تطوعن لخدمة المسيح بعد بدء خدمته.

وانتشر سريعاً في كل البلد خبر ما فعله المسيح عند ضُحى ذلك السبت في شفاء حماة سمعان، بعد إخراج الشيطان من المسكون، فانتظر أهل المدينة إلى ما بعد غروب الشمس، احتراماً لنظام السبت، ثم أتوا بمرضاهم طالبين الشفاء من هذا القادم العجيب الذي استوطن عندهم. وظاهر الخبر هو أنه لم يَبْق في كفر ناحوم عليل، لأن جميع الذين كان عندهم سقماء بأمراض مختلفة قدموهم إليه، فوضع يديه على كل واحد منهم وشفاهم. فما أعظم ذلك السبت إذْ كانت المدينة كلها مجتمعة على باب بيت سمعان بن يونا الصياد.

يخصُّ البشيرون في هذا الخبر، المصابين بالسكن الشيطاني الذين كان عددهم وافراً. ويظهر أنه لم يضع يده على هؤلاء كما فعل في سائر الأمراض، لأنه يقول إن الشياطين كانت تخرج بكلمة. في المجمع قال للشيطان: «اِخرس» بعد أن شهد له أنه «قدوس اللّه». وفي المساء زادت شهادات الشياطين له قوة ووضوحاً، إذْ أنهم كانوا يصرخون قائلين: «أنت المسيح ابن اللّه». فانتهرهم ولم يدعهم يتكلمون لأنهم عرفوه. تُرى هل شعر أهل المدينة بالخجل عندما رأوا الشياطين تسمّيه المسيح وابن اللّه؟ هل يمكن أن الأبالسة تعظّم كذباً الذي يطردها؟ أوَلَيسوا هم كشعب اللّه أوْلَى بتأدية شهادة كهذه.

ما أجمل صورة المسيح، هذا المحسن، واقفاً عند باب البيت في أول ساعات الليل، يمدّ يده اللطيفة ليمسَّ كل عليل يجيء إليه، فقد برهن بذلك اشتراكه القلبي في مصائب هؤلاء المساكين، وأبان لهم أن قوة الشفاء فيه، وأن فعلها يصل إليهم عن طريق أنامله، متحولاً في طريقه إلى أنواع الصحة المطلوبة على أشكالها، حسب الاقتضاء. وبهذا العمل أفهمهم (إن شاءوا أن يفهموا) أن أمراضهم الروحية قابلة أيضاً للشفاء، وأنه قادر على هذه كما على تلك، ومستعد لشفائها جميعاً إن طلبوا ذلك منه. حقاً قال عنه النبي إشعياء: «أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا» (إشعياء 53: 4).

هذه بداءة اشتغال المسيح بخدمته الطويلة في شفاء الأمراض. ونؤكد أنه في كل أعماله الشفائية كان ينظر أولاً إلى علاقة الخطيئة بالأمراض، لأن الجنس واحد، فالمرض خلل في الأجسام، وإفساد للوضع الأصلي الإِلهي الحسن. والخطيئة خلل في النفوس. وكان قصد المسيح أن يبيّن استعداده ومقدرته على منح الشفاء للنفوس من داء الخطيئة، لأنه أتى ليخلّص شعبه من خطاياهم، وظهر كحمل الله الذي يرفع خطية العالم بعد أن نزل من السماء لينال كل من يؤمن به مغفرة الخطايا. ولما كانت الأمراض في أصلها نتيجة الخطيئة، صار من الضروري أن الذي يحارب الخطيئة يحارب نتائجها أيضاً، وأن لا يتغاضى عن الفرع في مطاردته الأصل. علم المسيح أن الناس يحتاجون إلى ما يشوّقهم لطلب الشفاء الروحي، لأن الخطيئة تُمِيت الشعور الروحي، فقصد إيقاظ الناس بواسطة معجزات الشفاء.

وكلُّ من فيه روح المسيح يهتمُّ بتخفيف ويلات بني جنسه، ومن أعظمها الأمراض. والروح المسيحي يقود الأطباء إلى مخاطرات بحياتهم وتضحية بأوقاتهم وأموالهم لأجل اكتشاف أسباب الأمراض ثم معالجتها لأنهم يحسبون محاربة الأمراض مثل محاربة الخطيئة، ويعتبرون الاهتمام بخير البشر الجسدي عملاً ضرورياً، مع الاهتمام بخيرهم الروحي. ويقود روح المسيح الشعب المسيحي إلى إنشاء المستشفيات والملاجئ على أنواعها، التي لم يكن لها وجود في العالم القديم أو الحديث، إلا في البلاد التي أنشأ فيها المسيحيون أولاً فرع الإِحسان هذا.

طبيبنا اليوم

«يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْساً وَٱلْيَوْمَ وَإِلَى ٱلأَبَدِ» (عبرانيين 13: 8). لذلك يهتم الآن بأمراض البشر، ويريد أن يخفّفها. وكما كان يشفي المرضى في أماكن لم يكن حاضراً فيها جسدياً، هكذا يفعل الآن. ويريد أن يأتيه كل مريض طالباً منه الشفاء، وأن يعتبر المريض طبيبه البشري مكلَّفاً من المسيح، والعلاج الذي يستعمله مرسلاًَ من اللّه. وأن يشكر اللّه على نَيْل الشفاء لأنه هو الطبيب الأصلي، ولأن الشفاء هبة منه. قال الرسول يعقوب: «أَمَرِيضٌ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ؟ فَلْيَدْعُ شُيُوخَ ٱلْكَنِيسَةِ فَيُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيَدْهَنُوهُ بِزَيْتٍ بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ، وَصَلاةُ ٱلإِيمَانِ تَشْفِي ٱلْمَرِيضَ وَٱلرَّبُّ يُقِيمُهُ» (يعقوب 5: 14 و15).

يحسب المؤمن أن المسيح هو الطبيب الماهر الشهير، وأن الطبيب البشري هو الممرّض الذي يأخذ تعليماته من الطبيب ويعامل العليل بموجبها. فمهما كان اتكالنا على الممرّض عظيماً، وشكرنا له عند النهوض من المرض وافراً، يكون الاتكال الأعظم والشكر الأوفر للطبيب الذي درّبه استجابة لاستغاثتنا به.

المسيح وخلوته مع الآب

«وَلَمَّا صَارَ ٱلنَّهَارُ خَرَجَ وَذَهَبَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاءٍ، وَكَانَ ٱلْجُمُوعُ يُفَتِّشُونَ عَلَيْهِ. فَجَاءُوا إِلَيْهِ وَأَمْسَكُوهُ لِئَلا يَذْهَبَ عَنْهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّهُ يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ ٱلْمُدُنَ ٱلأُخَرَ أَيْضاً بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، لأَنِّي لِهٰذَا قَدْ أُرْسِلْتُ». فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِ ٱلْجَلِيلِ»(لوقا 4: 42-44).

رأينا المسيح محاطاً بالجماهير - إنما الازدحام الدائم لا يوافقه، فلا يستغني مطلقاً عن الاختلاء مع الآب السماوي. ولذلك «في الصبح باكراً جداً، لما صار النهار، قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلي هناك». كانت خدمته للناس تسوقه إلى الصلاة للّه، لأنه بواسطة الاختلاء مع الآب يتأهّل لعمله اليومي الخطير بين الناس. كانت صلاته للّه تقوده إلى خدمة الناس حباً للّه، فيعود من صلاته إلى أعماله بنشاط جديد وفرح مضاعف. الحياة التي كلها صلاة تعطل خدمة المصلي. والحياة التي كلها خدمة تجعل الذي يخدم يفقد ما يحتاج إليه من الفوائد الروحية، التي بها يقدر أن يخدم الآخرين الخدمة العظمى والأسمى. فمع طهارة المسيح التامة وقوته الفائقة وكل كمالاته، كانت طبيعته البشرية تحتاج إلى الصلاة، وكانت هذه لذته العظمى، لا بل تنفسه الروحي الضروري الدائم. فمن أهم فروع الاستفادة من المسيح الاقتداء به في صلاته الانفرادية.

لكن لم يرْضَ الجمهور ولا تلاميذ المسيح الجدد، باختلائه هذا. فأخذ بطرس والذين معه يفتشون عنه، ولما وجدوه قالوا له: «إن الجميع يطلبونك». وأمسكوه لئلا يذهب عنهم أيضاً. أما هو فلم يسلّمْ لإِنسانٍ حقَّ الحكم في كيفية تحرُّكاته، بل كان يتبع دائماً هدى الروح الذي حلَّ عليه عند معموديته. فبينما يمتثل لطلب الناس تلطُّفاً، يستقلُّ عنهم ويخالف طلبهم، ولهذا قال: «ينبغي أن أبشر المدن الأخرى بملكوت اللّه. لنذهب إلى القرى المجاورة لأكرز هناك أيضاً، لأني لهذا قد أُرسلت».

فشرع من ذلك الوقت بخطة جديدة مختلفة عن غيره من معلمي الدين، الذين يتبعون خطة المعمدان، إذ يتخذون مراكز يستقبلون الناس فيها. والذي لا يقصدهم لا يراهم ولا يسمعهم. أما خطة المسيح فكانت على قاعدة «ٱبْن ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ» (لوقا 19: 10). وخصَّ مقاطعة الجليل وطنه أولاً في هذا.

وقد أشار البشير إلى أنواع عمله الثلاثة

  1. الكرازة ببشارة الملكوت، كما رأيناه يفعل في اليهودية.

  2. محاربة إبليس وتحرير الناس من سكنه فيهم، كما فعل في مجمع كفر ناحوم صباح ذلك السبت الشهير.

  3. شفاء كل مرض وكل ضعف في الشعب، كما فعل في مساء ذلك السبت عينه.

وسنرى المسيح يقوم بهذه الخدمات الثلاث في الأجزاء الخمسة الباقية من كتابنا هذا.

مسابقة الكتاب

عزيزي القارئ

إن أرسلت لنا إجابة صحيحة على 20 سؤالاً من الأسئلة الخمسة والعشرين التالية نرسل لك كتاباً جائزة من كتبنا المختلفة. نرجو أن ترسل مع الإجابة اسمك وعنوانك واضحين لنرسل لك الجائزة.

  1. ما هي ألقاب الشيطان الثلاثة، وما معنى كل منها؟

  2. كيف سحق المسيح، نسل المرأة، رأس الحية؟ (تكوين 3: 15)

  3. ما هي الخطية التي وقع فيها كل من موسى وإيليا وبطرس ويهوذا الاسخريوطي؟

  4. ما هي التجربة الأولى التي جرب إبليس المسيح بها - ماذا كان رد المسيح عليها؟

  5. ما هي التجربة الثانية التي جرب إبليس المسيح بها - ماذا كان رد المسيح عليها؟

  6. ما هي التجربة الثالثة التي جرب إبليس المسيح بها - ماذا كان رد المسيح عليها؟

  7. اذكر أربع معموديات تعمد المسيح بها

  8. في قول يوحنا المعمدان عن المسيح إنه حمل الله تحقيق لنبوات التوراة - اذكر واحدة منها، وكيفية تحقيقها

  9. ما هي أكبر خدمة قدمها أندراوس لأخيه سمعان؟

  10. ماذا كان رد فيلبس على نثنائيل لما أنكر أن المسيح يمكن أن يجيء من الناصرة؟

  11. اذكر ثلاث شهادات على أن المسيح هو ابن الله

  12. ما هو الهدف من إجراء المسيح المعجزات؟

  13. لماذا حول المسيح الماء خمراً في عرس قانا؟

  14. ما معنى قول المسيح عن الهيكل «بيت أبي»؟

  15. ماذا كان قصد المسيح بقوله «انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه»؟

  16. متى يكون الغضب فضيلة واللطف رذيلة؟

  17. ما هو فعل الروح القدس في ؟«الميلاد الثاني»

  18. ما هو عمل المسيح كنبي؟

  19. ما هو عمل المسيح ككاهن؟

  20. ما هو عمل المسيح كملك؟

  21. كيف جعل المسيح المرأة السامرية تعترف بخطيتها؟

  22. ما هو الفرق بين ماء بئر سوخار وبين الماء الحي؟

  23. ؟كيف قاد المسيح خادم الملك إلى التذلل والانكسار

  24. لماذا رفض أهل الناصرة المسيح؟

  25. بماذا شهدت الشياطين عن المسيح؟

أرسل الإجابة فقط بدون تعليقات أخرى لئلا تُهمل، ونحن بانتظار إجابتك

عنواننا

  
Call of Hope  
P.O.Box 100 827  
D-70007  
Stuttgart  
Germany